مقدمة

بقلم المترجم
من المفارقات الغريبة — والكتاب مليء بالمفارقات! أن نقول عن الغربيين إنَّهم غير متدينين مع أنهم يكتبون عن الدين بعمقٍ نافذ، ونقول عن الشرقيين إنَّهم متدينون مع أنهم يكتبون عن الدين والتديُّن بسطحية بالغة!١ وهذا كتاب يشهد بصحة هذا الرأي؛ فهو لا يكتب عن «تاريخ» التصوف، ولا يلتقط فقرة من هنا وفقرة من هناك مما قاله المتصوِّفة ليؤلِّف كتابًا غثًّا، يضيع معه وقت القارئ وجهده وماله، وإنَّما هو يقوم على مدى ثمانية فصول «بتشريح» ماهية التصوف بمبضع الفيلسوف الماهر البارع، ويُثير أسئلة بالغة الأهمية حول هذا الحقل الخصب من الحياة الروحية. فبعد أن أثبت في كتب أخرى٢ أن الحس الديني جزء أساسي في تكوين الإنسان، وأنه موجود بدرجات متفاوتة عن الناس جميعًا: مطمورًا عند مَن يُحاول أن يحجبه أو يمنعه من الظهور، بل ربما يجحد وجوده؛ عارمًا وطاغيًا عند الصوفي العظيم الذي يرى الفعل الإلهي في كل حركة كونية؛ من حبة الرمل في الصحراء إلى السماء المرصعة بالنجوم، نراه في الكتاب الحالي يُتابع المسيرة، فيطرح الأسئلة المنطقية المترتبة على الحقيقة التي أثبتها:٣ فإذا كان التدين يظهر في أعلى صورة عند الرجل الصوفي العظيم، فما هي حقيقة التصوف؟ وما هي «التجربة الصوفية» التي تظهر في آداب الأمم المتحضرة في جميع العصور؟ وهل هناك «وجود روحي» أعظم من الإنسان يُحاول الحس الديني العارم عند المتصوِّفة الوصول إليه؟ وإذا كان هناك مثل هذا «الوجود الروحي» فما هي علاقته بالإنسان؟ وهل يُمكن لنا أن نجد في التصوف أي توضيح لمشكلات مثل: طبيعة النفس (أو الذات)، وفلسفة المنطق، ووظائف اللغة، وحقيقة — أو عدم حقيقة — دعوى الإنسان في الخلود، وأخيرًا طبيعة الإلزام الخلقي ومصادره، ومشكلات الأخلاق بصفة عامة؟

غير أن ذلك إيجاز يحتاج إلى قليل من الشرح والتفصيل:

يتألَّف الكتاب من ثمانية فصول؛ يعرض في الفصل الأول الأفكار الأساسية التي يفترضها البحث مقدَّمًا:
  • الفكرة الأولى: هي أن للتصوُّف قيمة خاصة، وأنه من ثَم جدير بالدراسة، وهو يستشهد برسل (١٨٧٢–١٩٧٠م) الفيلسوف التحليلي العقلاني وعالِم الرياضة المعروف، الذي لا علاقة له بالتصوف، ومع ذلك يعترف بأنَّ «وحدة التصوف مع رجل العلم تُشكِّل أعلى مكانة مرموقة يُمكن إنجازها في عالم الفكر». ويُشير إلى نماذج لهذا الاتحاد بين التصوف والعلم عند عظماء الفلاسفة: هيراقليطس، وبارمنيدس، وأفلاطون، واسبينوزا … إلخ، ومن هنا كانت صلة وثيقة بين التصوف والفلسفات الكبرى التي أثَّرت في مجرى تاريخ الفكر البشري، لكن ماذا عن المعتقدات — لو كانت هناك مثل هذه المعتقدات — التي ينبغي علينا أن نستمدها كأناس معتدلين من التصوف؟ والجواب أنها كثيرة، منها أن التصوف هو جوهر الدين، وأنَّنا جميعًا متصوِّفة بدرجة كبيرة أو صغيرة.
  • والفكرة الثانية: التي يُمهِّد بها المؤلف لبحثه هي: هل يجوز لغير المتصوِّف أن يكتب شيئًا ذا قيمة عن التصوف أم إنَّ مثله في هذه الحالة سيكون مثل الحمار يحمل أسفارًا؟ ويُجيب المؤلف بالإيجاب، ويضرب المثل بالفيلسوف الأمريكي المُعاصر وليم جيمس (١٨٤٢–١٩١٠م) الذي حال تكوينه الشخصي بينه وبين الاستمتاع بالتجربة الصوفية، ومع ذلك فلا يُمكن لعاقل أن يُنكر أن إسهاماته في فهم هذا الموضوع كانت ذات قيمة بدرجة كبيرة جدًّا، سواءً في كتابه «صنوف من التجربة الدينية» أو «مبادئ علم النفس»، مما يوحي بأنَّ التعاطف مع التصوف — حتى من جانب الفيلسوف غير الصوفي — قد يعطيه قَدرًا من البصيرة للنفاذ في حالة الذهن الصوفي ومناقشتها. وفضلًا عن ذلك فإن المتصوِّفة أنفسهم يتفلسفون، وهم بذلك يهبطون إلى أرض العقل التحليلي، أعني أرض الفيلسوف غير الصوفي، ولا يُمكن لهم — عندئذٍ — أن يتوقعوا الإفلات من النقد والتحليل العقلي، فلا يُمكن لهم غزو أرض الفيلسوف، ثم ينكرون عليه في الوقت ذاته حقه في مناقشة أقوالهم الفلسفية!
  • والفكرة الثالثة: هي أن المبدأ الطبيعي الذي يُنادي بسيادة القوانين في الطبيعة لا يتعارض مع التجارب الصوفية؛ فالصلوات، والتضرعات، والابتهالات … إلخ، التي يقوم بها المتصوف، لا تستهدف تغيير مسار الأحداث الطبيعية، وإنَّما هي تستهدف أساسًا الاتصال بالله، أو الاتحاد بما يعتبره الموجود الأعلى، وليست التماسًا لمعروف أو رعاية، اللهم إلَّا بمقدار ما ينظر المتصوف إلى الاتحاد نفسه، بالطبع، على أنه أقصى معروف يُمكن للموجود البشري أن يسعى إليه. وهكذا ينتهي المؤلف إلى أن المبدأ الطبيعي — أو سيطرة القوانين العلمية على ظواهر الطبيعة — لا يتعارض مع الإيمان «بحقيقة مطلقة» — أو الإيمان بالله — تلك الحقيقة التي تقع خارج — أو تجاوِز — عالم الزمان والمكان، الذي هو عالم القوانين العلمية.
  • والفكرة الرابعة: هي ما يُقال أحيانًا من أن التجربة الصوفية يُمكن أن تَحدث نتيجة للمخدرات والعقاقير من أمثال «حمض المسكل» (وهو نوع من الصَّبَّار تستقطر أوراقه لإحداث الأثر المطلوب)، والواقع أن عظماء الصوفية — الذين وصلوا إلى حالات صوفية نتيجة لممارسات روحية شاقة وطويلة — ينظرون شزرًا إلى مثل هذا الزعم. وإن كان المؤلف يرى أنَّنا لم نصل بعد إلى معرفة كافية بالآثار التي تُحدثها العقاقير؛ لأن التجارب المعملية لهذه العقاقير ما زالت في طور النمو والتقدم، ولهذا فإنَّ علينا أنْ ننتظر ما تُسفر عنه من نتائج.
  • والفكرة الخامسة: هي التفرقة بين التجربة الصوفية ذاتها والتأويلات التصورية التي تُقال عنها، وهي تشبه التفرقة التي يُمكن أن نقوم بها بين التجربة الحسِّية التي هي أساس العلم وتأويلها. ويذهب المؤلف إلى أنه يستحيل أن تكون هناك «تجربة» — حسِّية أو صوفية — «خالصة» معزولة عن تأويلها. ومع ذلك فالإحساس — في حالة التجربة الحسِّية — شيء، وتأويله شيء آخر، وقُل مِثل ذلك في التجربة الصوفية التي يُمكن أن تكون لها تأويلات شتى، وأهمية هذه التفرقة أن المؤلف يبني عليها فكرة أساسية هي أن التجربة الصوفية واحدة عند جميع المتصوِّفة؛ إذ تتفق التجارب الصوفية التي رواها المسيحيون، والمسلمون، واليهود، والهندوس، والبوذيون، وأيضًا المتصوِّفة الذين لم يتبعوا أيَّة عقيدة دينية مُحدَّدة، لكنَّها تختلف في تأويل كل متصوِّف لتجاربه تأويلًا عقليًّا مستمدًّا من خصائص ثقافية؛ فالتأويل هو إضافة عقلية إلى التجربة بغرض فهمها، وقد يكون من عمل المتصوف وغير المتصوف، فالقول مثلًا بأنَّ التجربة الصوفية ذاتية فقط، أو أنها موضوعية، فذلك تأويل عقلي يُضاف إلى التجربة نفسها، والمؤلف يستخدم كلمة «التصوف» لتعني التجربة الصوفية وتأويلاتها في آنٍ معًا.
  • والفكرة السادسة: والأخيرة التي يُقدِّمها المؤلف كافتراض سابق للبحث هي أنَّ البرهان أو الشواهد التي يُقدِّمها عن التصوف في ثقافة معينة ينبغي أن تكون شاملة، وذلك يعني أنه لا يدرس التصوف في ثقافة معينة، كالتصوف المسيحي مثلا، وإنما هو يدرس التصوف في جميع الثقافات المتحضرة، ولهذا فقد كان عليه أن يضرب الأمثلة، ويسُوق الشواهد على فكرته من التصوف المسيحي، والإسلامي، واليهودي، والهندوسي، والبوذي، والطاوي، بل وبوذية زن Zen (أي بوذية التأمُّل التي ظهرت في الصين، ثم انتقلت إلى اليابان) فضلًا عن التجارب الصوفية التي سجَّلها أولئك المتصوِّفة الذين لم يكونوا تابعين لأيَّة ديانة معينة. وقد أُطلِق عليهم اسم «المتصوِّف اللامنتمي»! وقُل مِثل ذلك في المتصوِّفة المعاصرين، وهذا ما يقصده المؤلف «بشمول البرهان» أو كلية الشواهد، التي لا بد أن تتنوَّع مصادرها — لكي تكون دراسة أكاديمية جادة — ويسوق ثلاثة أنواع من المصادر، هي:
    • أولًا: ألوان التصوف التي ترتبط تاريخيًّا بديانات العالم العُظمى.
    • ثانيًا: المتصوِّف اللامنتمي؛ مثل أفلوطين.
    • ثالثًا: المتصوِّفة المعاصرين؛ سواءٌ أكانوا مشهورين أو مغمورين، وسواءٌ أكانوا من اللامنتمين أو المرتبطين بديانة معينة.
    وسبب هذا الشمول هو أن المؤلف يريد أن يُقدِّم لنا دراسة فلسفية نسقية عن التصوف يستخرج منها المضامين الفلسفية للتصوف بما هو كذلك، وذلك يتطلَّب مسحًا لجميع المناطق الرئيسية للتصوُّف، فضلًا عن أن التشابه بين التجارب الصوفية في الثقافات والديانات، والعصور المختلفة في جميع أنحاء العالم، يُعَد دليلًا في صف موضوعية هذه التجارب.
ويشرع المؤلف في الفصل الثاني في «تشريح» التجارب الصوفية، متسائلًا في البداية؛ هل هناك محور كلي عام هو عبارة عن مجموعة الخصائص المشتركة بين جميع هذه التجارب في كل الثقافات والعصور والبلدان في جميع أنحاء العالم؟ وعلى الرغم من أنه يُجيب بالإيجاب عن هذا السؤال، فإنَّه يستعرض أولًا القوائم المختلفة لخصائص التجربة الصوفية التي ذكرها الباحثون من أمثال «وليم جيمس» و«ر. م. بك» و«د. ت. سوزوكي» وغيرهم ويناقشها، مستبعِدًا بعض الخصائص المعينة من فئة الحالات الصوفية، التي ربما يميل الرأي العام للنظر إليها على أنها صوفية، لكنَّها ليست على الأصالة كذلك، وأولى هذه الخصائص هي: «الرؤى، والأصوات»، التي لا يعتبرها ظواهر صوفية؛ فقد يرى القديس الكاثوليكي مريمَ العذراء، أو يسمع أصواتًا ينسبها إلى يسوع، وقد يرى الهندوسي الإلهة كالي Kali، لكن لا هذه، ولا الأصوات التي سمعتها القديسة جان دارك، أو سقراط، تدخل في حساب الظواهر الصوفية، رغم أنه من الممكن جدًّا أن يكون هؤلاء الأشخاص قد مرُّوا بتجارب صوفية أصيلة. والسبب الذي جعل «ستيس» يستبعد الرؤى والأصوات من مجال التصوف الأصيل هو أن أكثر أنواع التجارب الصوفية عظمة وأهمية هي تجارب غير حسِّية، في حين أن الرؤى والأصوات لها طابع التخيلات الحسِّية.

ويضيف المؤلف أن هناك بعض الظواهر الأخرى التي ترتبط أحيانًا ارتباطًا وثيقًا بالحياة الصوفية، لكنَّها لا تُشكِّل أي جزء ضروري منها أو مصاحب لها، مثل: ضروب النشوة، والغبطة، والانفعال العنيف. فهذه كلها حالات طارئة تُصاحب الوعي الصوفي، لكنَّها بالقطع لا هي عامة ولا هي ضرورية، وإنَّما هي تحدُث بين المتصوِّفة الأشد انفعالًا، والأكثر اضطرابًا في الأعصاب، لكنَّها لا تقع بين المتصوِّفة الأكثر هدوءًا ورصانة وثقافة، ومن ثَم فلا يُمكن النظر إليها على أنها تنتمي إلى المحور الكلي العام للتجارب الصوفية، وقُل الشيء نفسه عن خصائص ثالثة مستبعدة؛ مثل: التشبيهات الجنسية المجازية التي تزخر بها الكتابات الصوفية عندما يُريد المتصوِّف «تزيين» اتحاده مع الله، ثم يُضيف إلى ذلك أن الإفراط في الانفعال أو المغالاة فيه عند بعض المتصوِّفة ليس جزءًا من المحور الكلي العام للتصوُّف، وإنَّما هو تعبير عن النوع الانفعالي من المتصوفين الذين يتحدثون، مثلًا، عن الحب الذي يشعرون به، والذي طغى عليهم أثناء تجربة اتحادهم بالله، ويصفونه بأنه «متوهج»، «عنيف»، «نشوان»، «مشبوب»، على نحو ما جاء في قول القديسة تريزا «إنَّني في أعماقي سكرانة بالحب!»

على أن إدانة المؤلف للإفراط في الانفعال وإهماله له على أنه جزء غير ضروري من الوعي الصوفي لا يعني، بالطبع، أنه يُنكِر أن هناك باستمرار عنصرًا من الانفعال — من نوعٍ ما وبدرجة ما — في ذلك الوعي، وأنَّ ذلك العنصر ضروري وعام، والواقع أن ذلك يصدُق على كل «تجربة بشرية»؛ فهي لا تكون أبدًا مُحايدة تمامًا من الناحية الانفعالية، بل تحمل معها باستمرار شحنة عاطفية مؤثرة من نوعٍ ما.

بعد أن قام «المؤلف» بعملية سلبية مستبعِدًا ما ليس من الخصائص الجوهرية للتجربة الصوفية يقوم بتقسيم هذه التجربة نفسها إلى نوعين: التجربة الانبساطية والتجربة الانطوائية، ولقد استعرنا ترجمة هذين المصطلحين من التحليل النفسي، لا سيما عند عالم النفس السويسري «كارل يونج Carl Jung» (١٨٧٥–١٩٦١م) الذي كان أول من أشار إلى هذين النمطين من الشخصية البشرية وطورهما. الأولى تتجه نحو الخارج وتميل إلى الأمور الموضوعية، في حين أن الثانية تنحو نحو الداخل، أعني إلى العوامل الذاتية. غير أن القارئ لا بد أن يكون على وعي تام بأنَّ التشابه بينهما وبين التجربتين الصوفيتين يقف عند هذا الحد دون أن توصف التجربة الصوفية الانطوائية بأيَّة صفة مرضية، كما هي الحال في الشخصية الانطوائية عند «يونج» الذي يجعلها غير قادرة على التكيف مع عالم الواقع.

نعود إلى المؤلف الذي يعتقد أن هناك سمات خاصة تتميَّز بها التجربة الصوفية الانبساطية، وهو يُحدِّدها في سبع خصائص، هي:

  • (١)
    الرؤية الموحِّدة للأشياء التي تُعبِّر عنها الصيغة المجردة «الكل واحد» على أن الواحد يُدرَك في التجربة الانبساطية من خلال الإحساس البدني في — أو من خلال — كثرة من الموضوعات.
  • (٢)

    يُدرَك الواحد في هذه التجربة على أنه الحياة التي تسري في كل شيء، وكثيرًا ما يوصف بكلمات مختلفة مثل الحياة أو الوعي أو الحضور الحي، فلا شيء جامد أو ميِّت.

  • (٣)

    الإحساس بالموضوعية أو الواقعية.

  • (٤)

    الشعور بالغبطة أو النشوة أو السعادة أو الرضا … إلخ.

  • (٥)

    الشعور بأنَّ ما يُدركه الصوفي هو شيء مقدَّس أو ديني أو إلهي.

  • (٦)
    انطواء التجربة على مفارقة (أو تناقض).٤
  • (٧)

    زعم المتصوف أن تجربته لا توصف، أو هي فوق الوصف، أو أنه لا يستطيع أن يُعبِّر عنها في كلمات.

ويسوق المؤلف أمثلة لا حصر لها من المتصوِّفة الانبساطيين من الثقافات المختلفة، وهو يرى أنه ليس من الضروري أن توجد كل هذه الخصائص في جميع أنواع التصوف الانبساطي إذ يكفي أن تكون هناك مجموعة منها.
أمَّا النوع الآخر من التجربة الصوفية فهو النوع الانطوائي، وهو يرى أنها واحدة في جميع الثقافات، والديانات، والعصور، والظروف الاجتماعية، وهي توصف بالخصائص المشتركة الآتية:
  • (١)

    الوعي الموحِّد الذي يستبعد كل كثرة للمضمون الحسِّي أو التصوُّري أو أي مضمون تجريبي آخر، حتى إنه لا يبقى سوى الوحدة الفارغة أو الخالية بحسب؛ تلك هي الخاصية الأساسية أو الجوهرية أو النواة، التي تنتج عنها معظم الخصائص الأخرى.

  • (٢)

    التجربة ليست مكانية أو زمانية، وهي خاصية تنبع، بالطبع، من الخاصية النواة التي ذكرناها الآن توًّا.

  • (٣)
    الشعور بالموضوعية أو الحقيقة الواقعة Reality.
  • (٤)

    الشعور بالغبطة أو النشوة، والسلام، والسعادة … إلخ.

  • (٥)

    الشعور بأنَّ ما تمَّ إدراكه هو المقدس أو الإلهي.

  • (٦)

    انطواء التجربة على مفارقة.

  • (٧)

    زعم المتصوف أن تجربته لا توصف، أو هي تفوق الوصف، ولا يُمكن التعبير عنها.

التصوف الانبساطي أو الانطوائي، فيُمكن أن نقارن بين القائمتين السابقتين لنجد أن الاختلاف بينهما ضئيل للغاية؛ فالخصائص رقم ٣، ٤، ٥، ٦ واحدة في القائمتين، ومعنى ذلك أن هناك خصائص مشتركة كلية وعامة للتصوف (من النوعين) في جميع الثقافات، والعصور، والديانات، وحضارات العالم. وإن كان المؤلف يذهب إلى أن التجربة الانبساطية أدنى بالفعل من التجربة الانطوائية، أو أنها نوع ناقص أو كامل من تجربة تجد اكتمالها أو تحقُّقها التام في النوع الانطوائي، فإذا كانت فكرة «الوحدة» أو «الواحد» أساسية في التجربة الصوفية بصفة عامة فإنَّها تتحقَّق جزئيًّا فقط في النوع الانبساطي في حين أنها تتحقَّق تحقُّقًا كاملًا في النوع الانطوائي، الأول ينزع إلى توحيد الكثرة، أمَّا الثاني فتُطمس فيه الكثرة تمامًا، ومن هنا كانت هذه التجربة بلا زمان ولا مكان، ما دام الزمان والمكان هما مبدآ الكثرة، وهنا نجد الماهية الداخلية لكل تجربة صوفية، أو النواة المركزية التي تدور حولها جميع الخصائص الأخرى.

في الفصل الثالث يطرح المؤلف السؤال الذي كثيرًا ما يُردِّده الناس، وهو: هل التجربة الصوفية موضوعية؟ أهي تكشف عن «واقع» لا يصل إليه الناس بأيَّة طريقة أخرى؟ قد يُقال في الإجابة عن هذا السؤال إن هناك إجماعًا بين المتصوِّفة على أن تجاربهم تُشير إلى «مرجع موضوعي»، وليس هناك أدنى احتمال لاتهامهم بالكذب أو التزييف، ومن ثَم فلا بد أن يكون «لبرهان الإجماع» هذا قوته وأهميته الخاصة، طالما أنه دليل غامر يقوم على شهادة عدة آلاف من الأشخاص في مختلف البلدان، والثقافات، والعصور، في جميع أنحاء العالم. فضلًا عن أن الشهادة التي تُقدَّم من إحدى مناطق العالم، أو في فترة من فترات التاريخ مستقلة عن أولئك الذين قدَّموا نفس الشهادة في مناطق أو فترات أخرى، ومجهولة لديهم.

غير أن المؤلف يُفنِّد هذا الدليل ويرفضه، فهناك إجماع من الناس مثلًا، عندما يرون نوعًا من السراب على أن ما يرونه هو الماء، ومن المؤكَّد أنه ليس كذلك، رغم أنهم لم يتعمَّدوا تزييف وصف تجاربهم البصرية، وكل إنسان يضغط على نصف العين يرى الأشياء مزدوجة، وإجماع الناس على ذلك ليس دليلًا على الازدواج الفعلي للأشياء، وكل مَن تناول جُرعة من «السانتونين Santonin» (نبات الشيح الخراساني) يرى الأشياء مصبوغة باللون الأصفر، ومع ذلك فليس هذا دليلًا على أن الأشياء في حقيقتها صفراء … إلخ. وينتهي «ستيس» من هذه المناقشة إلى أن المعيار المطلق للموضوعية ليس هو الإجماع أو الاتفاق في التجارب أو التحقق من صحتها، رغم أن هذه الأمور قد تكون مفيدة في الالتجاء إليها كمقاييس جزئية تمهيدية. أمَّا المعيار المطلق للموضوعية فهو النظام أو الترتيب، أعني الخضوع لقوانين الطبيعة، ومن هنا كان الحلم ذاتيًّا لأنه لا يخضع لنظام، فنحن قد نحلم بأحداث هي نفسها تتناقض مع قوانين الطبيعة؛ كتحوُّل القط إلى كلب، أو أنَّني أسير في أحد شوارع الكويت، ثم أستيقظ لأجد نفسي في فراشي في القاهرة!

النظام هو، إذن معيار الموضوعية، فهل التجارب الصوفية منظَّمة بهذا المعنى؟ هل التجربة الصوفية، انبساطية أو انطوائية، تتألَّف من اقترانات متواصلة منظمة؟ من الواضح أن الجواب بالنفي، ومعنى ذلك أنَّ التجربة الصوفية، بنوعيها، ليست موضوعية، فهل هي ذاتية؟ تكون التجربة ذاتية إذا انطوت على خرق إيجابي لقوانين الطبيعة وكانت مشتَّتة أو غير منظَّمة، لكن التجربة الصوفية ليست كذلك، ومن ثَم فهي لا يُمكن أن تكون ذاتية، بالضبط لنفس السبب الذي يجعلها لا يُمكن أن تكون موضوعية. وهكذا ينتهي المؤلف إلى أن التجربة الصوفية لا هي ذاتية ولا هي موضوعية، بل هي تجربة «تجاوز الذاتية» وتعلو عليها.

ويتساءل المؤلف: هل شعور الصوفي بالموضوعية أو بالاتصال بحقيقة «واقعية» ينطوي على أي قدر من الإقناع لغير الصوفي؟ ويُجيب أنَّ الفلاسفة يرفضون ذلك، فما يشعر به الصوفي عن يقين، مهما كان مقنعًا بالنسبة للمتصوِّف ليس له أدنى وزن عند غير المتصوِّف. وكثيرًا ما بُذِلت محاولات لتفسير هذه الظاهرة على أساس افتراض أنها تقوم على اللاشعور، لكن الصوفي يصر على أن مصدرها النهائي يُجاوز اللاشعور كما أنه خارج عن ذاته.

وينتهي «ستيس» إلى القول بأنَّ العلو الذاتي هو جزء من التجربة الصوفية نفسها، وهو السبب في أن الصوفي يكون على يقين مطلق من حقيقتها، بعيدًا عن أي احتمال في مجادلته في ذلك؛ لأن تأويل التجربة يُمكن الشك فيه. أمَّا التجربة نفسها فلا يُمكن الشك فيها.

ويُناقش المؤلف في الفصل الرابع ثلاث نظريات دينية تُفسِّر العلاقة بين الله والعالم؛ وهي وحدة الوجود، والثنائية، والواحدية، وينتهي إلى رفض النظريتين الثانية والثالثة، وتقديم تبرير لوحدة الوجود، مع فهمها فهمًا خاصًّا على أنها مركب النظريتين الأخريين. أمَّا الثنائية فيميل إليها اللاهوتيون في أديان التأليه الثلاثة الرئيسية، وربما نجد في اليهودية أقوى تعبير عنها، فقد حفرت هوَّة عميقة بين الله والعالم، وبين الخالق والمخلوق … إلخ، غير أن الثنائية، فيما يقول «ستيس»، تتناقض تناقضًا صارخًا مع الخصائص المشتركة بين التجارب الصوفية كلها، أعني القول بوجود وحدة مطلقة «تجاوز كل كثرة»، فالوعي الصوفي في تطوره الكامل هو «وعي موحد»، أو هو تجربة بالواحد أو الوحدة، إنَّه يتضمَّن ثلاثة أشياء، هي:
  • (١)

    أنه ليس ثمة تمييزات في الواحد.

  • (٢)

    أنه لا يوجد تمايُز بين موضوع وموضوع.

  • (٣)

    أنه لا يوجد تمايُز بين ذات وذات.

وذلك هو التطور الكامل للموقف الصوفي. وإذا أنكرنا قضية من هذه القضايا الثلاث فإن ما سيكون عندنا هو التصوف الضعيف أو المعوق أو المتخلف، ومن هنا كانت الثنائية بما هي كذلك: التصوف المتخلف.

قد يعتقد المرء أن البديل للنظرية الثنائية التي تُنادي بالاختلاف الخالص بين الله والعالم هو النظرية الواحدية التي تنادي بالهوية الخالصة بينهما، وقد تتخذ النظرية صورتَين؛ «الإلحاد» أو «اللاكونية»؛ الأولى تقول إن ما هو موجود هو مجموعة الأشياء في العالم فحسب، وإنَّ الله ليس سوى اسم آخر لهذه الأشياء، وهي نظرية مرفوضة لأنها لا تُبرِّر لنا لِمَ تستخدم اسم الله في هذه الحالة؟!

أمَّا الثانية فهي تقول إن الأشياء المتناهية، إذا انفصلت عن الله فلا وجود لها، إنَّها وهم، لكن مبدأ ديكارت الشهير «أنا أُفكِّر، إذن أنا موجود» يجعلنا نرفض ذلك في اطمئنان؛ فلو أن شخصًا قال إنَّ إيماني بوجود العالم المتناهي يرجع إلى «الوهم»، فلا بد أن نسأل السؤال الديكارتي: كيف يُمكن أن تكون لي أفكار وهمية أو خيالية إذا لم أكن موجودًا؟ لا بد إذن في هذه الحالة من القول بموجود واحد متناهٍ، على الأقل، هو نفسي. وبعبارة أخرى: العالم وهْم، لكن وهْم مَن؟ وهمي أنا؟ عندئذٍ لا بد أن أكون موجودًا حتى يكون عندي هذا الوهم.

وهكذا ينتهي المؤلف إلى رفض النظرية «الواحدية» أيضًا؛ لأنها لا تنتهي، فيما يقول، إلَّا إلى لغو فارغ، ولمَّا كنَّا قد رفضنا الثنائية، فلم يعُد أمامنا الآن سوى أن نتجه نحو المركب منهما، ألا وهو وحدة الوجود، على ما فيها من مفارقات.

وحدة الوجود، تعتمد على مبدأ «الهوية في الاختلاف»؛ فهي ترى هوية الله والعالم، وهذا هو الجانب الواحدي من هذا المبدأ، وهو ينتج من تعريف الله بأنه الوجود اللامتناهي؛ ذلك أن اللامتناهي الحقيقي هو ما لا يوجد شيء خارجه، ولا يوجد شيء غيره. ومعنى ذلك أنه ليس ثمة سوى الله. وهكذا لا يكون العالم شيئًا غير الله، ولا يُمكن أن يقع خارجه شيء آخر. وهذا هو مصدر وحدة الوجود في الكتابات المقدسة الهندوسية وعند اسبينوزا.

غير أن ذلك لا يُعطينا سوى النصف الواحدي من مفارقة وحدة الوجود، وأعني به هوية الله والعالم. ولا يزال هناك النصف الآخر، وهو الاختلاف بين الله والعالم، فحتى المتصوِّفة الذين يتحدَّثون عن فناء الذات الفردية في الله (وهي جزء من هوية الله والعالم) يقولون إن الله ترك لهذه الذات «مسافة ضئيلة» تعود منها إلى ذاتها وتعرف أنها مخلوقة، فيما يقول المتصوِّف الألماني «مايستر إيكهارت»، وكذلك المتصوِّف الألماني «هنري سوزو» الذي يقول «إن الروح في اندماجها، على هذا النحو، بالله تتلاشى، لكنَّها لا تتلاشى كلِّية.» ولقد عبَّر كثير من المتصوِّفة المعاصرين عن الفكرة نفسها، فمهما قيل عن هوية الله والعالم (بما في ذلك فناء الذات الفردية في الله) فإن ذلك ينبغي استكماله بتأكيد الاختلاف بينهما، ومن هنا فإن مفارقة وحدة الوجود تعني «الهوية في الاختلاف» والتركيز على الهوية فحسب يُعطينا مذهب الواحدية، أمَّا تأكيد الاختلاف فقط فهو يُعطينا مذهب الثنائية، لكن الجمع بينهما يُعطينا مذهب وحدة الوجود.

ويُناقش المؤلف في الفصل الخامس العلاقة بين «التصوف … والمنطق». والمنطق الذي يقصده هو المنطق الصوري بقوانينه الثلاثة (الهوية – عدم التناقض – الثالث المرفوع)، وهو يصطدم بما ينطوي عليه التصوف من مفارقات؛ مفارقة وحدة الوجود «الهوية في الاختلاف»، مفارقة «الخواء-الملاء»، مفارقة «فناء الذات ودوام وجودها» … إلخ، وهي كلها تُعبِّر عن تناقضات منطقية واضحة. وقد وُضِعت عدة نظريات لحل هذه المتناقضات؛ منها نظرية «المفارقة البلاغية»، التي ترى أن المفارقة هي عبارة عن حيلة بلاغية يستخدمها المتصوِّف للتأثير على السامع لما فيها من جمال شعري، وإيقاع مطَّرِد، ولغة بلاغية. ويرفض المؤلف هذا التفسير؛ لأن الحديث عن الوجود الإلهي بأنه «قريب وبعيد معًا»، وأنه خواء وملاء، ودينامي وساكن … إلخ، هي تناقضات حقيقية وليست مجرد حيلة بلاغية.

أمَّا النظرية الثانية فهي «الوصف الخطأ»، التي تقول إن الصوفي يُسيء استخدام اللغة، فيقع في الخطأ، فهو يقول إنَّه مرَّ بتجربة «الخواء-الملاء» أو تجربة النور، الذي هو أيضًا ظلام … إلخ، لكنَّه وصف سيئ للتجربة، أو هو يقع في خطأ الوصف. غير أن المؤلف يرفض أيضًا هذه النظرية، ويقول إن «الوصف الخطأ» احتمال ضعيف جدًّا؛ نظرًا لأن وصف التجربة لا يقوم به شخص واحد، في ثقافة واحدة، بل عدة آلاف من الأشخاص، في ثقافات متنوعة، وفي عصور مختلفة، ويستقل بعضهم عن بعض.

هناك أيضًا نظرية «الوضع المزدوج»، وهي تقول إنَّه ربما كانت الكلمتان المتناقضتان «السكون والحركة»، «الخواء-الملاء»، «النور-الظلمة» بدلًا من أن يوضعا في شيء واحد، فإنَّهما يوجدان معًا في موضع مزدوج؛ أحدهما في شيء، والآخر في شيء آخر، وبذلك يزول التناقض، لكن الواقع أنه يستحيل تطبيق هذه النظرية على بعض المفارقات الصوفية؛ مثل مفارقة فناء الذات الفردية مع دوام وجودها؛ فالأنا الواحدة هي التي تتوقَّف عن الوجود وتواصل الوجود في وقت واحد، ولا معنى لقولنا إن هناك فردين؛ واحد يتوقَّف عن الوجود، والآخر يواصل الوجود، ومن ثَم فهي نظرية مرفوضة. وقُل مِثل ذلك في نظرية «التباس الدلالة»، التي تذهب إلى أن الكلمة التي يستخدمها الصوفي قد تكون ذات معنيَين مختلفين.

ويُقدِّم «ستيس» في نهاية الفصل حلَّه الخاص، ويتلخَّص في أن قوانين المنطق هي قوانين وعينا المألوف وتجاربنا اليومية، ولهذا فهي لا تنطبق على الوعي الصوفي ولا على التجربة الصوفية. السبب هو أنَّ التصوف يعتمد على فكرة الواحد أو الوحدة التي لا تمايُز فيها ولا اختلاف، ولا كثرة. وليس ثمة منطق يُمكن أن ينطبق على تجربة لا توجد فيها كثرة؛ فالكثير هو ميدان المنطق، أمَّا الواحد — الذي هو مجال المفارقة — فهو ليس كذلك، ولهذا السبب لا يوجد صدام بين التصوف والمنطق. وهكذا نجد أن المنطق و«اللامنطق» يشغلان مجالَين مختلفَين من التجربة.

وفي الفصل السادس يُناقش المؤلف موضوع «التصوف … واللغة». والمشكلة هنا هي أن المتصوِّف يشعر دائمًا أن اللغة قاصرة وغير كافية وأنها من ثَم لا غناء فيها كوسيلة لنقل تجاربه واستبصاراته إلى الآخرين، ولهذا نراه عندما يستخدمها يعلن أنها لا تقول ما يرغب قوله، وأنَّ جميع الكلمات عاجزة عن أن تفعل ذلك، ومن ثَم فإن تجربته مِمَّا لا يُمكن وصفه أو التعبير عنه، ويعتقد «ستيس» أن المشكلة تكمن في أن لدى الصوفي نوعًا خاصًّا من الوعي يختلف في الدرجة عن نوع الوعي المألوف لنا في حياتنا اليومية، ولا يوجد بينهما خاصية مشتركة سوى أنهما معًا وعي، وهي لا تعود إلى أي سبب من الأسباب التي تجعل من الصعب علينا أن نصوغ مشاعرنا وتجارِبنا اليومية في كلمات، كما أنها لا يُمكن تفسيرها بمصطلحات علم النفس المألوفة.

وفي نهاية الفصل يُقدِّم «ستيس» حَلَّه الخاص لمشكلة «ما لا يُمكن وصفه» عند الصوفية، وهو يعتمد أيضًا على التفرقة السابقة بين الوعي الصوفي والوعي المألوف، الذي يستخدم الكلمات، وهي أصلًا «تصورات عقلية» لا يُمكن أن تنطبق على التجربة الصوفية. ويرى المؤلف، معتمدًا على فكرة أفلوطين، أن الصوفي يجد صعوبة في استخدام اللغة أثناء التجربة الصوفية، لكنَّه يستطيع استخدامها بعد التجربة، أي عندما يتذكرها. يقول أفلوطين «في هذا الإدراك [الصوفي] ليس لدينا القدرة، ولا الوقت، لأن نقول أي شيء عنه، لكنَّا نستطيع بعد ذلك أن نتعقَّله …» لكن قد تظهر مشكلة جديدة، وهي أن الصوفي يصعب عليه أن يتذكَّر تجربته، لكن الواقع غير ذلك، فعلى الرغم من أنه يقول إنَّه لا يستطيع أن يتحدَّث عنها، فإن الكلمات تتساقط من بين شفتيه، وطالما أنه ينجح في نقل جزء ولو ضئيل من تجربته، فإنَّه في هذه الحالة يُقدِّم وصفًا صحيحًا لهذا الجزء، وعندئذٍ لا بد أن يكون قد أخطأ عندما ظنَّ أنه لا توجد لغة يُمكن أن تنطبق على التجربة الصوفية.

أمَّا الفصل السابع فيناقش فيه المؤلف «التصوف … والخلود» ويثير مجموعة من التساؤلات: لو سلَّمنا بأنَّ الوعي — أو النفس أو الروح — يبقى بعد الموت، فلا بد أن نسأل: وعي مَن الذي يبقى؟ وعي الرجل الناضج في سن الأربعين، أم الوعي الفج للمراهق، أم روح الطفل الرضيع وقد عادت إلى الظهور من جديد بعد الموت لتسير في اتجاه الأزل؟ كما يُشير أيضًا إلى المتاعب التي تُثيرها نظرية التطور، فإذا كان الإنسان قد تطوَّر من الحيوان، وإذا كان الوعي الإنساني سوف يبقى بعد الموت، ألا يستتبع ذلك بقاء الوعي الحيواني أيضًا؟

وينتهي المؤلف إلى أنه إذا كان التصوف يُلقي ضوءًا على موضوع «الخلود»، فربما جاء ذلك نتيجةً «للإحساس بالخلود»، الذي هو إحدى السمات الشائعة بين جميع التجارب الصوفية، وتأويل هذا الإحساس بأنه يعني الخلود بعد الموت أكثر منه الخلود الآن، وأنَّ التصوف رغم ذلك لا يُقدِّم دليلًا على بقاء الروح بعد الموت.

أمَّا الفصل الثامن والأخير فيُخصِّصه المؤلف لمناقشة العلاقة بين «التصوف، والأخلاق، والدين». ولعل أمتع ما فيه، مناقشته للاتهام الذي يوجهه النقَّاد عادةً إلى المتصوِّفة، والذي يذهبون فيه إلى أنَّ التصوف ليس إلَّا حيلةً أنانيةً للهروب من مسئوليات الحياة، وواجباتهم الأخلاقية تجاه إخوانهم من البشر؛ فهو استمتاع بالغبطة والتأمل، ومحاولة للخلاص الفردي، ويضربون المثل على ذلك بالتصوف الهندي، الذي وقف موقفًا سلبيًّا تجاه عذاب الناس وآلامهم ومشاكلهم. غير أن المؤلف يرفض هذا الاتهام، ويرى أنه «تعصب» من النقَّاد الغربيين ضد صوفية الشرق؛ ذلك لأنَّ «بوذا»، مثلًا، عندما وصل إلى الاستنارة، وهو في عزلته تحت شجرة «البو» لم يبقَ في هذه العزلة، بل هبط منها إلى الناس ليرشدهم إلى طريق الخلاص، وكذلك فعل نُسَّاك الهند الذين كانوا يؤمنون بضرورة انتقال الشعلة من رجل إلى رجل، من خلال العلم الروحي، وهم بذلك يوضحون طريق الخلاص الذي وجدوه أمام الآخرين، فهم يُعلِّمون ما يعتقدون أنه الحياة الطيبة أو الخيِّرة، ولا يُمكن أن نُسمِّ هذا النشاط «أنانية»، كما يضرب المؤلف أيضًا المثل «بغاندي» الذي هو النموذج الأول للعقلية الهندية، وما كان له من نشاط روحي وسياسي واجتماعي، في طول البلاد وعرضها. ويدعو المؤلف في النهاية إلى البحث عن مركب يجمع قيم الشرق والغرب معًا ليُنير الطريق أمام الإنسانية.

•••

أردنا في هذه المقدمة أن نُقدِّم للقارئ خيوطًا مُرشِدة، تُساعده وتوضح له طريق السير في هذا الكتاب الممتع، لكن ذلك لا يغني بالطبع عن قراءة الكتاب على مهل، وبشيء من الرويَّة والتدبر، حتى يستمتع هو نفسه بكل فصوله، وليرى كيف يُفكِّر الفلاسفة في المسائل الروحية بعمق نافذ.

واللهَ نسأل أن يهدينا جميعًا سبيل الرشاد.

إمام عبد الفتَّاح إمام
الهرم، سبتمبر ١٩٩٧م
١  ليس هذا دفاعًا عن الغرب؛ فهو أقدر على الدفاع عن نفسه، وإنَّما هو رصد لظاهرة من الظواهر التي تدل على تخلُّفنا الواضح، كما تُعبِّر عنه انفصام الشخصية. راجع كتابنا «الطاغية»، مكتبة مدبولي بالقاهرة.
٢  في عام ١٩٥٢م أصدر «ستيس» كتابَين هامَّين في عام واحد، هما «الدين … والعقل الحديث»، (وقد ترجمناه إلى العربية وأصدرته مكتبة مدبولي عام ١٩٩٨م)، والثاني «الزمان والأزل: مقال في فلسفة الدين» (وقد ترجمه إلى العربية الدكتور زكريا إبراهيم، وأصدرته المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر، بيروت، عام ١٩٦٧م). راجع ذلك بالتفصيل في المقدمة التي صدَّرنا بها ترجمتنا لكتابه الأول.
٣  ليس ثمة ما يدعو إلى الكتابة بالتفصيل عن مؤلف الكتاب — وهو الفيلسوف الإنجليزي الأصل، الأمريكي الجنسية، «ولتر ترنس ستيس W. T. Stace» (١٨٨٦–١٩٦٧م) — فقد سبق أن فعلنا ذلك في مقدمة طويلة صدَّرنا بها ترجمتنا لكتابه: «الدين … والعقل الحديث» فليرجع إليها القارئ.
٤  المعنى اللغوي لكلمة المفارقة Paradox ما هو «ضد الاعتقاد»، ثُم اتَّسع معناها وأصبحت تشمل التناقضات المنطقية الصورية، ويرى البعض أنَّ المفارقة من زاوية دينية معينة هي التناقض المتحقِّق في عالم الواقع، كأن نقول مثلًا إنَّ السيدة مريم «عذراء» و«أم» في وقت واحد. ويُمكن أن توجد المفارقات في عالم الحياة اليومية، على نحو ما كان يُقال مثلًا: «محطة المطار السري!» فالمطار سري ومعروف في آنٍ معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤