صلاح أبو سيف ومأساة البرجوازية الصغيرة

يتمثل المفهوم الإجمالي عند أبو سيف فيما يتعلق بالسمات الأساسية للثقافة الوطنية في أنها يجب أن تعبر قبل كل شيء عن مراحل ثلاث هي: الحياة في حركتها، وتطور جوانبها المعقدة، وتلمس آفاق المستقبل المتاحة. ويظل الدافع الأساسي هنا هو نفسه دائمًا بالرغم من التطور الذي طرأ على المجتمع المصري والتحول الذي شهدته السلطة السياسية وكذلك تبدل القائمين عليها. وهذا الدافع هو: التصدي لكل أشكال الفقر وتداعياتها. فالعنصر الثابت الذي يحتل المركز الأول عند مخرجنا ويقيم على أساسه بناءه السينمائي هو الخوف من الفقر. وهو مصاحب للتعبير عن الحياة اليومية التي تشكل القاعدة الأساسية للحركة الواقعية. فالوسط العائلي والظروف المادية الصعبة التي عرفها في طفولته والمناخ الاجتماعي في الحي الذي كان يقيم فيه كانت بائسة للغاية حتى إن العبارات الشعبية كانت تعبر عنها جيدًا.

فالحديث عن التقزز والنتانة والقذارة والفقر يعبر المصريون عنه بقولهم «رايح على بولاق»؛ ومعناه حسب مفردات أحمد تيمور «التقيؤ لأن بولاق من أقذر أحياء القاهرة حتى إنه يدفع إلى التقيؤ.»

وقد تحولت تلك الصورة بالنسبة لأبو سيف إلى علامة على حالة اجتماعية ومصدر للاستغلال والتهميش. ويندرج تسلسل أفكاره انطلاقًا من هذا الفقر ليحاول التعبير عن طريقه عن التجربة الإنسانية عندما تفتقد تمامًا التضامن الفعال. ومن هنا تنبع محاولاته العديدة لتجاوز وصف جوانب البؤس للانتقال من نقد النظام الاجتماعي إلى نقد النظام السياسي.

وأفلام صلاح أبو سيف التي تعتبر خير الأعمال التي قدمتها السينما المصرية هي التي تعتمد على ذلك «الانتقال». ولنذكر هنا انتقال حسن من بولاق إلى الزمالك وتحول هريدي من تابع لأبي زيد إلى منافس له ثم إلى عدو في فيلم «الفتوة»، وتطور أحوال حسنين في «بداية ونهاية» قبل التحاقه بالكلية العسكرية وبعده.

ولا يمكن تفسير ذلك من زاوية نقدية إجمالية على اعتبار أنه تعارض بين أوضاع مختلفة. فواقعية صلاح أبو سيف ليست نقلًا موضوعيًّا للحقيقة. فهذه الأفلام تشكل، من خلال تضمينها عناصر مسرحية وإسهام حساسية مخرجنا وكاتبي سيناريوهات أفلامه، أعمالًا انتقادية تفسر الحياة والتحولات التي تطرأ عليها وذلك بطرح التساؤلات حول «أين» و«كيف» و«لماذا».

ولا يهدف هذا التجسيد المسرحي الذي بلغ ذروته في فيلمَي «الفتوة» و«القضية»، لا يهدف فقط إلى إقرار قوة التكيف معه وتقمصه، بل يرمي أيضًا إلى توفير التوعية الجماعية للمتفرجين من خلال دمج الخطاب المأساوي مع الخطاب الفكاهي: البواب في فيلم «الأسطى حسن»، وعبد التواب في فيلم «الفتوة»، والعربجي في القضية … إلخ.

ويرى العديد من النقاد أن ثبات البنية الأساسية وعدم تحقيق أي تغيير في الهيكل العام للفيلم، نوع من سكون الحركة ومن افتقاد الدينامية، وبالتالي انتفاء للواقعية. وهذا خطأ. فهذا الثبات البنيوي يمثل إطارًا يجد فيه صلاح أبو سيف وعاء للمقصد الاجتماعي.

ويلجأ هذا الهدف إلى رصد المؤشرات الاجتماعية وتجميعها (الانتماء الأسري، العمل، العلاقات مع الأقارب والجيران … إلخ) مع اللجوء في كل حالة إلى متغيرات من نفس النوع دائمًا، ولكن مع اختلاف التأثيرات والأهداف المنشودة منها. والمهم في إطار مثل هذه البنية ليس التساؤل عما إذا كانت تلك المؤشرات حقيقية ولكن هل يشكل كل ذلك الواقع الفعلي بأكمله. ولنلقِ نظرة هنا مثلًا على فيلم «الوحش».

يعالج المخرج هنا التحالف بين مالك إقطاعي وشيخ منسر في الريف ينهب ممتلكات الفلاحين الفقراء. ونجد في الفيلم عدة نماذج بشرية مستقلة ومنها العمدة والمعلم وضابط المباحث ورجل الدين. وجميع هذه النماذج لا تبدو لنا «نماذج إيجابية» بل مثيرة للجدل تجسد وضعًا له مغزاه بالنسبة لوضع عام متكامل يبدو من خلال العلاقات القائمة بينهم لكي يبرز أخيرًا من ذلك الكل عنصر هام، ألا وهو افتقاد التضامن بين أهل الريف. وهذا التضامن غير الممثل هو ذلك الكل الذي تشكله النماذج بعناصرها الإيجابية. وهكذا تصبح في الواقع مشاهد التحالف بين السلطة السياسية مع رجال الدين الإشكالية الرئيسية التي تعبر بطريقة مترابطة عن مأساة الفلاح المصري في الوقت الذي كان يتم فيه تطبيق الإصلاح الزراعي. ويتم الانطلاق إذن من عنصر مادي يقودنا إلى الوضع الحقيقي من خلال علاقته مع الوضع القومي عمومًا. وهكذا يكتسب أبعادًا جديدة ما كان يعتبر في حالة ثبات وغير ممثل.

وبعد ذلك بخمس سنوات، تم مرة أخرى استخدام نفس البنية السردية، مع اختلافات تخص الموضوع في فيلم «الزوجة الثانية». وهل يكفينا أن نقول إن الفيلم الأول تم إخراجه في عام ١٩٥٤م، والثاني في عام ١٩٦٧م، وهما سنتان هامتان بالنسبة لمصر وللعالم العربي.

الخروج على النظام الطبيعي مصدر للانحراف والابتكار

غير أن تلك البنية لا تكتسب أبعادًا عديدة إلا في الأفلام التي تتحدث عن القاهرة وتنطلق منها، بوصفها المركز الحساس في تاريخ البلد. ومن بين كل الأفلام التي تم إخراجها من عام ١٩٤٦م وحتى الآن هناك أربعة أو خمسة أفلام جرت أحداثها بالكامل خارج هذه العاصمة، وكل الأفلام الأخرى تدخل في نطاقها بعمق أو تتجه نحوها، ونادرًا ما تكون الحركة منطلقة من القاهرة إلى خارجها.

وبوسعنا أن نزعم، انطلاقًا من تلك الملاحظة أن صلاح أبو سيف هو سينمائي مدينة.

وقد كتب سعد الدين توفيق يقول في دراسته الخاصة بأبو سيف: إنه الممثل النموذجي لابن البلد. ويعرِّف علي أمين ابن البلد على الوجه التالي: إنه الشخص الذي يستخدم عمومًا النكتة والصيغ المجازية والتورية ويعرف قواعد المنطق. ويقال ذلك أيضًا عن الشخص «الذوق». ويعتقد أغلب المصريين أن القاهرة أجمل مدينة وأنها «أم الدنيا» وأيضًا «أم الذوق». ومن العبارات المأثورة عندهم أن السوق في مصر. بالنسبة لهم هي المرادف للقاهرة.

غير أن الزائر الذي يعرف القاهرة يرى أنها مدينة مترهلة ومجالٌ طاغٍ بحكم أبعاده الثقافية التي تتجاوز إمكانات البلاد، وموقع تسوده فوضى ظاهرية وإن كانت تعني توفر نظام داخلي يتخذ شكل سلطة ثانية أحسن التعبيرَ عنها عالم الاجتماع سيد عويس في دراسته للعبارات المدونة على جوانب السيارات والشاحنات، وجميعها ظواهر اجتماعية مختلفة الأنواع أجاد أبو سيف رسمها في مقدمة فيلم «حمام الملاطيلي».

figure
محمود المليجي في فيلم «الوحش».
figure
مشهد من فيلم «الزوجة الثانية» ١٩٥٤م.

ولنورد هنا ما كتبه عالم الجغرافيا جمال حمدان بخصوص القاهرة في دراسته عن شخصية مصر:

«منطقة القاهرة … عنق الزجاجة؛ عنق مصر، وهي من الناحية الهندسية البحتة مركز الثقل الطبيعي، ومن الناحية الميكانيكية نقطة الارتكاز التي يستقطب حولها ذراعَا القوة والمقاومة من شمال وجنوب، ومن الناحية الحيوية نقطة التبلور، ومن الناحية الوظيفية ضابط الإيقاع بين كفَّتَي مصر. إنها تبدو — كما قال ريكلي — كما لو كانت موقعًا في اختيار الآلهة.

هذا من حيث الشكل، ولكن المضمون لا يقل عن شكل الإقليم أثرًا في التوجيه نحو المركزية. فقد لا يكون موقع القاهرة متوسطًا من حيث المسافة المطلقة بين الشمال والجنوب ولكنه متوسط تمامًا من حيث وزن المعمور الفعال. فالصعيد أضعاف الدلتا طولًا، ولكن الدلتا ضعف مساحته، بينما يتقارب الاثنان سكانًا بدرجة أو أخرى. فقد كان بالدلتا في عام ١٩٦٠م نحو ٩ بم ١٠ مليون مقابل ٢ بم ٩ للصعيد. وفي عام ١٩٦٠م كان بالدلتا نحو ٠٠٠بم ٧٢٦ بم ١٤ نسمة وبالصعيد ٠٠٠ بم ٣٠٧ بم ١٠؛ وذلك على أساس أن هذه المقارنات تستبعد القاهرة من أيٍّ من الوجهين.

وإلى جانب هذا فإن نمط الكثافة وتوزيع السكان في مصر يجعل من القاهرة قمة طبيعية وتتويجًا لزحف سكاني صاعد منظم يبدأ من أقصى شمال الدلتا وأقصى جنوب الصعيد على السواء. فبروفيل الكثافة في الوادي برمَّته أشبه شيء بالهرم المدرج، سقفه منطقة القاهرة. والواقع أن دائرة قطرها ٧٥ كم ومركزها القاهرة تضم وحدها ربع مجموع سكان القطر في ثمن مساحته فقط؛ أي كثافة ضعف المعدل القومي؛ وذلك بحسب أرقام عام ١٩٤٧م، بينما تشي أرقام ١٩٦٦م بمزيد من التركيز: فنفس الدائرة تضم الآن ٣ بم ٢٨٪ من سكان مصر … ومن بين المركزية التركيبية والمركزية الوظيفية، تخرج لنا القمة النهائية المجسدة للمركزية في مصر عمومًا، ونعني بها المركزية الحضارية التي ترادف العاصمية المتطرفة. فمنذ أن عرفت مصر العواصم الموحدة، والعاصمة فيها تحقق حجمًا هائلًا بالنسبة لمجموع حجم الدولة وعلى حسابه. والمركزية تورث الحجم. ولقد كانت المعادلة الإقليمية في مصر تتألف تقليديًّا من رأس كاسح وجسم كسيح. وسواء كانت في طيبة أو طينة، أو في الإسكندرية أو القاهرة، فإن العاصمة كانت دائمًا تسود الحياة المصرية بصورة طاغية غير عادية. وقد لا نبالغ كثيرًا إذا قلنا إن تاريخ مصر ليس إلا تاريخ العاصمة أو يكاد، والمتصفح لتاريخ الجبرتي مثلًا، ومن قبله السيوطي أو ابن إياس، لا يمكن أن يخطئ هذا الإحساس» (شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان ٩٣-٩٤ و١٠١-١٠٢، طبعة ١٩٩٣م).

ولا يمكن أن تتحقق هيمنة العاصمة هذه دون أن تفرز ظواهر اجتماعية مشوشة. والجاذبية التي تمارسها إلى حد استنثارها باسم البلد، لا بد وأن تكون لها إلى جانب الأسباب الجغرافية والتاريخية، أسباب اجتماعية تجعل من العلاقات الاجتماعية فيها علاقات «إقطاعية وبيروقراطية».

فالمصري المتوسط؛ ابن البلد هذا، معروف بتعلقه الشديد ببلده وأراضيها وبالنيل وطميه. وهو لا يعرف الهجرة وتظل تنقلاته محدودة، اللهم إلا في حالات اشتداد القمع أو وقوع كوارث طبيعية. ويكون انتقاله اضطراريًّا ومؤقتًا دائمًا. وهو يظل متعلقًا بمصر بشكل مستمر حتى وإن وجد مناخًا مواتيًا (الفلاحون المصريون في العراق).

وإذا تعرض ذلك التأصل لأي خلل فإنه يتسبب في مآسي في أغلب الأحوال.

وتتمحور كل أفلام صلاح أبو سيف حول ذلك الخلل وعلى عواقب تلك الانتقالات من وسط إلى وسط آخر، ومن طبقة إلى طبقة أخرى في حدود القاهرة. وفيما عدا ثلاثة أو أربعة أفلام تقع خارج تلك الحدود فإن بقية ما تم إخراجه يعتمد على ذلك الانتقال من وسط اجتماعي إلى وسط آخر:

– من الريف إلى المدينة (شباب امرأة، والفتوة، وحمام الملاطيلي).

– من حيٍّ إلى آخر (الأسطى حسن، ولا وقت للحب، وبداية ونهاية، والقضية … إلخ).

ومن خلال تلك الإشكالية المتواصلة، التي تستجيب اجتماعيًّا إلى إحساس قوي بالحاجة المتأصلة بعمق إلى التحرك الاجتماعي عند الطبقات الدنيا في التجمعات السكنية بالمدن، يُبرز أبو سيف العنصر المحفوف بالمخاطر الذي سيحدد على أساسه مسار المغامرة الناجمة عن ذلك العنصر.

ولا يسفر ذلك الانتقال عن تغير فقط في المجال الحيوي ولكن أيضًا في المرتبة الاجتماعية … وهو تغير يتم في الاتجاه الصاعد، ليصبح معيارًا للحكم على سلوك «المحدث نعمة». ويتقرر ذلك الحكم من خلال مواجهات (سلوك حسن إزاء شلاطة، وهريدي إزاء درية هانم، ومحجوب أثناء أزماته الأخلاقية، وحسنين مع زملائه في الكلية العسكرية).

ومعطيات تلك المواجهة مدعاة للتوجس منذ البداية، وهي ترجع في الأفلام إلى عمق عدم الاستقرار الذي لا تقوى الجماعات الدنيا على مقاومته، حتى إنها قد تغذيه أحيانًا: الحماة في فيلم «الأسطى حسن»، ونفيسة وحسن في «بداية ونهاية»، ووالدا إحسان في «القاهرة ٣٠» … ويشكل التمزق الناجم عن عدم الانتماء بالكامل إلى أحد الوسطين العقدة الأساسية في طريق الهلاك الذي تسلكه الشخصيات المتأزمة. وينقل لنا جان دوفييينيو فكرة جورج لوكاش التي يقول فيها إن «البطل المأساوي» يموت لأنه لا يتقبل أي تصالح مع العالم ويحكم بذلك على نفسه.

والواقع أن هذا البطل لا يقتل نفسه ولا يحاكمها ولكن يُحكم عليه بالقتل.

figure
سعاد حسني وعبد العزيز مكيوي في «القاهرة ٣٠».

وهذا البطل الذي يبدو منذ البداية شخصًا لا يفهمه من حوله، يريد أن يثبت أنه حرٌّ في اختياره فيكافح من أجل تأكيد حريته، وترسيخ ذاته، بينما ترى الجماعة الاجتماعية المنتمي إليها أصلًا أن هذا الاختيار جزء لا يتجزأ من إرادتها وأنه من اختصاصها هي وحدها في حدود حريتها الجماعية ووجودها المشترك.

وتدور معركة هذا البطل الخاسرة بين أخلاقيات القاهرة التي تشهد تطورًا اجتماعيًّا يؤكد القيم الفردية وبين أخلاقيات الريف التي يجسدها الأهل والعائلات المتمسكة بالقيم المشتركة وبالمصير الجماعي.

وهذا الصراع لا يمكن أن يتم إلا باللجوء إلى العنف والتدمير، وهو الصورة الصارخة لافتقاد النظام.

فماذا يفعل حسن عندما يلقي بالنقود في وجه زوجته وحماته في فيلم «الأسطى حسن»، وماذا يفعل هريدي عندما يستولي على مال الجماعة لكي يشتري لنفسه البكوية في فيلم «الفتوة»؟ ألسنا هنا إزاء أعمال هدامة؟ وما قيمة المال في الأوساط الحضرية ما لم يكن أسهل وسيلة لتحقيق النفوذ وتأكيد الذات؟

figure
سعاد حسني بين توفيق الدقن ونعيمة الصغير في «القاهرة ٣٠».

وفي هذا الصدد يقول دوفينيو إن التفرد إلى أقصى حد في حالةٍ ما لا ينجم عن الإرادة الواعية بأن يحقق الفرد ذاته، فانعزال الكائن البشري من خلال تأكيد ذاته ينجم على العكس عن المواجهة بين منطقين داخلين يخصان المجتمع.

ويترتب على التعارض بين منطقين أو نوعين من القيم الأخلاقية رفض اللجوء إلى تنازلات متبادلة. فكل من يسلكون طريق التهاون شخصيات مسطحة تتحاشى المنازعات والصدامات: حسنين في «بداية ونهاية»، وأحمد بدير في «القاهرة ٣٠» ومجموعة أبو دومة في «الفتوة»، وحتى مُنجد إلى حدٍّ ما في فيلم «القضية». وهذه الشخصيات تحقق رغبات الجماعة الاجتماعية التي تنتمي إليها فتتنكر بذلك لذاتها وفرديتها.

وعلى العكس فإن الذين يرفضون التنازلات ويحاولون تأكيد ذاتهم بالتعارض مع الجماعة يخرجون على المسار المرسوم. ومن هنا يكون الانحراف الذي تغذيه العديد من العوامل الداخلية والخارجية الصادرة عن الذات أو عن الآخرين (العائلة والأغراب). وبصفة عامة يكون هؤلاء الرافضون للتنازل والمتمسكون بحريتهم إما مجددين فعلًا لهم تأثير على مسار الأحداث مثل علي طه في «القاهرة ٣٠»، أو فاطمة في الزوجة الثانية؛ وإما مجددين بتمسكهم بقيم الماضي ذات التأثير الإيجابي على التضامن الجماعي مثل حسن في فيلم «الأسطى حسن»، وهريدي في «الفتوة»، ومحجوب وإحسان وسالم في «القاهرة ٣٠»، وحسن ونفيسة وحسنين في «بداية ونهاية»، وعبد الصبور في «الوحش».

لماذا هم مجددون؟

إنهم مجددون لأن استراتيجية تطورهم لا تخضع إطلاقًا لبرنامج مقرر من جانب الجماعة، ولا تنبع من وضعهم الاجتماعي؛ فهي استراتيجية ناجمة عن تحليلهم لتأثيرات عناصر عالمهم (علي طه وفاطمة) أو عن رغبتهم المحمومة في التصرف بتلقائية. وفي كلتا الحالتين يكونون على بصيرة من تركيب الجماعة ومستقبلها. كما أن التجديد في أي من الحالتين يرمي إلى التخلص من أساليب الإنتاج والحياة التي تريد الحفاظ على تركيب الجماعة والإبقاء عليه (فهناك برنامج علي طه، واستراتيجية، وسعي محجوب المحموم للوصول … إلخ.)

وهكذا يكون مصدر هذه المأساة ونقطة انطلاقها «الانتقال» و«التغيير» والتحول القاتل. ومع تحقق التغير يعكف أبو سيف على التحضير للتحول بصفته العنصر المحوري في الخطاب المأساوي.

وفي الوسط المصري، حيث تحتل القدرية جانبًا كبيرًا من التفكير، يشكل اللجوء إلى القدرة الإلهية سمة أساسية في البنية التي يعتمد عليها المخرج. فالنزاع المستمر بين الاختيار «الفردي» وبين كل سلطة مطلقة سواء كانت دنيوية أو روحية يكون الإطار العام الذي يجري في ظله الخطاب المأساوي المصري.

وهكذا نجد — سواء في مسرحيتَي شهرزاد أو أهل الكهف لتوفيق الحكيم، أو حلاق بغداد لألفرد فرج، أو الحرام ليوسف إدريس، أو دعاء الكروان لطه حسين أو القاهرة الجديدة لنجيب محفوظ — نضال الإنسان ضد القدر والمصير من أجل فرض الاختيار الحر. وطابع البطل السينمائي المفرط في نظرته الأحادية الجانب ومسعاه القدري من ثوابت السينما المصرية. وهذا الخروج على المسار الذي يظهر أثناء النزاع غير المتكافئ بين الإنسان وقدره مسألة جدلية للغاية لأنه متأصل في الوعي الجماعي.

ويحدث ذلك الانحراف عندما تتدخل الشخصية الرئيسية؛ أي البطل الإيجابي أو السلبي في مجرى الأحداث وينوي القيام بتصحيح الأوضاع بنفسه وتقرير مصيره بكامل وعيه.

غير أن الحدث المثير للاضطراب — الذي يفسره دوركهايم على أنه «نتاج خلل» ناجم عن تغير يطرأ على النظام الاجتماعي وعلى القيم والتحولات البطيئة أو المفاجئة — هو حدث لا ينفصل عن البنية التي يتفجر فيها. وهذا التدخل من جانب البطل، صاحب الإشكالية، يتم من خلال ظاهرتين: أولًا عن طريق انقلاب الأخلاقيات الجماعية، وهو ما أوردنا مثلين بخصوصه. وثانيًا عن طريق التوقع الذي يجري عمومًا خارج الفيلم فيما عدا ما يتعلق بعلي طه في «القاهرة ٣٠»، وفاطمة في «الزوجة الثانية»، وكذلك أحمد في «حمام الملاطيلي». وهو خارج الفيلم لأنه يرمي إلى النتيجة المطلوب إبلاغها أو انتظار وقوعها؛ أي المزيد من التماسك ومن وحدة الكيان الاجتماعي.

ولكن بالنظر إلى تواجد عدد كبير من المجددين الهدامين الذين يعبرون عن المسيرة المأساوية ويعيشون فيها، فإنه يتعين أن نلاحظ أن مشروعيتهم لا تنبع فقط من عدم فهمهم؛ فهم يبدون كما لو كانوا غير مبالين ببقاء الجماعة ويُظهرون في الكثير من الأحوال وكأنهم يريدون تحطيمها بوصفهم عناصر خارجة على النظام … وتصبح اللامبالاة علامة مميزة لهم. فمحجوب يمتنع عن إرسال نقود لأبيه في «القاهرة ٣٠»، وإمام لا يفيد أهله أبدًا بأخباره في «شباب امرأة»، وهريدي لا يعود يهتم بأمه المريضة في «الفتوة»، وحسن لا يحضر حفل ختان ابنه في «الأسطى حسن». وهكذا نجد الآن أن عدم الفهم يأتي من جانب الآخرين واللامبالاة الآتية من جانب الأبطال المأساويين هما التعبيران عن الخلل المتسبب في الانحراف.

لماذا الخلل، والانحراف والابتكار؟

يُعتبر أبو سيف نموذجًا للمثقف النابع من الطبقة المتوسطة المصرية التي تضم في آنٍ واحد البروليتاري والبورجوازي الصغير، الذي يطلق عليه مخرجنا تسمية ابن البلد ذات المعالم غير المحددة بدقة. والتقسيم الاجتماعي الذي يمثله صلاح أبو سيف يخص في آنٍ واحد طبقتين مختلفتين: طبقة البروليتاريا والطبقة البرجوازية الصغيرة. ومن هنا تنبع تنقلات الأشخاص وصعوبة تحديد وضعهم الاجتماعي بدقة.

والبروليتاري الحقيقي في مصر في نظر صلاح أبو سيف هو من لا توجد تحت يده وسيلة إنتاج لا من لا يمتلكها.

«فالأسطى حسن» برجوازي صغير ما دام له عمل ثابت يوفر له مستوى معيشة مناسبًا في ظل ظروف مصر. وكل ما في الأمر أن حسن يحتل مركزًا أدني في المراتب الاجتماعية، وصلته مباشرة مع طبقة البروليتاريا. والمرتبة العليا للبرجوازية الصغيرة تمثلها عائلة عبده في فيلم «القضية». فالابن طالب في كلية الطب والأب موظف في القطاع العام، وهو يتصرف كبرجوازي جديد باستخدامه سيارة عمله في مختلف تنقلاته ليتفادى اتخاذ موقف إزاء النزاع القائم بين أسرته والجيران.

والمصالح في صفوف هذه البرجوازية الصغيرة ليست متجانسة، بل ولا متكاملة. فحماة الأسطى حسن مسئولة عن انحراف صهرها. ويُستخدم سالم محجوب في فيلم «القاهرة ٣٠» ككبش فداء ليتفادى الزواج من إحسان، والعامل في «بداية ونهاية» يهين نفيسة بأن يلقي لها قطعة عملة على غرار البرجوازي، وصاحب الحمام الشعبي في «حمام الملاطيلي» يتهم عنتر بالسرقة، وفي فيلم الكذاب يتراجع العاملان عن موقفهما مع الصحفي. وهذه الأمثلة ليست سوى نماذج لتلك التجزئة التي تؤكدها الدراسة التحليلية لكل فيلم. فالخط العام في أفلام أبو سيف هو تفكك صفوف البرجوازية الصغيرة والمعارضة، هذا إن لم يكن تحييد مختلف المشاريع التي تنشأ عنها.

figure

وبصفة عامة يكتفي المخرج هنا بتسجيل فشل هذه الطبقة في توحيد صفوفها والقيام بدور هام في تطور مصر.

ولكن كيف يتم تقرير ذلك الفشل؟

بما أن صلاح أبو سيف مقتنع بالفكرة الماركسية القائلة: «إن وعي الناس ليس العامل الذي يحدد بنفسه وضعهم، بل إن وضعهم الاجتماعي هو الذي يقرر وعيهم …» فهو يلاحظ أن ظروف معيشة البرجوازية الصغيرة البائسة لم ينشأ عنها وعي متجانس ومتماسك يجد تعبيرًا واضحًا له في المجتمع المدني المصري.

ومع أن البرجوازية الصغيرة التي تعيش أساسًا في المدن لا تشكل سوى ٣٣٪ من مجموع سكان مصر، إلا أنها تضم كافة الفئات التي تملك رأسمال صغيرًا أو قطعة أرض، أو تخصصًا مهنيًّا أو مستوًى ثقافيًّا يسمح لها بالعيش بمجهودها باستغلال وسائل عملها المالية والتقنية دون أن تكون في حاجة إلى بيع قوة عملها أو شراء عمل الآخرين.

غير أن هذا الاكتفاء الذاتي والاستقلالية في العلاقات مع الطبقات الاجتماعية الأخرى لن يجعلاها بمنأًى عن الحركات الاجتماعية. ووضعها بين القطبين المتعارضين يعرضها في آنٍ واحد لضغوط الجماهير الشعبية وقمع البرجوازية لها. كما أن وقوعها بين فكَّي الكماشة يعرض قدراتها لاختبارات صعبة تجبرها على تقرير خيارها. وكما لاحظ جمال حمدان وهو ويتكلم عن الطبقات الاجتماعية في القاهرة، فإن البنية الطبقية تتمثل في هرم ذي قاعدة عريضة وممتدة وقمة فارعة، تتلاشى بينها الطبقة المتوسطة.

وهكذا نجد أن البرجوازية الصغيرة تتذبذب منذ البداية، على صعيد المجتمع السياسي، بين الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد، وبين حزب الأمة بقيادة أحمد لطفي السيد.

وهي تُدعى من جانب كافة الأطراف إلى الوقوف بجانبها ومساندتها عندما تقع الأزمات، ثم سرعان ما تُستبعد عندما يتم حل تلك الأزمات. ومن هنا، فقد تميزت باتجاهها الوفدي، ولكنها لم تتوصل حتى في هذا الحزب إلى تحقيق استقلالها؛ نظرًا لطابع هذا الحزب القومي ولتواجد تشكيلة اجتماعية عريضة في صفوفه بدءًا بملاك الأراضي حتى العمال والعمال الموسميين. وبدلًا من أن تكون لهذه الطبقة قيادتها السياسية الخاصة، عمدت إلى التنازل عن عناصرها المسيسة لقيادة الجماهير الشعبية إلى أحزاب اليسار أو وضعت خبراءها في خدمة الدولة والبرجوازية.

ويتضح في ظل هذا الوضع أنه إذا كانت الطبقة العاملة والرأسمالية تمتلكان نظرياتهما وأساليبهما الأيديولوجية الخاصة، فإن البرجوازية الصغيرة تتميز على العكس بطابعها الانتقائي المعقد بحكم موقعها الوسيط وطابعها الانتقالي وسمتها المزدوجة. وهي لا تستطيع أن تتبنى الأسلوب الأيديولوجي لأيٍّ من طرفَي الصراع؛ لأن أحدهما يؤدي إلى إلغاء الملكية والاستغلال بالكامل والآخر يميل إلى تركيز رأس المال وسلطته مما يهدد بالتالي بزوال البرجوازية الصغيرة بالسعي إلى تجريدها من أملاكها. وتتمركز مأساة هذه الطبقة في تذبذبها بين القطبين لافتقادها القدرة على جمع الطاقات والإمكانات الضرورية لتحقيق مشروعها السياسي. ومن هنا ينبع المعنى المقصود في اللغة الدارجة عند الإشارة إلى المواقف البرجوازية الصغيرة التي تفضل النضال الفردي والمهارة والفهلوة والسخرية اللاذعة في خضم وضعها الضعيف. وتكمن هنا الملامح المميزة لطبقة مفككة تتعرض باستمرار لضغوط قوى الطبقة الحاكمة، وتعجز عن الدفاع عن نفسها وتنفر في الوقت نفسه من التحالف مع الجماهير الشعبية مع عدم التردد في إسكاتها في اللحظة المناسبة.

وذلك هو الطابع الملتبس لتلك البرجوازية الصغيرة.

غير أنه يتعين ألا نستهين بغريزتها الوطنية بالرغم من موقعها المقحم بين البروليتاريا والبرجوازية. وهي تقف على حافة الصدع بين المراتب الاجتماعية، فيدور في داخلها الصراع بين القديم والجديد، وبين الأصيل والحديث، وبين استمرار الاستعمار والنضال من أجل تحرير مصر. ومن هنا ينبع الطابع المتشائم للغاية لنظرتها للعالم، وانكفاؤها على نفسها واستمراؤها للغيبيات والخوف من الاختيار الحر.

وهذا التشاؤم الذي يمكن ملاحظته في أفلام صلاح أبو سيف ليس صارخًا. فهو نتاج موقف تلك الطبقة في إطار جدلية الطبقات الاجتماعية ومجال الإنتاج.

وينعكس التمزق الداخلي في تعدد أساليب النضال التي تتراوح بين الهبة التلقائية والعصيان، وبين التمرد الفردي الجامح ومحاولات الكفاح المشترك. ولم تتمكن هذه الطبقة المتأرجحة بين الفردية والانتقائية والمثالية، من التنفس والتطلع إلى الوحدة والتماسك إلا مع صدور الميثاق الوطني وقرارات التأميم الصادرة في سنتَي ١٩٦٠-١٩٦١م.

غير أن هذه الطمأنينة لم تدم طويلًا؛ إذ أحست بأنه تم التخلي عنها من جديد تحت وطأة «الطبقة الجديدة»، سليلة السلطة العسكرية للضباط الأحرار، وأكدت نكسة عام ١٩٦٧م ذلك الإحساس لديها.

والبرجوازية الصغيرة، التي تشكل همزة الوصل بين سلطة الدولة والجماهير الشعبية التي تمثل هي قمتها، تحتل مركزًا متميزًا في مشروع تحقيق الاشتراكية في مصر.

وقد اشتد ساعد هذه الطبقة في ظل حكم الضباط الأحرار في الخمسينيات والستينيات بانضمام عناصر وافدة من الجماهير الشعبية إليها. ويتبين من تعداد السكان في عام ١٩٦٧م أن البرجوازية الصغيرة تضم ٩٥٪ من مجموع ملاك الأراضي و٦٠٪ من الأراضي الصالحة للزراعة و٩٣٪ من أصحاب المصانع والورش و٧٥٪ من التجارة، هذا عدا أبناءها من المثقفين والمتعلمين العاملين في أجهزة الدولة. ولو تم الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية تحت قيادة الجماهير الشعبية لتطلب ذلك في مصر تدخل البرجوازية الصغيرة فعلًا باعتبارها حجر الزاوية في بناء المجتمع، ولقيامها بدور الوسيط بين البرجوازية الوطنية والطبقة الجديدة والجماهير الشعبية.

وتستطيع البرجوازية الصغيرة أن تقوم في هذه الحدود بدور حاسم في بناء الاشتراكية. وعليه فإن إقناعها بقضية الاشتراكية عامل حاسم في بنائها.

غير أن وضع هذه الطبقة لا يتيح لها اتخاذ موقف موحد يمكن أن يحولها إلى كيان متماسك يعمل من أجل مشروع مشترك يتقاسم ثماره مع طبقات أخرى.

وهذه البرجوازية الصغيرة التي يتجاذبها القطبان المذكوران آنفًا تنقسم إلى جزأين وتتفتت، وتتحول إلى تيارين أحدهما يتحالف مع التيار الثوري بقدر تواجد هذا التيار بينما ينضم التيار الثاني إلى اليمين المعادي للثورة. وبالطبع، فإن الحركة العامة لتلك الطبقة تتوقف على الظروف السياسية الخاصة بكل بلد وعلى موقع كل طبقة في السلم الاجتماعي. والبرجوازية الصغيرة تميل بقدر أكبر إلى الانضمام إلى التيار الثوري من ميلها إلى تيار الرأسمالية المتوسطة.

وتحتل البرجوازية الصغيرة في الإطار الاجتماعي المصري المركز الأخير بعد البرجوازية المتوسطة والبرجوازية الوطنية والكبيرة (مالية وصناعية وتجارية). وهي موحدة بقدر أقل من البرجوازية المتوسطة … كما أنها الطبقة التي عانت بدرجة أكبر من اضطهاد النظام الإقطاعي — الرأسمالي من جهة، ومن الاستعمار من جهة أخرى. ووعي هذه الطبقة بالظروف الاجتماعية أوضح بالمقارنة مع وعي طبقة الإقطاعيين والرأسماليين، بالنظر إلى أن البرجوازية الصغيرة في مجموعها طبقة حضرية تعيش في المدن مما يساعد على نمو الحس الثوري عندها ضد النظم القائمة. وعن طريق هذا الجيش وإدارات الدولة.

ومن خلال عمليات تحقيق الاشتراكية (الإصلاح الزراعي، والتأمينات، والتصنيع …) استفادت عدة عناصر، مع الضباط الأحرار، من وضعها الجديد، ونجحت في تشويه صورة الاشتراكية بتحريض من الرأسماليين والإقطاعيين وشكلت «الطبقة الجديدة» التي تكاد تكون طفيلية. وتتكون هذه الطبقة من جماعات اجتماعية تحتل المناصب العليا في إدارات الدولة والقطاع العام، وأصولها برجوازية متوسطة وصغيرة، وتشكلت تاريخيًّا من خلال عمليات التصنيع والتحولات الاجتماعية. وتستأثر هذه الجماعات بسلطة إصدار القرارات في المجال الاقتصادي وتخص نفسها بالعديد من الامتيازات، ومنها المرتبات العالية وغيرها من المكافآت. وهي تفتقر داخل صفوفها إلى التماسك والترابط وتعاني من التناقضات إن لم تكن المواجهات بين مختلف المشاريع السياسية. وتتكون هذه الطبقة الجديدة التي أفرزتها البرجوازية الصغيرة والمتوسطة في ظل الحركة الناصرية من التيارات الأربعة التالية:

  • (١)

    تيار يرفض الرأسمالية كوسيلة للتنمية والتصنيع ولكنه يعتبر الاشتراكية مجرد عملية تأميم بدون ديمقراطية. والقيادة التكنوقراطية هي العامود الفقري لهذا التيار.

  • (٢)

    تيار يبدي تخوفه من الإرادة الشعبية ويريد تجميد الثورة والاكتفاء بالإصلاحات التي تمت.

  • (٣)

    تيار يؤمن الاشتراكية العلمية والديمقراطية، وبأهمية مشاركة الجماهير الشعبية.

  • (٤)

    تيار يرفض الاشتراكية ويفضل الرأسمالية والنموذج الأعلى عنده يتمثل في الرأسمالية الغربية.

وقد أدى عدم التوازن والتباين بين هذه التيارات إلى إفشال العديد من عمليات التأميم ووضع العراقيل أمام مستقبل الاشتراكية في مصر، فأتاح بذلك الفرصة لوقوع هزيمة عام ١٩٦٧م وما ترتب عليها من انعكاسات خطيرة على الكيان الوطني. وفي مواجهة تشتت الآمال تحول المشروع السياسي للبرجوازية الصغيرة إلى تطهير الصفوف واستئصال شأفة العناصر «الدخيلة» و«المنحرفة» لتعزيز الوعي الجماعي الكفيل بتحويلها إلى طبقة متجانسة لها وزنها في تحديد مستقبل البلاد.

فإلى أي حدٍّ عبَّرت الأعمال السينمائية لصلاح أبو سيف عن هذا المشروع في ظل تلك الظروف؟ عندما يتعلق الأمر بالأعمال الثقافية الخلاقة التي تتدخل فيها عوامل خفية دقيقة — وهي عديدة في مجال السينما — يكون الميل إلى التعبير الضمني بالوسيلة المعلنة أو المستترة نابعًا عن وعي طبقي لم يتم كبحه إطلاقًا. فعلى العكس كانت أعمال أبو سيف السينمائية إما معركة مفتوحة ضد هذا الكبح أو تعبيرًا عنه بأشكال فنية. فالعمل الخلاق يعزز الوعي في اتجاهاته المتأصلة، نظرًا للعلاقة الوثيقة التي تربط الوعي الفردي بالقضية الجماعية أو التي تتجاوز الحدود الفردية. غير أن ذلك الحرص على التعبير عن الوعي الجماعي ليس ذا طابع واحد في مختلف الأفلام ولا يتم التعبير عنه بنفس الأساليب السينمائية. كما أنه لا يستهدف نفس المستوى الاجتماعي. فإذا كانت الأعمال التي تولَّى إخراجها صلاح أبو سيف في عام ١٩٤٦م حتى ١٩٥٠م، والمتأثرة بالبنية المتصلبة للسينما المصرية بعد الحرب، لا ترمي إلا إلى تأكيد قدرة مخرجنا على أن يصبح المؤلف، وأن يتطرَّق إلى كافة المواضيع وأن يصبح صاحب أسلوب متميز، إلا أننا يجب أن نلاحظ أن الأفلام التي تولى إخراجها بعد ذلك تنقسم، إلى مجموعتين سنقدمهما تحت عنوانَي: «التحول الأول» و«التحول الثاني»، هذا عدا الأفلام المعتمدة على روايات إحسان عبد القدوس.

هذا، وسنجد أن صلاح أبو سيف عكف، من خلال هاتين المجموعتين، على فك رموز تجزؤ البرجوازية، والتعبير عن مشروعها الاجتماعي والسياسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤