الفصل الثاني

مشكلة المحور الكلي العام

أولًا: طبيعة المشكلة

أشرتُ في الفصل السابق إلى حجة «ر. م. بك» بشأن موضوعية التجارب الصوفية التي أقامها كُتَّاب مختلفون على أساس واقعة مزعومة هي أن مثل هذه التجارب في جميع العصور، والبلدان، والثقافات كانت، أساسًا واحدة. أو أنه على الرغم من وجود بعض الاختلافات، فإنَّ لها محورًا كليًّا عامًّا هو عبارة عن خصائص مشتركة. ولقد رأينا أن صورة هذه الحجة عند «بك» فيها مغالاة ومبالغة مهما كانت درجة المشروعية والصدق التي نفترضها في هذه الحجة. بروفيسور «ش. د. برود»١ الذي يقرر أنه ليس لديه أيَّ إيمان ديني، ولم يكن لديه أبدًا أي شيء مما نُسمِّيه بالتجربة الصوفية أو الدينية، والذي لا يُمكن أن يتهم بأي قدر من التعاطف مع التصوف، يُقدِّم لنا نسخة أخرى من هذه الحجة. وهي نُسخة حذرة وحريصة ومعتدلة، وأنا عليم بها، مما يجعلها أساسًا مُناسبًا لمناقشة هذه الحجة مناقشة فلسفية. وسوف أستخدمها على هذا الأساس. وتسير عبارته على النحو التالي:
أصِل أخيرًا إلى الدليل على وجود الله الذي يقوم على أساس حدوث تجارب صوفية ودينية معينة. وأنا على استعداد للتسليم بأنَّ هذه التجارب تقع بين أناس من أجناس مختلفة، وتراث اجتماعي مختلف، وأنها حدثت في جميع الحقب التاريخية. وأنا على استعداد للتسليم بأنه، على الرغم من أن هذه التجارب اختلفت اختلافًا ملحوظًا في عصور وأماكن مختلفة، وعلى الرغم من أن تأويلاتها قد اختلفت أكثر من ذلك، فمن المُرجَّح أن تكون هناك خصائص معينة مشتركة بينها جميعًا تكفي للتفرقة بينها وبين جميع أنواع التجارب الأخرى. ومن هذه الزاوية، فأنا أعتقد أنه من المُحتمل أكثر مما هو موجود في التجربة الصوفية أو الدينية أن الناس يصلون إلى حقيقة ما أو جانب من جوانبها لا يصلون إليه بأيَّة طريقة أخرى.
لكني لا أعتقد أن هناك مبررًا لافتراضي أن هذه الحقيقة … شخصية.٢
وطالما أن برود يُناقش الأدلة على وجود إله شخصي، فقد أقحم العبارة الأخيرة في الفقرة المقتبسة لكي يُشير إلى أنه يرفض وجهة النظر التي تقول إن هناك أي مبرر للاعتقاد بأنَّ الحقيقة التي تنكشف في التجربة هي إله شخصي، ونحن لسنا معنيِّين هنا بهذه المشكلة. فسوف يكون لدينا الوقت الكافي لمناقشة طبيعة هذه الحقيقة التي يفترض اكتشافها عندما نُحلِّل ونُقيِّم ذلك الجانب من البرهان الذي يكشف لنا عن وجود مثل هذه الحقيقة. إن مشكلتنا الأولى هي: هل التجربة الصوفية موضوعية؟ ولو قرَّرنا أنها كذلك فسوف يظهر سؤال ما هو نوع الكائن الذي تكشف عنه؟ ولقد اقتبستُ عبارة برود الأخيرة فقط بسبب قلقي ألَّا أُسيء عرض فكرته بحذف التحفظات التي يعتقد أنه ينبغي أن يسوقها بصدد النتائج التي يمكن استخراجها من البرهان.
وهو يكرر في صفحة بعد ذلك نفس المعنى الذي ساقه في الفقرة السابقة بكلمات تختلف اختلافًا طفيفًا، فيقول من المرجح أنَّ الحقيقة المشار إليها «هي جانب موضوعي مُعيَّن من الواقع الحقيقي.»٣
ومن الواضح أن وليم جيمس يُشير أساسًا إلى نفس البرهان عندما كتب يقول: «إن التغلب على جميع الحواجز بين الفرد والمطلق هو الإنجاز الصوفي العظيم. ونحن نصبح في المقامات الصوفية واحدًا مع المطلق، ونكون على وعي بهذه الواحدية. هذا هو التراث الدائم والظافر الذي يصعب أن تُغيِّره اختلافات الظروف والعقائد … فنحن نجد في الهندوسية، وفي الأفلاطونية الجديدة وفي التصوف الإسلامي، وفي التصوف المسيحي، وفي مذهب ويتمان٤ نفس الملاحظة التي تتكرر باستمرار، حتى إنه ليوجد بالنسبة للأقوال الصوفية إجماع أزلي يُجبرنا على الوقفة النقدية والتفكير.»٥
ومن المهم أن نُلاحظ أنه يذكر قائمةً فيها العديد من الديانات والثقافات المختلفة، يجمع بينها الاتفاق، لكنَّه يحذف البوذية. وليس في ذلك إهمال، بل هو بغير شك حذف متعمَّد. ولا بد أن يكون سببه هو أن مدرسة الهنايانا Hinayana٦ في البوذية التي يُرجَّح أنها المدرسة الوحيدة التي كان جيمس يعرفها جيدًا. كان ينظر إليها بصفة عامة على أنها مدرسة إلحادية، وبلا أي تصوُّر للمطلق. غير أن البوذية تأسَّست على تجربة الاستنارة عند بوذا، والمفروض أن يسعى كل بوذي للوصول إلى هذه التجربة كهدف لإلهامه. وما دامت هذه التجربة، يقينًا، صوفية بمعنًى ما من المعاني، لكان معنى ذلك أن البوذية تُمثِّل، لأول وهلة، مشكلة أمام النظرية التي تقول إنَّنا في التجارب الصوفية في جميع الثقافات «نصبح متحدين مع المطلق». وهذا الاستثناء الواضح هام لدرجة أنَّني سوف أخصص له قسمًا خاصًّا من هذا الفصل، لكن حتى إذا ما وافقنا على هذا الاستثناء. فقد تكون المسألة أن الاتفاق بين المتصوِّفة قد يكون مُثيرًا للإعجاب لو أنه امتدَّ إلى جميع الحالات التي ذكرها جيمس، وأنه يُمكن أن يصدق على برهان الموضوعية الذي يقوم عليه، ويكون صحيحًا في جانب منه، فلا يتقوَّض تمامًا. وسوف أواصل في الوقت الحاضر فحص البرهان دون أن أتحدث عن المشكلة التي تثيرها البوذية.
المُشكلات التي يُثيرها البرهان مشكلتان. وسوف أتخذ من فكرة برود نموذجًا له.
  • (١)

    هل هناك مجموعة من الخصائص مشتركة بين جميع التجارب الصوفية، ويمكن أن نُميِّزها من أنواع الخبرات الأخرى، ومن ثم تُشكِّل محورها الكلي العام؟

    (٢) إذا كان هناك مثل هذا المحور الكلي العام، أيكون برهان الموضوعية الذي قام على أساسه برهانًا صحيحًا؟

سوف أُخصِّص هذا الفصل للمشكلة الأولى، والفصل القادم للمشكلة الثانية، على أن أناقش كذلك — في الفصل القادم — أي برهان آخر عن الموضوعية يُمكن أن يفرض نفسه، محاولًا أن أصل إلى نتيجة في هذه المسألة.

على الرغم مما ذهب إليه كثير من الكُّتاب من أن هناك محورًا كليًّا عامًّا، فإنَّهم — كقاعدة — لم يقوموا بأيَّة محاولة جادة لتبرير هذا القول ببحث دقيق للدليل التجريبي، ولا حتى بتقديم قائمة كاملة وواضحة لهذه الخصائص المشتركة. ولا حتى القوائم التي ذكرها الكُتَّاب المختلفون تتفق بعضها مع بعض. لقد ذكر وليم جيمس قوائم بأربع خصائص مشتركة، هي:
  • (١)

    الخاصية الفكرية، ويُقصد بها الشعور المباشر بالكشف عن حقيقة موضوعية تُصاحب التجربة وهي جزء منها.

  • (٢)

    ما لا يُمكن وصفه.

  • (٣)

    سرعة الزوال.

  • (٤)
    الاستسلام.٧
أمَّا القائمة التي يذكرها ر. م. بك فهي:
  • (١)
    النور الذاتي أو Photism.
  • (٢)

    السمو الأخلاقي.

  • (٣)

    الإشراقة العقلية.

  • (٤)

    الإحساس بالخلود.

  • (٥)

    انعدام الخوف من الموت.

  • (٦)

    انعدام الإحساس بالخطيئة.

  • (٧)
    الفجائية.٨
أمَّا قائمة د. ت. سوزوكي عن الخصائص العامة للساتوري٩ — وهي الكلمة اليابانية، التي يُطلق عليها البوذيون غير اليابانيين عادة اسم الاستنارة — فهي:
  • (١)

    اللامعقولية، وعدم قابلية التفسير، وعدم إمكان نقلها إلى الآخرين.

  • (٢)

    البصيرة الحدسية.

  • (٣)

    الوثوق الجازم.

  • (٤)

    الإثبات (أو الطابع الإيجابي).

  • (٥)

    الإحساس بالماوراء.

  • (٦)

    النغمة اللاشخصية.

  • (٧)

    الإحساس بالسمو والرفعة.

  • (٨)
    الانقضاء الخاطف السريع (وهو يُقابل تقريبًا الفجائية عند بك).١٠

وليس من المُفيد أن نسوق تحليلًا تفصيليًّا أو مقارنة بين هذه القوائم. فهناك تطابقات غامضة، وحالات متعدِّدة ينعدم فيها التطابق، وليست هناك خاصية واحدة يتضح بما لا مجال فيه للشك أنها مشتركة بين هذه القوائم الثلاث. وهكذا يصعب أن نتوقَّع إلقاء الضوء أكثر من الكُتَّاب السابقين؛ إذ من الواضح أن عباراتهم كانت عشوائية إنْ قليلًا أو كثيرًا. ولهذا فإن علينا أن نُعالج المشكلة من البداية. وليس ثمة سوى طريقة واحدة لكي نفعل ذلك؛ وهي أن نقتبس عددًا من الأوصاف من تجاربهم تكون ممثلة لما مرَّ به الصوفية من تجارب على أن نأخذها من جميع عصور التاريخ، ومختلف البلدان والثقافات، بحيث تكون منفصلة انفصالًا كبيرًا بقدر الإمكان. وبعد فحص هذه الأوصاف لا بد لنا أن نُحاول أن نصل، استقرائيًّا، إلى خصائصها المشتركة لو كانت هناك مثل هذه الخصائص.

دعنا نبدأ بهذا السؤال: ما هو الشيء المعقول الذي نتوقَّع أن نجده في طريق الخصائص المشتركة؟ فالقول بأنَّ لجميع المثلثات المستوية خاصية مشتركة، حسب تعريفها، هي أنها تقوم على ثلاثة أضلاع مستقيمة، هو حقيقة تحليلية. ومن المُسلَّم به أن بحثنا فيما إذا كان للمقامات الصوفية خصائص مشتركة هو بحث تجريبي، ولا نتوقَّع أن نتخذ فيه أي موقف قبلي Apriori كلي على نحو مطلق على نحو ما نفعل في النماذج الرياضية.

فهل من المعقول بالنسبة لنا، إذن، أن نتوقَّع أي مجموعة من الخصائص المشتركة في مثل هذا الموقف الاستقرائي؟ لدينا مجموعة من الحالات السيكولوجية ربما كانت في اللغة الشائعة غامضة إلى حدٍّ ما، تتميَّز عن المجموعات الأخرى من الحالات السيكولوجية، وهي كلها يُمكن أن توصف بصفة مشتركة بكلمة واحدة، وهي أنها حالات أو مقامات «صوفية» لا بد أن يكون بينها خصائص مشتركة تُبرِّر إطلاق كلمة واحدة عليها. لقد أصرَّ أتباع فتجنشتين، حديثًا، على أنَّ الموضوعات أو الظواهر المتنوعة التي يُطلق عليها كلها اسمًا واحدًا يُمكن أن تكون قد جُمعت معًا، لا بسبب هوية الخصائص المشتركة بينها، بل بسبب أن كلًّا منهما له علاقة بالآخر، هي علاقة «تشابه الأسرة» فقد يكون «ب» متشابهًا مع «ك»؛ لأنهما معًا يحملان خاصية مشتركة هي «أ». وقد يتشابه «ك» مع «ر» لأنه على الرغم من أنَّ «ر» لا يحمل خاصية «أ» لكنَّه مع «ك» يحملان خاصية مشتركة، هي «ص». وقد يتشابه «ر» مع «س» لأنهما يشتركان في خاصية «ع» رغم أن «س» لا يملك لا الخاصية «أ» ولا الخاصية «ص»، وهكذا تجري سلسلة من التشابهات بين «ب» و«ك» و«ر» و«س»، على الرغم من عدم وجود خاصية مشتركة يشترك فيها الجميع. وهذا التشابه العائلي يُمكن أن نتعقَّبه من خلال «ب»، و«ك»، و«ر»، و«س». وربما كان ذلك هو الذي يجعلنا نُطلق عليهم جميعًا اسمًا واحدًا. لقد اعتقد فتجنشتين أن ذلك هو الموقف بالنسبة لكلمة «المباراة»، ولاحظ أيضًا أنها يحتمل أن تكون ما سوف نجده في المفاهيم المختلفة في ميدان الأخلاق والجمال.

أيُمكن أن نجد أن المقامات الصوفية يُطلق عليها هذا الاسم لأنها جميعًا تشترك في مجموعة من الخصائص المشتركة، أم لأنَّ بينها فحسب مجرد تشابه عائلي؟ ليست ثمة طريقة قبلية Apriori لحسم هذه المشكلة. علينا أن نُقرِّر ذلك بعد البحث في الوقائع، لكنَّا سوف نستبِق، إلى حدٍّ ما، ما سوف نجده في المستقبل، بهدف إعطاء القارئ ملخصًا تمهيديًّا عن النتائج التي سوف نصل إليها. ونحن لن نجد المحور المشترك الخالص الذي تشترك فيه جميع الحالات الصوفية، ولا موقف التشابه العائلي الخالص. لا الطرف الأقصى ولا الطرف الآخر، بل بالأحرى مزيج منهما يُمكن أن يوصف كالآتي: سوف تكون هناك نواة مركزية لحالات نمطية، وهي نمطية لأنها تشترك كلها في مجموعة هامة من الخصائص المشتركة، لكن ستكون هناك حالات على الحدود، وهي عادةً، أو كثيرًا، ما يُطلق عليها اسم «التجارب الصوفية» لأنه، على الرغم أنه لا واحدة منها تمتلك جميع الخصائص المشتركة للنواة، فإن بعضها يمتلك بعض هذه الخصائص، وبعضها الآخر يمتلك خصائص أخرى. ومن ثَم فهي ترتبط بعلاقة التشابه العائلي للنواة ولبعضها البعض في آنٍ واحد. وهذا ما نعنيه بعبارة «حالات على الحدود غير الصوفية». وهو ما يُمكن أن يوضِّحه الرسم التالي:

وربما كان في الرسم إفراط في التماثل؛ إذ قد لا تكون هناك مجموعتان متمايزتان من مجموعات التشابه العائلي، وسمة الرسم هذه تعني فقط التشديد على المركز، والجوهر، والنواة، فسوف نرى أنَّ المحور المركزي للتجربة الصوفية، في الموقف الذي وصفناه، هو أكثر أهمية بكثير لحجتنا من مجموعات التشابه العائلي. فالوضع هو أنَّنا بعد أن أدَّينا تحية التعارف للحالات التي على الحدود — وابتعدنا عن مدرسة الفلاسفة التي تقول بالتشابه العائلي — فسوف يكون لنا ما يُبرِّرنا من الآن فصاعدًا في التركيز التام على النواة المركزية بوصفها الجوهر الداخلي للتصوُّف. ومن ثَم فإنَّنا نستطيع أن نتجاهل حالات الحدود، وإن كان لا بد لنا منذ البداية أن نعترف بوجود هذه الحالات، لا أن نُلقي عليها التحية فقط، بل لأنه من الأهمية بمكان لحجتنا أن نفعل ذلك. وإلَّا، لو أنَّنا وجدنا أنَّ المحور الكلي في النواة المركزية يتألَّف من خصائص مشتركة؛ هي أ، ب، ﺟ، ولو أن الناقد أبرز حالة من حالات الحدود، وقال «تلك هي ما يُسميه الناس بالتجربة الصوفية، لكنَّها لا تشترك في جميع هذه الخصائص أ، ب، ﺟ»، فلن يكون لدينا رد عليه، لكنَّنا لو أخدنا حذرًا مسبقًا من الاعتراف بحالات الحدود فسوف نستطيع أن نرد عليه.

ثانيًا: الرؤى، والأصوات ليست ظواهر صوفية

دعنا نبدأ باستبعاد بعض التجارب المُعيَّنة من فئة الحالات الصوفية، التي ربما يميل الرأي العام للنظر إليها على أنها صوفية، لكنَّها ليست على الأصالة كذلك. ونحن عندما نفعل ذلك ونُقدِّم المُبرِّرات، سوف نكون قادرين على أن نتعلَّم، لا فقط ما هي الظواهر التي ليست ظواهر صوفية، لكنَّا نستطيع أن نتعلَّم ضمنًا بعض الحقائق الهامة عن تلك الظواهر التي هي ظواهر صوفية. والأحداث الرئيسية التي ينبغي استبعادها هي الرؤى والأصوات. وليس ذلك هو رأي معظم العلماء الأكفاء فحسب، لكنَّه كذلك رأي معظم المتصوِّفة أنفسهم بصفة عامة؛ فهم كثيرًا ما يتعرَّضون لرؤًى وأصوات، لكنَّهم كانوا، في العادة، يتغاضون عنها باعتبارها مشكوكًا في قيمتها أو أهميتها. وهي على أيَّة حال، ينبغي ألَّا تُخلط بالتجارب الصوفية الأصيلة؛ فقد يرى القديس الكاثوليكي مريم العذراء أو يسمع أصواتًا ينسبها إلى يسوع. وقد يرى القديس الهندوسي الإلهة كالي Kali، فليست هذه، ولا الأصوات التي سمعتها القديسة جان دراك، أو سقراط، تدخل في حساب الظواهر الصوفية، رغم أنه من الممكن جدًّا أن يكون هؤلاء الأشخاص قد مروا بتجارب صوفية أصيلة. وكثيرًا ما كان القديس بولس يُلقَّب بالمتصوِّف. والنور الذي زعم أنه رآه وهو في طريقه إلى دمشق، والصوت الذي سمعه يقول: «شاول، شاول، لماذا تضطهدني …؟»١١ لا ينبغي بما هما كذلك أن يُصنَّفا ضمن التجارب الصوفية، على الرغم من أنه قد تكون هناك أُسس أخرى لتصنيفه على أنه متصوِّف، فالكلمات التي وصف بها تجربة أخرى، مثل تجربة الرجل الذي «رُفع إلى السماء الثالثة … وسمع كلمات لا يُمكن أن تُقال ولا هو مشروع أن يتفوه بها بشر»، لها نبرة صوفية حقيقية. وحتى هنا، فهناك بعض الشك؛ لأنه ليس من الواضح ما إذا كان لفظ «الكلمات» ينبغي أن يؤخذ حرفيًّا أم إنه مجرد مجاز. لو أُخذ حرفيًّا لأصبح عندئذٍ مجرد أصوات، ولحُذِف من فئة الظواهر الصوفية. كما أن الإشارة إلى «السماء الثالثة» تخضع لنفس الشك ما دام من الممكن تأويلها مجازيًّا، أو حرفيًّا، على أنها رؤية فعلية. إنَّ ما يُعطي العبارة، مع ذلك، نغمة صوفية أصيلة، هو تعبير «ما لم يمكن قوله»، وكلمات «ما ليس مشروعًا للإنسان أن يتفوه به»، فالقول بأنَّ تجاربهم «لا يُمكن التحدث عنها»، وأنها «تفوق الوصف»، هي عبارات مشتركة، يقولها المتصوِّفة، على الرغم من أن هناك، كما سنرى، تأويلات مختلفة لهذه الواقعة. وربما كانت كلمات «غير مشروع» تُشير إلى خاصية عند المتصوِّفة اليهود. فقد كان يُنظر في هذا التراث عمومًا إلى أنه من غير المناسب، ومن غير اللائق، لأي إنسان أن يُقدِّم وصفًا شخصيًّا لتجاربه الصوفية الخاصة. والروايات التي يرويها أي كاتب تبقى سرًّا في العادة، ولا توضع في أي كتاب منشور.١٢ وعبارة القديس بولس: «أنا أحيا، كلَّا! بل المسيح هو الذي يعيش بداخلي»، تُقتبس أحيانًا كدليل على أنه متصوِّف. ولو صحَّ ذلك، لكانت كلمة المسيح (صوابًا أم خطأً) تُشير إلى أنه قد تحقَّق في بولس ما سمَّاه «إيكهارت» ميلاد الله في قمة الروح، وما يُشير إليه البوذيون على أنه تحقُّق لطبيعة بوذا في الإنسان.

ربما ظهر سؤال عمَّا إذا كان استبعادنا للرؤى والأصوات من فئة الظواهر الصوفية يرجع إلى قرار تعسفي أم إنَّنا نُقدِّم لهذا الاستبعاد مبررات لها وجاهتها. النقطة الرئيسية هي أن أكثر أنواع التجارب الصوفية عظمة وأهمية هي تجارب غير حسِّية، في حين أنَّ الرؤى والأصوات لها طابع التخيلات الحسِّية. والنوع الانطوائي من الحالات الصوفية، طبقًا للروايات التي لدينا عنها، تخلو تمامًا من التخيلات. أمَّا التجارب الانبساطية فهي حقًّا التي يُمكن أن نُسمِّيها حسِّية. ما دامت تعتمد على تغيير مظهر الإدراك الحسي الفعلي، ومع ذلك فهي ليست تخيلات، بل هي إدراك مباشر للعين. وهناك بعض المبررات للظن بأنَّ التجارب الانبساطية ليست أكثر من درجة سُلَّم نصعد إليها إلى الحالة الانطوائية الأعلى، وعلى أيَّة حال فأهميتها قليلة. وهذه الأحكام سوف تُفسَّر، بالطبع، تفسيرًا كاملًا، وتوثَّق في مكانها المناسب. ولقد زعم الذين مرُّوا بالتجربة الانطوائية أنها بغير مضمون، ولا شكل لها. ويُحذِّرنا «إيكهارت» و«روز بروك» وكثيرون غيرهم من المتصوِّفة من أن الذهن الذي يسعى لتحقيق غاية المتصوِّف لا بد أن يستبعد بشدة التخيُّلات الحسِّية.

وكثيرًا ما رأت القديسة تريزا رؤًى، ولم تكن مثقفة مثل إيكهارت، ولا قادرة على التحليل أو التفكير الفلسفي، ومع ذلك فقد كانت على وعي بأنَّ رؤاها، أو على الأقل بعضها، مجرد هلوسات. ولقد تشكَّكت في أن بعضًا منها أرسلها الشيطان للتشويش على مجهوداتها لبلوغ الاتحاد بالله. وذهبت إلى أن بعضها الآخر يُمكن أن يكون مرسلًا من الله كعون وسكينة، وحتى في هذه الحالات، فإنَّها لم تنخدع فتفترض أن ما رأته في رؤاها كان موجودًا على نحو موضوعي.

ولقد كتب «القديس يوحنا حامل الصليب»، يقول إن الرؤى إمَّا أن تكون من الله أو من الشيطان:

«لا ينبغي أن تعوق هذه الأصوات الفهم، ولا أن يتغذى عليها، ولا ينبغي للنفس أن ترغب فيها أو أن تتمسَّك بها، لو أنها أرادت أن تظل مُتحرِّرة، خالية، خالصة وبسيطة، على نحو ما هو مطلوب لحالة الاتحاد؛ لأنه لمَّا كان الله لا يشمله شكل ولا صورة وليس متضمنًا في نوع معين من المعرفة، فإن النفس لكي تكون قادرة على الاتحاد بالله، لا بد ألَّا تتمسَّك بأي شيء متميِّز له صورة مُحدَّدة، أو أي معرفة مجزأة.»١٣

ومن ناحية أخرى، فإن من الواضح أن المتصوِّفة، على الرغم من أنهم يستطيعون أن يُميِّزوا بوضوح بين الأصوات والرؤى بين الحالات العليا التي يصلون إليها، فإن هناك رابطة معينة بين أنواع الأشخاص الذين مرُّوا بتجارب صوفية، وأولئك الذين يرون الرؤى أو يسمعون الأصوات، وهذا هو السبب في أنهم هم أنفسهم حريصون على التمييز بينهما.

وتُعدُّ «الأوبنشاد»،١٤ بالطبع من بين أقدم الوثائق المعروفة في التصوف الهندي أو المعرفة، في الواقع، في أي تصوُّف وهي تؤرخ لنفسها من النصف الأول إلى الألف الأول قبل الميلاد. وهي تصف على نحو ثابت لا يتغيَّر، التجارب الصوفية بأنها «بلا صوت، وبلا شكل، وغير ملموسة».١٥ أعني أنها تخلو من المضمون الحسِّي، لكنَّا نجد العبارة الآتية عند الحديث عن تمرينات التحكم في النفَس، والتركيز، والتمرينات الروحية الأخرى:
«إنَّك عندما تقوم بتمرينات التأمُّل قد ترى أشكالًا تُشبه الثلج، والبلور، والريح، والدخان، والنار، والبرق، واليراعات، والشمس، والقمر. وهذه علامات على أنَّك في طريق تكشف عن براهمان.»١٦

والتفرقة هنا واضحة بين الرؤى والحالة الصوفية الأصيلة، كما أنَّ الربط الذي أشرنا إليه من قبل مؤكَّد في العبارة. والاختلاف اللافت للنظر بين نوعَي الرؤى التي يذكرها المتصوِّفة الهنود، كاليراعات مثلًا، والرؤى الدينية للعذراء التي يتحدَّث عنها المتصوِّفة المسيحيون يُمكن أن تُنبئنا بقصة الاختلافات بين الحضارتَين، لكن المهم أنهما معًا صور حسِّية، وهي بما هي كذلك تُستبعد من فئة الظواهر الصوفية. على الرغم أنه من المُسلَّم به أن الصوفي يُمكن أن يتعرَّض لهما. أمَّا بصدد النقطة الجوهرية في التفرقة بين الرؤى والتجارب الصوفية، فإن متصوِّفة المسيحية ومتصوِّفة الهندوسية على اتفاق تام.

ثالثًا: الغبطة المهملة، والنشوة، وفرط الانفعال

هناك بعض الظواهر الأخرى أيضًا التي ترتبط أحيانًا ارتباطًا وثيقًا بالحياة الصوفية، لكنَّها لا تُشكِّل أي جزء ضروري منها أو مُصاحب لها. فهي تحدث بين الفينة والفينة لكنَّها ليست كلية على الإطلاق، ومن ثَم يُمكن إهمالها بوصفها لا تنتمي إلى المحور الكلي العام الذي نبحث عنه؛ وهي: ضروب النشوة، والغبطة والانفعال العنيف. ويُمكن أن نذكر عنها هنا كلمة موجزة لنكون واضحين فيما نهمله من ناحية، وبسبب أهميتها البشرية الذاتية من ناحية أخرى.

من بين المفردات الخاصة في التصوف المسيحي كلمةُ «الغبطة»، وهي مصطلح شبه فني، وهو لا يشمل البهجة القصوى فحسب — كما هي الحال في المعنى الشائع للكلمة — بل أيضًا بعض التغيرات الجسيمة العنيفة غير العادية. وطبقًا لما تقوله القديسة تريزا فإن «الغبطة» و«النشوة» كلمتان مختلفتان، تُعبِّران عن شيء واحد،١٧ لكنَّا لا يُمكن أن نتوقَّع أي قدر من الاتساق أو الدقة في استخدام الكلمات في هذه الموضوعات. وهي نفسها قد مرَّت بحالات كثيرة من الغبطة «أعطتها أقصى درجة من الألم البدني»، وهي تصف غبطتها على النحو التالي:
«أثناء الغبطة نفسها كثيرًا ما يكون البدن كأنه ميت، عاجز تمامًا. وهو يستمر على وضعه الذي كان عليه عندما جاءت الغبطة؛ لو كان واقفًا فهو واقف، ولو كانت اليدان مبسوطتين أو مضمومتين تظلان على حالهما. وتضعف الحواس وتَهِن، وإن كان ذلك لا يحدث إلَّا نادرًا. ولقد حدث لي بين الحين والحين أن فقدتُها تمامًا … لفترة قصيرة من الزمن. غير أن قوة السمع والإبصار تبقى بصفة عامة، لكن كما لو كانت الأصوات المسموعة، والأشياء المرئية تقع على مسافة بعيدة جدًّا … وأنا لا أقول إن النفْس تسمع وترى عندما تكون الغبطة في قمتها، عندما تضيع الملكات بسبب الاتحاد العميق بالله فإنَّها عندئذٍ لا ترى ولا تسمع ولا تُدرك … وهذه التحولات التامة للنفس لا تستغرق سوى لحظة.»١٨
وهي تُسجِّل أيضًا أنه أثناء الغبطة:
«تنخفض جدًّا درجة الحرارة الطبيعية للبدن. وترتفع البرودة، رغم أنه يُصاحبها إحساس متزايد بالعذوبة …»١٩
على واجهة كتاب، لا أذكر الآن أين عثرت عليه، رأيت صورة للمتصوِّف الهندوسي الشهير «سراي راماكريشنا» يُساعده على الوقوف تلميذان من تلاميذه، ومن الواضح أنهما يُحاولان أن يمنعاه من السقوط على الأرض، وقد كُتِبَ أسفل الصورة سراي راماكريشنا في سمادهي Samadhi.٢٠ ويروى لنا أنه كان أثناء نوبات عمله، بوصفه كاهنًا في أحد المعابد الهندوسية، كان من عادته أن يسقط في النشوة، التي كانت تهاجمه أثناء تأديته لواجباته الدينية، وأصبحت فضيحة عامة، حتى إن السلطات القائمة على أمر المعبد فكَّرت جديًّا في إعفائه من وظيفته.٢١ ويُخبرنا راوي سيرته أنه في إحدى المناسبات «ظلَّ راماكريشنا ستة أشهر في حالة هوية مطلقة مع براهمان.» ولقد أشار «سراي راماكريشنا» نفسه، فيما بعد، إلى هذه الحادثة فقال:
«بقيتُ لمدة ستة أشهر على تلك الحال التي لا يُمكن للإنسان العادي أن يعود منها. ويرتد الجسم عمومًا إلى حالته بعد ثلاثة أسابيع … ولم أكن على وعي بالليل أو النهار. وكان يُمكن للذباب أن يدخل فمي وأحشائي كما يفعل في الجثة الميتة، لكني لم أشعر به.»٢٢

وإذا كنَّا سنظل محتفظين بإيماننا بصدق «سراي راماكريشنا»، فلا بد أن نعتقد أنه كان يحصل على معلومات عن الذباب من مُلاحظ خارجي بعد الحادثة.

أمَّا فيما يتعلَّق ببقائه حيًّا لمدة ستة أشهر، فإن كاتب سيرته يقول إن شخصًا كريمًا اعتاد أن يُدخل الطعام في فمه. والحادثة كلها، كما رويناها الآن، تُجْهِد قدرات المرء لكي يؤمن بها، لكن لا يُمكن أن يكون هناك شك في أن الحالات البدنية غير العادية التي يُسميها المتصوِّفة جميعًا «بالغبطة» أو «النشوة» تحدث في بعض الأحيان. ونحن نذكرها لأنها موضع اهتمامنا، لكن المسألة الهامة في أنها حالات طارئة تُصاحب الوعي الصوفي. لكنَّها بالقطع لا هي عامة ولا هي ضرورية. وإنَّما هي تحدث بين المتصوِّفة الأشد انفعالًا والأكثر اضطرابًا في الأعصاب، وليس بين المتصوِّفة الأكثر هدوءًا ورصانةً وثقافة. ومن ثَم فلا يُمكن النظر إليها على أنها تنتمي إلى المحور الكلي العام للتجارب الصوفية.

وقل الشيء نفسه عن الرابطة المؤكدة بين الجنس والحياة الصوفية، وعن التشبيهات الجنسية المجازية التي يزخرف بها بعض المتصوِّفة وصفهم لما يؤوِّلونه على أنه اتحاد مع الله، لا سيما عند متصوِّفة المسيحية والإسلام، وقد يكون من الصواب — كما يذهب لوبا — أن الجزء الرئيسي من دوافع القديسة كاثرين،٢٣ ومدام جيون،٢٤ كان سببه الإحباط الجنسي، لكن لا شيء من هذا القبيل، بالقطع، يُمكن أن يكون عامًّا أو كليًّا، وليس هناك أدنى علاقة بين هذه الوقائع وبين المشكلات الفلسفية التي ندرسها، كمشكلة الموضوعية مثلًا. فقد كان من المعروف باستمرار أن التحرُّر من العالم، وما فيه من متع برَّاقة لكنَّها زائفة وخدَّاعة، وهي مخادعة، بمعنى أنها قد تعد فيما يبدو بالسعادة لكنَّها لا تؤدي إليها. من المعروف أن ذلك كان دافعًا قويًّا يحث عقول المتدينين للبحث عن عزاء، والحصول على السعادة «الحقيقية» التي يؤمنون أنهم لا يُمكن أن يجدوها إلَّا مع الله. وليس هناك مُبرِّر وجيه للظن بأنَّ ذلك يؤيد أو يُعارض واقعية موضوع الوعي الديني. ولا يتَّضح — إذا ما كانت المتعة الدنيوية الجزئية التي يرغب فيها المتصوِّف، سواء أكانت متعة جنسية، أو إذا كانت بعيدة عن الجنس، إذا كان يبحث عن السلوى مع الله — لِمَ يفترض في هذه الوقائع بطريقة غير مسئولة أنها تضر بمزاعمه عن موضوعية تجربته، إنَّها في الواقع لا تُساعد ولا تعوق هذه المزاعم.
ويُمكن أن يُقال الشيء نفسه عمَّا يُسمَّى بفرط الانفعال عند بعض المتصوِّفة، أعني أنه ليس جزءًا من المحور الكلي العام للتصوُّف، وليست له أدنى علاقة بمشكلاتنا. ويُمكن أن نقول إن المتصوِّفة في جميع الثقافات، تقريبًا، ينقسمون إلى نوعين: النوع الانفعالي من ناحية؛ من أمثال: القديسة كاثرين والقديسة تريزا وهنرخ سوزو. والنوع النظري أو العقلي، الذي اعتاد أن يُسيطر على انفعالاته من ناحية أخرى. ويُمكن أن نقول إن إيكهارت وبوذا نماذج للنوع الثاني. وبالطبع ليس هناك خط فاصل وحاسم بين هذين النوعين، فما يكون لدينا هو الانتقال التدريجي بين هذين الحدين الأقصيَين؛ فالنوع الانفعالي، في التراث المسيحي بصفة خاصة، كثيرًا ما يتحدَّث عن الحب الذي يشعر به، والذي يطغى عليه اتحاده بالله، ويصفونه بأنه «متوهج»، «عنيف»، «غامر»، «نشوان»، «مشبوب»، وما إلى ذلك. وتصف القديسة تريزا نفسها في فقرة بقولها: «إنَّني في أعماقي سكرانة بالحب.»٢٥ وهذا الانفعال المفرط عند بعض القديسين والمتصوِّفة — بالنسبة لذوق المؤلف — يُعبِّر عن خاصية بغيضة، تظهرنا على نقص في التوازن، وافتقار إلى الحكم السليم، والقدرة على النقد، لكن لا يُمكن الاعتراض عليه إلَّا بقدر الاعتراض على عادات القذارة وعدم الاستحمام التي انغمس فيها بعض القديسين في العصور الوسطى، فلا معنى لقولنا إنَّه خاصية كلية عامة للتصوُّف، ولا علاقة له أيًّا كانت بمشكلاتنا.
يبدو لي أن إيكهارت قال الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع؛ فهو يُدين ما يُسمِّيه «دغدغة الانفعال»، ملاحظًا أن يسوع المسيح لم يسعَ قط إلى «الإثارة الممتعة» فيما قام به من أفعال.٢٦ والفقرة الجميلة الآتية — وهي أيضًا مقتبسة من إيكهارت — تضع، بالتأكيد، جميع تلك الظواهر المتطرفة من النشوة والغبطة وجنون الانفعال في منظورها الصحيح:
الإشباع من خلال الشعور قد يعني أن يُرسل لنا الراحة، والنشوة، والبهجة، غير أن أصدقاء الله لا تُفسدهم هذه العطايا؛ فهي ليست سوى مادة للانفعال. أمَّا الإشباع المقبول فهو عملية روحية خالصة، تبقى فيها الروح في قمتها دون أن تهزها النشوة، وهي لا تهبط إلى مستوى البهجة، مُحلِّقة فوقها في عظمة وشموخ. إن الإنسان لا يجد نفسه إلَّا في حالة الإشباع الروحي، عندما لم تعد تهزه عواطف الانفعال المتعلقة بطبيعتنا البدنية التي تهز قيمة الروح.٢٧

إن إدانة الإفراط في الانفعال وإهماله على أنه جزء غير ضروري للوعي الصوفي، لا يعني بالطبع إنكار أن هناك باستمرار عنصر الانفعال من نوع ما وبدرجة ما في ذلك الوعي، وأنَّ ذلك العنصر ضروري وعام. والواقع أن ذلك يصدق على كل تجربة بشرية، فهي لا تكون أبدًا مُحايدة تمامًا من الناحية الانفعالية، وهي تحمل معها باستمرار نغمة عاطفية مؤثرة من نوع ما. هذه التجربة الصوفية تجلب معها البركة، والنعمة، والسعادة، والسلام، وتلك خاصية مشتركة لكل من مرَّ بها، ومن الواضح أن هذه الكلمات تُعبِّر عن الجانب الانفعالي فيها. غير أن هذه الانفعالات ربما كانت في أعلى حالاتها، هادئة، ورضية، وغير مثيرة. ومن هنا كانت مصدرًا للقوة، في حين أن حالات الهياج الانفعالي هي مصدر للضعف.

رابعًا: الاتجاه نحو الحل

افرض أن شخصًا أراد أن يكتشف ويُحدِّد خصائص نوع الفراشة، لن تكون لديه مشكلة في جمع عدد من العينات من ذلك النوع من الفراشات ليرى الصفات المُميَّزة التي توجد فيها جميعًا، ألا يكون من السهل كذلك أن تجمع عينات من الأوصاف التي يصف بها المتصوِّفة تجاربهم لكي نُحدِّد خصائصها المشتركة، لو كان هناك مثل هذه الخصائص؟ لا شك أنه سيتضح في الحال أمام القارئ أن الحالتين مختلفتان أتمَّ الاختلاف، وأنَّ هناك في حالتنا الراهنة مشكلات وصعوبات أبعد غورًا بكثير. وسوف يكون من المفيد أن نستكشف بعض هذه الصعوبات، وأكثر الصعوبات هي بالطبع أن من طبيعة بحثنا أن يتغلغل في الحياة الخاصة والتجارب الباطنية للمتصوِّفة، ولا يهتم في الجانب الأكبر منه، بالظواهر العلنية التي يُمكن مُلاحظتها. وسوف أُناقش ذلك بإيجاز فيما بعد، لكني سوف أشير أولًا إلى نقاط معينة أخرى.

هناك صعوبة تتمثَّل في أن المتصوِّفة، عادة، يقولون إنَّ تجاربهم لا يُمكن النطق بها، ولا نقلها إلى الآخرين؛ لأنها فوق الوصف. ثم يبدءون بعد ذلك، وتلك خاصية مشتركة بينهم، في وصفها، فماذا نفعل إزاء ذلك؟ والواقع أن تلك الصعوبة خاصة فريدة للمتصوِّف، وهي تُثير مشكلات غير عادية، لن نكون في وضع يُمكِّننا من مناقشتها إلى أن نصل، في مرحلة متأخرة من البحث، من مناقشة العلاقات العامة بين التصوف واللغة والمنطق.

إن مهمتنا في هذا الفصل هي أساسًا مهمة سيكولوجية، فعلينا أن نفحص الخصائص السيكولوجية والفينومينولوجية للوعي الصوفي. غير أنَّ معظم كبار المتصوِّفة عاشوا قبل نشأة العلم أو العادات العلمية في التفكير، وبصفة خاصة قبل بدايات علم النفس. ومن ثَم لم يكن لديهم سوى إحساس ضئيل، وربما لم يكن لديهم إحساس على الإطلاق، بأهمية محاولة جعل تأملاتهم الباطنية دقيقة ومحكمة بقدر المستطاع. ومن هذه الزاوية فإن أوصافهم كثيرًا ما تكون أدنى جدًّا من أوصاف متصوِّفة أصغر منهم تمامًا في عصرنا الراهن. وبالتالي فسوف نجدها وسيلة مفيدة، في بعض الأحيان، أن نقتبس الأوصاف التي قدَّمها أشخاص معاصرون لتجاربهم الصوفية. وسوف نجد أنهم كثيرًا ما يلقون طوفانًا من النور على الأوصاف الغامضة المعتمة التي ذكرها متصوِّفة أكثر منهم شهرة في عصور سابقة، بحيث يجعلونها واضحة ومفهومة. وسوف يصدق ذلك حتى على الرغم من أن الحالات الحديثة كانت لرجال، رغم أنهم كانوا مرموقين في الأدب أو في مجالات أخرى، لم يكونوا متصوِّفة بالدرجة الأولى، ولا يُمكن مقارنتهم من حيث عمق التجارب وعظمتها بالمتصوِّفة المشهورين في عصور ما قبل العلم.

خذ مثالًا لحالة أخرى لا شك في تطرفها من نوع المشكلات التي علينا أن نواجهها بلغة عظماء المتصوِّفة: صوفي شهير، هو أبو يزيد البسطامي، الذي تُوفِّي عام ٨٧٥ ميلاديًّا،٢٨ وهو يصف تجربته الوصفية الخاصة:
«ثم أصبحت طائرًا جسده هو الواحدية، وجناحاه هما الأبدية. وواصلت الطيران في فضاء المطلق، حتى وصلت إلى منطقة التطهُّر، وحدَّقت في مجال الأزل، وأدركت هناك شجرة الواحدية
ليس هذا الوصف نمطيًّا بالتأكيد، وربما كان أسوأ مثال عرفته، لكن علينا أن نُلاحظ ألوان المجاز المثيرة التي لا هي توضِّح المعنى ولا تمتلك حتى جدارة الجمال الشعري. وفي استطاعتنا أن نرى — لو كانت لدينا المثابرة للنظر مرة أخرى — أن الكاتب يزعم أنه امتلك ما أسماه «بالوعي الموحِّد»، وهو الوعي بالوحدة التي تجاوز كل كثرة، وهي التي سوف نرى لها فيما بعد أمثلة كثيرة، ثم زعم الوصول إلى تجربة مباشرة بالواحد والأزلي. فهو يستمر قائلًا:
«ذات مرة رفعني إلى أعلى، ثم أجلسني أمامه وقال لي: «إيه يا أبا يزيد، الحق أن خَلْقي يرغبون في رؤيتك.» فقلت «زيِّني بوحدتك، وسربلني بذاتك، وارفعني عاليًا إلى وحدانيتك، حتى إذا رآني خلقك بعد ذلك قالوا إنَّهم رأوك، وسوف تكون أنت هناك، أمَّا أنا فلن أكون هناك على الإطلاق».»
إن اللغة الخيالية الغريبة كثيرًا ما تكون وصفًا فاسدًا لجانب من التجربة الصوفية معروفة عند جميع دارسي الموضوع، وهي مشتركة بين أنواع التصوف في جميع الثقافات. وتلك هي تجربة الفناء، وتحطيم حواجز الذات المتناهية، حتى إن هويتها الشخصية تفنى، ويشعر الصوفي أنه اندمج أو فني في اللامتناهي، أو غرق في المحيط الكلي للوجود. أولئك المتصوِّفة الذين سوف أقتبس فقرات منهم فيما بعد، هم المتصوِّفة، ابتداءً من مؤلفي الأوبنشاد حتى إيكهارت، ومن متصوِّفة بوذية زن، حتى الحسدية،٢٩ ممن كانت لهم هذه التجربة ووصفوها. وكذلك من المحدثين أمثال «تنيسون»،٣٠ وآرثر كوسيتلر.٣١ وذلك أيضًا ما كان يقصده أبو يزيد البسطامي بعبارة «سربلني بذاتك»، وعندما يقول بعد ذلك «أنت سوف تكون هناك، أمَّا أنا فلن أكون هناك.» فإنَّه كان يقصد أن هويته الشخصية قد تلاشت تمامًا، أو فنيت أو ذابت في الذات الكلية، أو الوعي الكلي الذي يُفسِّره أبو يزيد على أنه الله، ومن ثَم فلست «أنا» بل «أنت» الذي تكون هناك.

صعوبة أخرى في طريق تجميع «عينات» من أوصاف الظواهر هي أنَّ المتصوِّفة يحتفظون بتجاربهم لأنفسهم أكثر مِمَّا يعرضونها على الناس في صورة روايات مكتوبة. وهناك دوافع كثيرة تجعلنا نذكر للقارئ هذا التكتم أو التحفظ؛ منها المشاعر البشرية المعتادة على الاحتفاظ، والتواضع، والكرامة، وكراهية أن «يُعطي المرء قلبه لعبده». وهناك أيضًا الخوف من تدنيس ما يشعر الصوفي أنه مقدس، بعرضها على جمهور لا يفهمها ولا يتعاطف معها. وتختلف الدرجات التي تغلق بها الصوفية تجاربهم على أنفسهم ويمنعونها عن الناس. وهناك كذلك، داخل كل ثقافة جزئية، الدين والمجتمع. ويُمكن أن نُلاحظ أقصى درجات السرية — كما ذكرنا من قبل — عند متصوِّفة اليهود. ونحن نجد في الطرف الأقصى المقابل اعترافات صريحة للقديسة تريزا، وسوزو، وغيرهما ممن وصفوا تجاربهم في شيء من التفصيل. ويبدو أن متصوِّفة الهندوسية والبوذية — بصفة عامة — لا يزعجهم أي تكتُّم أو تحفُّظ. وهناك ما يُبرِّر الاعتقاد أن عددًا كبيرًا من الأشخاص الغامضين تمامًا — ممن قد تتجاهلهم في الشارع — قد وصلوا في فترة ما من حياتهم إلى لمحات سريعة من الوعي الصوفي. وهم يميلون في العادة إلى التزام الصمت بصدد تجاربهم خشية السخرية منهم، أو على الأقل أن تُستقبل هذه التجارب استقبالًا جافًّا وبلا تعاطف.

حتى أولئك المتصوِّفة الذين كتبوا عن تجاربهم بصراحة، كثيرًا ما يُعبِّرون عن أنفسهم بطريقة غير شخصية، ويتجنبون استخدام اسم الشخص، فتراهم يقولون مثلًا: «أولئك الذين عرفوا الاتحاد الصوفي يخبروننا بكذا …» أو «يقول الرجل المستنير كذا وكذا …» ونحن نُلاحظ أن أمثال هذه العبارات في كتابات: إيكهارت، و«روز بروك». ويستخدم «سراي أوربندو»، المتصوِّف الهندوسي الذي توفي منذ سنوات قليلة، أنواعًا مماثلة من الأحاديث غير المباشرة، فقد كتب في مكان ما يقول: «إن أولئك الذين يملكون السكينة بداخلهم في استطاعتهم أن يدركوا …»٣٢ ومن يقرأ هؤلاء الكُتَّاب باستبصار سرعان ما يُدرك أنه لا بد أنهم يكتبون عن تجاربهم، ولكنَّهم لا يقولون ذلك بأنفسهم بوضوح. وإن كانت هذه الطريقة الغريبة في الكتابة لا تُشكِّل عقبة جادة أمامنا.

إن نوع السيكولوجيا التي نهتم بدراستها هي الاستبطان بالطبع. ولا شك أن الوصف الاستبطاني للحالات الذهنية عُرضة لعوائق وعقبات معينة، لكنَّه من ناحية أخرى أبعد ما يكون عن التفاهة، كما يُصر بعض السلوكيين المتطرفين؛ فلا أحد ممن قرأ الكتابات السيكولوجية لوليم جيمس، بعين غير متحيِّزة، لا يتأثَّر بشدة بما تتضمَّنه هذه الكتابات من ثروة قيمة في المادة السيكولوجية … وإذا كان علماء النفس الأكاديميون المحترفون يهملونها الآن، فذلك بسبب نُقصان قدرتهم وحُمقهم.

لقد قيل الشيء الكثير عن التفرقة بين «العام» و«الخاص»، التي أكدها مثلًا جون ديوي، دون أن يسأل نفسه ماذا تعني كلمات «العام» و«الخاص»، أو ما هو الأساس الإبستمولوجي لهذه التفرقة، أو ما إذا كان لها ما يُبرِّرها. إن مشروعيتها المطلقة هي بالتأكيد موضع شك، رغم أنها قد تكون مفيدة في بعض الأحيان. صحيح أنِّي أنا وحدي الذي أستطيع أن أخبر وأن أشهد انفعالي وأفكاري الخاصة، لكن سيبدو صحيحًا كذلك أنَّني أنا وحدي الذي أستطيع أن أخبر وأن أشاهد الأصوات والألوان التي أدركها بعيني وأذني؛ لأنها مشروطة بالفسيولوجيا الشخصية التي تجعلني أستطيع أن أرى اللون، مثلًا، بينما يُمكن لملاحظ آخر أن ينظر إلى «نفس» الشيء فيرى لونًا آخر؛ فالإدراكات الحسِّية هي في الواقع «خاصة»، مثل الإدراكات الاستنباطية تمامًا. وما يُسمَّى «بالعالم» ليس سوى تركيبة من عوالم خاصة كثيرة. وفي استطاعتي — في حدود معينة — أن أُقارن إدراكاتي «الخاصة» مع إدراكاتك الخاصة عنه، لكنِّي أستطيع كذلك أن أُقارن تجاربي عن القلق والخوف، وعاداتي الفكرية، وتداعياتي الذهنية، وعمليات الاستدلال التي أقوم بها، مع الأقوال التي يذكرها الناس عن هذه الأمور.
لكن لا بد لنا من التسليم أن عبارات الاستبطان هي في الواقع أقل ثقة وأكثر عرضة للخطأ، وكما أنها أقل دقة وإحكامًا من تقارير الناس عن الأشياء التي يدركونها بحواسهم. ومن السهل أكثر بالنسبة لأي إنسان له عينان أن يصف العلامات الموجودة على جناح الفراشة، من أن يُعطينا نفس هذا الشخص شرحًا واضحًا لمشاعره «الداخلية». وقد يسأل سائل: ولماذا يكون ذلك كذلك إذا كانت التفرقة بين العام والخاص ليست موجودة في جذور صعوبات الاستبطان؟ وجوابنا هو أنَّ الاستبطان الداخلي هو أكثر صعوبة وأقل ثقة من الاستنباه الخارجي، لا لأنَّ الأول خاص، وإنَّما بسبب خصائص للحياة الداخلية تجعل من الصعب أن نُمسك ونثبت، وندرك بدقة وإحكام المفاهيم والكلمات. إنَّ موضوعات الإدراك الحسي تميل إلى أن تكون مُحدَّدة وقاطعة من حيث الشكل والحدود، مما يجعلها دقيقة وواضحة. فهي تظل بلا تغير لفترات طويلة، بما فيه الكفاية، تُمكِّننا من أن نلاحظها بعناية. وتصدق هذه الملاحظات على الأجسام الصلبة، وهي أقل صدقًا على السوائل، وأقل من ذلك على البخار والغاز، لكن حياة الوعي الداخلية هي دائمًا معتمة ورَوَّاغة، وهي باستمرار سريعة التغير، ويصعب استقرارها لفحصها، والأجزاء المنفصلة عنها ليس لها في العادة ملامح قاطعة حتى نُميِّز بعضها عن بعض؛ إذ يندمج بعضها في بعض فيتلاشى بطريقة لا نشعر بها. وأخيرًا هناك، فيما يبدو، قدر كبير من الحقيقة في مجادلة «صمويل ألكسندر»٣٣ التي تقول إنَّنا لا «نُلاحظ» حالاتنا الذهنية، منظورًا إليها من بُعد، لكنَّنا «نستمتع» بكونها هي، وبالعيش من «خلالها». وهذا الموضوع بالغ الصعوبة، لكن بيد أن الفرق الذي ذكره ألكسندر بين ما أسماه «بالملاحظة» و«الاستمتاع» هو أحد أسباب الصعوبات في الاستبطان. ونحن على أيَّة حال نعرف عن طريق الاستبطان ما يدور بداخل أذهاننا. وهناك بالقطع أشياء كثيرة لا نستطيع أن نعرفها إلَّا عن طريق الاستبطان.

يُمكن تصنيف المتصوِّفة وتجاربهم بطرق شتى. وللتفرقة بين نوعي التجارب؛ التجربة الانبساطية والتجربة الانطوائية، أهمية قصوى. ويُمكنُنا أن نذكر بإيجاز بعض الفروق التصنيفية الصغيرة؛ فمن المفيد، بالقطع، أن نُميِّز بين الانفعالات العالية، وهي عادة لا تكون لذلك النوع من التصوف الفلسفي والعقلاني، وبين النوع الفلسفي الرصين الهادئ، رغم أن ذلك بالطبع هو فرق في الدرجة فحسب. ولقد سبق أن قلنا ما فيه الكفاية عن هذا الموضوع. كذلك ينبغي أن نُميِّز بين تلك الحالات الصوفية التي تطرأ على أناس لم يسعوا إليها، ولم يبذلوا فيها أي جهد من جانبهم، وكثيرًا ما تكون غير متوقعة تمامًا، وتلك الحالات — من ناحية أخرى — التي كان يسبقها تمرينات، ونظام وطرق متعمدة، والتي تستغرق في بعض الأحيان فترة طويلة من الجهود الشاقة. ويُمكن أن نُسمِّي الأولى بالحالات «التلقائية»، وأن نُسمِّي الثانية بالحالات «المكتسبة» لعدم وجود تسمية أفضل.

التجارب التلقائية هي عادة من النوع الانبساطي، رغم أنها غير ثابتة. أمَّا التجارب المكتسبة فهي عادة انطوائية؛ لأنها أساليب خاصة للاتجاه نحو الباطن، والتي لا تختلف إلَّا في أقل القليل، وعلى نحو سطحي، في الثقافات المختلفة. وعلى قدر علمي، ليست هناك أساليب مماثلة للانبساط أو الاتجاه نحو الخارج. إن الشخص الذي تطرأ عليه تجربة انبساطية تلقائية، قد لا يمرُّ أبدًا بمثل هذه التجربة الانبساطية، أو قد تكون لديه سلسلة من مثل هذه التجارب. لكنَّه لا يستطيع، كقاعدة، أن يُحدثها أو يُسيطر عليها. وإن كان يُمكن لتجربة واحدة من هذه التجارب التي لا تستغرق سوى لحظات قليلة أن تُحدث ثورة في حياة هذا الشخص. فقد يكون، فيما سبق، قد وجد أن الحياة لا معنى لها ولا قيمة، بينما يشعر الآن أنها اكتسبت معنًى وقيمة وهدفًا. فيتغيَّر موقفه من الحياة تغيرًا جذريًّا ودائمًا.

أمَّا التجارب الانطوائية المكتسبة التي يمرُّ بها المرء فهي يُمكن، كقاعدة، إحداثها بعد ذلك تقريبًا بالإرادة. وعلى الأقل على فترات طويلة في حياته، لكن تكون هناك أيضًا فترات «جفاف» و«ظلام» عندما لا يستطيع شيء مِمَّا يفعله المرء إحداثها، وعلى الرغم من أن الحالات الصوفية الانطوائية هي عادة متقطعة، ومدتها قصيرة نسبيًّا، فإن هناك حالات نادرة يُعتَقد فيها أن الوعي أصبح دائمًا، وأنه يسير متزامنًا مع، ومنصهرًا ومتكاملًا مع، الوعي العادي الشائع. وهذه الحالة هي المعروفة، فنيًّا، في التراث المسيحي باسم «التألُّه». ويُشار إليها أيضًا في بعض الأحيان باسم «الزواج الروحي»، أو على أنها «الحياة الموحِّدة». ومن الواضح أن القديسة تريزا بلغتها، وكذلك «روز بروك» وآخرون. وطبقًا لِمَا يقول التراث البوذي فإن «بوذا» أيضًا قد وصل إلى الوعي المستنير الدائم. وهذا هو معنى التأكيد البوذي أنه من الممكن الوصول إلى «النرفانا Nirvana»،٣٤ في هذه الحياة، وفي هذا الجسد، وأنَّ بوذا، وغيره بغير شك، وصلوا إليها؛ لأن «النرفانا» هي ببساطة الحالة الأخيرة للوعي الصوفي الدائم، ومثل هذا الإنجاز نادر، سواء في الشرق أو الغرب، لكن المتصوِّفة يعتقدون أنه القمة العليا للحياة الصوفية.
النوعان الرئيسيان من التجربة — الانبساطي والانطوائي — ميَّز بينهما كثير من الكُتَّاب، ووضعوا لهما أسماءً مختلفة. ويُسمَّى النوع الأخير «بالطريق الباطني» أو «تصوُّف التأمل الباطني»، وهو في مصطلحات رودلف أوتو R. Otto، وتطابق مع مصطلحات الآنسة «أندرهيل»، يُطلق عليه اسم «الاتجاه نحو الباطن». ويُمكن أن يُسمَّى النوع الأول «بالطريق الخارجي» أو «طريق الاستنباه الخارجي».٣٥ والفرق الجوهري بينهما هو أن التجربة الانبساطية تنظر إلى الخارج من خلال الحواس، في حين تنظر التجربة الانطوائية إلى الباطن عن طريق الذهن. ويصل الاثنان إلى القمة في إدراك «وحدة مطلقة» هي التي أطلق عليها أفلوطين اسم «الواحد». يتحد معها الشخص المُدرِك، ربما في هوية واحدة. أمَّا المتصوِّف الانبساطي الذي يستخدم حواسه البدنية، فهو يُدرك كثرة الموضوعات المادية الخارجية: البحر، والسماء، والمنازل، والأشجار، وهو يُحوِّر شكلها، صوفيًّا، إلى الواحد هنا، في هذا الظلام والصمت، ويتحد معه، لا كالوحدة التي نراها من خلال الكثرة (كما هي الحال في التجربة الانبساطية)، بل كوحدة عارية تمامًا خالية من الكثرة أيًّا كان نوعها. وسوف نبدأ في الأقسام القليلة القادمة في فحص الدليل التفصيلي على هذه الأقوال الجديرة بالملاحظة.
القول بأنَّ هناك نوعَين مختلفَين من الوعي، ينطبق عليهما معًا، رغم ذلك، صفة «الصوفي»، ينبغي ألَّا يبدو متناقضًا مع الزعم بوجود محور كلي عام لكل أنواع التصوف، وذلك للسببين الآتيين:
  • (١)

    للنوعَين خصائص هامة مشتركة بينهما. وهذا واضح، في الواقع، حتى من الملاحظات الموجزة التي ذكرناها بالفعل. ما دام الاثنان، كما لاحظنا، يصلان إلى القمة في إدراك الوحدة أو الواحد أو الاتحاد معه. رغم أنَّ هذه الغاية يتم الوصول إليها في الحالتين، بطرق مختلفة. وليس ذلك، كما سنرى، هي الخاصية الوحيدة المشتركة بينهما.

  • (٢)

    هناك دليل وجيه على أن النوعَين كُلِّيان، بمعنى أنهما يوجدان معًا، وهما متشابهان في الوجود في جميع الأوقات، والعصور، والثقافات. وما لم يكن ذلك كذلك، أي لو كان أحد النوعين، مثلًا، لا يحدث إلَّا في الشرق، ولا يحدث الآخر إلَّا في الغرب، فربما أدى ذلك إلى تقويض ثقافتنا في المحور الكلي العام، بطريقة ما، غير أن الأمر ليس كذلك تمامًا، وإذن، ففي استطاعتنا أن نُشير إلى مجموعة هامة من الخصائص مشتركة بين النوعين.

خامسًا: التصوف الانبساطي

على الرغم من أن منهجنا لا بد أن يكون استقرائيًّا، بقدر ما يتعلَّق الأمر بطابعه المنطقي، فإنَّه لن تكون هناك أهمية للتكرار المحض لعدد كبير من الحالات المتماثلة تقريبًا، بل سيكون من الأفضل أن نَعرِض أمام القارئ عددًا قليلًا من الحالات الممثلة، وهي ممثلة لفترات، وثقافات، ومناطق مختلفة من العالم. وعلى أيَّة حال، فإنَّ النوع الانبساطي من الوعي الثقافي يقل أهمية جدًّا من النوع الانطوائي. إذا نُظر إليهما من زاوية الأثر العملي في الحياة البشرية، والتاريخ، وأيضًا إذا نُظر إليهما من حيث المضامين الفلسفية. وسوف أسوق سبع حالات ممثلة، كل حالة منها، وإن كانت تعرض خصائص مشتركة للمجموعة بأسرها من التي نبحثها، فإنَّها تظهرنا كذلك على ضروب من الكيفيات الفردية الممتعة، والمثقفة. وهناك حالتان، من الحالات السبع التي اخترناها، مأخوذتان من المسيحية الكاثوليكية، وواحدة مأخوذة من البروتستانتية، وواحدة من وثنية العصور الكلاسيكية، وواحدة من الهندوسية الحديثة، وحالتان مأخوذتان من النخبة الفكرية المعاصرة في أمريكا الشمالية، التي لا ترتبط، على نحو واضح، بأيَّة عقيدة دينية معينة.

وما دامت الديانة البوذية والديانة الإسلامية غير ممثلتين، فربما قيل إن انتشار الأمثلة عبر الثقافات المختلفة ليس واسعًا السعة المطلوبة. وهناك بعض الحق في هذا الاعتراض. أحد الأسباب هو أنه، على حين أن الكتابات في التصوف الانطوائي هائلة، وعدد الحالات المُسجَّلة ضخم، فإن الكتابات في التصوف الانبساطي الأقل أهمية، والأقل أثرًا، ضئيلة نسبيًّا، كما أن عدد الحالات المسجلة ليس كثيرًا. والواقع أنه قد تكون هناك حالات مُسجَّلة كثيرة يجهلها المؤلف، لكن ما دامت أمثلتنا مستمدة من المسيحية الكاثوليكية، والبروتستانتية، ومن روما الوثنية، ومن الهند، ومن أمريكا المعاصرة، فإن هذا الانتشار واسع يقينًا، بما فيه الكفاية، لكي نطمئن ونكون على ثقة من أن الثقافات غير الممثلة في هذا الكتاب، لا بد أنها تشمل موجودات بشرية كثيرة مرَّت بنفس التجربة، سواء تركوا عنها وثائق أم لم يتركوا. وهكذا تكون مسألة شمول التوزيع لجميع أنحاء العالم، رغم أنها ليست تامة، فإنَّها، فيما يبدو لي، معقولة جدًّا.

وربما بدأنا من عبارة «لمايستر إيكهارت»، رغم أنها موجزة ومضغوطة إلى أقصى حد، فإنَّها يُمكن أن تؤخذ كنمط ونموذج لفهم المجموعة كلها. يقول: «كل ما يكون هنا أمام الإنسان متكثرًا من الناحية الخارجية فهو في الحقيقة واحد، فهنا جميع أوراق الحشائش، والأشجار، جميع الأشياء واحدة. تلك هي الأعماق البعيدة.»٣٦
ويُمكن أن نُكمل هذه العبارة بفقرة من «إيكهارت» على النحو التالي، وهي أيضًا نموذج للتجربة الانبساطية لا الانطوائية:
«نبئني يا إلهي مَن يكون الإنسان في حالة الفهم المحض؟ سوف أخبرك: «عندما يرى شيئًا واحدًا منفصلًا عن غيره». ومتى يعلو على الفهم المحض؟ هذا ما أستطيع أن أنبئك به: «عندما يرى الكل في الكل، عندئذٍ يقف الإنسان فوق الفهم المحض».»٣٧
ونحن نُلاحظ هنا أن «إيكهارت» — كما هي الحال في كل كتاباته — لا يقحم نفسه في الموضوع، ولا يتحدَّث عن هذه التجربة على أنها تجربته الشخصية. صحيح أنه لم يقل إن واحدية الأشياء التي يتحدَّث عنها هي التجربة الفعلية لأي إنسان، وإنَّما هو يُقرِّر هذه الواحدية كواقعة فحسب، ألا يُمكن أن تكون فكرة ميتافيزيقية أو مجرد خيال؟ ربما كانت كذلك، بمقدار ما تنبئنا به، بصراحة، عبارات إيكهارت، لكن لا أحد ممن أَلِف أسلوبه في الكتابة يُمكن أن يشك في أن «الأعماق» التي يتحدَّث عنها هي أعماق تجربته الخاصة.

ما الذي مرَّ إذن بتجربته؟ لقد كان ينظر بعينه السيكولوجية إلى أوراق الحشائش، والأشجار، والأحجار … إلخ، وذلك يُبرهن — مع واقعة أنه كان ينظر إلى الكثرة على أنها «خارجية» — على أن ما يتحدَّث عنه هو العالم المادي الذي تُدركه حواسه. وأنَّ تلك التجربة انبساطية خارجية وليست انطوائية أو باطنية.

والعبارة الحاسمة هي أنه على الرغم من أن كثيرين قد أدركوا هذه الأشياء الخارجية عن طريق الرؤية بالعين على أنها كلها واحد، فإنَّهم قد أدركوا الكثرة والواحد متآنيَين. وماذا يعني ذلك؟ إنَّه لا يعني، بالتأكيد، أن ما رآه إيكهارت كان الكثرة والواحد بالمعنى التافه، الذي تكون فيه كل وحدة، هي وحدة لأشياء كثيرة. فهذه الصفحة التي تقرأها هي قطعة واحدة من الورق، لكنَّها مكوَّنة من أجزاء كثيرة، وهو بقطع لا يعني ذلك. فكيف يُمكن إذن أن نفهم ما قال؟ بالنسبة للفهم، فقد أخبرنا إيكهارت في الفقرة الثانية التي اقتبسناها أن جميع هذه التجارب «تُجاوز الفهم المحض وتعلو عليه»، فلا يُمكن لنا أن نأمل في فهم أو تفسير منطقي. وليس هذا ما يُقرِّره إيكهارت فحسب، بل ما يقول به جميع المتصوِّفة على نحو كلي وفي كل مكان. وهو في الواقع إحدى الخصائص المشتركة لكل ألوان التصوف الذي نبحثه، لكنَّا لا نستطيع في المرحلة الحالية أن ندرسها أكثر من ذلك.
إذا ما عُدنا إلى عبارة «إيكهارت»، وقوله إن الحشائش، والأشجار، تُدرَك على أنها واحد، وجدنا أنه لا يقصد أنه لا يُدرِك الفروق أو الاختلافات بينها. إنَّه بالقطع يُدرِك أن هذا الشيء الموجود على اليسار هو خشب، وأنَّ هذا الشيء الموجود على اليمين هو حجر، وأنَّ الخشب هو شيء مختلف عن الحجر. وإلَّا لم يكن في استطاعته أن يقول عنهما عبارة كهذه «الشجر هو الحجر»، ما لم يكن على وعي بأنَّ الشيء الموجود أمامه هو في الواقع «خشب» يتميَّز عن «الحجر»، فهو ما لم يُدرك أن الخشب خشب، وأنَّ الحجر حجر، فإنَّه لن يستطيع أن يقول إن الخشب هو الحجر. وهكذا نجد أنه يعني أنهما متمايزان ومتحدان في وقت واحد. ولقد عبَّر «رودلف أوتو»، على نحو فج وفظ، على هذا النحو «الأسود لا يكفُّ عن أن يكون أسود، ولا أن يكون الأبيض أبيض، غير أن الأسود أبيض، والأبيض أسود؛ فالأضداد تتَّحد دون أن تكفَّ عن أن تكون على نحو ما هي عليه …»٣٨ وليست هذه العبارة مجرد رص للكلمات، وإنَّما هي تُعبِّر عمَّا يراه أحد الناس من الناحية الفيزيائية.

وهذه صدمة للقارئ، لكن أي إنسان ينوي قراءة هذا الكتاب ينبغي عليه أن يعرف كيف يتعوَّد على الصدمات. وأي كاتب يكتب عن التصوف بإخلاص وأمانة — تمامًا كالشخص الذي يكون التصوف مألوفًا لديه — يعرف أنه لا يُمكن التوفيق بتاتًا بينه وبين القواعد المألوفة للتفكير البشري، وأنه يحطم قوانين المنطق في كل سيره. وسوف يُحاول كثير من الكُتَّاب تعليل هذه الظاهرة للتخفيف من وقع الصدمات، وبذلك يجعلون المثلثات مستديرة ليجعلوا التصوف مقبولًا عند الحس المشترك، وهم بذلك يردونه إلى مستوى هذا الحس المشترك. لكنَّنا إذا فعلنا ذلك فقد زيَّفنا الموضوع كله، لكنَّنا لن نُشجِّع كل شيء من ذلك في هذا الكتاب. ويستطيع مَن يشاء أن يقول: «يكفي ذلك. إذا كان التصوف ينطوي على تناقضات منطقية، فسوف يكون ذلك مبررًا كافيًا لرفضه عندي في الحال. ومن حقي وفي هذه اللحظة أن أُغلق الكتاب» فليفعل ذلك إذا أراد، لكن تقييمي لهذه المسائل مختلف، وسوف أُفسِّره وأطوِّره، وأُدافع عنه بالتدريج طوال الكتاب.

دعنا الآن نعود إلى العبارة الحاسمة التي تقول إن جميع الأشياء واحدة. لو أنَّنا رمزنا إلى هذه الأشياء ﺑ: «أ»، «ب»، «ﺟ» … إلخ، لوجدنا أنها كلها واحدة؛ لأن «أ» متحدة مع ب، رغم أنها تظل مع ذلك شيئًا مختلفًا. وقُل مثل ذلك في بقية الأشياء. فكثرة الأشياء كلها التي يشتمل عليها الكون متَّحدة بعضها مع بعض، وهي بذلك لا تُشكِّل سوى شيء واحدة أو وحدة خالصة. وسوف نجد أن الوحدة والواحد، هي التجربة المركزية والمفهوم المركزي لكل أنواع التصوف، أيًّا كان نوعه. رغم أنه يُمكن التأكيد عليها قليلًا أو كثيرًا في حالات جزئية مختلفة. وهي في بعض الأحيان لا تذكر صراحة. والمتصوِّفة يدركون الوحدة أو يعاينونها مباشرة. وذلك يعني أنها تنتمي إلى التجربة، لا إلى التأويل، بقدر ما يكون من المستطاع التفرقة بينهما.
وهذه الوحدة يُمكن تأويلها على أنحاء شتى. وسوف يعتمد التأويل، كقاعدة، على البيئة الثقافية المحيطة، وعلى ألوان الإيمان السابقة عند الفرد المتصوِّف. وما دام إدراكها في تجربة الصوفي يجلب معه دائمًا إحساسًا بالسمو الروحي، وبالغبطة والنعيم، والنبل، والقيمة القصوى، وهي نفسها ليست تأويلات، وإنَّما هي جزء من النغمة الانفعالية للتجربة، فإن هذه الوحدة يؤوِّلها المتدينون عادة على أنها «إلهية»؛ فقد أوَّلها المتصوِّفة المسيحيون والمسلمون، وقلة نادرة من المتصوِّفة اليهود الذين سجَّلوا مثل هذا النوع من التجارب، على أنها الموجود الإلهي الواحد أو الله. والمتصوِّفة الانفعاليون الذين ليس لهم فكر فلسفي من أمثال القديسة تريزا، و«سوزو»، يقفزون مباشرة إلى النتيجة التي تقول إن تجربتهم كانت عبارة عن «اتحاد بالله» وهم يُسلِّمون ببساطة بأنَّ هذه العبارة تصور التجربة المباشرة. ولا يدركون أنهم أدخلوا فيها عنصر التأويل. والمتصوِّفة المسيحيون، مِمَّن لهم فكر فلسفي أكثر، من أمثال «إيكهارت» و«روز بروك» يُدخِلون، ربما عن وعي، تأويلات خفية أكثر، فيؤوِّلون الوحدة بأنها الألوهية، ويُميزونها عن الله. إنَّها الوحدة التي لا تمايُز فيها، الكامنة خلف الأشخاص الثلاثة في التثليث. والتي تُمايِز نفسها على نحو أزلي في شخصية ثُلاثية. والحق أن هذه التأويلات تُنسب في العادة إلى الواحد في التجربة الانطوائية أكثر مما تُنسب إلى التجربة الانبساطية. وربما كنتُ بتقديمي لها عند هذه النقطة أدخل مباشرة في موضوعي، غير أن ذلك لا أهمية له. إن الصوفية لا يُميِّزون، بصفة عامة، بين الواحد الانطوائي، والواحد الانبساطي، فمن الواضح أنه لم يحدث أبدًا لإيكهارت الذي مرَّ بالنوعين معًا من التجربة، أنْ طرح على نفسه السؤال عن اختلافهما أو هويتهما. وليس ثمة مُبرِّر على الإطلاق للقول بأنه لم يكن يعتقد أن الواحد الخارجي — الذي يُشير إليه في الفقرة التي نشرحها الآن — ليس هو الله أو الألوهية؛ فالقول بأنَّ الوحدة الداخلية والخارجية متحدتان، هو جزء جوهري وصريح من رسالة كثير من المتصوِّفة.
الوحدة التي مرَّ بها أفلوطين في تجربته أطلق عليها اسم الواحد، وكذلك الخير. وهي في التصوف الهندوسي القديم — كما تعرضه الأوبنشاد — هي «براهمان»، الواحد الذي ليسه له ثانٍ، أو الذات الكلية. أمَّا المتصوِّف الهندوسي الحديث «راماكريشنان» فهو تصوَّرها أحيانًا على أنها براهمان، وكثيرًا ما يُسمِّيها الإلهة كالي Kali.٣٩ أمَّا المتصوِّفة الغربيون، من أمثال «بك Bucke» و«ن. م» الذي سوف نقتبس منه فيما بعد، فهم لا يُقدِّمون لها في العادة أيَّة تأويلات لاهوتية.
إذا ما قدَّم المتصوِّف التأويل الديني، فإن صيغة النوع الانبساطي من التجربة سوف تكون عندئذٍ «جميع الأشياء هي الواحد»، ولا بد أن تتحوَّل بالضرورة إلى «جميع الأشياء هي الله»، وهكذا ينشأ مذهب وحدة الوجود. وسوف نُناقش في فصل قادم العلاقة بين النوع الانطوائي من التجربة، ومشكلة التأليه في مواجهة مذهب وحدة الوجود.
لقد أعطتنا، بالفعل، مناقشتنا للفقرة التي اقتبسناها من «إيكهارت» لمحة مبدئية عن بعض الخصائص المشتركة التي تُشكِّل المحور الكلي العام للتصوُّف الانبساطي. ولا بد لنا أن نترك إلى صفحات قادمة، مشكلة ما إذا كانت نفس هذه الخصائص موجودة في النوع الانطوائي من التجربة أم لا. فإذا ما حصرنا أنفسنا الآن في النوع الاستنباطي من التجربة، فربما قلنا إن نواته الداخلية التي تدور حولها جميع الخصائص المشتركة الأخرى هي إدراك الوحدة على أنها، بطريقة ما، أساسية للكون. وذلك يتضمَّن خاصية كلية أخرى هي أنَّ التجربة يؤوِّلها المتصوِّفة مباشرة على أنها تحمل إشارة موضوعية، وليست مجرد حالة داخلية ذاتية للنفس، وهذا ما أسماه وليم جيمس «بالكيف العقلي». وكلمة «الكيف» هنا، ما دامت تشمل خاصية للتجربة ذاتها، لا مجرد التأويل، تلفت النظر إلى واقعة أن تلك هي نظرة المتصوِّف نفسه. فليست الموضوعية عنده رأيًا، بل يقينًا يخبره. وإذا كان موقف المتصوِّف هذا مشكوكًا فيه بالنسبة لنا نحن الذين لم نمر بتجربته، فقد يكون من المناسب أن نُشير إلى أنَّ الموجودات البشرية العادية — غير الفلاسفة — تأخذ موضوعية التجربة الحسِّية على أنها واقعة مُدرَكة على نحو مباشر وليست مجرد رأي.
وهناك خاصية كلية ثالثة، تنطوي على مفارقة، هي الاستخفاف بقوانين المنطق التي يقبلها الناس بصفة عامة. وسوف ندرس ذلك بعناية في بحث تالٍ.
خاصية رابعة هي الغبطة، والنعيم، والنشوة، والإحساس بالقيمة العليا. غير أنها ليست مذكورة في النصوص التي اقتبسناها من إيكهارت، وليست الخصائص الأخرى مذكورة في هذه النصوص، لكنَّها سوف تظهر كلمَّا تقدَّمنا في البحث، فإذا ما استرشدنا بما تعلَّمناه من «إيكهارت» استطعنا الآن أن نتقدَّم لفحص نماذج أخرى من التجربة الانبساطية التي وعدنا بها في بداية هذا القسم.
انظر إلى النص الآتي للقديسة تريزا:
«ذات يوم أثناء الصلاة، كان من المُسلَّم به عندي أن أُدرك في لحظة واحدة كيف أن جميع الأشياء نراها في الله وأنه يشملها، لكنِّي لم أدركها في شكلها الصحيح، ومع ذلك فقد كانت النظرة الموجودة عندي لهذه الأشياء واضحة وضوحًا عارمًا. وقد ظلَّت حيَّة ومؤثرة في نفسي.»٤٠
من الواضح أن «القديسة تريزا»، مثل «إيكهارت» — قد مرَّت بالتجربتين معًا، رغم أن إشارتها إلى النوع الانبساطي نادرة — والواقع أنَّني لا أتذكَّر فقرة أخرى غير هذه، مع أنه يُمكن أن تكون هناك فقرات أخرى، فجميع التجارب التي سجلتها من الناحية العملية هي من النوع الانطوائي. وهي في ذلك أيضًا تُشبه «إيكهارت». أمَّا أن التجربة المُسجَّلة في الفقرة السابقة انبساطية، فذلك أمر واضح. فهي لم ترَ الواحد خالصًا، وإنَّما هي بالأحرى شاهدت الكثرة الموجودة في الكون. فقد رأت كيف أن «جميع الأشياء»، «يشتمل عليها الله»؛ لأن ذهنها الأنثوي لا يستقر في أفكار مجردة مثل الوحدة الخاصة، بل في عينية المحب الإلهي. ومع ذلك فيُمكن الاعتراف بأنَّ تجربتها هي في جوهرها مثل تجربة إيكهارت، فحينما قال إيكهارت «الواحد» قالت القديسة تريزا «الله».
وتُخبرنا الآنسة «أندرهيل»٤١ عن حياة جاكوب بوهيمي فتقول:

«هناك ثلاث هجمات متميِّزة للإشراق، لها جميعًا الطابع الخارجي لوحدة الوجود … لقد حدثت الإشراقة الثانية حوالي عام ١٦٠٠م، بدأت بحالة للوعي تُشبه النشوة، وكانت نتيجة للتحديق في قرص مصقول … وهذه التجربة تجلب معها رؤية صافية وعجيبة لحقيقة العالم الداخلية التي ينظر منها — كما قال — إلى الأُسس العميقة للأشياء. وهو يعتقد أنها لم تكن سوى خيال. ولكي يُبعدها عنه ذهنه خرج إلى الحشائش الخضراء، لكنَّه لاحظ هنا أنه يتفرَّس في العشب، والحشائش، وأنَّ الطبيعة الفعلية تتناغم مع ما قد رأى.»

وتُخبرنا الآنسة «أندرهيل» أن كاتبًا آخر لسيرته روى هذه الحادثة بقوله: «عندما خرج إلى حقول الحشائش الخضراء، وجلس على الأرض، ونظر إلى عشب وحشائش الحقول، بنوره الداخلي، رأى ماهيتها وخصائصها وفوائدها … فانتابه قدر عظيم من النشوة، ومع ذلك فقد عاد إلى بيته ورعى أسرته وعاش في سلام عظيم.»

فأشياء العالم الخارجي «العشب وحشائش الحقول» أدركتها عينية الجسدية، لكنَّها — كما تقول القديسة تريزا — لم تُرَ «في شكلها الصحيح»، وربما كانت عبارتها ذات مظهر عادي شائع، فقد تحوَّر شكلها. وتلك علامة وخاصية يتميَّز بها النوع الانبساطي من التجربة الصوفية، لكن لا يتضح من هاتين الفقرتين السابقتين، كيف تغيَّر شكلها في تجربة بوهيمي. فما وجده هناك لم يُدوَّن. لقد رأى «ماهيتها»، لكنَه لم يقل لنا ما هي هذه الماهية. ومع ذلك فهذا النص موجود في رواية أخرى، من الواضح أنها نفس التجربة. لقد اقتبس «ﻫ. ﻫ. برنثون» من بوهيمي قوله:
في هذا النور كانت روحي موجودة عبر الأشياء جميعًا، وعبر جميع المخلوقات؛ «فقد تعرَّفتُ على الله في الحشائش والنباتات٤٢
وهكذا نجد أن ماهية الأشياء وحقيقتها الداخلية هي الله. وهو لم يستخدم كلمة «الوحدة»، ولم يقل إن جميع الأشياء الخارجية هي شيء «واحد». غير أنَّنا نادرًا ما نجد في الروايات القصيرة المؤلفة من شتات غير مترابط التي اعتاد المتصوِّفة القدامى تقديمها عن تجاربهم، جميع خصائص التجارب مدونة بصورة نسقية، وما وجدناه عند «بوهيمي» كافٍ ليجعله على اتفاق مع الروايات الأخرى للتصوُّف الانبساطي. ونحن لم نجد عنده أيضًا خاصتين أخريَين تعرفنا عليهما بالفعل؛ الأولى ما أسماه وليم جيمس بالكيف العقلي، الاقتناع بأنَّ الإشراق ليس وهمًا ذاتيًّا. على الرغم من أنه من المُفيد أن نُلاحظ أن «بوهيمي» ظنَّ أولًا أن الإشراق وهمٌ ذاتي، وحاول أن يخرج إلى الحقول ليتحقَّق منه، ورأى هناك الأشياء تبدو واحدة — ولم يكن ذلك سوى مرجع موضوعي — لأنه بعد أن خرج إلى الحقول اقتنع أنه ينظر إلى «الأُسس العميقة للأشياء». ثانيًا لقد ذكر هو نفسه خاصية النغمة الانفعالية: للسلام والغبطة.
وربما كان علينا قبل أن نترك «بوهيمي» أن نُلاحظ أن ما أسميناه مبدأ اللامبالاة السببي يجد تطبيقًا له في هذه الحالة. والقول بأنَّ إشراقةً جاءت نتيجة تحديقه في سطح مصقول — تمامًا كالحالة الدنيوية المبتذلة غير الروحية التي يُسبِّبها تناول العقاقير — لا علاقة له بأصالتها أو صحتها. إن أولئك الذين يعتقدون أن تجربة «المسكل» لا يُمكن أن تكون تجربة صوفية أصيلة — مهما كان من الصعب تمييزها عنها في مظهرها الفينومينولوجي — قد تنعكس على واقعة تأمُّل المياه الجارية، التي جعلت القديس «إجناريوس ليولا»٤٣ ينتقل إلى تجربة الوعي الصوفي الانبساطي التي استطاع فيها «أن يُدرك الأمور الروحية».٤٤ ولسنا بحاجة إلى القول إن حادثة التحديق في قرص مصقول تستدعي التنويم المغناطيسي الذاتي، لكنَّها لا تزعجنا بأيَّة طريقة من الطرق، أو تجعلنا نتشكك في قيمة تجربة بوهيمي. ونحن هنا معنيون بما كانت عليه التجربة نفسها، وليس بالسبب الذي أحدثها. كما أن الحالة الصوفية ليست على أقل تقدير مشابهة لحالة التنويم المغناطيسي، رغم أنهما معًا، ربما اشتركا في خلفية متشابهة.
سوف أقتبس الآن رواية عن تجربة مرَّ بها أحد الأمريكيين الأحياء، سوف أُطلق عليه اسم «ن. م»، وهي واحدة من الحالات التي رواها — كما ذهبتُ فيما سبق — أحد المعاصرين، وهو على دراية تامة بالاهتمامات العلمية — لا سيما السيكولوجية — للعقل الحديث، وهي لهذا السبب يُمكن أن تُفيد في إلقاء الضوء على العبارات التي ذكرها عظماء المتصوِّفة في عصور ما قبل العلم، والتي أصبحت من هذه الزاوية غير مقنعة على نحو يُرثى له. كان «ن. م» مثقفًا بحكم عمله وتدريبه. ولقد روى لي — مشكورًا — تجربته. وأخذتُ ملاحظات مما قال، ثم كتب هذه التجربة بعد ذلك، وهي التي سوف أقتبس جزءًا منها هنا. وهي النموذج الذي سبق أن أشرتُ إليه بأنه الحالة الوحيدة — من بين جميع الحالات التي اقتبستها في هذا الكتاب — التي سبقها تناول جرعة من «المسكل». ومع ذلك فإن «ن. م» يُصرُّ على أن «المسكل» لم يُحدث «التجربة»، لكنَّه فحسب «أحبط المُحبِطات التي منعته فيما سبق من رؤية الأشياء على ما هي عليه في حقيقتها». وأعتقد أنَّ ما يُريد أن يقوله هو أنه على الرغم من أن «السنتونين Santonin»٤٥ يُمكن أن يُحدث الاصفرار، أو المظهر الأصفر في الأشياء، طالما أن الاصفرار لا يوجد حقًّا فيها. ومع ذلك فقد رآها «ن. م» أثناء تجربته في الأشياء التي كان ينظر إليها. والتي يُمكن أن نقول إنَّه ربما «كشفها»، «المسكل»، لكنَّه لم يُحدثها. وبعبارة أخرى، فإن رفضه لكلمة «تحدث» هو طريقه للإصرار على موضوعية التجربة. وكانت ملاحظاتي التي سجلتها أثناء حواري معه تُبيِّن أنه استخدم — ما يبدو لي — عبارات حيَّة، للتعبير عن إحساسه بالموضوعية، التي لم يسعني، لسبب ما، تسجيلها كتابة. ويبدو لي أنه يجدر بنا اقتباس هذه العبارات. لقد قال إنَّه شعر أثناء تجربته أنه كما لو كان «ينظر من ثقب الباب» إلى «الحقيقة الباطنية للأشياء»، ورآها كما لا بد أن يراها أي إنسان استيقظ من «النوم أو من الثبات الانتقالي» في حياتنا اليومية.
روايته المكتوبة، تسير في جانب منها على النحو الآتي:

«تطل الحجرة التي كنتُ أقف فيها على الفناء الخلفي لمنزل أحد الزنوج. كانت المباني متداعية وقبيحة، والأرض مغطاة بألواح مِن الكرتون، والأسمال البالية، والنفايات. وفجأة اتخذ كل شيء في مجال الرؤية ضربًا مِن الوجود المكثف المثير، حتى بدا أنه قد أصبح لكل شيء «جانب داخلي» يوجد على نحو ما أوجد أنا، بجانب باطني، ضرْب مِن الحياة الفردية، وبدا كلُّ شيء أراه مِن هذه الزاوية جميلًا بدرجة متزايدة. كانت هناك قطة ترفع رأسها إلى أعلى، تُراقِب بلا مجهود دبُّورًا يُحلِّق بلا حركة، فوق رأسها تمامًا. كان كل شيء يلح على الحياة … التي كانت واحدة، في القطة، والدبور، والزجاجات المحطَّمة، لكنَّها تجلَّت على نحو مختلف في هؤلاء الأفراد (الذين لم يكفوا رغم ذلك عن أن يكونوا أفرادًا) وبدت جميع الأشياء يغمرها النور الذي انبثق من داخلها.»

سوف أقطع رواية «ن. م» عند هذه النقطة، لكني سوف ألخص بقية الرواية بعد أن أسوق بعض التعليقات. لقد نسي «ن. م» أن يروي شيئًا ذكره لي أثناء روايته الشفهية أثناء حواره معي، وهي أنه ليس فقط أن تلك الأشياء الخارجية بدت كما لو كانت تُشارك في حياة واحدة، بل إن هذه الحياة كانت أيضًا تتحد في هوية واحد مع الحياة التي يحياها هو نفسه. وتلك نقطة هامة تُلقي الضوء على تجاوز التفرقة بين الذات والموضوع. وهذا الاتحاد مع حياة الأشياء جميعًا، ومع الله، هو الذي كثيرًا ما عبَّر عنه متصوِّفة آخرون بهذه العبارة أو تلك. ويزعمون أنهم مروا بتجربته، ولا يتعارض ذلك مع ما يؤكده «ن. م» من أنه كان يحتفظ أيضًا بإحساسه بالانفصال؛ فالعلاقة بين الذات والموضوع لا هي هوية بسيطة، ولا هي اختلاف بسيط، وإنَّما هي: الهوية في الاختلاف.

ويبدو لي مُهمًّا أيضًا ما ذكره «ن. م» من أنه كان لكل شيء «باطنه» أو جانبه الداخلي أو ذاتيته الخاصة. قارن ذلك بعبارة «بوهيمي» التي يقول فيها إنَّه كان: «يُحملق في قلب الأشياء: العشب والحشائش …» وكذلك أنه «رأى ماهيتها.»

إن التجربة التي تقول إن جميع الأشياء تظهر أو تمتلك حياة واحدة، على حين أنها في الوقت ذاته «لا تكف عن أن تكون أفرادًا»؛ هذه التجربة بالغة الأهمية؛ فهي ماهية النوع الانبساطي من التجربة، الذي عبَّر عنه «إيكهارت» بعبارات مثل «جميع الأشياء واحدة».

علينا الآن أن نُلخِّص رواية «ن. م» على النحو التالي:

«مررتُ بتجربة يقين كامل، وهي أنَّني رأيت الأشياء في تلك اللحظة على نحو ما هي عليه حقًّا، وأحزنني كثيرًا إدراكي للموقف الحقيقي للموجودات البشرية التي تعيش باستمرار وسط هذه الأشياء دون أن تعيها. ملأتْ هذه الفكرة نفسي، فبكيت، لكني بكيت على الأشياء نفسها التي لم نرها أبدًا، وجعلناها قبيحة من جهلنا. ورأيتُ أنَّ كل قبح هو جرح للحياة. وأصبحت على وعي بأنَّ أيًّا ما كان يحدث فقد توقَّف الآن عن الحدوث. وبدأت أشعر بالزمن مرة أخرى. وكان الانطباع بدخول الزمان مميزًا، حتى إنَّني عندما خطوت من الهواء إلى الماء، انتقلت من عنصر رفيع إلى عنصر غليظ.» عند هذا الحد تنتهي رواية «ن. م» عن تجربته الفعلية، على الرغم من أنه استمر ليُقدِّم لنا بعض الملاحظات عن تأويلها، سوف أقتبسها. لقد وجدتُ في الملاحظات التي دوَّنتها أثناء حواري معه أنه قال في إحدى النقاط: «لقد بدا الزمن والحركة وقد تلاشا، حتى إنه كان لديَّ شعور باللازمان وبالأزل.» ويبدو أن هذه العبارة توضح بعض الأشياء في روايته المكتوبة. وهناك ملاحظة مثيرة عن الدبور الذي «يُحلِّق بلا حركة». إن التجربة لا زمان لها، ومع ذلك، فلا بد أن يكون هناك زمان بطريقة ما، ما دمنا نلاحظ حركة تحليق. كما أنه يتذكَّر أثناء التجربة أنه خارجها وقبلها فشل في لحظة من الزمان، هو وغيره من الموجودات البشرية، في رؤية الأشياء «على نحو ما هي عليه في حقيقتها». وليس في استطاعة المرء أن يُفسِّر هذه المفارقة، لكنَّها ربما توحي بأنَّ أساس التجربة التي مرَّت بها تلك الفلسفات، مثل فلسفة برادلي، الذي أعلن أن المطلق بلا زمان، وأنَّ الزمان مع ذلك «قد انكمش فيه»، وأنه كان يوجد هنا لا «بما هو كذلك»، بل وقد تغيَّر شكله. فما يتحرك هو رغم ذلك ساكن، وبلا حركة. وربما كان ذلك أيضًا هو أساس تجربة تلك الأفكار التي تتحدَّث عن «المسار الأزلي»، و«الإبداع اللازماني»، التي نصادفها مرارًا في الكتابات الدينية، فالله يفعل ويخلق دون أن يتغيَّر ويتحرك، مثل الدبوُّر الذي «يُحلِّق دون أن يتحرَّك». والحالة التافهة أو المتواضعة جدًّا للدبور يُمكن أن توضِّح المفاهيم الكونية العظيمة.

ويلاحظ «ن. م» التفرقة بين وصف التجربة ذاتها وتأويلاته التالية لها، بأن يُفسِّر تأملاته بعد ذلك. والتأويلات التي قدَّمها هامة، وسوف أقتبس بعضًا منها:

«كانت أفكاري المباشرة عن التجربة عند النافذة على النحو التالي: لقد رأيتُ كم كان عبثًا مُحالًا أن أتوقَّع أن أرى الله. أعني أن أفكاري عمَّا تكون هذه الرؤية لا بد أن تكون كامنةً فيه؛ لأنه لم يكن عندي شك، في أنِّي رأيت الله، وأنَّني رأيت كل ما يُمكن رؤيته. ومع ذلك فقد تحوَّل وأصبح العالم الذي أراه كل يوم … وينبغي عليَّ أن أقول إنَّني لا بد أن أنظر إلى تجربتي على أنها «دينية»، الأمر الذي لا أُطيقه، مهما كان الدين منظمًا، إنَّني لم أكن أنظر إلى تجربتي على أنها تستمد دعمها من أيَّة عقيدة، بل على العكس، كنتُ أنظر إلى الدين المنظم على أنه بطبيعته عدو لروح التصوف.»

لن يندهش المثقفون عمومًا إذا قيل لهم إن أحدًا منَّا حاول أن يُعاين الله حقًّا؛ فإن الوجود الذي نعيش فيه، سوف يتحوَّل إلى شيء لا يُشبه أبدًا ما تجعلنا التصوُّرات اللاهوتية والشعبية أن نتوقَّعه. ومن المشكوك فيه ما إذا كان ينبغي علينا أن نُواصل استخدام كلمة الله، ما دامت هذه الكلمة، فيما يبدو قد استولى عليها اللاهوتيون والوعَّاظ للتعبير عن أفكارهم، فإذا ما رأى الإنسان الله على نحو ما هو عليه فعلًا، فربما نظر إلى تلك الأفكار على أنها حكايات خرافية أو خرافات. لذلك فعندما يقول «ن. م» إنَّه رأى الله، فلا ينبغي أن تُفهم الكلمة بمعناها التقليدي؛ لقد رأى العالم نفسه على أنه إلهي، ومن ثَم فقد تحدَّث عنه من منظور وحدة الوجود، أو عن العنصر الإلهي فيه، على أنه الله، وكان الإقرار بذلك واضحًا بإشارته الصريحة إلى وحدة الوجود في الفقرة التي سوف نقتبسها بعد ذلك.

إن نظرة «ن. م» المعاصرة، وتفرقته الواضحة بين التجربة وتأويلها، تُساعدنا في فهم العلاقات بين التصوف والأديان التقليدية المختلفة. فالتجربة الصوفية، في جميع الثقافات، يؤوِّلها، عادة، الذين مرُّوا بها، من منظور عقائدهم التي تُشكِّل مجموعة معتقداتهم السابقة؛ فالمتصوِّف المسيحي الساذج يقبل ببساطة، وبلا نقد أو تمحيص، الفكرة التي تقول إن التجربة التي مرَّ بها هي «الاتحاد بالله»، أعني بالله على نحو ما تتصوُّره كنيسته من الناحية التقليدية. أمَّا إيكهارت، وهو المُتصوِّف المسيحي الأكثر ثقافة، فإنَّه يؤوِّل التجربة ذاتها على أنها الوحدة التي لا تمايُز فيها للألوهية قبل أن تُمايز نفسها في ثلاثة أشخاص في الثالوث، والمتصوِّف الهندوسي يؤوِّل تجربته على أنها الاتحاد مع براهمان، أو ربما مع الإلهة «كالي»، والمتصوِّف البوذي يؤوِّل تجربته بألفاظ غير لاهوتية تمامًا، بحيث يكون العقل الغربي عُرضة لأن يضع له لقب «الملحد»، لكن ربما كان من الممكن بالنسبة للعقل المعاصر، الذي تمرَّس في الفلسفة، مثل عقل «ن. م»، أن يُدرك أنَّ جميع هذه التأويلات قد تنطوي عليها التجربة لتُحرِّرها من قشورها؛ قشور العقائد التقليدية. ولكي تعرضها عليه — وعلينا — كتجربة غير مُؤوَّلة تمامًا بقدر المستطاع. وهذا ما لا يُمكن لنا أبدًا أن نتوقَّعه حتى من المتصوِّفة العظام في العصور الوسطى. ومن هنا كانت شهادة مُعاصرينا الذين مروا بمجالات التصوف لها قيمتها الخاصة بالنسبة لبحثنا الحالي.

سوف تكون هناك اقتباسات أخرى من الأفكار التأويلية لتجربة «ن. م». لقد ضغطت عليه لكي أعرف منه ما الذي يعنيه بقوله — في حوارنا — إنَّه كان يشعر قبل التجربة أن حياته «لا معنى لها»، لكنَّها الآن بعد التجربة أصبح لها «معنى». فما هو المعنى الذي يستخدم فيه كلمة «المعنى»؟ هل أصبح الآن بعد التجربة مقتنعًا أن هناك «غرضًا» من الوجود لم يكن يراه من قبل؟ هل أصبح الآن بعد التجربة مقتنعًا بأنَّ هناك خطة كونية معينة تتوافق مع الخطة التي يُحاول المرء أن يسير عليها في حياته؟ فيما يلي إجابته المدونة:

«أعتقد أنَّي قلتُ لك إن حياتي كانت ذات مرة بغير معنًى، وإنَّها الآن لها معنى، وسوف يُساء فهم حديثي لو أنه فُسِّر على أن للحياة البشرية غرضًا، وأنَّني الآن أعرف ما هو الغرض، بل على العكس، أنا لا أعتقد أن للحياة أي غرض على الإطلاق، فكما قال «بليك Blacke»:٤٦ «الحياة كلها مقدَّسة» وهذا كافٍ؛ إذ الرغبة في المزيد تبدو لي نهمًا روحيًّا محضًا، فيكفي أن تكون الأشياء موجودة؛ فالإنسان الذي لا يقنع بما هو موجود، لا يعرف ببساطة ما هو موجود. وهذا هو كل ما تعنيه وحدة الوجود، ما لم تزخرفها النظرية الفلسفية، وربما كان من الأفضل ألَّا أتحدَّث عن المعنى على الإطلاق، وإنَّما أن نقول إن هناك شعورًا بالفراغ، عندئذٍ فإن المرء يرى، وعندئذ يوجد الملاء.»
مرة أخرى، ليس ثمة أحد مُجبر على قبول التأويل الخاص ﻟ «ن. م»، على الرغم من أنَّني أعتقد أن المرء مضطر للنظر إلى الأوصاف التي ذكرها في تجربته كواقعة سيكولوجية. ومن الواضح أيضًا أن مثل هذه التجربة — رغم أنها مؤقتة — يُمكن أن تشرق بسعادة، وسلام، ورضا على الحياة؛ دائم ومستمر، لِما كان قبل ذلك ظلام ويأس. ويبدو من المحتمل أيضًا أن الوعي الصوفي لا يصلح أن يكون أساسًا نُقيِّم عليه وجهة نظر غائية عن العالم، وإذا ما أُريد لهذه الوجهة من النظر أن تتدعم فلا بد أن يكون ذلك بناءً على أساس آخر، مثل اقتراح «ن. م» القائل بأن مَن يعرف ما هو موجود حقًّا سوف يكتفي تمامًا بما هو موجود، وسوف يضرب ذلك بالطبع في حجة قديمة للاهوتيين والأخلاقيين تقول إن وحدة الوجود لا تُفرِّق بين الخير والشر. أو بعبارة أخرى فإن عليها أن تُنكر أن الشر موجود «حقًّا»، ما دامت تنظر إلى كل ما هو موجود على أنه خير وإلهي. لكن من المشكوك فيه أن يستطيع مذهب التأليه إلقاء ضوء أفضل على مشكلة الشر أكثر مِمَّا يفعل مذهب وحدة الوجود. وسوف نُناقِش هذا الموضوع في فصل قادم. وعلينا الآن أن نكتفي بالإشارة إلى ما إذا كانت صعوبات من النوع الذي تُثيره وجهة النظر التي عرضها «ن. م» قد شعر بها كثير من المتصوِّفة في جميع العصور، وهي التي يُمكن أن يُعبِّروا عنها بعبارات يُفهم منها أن المرء إذا ما عرف ما هو موجود حقًّا، فسوف يرى أن كل ما هو موجود خير وإلهي.
إنَّنا نجد في حديث «ن. م» الخصائص الأربع نفسها التي ينطوي عليها التصوف الانبساطي، والتي لاحظناها من قبل: الواحدية المطلقة لجميع الأشياء، الإحساس بالموضوعية، النغمة المؤثرة للغبطة والمتعة أو السعادة، الانطواء على المفارقة، لكن مع بعض التعديلات. فالوحدة المطلقة تتسم هنا لا بأنها واحدية مجردة محضة، بل بطريقة أكثر عينية على أنها حياة. وعنصر المفارقة مختلف أيضًا بطريقة ما؛ فالنص الذي اقتبسناه من «إيكهارت» يتحدَّث عن هوية المختلفات؛ كالأشجار والأحجار … إلخ. ﻓ «أ» متحدة مع «ب»، لكنَّها مختلفة عنها في آنٍ معًا، وتلك مفارقة صريحة. أمَّا عبارة «ن. م» التي تقول إن الحياة الواحدة تتجلى في كثرة من الأفراد، فهي تنطوي على المفارقة نفسها. وهي — في رأيي — تميل إلى التخفي، باستخدام كلمة التجلي المجازية. وعندما سألت «ن. م» نفسه عن ذلك، لم يكن يُدرِك — فيما يبدو — ما في العبارة من مفارقة. غير أن المفارقة برزت بوضوح، بخصوص الزمان والحركة؛ الحاضرين وغير الحاضرين في وقت واحد في التجربة.
إن النموذج التالي الذي سأُقدِّمه مأخوذ من المتصوِّف الهندوسي الشهير في القرن التاسع عشر، وهو «سري راماكريشنا»، فقد كان في وقت من الأوقات يعمل كاهنًا في معبد الأم الإلهة «كالي». وقد سبَّبت أعماله غير المألوفة كثيرًا من الحرج لسلطات المعبد؛ فذات مرة أطعم قطة طعامًا كان مخصصًا لكي يُقدَّم قربًا لتمثال الإلهة. ودافع عن نفسه بقوله:
«لقد انكشفت لي الأم الإلهة هناك … فأصبحت هي كل شيء … وأصبح كل شيء ممتلئًا بالوعي؛ فكان التمثال واعيًا، وكان المذبح واعيًا، حتى الأبواب كانت واعية … ووجدت كل شيء في الغرفة يشع، كما لو كان في غبطة؛ غبطة الإله … هذا هو السبب الذي جعلني أطعم القطة ذلك الطعام الذي كان عليَّ أن أُقدِّمه للأم الإلهة. لقد أدركتُ بوضوح أن ذلك كله كان الأم الإلهة، حتى القطة …»٤٧

وينبغي أن لا تعمينا غرابة أطوار «راماكريشنا» عن أصالة حالاته الصوفية التي يُمكن أن نتعلَّم منها الشيء الكثير، ولسنا بحاجة إلى تعليق طويل على الفقرة المقتبسة، فعلى الرغم من غرابة أطوارها وكلماتها، فإن التجربة الموصوفة هي في جوهرها من نوع التجربة التي وصفها «ن. م»؛ فجميع الأشياء المادية في نظر المتصوِّف الهندوسي قد أصبحت متحدة مع الإلهة «كالي»، ومع بعضها البعض. وتلك ذاتية باطنية واحدة في جميع الأشياء، تحدَّث عنها «ن. م» على أنها «حياة»، وهي قد أصبحت الآن وعيًا عند «راماكريشنا». ولسنا بحاجة إلى الإشارة إلى أيَّة اختلافات بين مفهوم الحياة ومفهوم الوعي؛ فلا يُمكن أن نتوقَّع هنا دقة كبيرة في المقولات، وخصوصًا عند شخص لا يُمكن التنبؤ بسلوكه، مثل «راماكريشنا».

ويُمكن أن نتحوَّل بعد ذلك إلى حالة «أفلوطين»، معظم الفقرات التي يُمكن أن نتعرف عليها فيها، بوصفها تصف حالات صوفية، تُشير إلى النوع الانطوائي من التجربة الصوفية، غير أن «رودلف أوتو» يقترح النص التالي كنموذج للتجربة الانبساطية:
«لقد رأوا الكل، لكن ليس في حالة صيرورة، بل في حالة وجود، ورأوا أنفسهم في الآخر؛ فكل موجود يحتوي بداخل ذاته العالم المعقول كله. وبناءً على ذلك أصبح الكل في كل مكان، وأصبح كل واحد هو الكل، والكل هو كل واحد.»٤٨

ويُعطينا ذلك مفارقة الهوية الجوهرية والواحدية لجميع الأشياء، وهي تتضمَّن الإحساس بالموضوعية، لكنَّها لا تذكر العنصر الانفعالي أو الذاتية الداخلية للواحدية.

سوف أقتبس في النهاية وصف «ر. م. بك» لتجربته التي مرَّ بها ذات مرة فحسب، ثم لم تتكرَّر بعد ذلك أبدًا، لكنَّها تحمل معها اقتناعًا غامرًا بواقعيتها الموضوعية، وشعورًا عاليًا بالغبطة، لدرجة أن ذكراها كانت كافية لإعادة توجيه حياته وفكره. وكانت هذه الومضة السريعة للوعي الكوني هي التي جعلته يجمع ويدرس، بصبر وأناة، جميع التسجيلات والتدوينات التي وجدها لآخرين ممن كانت لهم تجارب مماثلة، وأن يتأمَّلها ثم ينشر ما وصل إليه من نتائج بصددها في كتابه. وفيما يلي وصفه:
«قضيتُ المساء في مدينة كبيرة مع صديقين نقرأ ونتناقش في الشعر والفلسفة. وعدتُ إلى مسكني في عربة ذات عجلتين وحصان واحد، وقدتُ العربة في طريق طويل. كان ذهني هادئًا وساكنًا، ثم فجأة، وبلا أدنى إنذار سابق، وجدتُ نفسي ملفوفًا في سحابة بلون اللهب، ظننتها للحظة نارًا … وفي مكان ما، من تلك المدينة الكبيرة، عرفتُ فيما بعد أن النار كانت بداخلي أنا، ثم غمرني بعد ذلك مباشرة إحساس بالسمو والرفعة، وغبطة لا حدَّ لها، تبعها، أو صاحبها مباشرة، إشراق عقلي يستحيل وصفه. ولم أصل إلى مجرد الاعتقاد — من بين أشياء أخرى — لكني رأيت أن الكون يتألَّف لا من مادة ميتة، بل على العكس، من حضور حي. وأصبحت بداخلي على وعي بالحياة الأزلية. ورأيت أن النظام الكوني قد أصبح — بلا أدنى شك — كل شيء فيه يعمل معًا من أجل خير كل واحد، ومن أجل خير الكل. وأن أساس العالم … هو … الحب. واستغرقت الرؤية بضع ثواني، ثم اختفت، لكن ذكراها والإحساس بالحقيقة التي خلَّفتها بقيا خلال ربع قرن منذ انقضائها. وعرفتُ أن ما أظهرته الرؤية كان حقًّا … ولم أفقد هذا الاقتناع أبدًا …»٤٩

وسوف يُدرك القارئ بسهولة أوجه الشبه والاختلاف بين وصف «بك» والستة الآخرين. والكشف الجوهري هنا هو أن الكون ليس خليطًا أعمى من الأشياء الميتة، وإنَّما كل شيء حي. وذلك أيضًا هو جوهر تجربة «ن. م»؛ فالتأكيد المركزي لكل تجربة انبساطية الذي يقول «الكل … واحد»، لم يؤكِّده «بك» على نحو مباشر. وإنَّما هو متضمَّن في قوله إن العالم ليس كثرة من الموجودات الحية، وإنَّما هو «حضور حي» واحد.

نحن الآن في وضع يُمكِّننا من إعداد قائمة مشتركة للحالات الصوفية الانبساطية على نحو ما تظهر في النماذج السبعة الممثلة له والتي اخترناها من أحقاب، وبلدان، وثقافات مختلفة، وهي:
  • (١)

    الرؤية الموحِّدة التي تُعبِّر عنها الصيغة المجردة «الكل واحد». ويُدرك الواحد في التجربة الانبساطية من خلال الإحساس الفيزيائي في — أو من خلال — كثرة الموضوعات.

  • (٢)

    الإدراك الأكثر عينية للواحد بوصفه الذاتية الباطنية لكل شيء، كثيرًا ما توصف بكلمات مختلفة، مثل: الحياة أو الحضور الحي. اكتشاف أن لا شيء هو «حقيقة» ميت.

  • (٣)

    الإحساس بالموضوعية أو الواقعية.

  • (٤)

    الشعور بالغبطة، والنشوة، والسعادة، والرضا … إلخ.

  • (٥)

    الشعور بأنَّ ما أدركه مقدس أو ديني أو إلهي، وتلك هي الخاصية التي تؤدي إلى ظهور تأويل للتجربة بأنها مع «الله»؛ فهناك بصفة خاصة عنصر ديني في هذه التجربة؛ فهي يُمكن أن تُجدل بقوة مع — لكنَّها لا تتَّحد مع — قائمة الخصائص السابقة من الغبطة، والنشوة، لكنَّها لا تتَّحد معها.

  • (٦)

    الانطواء على المفارقة.

    ويُمكن أن نذكر خاصية أخرى، مع بعض التحفظات، وهي:

  • (٧)

    يزعم المتصوِّفة أنها تجربة لا يُمكن أن توصف أو يُعبَّر عنها في كلمات … إلخ.

ونحن لم نستخرج هذه الخصائص كلها من تحليلنا للحالات التي عرضناها كعينة، وإنَّما هي ما يؤكِّده المتصوِّفة على نحو كلي عام. ويتحدَّث «بك» عن تجربته على أنها «يستحيل أن توصف». وعبارات مثل «لا يُمكن التعبير عنها»، و«لا يُمكن التفوه بها»، «تُجاوز كل تعبير» طغت على كتابات المتصوِّفة في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، كما هو واضح، فقد حدث أن وصفوا بالعقل تجاربهم في كلمات، فما يقصدونه باستحالة الوصف المزعومة ليس واضحًا في الوقت الحاضر. هناك صعوبة حول لغة الحديث، لكن ما هي؟ نحن لا نعرف حتى الآن، وسوف نبحث هذه المشكلة في فصل جعلنا عنوانه «التصوف والمنطق». ولهذا السبب تمَّ إدراج صفة «يفوق الوصف» أو «لا يُمكن وصفه»، ضمن الخصائص المشتركة، كما فعل وليم جيمس وآخرون. لقد أدرجتُ فحسب ما زعم المتصوِّفة أنه «لا يوصف».

ولا تظهر جميع الخصائص في قائمة كل حالة من الحالات السبع التي ذكرناها، وسيكون من العبث أن نتوقَّع ذلك. فلم يكن في ذهن الكُتَّاب العقلية التحليلية النسقية للفيلسوف الشغوفة بالقوائم التامة الكاملة. فكتبوا انطلاقًا من دوافع أخرى غير تلك الدوافع التي تُثير المثقف والعالِم! فلا شك أنهم دوَّنوا ما اعتقدوا أنه ضروري للحالة التي يدرسونها، فمثلًا معظم أقوال «إيكهارت» تحوَّلت إلى عظات في الكنائس، وليس إلى الأساتذة والطلَّاب في قاعات الدرس. وأي قارئ ينظر إلى النص الذي اقتبسناه في بداية هذا القسم يُمكن أن يرى، أنه على الرغم من أنه لم يذكر الإحساس بالموضوعية، فقد سلَّم بأنه سيفهم ضمنًا أنه يتحدَّث عن شيء موضوعي وحقيقي، وليس عن حلم ذاتي. وفضلًا عن ذلك فسوف يؤكِّد متصوفون مختلفون في نظراتهم ومزاجهم الفردي جوانب مختلفة من التجربة. ومن هنا فمن المحتمل أن يُلاحظ مُتصوِّف مثقف مثل «إيكهارت» أن تجربته وفكره ينطويان على مفارقة، وقد يُعبِّر عن نفسه، عن عمد، في لغة تنطوي على مفارقة، لكن أيًّا ما كانت التناقضات الموجودة في ذهن غير نقدي، مثل ذهن القديسة تريزا، فليس من المحتمل أن تدركها أو أن تُعبِّر عنها. ومن ناحية أخرى، فمن الواضح أن كثافة الشعور بالموضوعية وشدته يختلف اختلافًا كبيرًا من مُتصوِّف إلى آخر، لكنَّه موجود في جميع الحالات، وإن كان في بعضها يبدو مسألة طبيعية، على نحو ما نرى الأشياء التي ندركها عادة بالعين بعد أن نستيقظ على أنها موضوعية. وفي حالات أخرى، مثل حالة «بك»، يكون الشعور بواقع الرؤية وحقيقتها عارمًا، حتى إنه يتم تأكيده بقوة، بوصفه اليقين المطلق الذي لا يتزعزع.

وربما أنهينا هذا القسم بملاحظة حول ما يُسمَّى أحيانًا ﺑ «تصوُّف الطبيعة»؛ فمن الخطأ أن نفترض أن هذه العبارة تعني نوعًا آخر من المتصوِّف، يتميَّز عن النوعين اللذين تعرَّفنا عليهما بالفعل. فإمَّا أن يكون هذا النوع هو نفسه التصوف الانبساطي، أو أن يكون شعورًا مبهمًا، وحسًّا غامضًا «بالحضور» في الطبيعة، لا يرقى إلى مستوى التجربة الصوفية المتطورة، وإنَّما هو نوع من الحساسية، نحو التصوف يملكها كثير من الناس ممن ليسوا متصوِّفة بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد كتب «وردزورث»٥٠ أبياتًا شهيرة يتحدَّث فيها عن:
«إحساس جليل،
بشيء يتغلغل بعمق نافد،
مسكنه بين الشموس المحيطة،
وفي المحيط الهادر، والهواء الحي،
وفي السماء الزرقاء، وفي ذهن الإنسان،
حركة، وروح تدفع،
جميع الموجودات المفكرة، وموضوعات الفكر كلها،
وتنتشر في جميع الأشياء …»

ومن الواضح أن هذه الأبيات تُعبِّر عن شيء هو نفسه، أساسًا، ما يُنبئنا المتصوِّفة الانبساطيون أنهم مروا بتجربة. ولكن من المرجح أن «وردزورث» لم يمر أبدًا بتجربة محددة، كتلك التجارب التي أشرنا إليها في هذا القسم. ومن الممكن شرح هذه القصيدة دون أن نفترض أنه مرَّ بمثل هذه التجربة؛ فقد انتقلت الأفكار الصوفية من المتصوِّفة إلى المجرى العام للأفكار في التاريخ والأدب، ويُمكن للأفراد الحساسين من البشر اكتسابها، والشعور بالتعاطف معها، وفي استطاعتهم في حضور الطبيعة، أن يشعروا في أنفسهم بذلك اللون من المشاعر التي يُعبِّر عنها هنا «وردزورث». فهناك ارتباطات خفية بين التصوف والجمال (سواء أكان في الشعر أم في أشكال الفن الأخرى)، وهي الآن ارتباطات غامضة وبغير تفسير.

سادسًا: حالات على الحدود

حاولتُ في القسم السابق أن أشرح بالتفصيل خصائص معينة من «التجربة الصوفية الانبساطية»، لكن هناك حالات كثيرة تقع على الحدود، أعني أنها حالات تظهر فيها بعض الخصائص لا كلها، والتي يُمكن أن تشمل مظاهر يُعدُّ «غيابها» خاصية للحالات النموذجية، وهي تُمثِّل تشابه العائلة، مع الحالات النموذجية. ونحن كثيرًا ما ينتابنا الشك، فيما إذا كان من الممكن تطبيق كلمة «التصوف» عليها أم لا. وليست هناك، بالطبع، قاعدة مطلقة لذلك؛ ففيما يتعلَّق بالكلمات الشائع استخدامها، تكون القاعدة هي «الاستخدام الشائع»، غير أن هناك شكًّا فيما إذا كان هناك بالفعل مثل هذا الاستخدام الشائع. ومن ثَم كانت المسألة، إلى حد ما، هي مسألة حكم فردي نطلقه أحيانًا على نحو دقيق، وأحيانًا أخرى على نحو فضفاض. ومن المحتمل جدًّا أن النوعَين من حالات الحدود اللذين سوف أقتبسهما؛ أن نجد من الملائم أن نُطلق عليهما اسم حالات صوفية. ولكنَّهما على كل حال ليستا حالات نموذجية، وإن كنت أنا نفسي أُفضِّل استخدام الاصطلاح الأكثر دقة.
الحالة الأولى التي سجَّلها الشاعر البريطاني «جون مايسفيلد»٥١ عندما ذكر أنه في مرحلة من مراحل حياته شعر باليأس من أعماله الإبداعية، فقد بدا أن نبع إلهاماته قد جفَّ، وكانت روحه خاملة، كما أنه لا يستطيع أن يُقدِّم شيئًا ذا قيمة. وهو يروي أنه ذات يوم وهو يتنزه في الريف:
«قلت لنفسي «سوف أكتب الآن قصيدة عن وغد اهتدى.» وفي لمحة خاطفة ظهرت أمامي القصيدة في شكلها الكامل بكل تفصيلاتها المميَّزة، [وعندما عاد إلى منزله من نزهته، لم يفعل شيئًا سوى تدوين القصيدة فحسب] وانسكبت الأبيات الافتتاحية للقصيدة على الورق، فأسرعتُ — قدر استطاعتي — إلى تدوينها.»٥٢

من الواضح أن ذلك، أو ما يُشبه ذلك، ليس تجربة معزولة مرَّ بها «مايسفيلد» أكثر من مرة؛ لأنه في صفحة بعد ذلك يُناقش فيها طبيعة الإلهام الشعري يقول عن تجربته:

«هذا الإشراق هو تجربة مكثفة، بلغت من الروعة حدًّا يجعل من الصعب وصفها، وأثناء حدوثها اندمجت المشكلة المؤقتة في إدراك واضح يُثير الدوار في العمل كله بكل تفصيلاته. والكاتب في لحظة من لحظات الوجد النفسي … يُدرِك أنه عبارة ثابتة لا تتغيَّر …»٥٣
ثم يعلِّق بعد ذلك قائلًا «بالطبع فإن كثيرًا من الكُتَّاب سوف يعتبرون مثل هذه التجارب ذاتية، لكن شعراء آخرين، ممن يتحدَّث إليهم، سوف يتفقون معه على «أنه إدراك لحقيقة أخلاقية لا تموت … أتت منها كل ألوان الخير، والجمال، والحكمة، والاستقامة، إلى الإنسان»، وهذه الأخيرة، هي، يقينًا، التفسير بالنسبة لي. إن هذا الكون: كون المجد والنشاط موجود وفي استطاعة الإنسان بطريقة ما غريبة أن يدخل فيه وأن يُشارك في طبيعته.»٥٤
والخصائص التي تجعل هذه التجربة تشبه التجربة الصوفية الانبساطية هي، على نحو ما تبدو للشاعر، أنها «لا يُمكن وصفها»، وهي تأتي كما تأتي التجربة المباشرة، وهي تنصهر مع الانفعال والإدراك، وهي لحظة «وجد نفسي»، وأنها تحمل، بالنسبة لمايسفيلد، إحساسًا بالموضوعية جعله يشعر أنه على يقين أنها انكشاف لحقيقة «لا تموت»، هي منبع كل القيم الروحية. والمظاهر التي تجعلها من الوعي الصوفي النموذجي أنها تخلو تمامًا من لمسة الإحساس بوحدة الأشياء كلها؛ «فالرؤية الموحِّدة» التي ذكرتُها من قبل ليست فقط إحدى خصائص التجارب الصوفية كلها، وإنَّما هي الخاصية الجوهرية المحورية للتجربة الصوفية. ولا يُمكن أن نقول في هذه الحالة إنَّها لم تُذكر فحسب؛ فهو يؤكِّد أن ما كان أمامه أثناء الرؤية هو صورة متميِّزة تمامًا لكثرة من التفصيلات غير المتحدة، ربما أحرف الصفحة المطبوعة. وفضلًا عن ذلك فقد كان لهذه التجربة طبيعة الصورة الذهنية أو الرؤية. ولقد سبق أن اشترطنا حذف الصور الذهنية (وكذلك الأصوات) من التجربة الصوفية. صحيحٌ أن التجارب الانبساطية تتضمَّن إحساسات فيزيائية، لكنَّها لا تتضمَّن صورًا، في حين أن التجارب الانطوائية لا تتضمَّن إحساسات ولا صورًا على نحو ما سنرى فيما بعد. ولا شك أن للتجارب الشعرية والجمالية — كما لاحظنا — بعض الارتباطات الغامضة بالتصوف، غير أن ذلك لا يعني أنها هي نفسها صوفية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة.
الحالة الأخرى التي تقع على الحدود، والتي سوف أقتبسها، روتها «مارجريت بسكوت مونتاجيو»، في مقال لها بعنوان «عشرون دقيقة مع الحقيقة».٥٥ كانت الآنسة «مونتاجيو» تقضي فترة النقاهة في أحد المستشفيات بعد عملية جراحية، وانتقل سريرها لأول مرة بجوار الشرفة، ومن هناك نظرت فرأت منظرًا من مناظر الشتاء الكالحة الأغصان «عارية وبلا لون»، وأكوام الثلج نصف المذابة، رمادية يائسة وليست بيضاء، وتستمر في روايتها فتقول:
«على غير المتوقع تمامًا (لأنَّني لم أكن أحلم أبدًا بهذا الشيء) فتحت عيناي، ولأول مرة في حياتي أدركت لمحة من جمال الوجد بالحقيقة … إن نشوتها، وجمالها، وأهميتها لا يُمكن أن توصف … لم أرَ شيئًا جديدًا، لكني رأيت الأشياء المعتادة كلها في نور جديد مُعجِز، وهو ما أعتقد أنه نورها الحقيقي … رأيتُ … كم كانت الحياة كلها جميلة وممتعة على نحو مفرط، مما تعجز كلماتي عن وصفه. كل موجود بشري يسير عبر هذه الشرفة، كل عصفور يطير، وكل غصن يتمايل مع النسيم، قد أصبح جزءًا من كلٍّ مُعلَّقًا به، الوجد المجنون للحب، وللمتعة، وللأهمية، ولنشوة الحياة … رأيت الحب الفعلي الذي كان هناك باستمرار … وذاب قلبي في صدري من نشوة الحب والبهجة … وذات مرة بعيدًا عن أيام حياتي الجافة، نظرت إلى قلب الواقع الحقيقي، وشاهدت الحقيقة …»٥٦
هناك إحساس قوي بالموضوعية في هذه التجربة، واقتناع عميق بأنها أبصرت «قلب الواقع الحقيقي». وتؤكِّد الرواية جمال وقيمة وغبطة الواقع، كما تؤكِّد تجربة الكاتبة. وقد بدت لها التجربة «لا توصف» بمعنًى ما من معاني الكلمة؛ «فكلماتي تعجز عن وصفها»، رغم أن هذه العبارة قد تعني أنها هي شخصيًّا ليس عندها فن الكتابة لوصفها، وليس أن التجربة ذاتها لا يُمكن التعبير عنها عن طريق اللغة، على نحو ما يؤكِّد الصوفية عادةً. وتختلف هذه التجربة عن تجربة «مايسفيلد»، من حيث إنها لا تتألَّف من صور ذهنية، لكنَّها جاءت كتغيير في شكل الإدراك الحسي، مما يجعلها تقترب جدًّا من تجربة الوعي الصوفي الانبساطي النموذجي، أكثر من تجربة «مايسفيلد». ويكمن اختلافها الرئيسي مع الحالات النموذجية في أنها لا تكشف عن أنها «رؤية مُوحِّدة» ترى أن «الكل واحد»، وليس لديها إدراك للذاتية الباطنية — سواء أكانت الحياة أو الوعي — في أشياء «ميتة» أو غير عضوية، وليس لديها إحساس «بالديني» أو «المُقدَّس» أو «الإلهي»، الذي لاحظناه في الحالات النموذجية، وإنَّما لديها فقط إحساس بجمال الخلق ومتعته. وبهذه الطريقة فإنَّها تقترب من التجربة الجمالية أكثر من اقترابها من التجربة الصوفية. ومع ذلك فهي لا تشتمل على مظاهر — كما فعلت تجربة «مايسفيلد» — تتناقض بالفعل مع التجربة الصوفية الصحيحة؛ كاشتمالها، مثلًا، على صور حسِّية. وكل ما يمنعها من أن تكون تجربة انبساطية نموذجية — رغم احتوائها على بعض الملامح المُحدِّدة لهذه الفئة — فإنَّها لم تتضمَّن ملامح أخرى. وربما كان من الأفضل، إذن، تصنيفها على أنها حالة غير مكتملة أو أولية، من حالات التصوف الانبساطي. والكلمة التي استخدمناها ليس لها بالطبع أهمية كبيرة؛ لأن المهم في هذه المناقشة أن نتعرَّف على الوقائع التي أبرزتها، وهي أنه توجد تجارب ليست نموذجية، أو تجارب على الحدود، أيًّا ما كانت الكلمة التي نستخدمها للتعبير عنها.

سابعًا: التصوف الانطوائي

الوقائع السيكولوجية الأساسية للنوع الانطوائي من التجربة الصوفية، كما أكَّدها الصوفية، من السهل جدًّا — من حيث المبدأ — عرضها. وليس ثمة شك أنها في جوهرها واحدة في جميع أنحاء العالم، وفي جميع الثقافات، والديانات، والبلدان، والعصور. وهي وقائع تنطوي على مفارقة غريبة، حتى إنها يُغلِّفُها نبرة الإيمان عندما تنبثق فجأة عند أي إنسان غير مُهيَّأ لها. وسوف أفعل ما في استطاعتي لمناقشة ما تنطوي عليه من صعوبات ومفارقات بطريقة منصفة وشاملة، غير أن أول ما ينبغي أن نُبيِّنه هو الوقائع المزعومة التي يرويها المتصوِّفة أنفسهم بلا تعليق وبغير إصدار حكم عليها.

افرض أن شخصًا استطاع أن يوقف منافذ الحواس الجسدية، حتى إنَّ الإحساسات لم تستطع بلوغ الوعي، سوف يكون ذلك سهلًا في حالة العينين، والأذنين، والأنف، واللسان، لكن على الرغم من أن المرء يستطيع أن يُغلق عينيه وأذنيه، فإنَّه لا يستطيع — بهذا المعنى الحرفي — أن يوقف حاسة اللمس، ولا الإحساسات العضوية. ومع ذلك فهي يُمكن استبعادها من الوعي الصريح؛ فأي لاعب كرة يعرف أن مِن الممكن أن يتلقَّى ضربة قوية، أو ركلة، أو حتى أن تحدث له بعض الجروح الخطيرة، لكنَّه لا يُعبِّر عنها بسبب الإثارة القوية للمباراة، ولأنَّ ذهنه مستغرق تمامًا فيما هو أكثر أهمية عند اللاعب في هذه اللحظة، ألا وهو متابعة المباراة. وبعد ذلك تظهر إلى الوعي آلام الكدمات والجروح الأخرى. ولو أراد أحد أن يقول إنَّه في لحظة الجرح كانت هناك آلام في اللاشعور، فربما كانت تلك طريقة ممكنة في الحديث ينبغي أن نسوق عنها كلمة، لكن المهم، على أيَّة حال، أنه لا يوجد شعور بالألم في حالة الوعي؛ فلا يوجد هنا، فيما يبدو، أي مبرر قبلي Apriori يُفسِّر لنا لماذا لا يستبعد الشخص الذي يستهدف الوصول إلى الحياة الصوفية جميع الإحساسات البدنية من وعيه، عن طريق التركيز والسيطرة الذهنية.
افرض أن المرء بعد أن تخلَّص من جميع الإحساسات واصل السير، فاستبعد من الوعي جميع الصور الحسِّية، وجميع الأفكار المجردة، وعمليات الاستدلال والإرادة، والمحتويات الذهنية الجزئية الأخرى، فما الذي يتبقَّى في الوعي بعد ذلك؟ لن يكون هناك مضمون ذهني أيًّا كان نوعه، بل فراغ وخلاء كامل. ويُمكن للمرء أن يفترض قبليًّا Apriori أن الوعي لا بد أن يختفي تمامًا، كما أن المرء لا بد له أن يخلو إلى النوم، أو يُصبح بغير وعي. غير أن الصوفية من النوع الانطوائي — آلاف منهم في جميع أنحاء العالم — يؤكدون بإجماع أنهم بلغوا تلك الحالة من الفراغ الكامل للمحتويات الذهنية الجزئية، لكن ما حدث بعد ذلك يختلف أتم الاختلاف عن الانزلاق إلى اللاشعور. بل على العكس، إن ما ينبثق هو حالة من الوعي الخالص، وهي «خالصة» بمعنى أنها ليست وعيًا بأي مضمون تجريبي، فليس لها مضمون سوى ذاتها.
وما دامت التجربة ليس لها أي مضمون، فإن المتصوِّفة كثيرًا ما يتحدَّثون عنها على أنها خواء أو عدم، لكن على أنها أيضًا الواحد، وعلى أنها اللامتناهي. أمَّا القول بأنه لا توجد فيها موجودات جزئية فهو نفسه القول بأنه لا توجد فيها تمييزات، أو أنها وحدة لا تمايز فيها ولا اختلاف. وما دام لا يوجد فيها كثرة فهي الواحد. والقول بأنه لا توجد تمييزات لا فيها ولا خارجها، فهو يعني أنه لا يوجد فيها حدود فاصلة بين شيء وشيء آخر، فهي من ثَم بلا حدود، أو هي اللامتناهي.

وتكمن المفارقة هنا في أنه لا بد أن تكون هناك إيجابية، ومع ذلك فهي بغير مضمون إيجابي، فهي في آنٍ معًا تجربة بشيء ما وبالعدم.

إن لوعينا اليومي المألوف باستمرار موضوعات قد تكون موضوعات مادية، وقد تكون صورًا، أو حتى مشاعرنا وأفكارنا التي نُدركها عن طريق الاستبطان، أو التأمُّل الذاتي. افرض، إذن، أنَّنا محونا من الوعي جميع الموضوعات المادية والذهنية، فسوف نجد أن الذات عندما لا تكون مشغولة بإدراك موضوعات معينة، فإنَّها تكون على وعي بذاتها. أعني أن الذات نفسها تنبثق؛ فالذات عندما تتخلَّص من جميع الموضوعات والمحتويات السيكولوجية، فسوف تكون وحدة من تنوع الوعي امَّحى منها التفرغ ذاته. وذلك يُشبه — فيما يبدو — قولنا إنَّنا لو جرَّدنا جميع الأجزاء من كلٍّ أو وحدة تتضمَّن كثرة من الأجزاء، فلن يبقى عندنا سوى الكل الفارغ أو الوحدة الخالية. وهذه عبارة أخرى تنطوي على مفارقة.

يُمكن للمرء أيضًا أن يقول إن الصوفي يتخلَّص من الأنا التجريبية، وعندئذٍ تنبثق إلى النور الأنا الخالصة، التي كانت مختبئة عادة. إن الأنا التجريبية هي مجرى الوعي أو الشعور، أمَّا الأنا الخالصة فهي الوحدة التي تحتفظ بمجرى الوعي بلا انقطاع. وهذه الوحدة التي لا تمايُز فيها ولا اختلاف، هي جوهر التجربة الصوفية الانطوائية.
وذلك كله يتناقض تمامًا في فقرة شهيرة من «ديفيد هيوم»، الذي كتب يقول: «إنَّني كلَّما أوغلت داخلًا إلى صميم ما أُسمِّيه «نفسي» وجدتني دائمًا أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، أعني هذا المضمون الذهني الجزئي أو ذاك؛ «كالحرارة أو البرودة، أو الظل أو الحب أو الكراهية أو اللذة أو الألم» … لكنَّني لا أستطيع أبدًا أن أُمسك ﺑ «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أنَّي لا أستطيع أبدًا أن أرى شيئًا على الإطلاق فيما عدا ذلك الإدراك …» واستنتج هيوم من ذلك أنه لا يوجد شيء اسمه النفس أو الأنا، وإنَّما الشخص «ليس شيئًا آخر سوى حزمة أو مجموعة من الإدراكات المختلفة …»٥٧ أعني أنه ليس شيئًا سوى مجرد الوعي أو الشعور. والأنا التي يُنكِرها هيوم هي بالطبع الأنا التي ينظر إليها على أنها جوهر، في حين أن ما يؤكِّده الصوفي هو الأنا بالمعنى الذي ذكره كانط لِما أسماه «بالوحدة الترنسندنتالية للإدراك الباطن».
كيف يُمكن بلوغ تلك الحالة السيكولوجية الغربية غير العادية التي يصفها المتصوِّف؟ لقد اكتُشفت في الهند، قبل عصر الأوبنشاد، الطرق والأساليب الفنية لبلوغ تلك الحال، وتمَّ التدريب عليها بتفصيلات كبيرة. وهي تُشكِّل التدريبات والأنواع المختلفة من اليوجا Yoga.٥٨ وبغض النظر عن التمرينات البدنية المعيَّنة، فإنَّ كلامنا قد سُمع على الأقل عن تمرينات التنفس عند هذه المدرسة، وهي تعتمد على بذل جهود ضخمة ومتصلة لضبط الذهن وتمرينه. وهناك طرق عند المتصوِّفة الغربيين منها «التوقُّف عن التفكير»، أعني استبعاد الإحساسات، والصور، والتفكير التصوُّري، وما إلى ذلك، لا تختلف في أساسها عن الطرق الشرقية.

ويؤكِّد المتصوِّفة المسيحيون بالطبع على الصلاة، أو «التضرع»؛ فالقديسة تريزا، تصف في سيرتها الذاتية المراحل المختلفة «للضراعة» بتفصيل شديد، وكذلك يفعل عدد آخر من المتصوِّفين المسيحيين. غير أن الصلاة إذا ما فُهمت فهمًا سليمًا، لا تعتمد على التماس العطايا، وإنَّما هي جهود مضنية للوصول إلى تجربة مباشرة مع الله، وهي تتم في حالة الوجد الصوفي. والاتحاد بالله لا يحدث عادة، تبعًا للتأويل المسيحي، إلَّا بعد التخلص من جميع المحتويات التجريبية الموجودة في الذهن. وبعد الوصول إلى أرض خالية للذات في الوعي الخالص.

وبطبيعة الحال، فإن النوع الانطوائي من التجربة الصوفية لا يُكتسب عادة، إلَّا بعد سنوات طويلة من بذل الجهد، فهو لا يحدث تلقائيًّا، كما هي الحال في نوع التجربة الانبساطي. ومع ذلك فالتجارب الانطوائية التلقائية التي لا يسعى إليها المتصوِّف تحدث أحيانًا؛ ومنها حالة ج. أ. سيمونز، التي سوف نذكرها فيما بعد.

علينا الآن أن نعرض نماذج لمثل هذا النوع من التجارب، اخترناها من آداب مجموعة من الثقافات المنتشرة انتشارًا واسعًا، ومن عصور مختلفة، وبلدان منوَّعة بقدر المستطاع، بهدف اكتشاف خصائصها المشتركة. وسيكون من المناسب أن نبدأ من الهند القديمة. وسوف نبدأ، كالمعتاد، بأوصاف الحالات الصوفية التي قدَّمها أشخاص عاشوا قبل فجر العلم والاهتمامات الحديثة بعلم النفس بفترة طويلة. والعبارات التي أخذناها من «الأوبنشاد» مبتسرة وقصيرة جدًّا. ومن هنا فإنَّنا يُمكن أن نُلقي عليها الضوء من الأوصاف الأكثر تفصيلًا عند كُتَّاب محدثين، من أمثال «ج. أ. سيمونز». والنص التالي مأخوذ من «ماندوكيا أوبنشاد». ولقد بدأ مؤلفو «الأوبنشاد» بذكر أنواع من الحالات الذهنية العادية، يقظة الوعي، والأحلام، والنوم بلا أحلام، ثمَّ استمروا في الوصف قائلين:
«والحالة الرابعة كما قال الحكيم … ليست معرفة الحواس، كلَّا، وليست المعرفة النسبية، ولا المعرفة الاستدلالية. إن الحالة الرابعة تُجاوز الحواس، وتُجاوز الفهم، وتُجاوز كل انطباع، إنَّها الوعي الموحِّد الخالص، الذي يُمحى فيه إدراك العالم وما فيه من كثرة امِّحاءً كاملًا. وهي سلام لا يُمكن وصفه، إنَّها الخير الأقصى، وهي الواحد الذي ليس له ثانٍ، إنَّها الذات أو الأنا …»٥٩

ويُمكن أن يُشير تعبير «كما قال الحكيم» إلى أن أول مَن أخضع هذه «الأوبنشاد» إلى الكتابة لم يدَّعِ أن ما يصفه هو تجربته الشخصية، وإنَّما هو ينسبها إلى «الحكيم»، الذي يعني بالتأكيد، في هذا السياق الرجل المستنير، الذي يعرف مباشرة هذا النوع الرابع من الوعي. وحتى إذا كانت الفقرة تُعبِّر عن وصف تقليدي، فإن ذلك لا يُقلِّل ثقتنا فيها؛ لأنها تتفق، لا فقط مع روح التصوف الموجود في الأوبنشاد، بل مع أوصاف التصوف الانطوائي في كل مكان، على نحو ما سنرى فيما بعد.

لاحظ أنه يُقال عن التجربة إنَّها «تُجاوز إمكان التعبير عنها»، فهي فوق الوصف، بل هي — أكثر من ذلك — «سلام لا يوصف». وهكذا يكون لدينا خاصيتان تشترك فيها التجربة الانطوائية مع النوع الثاني من التجربة الانبساطية، وهما أن التجربة لا يُمكن أن توصف، ثم الغبطة أو السلام. وهي ليست «معرفة الحواس». وينبغي ألَّا نأخذ كلمة «المعرفة» بمعناها الضيق، الذي نستخدمها فيه عادة. وإنَّما على أنها تشمل أي إدراك أو وعي. والحالة الرابعة ليست حالة إحساس؛ لأن الإحساس مستبعد منها، وهذا واضح من القول بأن «إدراك العالم، وإدراك الكثرة قد مُحيا». وليس ذلك فحسب، بل إنَّها «تجاوز الفهم». ولا شك أننا لا بد أن نكون حريصين قبل أن ننسب للراهب الهندي القديم التفرقة بين الأبستمولوجيا الحديثة وعلم النفس، لكنَّا نجد في جميع أنواع الكتابات الصوفية، القديمة والحديثة، أن كلمة مثل «الفهم»، والتي يُمكن أن نُترجمها هنا بالكلمة الإنجليزية «عقل» أو «ذكاء» أو «قدرة عقلية».٦٠ وهي تُستخدم لتعني ملكة التفكير، بمعنى الفكر التجريدي أو الفكر التصوُّري كملكة متميزة عن الإحساس. نجد خلال الكتابات الأدبية أن الفكر والفهم مستبعدان بهذا المعنى من مجال الوعي الصوفي. وأنا شخصيًّا ليس عندي أدنى شك أن هذا هو معنى عبارة «يجاوز الفهم». والمقصود بالضبط هو أن هذه الحالة الرابعة للوعي لا يُمكن بلوغها إلَّا بالتخلص من المفاهيم والتصورات، مثلما يُتخلَّص من الإدراكات الحسِّية والصور الحسِّية. وفضلًا عن ذلك فإن الفقرة تقول إن هذه الحالة الرابعة ليست «معرفة نسبية» (أي إنَّها ليست معرفة بالعلاقات) ولا هي معرفة استدلالية. وهكذا تؤكِّد الفقرة أنها ليست الوعي المجرد للعقل.
وأول عبارتين في الفقرة سلبيتان؛ فهما تقولان ما ليست عليه التجربة. ثم تستمر الفقرة لتخبرنا — بطريقة إيجابية — ما هي التجربة. فهي «الوعي الموحِّد الخالص»، وهي «خالصة» لأنها خالية من كل مضمون تجربي، وهي «موحِّدة» لأنها تحتوي على الكثرة، ومن ثم فهي «الواحد»، وهي الواحد الذي ليس له آخر ولا ثاني، وهي الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف. وهي، أخيرًا، الذات.
والعبارة التي تقول إنَّها الذات أو الأنا، تُرادف قولنا — في المصطلحات الميتافيزيقية الغربية — إنَّه الأنا الخالص، الذي أنكر هيوم وجودها، والذي يُنكرها أيضًا معظم التجريبيين المحدثين. فالأنا التجريبي قد جُرِّد من كل محتوًى تجريبي، وما يتبقى هو الوحدة العارية للأنا الخالص. غير أن كلمة الذات، أو الأنا، كما يُستخدم في الأوبنشاد — والنص المقتبس نموذج وليس استثناء — ذات معنى مزدوج. إنَّني أنا الذي وصلت إلى أناي الخالص، لكنَّها أيضًا الذات الكلية أو الكونية، التي هي الواقع الحقيقي النهائي أو المطلق للعالم. وهذا المعنى المزدوج يرجع إلى خلط في الفكر، أو اختلاط في اللغة، وهو متعمد، السبب أنه طبقًا للاثنائية،٦١ فإن تأويل الفيدانتا Vedanta٦٢ لهذه التجربة هو أن الذات الفردية والذات الكلية ليستا موجودين منفصلين، وإنَّما يتَّحدان في هوية واحدة. فأنا الذات الكلية أو الأنا الكلي، وهذه الهوية بين أناي الخالص، وأنا الكون الخالص، الذي انكشف في الوعي الصوفي هو المرادف في الأوبنشاد، لاعتقاد المتصوِّف المسيحي أنه بلغ في التجربة الصوفية مرحلة «الاتحاد بالله». والتأويل المسيحي للتجربة الانطوائية بوصفها الاتحاد مع الله، والتأويل الهندوسي لها بوصفها هوية مع الذات الكلية٦٣ ليسا تأويلين متحدَّين، لكنَّهما مع ذلك مرتبطان أوثق ارتباط الواحد منها بالآخر ارتباط الترادف أو التطابق، والفرق بينهما هو أنَّنا بينما نجد أن مؤوِّلي الفيدانتا اللاثنائية للتجربة على أنها هوية دقيقة مع الموجود المطلق، نجد أنَّ المسيحية — متفقةً في ذلك مع ديانات التأليه الغربية الأخرى، مع الإسلام واليهودية — تُصرُّ على أن «الاتحاد» لا يعني الهوية، بل شيئًا أقل من ذلك. وهي مسألة سوف ندرسها فيما بعد في هذا الكتاب.
في دراستنا للتصوف الانبساطي، جعلنا أول نموذج ندرسه عبارة إيكهارت المضغوطة إلى أقصى حد، ولم نُقدِّم لها أيَّة تفصيلات؛ بل اكتفينا بعظام التجربة عارية، إن صحَّ التعبير، وحاولنا، عندئذ، توضيحها وتكملتها بتفصيلات أكثر من الوصف السيكولوجي لنوع التجربة ذاتها الذي قدَّمه عقل معاصر، وسوف نأخذ بنفس المنهج. لقد بدأنا بفقرة موجزة غير مُفصَّلة، مأخوذة من «الماندوكا أوبنشاد»، وكنَّا نأمل أن تُساعدنا المقارنة بين هذه الفقرة وبين تجربة أديب في القرن التاسع عشر هو «ج. م. سيمونز» في ملء الثغرات. والفقرة المأخوذة من «سيمونز» اقتبسها وليم جيمس في كتابه «صنوف من التجربة الدينية».٦٤ وسوف نُلاحظ أن التجربة أتت إلى «سيمونز» دون أدنى جهد من جانبه، فكانت تلقائية تمامًا، فهو لم يسعَ إليها. ويُلاحظ المرء أيضًا أنها ليست حادثة معزولة في حياته، وإنَّما حدثت له مرَّات كثيرة. وهو لم يُعطِ لتجربته أي تأويل ديني خاص بأي معنًى لهذا المصطلح؛ فهو مثلًا لم يستخدم لفظ «الله». وكانت روايته على النحو التالي:
«فجأة في الكنيسة، أو مع رفاق، أو وأنا أقرأ … شعرتُ باقتراب حالة نفسية، استولت على ذهني وإرادتي، على نحو لم أستطع مقاومته. واستمرت ما بدا لي أنه أبدية، ثم اختفت في سلسلة من الإحساسات السريعة كنتُ فيها أشبه بمن يفيق من تأثير مخدر. وأحد الأسباب التي جعلتني أكره هذا النوع من النوبة، هو أنَّني لم أستطع أن أصفها لنفسي، ولا أستطيع حتى الآن أن أجد الكلمات التي تجعلها واضحة ومفهومة؛ فهي تعتمد على محو تدريجي، وإن كان سريعًا: للمكان، والزمان، والإحساس، ولعوامل متنوعة في التجربة. كانت تصبغ بصبغتها ما نُحب أن نُسمِّيه ذاتيًّا. وبمقدار ما تطرح هذه الحالات من الوعي المعتاد، يكون الشعور بالوعي الجوهري الكامن كثيفًا. وفي النهاية لا يبقى شيء سوى الذات المجردة الخالصة المطلقة. ويُصبح الكون بغير شكل، خاليًا من المضمون. غير أن الذات تبقى قائمة، مرعبة في توقدها العارم … وبدأت العودة إلى الحالات العادية لموجود واعٍ باكتشافي أولًا لقدرة اللمس، ثم بالتدفق التدريجي السريع للانطباعات والاهتمامات اليومية. غير أن لغز ما يُسمَّى بالحياة بقي بغير حل، ولقد كنتُ ممتنًا بعودتي من هذه الهاوية … ولقد تكرَّرت هذه النوبة، لكنَّها كانت تقل في ترددها، حتى بلغت سن الثامنة والعشرين. وكثيرًا ما سألتُ نفسي بعد يقظتي من هذه الحالة التي لا شكل لها لموجود واعٍ عارٍ، ما هو اللاواقع أو اللاحقيقة؛ أهو الذات الشاكة الفارغة التي تنتابها نوبة من الجنون … أم هذه الظواهر المحيطة بها.» [التشديد على الكلمات من عندي]

ولقد علَّق بروفيسور «زينر» على هذه الفقرة ببعض الملاحظات، فقال إنَّها متأثِّرة بالفكر الهندوسي، وربما كانت اللغة متأثرة بهذا الفكر، لكن ليس ثمة مبرر للشك في صحة وصف هذه التجربة. لقد تأثَّر المتصوِّفة المسيحيون بمتصوِّفة مسيحيين آخرين من حيث اللغة التي يستخدمونها، لكن ليس ذلك مبررًا للشك في صحة أوصافهم.

إن تجربة «سيمونز» — من جميع الجوانب الهامة — توازي التجربة التي وصفتها «الأوبنشاد»، كما توازي، كما سنرى فيما بعد، جميع التجارب النموذجية عند المتصوِّفة المسيحيين والمسلمين، لكنَّها في جوانب أخرى معينة ليست نموذجية، وهي تكشف عن سمات فردية خاصة «سيمونز». ولو بدأنا بالسمات الأخيرة، لوجدنا أن التجربة غير عادية؛ لأن سيمونز كرهها، وكان ممتنًا لانقضائها. ومن ثَم فهي تفتقر بوضوح إلى عنصر الغبطة، والسلام، والنشوة، التي هي خاصية مشتركة في جميع الحالات التي عرفتها. وسمة أخرى هي غياب الاقتناع القوي بالواقع الموضوعي. فقد ظلَّ شاكًّا بالنسبة لهذا الواقع. وسمة ثالثة هي أن التجربة لم تعطه أي شعور بمعنى الحياة.

أعود الآن إلى دراسة الخصائص المشتركة بينها وبين الفقرة التي اقتبسناها من الأوبنشاد. وأعظم الأشياء أهمية بالنسبة لنا أن نُلاحظ وأن نؤكِّد واقعة أن النواة الجوهرية في التجربة الانطوائية، التي تدور حولها جميع العوامل الأخرى، متحدة، أو هي واحدة في روايات كل من «سيمونز» و«الأوبنشاد»؛ إذ يصفها «سيمونز» في الفقرة التي اقتبسناها بكلمات وضعنا تحتها خطًّا، فهو يصل إلى التجربة بمحو الإحساس، «وعوامل منوعة أخرى في التجربة»، وهي عبارة تُغطي كل المضمون التجريبي للوعي. فما بقي كان في الواقع عدمًا، وهو ما أطلق عليه «سيمونز»، «الفراغ»، و«الخواء»، و«حالة لا شكل لها لموجود عارٍ»، ورغم ذلك «فالذات تبقى توقدها العارم». فهي في الحقيقة «وعي جوهر كامن»، وهي عبارة ترادف في الأوبنشاد «الوعي الخالص». وهي أيضًا «الذات المجردة الخالصة المطلقة» التي بقيت بعد اختفاء كثرة المحتويات التجريبية.

وتتسم تجربة «سيمونز» بأنها تنطوي على مفارقة، المفارقة المركزية للوعي الصوفي من النوع الانطوائي، أعني أنه على الرغم من أنها سلبية تمامًا، وغياب محض، ومع ذلك فهي تجربة إيجابية. وعلى الرغم من أنها وعي، فهي وعي بأي وجود جزئي.

قد يظهر سؤال عمَّا إذا كان ما كتبه «سيمونز» يؤكِّد، أو أنه يتضمَّن بطريقة غير مباشرة، ما هو خاصية للتراث الرئيسي المتصوِّف الانطوائي في الشرق والغرب، وأنه كان يشعر أن الذات الفردية المجردة التي تنبثق بعد اختفاء الكثرة، في هوية، بمعنى ما، أو متحدة، مع الذات الكلية للعالم، أو الواحد، أو المطلق، أو الله. وفي اعتقادي أن هذه الحالة لم يذكرها «سيمونز» بوضوح، لكن كلماته بدت وكأنها تُعبِّر عن «الوعي الجوهري أو الكامن»، الذي يُجاوز الفردية، التي عادة «ما نُحب أن نُطلق عليها اسم الذات». وعلى أيَّة حال، فلا يُمكن أن يكون هناك شك في أنه مرَّ بالتجربة التي ميَّزها المتصوِّفة باسم «الذات» التي تتحد مع الذات الكلية، أو تُشارك في طبيعتها.

أمَّا بالنسبة للخصائص الباقية، فنحن نرى أن تجربة «سيمونز» يُقال عنها إنَّها لا يُمكن أن توصف، ولا نقدر أن نفهمها فهمًا عقليًّا؛ يقول «لم أستطع أن أصفها لنفسي»، و«لا أستطيع حتى الآن أجعلها واضحة أو مفهومة».

ولا بد أن نتذكَّر، أنَّنا لسنا في الوقت الحاضر، نُثير أي سؤال حول ما إذا كانت هذه التجارب؛ مثل تجارب «سيمونز» وتجارب مؤلفي الأوبنشاد، هي تجارب حقيقية بأي شيء موضوعي، أو ما إذا كانت مجرد هلوسات وهذيان ووهم، كما يعتقد المُتشكِّك، فنحن الآن معنيون فحسب بوصف وتصنيف التجارب السيكولوجية التي يؤكِّدها المتصوِّفة، ثم نسأل السؤال المبدئي عمَّا إذا كان صحيحًا. كما ذهب «برود» وكثيرون غيره أن للتجارب الصوفية نواة من الخصائص المشتركة في كل زمان ومكان. وهذا السؤال هو مجرد مقدمة تمهيدية لمناقشة ما إذا كانت — حتى لو كانت هناك مجموعة من الخصائص المشتركة — تصلح كحجة قوية للإيمان بأنَّ المتصوِّف يُصبح على اتصال مباشر بواقع حقيقي موضوعي لا يتصل به غيره من الناس بأيَّة طريقة أخرى.

يبدو من الواضح أنه إذا كانت هناك خصائص مشتركة بين التجارب الصوفية الموجودة في جميع الديانات، والثقافات، ومراحل التاريخ، فإنَّنا لا نستطيع أن نتوقَّع وجودها في كل مكان موصوفة بنفس الكلمات. ولا بد لنا، بالتأكيد، أن نتوقَّع، على العكس، تنوُّعًا هائلًا في المفردات اللغوية، والأسلوب، وطرق التعبير. ومن ثَم فلا بد أن نكون قادرين على النفاذ من غلالة الكلمات، إلى جسد التجارب الذي تُغلِّفه هذه الكلمات. لا بد أن نكون قادرين على التعرُّف على التجربة نفسها، رغم وصفها بأنواع مختلفة اختلافًا واسعًا من مفردات اللغة. ومن الضروري أن نتذكَّر ذلك بصفة خاصة عندما ننتقل من التصوف الشرقي للأوبنشاد إلى جو ديني وثقافة مختلفة أتم الاختلاف، عند متصوِّفة المسيحية، في العصور الوسطى. والواقع أنَّنا قد نندهش عندما نجد تشابهًا ملحوظًا بين لغة الأوبنشاد وبين لغة بعض متصوِّفة المسيحية، كلَّما حصر الأخيرون أنفسهم — بقدر المستطاع — في وصف بغير تأويل، لكن بمقدار ما يدخل هذا التأويل إلى الوصف ويتغلغل فيه، فسوف تميل مفردات اللغة التي يستخدمها الهنود إلى الانحراف جذريًّا عن ألفاظ المسيحيين.

وسوف أنتقل الآن إلى نماذج مسيحية للوعي الصوفي من النوع الانطوائي، ثم إلى نماذج بعد ذلك من ثقافات أخرى، وربما بدأنا بمتصوِّف كاثوليكي من العصور الوسطى هو «جان فان روز بروك» (١٢٩٣–١٣٨١م)، الذي أخضع كل كتاباته لحكم الكنيسة الأخير. كتب يقول:

«الرجل الذي يُعاين الله … يستطيع دائمًا أن يدخل عاريًا غير مثقل بالصور، إلى ذلك الجزء العميق من روحه. وسوف يجد أنه اكتشف النور الأزلي … إنَّها [هذه الروح] لا اختلاف فيها ولا تمايز، ومن ثَم فهي لا تشعر بشيء سوى الوحدة.»

باستثناء تأويل التجربة الصوفية تأليهيًّا على أنها معاينة الله، فإن بقية هذا الاقتباس يقترب من التجربة الصوفية الخالصة غير المؤوَّلة على نحو ما يُمكن المرور بها. وهناك خاصية أكَّدها «روز بروك» هي أن التجربة كانت بغير صور، وهو يعني بهذه الكلمة ما يعنيه معظمنا في يومنا الراهن، أعني الصور الحسِّية، التي يقول بها كثيرون بوضوح في فقرات مماثلة؛ فهو يقول إن التجربة «لا تمايُز فيها ولا اختلاف». ومن ثم فلا توجد فيها كثرة، ولا «عوامل متنوعة من العوامل التي نجدها في تجاربنا المألوفة التي تشمل، بالطبع، على إحساسات وأفكار، كما تشتمل كذلك على صور.» ومن هنا فإن الروح «لا تشعر بشيء سوى الوحدة»، التي هي في الوقت ذاته متحدة في هوية واحدة «مع ذلك الجزء العميق من الروح»؛ أي الذات أو الأنا الخالصة. وتظهر المفارقة الأساسية للوعي الانطوائي في قوله بأنَّ هذه الوحدة فارغة وبلا مضمون، وهي مع ذلك «النور الأزلي». فإذا ما قارنَّا ذلك بالفقرة المقتبسة من «الماندوكا أوبنشاد»، لرأينا أن التجربتَين المدونتين، واحدة لمتصوِّف هندوسي، والثانية لمتصوِّف كاثوليكي، متحدتان تمامًا. ولا بد لنا أن نُلاحظ أيضًا أن قديس العصور الوسطى، كان — بالطبع — يجهل جهلًا تامًّا وجود أي تجربة هندوسية من هذا النوع، بحيث لا يوجد أدنى احتمال لتأثره بها.

وكتب «روز بروك» في مكان آخر:
«إن أمثال هؤلاء الرجال المستنيرين، أصحاب الروح الحر، يرتفعون فوق العقل، إلى رؤية عارية لا صور فيها، حيث تعيش الاستدعاءات الأزلية التي تجذبه نحو الوحدة الإلهية.»٦٥ [التشديد من عندي.]
ويتحدَّث «روز بروك» في مكان آخر عن الرجل المستنير «الذي لا تعوقه عوائق من الصور الحسِّية».٦٦ وبذلك يجعل ما يقصده من «الصور» يُجاوز أي شك. ونحن نُلاحظ في النص الذي اقتبسناه الآن توًّا أن ماهية التجربة تكمن في هذه الرؤية العارية الخالية من الصور، هي العثور على الواحد، أو الوحدة المطلقة، التي تتَّحد هنا مع الألوهية.
يكفي ذلك بالنسبة لرؤية «روز بروك» عن التجربة ذاتها. ودعنا الآن نرى، ما الذي فعله بها عندما أوَّلها من منظور اللاهوت المسيحي:
«هناك يحدث اتحاد لا تمايز فيه، ويجد المستنيرون في داخل أنفسهم تأملًا جوهريًّا، يفوق العقل، ويُجاوز العقل، ويجدون ميلًا خصبًا ينفذ في كل حالة وفي كل وجود. ينغمسون هم أنفسهم في هاوية من الغبطة بلا قرار ولا مهرب منها، حيث توجد طبيعة ثالوث الأشخاص الثلاثة الإلهيين، في الوحدة الجوهرية. انظر إلى هذه الغبطة أنها واحدة وبلا طريق حتى أنه فيها … تتوقَّف جميع التمييزات الإنسانية وتتلاشى … ويتحوَّل كل نور فيها إلى ظلام حالك. وهناك في الأشخاص الثلاثة يكون مكان للوحدة الجوهرية، ومستقر بلا تمييزات … لأنَّ هذه الحالة من الغبطة، من البساطة والوحدة، لدرجة أنه لا الأب، ولا الروح القدس، يتميَّزون بوصفهم أشخاصًا.»٦٧ [التشديد على الكلمات من عندي]
وقدر كبير مِمَّا ورد في هذه الفقرة هو، مرة أخرى، وصف خالص للتجربة. ويبدأ ذكر التأويل المسيحي بعد ظهور فكرة التثليث. وتتحد الوحدة العارية التي لا تمايز فيها ولا اختلاف مع واحدية الألوهية، قبل أن تتمايز هذه الواحدية وتتجلَّى في الأشخاص الثلاثة؛ فهي الوحدة الكامنة خلف الأشخاص الثلاثة، تمامًا كما تتمايز فكرة الألوهية عند «إيكهارت» عن فكرة الله. فإذا عُدنا إلى الأوصاف غير المؤوَّلة، نسبيًّا، من هذه الفقرة، لوجدنا أنه لا توجد عناصر تنكشف أمامنا، بل مفردات لغوية جديدة وغريبة في تجربة «روز بروك» تحتاج إلى تفسير … فالوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف، تُسمَّى «الهاوية بلا قرار»، و«الهاوية»، و«الهوة السحيقة»، وهي كلمات كثيرًا ما تتردَّد على ألسنة المتصوِّفة المسيحيين، لتعني اللامتناهي. وهي ترتبط هنا «بالعمق الذي لا قرار له»، ولك أن تُقارن ذلك بنفس الكلمات التي استخدمها «بوهيمي»؛ «فاللاطريق» يعني اللاتمايز، ما دام الطريق يعني الدرب في المكان، والدرب هو خط حدود وتمايز. وللواحد نفس المعنى، فهو يؤكِّد غياب الثنائية والتقسيم. ونحن نلاحظ في تجربة الوحدة «أنَّ أي تمييز إنساني يتوقَّف ويختفي». وعبارة «يتحوَّل كل نور إلى ظلام حالك» تُدخِل مجموعة جديدة من الاستعارات المشتركة، للمتصوِّفة المسيحيين، لكنَّها لا تُدخِل أي معنى جديد جدة حقيقية؛ فالظلام مجاز، يدل على غياب أي تمييز. وربما كان المجاز مشتقًّا من واقعة أن جميع التمييزات البصرية تختفي في الظلام. قارن ذلك بالعبارة التي وردت في أول نص اقتبسناه من «روز بروك» عندما تحدَّث عن الإنسان الذي يُعاين الله ويدخل في وحدة بلا تمايز أو اختلاف «يجد [هناك] انكشافًا للنور الأزلي». وليس ثمة تناقض (فيما عدا ما هو موجود بالفعل في المفارقة الأساسية لتجربة الخواء السلبي). والقول بأنَّ الله هو النور، هو مجاز شائع؛ للتعبير عن خيريته وغبطته. أمَّا القول بأنه ظلام فهو لا يُشير إلَّا إلى غياب التمييزات. إن المجازين في التصوف المسيحي كثيرًا ما يشقان طريقهما قسرًا لإحداث المفارقة. وهكذا يتحدَّث Suso عن الرؤية السعيدة، بوصفها «الغموض المثير للدوار». والصمت مجاز آخر، كثيرًا ما يُستخدم للدلالة على انعدام التمييزات.٦٨
لا أستطيع أن أحجم عن اقتباس فقرة واحدة أخرى من «روز بروك»، وهي لا تُعلِّمنا أي شيء جديد من الناحية الجوهرية، لكني أقتبسها، أساسًا، لما في لغتها من جمال شعري:
«اللاطريق السحيق لله، مظلم للغاية، ومطلق للغاية، حتى أنه يبتلع بداخله كل طريق أو نشاط إلهي، كما يبتلع جميع الصفات التي تُنسب للأشخاص الثلاثة، داخل ثراء الوحدة الجوهرية … ذلك هو الصمت المظلم الذي يضيع فيه المحبون، لكن لو أنَّنا هيَّأنا أنفسنا له … ونزعنا عن أنفسنا كل شيء غير أجسادنا ذاتها، وحلَّقنا بعيدًا فوق البحار الواسعة، حيث لا يوجد شيء مخلوق يجذبنا إلى العودة مرة أخرى …»٦٩
أمَّا «مايستر إيكهارت» فهو له لغته الخاصة الجديرة بالملاحظة. وإذا ما اعترفنا الآن بأنَّ ماهية الوعي الوصفي الانطوائي تكمن في تجاوزه لكل محتويات الذهن من الإحساسات، والصور، والمفاهيم، وأيَّة مواد تجريبية أخرى، وبذلك يُصبح وحدة تمحى منها كل كثرة وتمايز، ونحن نجد عنده فقرات لا حصر لها تؤكِّد ذلك، وإليك فقرة منها:
«وبهذه الطريقة تدخل الروح إلى الثالوث المقدَّس، لكنَّها قد تكون أكثر غبطة لو أنها سارت أبعد من ذلك إلى الربوبية الفارغة، التي يُعدُّ التثليث كشفًا لها. ويتوقَّف النشاط في هذه الربوبية الفارغة، وعندئذٍ تكون الروح أعظم اكتمالًا، عندما يلقى بها في صحراء الربوبية، حيث لم يعد هناك لا نشاط ولا صور، حتى إنها تغوص في تلك الصحراء وتضيع فيها وحيث تتدمَّر هويتها.»٧٠

وكلمات «الفراغ» و«الفاصل» و«الصحراء» هي المجازات المُحبَّبة عند إيكهارت وغيره من المتصوِّفة الكاثوليك في القرن الثالث عشر. وكلمة «الفارغ» تعني «الخالي» أعني أنه بلا تمييزات. وتحمل كلمة «الصحراء» المجاز نفسه. ونحن نجد في هذه التجربة أن الصور أو الأشكال، أي الأشياء المتميزة التي لها حدود تفصل بعضها عن بعض، لا سيما الصور أو الأشكال الحسِّية، لم يعد لها وجود بعد ذلك. وليس ثمة نشاط كذلك في هذه الوحدة التي يوحِّد «إيكهارت»، و«روز بروك» بينها وبين الربوبية. ما دام النشاط ينطوي على تمييزات، كالتمييزات الزمنية مثلًا. ولا يُمكن أن تكون هناك حركة في هذا الخلاء الشامل، طالما أنه لا يوجد شيء ليتحرَّك. فالله عند «إيكهارت» يفعل، لكن ليست الربوبية، حيث الكل في صمت وسكون وظلام وغياب لكل حركة. ونلاحظ أخيرًا القول بأنَّ الروح عندما تدخل الوحدة فإنَّها «تغوص في تلك الصحراء، وتضيع فيها وحدتها، وتدمر هويتها». وطالما أن جميع التمييزات قد انمحت في الوحدة فإن التفرقة بين روح المتصوِّف والوحدة التي داخلها، والتي يمر بتجربتها، تكون قد امَّحت هي الأخرى. وليس ثمة قسمة للذات والموضوع، ولا للمجرب والتجربة. وهذا هو السبب في أن التأويلات المسيحية للتجربة على أنها «الاتحاد بالله»، أو الهندوسية على أنها «الهوية» مع براهمان، أو مع الذات الكلية … غير أن التأويل ينطوي على نزاع بين أصحاب التأليه ووحدة الوجود، ولا بد أن ننتظر الفحص الأكثر من ذلك حتى نكون مستعدين لمناقشة هذا الموضوع.

والوصول إلى التجربة يتم عند «إيكهارت» عن طريق المنهج المعتاد للوعي الفارغ الخالي من جميع المحتويات الجزئية للذهن. ولقد عبَّر «إيكهارت» عن ذلك بلغته الخاصة على النحو التالي:
«لو أنَّك كنت تريد أن تمر بتجربة ذلك الميلاد النبيل، فلا بد لك أن تبتعد عن الحشود كلها … والحشود هي عوامل النفس ونشاطها؛ كالذاكرة، والفهم، والإرادة وكل تنوعاتها، لا بد لك أن تتركها جميعًا، الإدراكات الحسِّية، والخيال … بهذه الطريقة، وليس بغيرها، تستطيع أن تمرَّ بتجربة هذا الميلاد.»٧١

وليس علينا أن نشغل أنفسنا في الوقت الحالي بالسبب الذي جعل «إيكهارت» يُشير إلى التجربة الانطوائية على أنها «هذا الميلاد»، أو الذي جعله يُسمى الملكات الذهنية المختلفة كالذاكرة والإدراك والخيال باسم «عوامل الروح» أو السبب الذي جعله يُشير إليها على أنها «حشود» على المرء أن يغادرها. فهو كشاعر في القرن الثاني عشر له لغته الخاصة. والنقطة التي علينا الالتفات إليها أنه يبدو أنه يقول، ببساطة، في هذه الفقرة، إن الطريق إلى التجربة تعتمد على الذهن الخالي من كل مضمون تجريبي.

وما دامت هذه التجربة تخلو من أي كثرة، فلا تطبيق هنا لمفهوم العدد. وقد لاحظ إيكهارت ذلك، فقال:
«ترقى الروح البشري إلى السماء، لكي تكتشف الروح التي تُسيِّر السماوات … وحتى عندئذٍ … فإنَّها تدفع بقوة في دوامة، من أصلها نشأت الروح. وهناك لا تكون الروح بحاجة إلى العدد من أجل المعرفة؛ لأن الأعداد لا تستخدم إلَّا في الزمان في هذا العالم الناقص المعيب. فلا أحد يستطيع أن يضرب بجذوره في الأزل دون أن يتخلَّص من مفهوم العدد … ويقود الله الروح البشري عبر الصحراء في وحدته الخاصة التي هي الواحد الخالص.»٧٢
ونحن نجد في هذا النص مضامين أكثر من تجربة الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف، فلا بد بالضرورة أن تكون «بلا مكان» و«بلا زمان»؛ لأن الزمان والمكان هما الشرطان الضروريان للكثرة والتعدد. وهناك فقرات لإيكهارت يُعلن فيها أنَّنا لا بد أن نتجاوز الزمان لو أنَّنا أردنا أن نمر بتجربة الاتحاد الصوفي مع الله «أو مع الربوبية»، وهي فقرات كثيرة ومتعددة، ولا تحتاج إلى أن نقتبسها، وتلك نقطة اتفاق أخرى بين التصوف الانطوائي في جميع العصور وفي كل الثقافات، فالأوبنشاد مثلًا تُعلن أن براهمان هو الواحد بغير ثانٍ. وأنَّ هويته مع الأنا الفردية التي تمر بالتجربة هي السر العظيم في الخلاص الذي تسعى الأوبنشاد إلى أن تمنحه، «وهو فوق الزمان، وفوق المكان».٧٣ وإيكهارت لا يقول هنا إن التجربة بلا مكان، وإنَّما هي فقط بلا زمان. بل إن غياب أي ذكر صريح للمكان هو شيء عديم الأهمية.

وقد يزعم زاعم أنه على الرغم من أن «إيكهارت»، و«روز بروك»، يتحدَّثان عن الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف، فإنَّهما استثناءان؛ لأن الغالبية العظمى من متصوِّفة المسيحية لا يتحدَّثون عنها؛ إنَّهم يتحدَّثون عن تجاربهم على أنها، ببساطة، «الاتحاد مع الله». فإذا كانت القضية التي تدافع عنها، وهي أنَّ التجربة المسيحية هي تاريخيًّا واحدة مع التجربة التي تذكرها «الماندوكا أوبنشاد» لا تقوم إلَّا على أساس تجربة «إيكهارت» و«روز بروك» فحسب؛ فقد يُقال إنَّنا انتقينا هاتين الحالتين لأنهما تدعمان حدتنا، وتجاهلنا نماذج أخرى لا تدعمها. وعلينا أن نرد على هذا النقد.

  • أولًا: علينا أن نُشير إلى أن هناك تعبيرات مجازية معينة يستخدمها الصوفية في وصف تجاربهم لا تنحصر في المفردات اللغوية التي يستخدمها «إيكهارت» و«روز بروك»، وإنَّما هي عامة وشائعة تقريبًا بين متصوِّفة المسيحية، ومن بينها كلمات مثل: «الظلام»، و«الفراغ»، و«العدم»، و«الصمت»، و«العري»، و«التجرد» … إلخ. وهذه الألوان من المجاز تَعرِض ما يوصف بمصطلحات أكثر دقة على أنه «الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف». فجميع التمييزات تختفي في «الظلام»، و«الصمت» هو انعدام الصوت. و«العري» هو غياب تحلية الكيفيات. وجميع هذه الكلمات تُفسِّر الجانب السلبي من التجربة. وهي لها بالطبع جانبها الإيجابي أيضًا، وهي عندئذٍ توصف بأنها «النور» وليس الظلام. وهكذا يتحدَّث «سوزو» عن تجربته بوصفها «الغموض الذي يُثير الدوار»، وهي عبارة تشتمل، على نحو مفارق، على الجانبين السلبي والإيجابي في عبارة واحدة. والاستخدام العام للمجازات السلبية بين متصوِّفة المسيحية تُشير إلى واقعة أن تجربتهم هي باستمرار وحدة لا تمايُز فيها ولا اختلاف، على الرغم من أن معظمهم يُفضِّلون استخدام مجازات عينية أكثر من استخدام الوصف الحرفي المجرد.

وليس في استطاعتي أن أفحص هنا الأوصاف التي قدَّمها جميع متصوِّفة المسيحية لتجاربهم؛ فهناك تقريبًا حوالي مائة اسم في قائمة المراجع التي أعدَّتها «آن فربما تنل» وطُبِعَت في نهاية كتاب «إفلين أندرهيل» في طبعة مرديان اللينة الغلاف. ولا تشمل هذه القائمة بالطبع سوى معظم الأسماء الشهيرة فحسب، وربما أمكن تركيز الموضوع بطريقة سهلة، لو أنَّنا طرحنا هذا السؤال: هل التجربة الانطوائية عند القديسة تريزا تتَّحد في عناصرها الجوهرية مع تجربة «إيكهارت» وروز بروك، أم إنها تختلف عنهما اختلافًا أساسيًّا؟ لو كانت واحدة فكيف يُمكن لنا أن نُفسِّر اختلاف اللغة، وواقعة أنَّنا لا نسمع أي شيء عن وحدة لا تمايز فيها ولا اختلاف في كتابات القديسة تريزا؟ إن الحالات الجزئية التي اخترناها للمقارنة، مثل إيكهارت والقديسة تريزا، تضع أمامنا أفضل معيار يُمكن أن نجده لهذا الموضوع؛ إذ سيكون من الصعب التفكير في أي زوج آخر من المتصوِّفة المسيحيين يختلفان أتمَّ الاختلاف، أو يكونان قطبَين، يختلف الواحد منهما عن الآخر في الشخصية، والمزاج، والقدرات الذهنية، والمواقف العامة.

ليس صحيحًا، بادئ ذي بدء، أن نقول إن تجربة إيكهارت والقديسة تريزا ليس بينهما شيء مشترك؛ لأنهما معًا يتحدَّثان عن «الاتحاد بالله»، وذلك شيء مشترك بين متصوِّفة المسيحية، وهو جزء من التراث الشائع. ومن الطبيعي أن نفترض أنهم جميعًا يقصدون بها شيئًا واحدًا، ما لم يكن هناك دليل إيجابي على العكس. ولو استطاع المرء أن يتخيَّل أن «إيكهارت» و«القديسة تريزا» قد تقابلا عبر العصور، فسوف يكون مدهشًا، يقينيًّا، أن نجد أنهما في حديثهما عن «الاتحاد بالله» يقصدان تجربتين مختلفتين أتمَّ الاختلاف، وأنهما في الواقع يتحدثان عن أغراض متضادة. وإذا كان هناك بين متصوِّفة المسيحية مثل هذا النوع من التجربة المختلفة اختلافًا جذريًّا، التي أطلق عليها — بسبب سوء الفهم — اسمًا واحدًا هو «الاتحاد بالله»، فسوف يكون مذهلًا أن هذه الواقعة لم يكتشفها متصوِّفة المسيحية أنفسهم على الإطلاق. أجل، فليس لها ذكر في أي مكان في كتاباتهم. إذ من الواضح جدًّا أنهم جميعًا يفترضون أن هناك تجربة واحدة عظيمة يُشيرون إليها على أنها «الاتحاد بالله»، ويعتقدون جميعًا أنهم يشتركون فيها بعضهم مع بعض، رغم اختلافهم بالطبع في الدرجة.

يفصل بين «إيكهارت» و«القديسة تريزا» قرنان من الزمان، كما تفصل بينهما مسافة مكانية وثقافية، هي التي تفصل بين ألمانيا وإسبانيا. أيجعلنا ذلك أكثر استعدادًا وقبولًا للإيمان بأنهما يقصدان من «الاتحاد مع الله» تجربتَين مختلفتَين أتمَّ الاختلاف؟ علينا — لكي نختبر ذلك — أن نُناقش حالة «القديس يوحنا حامل الصليب».٧٤ وأن نستخدمه كحد ثالث أو قنطرة بين الاثنين. والمهم هو أن «القديسة تريزا»، و«القديس يوحنا حامل الصليب» لم يكونا فقط متصوِّفَين إسبانيَّين، وعاشا في فترة زمنية واحدة مع بعضهما، لكنَّهما ارتبطا ارتباطًا وثيقًا في عملهما المشترك، وهو إصلاح الأديرة الكرملية؛٧٥ فقد تعاونا في حركة إصلاح. ويقول «كيرت ف. راينهورت» المترجم الحديث للقديس يوحنا حامل الصليب: «على الرغم من أنَّ يوحنا كان أصغر من الأم تريزا بسبع وعشرين سنة، فقد أصبح هو الموجِّه الروحي لها، كما أصبح أحد اثنين من كهنة الاعتراف لمائة وثلاثين راهبة في الديرة.»٧٦

ليس من المعقول أن نفترض في مثل هذه الظروف، أن تجارب القديسة تريزا و«القديس يوحنا» قد مرَّا بالتجربة المُسمَّاة «بالاتحاد مع الله»، لكنَّهما يقصدان بهذه العبارة أشياء مختلفة أتمَّ الاختلاف، وأنه بسبب صلتهما ببعضها، لم يكتشفا أبدًا أن هناك اختلافًا بينهما. والسؤال الآن هو ما إذا كانت التجربة التي مرَّ بها القديس يوحنا هي نفسها التي تحدَّث عنها إيكهارت، وأطلق عليها اسم «الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف». لو كان الأمر كذلك فلا بد أن تكون القديسة تريزا هي الأخرى قد مرَّت بهذه التجربة.

لم يستخدم القديس يوحنا — على قدر ما أعلم — أيَّة عبارة تُطابق بالضبط العبارة التي استخدمها إيكهارت؛ فلم يكن لديه العمق الفلسفي ولا موهبة التفكير المجرد، التي كان يتميَّز بها إيكهارت، لكنَّه كان يملك ذهنًا أفضل بكثير من القديسة تريزا، أكثر دُربة وقدرة على التحليل. كما كان يتمتَّع بموهبة ملحوظة في الوصف السيكولوجي؛ فقد وَصَف، بنفاذ وثراء في التفصيلات، كيف أن الذهن لكي يصل إلى الاتحاد فلا بد له أن يكبت بداخله جميع الإحساسات، والصور، والأفكار، وأفعال الإرادة. وهي نفسها عملية تفريغ الذهن من كل محتوياته التجريبية التي وجدناها عند إيكهارت ومتصوِّفة الأوبنشاد، بل الواقع عند جميع المتصوِّفة الذين كانت لهم قدرة عقلية كافية لتحليل عملياتهم الذهنية، وتخليص الذهن من كل الصور والأفكار الجزئية، هو بالضبط عملية محو الكثرة التي تحدثت عنها «الماندوكا أوبنشاد»؛ لأن الكثرة المُشار إليها ليست شيئًا آخر سوى كثرة الإحساسات، والصور، والأفكار، التي تتوالى عادة في الوعي. والنتيجة الوحيدة للتخلص من كل محتويات الذهن لا يُمكن أن تكون سوى الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف «فهي لا تؤدي إلى اللاوعي أو اللاشعور».

وفي استطاعتنا أن نقتبس بعض الفقرات المناسبة من القديس يوحنا، تُعبِّر عن وجهة نظرنا:
«لا بد للروح أن تفرغ كل ما فيها من كل تلك الصور والأشكال المُتخيَّلة، ولا بد أن تبقى في ظلام حالك بالنسبة لكل هذه الأمور …»٧٧
ولا بد للروح أيضًا:
«أن تبقى ساكنة، فلا تنخرط في أي تأمل جزئي، ودون أن تقوم بأفعال، أو أن تمارس ملكات التذكر، والفهم، والإرادة …»٧٨
وهو يُخبرنا أنَّنا عندئذٍ نصل إلى:
«اغتراب الروح وانسحابها من جميع الأشياء والصور والأشكال، ومن تذكرها أيضًا.»٧٩
ونحن نقرأ في فقرة أخرى:
«كلَّما تعلمت الروح الاستقرار فيما هو روحي، توقَّف عمل الملكات، وأفعالها الجزئية ما دامت الروح تُصبح أكثر وأكثر مجتمعة في فعل واحد خالص لا ينقسم.»٨٠

[التشديد من عندي.] وترتبط عبارة «الفعل الواحد الخالص الذي لا ينقسم» إنْ لم يكن لها نفس المعنى، بعبارة «الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف»، والاختلاف الوحيد هو في استخدام كلمة «فعل»، غير أن القديس يوحنا — مثل إيكهارت — يؤكِّد توقُّف كل نشاط.

وذلك من الدلائل التي يُمكن جمعها للإيمان بأنَّ القديس يوحنا — وربما القديسة تريزا أيضًا — قد مرَّ بتجربة صوفية، هي في جوهرها نفس تجربة إيكهارت، فلماذا لم تستخدم القديسة تريزا أبدًا مثل هذه اللغة التي استخدمها إيكهارت وتحدَّث فيها عن الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف؟ الجواب، في رأيي، هو أنها كانت امرأة تأخذ بالورع المسيحي البسيط إلى أقصى حد، وبلا أدنى اهتمام بالجانب النظري، أو التفكير المجرد، أو التحليلات والتمييزات الفلسفية، فليست لها القدرة على ذلك. وعبارة «الاتحاد بالله» ليست وصفًا بغير تأويل لتجربة أي موجود بشري، وإنَّما هي تأويل تأليهي للوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف. والواقع أن تجربة القديسة تريزا هي نفسها تجربة إيكهارت، إلَّا أن القديسة عجزت عن التفرقة بين التجربة والتأويل، حتى إنها عندما مرَّت بتجربة الوعي الصوفي الواحد الذي لا ينقسم، قفزت فورًا إلى التأويل المعروف في المعتقدات المسيحية. وهي من هذه الزاوية لا تختلف على الإطلاق عن النموذج الذي قدَّمه «جون ستيورات مل» عن رجل الشارع الذي يرى مسطحًا ملونًا لشكل ما، ثم يقول على الفور «إنَّني أرى أخي!»

سوف أترك الآن ميدان التصوف المسيحي، وسوف أحاول أن أُبيِّن أنَّنا نجد نفس التجربة الانطوائية، بنفس ملامحها الجوهرية في ثقافات أخرى إلى جانب الثقافة المسيحية والهندوسية اللتين درسناهما بالفعل، وسوف نأخذ أفلوطين في البداية كممثل للتصوف في العالم الوثني؛ فلم يكن أفلوطين تابعًا لأي مذهب ديني منظم، وإنَّما كان يؤمن بميتافيزيقا أفلاطون التي سعى إلى تطويرها ودفعها إلى الأمام. كتب يقول: «في رؤيتنا لأنفسنا هناك مشاركة مع النفس وقد استعادت نقاءها.» وهذا يعني أن الوعي بالأنا الخالص «قد استعاد نقاءه»، أعني أنه تحرَّر من محتوياته التجريبية. ثم يستمر قائلًا:
«لا شك أنه ينبغي علينا ألَّا نتحدث عن الرؤية، وإنَّما نتحدَّث، بدل الرؤية والرائي، عن وحدة بسيطة؛ لأننا في هذه الرؤية لا نُميِّز بين شيئين، وليس هناك شيئان؛ إذ يندمج الإنسان مع الموجود الأعلى ويتَّحد به؛ ففي الانفصال وحده توجد الثنائية. وهذا هو ما يجعل الرؤية تربك الأنباء. إذ كيف يُمكن للمرء أن يستعيد أنباء الموجود الأعلى كموجود منفصل بينما قد رآه وهو متحد مع ذاته … فقد أصبح الرائي واحدًا مع المرئي … أصبحت وحدة لا اختلاف فيها بينه وبين أي شيء آخر … وأصبح العقل معطلًا مؤقتًا، وكذلك التفكير، وحتى الذات نفسها استحوذ عليها الله، فأصبحت في سكون مطبق، وهكذا هدأ الوجود بأسره …
تلك هي حياة الآلهة، أو ما يُشبه الآلهة، والرجال المباركين — التحرر من كل ما هو غريب يزعجنا هنا — حياة لا تجد أيَّة متعة في الأشياء الأرضية. إنها: فرار المتوحد إلى المتوحد.»٨١
هذه الفقرة الشهيرة عينة تامة تقريبًا لوصف التجربة الانطوائية التي تذكر بوضوح جميع الخصائص المشتركة لهذه التجربة، على نحو ما توجد في جميع الثقافات. وما يتأكَّد بصفة أساسية هو تجاوز ثنائية الذات والموضوع، والتفرقة بين الذات الفردية والواحد. غير أن صاحب التجربة يقول أيضًا إنَّه «ليس لديه أي اختلاف لا في علاقته بذاته، ولا بأي شيء آخر»، وهو إنكار واضح لكل تمييزات المحتوى التجريبي للوعي. والتجربة لا يُمكن وصفها؛ «فهي تربك الأنباء». ومن الممتع أن نلاحظ أن أفلوطين يُقدِّم مبررًا لعملية عدم إمكان الوصف هذه؛ فليس السبب هو أن التجربة «مذهلة للغاية، بحيث لا يُمكن التحدث عنها»، كمن وقع في الحب، أو أيَّة تجربة عاطفية أخرى. وإنَّما السبب منطقي: إن وصلك لشيء ما يعني أنه يقف أمامك كموضوع، تنظر إليه وتفحصه، وتلاحظ خصائصه. غير أن هذا الشرط للوصف لا يتحقَّق في حالة تجربة الواحد، ما دام صاحب التجربة قد اندمج فيه وأصبح واحدًا معه، وبلا أي انفصال عنه. أعتقد أنه لا بد من تدوين هذا الاستدلال على أنه تأويل أفلوطين وليس جزءًا من التجربة الفعلية. على الرغم من أنه لا بد أن يكون هناك شيء في التجربة أعطى فرصة لهذا التأويل. وهو ما سوف نحاول أن نكتشفه، لكن من الواضح أنه يتفق مع كل متصوِّف عظيم في كل بلد، وفي كل ثقافة: إن عدم إمكان الوصف المزعوم يرجع إلى نوع من الصعوبة المنطقية الأساسية الكامنة، ولا يرجع إلى محض الشدة العاطفية أو الانفعالية.

ويبرز أفلوطين أن العناصر المشتركة الأخرى هي أن التجربة تجاوز مجال الفهم أو العقل، وأنها تجلب الغبطة إلى صاحبها، كما يكمن فيها أيضًا الشعور الديني بالقدسي أو الإلهي.

يُمكن أن نتناول التصوف بعد ذلك عند صوفية الإسلام؛ فالغزالي العظيم الذي له في الإسلام مكانة يُمكن أن تُقارن بمكانة أوغسطين في المسيحية، كتب يقول:
«عندما يدخل الصوفي إلى الوحدة المطلقة الخالصة مع الواحد والتوحد، فإن الأخلاق تصل إلى نهاية صعودها ورفعتها، فليس ثمة صعود يجاوزها طالما أن الصعود يتضمَّن الكثرة … فهو صعود من مكان ما … إلى مكان ما، وعندما تُحذف الكثرة، تقوم الوحدة، وتتوقَّف العلاقات.»٨٢
والفقرة التالية مقتبسة من محمود الشبستري (١٣٢٠م)٨٣ يقول:
«في الله لا توجد ثنائية. في ذلك الحضور لا توجد «أنا»، و«نحن»، و«أنت»؛ «أنا»، و«أنت»، و«نحن»، و«هو» تُصبح واحدًا … طالما أنه لا يوجد تمايُز في الوحدة؛ إذ يُصبح «الطلب» و«الطالب» و«الطريق» شيئًا واحدًا.»٨٤
هذان النصَّان ناقصان، من حيث إنهما لا يذكران جميع الخصائص المشتركة للتجربة الانطوائية، لكنهما يذكران الخاصية «النواة» الجوهرية، وأعني بها الوحدة المطلقة التي تستبعد منها كل كثرة. فالغزالي يذكر أنه في التجربة لا توجد علاقات، وذلك نتج بالطبع من واقعة أنه لا توجد كيانات متميزة لترتبط في علاقة. ويؤكِّد محمود الشبستري اندماج الشخصيات الفردية واندماجها مع الواحد، وهو جانب من التجربة سوف تُخصَّص له عناية خاصة في القسم التالي من هذا الفصل. ولو أن القارئ رجع إلى الوراء ونظر في النصوص التي اخترناها من أبي يزيد البسطامي كنموذج للغة غير النقدية التي كثيرًا ما يستخدمها المتصوِّفة في عصور ما قبل العلم، لاستطاع الآن أن يتعرَّف على العناصر الجوهرية التي تتوارى في أسلوب سيئ الطالع، ولعرف أنها واحدة عند «الغزالي» و«الشبستري»، وجميع المتصوِّفة الانطوائيين الآخرين.
لقد ازوَرَّ التراث اليهودي باستمرار عن ذلك النوع من التصوف الذي يزعم بوجود الهوية أو حتى الاتحاد مع الله. وكان تأكيده على وجود هوة عظيمة تفصل بين الله وخلقه. حتى إن الزعم بوجود اتحاد، أو هوية، ينفي تلك الهوة اعتَرضَ عليه، بصفة عامة، اليهوديُّ المتدين؛ ومن ثَم فقد كان ذلك التراث فقيرًا في نوع التصوف الذي نعرضه الآن. ومع ذلك هناك بعض النماذج يُمكن أن توجد عند «الحسدية»٨٥ المتأخرة، على الرغم من أن معظم اليهود المعتدلين ينظرون إليها على أنها هرطقة. ومن ثَم فإننا نجد بروفيسور «ج. ح. شوليم» يقتبس من أحد متصوِّفة الحسدية قوله:
«هناك أولئك الذين يخدمون الله بعقولهم البشرية. وآخرون يحدقون في العدم. ومَن وهب هذه التجربة العليا يفقد واقعية عقله، لكنَّه عندما يعود من مثل هذا التأمُّل إلى العقل، يجد أنه مليء بما هو إلهي، وبروعة متدفقة.»٨٦

صحيح أن هذا النص لا يذكر الاتحاد مع الواحد، لكن الكلمة الهامة هي «العدم»، التي تعني غياب كل كثرة، ومن ثَم كل مضمون تجريبي، إنَّها بغير شك الخلاء الذي لا تمايز فيه ولا اختلاف، وهو لا يُمكن أن يعني شيئًا آخر سوى التجربة الانطوائية الموصوفة وصفًا كاملًا في أنواع أخرى من التراث.

سوف نُناقش في قسم خاص مشكلة ما إذا كانت البوذية تقع تمامًا خارج المجال الذي يُمكن أن يوجد فيه المحور المشترك للتجربة الصوفية أم لا. وما إذا لم يكن ما يُسمَّى بالتصوف البوذي هو نوع مختلف أتمَّ الاختلاف عن النوع الذي ناقشناه، وليس بينهما شيء مشترك أم لا. وذلك لا يُشير في الواقع إلَّا إلى التعاليم البوذية لمدرسة «الهنايانا» التي قيل إنَّها، بمعنًى أو بآخر، «إلحادية». ومن ثَم فخارج نطاقها — في الغرب على الأقل — ينظر إلى هذه التعاليم على أنها ديانات متميزة عن الفلسفة. ويصعب أن تحوم ظلال الشك نفسها حول «بوذية المهايانا»، لا لأن «المهايانا» وجدت فائدة كبيرة من استخدام فكرة الله، أو على الأقل كلمة الله. لكنها تعرض من بعض الجوانب طابع العودة إلى نظرة العالم في فلسفة «الفيدانتا» على نحو ما توجد في «الأوبنشاد». لقد انبثقت البوذية من الهندوسية، والمهايانا هي تصوُّرها الميتافيزيقي للحقيقة المطلقة، على خلاف «الهنايانا» التي رفضت كل تأمل ميتافيزيقي على أنه لا غناء فيه. رغم اتفاقها مع «الفيدانتا» في تصوُّر الاتجاهات النهائية نحو اللاشخصية التي تجعل استخدام كلمة «الله» غير ملائمة تمامًا. ومن هنا فربما كان من الإنصاف أن نتحدث عن «المهايانا» حديثًا مقتضبًا ومبتورًا تمامًا، وهو كل ما يُمكن أن نُقدِّمه في هذا الكتاب.

تظهر في كتابات مدرسة «المهايانا» تجربة اللاتمايز وعدم الاختلاف نفسها التي هي الموضوع المركزي للنوع الانطوائي من التصوف في كل مكان، وهي المصدر في تصوُّر سونياتا Sunyata أو «الخواء»، الذي هو التصوُّر الميتافيزيقي الرئيسي عند هذه المدرسة البوذية. وينكشف «السونياتا» أو الخواء الخالص في «البرجنا Prajna» أو «الوعي الصوفي». والاقتباسات الآتية مأخوذة من سوترا Sutra.٨٧ معروفة باسم: «صحوة الإيمان». تمَّ تأليفها حوالي القرن الأول، وهي تُنسَب تقليدًا إلى «أشفاجوشا Ashvagosha»، ما عدا آخر نص فهو مأخوذ من «سورانجاما سوترا».٨٨ وأول نص بعد أن يُفرِّق بين «الوعي الذي يُميِّز» — وهو بالطبع وعينا اليومي المألوف، وبين «الوعي الحدسي» أو «ماهية العقل»، الذي تكمن الاستنارة في الوصول إليها — يستمر قائلًا:
«لا تنتمي ماهية العقل إلى أي تصوُّر فردي للظواهر، أو اللاظواهر … فهي ليس لها وعي تجزيئي، وهي لا تنتمي إلى أي نوع ذي طبيعة مرغوبة. فعملية التفريد والوعي بها لا تظهر إلى الوجود إلَّا في الموجودات الواعية التي تعتز بخيالات الاختلافات الكاذبة …»٨٩
لسنا بحاجة إلى تضييع الوقت في إبراز الانتقادات التي يُمكن أن تُوجَّه إلى هذه الفقرة، مثلًا: كيف يُمكن للوعي العادي أن يظهر نتيجة «للخيالات الكاذبة» للاختلافات؟ ذلك لأننا لسنا معنيِّين هنا إلَّا بروايات الوعي الصوفي، الذي يغيب في عمليات التفرد والاختلافات، والتي تتفق في الحال مع بقية تراث التصوف الانطوائي في طابعه المركزي. ونجد أيضًا العبارة الآتية في نفس السوترا:
«وتتحرَّر ماهية العقل في حالة الاستنارة من كل طرق التفرد والتفكير الذي يُميِّز …»٩٠
كما نجد أيضًا:
«لو كان أي موجود واعٍ قادرًا على أن يبقى مُتحرِّرًا من كل تفكير يُميِّز، فإنَّه سوف يبلغ حكمة بوذا.»٩١
وتصور «سيرانجاما سوترا» بوذا وهو يقول لتلميذه المقرَّب «أناندا»:
«لو أنَّك رغبت الآن يا «أناندا»، في فهم أكثر كمالًا للاستنارة القصوى … فإن عليك أن تتعلَّم أن تُجيب عن الأسئلة دون الرجوع إلى التفكير الذي يُميِّز؛ ذلك لأن التاثاجاتس Tathagats٩٢ … قد تحرَّروا من عجلة العود الأبدي: عجلة الموت ثم الميلاد من جديد بهذه الطريقة الوحيدة، وهي الثقة والاعتماد على عقولهم الحدسية …»٩٣

يصعب أن تُشعرنا هذه النصوص بأنَّ مَن كتبوها يصفون تجربتهم الخاصة، وقد تكون عبارات من التراث، لكنها لا بد أن ترتد إلى تجارب مرَّت بها موجودات بشرية بالفعل، وهي تكفي لبيان أن نوع التجربة الصوفية التي هي مصدر «لبوذية المهايانا»، لا تختلف في طبيعتها عن نوع التجارب الانطوائية التي وجدناها في الثقافات الأخرى المتحضرة.

وطبقًا لما يقوله بروفيسور د. ت. سوزوكي،٩٤ فإن «سونياتا» أو الفراغ أو الخواء البوذي، تعني:
«الفراغ المطلق الذي يُجاوز كل أشكال العلاقات المتبادلة … ففي الفراغ البوذي لا يوجد زمان، ولا مكان، ولا صيرورة، ولا أي شيء؛ فالتجربة الخالصة هي الذهن الذي يرى نفسه على نحو ما ينعكس على ذاته … ولا يكون ذلك ممكنًا إلَّا إذا كان الذهن هو سونياتا ذاتها [أي فراغ تام]؛ أعني عندما يتخلَّص الذهن من جميع المحتويات الممكنة إلَّا ذاته …»٩٥
لا بد أن نلاحظ — في هذه الفقرة — السمات المشتركة بين تجربة البوذية في الخلاء، وبين تجربة الخواء في التجربة الانطوائية التي لاحظناها في مكان آخر؛ «فالذهن يتخلَّص من جميع المحتويات الممكنة إلَّا ذاته …» فالتخلُّص من جميع المحتويات التجريبية هو الطابع الكلي العام لتلك التجربة. وما الذي يبقى بعد ذلك؟ ليس اللاوعي أو اللاشعور، كما لا بد أن ينتج من عبارة ديفيد هوم التي تخلَّصت من وجود الذات أو النفس، بل إن ما يبقى هو الأنا الخاص، أو الذات نفسها، التي ترى ذاتها «منعكسة على نفسها». ومن الممكن، إذن، أن نمرَّ بتجربة «السونياتا» أو الخواء «فقط عندما يُصبح الذهن هو السونياتا ذاتها». ويتحد معنى هذه العبارة مع «روز بروك»، عندما قال إن روح الرجل الذي يُعاين الله «لا تمايُز فيها ولا اختلاف، ومن ثَم فهي لا تشعر بشيء سوى الوحدة».٩٦ وفضلًا عن ذلك فإن هذه التجربة هي نفسها ما يُدركه، سواء تحدَّث عنه على أنه الخواء، أو على أنه الوحدة، أو على أنه الواحد، أو الذات الكلية. سواء أوَّله على أنه الله، فهو مصدر جميع النظريات الخاصة «بالاتحاد بالله» أو «الهوية مع براهمان»، سواء وجدت في الشرق أو الغرب، وسواء تمَّ التعبير عنها بلغة وحدة الوجود، أو لغة العدمية، أو لغة التأليه. إن الفراغ، والخواء، والعدم، والصحراء، والليل المظلم، والبرية القاحلة، والبحر المتلاطم، والواحد، هي كلها تعبيرات مترادفة عن تجربة واحدة، تجربة بالوحدة المطلقة، التي لا يوجد فيها أي تمايز تجريبي، والتي لا تهتم إذا نُظِرَ إليها على أنها الماهية الخالصة للروح الفردية، أو الماهية الخالصة للكون.
علينا أن نتذكر أننا لم ندخل بعد في بحث «حقيقة» أو موضوعية أيَّة تجربة من هذه التجارب فيما يتعلَّق بما يتزعَّمه من كشف لطبيعة الواقع الحقيقي خارج الذهن البشري، وإنَّما بحثنا فقط الخصائص السيكولوجية للتجربة ذاتها. وفي استطاعتنا الآن أن نُقرِّر بثقة أن هناك إجماعًا واضحًا على الدليل من مصادر مسيحية، وإسلامية، ويهودية، وبوذية، وهندوسية، كما دعمها شهود من الصوفية الوثنية، من أمثال «أفلوطين»، والأديب الإنجليزي المعاصر: ج. أ. سيمونز،٩٧ أنه يوجد نوع مُحدَّد من التجربة الصوفية، وهو واحد في جميع الثقافات، والديانات، والعصور، والظروف الاجتماعية، التي وصفوها جميعًا بالخصائص المشتركة الآتية:
  • (١)

    الوعي الموحِّد الذي يستبعد منه كل كثرة للمضمون الحسي أو التصوُّري أو أي مضمون تجريبي آخر، حتى إنه لا يبقى سوى الوحدة الفارغة أو الخالية فحسب، تلك هي الخاصية الأساسية والجوهرية أو النواة، التي تنتج عنها معظم الخصائص الأخرى.

  • (٢)

    التجربة ليست مكانية أو زمانية، وهي خاصية تنبع بالطبع من الخاصية النواة التي ذكرناها توًّا.

  • (٣)
    الشعور بالموضوعية، أو الواقع الحقيقي Reality.
  • (٤)

    الشعور بالغبطة، والنشوة، والسلام، والسعادة … إلخ.

  • (٥)

    الشعور بأنَّ ما تمَّ إدراكه هو القدسي أو الإلهي (راجع ملاحظاتي حول هذا الموضوع فيما سبق). وربما لا بد أن نُضيف أن هذا الشعور أقل قوة عند متصوِّفة البوذية عنه عند المتصوِّفة الآخرين، رغم أنها لم تكن مجردة تمامًا، وتظهر على الأقل في صورة التوقير العميق الذي ينظر إليه على أنه نبيل إلى أقصى حد. ولا شكَّ أن ذلك يُفسِّر الطابع «الإلحادي» لمدرسة «الهنايانا» البوذية. فلا بد أن نلاحظ أن الشعور «إلهي» تمامًا، قد تطوَّر بقوة في تصوُّف وحدة الوجود الهندوسي، على نحو ما تطور في تصوُّف التأليه في الغرب وفي الشرق الأوسط.

  • (٦)

    الانطواء على مفارقة.

  • (٧)

    زعم المتصوِّفة أنها تجربة تفوق الوصف.

وطالما أنَّنا بحثنا عن المحور الكلي العام، أو عن مجموعة الخصائص المشتركة، في جميع أنواع التصوف الانبساطي أو الانطوائي، فإن علينا أن نُقارن ونُكمل القائمة السابقة بالقائمة المقابلة لها في التصوف الانبساطي (في القسم الخامس من هذا الفصل)، على الرغم من أنه سيبدو للوهلة الأولى أن الاختلاف بين القائمتَين ضئيل للغاية، لكن من المرغوب فيه، قبل أن نفعل ذلك، أن تكون أمامنا المناقشات الموجودة في الأقسام الثلاثة التالية.٩٨

ثامنًا: التصوف الانطوائي: فناء الفردية

لا يوجد في التجربة الصوفية كثرة ولا تمايز. ولا بد أن ينتج من ذلك أنه يوجد فيها تمايُز بين موضوع آخر، كالتمايز مثلًا بين الذات والموضوع، وإذا كان ما يُدركه ويؤوِّله صاحب التجربة هو الواحد أو الذات الكلية، أو المطلق، أو الله، فسوف ينتج من ذلك أن تفقد الذات الفردية صاحبة التجربة فرديتها، وتكف عن أن تكون فردًا منفصلًا، وتفقد هويتها لأنها تضيع أو تندمج في الواحد، أو المطلق، أو الله. وذلك كله — في الصورة التي وضعته فيها — هي مجرد استدلال منطقي أو تأويل. ولا بد أن نسأل الآن عمَّا إذا كانت التجربة تدعمه على نحو مباشر أم لا. فهل هناك تجربة مباشرة بفناء الفردية المنفصلة في شيء يُجاوزها، يدركها على نحو مباشر، ثم يبتلعها إن صحَّ التعبير؟ الجواب هو بالتأكيد: نعم. غير أن ذلك لا ينبغي اعتباره تجربة ثالثة جديدة، تعلو وتُجاوز النوعَين الآخرَين؛ الانبساطي والانطوائي اللذين ناقشناهما من قبل؛ فجانب من جوانب التجربة الانطوائية، يحتمل وجوده في جميع التجارب الانطوائية، لكن يُشدِّد عليها في بعض هذه التجارب فحسب. وفي العينات التي ذكرناها في القسم الأخير ورد بشكل خاص هذا الاختفاء للفردية المنفصلة، وتأكَّد في النص الذي اقتبسناه من أفلوطين «… ويندمج صاحب التجربة في الوجود الأعلى، ويُصبح واحدًا معه.»٩٩
ويبدو أنه كان مقصودًا ومتضمَّنًا — وإن كان لم يبرز بوضوح — في تجربة ج. أ. سيمونز،١٠٠ كما ذكرناه في نص سابق لإيكهارت.١٠١ «تغوص الروح وتضيع في هذه الصحراء وتتدمَّر هويتها». وهو أيضًا ما كان يعنيه «روز بروك» في عبارته الشعرية عن الوحدة المقدسة، أعني «ذلك الصمت المظلم الذي يفقد فيه المحبون أنفسهم». غير أن هذا الجانب لم يذكر في بقية الحالات التي سقناها. ولمَّا كان لهذا الجانب من التصوف أهمية عظمى، على المستوى النظري والعملي معًا، فسوف أُخصص هذا القسم لبعض الحالات من التجربة الانطوائية، ونشك بصفة خاصة على حالتين معاصرتين تُلقيان الضوء على سيكولوجية هذا الجانب.
وأول نموذج لنا هو — مرة أخرى — أفلوطين:
«أنت تسأل كيف يُمكن لنا أن نعرف اللامتناهي؟ وأنا أجيبك، إنَّنا لا نعرفه عن طريق العقل؛ لأن وظيفة العقل التمييز والتحديد. ولا يُمكن أن يكون اللامتناهي على مرتبة واحدة مع موضوعاته. إنَّك لا يُمكن لك إدراك اللامتناهي إلَّا … بالدخول في حالة لا تعود فيها موجود أنت ولا ذاتك المتناهية. وهذا يعني … تحرُّر ذهنك من الوعي المتناهي. وعندما تتوقَّف عن أن تكون متناهيًا فإنَّك تُصبح واحدًا مع اللامتناهي … وتتحقَّق هذه الوحدة أو هذه الهوية.»١٠٢ [التشديد على الكلمات من عندي.]
يُمكن أن نُصنِّف النصف الأول من هذه الفقرة على أنه تأويل فلسفي. غير أن النصف الثاني الذي يبدأ بالكلمات الأولي التي شُيِّدت عليها، هو وصف مباشر لحالة الذهن التي مرَّ أفلوطين بتجربتها. فهو في نفس هذه الرسالة إلى «فلاكوس» يقول:

«إنَّنا لا نستطيع أن نستمتع بهذا السمو إلَّا بين حين وآخر … لقد تحقَّقتُ أنا نفسي منه ثلاث مرات حتى الآن.»

لو أنَّنا انتقلنا الآن من التصوف الدنيوي غير اللاهوتي عند أفلوطين إلى أقوال ثلاثة متصوِّفة من الديانات التأليهية الثلاثة؛ وهي المسيحية، والإسلام، واليهودية، فسوف نجد كثرة من الدلائل على أنهم مرُّوا بالتجربة نفسها التي ضاعت فيها الفردية.

فلقد كتب «هنري سوزو»،١٠٣ مثلًا، يقول:
«عندما تفقد الروح وعيها الذاتي في الحقيقة ذاتها، فإنَّها تجعل مُستقرها في ذلك الغموض العظيم الذي يُصيب بالدوار، وهي بذلك تتحرَّر من كل عقبة أمام الاتحاد، ومن خصائصها الفردية … عندما تختفي في الله … وباندماج الروح في الله فإنَّها تختفي …»١٠٤
سوف نجد أن أمثال هذه العبارة «تختفي» و«تذوي» تتكرَّر كثيرًا عند المتصوِّفة؛ مسيحيين ومسلمين، للتعبير عن الشعور الفعلي أو التجربة التي مرُّوا بها. وفي الفقرة التي اقتبسناها الآن توًّا من «سوزو» نراه يتحدَّث بإفراط عن ضياع الهوية الشخصية. صحيح أنه مع ذلك يضيف في الحال بعض التحفظات. فهو يقول إن الروح تختفي «ليس اختفاءً تامًّا؛ لأنها لا تصبح الله بالطبيعة … فهي لا تزال شيئًا خلقه الله». ويُشير ذلك إلى نزاع شهير نشب بين الديانات التأليهية الثلاث حول التأويل الصحيح الذي يُقدِّم لتجربة «الاختفاء» في اللامتناهي. ولقد أدان اللاهوتيون المعتدلون في الديانات الثلاث، بقوة، ما أسموه «بوحدة الوجود». وجعلوا عيونهم يقظة تراقب وتُهدِّد المتصوِّفة لميلهم المؤكِّد إلى مذهب وحدة الوجود. «والمفروض أن وحدة الوجود تعني، عمومًا، وحدة الله والعالم. ولكنَّها تعني، عادة، في النزاع الذي نشب بين المتصوِّفة واللاهوتيين «أو رجال الدين» الهوية بين الله وذلك الجزء من العالم الذي هو الذات الفردية. ولقد سمح رجال الدين للمتصوِّفة بالزعم «بالاتحاد بالله»، إلَّا أن هذا الاتحاد لا ينبغي تأويله على أنه «الهوية»، بل على أنه شيء يختلف قليلًا عن الهوية الفعلية المطلقة».
وهناك متصوِّف مسلم، عام ٩٢٢م، يُسمى «منصور الحلَّاج»،١٠٥ الذي صُلب في بغداد؛ لأنه استخدم لغة — بعد بلوغه الاتحاد بالله — يبدو أنه يزعم فيها الهوية مع الله.١٠٦
ويعتقد اللاهوتيون أنه حتى في حالة الاتحاد بالله، فلا بد أن تظل فردية المتصوِّف منفصلة ومتميزة عن الله. وبالتالي فلا بد أن يُفهم ذلك الاتحاد بطريقة أخرى. ويُثير ذلك مشكلات تتعلَّق بوحدة الوجود، سوف نناقشها في الفصل الرابع، ولا بد لنا أن نُلاحظ حتى ذلك الحين، أن متصوِّفة الكاثوليكية في العصور الوسطى، الذين كانوا يخضعون، في العادة، خضوعًا كاملًا للكنيسة، كانوا عندما يصفون تجربة الاتحاد، حريصين على ازدراء وحدة الوجود، وعلى القول بأنَّ الروح الفردية لا تختفي تمامًا في الله، بل تظل كائنًا متميزًا. ومن ثَم فإن عبارة «سوزو» عن هذه النتيجة ينبغي النظر إليها، لا على أنها وصفه التلقائي لتجربته الفعلية، وإنَّما هي تأويل وضعته على لسانه — تقريبًا — قوة السلطات الكنيسية. وهذا لا يعني القول بأنَّ تأويله لا بد بالضرورة إمَّا أن يكون غير مخلص أو خطأ. بل هي مشكلة علينا مناقشتها عندما ندرس مذهب وحدة الوجود، لكن من المستحيل أن لا نلاحظ — ربما بقدر من المتعة — أن متصوِّفة الكاثوليكية كثيرًا ما يقولون عبارات تبدو غير حذرة، تنطوي على هوية وحدة الوجود الكاملة، ثم يضيفون بسرعة فقرة متحفظة، كما لو كانوا تذكروا فجأة السلطات الكنيسية العليا. في الفقرة التي اقتبسناها من إيكهارت، نراه يقول، بلا تحفُّظ، إن «الروح تغوص وتضيع في تلك الصحراء، حيث تتدمَّر هويتها»، غير أن الفقرة الآتية من «إيكهارت» تُبيِّن لنا أنه يتنصل من تأويل وحدة الوجود:
«في هذه الحالة الرفيعة، تفقد الروح ذاتها الصحيحة، وتتدفَّق بفيض غامر في وحدة الطبيعة الإلهية، لكنَّك ربما تسأل ما هو مصير هذه الروح الضائعة؟ هل تجد نفسها أم لا؟ … يبدو لي أنه … على الرغم من أنها تغوص تمامًا في وجدانية الألوهية، فإنَّها لا تلمس القاع أبدًا، فقد ترك لها الله نقطة واحدة صغيرة لتعود منها إلى ذاتها … وتُعرب نفسها على أنها مخلوقة.»١٠٧

فما يُميِّز الذات الفردية عن الخالق — في المصطلحات المسيحية — هو أنها مخلوقة. واستخدام هذه اللغة يجعلنا نُلاحظ أن الكاتب اعترف بوجود الهوة التي تفصل بين الله والإنسان، وهي التي تُصرُّ عليها ديانات التأليه. و«النقطة الصغيرة» هي في الذات الفردية التي لا تندمج مع اللامتناهي بل تظل، بعناد، فردًا متناهيًا ومخلوقًا. غير أن هناك فقرات كثيرة عند «إيكهارت» يحذف منها هذه الفكرة، وهي فقرات لو أخذت بقيمتها المباشرة لتضمَّنت هوية كاملة بين الله والروح في التجربة الصوفية. والكلمات التي اقتبسناها من قبل تُعدُّ نموذجًا على ذلك. وبعض هذه الفقرات التي تُعبِّر عن وحدة الوجود أمسكت بها الكنيسة كأساس لاتهامه بالهرطقة.

وتجربة ضياع الفردية أو «فنائها» في الوجود اللامتناهي عند صوفية المسلمين معروفة جدًّا حتى أصبح هناك مصطلح فني يُطلق عليها، فهي تُسمَّى بحالة «الفناء Fana»، التي تعني حرفيًّا «التلاشي».١٠٨ ويتضايف مع الفناء حالة «البقاء Baqa»، التي تعني بقاء الروح التي مرَّت بتجربة الفناء في الله. وبعبارة أخرى فقد لاحظ بروفيسور نيكلسون «أنَّ الصوفي يرتفع إلى حالة تأمُّل الصفات الإلهية، وعندما يفنى وعيه تمامًا، يتحوَّل عنصره إلى بهاء الجوهر الإلهي».١٠٩ هذه العبارة التي هي شرح نيكلسون بالطبع ليس لها قوة الوصف المباشر الذي يقوله المتصوِّفة أنفسهم، لكن هناك كثرة كثيرة كهذه في كتابات صوفية المسلمين أنفسهم، تدعم المعنى العام لملاحظة نيكلسون، وإن كانت لا تدعم بالطبع عباراته الميتافيزيقية. وفي استطاعتنا أن نقتبس، مثلًا، عبارات من الجنيد (٩١٠م).١١٠
«يغوص الصوفي في المحيط عن طريق الوحدة، والفرار من ذاته … ويُخلِّف وراءه مشاعره وأفعاله كلَّما دخل في الحياة مع الله.»١١١
والفقرة التي اقتبسناها من قبل لأبي البسطامي، تنتهي بهذه العبارة: «سربلني بذاتك، وارفعني لوحدانيتك» حتى «لا أكون هناك على الإطلاق»، أي حتى تتلاشى فرديته المنفصلة.
وتشرح مارجريت سميث هذه القضايا بإيجاز بقولها: «في تلك الرؤية يتلاشى الصوفي عن الذات في الواحد، ويبلغ تلك الحالة من الاتحاد التي هي غاية الطلب.»١١٢
وعلى ذلك يوجد في اللاهوت الإسلامي نفس الإصرار الموجود في اللاهوت المسيحي على وجود هوة عظيمة بين الله والإنسان. والواقع أن الإصرار فيه أكثر من المسيحية، طالما أنه ينظر إلى العقيدة المسيحية في الحلول على أنها هرطقة وإنكار لتلك الهوة. وعلى الرغم من ذلك فإن صوفية المسلمين — بصفة عامة — لم يكونوا حريصين بالقدر الكافي، حرص إخوانهم المسيحيين لتحصين أنفسهم ضد الاتهام بوحدة الوجود. فكثيرون منهم يعطونك الانطباع بأن هناك قدرًا من الشطط أو التهور في أقوالهم. غير أن الغزالي — بهدوئه الفلسفي — يدين تجربة الفناء بوصفها تتضمَّن هوية مع الله.١١٣ وله نظريته الخاصة في كيفية تأويل الفناء، سوف أفحصها فيما بعد.
أمَّا المعتدلون من اليهود، فهم يدينون كذلك، وبصفة مستمرة، مذهب وحدة الوجود على أنه هرطقة. غير أن هذا النزوع الصوفي لوحدة الوجود قد ظهر بين الحين والآخر في الديانة اليهودية، رغم أنه كان مغلَّفًا بعباءة الاعتدال. فالتجربة التي يُطلِق عليها صوفية الإسلام مصطلح «الفناء» كانت شائعة بغير شك، بين متصوِّفة اليهودية، وإن كان من النادر أن تجد التعبير الصريح عنها، لكن «برفسور شوليم» يقتبس من كتابات غير منشورة ﻟ «أبولفيا Abulafia»١١٤ فقرة تُشير بغير شك إلى ذلك:
«جميع القوى الباطنية والأرواح المختبئة في الإنسان تتوزَّع وتتمايز في الأجسام. غير أنها مع ذلك بطبيعتها جميعًا عندما تعود ارتباطاتها فإنَّها تعود إلى مصدرها الأصلي الذي هو واحد بلا ثنائية والذي يؤلِّف الكثرة.»١١٥
ولن تكون هذه الفقرة واضحة ما لم نفهم مجاز «الارتباطات غير المحكمة». ويزودنا «شوليم» بالشرح فيقول: الارتباطات غير المحكمة للأرواح تعني تحرُّرها من قيود التناهي، حتى تعود إلى مصدرها الأصلي، الذي هو الواحد اللامتناهي. ويقول «شوليم» إن المجاز يعني عند هذا المتصوِّف «أنَّ هناك حواجز معينة تفصل الوجود الشخصي للروح عن مجرى الحياة الكونية … فهناك سد يحجز الروح ويُحاصرها … ويصونها من التيار الإلهي الذي يفيض من حولها في كل جانب …» ما الذي يعوق الروح في شخصيتها المتناهية؟ الجواب هو الأشكال الحسِّية والصور التي ينتجها الوعي المتناهي، وهي التي تختفي في التجربة الانطوائية.
وتمثل البوذية — في صورة «الهنايانا» — بعض الصعوبات، لكنَّا قد رأينا بالفعل أن تصوُّف «المهايانا» يُمكن أن يُصنَّف مع ألوان التصوف الأخرى في الثقافات المختلفة فيما يتعلَّق بمشكلة الخصائص المشتركة. وفي استطاعتنا هنا أن نقتبس — دون أي تفسير أبعد — عبارة واضحة عن فناء الفردية من كتابات د. ت. سوزوكي الشارح المعروف لبوذية زن:١١٦
«القوقعة الفردية التي توجد فيها شخصيتي مغلقة بإحكام، وهي تنفجر في لحظة الساتوري Satori (المصطلح البوذي لتجربة الاستنارة)، وليس ثمة ضرورة لاتحادي مع وجود أعظم من ذاتي أو أن أُمتَص بداخله، لكن فرديتي التي وجدتها تتماسك بصلابة بعضها مع بعض، وتنفصل، على نحو قاطع، عن جميع الموجودات الأخرى … هذه الفردية ذابت وتلاشت في شيء لا يُمكن وصفه بأنه شيء له نظام مختلف أتمَّ الاختلاف عن النظام الذي كنت معتادًا عليه …»
وهو يستطرد في هذه الفقرة فيلاحظ ملاحظة هامة هي أن الشعور بالسمو والرفعة كان صاحبًا للساتوري Satori، وهو الشعور الذي تحدَّثنا عنه في مكان آخر على أنه الغبطة، والسعادة … إلخ «وهي تعود إلى أن الساتوري كسر للقيود المفروضة على المرء بوصفه موجودًا فرديًّا … لأنه يعني امتدادًا لا متناهيًا للفرد …»

ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن «سوزوكي» يستخدم تعبيرات «ذابت»، و«تلاشت»، وربما يكون قد استمدَّها من مصادر مسيحية أو إسلامية. وإن كان من غير الضروري أن نفترض ذلك؛ لأن التجربة نفسها توجد في كل مكان، وترتدي نفس الزي، ونفس الكلمات. وعلى أيَّة حال فذلك دليل واضح على أن التجربة واحدة في ثلاث ثقافات.

العبارة التي يقول فيها «سوزوكي» إن هذه التجربة لا تعني بالضرورة «الاتحاد مع موجود أعلى من ذاتي»، لا تدهشنا إلَّا قليلًا، ويبدو أنها تتناقض مع الأساس الذي يقول إن التجربة البوذية واحدة، وهي نفسها تجربة المتصوِّفة المسيحيين والمسلمين. ومع ذلك فلست أعتقد أن هذه النتيجة تنتج منها، لكي أعتقد أن «سوزوكي» أقحم هذه العبارة لأنه كان قلقًا بشأن التفرقة بين موقفه الفلسفي وموقف التأليه الشائع في المسيحية.

لقد كانت الأوبنشاد بالطبع — وكذلك الجيتا Gita مع قدر أقل قليلًا — المصادر الكبرى للتصوُّف الهندوسي. ولو صحَّت فكرتنا من وجود أساس كلي عام للتصوِّف بصفة عامة، وتجربة فناء الفرد بصفة خاصة، فمن المتوقَّع أن نجد في النصوص الهندوسية القديمة أمثال هذه التعبيرات عن ضياع الهوية الشخصية. والتوقَّع لم يُحبَط، فها نجد في «البريهاردنيكا أوبنشاد» النص التالي:
«كما تذوب قطعة الملح التي نُلقي بها في الماء … فكذلك أيضًا الروح الفردية آه! يا ماتريا،١١٧ تذوب وتفنى في الوعي الخالص الأزلي، اللامتناهي والمتعالي. إن الفردية تنشأ من توحيد الذات — عن طريق الجهل — مع العناصر، وعند اختفاء الوعي بالكثرة أثناء الإشراق الإلهي – تختفي.»١١٨
الجزء الأوسط من هذه الفقرة الذي يشرح كيف تظهر الفردية ليس جزءًا من وصف التجربة، ولكنَّه إقحام لنظرية ميتافيزيقية مأخوذة من مذهب سامخيا Samkhya في الفلسفة.١١٩ ومن ثَم فهو يُمكن تجاهله من أجل الغرض الذي نسعى إليه. وبقية الفقرة هي وصف مباشر، تقريبًا، لنفس نوع تجربة فناء الهوية الشخصية في النوع الانطوائي من الوعي الصوفي، الذي وجدناه في مكان آخر. لدينا، إذن، دليل واضح على أن هذه العبارة من التجربة الصوفية، مشتركة مع المتصوِّف الوثني «أفلوطين»، ومع المتصوِّفة المسيحيين من أمثال «روز بروك»، و«إيكهارت»، و«سوزو»، ومتصوِّفة الإسلام، ومتصوِّفة بوذية المهايانا، ومتصوِّفة الهندوسية.

استطعنا في الأقسام السابقة أن نُلقي الضوء على الأوصاف التي قدَّمها المتصوِّفة القدامى، ومتصوِّفة العصور الوسطى، من تجاربهم، وذلك عندما قدَّمنا نماذج مقتبسة لنفس نوع التجربة التي قدَّمها معاصرونا، وعبَّروا عنها بلغة أكثر وضوحًا للعقل الحديث، فهل في استطاعتنا أن نفعل الشيء نفسه بالنسبة للحالة الراهنة؟! أعتقد أنَّنا نستطيع ذلك. سوف أُقدِّم نموذجين؛ الأول للشاعر الإنجليزي «تنسون»، وهو معروف بالفعل في الأدب الإنجليزي، وقد جعل «وليم جيمس» هذا النموذج شائعًا. أمَّا النموذج الآخر فهو أكبر قيمة وأشد تفصيلًا، وهو معروف لمن قرأ مؤلفات «آرثر كويستلر»، لكنَّه ربما لم يدخل حتى الآن في مجال الأدب الصوفي.

كتب «تنسون» في إحدى رسائله يقول:
«كثيرًا ما كان يتكرَّر عندي ضرب من النشوة اليقظة — أقول ذلك لأنَّني لا أجد كلمة أفضل — لازمني منذ طفولتي، عندما أكون وحيدًا تمامًا … إذ يبدو كل شيء فجأة كما لو كان يبتعد عن كثافة الوعي بالفردية؛ فالفردية ذاتها بدت كما لو كانت قد ذبلت وتلاشت في وجود لا حدود له. ولم تكن تلك حالة مختلطة أو مضطربة، وإنَّما بلغت من الوضوح واليقين حدًّا يُجاوز التعبير بالكلمات — حتى لدرجة أن الموت أصبح استحالة تُثير الضحك — ولم يُظهر ضياع الشخصية (لو أنها حقًّا ضاعت) أي انطفاء، بل الحياة الحقَّة الوحيدة.»١٢٠

من الواضح أن جوهر هذه التجربة هو أن «الأنا» أو فردية صاحب التجربة، توارت في «وجود لا حدود له»، وتحطَّمت حدود «الأنا» أو الجدران التي تفصلها عن اللامتناهي وتلاشت. لاحظ كيف تظهر تعبيرات «ذَوَت وتلاشت» و«ذابت» التي تُعاود الظهور في الأوصاف التي اخترناها من ثقافات، وعصور، وبلدان مختلفة، من جميع أنحاء العالم، دون أن تكون نتيجة، فيما يظهر، لأي تأثير متبادل، فليس ثمة دليل على أن «تنسون» قد قرأ أي نماذج كلاسيكية عن فناء الفردية التي عرضناها في هذا القسم. فهل يُمكن أن يكون هناك شك في أن معاودة الظهور المستمر لهذه العبارات المثيرة هو دليل على التشابه التام للتجربة بين حالات تختلف فيما بينها أتمَّ الاختلاف؟ أنا لا أزعم بالطبع أنها دليل على قيمة التجربة أو موضوعيتها، فتلك مسألة أخرى مختلفة تمامًا.

علينا أن نُلاحظ أن «تنسون» — رغم أنه، على قدر علمي، كان من المؤلهة المسيحيين بمعنى أو بآخر — وصف تجربته دون أن يستخدم اللغة الدينية أو اللاهوتية الاصطلاحية المعروفة. فهو لم يذكر كلمة «الله»، بل يستخدم عبارة «الوجود الذي لا حدود له»، والوجود الذي لا حدود له هو نفسه بالقطع، الوجود اللامتناهي. ومن الواضح أن هذه التجربة هي بالضبط تجربة الوجود اللامتناهي التي يؤوِّلها المتصوِّفة المسيحيون بأنها الله. وتتلاشى الذات الفردية في هذا الوجود اللامتناهي هو الذي يؤوَّل على أنه «الاتحاد بالله». ومن ثم فمن الإنصاف النظر إلى عبارة «تنسون» على أنها رواية للتجربة نفسها قبل أن تخضع للتأويل الديني.

لماذا ألحق «تنسون» بعبارة «ضياع الشخصية» تعبيرًا متحفظًا وضعه بين أقواس هو «لو أنها كانت قد ضاعت»؟ ذلك بسبب أن تنسون في هذه التجربة «التي بلغت من الوضوح واليقين حدًّا يُجاوز التعبير»، لم يكن مع ذلك على يقين منها؟ أم إنه كان مضطربًا ومشوشًا أمامها؟ أعتقد أن ذلك ليس هو التفسير الصحيح، أمَّا تفسيري فهو أن «تنسون» ارتبك عندما شعر بما تنطوي عليه كلماته من مفارقة. فقد شعر بالمفارقة على نحو مُبهم، لكنَّه لم يعزلها من الناحية العقلية، بل ثبَّتها لأنه لم يكن مهتمًّا في هذه اللحظة بالتحليل العقلي أو بالمنطق. والمفارقة هو أن «الأنا» تكف عن أن تكون «أنا» غير أن اختفاءها ليس انطفاءً «للأنا»، وإنَّما هو، على العكس، ليس سوى الحياة الحقيقية «للأنا»، وقبل كل شيء، لقد كان «تنسون» هو الذي مرَّ بتجربة اختفاء «تنسون»! ولا شكَّ أيضًا أنها جزء مِمَّا كان يعنيه «إيكهارت» عندما تساءل «ما هو … مصير هذه الروح الضائعة؟ هل تجد نفسها أم لا؟» ثم أجاب عن تساؤله بقوله إن الله «قد ترك لها نقطة صغيرة تعود منها إلى نفسها.»

خصَّص «آرثر كويستلر»١٢١ في كتابه «الكتابات الخفية» فصلًا عن سلسلة التجارب الصوفية، التي مرَّ بها أثناء سجنه، عندما سجَنه أتباع فرانكو بتهمة التجسس أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. والفصل كله له — في رأيي — أهمية وقيمة لا تُقدَّر بالنسبة لمن يدرس التصوف، لكني سوف لا ألتقط عند هذه النقطة سوى ما يبدو لي أنه النواة لهذه التجربة نفسها:
«استلقيتُ على ظهري في نهر السلام، تحت جسر الصمت. أتيت من لا مكان، وأصب في لا مكان، ثم لا يكون هناك نهر ولا «أنا»؛ فقد توقَّفت الأنا عن الوجود … وعندما أقول: «إنَّ الأنا قد كفَّت عن الوجود» فأنا أُشير إلى تجربة عينية … لقد توقَّفت الأنا عن الوجود لأنها أقامت تواصلًا بضرب من الرشح الأزموزي الذهني،١٢٢ مع البركة الكلية أو مع ذلك الجزء من النهار الذي تكون المياه هادئة وعميقة، ثم ذابت فيه، إنَّها هي هذه العملية من الذوبان والانتشار اللامحدود التي تجعلنا نحس بإحساس «المحيط»، حيث يجف كل توتر، ويتحقَّق التطهر المطلق، والسلام الذي يجاوز كل فهم.»١٢٣
ولم يستخدم كويستلر، مثله مثل تنسون، أيَّة لغة دينية اصطلاحية، ومن الجدير بالملاحظة أنه على الرغم من استخدامه لعبارة شهيرة هي «سلام الله الذي يُجاوز كل فهم» فقد حذف كلمة «الله». وينبغي ألَّا نأخذ ذلك، في رأيي، على أنه نزعه ضد الدين، رغم أنَّني لا أعلم رأيه في الدين، وربما فسَّرنا الحذف على أنه يرجع إلى رغبته — وهي رغبة طبيعية عند أي مثقف ثقافة عالية في عصر علم النفس — في أن يُقدِّم التجربة خالصة بقدر المستطاع بغير أي تأويل، لكن ما هي هذه «البركة الكلية» التي شعر فيها بأنَّ فرديته تذوب؟ بركة ماذا؟ الوعي؟ الحياة؟ الذات الكلية؟ لم يقل لنا، لكن من الواضح أن هذه «البركة الكلية» هي نفسها ما أسماه «تنسون»: «بالوجود الذي لا حدود له»، فهي بغير حد ولا تخوم، أعني أنها «اللامتناهي». ويبدو لي أن النتيجة المؤكَّدة هي أن المقصود، هو ما أوَّله المتصوِّفة التأليه يون الكلاسيكيون على أنه الله.
لقد سقتُ تجربتَي «تنسون» و«كويستلر» للمقارنة بينهما وبين التجارب الانطوائية عند متصوِّفة المسيحية، والهندوسية، والإسلام. لكن ربما تساءلنا عمَّا إذا كانتا تنتميان حقًّا إلى مثل هذا التصنيف — عمَّا إذا كانت تجربة «كويستلر» — مثلًا، هي من نفس نوع تجربة «روز بروك»، أعتقد أنها من نفسها في جانب لكن ليست تمامًا. ولهذا فسوف أُصنِّف تجربتَي «تنسون» و«كويستلر» على أنهما أمثلة ناقصة وغير تامة للنوع الانطوائي الكلاسيكي. وهما، يقينًا، انطوائيتان أكثر من كونهما انبساطيتين. طالما أن ما مرَّا بتجربته هو فناء الذات الباطنية، وليس تحوُّلًا في الشكل لموضوعات حسِّية خارجية، وهما يتحدان مع تجارب المتصوِّفة الكلاسيكيين العظماء، بمقدار ما يشعر كل منهما باختفاء «الأنا» عندما تتلاشى في وجود لا متناهٍ، لكن هناك اختلافات؛ أولًا تجربتا «تنسون» و«كويستلر» جاءتهما على نحو تلقائي وبلا مسعى، في حين أن المتصوِّفة الكلاسيكيين، في الأعم الأغلب، يصلون إلى تجارب بالخضوع لنظام قاسٍ صارم يتضمَّن تمرينات دينية، وكبتًا متعمدًا للإحساسات، والصور، والأفكار، لكن لو كان ذلك هو كل شيء لكان علينا أن نُطبِّق مبدأ اللامبالاة السببي، ونقول: إنَّه لو كانت التجارب نفسها واحدة، لكان السؤال عن السبب الذي أحدثها أو سبقها سؤالًا لا قيمة له، لكن ليس ذلك هو كل شيء، إن ما يكون لدينا في حالات التجربة الانطوائية الكلاسيكية المعروضة بشكل موسَّع هو الخواء التام، أو الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف كما عبَّرت عنها «مندوكي أوبنشاد»: «كل وعي بالعالم، وما فيه من كثرة مقاصد قد انطمس تمامًا.» وجانب من جوانب هذا المحو الكلي لجميع التمييزات، هو محو التفرقة بين «الأنا»، والوحدة اللامتناهية التي تقوض فيها، أو تندمج معها، وهذا الجانب هو ما رواه «تنسون»، و«كويستلر»، ولكنَّهما لم يتحدَّثا عن الاختفاء الكلي لجميع التمييزات. ولهذا السبب، فيما يبدو، فإن هاتين التجربتين ناقصتان كتجارب انطوائية.
لقد تكرَّم «مستر كويستلر» — مشكورًا — وأجاب عن بعض الأسئلة التي وجَّهتها إليه لكي أتحقَّق من ذلك. وهي كالآتي:
  • سؤال: هل أكون على صواب لو أنَّني افترضت أن حواسك البدنية أثناء التجربة كانت تعمل، حتى إنَّك واصلت إدراك الموضوعات المادية الموجودة من حولك كالجدران والنوافذ، والموضوعات خارج النافذة …إلخ؟
  • الجواب: نعم.
  • سؤال: هل كانت معتمة ومشوشة عند حافتها؟
  • الجواب: كلَّا؛ بل كانت تمامًا مثلما تكون على هامش الانتباه، غير منتبه إليها.
  • سؤال: يقول نص في «الأوبنشاد»: «التجربة الموحِّدة الخالصة هي تلك التي يُمحى فيها الوعي بالعلم والكثرة محوًا تمامًا»، فهل كانت لك تجربة بشيء كهذا؟ هل تعتقد أن الأوبنشاد عندما تحدَّثت عن الوعي بالكثرة، الذي «انطمس تمامًا» كان في حديثها مبالغة؟
  • الجواب: كلَّا، لم أمر بتجربة كهذه، ولا بد أن تكون من درجة أعلى، لكني أعتقد أن التجربة موجودة على نحو ما، وأنَّ وصفها ليس فيه مبالغة.
وسوف يجد القارئ أنَّني أُتابع «كويستلر» في النظر إلى تجربته على أنها ليست من نوع مختلف عن الحالات الكلاسيكية، وإنَّما هي تجربة غير كاملة ومن درجة أدنى. وربما كان علينا أن نقول الشيء نفسه عن تجربة «تنسون». وأنا كذلك أعلِّق أهمية على الشعور الحدسي الواضح عند «كويستلر»، القائل بأن هناك تجربة الواحدة أو الخواء، الذي لا تمايز فيه ولا اختلاف على الإطلاق، على الرغم مما تنطوي عليه من مفارقة، بل من طابع التناقض الذاتي.

تاسعًا: هل تصوُّف بوذية الهنايانا استثناء؟

لقد سبق أن قلنا إن البوذية تُشكِّل عقبة أمام الفكرة التي تقول إن أنواع التصوف التي وُجِدَت في جميع الديانات الكبرى وفي ثقافات العالم، تتفق في خصائص أساسية مشتركة. ولقد بيَّنا بالفعل فيما سبق أن بوذية المهايانا لا تدعم هذه الوجهة من النظر، فعلى الرغم من أن مذاهبها ونظرياتها تختلف أتمَّ الاختلاف عن نظريات ومذاهب ديانات التأليه، فإن ذلك لا بد من تفسيره على أنه اختلاف في التأويل، لا في التجربة. يبقى أن ننظر فيما إذا كانت توجد عقبات صعبة في حالة بوذية الهنايانا.

دعنا نفترض، على نحو ما تؤكِّد بوذية الهنايانا باستمرار، أنَّ نظرياتها هي النظريات الأصلية لبوذا، وأنَّ مدرسة المهايانا هي التي أفسدتها، أو أنها على أقل تقدير أقرب إلى هذه النظريات الأصلية. وسوف نفترض ذلك من أجل سياق الحجة، رغم ما يوجد في هذا الافتراض من صعوبات، وأنَّ هذا الزعم ينطوي على الأقل على تبسيط مسرف، ثم ماذا؟ هل هناك أي دليل على أن التجربة الصوفية التي تقول بها نظريات الهنايانا هي تأويل لنوع مختلف عن التجربة الانطوائية التي سبق أن ناقشناها؟ ليس في استطاعتنا أن ننتهي إلى ذلك على نحو إيجابي ما لم نبرز، كدليل، الأوصاف الفعلية لتجربة الاستنارة التي مرَّ بها، أو ربما أتباعه من مدرسة الهنايانا، الذين بيَّنوا أنها كانت تجربة من نوع مختلف، لكنَّنا لا نستطيع أن نفعل ذلك. فليست هناك نصوص تثبت ذلك.

الواقع أن هناك نصوصًا من شريعة بالي Pali،١٢٤ تروي حالات «النشوة» أو «الغيبة» المتتالية التي يفترض أن «بوذا» قد مرَّ بها، عندما دخل في لحظات موته في «النرفانا» الأخيرة. وهناك أوصاف أيضًا لما يُسمَّى «بنشوة الانقطاع» أو التوقُّف. ولا شك أنها يُمكن أن تؤخذ كأوصاف لحالات صوفية؛ فهي تميل إلى أن تُصبح، على نحو ما، أنواعًا نمطية جافة، تصدم القارئ ممن له قدر ولو ضئيل من التجربة المباشرة الحيَّة. إن مراحل النشوة التي يُفترض أنهم مرُّوا بتجربتها بعد رحيل بوذا، تُقرأ على أنها قصص مختلقة، تمَّ تأليفها في عصور تالية. وحتى في هذه الحالة فهي لا تتعارض — على نحو — مع الأوصاف التي تقدم للتجربة الانطوائية في الديانات الأخرى. وتعرف نشوة الانقطاع أنها «توقُّف ملكات الذهن كلها عن طريق الانقطاع التدريجي» التي تتفق تمامًا مع أوصاف التجربة الانطوائية التي قدَّمناها في مكان آخر.١٢٥

وعلى ذلك فحتى لو كانت نظريات الهنايانا تأويلات أصيلة للتجارب التي مرَّ بها بوذا أثناء تجربة الاستنارة، فليس هناك دليل مباشر على أن تجربته تختلف بأيَّة طريقة أساسية عن تجارب المتصوِّفة العظام الآخرين؛ لأن الدليل يكمن في الطريق الآخر.

لكن يُمكن أن يُقال إن نظرية «الأناتا Anatta» أو «اللاروح»، إذا ما قبلنا الرواية التي قيلت عنها في شريعة «بالي Pali» على أنها وجهة نظر بوذا، تتناقض على الأقل، من حيث الروح، وربما من حيث المادة أيضًا، مع تجارب المتصوِّفة غير البوذيين. هذه النظرية ترفض — عن طريق حجة شبيهة من الناحية العملية بحجة ديفيد هيوم — تصوُّر الذات أو النفس أو الروح تمامًا. وتذهب إلى أنه لا يوجد شيء في الذهن سوى محتوياته التجريبية. ونستنتج من هذه المقدمات، كما فعل هيوم، أنَّ «الأنا» ليست سوى تيار الحالات الواعية، كما ترفض مدرسة «الهنايانا» أيضًا التصوُّر الهندوسي عن الذات الكلية، التي تتحد مع براهمان أو الموجود الأعلى في هوية واحدة. وليست هذه نظرية شك في وجود الأرواح فحسب، وإنَّما هي نظرية إلحادية أيضًا.
والإلحاد، بما هو كذلك، لا يتناقض — في رأيي — مع التجربة الصوفية الانطوائية؛ لأننا إذا كنَّا رأينا أن فكرة الله تأويل لهذه التجربة فهي ليست جزءًا من التجربة نفسها؛ إذ يُمكن للإنسان أن يمر هو نفسه بهذه التجربة، ويعتنق وجهة نظر ذاتية تمامًا، دون أن يكون هناك دليل على وجود أي شيء يُجاوز وعيه. والحقيقة أن هذه هي وجهة نظر بعض الفلسفات الصوفية الهندية، وقد يعترض فيقول إنَّ رفض الأنا الخالص يقوم على أساس مختلف، وهو بذلك يتعارض مع التجربة الصوفية التي تُذكر في غير الديانة البوذية، فلقد وجدنا في كل مكان أن الصوفي وقد كبت العوامل التجريبية في تيار الوعي، يصل إلى أنا خالص أو إلى وعي خالص، وأنَّ انبثاق هذا الأنا الخالص هو التجربة الانطوائية. ومن ثَم فإزالة الأنا الخالص هو إزالة للتجربة الصوفية ذاتها، على نحو ما وصفنا من قبل. ومن هنا فإنَّ نظرية «الأناتا» (أو اللاروح) كما تفهمها مدرسة الهنايانا، تتناقض مع التجربة الصوفية الانطوائية في الثقافات الأخرى. وإذا كان بوذا قد أكَّدها، فلا بد أن تكون تجربته في الاستنارة من نوع مختلف تمامًا عن التجربة الصوفية التي درسناها من قبل.
وهناك مدرسة فكرية وُجِدَت في كتابات عدد من العلماء البوذيين الغربيين في يومنا الراهن١٢٦ تأخذ بنظرية «الأناتا»، وترى أن بوذا نفسه، وإن كان قد أنكر وجود الذات الفردية، أو النفس الفردية، فإنه لم ينكر الذات الكلية. ولو قبلنا ما تقول به هذه المدرسة، فسوف نجد أمامنا ردودًا جاهزة على الانتقادات التي ناقشناها، لكني لا أعتقد أنه يُمكن الدفاع عن هذه المدرسة، فهي تقف على النقيض التام من كل تراث الهنايانا والتعاليم الخاصة بشريعة بالي Pali، وهي تُقلل من الدور الذي قام به بوذا في تاريخ الفكر، بحيث يُصبح أكثر قليلًا من مروِّج شعبي لأسفار «الفيدانتا»، وتفشل تمامًا في أن تفهم فهمًا سليمًا الأصالة الثورية في فكره.

علينا، إذن، أن نبحث عن حل هذه المشكلة من مكان آخر، واضعين في ذهننا أن جوهر التجربة الانطوائية هي الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف. وسوف نجد أنه في التراث الصوفي، في جميع الثقافات الأعلى — الذي تكون بوذية الهنايانا هي الاستثناء الوحيد فيها — يؤوَّل هذا الجوهر على أنه يعني وحدة الذات، أو الأنا الخالص، لكن ذلك هو نفسه تأويل قبل كل شيء. فالذات تُفرِّغ نفسها من كل المحتويات التجريبية، وتجد أنها تركت نفسها مع الوحدة الخالصة. ويستنتج المرء استنتاجًا له ما يُبرِّره في رأيي، أنه عندما تُفرغ الذات كل مضمون فلن يبقى لها سوى الذات نفسها، لكن ما مرَّت بتجربته بالفعل هو ببساطة تجربة الوحدة. أمَّا القول بأنَّ الذات الخالصة هي استنتاج أو استدلال، فرغم أنه قول طبيعي وله ما يُبرِّره في آنٍ معًا، فإن هذا الاستدلال هو — رغم ذلك — تأويل.

والقول بأنَّ ذلك تأويل، يعني أنه يُمكن أن تكون لك تجربة لكنَّك لا تؤوِّلها بهذه الطريقة. إن تأويل الواحدة التي لا اختلاف فيها ولا تمايُز في بعض الثقافات (كما هي الحال في فلسفة سانخا، والبيوجا، والفلسفة الجينية) يقترب من الهدف، عندما يُعلن اكتشاف الأنا الخالص للفرد. أمَّا ثقافتنا فهي تتخذ، بالإضافة إلى ذلك، خطوة أبعد؛ فهي إمَّا أن تُوحِّد بين الذات الفردية المكتشفة والذات الكلية (على نحو ما تفعل الأوبنشا، والأديتا فيدا١٢٧)، أو يؤمنون على الأقل بأنَّ تجربتهم هي تجربة الاتحاد مع الله، وهو اتحاد ينبغي أن يُفهم على أنه يقِل شيئًا ما عن الهوية (التصوف المسيحي)، إن العجز عن أي التأويلين، ورفض تأويل التجربة على الإطلاق، يبدو أنه الخاصية الثورية الفريدة لتعاليم بوذا، فهو لم يصر إلَّا على أنها التجربة المنقذة، التي تُخلِّص الناس من العذاب، ومِن ثَم مِن عجلة الميلاد من جديد؛ فبوذا لم يعترف أنه يُجيب على التساؤلات الفلسفية؛ لأن مهمته، كما تصوَّرها، انحصرت فحسب في أن يكون الطبيب الروحي للجنس البشري، وأن يُبيِّن للناس كيف يُعالجون أنفسهم من العذاب الملازم للحياة. وكل ما كان عليه أن يفعله من أجل هذا الهدف هو أن يُخبرهم كيف يبلغون التجربة التي سوف تُحقِّق لهم هذا العلاج.
هذا هو، إذن، حل التناقض الظاهر بين مذهب «الأناتا» ورأينا المخالف الذي يقول إن تجربة «النرفانا» عند بوذا هي في جوهرها متحدة مع التجربة الانطوائية عند المتصوِّفة الآخرين؛ «فالأناتا» تعني ببساطة أنه لا يوجد جوهر للروح (أو النفس) مُتميِّز عن تيار الوعي أو تدفق حالات التغير والوجود المعروفة سمسارا Samsara.١٢٨ والحل الوحيد للغز الموجود إنَّما يوجد في الهروب من عالم «السمسارا»، وهذا الهروب لا يكون ممكنَّا إلَّا في التجربة الصوفية للنرفانا.

و«النرفانا» في الكتب المقدسة «الهنايانا» تُعرض باستمرار على أنها الضد المباشر «للسمسارا». وإنكار هذه الثنائية، مع جميع الثنائيات الأخرى، موجود في الواقع في بعض النصوص المقدسة لمدرسة «الهايانا»، غير أن بوذا، كما تُصوِّره هذه النصوص المقدسة، لا يعرف شيئًا عن ذلك.

«هناك ناسك، لم يولد، ولم يصر، ولم يُصنع، وغير مركب. وما لم يوجد مثل هذا الناسك، فلن يكون ثمة مهرب مما يولد، ومما يصبر، ومما يُصنع، ومما هو مركَّب …»١٢٩
وهذا النص يجعل من المستحيل أن نفترض أن «النرفانا» هي مجرد حالة عابرة للذهن أيًّا ما كان فيها من حالة وجد وإبراز للسلام؛ ذلك لأنَّ «النرفانا» هي إحدى طرق الهروب من «السمسارا» وافتراض أن «النرفانا» هي مجرد حالة ذاتية أخرى للذهن، فإن ذلك يجعلنا نعود بها إلى الوراء، إلى طوفان السمسارا. ومن الواضح أنَّ النرفانا تجاوز كلًّا من الوعي الفردي وعالم الزمان والمكان في آنٍ معًا؛ فهي النسخة البوذية للأزلي على نحو ما يتميَّز عن الزماني.

ولهذا السبب أيضًا تُعلن النصوص المقدسة «للهنايانا» أنَّ النرفانا لا تحدث، وليس لها داعٍ. والشخص الملهم الذي يستطيع أن يصل إلى «النرفانا» عن طريق تمرينات اليوجا، والجهود المضنية للسيطرة على الذهن، والتركيز، فإنَّه لا يُحدث بذلك «النرفانا»، بل يكشفها لنفسه فحسب، ويُشارك فيها.

عندما سئل بوذا١٣٠ عمَّا إذا كان القديس — في «النرفانا» الأخيرة بعد الموت — الذي بلغ «النرفانا» يواصل الوجود أم لا، أعني ما إذا كانت «النرفانا» هي الانعدام والتلاشي أم لا، أجاب بأنَّ «النرفانا» تجاوز إحاطة الفهم، وأنه لا يُمكن تقديم إجابة واضحة أمام الفهم. ثم أضاف أن أي سؤال يُصاغ من منظور المقولة المنطقية «إمَّا … أو»؛ كالسؤال مثلًا عمَّا إذا كان القديس إمَّا أن يوجد بعد الموت أو لا يوجد «لا يتناسب مع الحال». هذا هو ما يقوله المتصوِّفة عن تجربتهم في أي مكان آخر.

وجميع هذه الوقائع تؤدي إلى النتيجة القائلة بأنَّ هذه «النرفانا» — أو بعبارة أخرى، تجربة بوذا الصوفية — تُشبه الحالات الصوفية الموجودة في الثقافات الأخرى، وهذا يعني أن تجربته كانت من النوع الانطوائي، لكنَّه لم يُرد تأويلها على أنها وحدة الذات على نحو ما يفعل المتصوِّفة الآخرون بصفة عامة.

عاشرًا: اعتراض مدروس

قيل إنَّه من غير المسموح لغير الصوفي أن يُنكر أن الصوفي يمر بتجربة إذا ما ادعى ذلك، لكنَّنا نستطيع فحسب أن ننقد القضايا عن العالم التي يسعى الصوفي أن يقولها على أساس تجاربه؛ لأن هذه الأخيرة تأويلات للتجارب، وليست استنتاجات أو استدلالات منها. وهي يُمكن أن تكون غير صحيحة، لكنِّي أعتقد أن السؤال الذي ظهر عمَّا إذا كنَّا مضطرين إلى أن نقبل قبولًا أعمًى وبغير نقد، كل ما يرويه لنا المتصوِّفة عن تجربتهم، فإنَّني أعتقد أنَّنا سوف نشك في صدقه. لكن هناك باستمرار الإمكان السيكولوجي، إنَّه قد يكون مخطئًا بالنسبة للتجربة التي مرَّ بها في الواقع. وينبغي علينا أن نسأل أنفسنا، سواء إذا كانت الروايات عن التجارب الصوفية التي جُمعت في الأقسام السابقة تُبيِّن لنا أيَّة سمة تجعلنا نُشكِّك في أن ذلك قد حدث.

هناك في الواقع نوعان من الخصائص تعرضهما الروايات السابقة، يُمكن أن تكون أساسًا لمثل هذا الاعتراض؛ فالاعتراضات إمَّا أن تكون منطقية أو تجريبية، والتجربة التي قيل إنَّها تنطوي على مفارقة، بمعنى أنه لا يُمكن وصفها دون أن يتضمَّن الوصف تناقضات لا حلَّ لها، يُمكن أن تُسمَّى مستحيلة، منطقيًّا، وأنَّ مثل هذه التجربة لا يُمكن أن تحدث؛ إذ ينبغي علينا أن نرفض الدليل الذي يُقدِّمه رجل يؤكِّد أنه مرَّ بتجربة بصرية يؤكِّد فيها أنه رأى الدائرة المربعة. وربما لم يكن يعني أنه يُخبرنا بشيء غير حقيقي، لكنَّه لا بد أن يكون مخطئًا بطريقة أو بأخرى طالما أنه لا شيء اسمه الدائرة المربعة يُمكن أن يوجد، حتى ولا في الخيال. وعلينا بالمثل أن نرفض شهادة رجل مثل إيكهارت، الذي يقول إنَّه أدرك الحشائش متحدة في هوية واحدة مع الأحجار، لكنَّها تبقى مع ذلك مختلفةً عنها، أو أنه أدرك الأبيض متحدًا مع الأسود، ومع ذلك يظل الأبيضَ. وعلينا أن نرفض كذلك جميع أقوال المتصوِّفة الانطوائيين، على أنها تُعبِّر عن استحالة منطقية، الذين يقولون إنَّهم أدركوا وحدة خالية مطلقة لا تمايُز فيها ولا اختلاف، تخلو تمامًا من أي مضمون تجريبي، أعني كُلًّا بلا أجزاء. وسوف أحتفظ بهذه الاعتراضات المنطقية حتى إناقشها في الفصل الخاص «بالتصوف والمنطق»؛ لأننا لم نرَ بعد الأبعاد التي يُمكن أن يصل إليها الانطواء على المفارقة في أقوال الصوفية؛ فهناك أشياء كثيرة سنذكرها فيما بعد، ومن الأفضل أن يكون أمامنا المدى الكامل للشرور المنطقية قبل أن نُقدِّم شرحنا لها.

ومع ذلك فهناك اعتراض تجريبي أود أن أناقشه هنا. إذ يعتقد بروفسر ج. ب. برات J. B. Pratt أنه على الرغم من أن المتصوِّفة يُمكن أن يعتقدوا أن جميع ألوان الوعي بالموضوعات الحسِّية تتوقَّف في التجربة الانطوائية، فإنَّهم قد يكونوا مخطئين في ذلك. وهو يقتبس في كتابه «الوعي الديني» فقرات من برفسور جانيت Janet من دراستها لمتصوِّف حديث، وضعته تحت الملاحظة في السلبيترير Salpetriere. وتقول جانيت إنَّ ««مادلين» تزعم … أنها لم تكن تتنفَّس أبدًا أثناء حالة الوجد، لكن لو أن المرء قاس عملية تنفسها لوجد أنها حقًّا ضعيفة (١٢ مرة في الدقيقة) لكنَّها طبيعية بما فيه الكفاية. وتظهرنا هذه الملاحظات على أن الإحساس لم يكبت أيضًا، كما تزعم المريضة … فقد أدركت مادلين جيدًا الأشياء التي كنت أضعها في يدها … وتعرفت عليها لدرجة أنها تسمع وترى — لو أنها وافقت على أن تفتح عينيها.»١٣١ ويذهب «برات» أيضًا إلى أنه أثناء عملية تقليل محتويات الذهن («التوقف عن التفكير» … إلخ) والاتجاه نحو الفكرة الواحدة أدى ذلك إلى ازدياد عنصر الانفعال. وهو يتشكَّك فيما إذا كان الانفعال يُمكن أن يوجد دون أن يرتبط، على الأقل، بمضمون ذهني باهت. وهو يعتقد أنه عندما تختفي الفكرة الواحدة، فإن الانفعال يختفي معها. والنتيجة هي اللاشعور «بالنشوة». وربما كان اللاشعور الذي تحدَّثت عنه القديسة تريزا يظهر في بعض الأحيان في حالة «الغيبة» يُمكن تفسيره على هذا النحو.
على الرغم من أن المشكلة المطروحة هي ما إذا كان الوعي الذي يخلو تمامًا من جميع الإحساسات، والصور، والأفكار، ويتحوَّل إلى الوعي «الخالص»، الذي ليس وعيًا بأي شيء (أو أي مضمون ذهني)؛ ما إذا كان هذا الوعي ممكنًا أم لا. لقد نحَّينا جانبًا، في الوقت الحالي، الاعتراض المنطقي الذي يقول بأنَّ ذلك ينطوي على تناقض؛ لأنَّ هذه المشكلة الخاصة بالمنطق سوف تُناقش في فصل خاص. وعلينا الآن أن نسأل هل تُقدم ملاحظات «برات» و«جانيت» حجة تجريبية قوية ضد أقوال الصوفية؟ في اعتقادي أن فحصها سوف يُبيِّن لنا أنها ليست كذلك، أو على الأقل أنها ليست حاسمة تمامًا؛ فمسألة التنفس ليست مناسبة؛ لأن السؤال لا يدور حول الكيفية التي يعمل بها جسد الصوفي، وإنَّما ما إذا كان على وعي بأي إحساس. وواقعة أنَّ «مادلين» تتنفَّس لكنَّها لا تدرك ذلك، تميل بالأحرى إلى دعم القضية التي تقول إن الإحساس قد انطمس من الوعي، ولا تفندها. الشهادة الوحيدة المناسبة هي عبارة أن «مادلين» كانت تتعرَّف على الأشياء التي توضع في يدها وأنها ترى وتسمع، لكن ذلك كله ليس حاسمًا. وهو يُمكن أن يُساق لدعم القول بأنها «تدرك» الأشياء، لكن يظل السؤال عمَّا إذا كانت على وعي بهذا الإدراك! إن النائم في التجوال الليلي أو السُّبات الانتقالي يُقدِّم دليلًا على أنه «يُدرك» زوايا المنضدة أو أيَّة عقبات أخرى في طريقه طالما أنه يتجنَّبها، لكن هل يعيها؟ والمريض في التنويم المغناطيسي يُمكن أن يرد على المثيرات الخارجية بهذه الحاسة أو تلك وقد يسمع «الكلمات» التي يوجِّهها إليه الطبيب لكي يقوم بهذا العمل أو ذاك، بعد أن يفيق من عملية التنويم، لكن ليس هناك ما يظهرنا على أن الأصوات اللغوية، لا سيما في حالات التنويم العميق تظهر في وعيه كإحساسات سمعية. وليس هناك ما يظهرنا على أنها لم تكبت في اللاشعور أو أنها انبثقت منه. وحالة الصوفي ليست هي نفسها، بالطبع، حالة المنوم مغناطيسيًّا، لكن من الواضح أن بين الحالتين صلة تشابه؛ فقد تكون حالة الصوفي مثلًا في بعض الأحيان تُشبه التنويم المغناطيسي الذاتي، يُمكن إحداثها بالتركيز على نقطة براقة. إنَّ الأوصاف التي ذكرها بوهيمي لإشراقته الثانية والتي تمَّ إحداثها عن طريق التحديق في قرص مصقول.

ومن ثم فإن حالة «مادلين» لا تدل على شيء. ولو أنَّنا أردنا أن نستمر في الدليل التجريبي، فإن ما نجده هو دليل الآلاف، ربما عشرات الألوف، من الأشخاص من مختلف الثقافات، والحضارات، والعصور، في العالم أنهم مرُّوا بالفعل بالتجربة، في حالات كثيرة تكرَّرت عبر سنوات طويلة، تجربة الوعي الفارغ من أي مضمون ذهني.

دعنا نفترض مع ذلك أن «برات» كان على حق، وأنَّ الوعي الصوفي لا يفرغ تمامًا من جميع الإحساسات والصور والأفكار، وأنَّ هناك مضمونًا ذهنيًّا باهتًا يبقى في الوعي، لا يُلاحظه المتصوِّف. فهل ذلك يضر حقًّا بحالة المتصوِّف؟ أشُك في ذلك؛ فهو يزعم أنه يدرك الوحدة الخالصة، وأنه يتحد معها، أو يُدرك الواحد أو الخواء الذي انطمست فيه كثرة الموجودات التجريبية. وافرض أنه كان مخطئًا إلى الحد الذي نجد أنه في حالة أخرى لسطح زجاجي آخر للواحد لا تمايز فيه، كانت توجد على هذا السطح أوساخ خفيفة من الدنس، أو خيط متخيل من لعاب الشمس، أو أنه في مركز الخواء، أو ربما عند حافته، توجد بقعة شيء أو آخر، نُطلق عليه اسم اللاخواء. ثم ماذا؟ أنقول للمتصوِّف إنَّك لم تُدرك الواحد أو الخواء على الإطلاق، وإنَّك لم تُدرك سوى أوساخ خفيفة أو بقعة صغيرة، وإن هذا هو كل تجربتك؟ أيًّا ما كان ما نعتقده لما نفترض أنه الرؤية الصوفية، فلا يُمكن أن يكون من المعقول أن نؤكِّد أنها ليست شيئًا سوى صورة بصرية خافتة جدًّا، وأصوات ضعيفة، وبقعة معتمة من نور لا يُمكن رؤيته. أيُمكن أن تكون تلك هي حالة المتصوِّفة المسيحيين وأنهم أخطئوا فظنوها الله؟ وحالة الصوفية البوذية التي ظنوها النرفانا. وحالة الصوفية غير المتدينين، التي ظنوها السلام الذي يفوق الفهم، وحالة «أفلوطين» عندما تحدَّث عن «حياة الآلهة أو ما يُشبه الآلهة من الرجال المباركين». يبدو لي أنه حتى لو كان «برات» و«جانيت» على حق، فإن ذلك لا يُشكل فجوة في دعاوى الصوفية.

أحد عشر: نتائج

إذا كان هناك نوعان من الوعي الصوفي: الانبساطي والانطوائي، فكيف يرتبط الواحد منهما بالآخر؟ يبدو أنهما نوعان من جنس واحد، لكن لو صحَّ ذلك، لكان علينا أن نسأل ما هي الحقائق المشتركة لهذا الجنس، بل ما هي الخصائص المشتركة لجميع الحالات الصوفية انبساطية وانطوائية، على السواء؟ ولكي نعثر على هذه الخصائص دعنا نضع جنبًا إلى جنب النتائج التي وصلنا إليها على نحو منفصل:

الخصائص المشتركة للتجارب الصوفية الانبساطية الخصائص المشتركة للتجارب الصوفية الانطوائية
(١) الرؤية الموحَّدة: كل الأشياء واحدة. (١) الوعي الموحَّد، الواحد، الخواء، الوعي الخالص.
(٢) الإدراك العيني للواحد، كذاتية باطنية، أو حياة، لجميع الأشياء. (٢) اللازمان، واللامكان.
(٣) الإحساس بالموضوعية، أو الواقع الحقيقي. (٣) الإحساس بالموضوعية، أو الواقع الحقيقي.
(٤) الغبطة، والسلام … إلخ. (٤) الغبطة، والسلام … إلخ.
(٥) الشعور بالقدسي، أو المقدس، أو الإلهي. (٥) الشعور بالقدسي، أو المقدس، أو الإلهي.
(٦) الانطواء على مفارقة. (٦) الانطواء على مفارقة.
(٧) زعم الصوفية بأنها تفوق الوصف، أو أنها لا يُمكن أن تُوصف. (٧) زعم الصوفية بأنها تفوق الوصف، أو أنها لا يُمكن أن تُوصف.

تجاهلنا في هاتين القائمتين تلك الحالات التي توجد على الحدود، وكذلك الحالات الشاذة أو غير القياسية، التي ناقشناها فيما سبق. وركَّزنا فقط على الحالات من الفئة المركزية على الحالات النمطية. ونحن نجد هناك أن الخصائص رقم: ٣، ٤، ٥، ٦، ٧ واحدة في القائمتين. ومن ثَم فهناك خصائص مشتركة كلية وعامة للتصوُّف في جميع الثقافات، والعصور، والديانات، وحضارات العالم. والخاصية الثانية في النوع الانطوائي، أعني اللازمان واللامكان، لا يشترك فيها النوع الانبساطي. وذلك مؤكَّد فيما يتعلَّق بالمكان، ولكنَّه ليس على نفس الدرجة من الوضوح فيما يتعلَّق بالطابع الزماني، طالما أنه على الأقل، في حالة «ن. م» يتأكَّد طابع اللازمان. ويبدو أن هذه الوقائع تذهب إلى أن التجربة الانبساطية، رغم أنَّنا تعرفنا عليها كنوع متميز، هي على مستوى أدنى بالفعل من التجربة الانطوائية، أعني أنها كنوع ناقص أو غير كامل من تجربة تجد اكتمالها وتحققها التام في النوع الانطوائي. ويظهرنا النوع الانبساطي على أنه يتحقَّق جزئيًّا في النزوع إلى الوحدة، التي يُحقِّقها النوع الانطوائي تحققًا كاملًا؛ فالكثرة، في النوع الانطوائي، تُطمس تمامًا، ومن ثَم فلا بد أن تكون هذه التجربة بلا زمان ولا مكان. ما دام الزمان والمكان هنا مبادئ الكثرة. أمَّا الكثرة في النوع الانبساطي، فيما يبدو، تستغرقها الوحدة نصف استغراق فقط. فبنود الكثرة ما زالت موجودة «فأوراق الحشائش، والأشجار، والأحجار» التي ذكرها «إيكهارت» ولكنَّها مع ذلك «كلها واحد»، وتلك هي المفارقة، لكن بنفس المعنى الذي نقول فيه إن بنود الكثرة موجودة «هناك»، فكذلك لا بد أن تكون العلاقات المكانية الموجودة بين هذه البنود، على الأقل، موجودة «هناك»، ومن المحتمل أيضًا أن تكون العلاقات الزمانية موجودة في بعض الحالات.

وأكثر الخصائص ذات الدلالة القوية، هي رقم ١ و٢ في قائمة النوع الانبساطي، رقم ١ في القائمة الانطوائية. وفي هذه التجربة العامة للوحدة التي يعتقد المتصوِّف، بمعنًى ما، أنها مطلقة وأساسية للعالم، نجد الماهية الداخلية لكل تجربة صوفية. وفي النواة، كما قلنا، التي تدور حولها الخصائص الأخرى الهامشية. أمَّا بخصوص هذه النواة المركزية، فهناك فروق معينة بين نوعَي التجربة؛ فالصوفي أحيانًا، يصف الوحدة في النوع الانبساطي بأنها «الحياة» الكلية. غير أن «راما كرشنا» يصفها بأنها «الوعي» … وهي الذات الكلية أو الأنا الخالص أو الوعي الخالص في التصوف الانطوائي. ولسنا بحاجة إلى أن نقف طويلًا عند هذه النقطة، لكن، من ناحية أخرى، يبدو أنه كما لو كان التصوف الانبساطي نسخة ناقصة وغير تامة من النوع الانطوائي الذي يتحقَّق تحقُّقًا كاملًا. الوعي أو الذهن مقولة أعلى من الحياة؛ فهو أعلى درجة في سُلَّم الحياة، أمَّا النوع الانبساطي فهو يدرك الحياة الكلية للعالم، بينما يبلغ النوع الانطوائي تحقُّق الذهن أو الوعي الكلي.

يبقى سؤال آخر ربما فرض نفسه على ذهن القارئ هنا، وهو أنَّ الصوفية أنفسهم يُسلِّمون بأنَّ الواحد الذي يصفونه في التجربة الانطوائية، هو نفسه الواحد الذي ينكشف أمام التجربة الانبساطية. فهما ليسا واحدين، بل الواحد فقط، وهو في التأويل الصوفي الله أو الذات الكلية للكون كله؛ فالواحد الداخلي، والواحد الخارجي متَّحدان في هوية واحدة، وذلك افتراض يبدو طبيعيًّا جدًّا، لكن هل هناك أي تبرير فلسفي لذلك؟ أيُمكن أن نُبرهن على أنه شيء أكثر من افتراض لا مُبرِّر له؟
لا يُمكن حسم هذه المسألة ما لم نصل إلى فحص مشكلة وضع التجربة بالنسبة للذاتية والموضوعية؛ إذ فيها زعم بأنَّ هذه التجارب ليست ذاتية فحسب. ولو أنَّنا ذهبنا إلى أن هذه التجارب ذاتية فحسب، فلن يوجد في عالم الواقع لا واحد خارجي، ولا واحد داخلي يتَّحد كل منهما مع الآخر في هوية واحدة. ولن يظهر في هذه الحالة سؤال عمَّا إذا كان الواحد الخارجي هو نفسه الواحد الداخلي أم لا، ومن ثَم فإن علينا أن نُرجئ هذه المشكلة.
١  ش. د. برود «الدين والفلسفة، والبحث النفسي» نيويورك، شركة هاركورت، عام ١٩٥٣م، ص٢، وص١٩٢. (المؤلف)
٢  المرجع السابق ص١٧٢-١٧٣، ولا يفترض برود، على نحو ما سوف أُشير في المكان المناسب (راجع فيما بعد الفصل الثالث «برهان الإجماع») أنَّ البرهان الذي استُمد من التجارب لا يكفي في حد ذاته للبرهنة على الموضوعية طالما أن مثل هذا الاتفاق كثيرًا ما يقوم على أُسس نعرف أنها أوهام، أعني سرابًا. (المؤلف)
٣  المرجع السابق ص١٩٧، والتشديد على الكلمات من عندي. (المؤلف)
٤  مذهب والترويتمان (١٨١٩–١٨٩٢م) شاعر أمريكي مرهف، كان يُعدُّ من أنبياء الديمقراطية والحرية الأمريكية، أصدر ديوانه «أوراق الشجر» عام ١٩٥٥م، جعل شخصية ثورية في الأدب الأمريكي. دافع بحماس عن رجل الشارع. (المترجم)
٥  وليم جيمس، «صنوف من التجربة الدينية»، نيويورك، المكتبة الحديثة، ص٤١٠. (المؤلف)
٦  الهنايانا كلمة سنسكريتية تعني العربة الصغرى، وهي اسم أطلقه أصحاب المهايانا (العربة الكبرى) في التراث البوذي على المدارس المحافظة، قارن كتاب «المعتقدات الدينية السالف الذكر» أصدرته مكتبة مدبولي بالقاهرة، عام ١٩٩٦م. (المترجم)
٧  وليم جيمس، المرجع السابق، ص٣٧١-٣٧٢. (المؤلف)
٨  د. م. بك، «الوعي الكوني»، نيويورك، ص٧٢-٧٣، وص١٧٩. (المؤلف)
٩  الساتوري Satori في بوذية زن (أو البوذية التأملية) هي الاستنارة الروحية من خلال التجربة الصوفية. (المترجم)
١٠  د. ت. سوزوكي، «بوذية زن: كتابات مختارة» من مؤلفات د. ت. سوزوكي، نشرها وليم باريت نيويورك، ص١٠٣–١٠٨. (المؤلف)
١١  رُوِي عن القديس بولس بنفسه هذه القصة: «لمَّا كنتُ ذاهبًا إلى دمشق … رأيتُ في نصف النهار في الطريق نورًا من السماء، أفضل من لمعان الشمس، قد أبرق حولي وحول الذاهبين معي. فلمَّا سقطنا جميعًا على الأرض، سمعتُ صوتًا يُكلمني، ويقول باللغة العبرانية: شاول، شاول، لماذا تضطهدني …؟ فقلت: من أنت يا سيد؟ فقال: أنا يسوع الذي تضطهده. ولكن قم وقف على رجليك؛ لأنِّي ظهرت لك لأنتخبك خادمًا وشاهدًا بما رأيت وبما أظهرت لك …» أعمال الرسل: الإصحاح السادس والعشرون: ١٣–١٦. وهكذا تحوَّل «شاول» من اليهودية إلى المسيحية، وغيَّر اسمه إلى بولس. (المترجم)
١٢  قارن ج. ج. شوليم (المحرر): «التيارات الرئيسية في التصوف اليهودي»، نيويورك، عام ١٩٥٤م. (المؤلف)
١٣  القديس يوحنا حامل الصليب «ليل الروح المظلم»، ترجمه إلى الإنجليزية كيرت راينهارت، نيويورك، عام ١٩٥٧م، الكتاب الثاني، الفصل السادس عشر، ص٦٢-٦٣. (المؤلف)
١٤  الأوبنشاد أو اليوبنشاد: كلمة سنسكريتية مؤلفة من مقطعين؛ «يوبا» ومعناها بالقرب من، و«شاد» ومعناها اجلس أو مجلس، وهي تعني حرفيًّا «الجلوس بالقرب من المُعلم». ثم أصبحت تُطلق على المذهب الغامض، الذي أسرَّه المُعلم إلى خيرة تلاميذه. وفيها ١٠٨ محاورة، مما جرى بين المُعلم وتلاميذه، ألَّفها كثير من القديسين والحكماء فيما بين سنتَي ٨٠٠ق.م. و٥٠٠ق.م. (المترجم)
١٥  الأوبنشاد ترجمة سوامي وفردريك مانشنسر، نيويورك، منتر، المكتبة الأمريكية الجديدة لعالم الأدب، عام ١٩٥٧م، جاتا أوبنشاد، ص٢٠.
١٦  المرجع نفسه، ص١٢١.
١٧  «حياة القديسة تريزا»، ترجمها د. لويس، الطبعة الخامسة، عام ١٩٢٤م، الفصل العشرون. (المؤلف)
١٨  المرجع نفسه.
١٩  المرجع نفسه.
٢٠  كلمة سنسكريتية معناها «التركيز الذاتي الشامل»، وهي قمة الحالة التي يصل إليها المتأمِّل — وهو لا يزال في بدنه — عندما يتَّحد مع الموجود الأعلى، كما تتصوَّرها مدارس الهندوسية المختلفة. (المترجم)
٢١  فينسنت شين، «النور الهادي»، ترجمة سوامي، نيويورك، هارير وإخوانه، ١٩٤٢م، ص٨٢.
٢٢  «راماكريشنا»، «نبي الهند الجديدة»، وهو مختصر عن «إنجيل سراي راماكريشنا»، ترجمة سوامي، هاربر وإخوانه، ١٩٤٢م، ص٢٨.
٢٣  القديسة كاثرين (١٤٤٧–١٥١٠م) متصوِّفة إيطالية من مدينة جنوا، حازت إعجاب الناس لرعايتها للمرضى والمساكين. كانت من أسرة عريقة، أرادت أن تُصبح راهبة منذ وقت مُبكِّر، لكن أسرتها رفضت، وزوَّجتها من ج. إدوزنو، وبعد عدة سنوات من حياة تَعِسة، انغمست في حياة اللذة بعض الوقت، ثم انقلبت فجأة عام ١٤٧٣م عن طريق تجربة صوفية مرَّت بها، وعاشت تخدم المرضى في مستشفى جنوا. (المترجم)
٢٤  جين ماري جيون (١٦٤٨–١٧١٧م) متصوِّفة وكاتبة، كانت شخصية رئيسية في المنازعات اللاهوتية التي نشبت في القرن السابع عشر في فرنسا، أثناء دفاعها عن السكينة والسلبية المطلقة للروح واللامبالاة، حتى بالنسبة للخلاص الأبدي، تزوَّجت وكوَّنت أسرة، لكن عندما مات زوجها عام ١٦٧٦م تحوَّلت تمامًا إلى التجارب الصوفية. (المترجم)
٢٥  المرجع السابق، ص١٦٣. (المؤلف)
٢٦  مايستر إيكهارت، ترجمة ر. ب. بلاكني، نيويورك، عام ١٩٥٧م، ص٧٣. (المؤلف)
٢٧  اقتبسه رودلف أوتو في كتابه «التصوف في الشرق والغرب»، نيويورك، عام ١٩٥٧م، ص٧٣.
٢٨  أبو يزيد البسطامي، توفي (٢٦١ﻫ/٨٧٤م)، أحد كبار صوفية الإسلام في القرن الثالث الهجري، واسمه طيفور بن عيسى. ويُنسب أبو يزيد إلى بسطام (مدينة في الطريق إلى نيسابور، فُتحت في عهد عمر بن الخطاب) اختلفت الآراء فيه اختلافًا كبيرًا، فقد رويت عنه أقوال من قبيل «الشطح»، يغلب عليه حال الفقراء، ويؤْثَر عنه فيه أقوال، منها «للخلق أحوال، ولا حال للعارف؛ لأنه مُحيت رسومه، وفنيت هويته بهوية غيره، وغُيِّبَت آثاره بآثار غيره»، ومنها قوله «لا يرى (العارف في حال الفناء) غير الله تعالى.» وترجع أهميته إلى أنه كان أول من استعمل كلمة «الفناء» بمعناها الصوفي الدقيق. (المترجم)
٢٩  الحسدية Hasidism: فرقة يهودية باطنية، نشأت في بولندا، في القرن الثامن عشر، بقيادة إسرائيل شيمتوف (١٧٠٠–١٧٦٠م)، وهي تدعو إلى الصلاة والتقوى «وخدمة الرب، بنشوة»، وهي تستمد كثيرًا من تعاليمها وأفكارها من فرقة «القبلانية» اليهودية. وقد لقيت معارضة قوية في أوروبا الغربية خلال القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر. (المترجم)
٣٠  ألفرد تنيسون A. Tennyson (١٨٠٩–١٨٩٢م): شاعر إنجليزي، من أبرز شعراء القرن التاسع عشر، عُيِّن شاعرًا للبلاط ١٨٥٠م، نظم الشعر وهو طالب في كيمبردج. رثى صديقه بقصيدة شهيرة عنوانها «في الذكرى» عام ١٨٥٠م، وهي أشهر قصائده التي جُمعت في ديوان صدر عام ١٩٣٠م. (المترجم)
٣١  آرثر كوسيتلر A. Koestler (١٩٠٥–١٩٨٣م): أديب مجري، سجنه النازي في فرنسا عام ١٩٤٠م، لكنَّه فرَّ إلى إنجلترا. كانت أفضل رواياته «الظلام وقت الظهيرة»، وهي قصة خيالية. من مؤلفاته أيضًا «لصوص الليل» عام ١٩٤٦م، و«الإله الذي ذوى» عام ١٩٥٠م، و«فعل الخلق» عام ١٩٦٤م، و«الشبح في الآلة» عام ١٩٦٧م. (المترجم)
٣٢  سراي أوربندو (١٨٧٢–١٩٥٠م): متصوِّف هندوسي، وُلِد بالبنغال، ويُعتبر واحدًا من أعظم المتصوِّفة الهنود، ساهم أولًا في السياسة، ثم اعتزل الناس في خلوة روحية، يؤمن بأنَّ الحقيقة القصوى تتجلَّى في «براهمان». (المترجم)
٣٣  صمويل ألكسندر (١٨٥٩–١٩٣٨م): فيلسوف أسترالي، صاحب نظرية التطوُّر الانبثاقي. أعظم كُتبه «المكان والزمان والألوهية» عام ١٩٢٠م، كان أستاذًا في جامعة مانشستر من ١٨٩٣م إلى ١٩٢٤م. وقبل إحالته إلى التقاعد انتدبته جامعة جلاسجو لإلقاء محاضرات جيبفورد بين عامَي ١٩١٦م و١٩١٨م، التي شكَّلت كتابه السابق، ومن مؤلفاته أيضًا «النظام الخلقي والتطوُّر» عام ١٨٩٩م، وكتاب «لوك» نشر عام ١٩٠٨م، «الجمال وأشكال أخرى للقيمة» نُشِر عام ١٩٣٣م. (المترجم)
٣٤  «النرفانا Nirvana» كلمة سنسكريتية، تعني حرفيًّا «الانطفاء» أو «الإخماد» أو «لا نفس»، وهي الهدف الأسمى في الفكر الديني الهندي من تأملات التلاميذ. ويُميِّز البوذيون أكثر من غيرهم بين هذه الحالة وغيرها من الحالات الروحية؛ فهي تعني عندهم الوصول إلى حالة سامية من التحرر عن طريق إخماد رغبات الفرد. (المترجم)
٣٥  المقصود بالاستباه الخارجي Extrospection التأثر بمنبه خارجي، كما هي الحال بالنسبة للروائح في حالة الأنف، أو الأصوات في حالة الأذن … إلخ. (المترجم)
٣٦  اقتبسه رودلف أوتو في كتابه «التصوف في الشرق والغرب»، نيويورك، شركة ماكميلان، عام ١٩٣٢م، ص٦١.
٣٧  المرجع السابق، ص٤٥. ومن الواضح أن هذه هي ترجمة «أوتو»، وهو لا يذكر أي مصدر. ولكن من الواضح أن نفس هذه الفكرة يُمكن أن توجد بكلمات مختلفة قليلًا عند بلاكني: مرجع سابق، ص١٧٣. (المؤلف)
٣٨  أوتو، المرجع السباق. (المؤلف)
٣٩  كالي Kali، الإلهة القبيحة المتعطشة للدماء (وجه لزوجة الإله شيفا)، الوجه الآخر هو العروس الجميل «بارفتي». (المترجم)
٤٠  اقتبسه وليم جيمس، في المرجع السابق، ص٤٠٢. (المؤلف)
٤١  إفلين أندرهيل، «التصوف»، من الطبعة اللينة الغلاف، نيويورك، عام ١٩٥٥م، ص٢٣٥. (المؤلف)
٤٢  ﻫ. ﻫ. برنثون «الإرادة الصوفية». والتشديد على الكلمات من عندي. (المؤلف)
٤٣  القديس إجناريوس لُيُولا St. Ignarius Loyola (١٤٩١–١٥٥٦م): نبيل إسباني، أسَّس جمعية اليسوعيين عام ١٥٤٠م، وبدأت اهتمامته الدينية العميقة عام ١٥٢١م، بعد أن قرأ حياة يسوع أثناء جرحه في أحد الحروب، ثم زار الأراضي المقدَّسة عام ١٥٢٣م، ثم انتقل إلى روما بموافقة البابا بولس الثالث، وأسَّس جمعية يسوع، وأرسل بعثات تبشيرية إلى البرازيل، والهند، واليابان، كما أسَّس مدارس يسوع. يُحتفل بعيده يوم ٣١ يوليو. (المترجم)
٤٤  أندرهيل، المرجع السابق، ص٥٨. (المترجم)
٤٥  السنتونين Santonin: مُركَّب سام من نبات الشيح الخرساني. (المترجم)
٤٦  وليم بليك (١٧٥٧–١٨٢٧م)، شاعر ورسام إنجليزي، تتسم أعماله بطابع الرمزية. (المترجم)
٤٧  «راماكريشنا: نبي الهند الجديدة»، مرجع سابق، ص١١، وص١٢. (المؤلف)
٤٨  رودلف أوتو، المرجع السابق، التساعية الخامسة، فقرة ٨، ترجمة ماكيمنا. (المؤلف)
٤٩  بك، المرجع السابق، ص٢. واقتبسه أيضًا وليم جيمس في كتابه السابق، ص٣٩٠. (المؤلف)
٥٠  وردزورث، وليم (١٧٧٠–١٨٥٠م)، شاعر إنجليزي، يُعتبر كبير شعراء الحركة الرومانسية الإنجليزية. (المترجم)
٥١  جون مايسفيلد John Maesfiled (١٨٧٨–١٩٦٧م): شاعر إنجليزي، اشتهر بقصيدة طويلة عنوانها «الرحمة السرمدية» عام ١٩١١م، التي صدمت الأوساط الأدبية المحافظة بتعابيرها العامية الفظة التي لم يألفها الشعر الإنجليزي في القرن العشرين. (المترجم)
٥٢  جون مايسفيلد «وداعًا للعلم» نيويورك ماكميلان، ص١٣٩-١٤٠. (المؤلف)
٥٣  المرجع نفسه، ص١٧٩. (المؤلف)
٥٤  المرجع نفسه، ص١٨٠. (المؤلف)
٥٥  مارجريت مونتاجيو، «عشرون دقيقة مع الحقيقة». ظهرت الطبعة الأولى غُفلًا، مجلة أطلانطيك الشهرية عام ١٩١٦م، ثم أُعيد طبعها في كراسة صغيرة عام ١٩٤٧م عن طريق شركة منشستر للنشر. (المؤلف)
٥٦  المرجع السابق، طبعة مانشستر، ص١٧–١٩. (المؤلف)
٥٧  ديفيد هيوم «رسالة في الطبيعة البشرية»: الكتاب الأول، فقرة ٦. (المؤلف)
٥٨  يوجا Yoga، كلمة سنسكريتية، معناها «النير» أو «الاتحاد». وقد نشأت مدرسة هامة أثَّرت بقوة في الفكر الهندي، نصوصها الأساسية هي «سوترايوجا»، جانبها العملي أهم من النظري، وهو يتلخَّص في ضبط النفس، والجلوس في وضع معين، والامتناع عن ممارسة الجنس … إلخ. (المترجم)
٥٩  الأوبنشاد، مرجع سابق، ص٥١. (المؤلف)
٦٠  يستخدم المؤلف هنا ثلاث كلمات يصعب نقل الفروق الدقيقة بينها، وهي: Intellect, Ientelligence, Reason . (المترجم)
٦١  يستخدم المؤلف هنا كلمة Advato، وهي تعني اللاثنائية أو الواحدية، وتُعبِّر عنها مدرسة من مدارس الفيدانتا في الهند، التي ترفض الثنائية، وترى أن الواحدية هي الحقيقة النهائية. وقد نشأت في القرن السابع الميلادي. (المترجم)
٦٢  الفيدانتا Vedanta أجزاء من الأوبنشاد، تشتمل على ستة مذاهب تهدف إلى إزالة الألم بواسطة «اليوجا»، والمصطلح يعني باللغة السنسكريتية — أي الهندية القديمة — «خاتمة الفيدا». (المترجم)
٦٣  برفسور ر. س. زينر، في كتابه «التصوف»، مطبعة جامعة أكسفورد، عام ١٩٥٧م. (المؤلف)
٦٤  وليم جيمس، مرجع سابق، ص٣٧٦. وقد اقتبسه جيمس من كتاب ﻫ. ف. براون «ج. أ. سيمونز: سيرة حياة»، لندن، عام ١٨٩٥م، ص٢٩–٣١. وهناك تجربة مماثلة ذكرها مارتن بوبر في صفحة ١٥٥، رغم أنها اقتُبِست هناك في سياق مختلف، لكن يُمكن استخدامها في إلقاء الضوء على نصوص «ماندوكا أوبنشاد». (المؤلف)
٦٥  المرجع السابق، «كتاب الحقيقة العليا»، الفصل التاسع. (المؤلف)
٦٦  المرجع السابق، «تزيين الزواج الروحي»، الكتاب الثاني، الفصل الرابع عشر. (المؤلف)
٦٧  المرجع السابق، كتاب الحقيقة العليا، الفصل الثاني عشر. (المؤلف)
٦٨  طبقًا لما يقول «برفسور زينر» (مرجع سابق، ص١٧٠–١٧٤) فإن روز بروك يُفرِّق بين الحالة الطبيعية الخالصة للفراغ الذي لا صور فيه، والذي — رغم أنه يُصاحبه إحساس بالسلام والسكون — يُمكن لأي إنسان أن يبلغه بدون نعمة من الله، والوحدة الحقة مع الله التي تفوق الطبيعة. وهو يعتقد أن هناك تجربتَين مختلفتَين أتمَّ الاختلاف. لم يصل حكماء الأوبنشاد إلَّا إلى الأولى منهما والمرحلة الدنيا، في حين أن متصوِّفة المسيحية بلغوا التجربة الثانية بجهدهم. وهو يخبرنا أن للحب في التصوف المسيحي أهمية قصوى، بينما لا نجد ذكرًا في «الفيدانتا». وبذلك لا يتَّفق «بروفيسور زينر» مع وجهة النظر التي أذهب إليها، والتي تقول إنَّ التجربة الموصوفة في «الماندوكا أوبنشاد» هي في عناصرها الجوهرية نفس التجربة الموجود عند متصوِّف المسيحية، لكن حتى لو كان التأويل الصحيح «لروز بروك» أنه يقصد تفرقة التصوف الطبيعي والتصوف الذي يعلو على الطبيعة، لكن الواقع أنه يبقى أن الوصف الفعلي الذي يُقدِّمه للوحدة التي تعلو على الطبيعة بوصفها الوحدة التي لا تمايز فيها، ولا اختلاف، ولا كثرة، يظهر من الفقرات التي اقتبسناها أنها تتَّحد في هوية واحدة مع الوصف الذي قدَّمته «الماندوكا أوبنشاد». والقول بأنَّ متصوِّفة المسيحية يُشدِّدون على الحب، في حين أن ذلك لا يُذكر في «الفيدانتا» لا يُغيِّر شيئًا من هذه الحقيقة؛ فالانفعالات لا تختلف فحسب بين الثقافات المختلفة، بل أيضًا داخل الثقافة الواحدة، وبين الأفراد المختلفين، بالنسبة للتجربة الواحدة لأمزجتهم الفردية. ﻓ «روز بروك» مثلًا يُشدِّد على الحب أكثر كثيرًا مِمَّا يفعل «إيكهارت» الأقل انفعالًا والأكثر عقلانية، وهما معًا يؤكَّدان أن الحب أقل كثيرًا مما تفعله القديسة تريزا. (المؤلف)
٦٩  روز بروك، مرجع سابق، «تزيين الزواج الروحي»، الكتاب الثالث، الفصل الرابع. (المؤلف)
٧٠  بلاكني: مرجع سابق، ص٢٠٠-٢٠١. (المؤلف)
٧١  المرجع السابق، ص١١٨. (المؤلف)
٧٢  المرجع نفسه، ص١٩٢-١٩٣. (المؤلف)
٧٣  الأوبنشاد، مرجع سابق، «ستتستار أوبنشاد»، ص١٢٤. (المؤلف)
٧٤  القديس يوحنا حامل الصليب (١٥٤٢–١٥٩١م): راهب كاثوليكي إسباني، سُجِن عدة مرات لمحاولته فرض الإصلاحات التي دعت إليها القديسة تريزا، وكتاباته تصف ما كان ينتابه من وجد روحي. يُحتفل بعيده في ٢٤ نوفمبر. (المترجم)
٧٥  نظام من الرهبنة في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، أسَّسه على جبل الكرمل في فلسطين «برثولد»، حوالي عام ١١٥٥م، ثم انتشر في أوروبا في القرن الثالث عشر. ويُكرِّس أعضاؤه أنفسهم للتبشير واللاهوت الصوفي. وهم يرتدون أردية بيضاء، ولهذا سمُّوا «بالأخوة البيض». (المترجم)
٧٦  القديس يوحنا حامل الصليب، مرجع سابق، المقدمة، ص٢٠. (المؤلف)
٧٧  المرجع السابق، ص٥١. (المؤلف)
٧٨  المرجع نفسه، ونفس الصفحة. (المؤلف)
٧٩  المرجع نفسه، ص٥٨. (المؤلف)
٨٠  المرجع نفسه، ص٥٢. (المؤلف)
٨١  أفلوطين، مجموعة مؤلفاته، ترجمة ستيفن ماكينا، التساعية السادسة والتاسعة.
٨٢  مارجريت سميث، «قراءات في صوفية الإسلام». (المؤلف)
٨٣  سعد الدين محمود الشبستري (١٢٥١–١٣٢٠م) (٦٥٠–٧٢٠ﻫ): مُتصوِّف فارسي، وُلِد في شبستر، وهي قرية قرب تبريز. كتب «حديقة الورد الصوفية»، و«حق اليقين في معرفة رب العالمين»، و«رسالة شاهد». أصبح كتابه الأول من الوثائق الكلاسيكية للتصوُّف الإسلامي في الغرب. ذاعت شروحه على كتاب المثنوي. واستطاع أن يُفسِّر «وحدة الوجود»، و«نزول الإنسان الكامل وصعوده». ارتبط اسمه بمصطلحات العشق الرمزي، ورياضة الصوفية. وعندما غزا المغول إيران فرَّ إلى بغداد. (المترجم)
٨٤  المرجع السابق، ص١١٠.
٨٥  الحسدية، من الحسيد، بمعنى التقوى، وهي فرقة باطنية غنوصية. وإن كان هناك رأي يعتقد أنها الحصيدية من الحصيد، على الرغم أنهم: «البقية الصالحة التي لم تتمكَّن منها ديانات، ولا عادات الأغراب، ولم تصرفها عن عبادة الله على ملَّة اليهود.» راجع: «موسوعة فلاسفة ومتصوِّفة اليهود» للدكتور عبد المنعم الحنفي، مكتبة مدبولي بالقاهرة، ص١٠٧. (المترجم)
٨٦  شوليم، مرجع سابق، ص٥.
٨٧  سوترا Sutra، كلمة سنسكريتية، تعني «الخيط»، ثم أصبحت تعني الخيوط المرشدة، وهي مجموعة من النصوص الهادية في الهندوسية والبوذية. (المترجم)
٨٨  كما هي في ترجمة داويت جولدار «إنجيل بوذا» من الطبعة الثانية، عام ١٩٣٨م. (المؤلف)
٨٩  المرجع السابق، ص٣٦٤. (المؤلف)
٩٠  المرجع نفسه، ص٣٦٥. (المؤلف)
٩١  المرجع نفسه، ص٣٦٦. (المؤلف)
٩٢  التاثاجاتس Tathagats أو البوذات Budhas «أو المستنيرون»، هم أولئك الذين وصلوا إلى مرحلة الاستنارة. قارن د. إمام عبد الفتاح إمام «معجم ديانات وأساطير العالم»، المجلد الأول، ص٢٢٧، مكتبة مدبولي بالقاهرة. (المترجم)
٩٣  المرجع السابق، ص١١٢. (المؤلف)
٩٤  د. ت. سوزوكي (١٨٧٠–١٩٦٦م)، مفكر وباحث ياباني، كان المُفسِّر الرئيسي لبوذية زن في الغرب. كان في شبابه تلميذًا لأستاذ بوذي شهير في أيامه، وتحت هدايته وإرشاده استطاع أن يصل إلى تجربة ساتوري Satori، أي الاستنارة الفجائية، التي كان لها أهمية قصوى في حياته. كتب «مقال عن صحوة الإيمان في بوذية المهايانا» عام ١٩٠٠م، و«موجز عن بوذية المهايانا» عام ١٩٠٧م. (المترجم)
٩٥  د. ت. سوزوكي: «التصوف: المسيحي والبوذي»، نيويورك، عام ١٩٢٧م، ص٢٨. (المؤلف)
٩٦  سبق أن اقتبسناه في القسم السابع من هذا الفصل. والتشديد من عندي. (المؤلف)
٩٧  جون أونجتون سيمونز (١٨٤٠–١٨٩٣م)، أديب وشاعر إنجليزي، اشتهر بكتاباته عن التاريخ الثقافي لعصر النهضة. وأشهر كُتبه «عصر النهضة في إيطاليا»، في سبعة مجلدات (١٨٧٥–١٨٨٦م)، كما كتب مشكلة الأخلاق عند اليونان والأخلاق الحديثة. (المترجم)
٩٨  انظر ملاحظتي فيما سبق في القسم الخامس من هذا الفصل. (المؤلف)
٩٩  في نهاية القسم السابع. (المؤلف)
١٠٠  في القسم السابع. (المؤلف)
١٠١  في القسم السابع. (المؤلف)
١٠٢  هذه الفقرة مأخوذة من رسالة من «أفلوطين إلى فلاكوس»، اقتبسه بك، مرجع سابق، ص١٢٣. ويذكر بك مرجعًا هو ر. أ. فوجان «ساعات مع المتصوِّفة»، نيويورك، عام ١٩٠٣م، المجلد الأول، ص٧٨–٨١. (المؤلف)
١٠٣  هنري سوزو (١٢٩٥–١٣٦٦م)، متصوِّف ألماني كبير، ومؤسس «جماعة أصدقاء الرب». كان نبيلًا، لكنَّه مرَّ بتجربة روحية عنيفة أطلق عليها اسم «الصحوة الدينية العميقة»، عاش بعدها حياة روحية خالصة. كتابه الرئيسي هو «كتاب صغير عن الحكمة الأزلية» عام ١٣٢٨م، وهو يشتمل على بعض الموضوعات الصوفية والتأملات اللاهوتية. (المترجم)
١٠٤  هنري سوزو، «حياة هنري سوزو»، ترجمة ت. ف. نوكس، الفصل الرابع والخمسون. (المؤلف)
١٠٥  الحسين بن منصور الحلَّاج (٢٤٤–٣٠٩ﻫ)، كان صانعًا فقيرًا، يكسب قوته من حلج الصوف. من أعظم متصوِّفة الإسلام، تلقَّى تعليمه على سهل بن عبد الله التستري، ثم اعتصم بقمة جبل أبي قيس يتعبَّد، وصحب الجنيد، شيخ الصوفية في بغداد. بلغت مصنفاته أكثر من أربعين كتابًا، أشهرها «الطواسين»، الذي كتبه بأسلوب رمزي اصطلاحي شديد الخفاء، كانت له عبارات رمزية تُعبِّر عن «شطحات»، منها قوله «أنا الحق». وكثيرًا ما يتحدَّث عن الروح الإلهي والروح البشري على أنهما مُحِبَّان يتناجيان في حالة مزج تام، كما في قوله:
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسَّك شيء مسَّني
فإذا أنت أنا في كل حال
وقوله:
أنا مَن أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
كما أن الحلَّاج يقول بقدم النور المحمدي الذي انبثقت منه جميع أنوار النبوة. كان له أتباع كثيرون أعجبوا به واتخذوه إمامًا ومرشدًا، ونسبوا إليه أمورًا خارقة للعادة. حوكم وقُتل عام ٣٠٩ﻫ، بعد أن تحمَّل بشجاعة نادرة الآلام المبرحة التي أنزلها به قاتلوه. وقد كتب المستشرق ماسينيون عن مأساة الحلَّاج الشهيرة. (المترجم)
١٠٦  رُوِيَت من هذه الحادثة روايات مختلفة، وكذلك عن شخصية الحلَّاج ودوافعه، انظر «مختارات من جلال الدين»، ترجمها ف. هادلاند ريتز، لندن، ١٩٠٧، — ص١٧-١٨. و. ر. أ. بيكلسون «متصوِّفة الإسلام»، لندن، ١٩١٤، ص١٤٩-١٥٠، ولنفس المؤلِّف «دراسات في التصوف الإسلامي»، الفصل الثاني، ص٢٠. (المؤلف)
١٠٧  ف. فليفر: «مايستر إيكهارت»، ترجمة س. ر. ب. إيفانز. (المؤلف)
١٠٨  نيكلسون، مرجع سابق، ص٦٦. (المؤلف)
١٠٩  المرجع نفسه، ص٥٣. (المؤلف)
١١٠  هو أبو القاسم الجنيد، وُلِد في بغداد، عام ٢٩٧ﻫ.
١١١  سميث، مرجع سابق، ص٣٥. (المؤلف)
١١٢  المرجع نفسه، ص١٨٩. (المؤلف)
١١٣  الغزالي «كيمياء السعادة» ترجمة كلود فيلد عام ١٩١٠م، وانظر أيضًا أندرهيل، مرجع سابق، ص١٧١. (المؤلف)
١١٤  إبراهيم بن صموئيل أبوليفيا (١٢٤٠–١٢٩١م)، متصوُّف يهودي غنوصي، من روَّاد مذهب القبالة (مذهب السلف)، أسَّس جماعة القبالة النبوية، من تعاليمها أن روح النبوة يُمكن اكتسابها عن طريق تأمُّل الأحرف الهجائية العبرية. (المترجم)
١١٥  شوليم، مرجع سابق، ص١٣١. (المؤلف)
١١٦  د. ت. سوزوكي، «بوذية زن: كتابات مختارة من د. ت. سوزوكي»، نشرها وليم باريت، نيويورك، ص١٠٥. (المؤلف)
١١٧  ماتريا Maitreya، كلمة سنسكريتية تعني «بوذا المستقبل»، فقد كان هناك أكثر من بوذا في الماضي، وسيكون هناك أكثر من بوذا المستقبل، ونحن في الوقت الحاضر في انتظار «بوذا المنتظر»، وهي نفسها كلمة «ميروكو» اليابانية. (المترجم)
١١٨  الأوبنشاد، مرجع سابق، ص٨٨. (المؤلف)
١١٩  سانخيا أو سامخيا (والكلمة سنسكريتية تعني المتعدد)، أقدم المذاهب الستة في الفلسفة الهندوسية، وهو مذهب يؤمن بثنائية المادة والروح، فالروح في جوهرها الأصلي خفية وكلية. أمَّا المادة فتحكمها قيود الزمان والمكان. (المترجم)
١٢٠  اقتبسه وليم جيمس، مرجع سابق، ص٣٧٤. (المؤلف)
١٢١  آرثر كويستلر Arthur Koestler (١٩٠٥–١٩٨٣م): أديب مجري، وناقد للفلسفة، سجنه النازي في فرنسا عام ١٩٤٠م، لكنَّه فرَّ إلى إنجلترا. من أهم كتبه روايته «الظلام وقت الظهيرة»، عام ١٩٤٠م، وهي قصة خيالية عن إصلاحات ستالين، وهو فيها يروي تجربته كسجين محكوم عليه بالإعدام أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. جُمعت كتابات من سيرته الذاتية وظهرت باسم «الكتابات الخفية» عام ١٩٥٤م. أصبح عضوًا في «جمعية القتل الرحيم»، قام بالانتحار مع زوجته بعد إصابته لفترة طويلة بمرض الشلل الرعاش. (المترجم)
١٢٢  الرشح الأزموزي Osmosis، هو تبادل يحصل بين سوائل مختلفة الكثافة، عن طريق غشاء عضوي، حتى يتجانس تركيبها. (المترجم)
١٢٣  آرثر كويستلر، «الكتابات الخفية»، نيويورك، شركة ماكميلان، ١٩٥٥م، ص٣٥٢. (المؤلف)
١٢٤  شريعة بالي Pali، هي شريعة الأديرة البوذية في منطقة «بالي» بالهند، وهي التي حافظت على الكتب المقدسة باللغة البالية. (المترجم)
١٢٥  سوف يجد القارئ هذه الفقرات متناثرة طوال كتاب ﻫ. س. وارن «ترجمات من البوذية» لا سيما صفحات ١١٠ و٣٨٣، من المجلد الثالث، من سلسلة دراسات شرقية، جامعة هارفارد، عام ١٩٢٢م. (المؤلف)
١٢٦  راجع كتابات كريستان همفريزوا أ. كونز. (المؤلف)
١٢٧  مدرسة معتدلة من مدارس الفيدا في الفلسفة الهندية، وكلمة أدفيتا Advaita، سنسكريتية، تعني الواحدية أو اللاثنائية، وهي من أكثر المدارس الفلسفية تأثيرًا في الهند. (المترجم)
١٢٨  سمسارا: حلقة مفرغة رهيبة تمر بها النفس البشرية عندما تموت، ثم تولد من جديد على نحو متكرِّر. وهي إحدى عقائد الهندوسية. (المترجم)
١٢٩  أ. بيرت (ناشر)، «تعاليم بوذا الرحيم»، نيويورك، المكتبة الأمريكية لآداب العالم، عام ١٩٥٥م، ص١١٣. (المؤلف)
١٣٠  انظر، وارن، مرجع سابق، ص١٢٣. (المؤلف)
١٣١  ج. ب. برات، «الوعي الديني»، نيويورك، ماكميلان، ص٤٢٣. (المؤلف)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤