الفصل الرابع

وحدة الوجود، والثنائية، والواحدية

أولًا: وحدة الوجود

انتهينا في الفصل السابق إلى أنه على الرغم من أن برهان الإجماع فشل في دعم النظرة التي تقول إن التجربة الصوفية تشهد، أو هي دليل على وجود حقيقة واقعية تجاوز الذاتية الفردية للوعي الصوفي، فهناك مع ذلك اعتبارات أخرى تدعم هذه النظرة، ولا يُمكن أن نتوقَّع في هذا المجال تقديم برهان أو ما يُشبه اليقين. فلا يُمكن أن نقول أبدًا إن أيًّا من النتائج التي ننتهي إليها حول المضامين الفلسفية للتصوف هي أكثر من وجهة نظر تبدو لنا، أشد ترجيحًا واحتمالًا وسط وجهات نظر متعارضة، بعد غربلة دقيقة وغير متحيزة لهذه الوجهات من النظر. ولقد وصلنا، إذن، بهذا المعنى إلى النتيجة التي تقول إن التجربة الصوفية ليست ذاتية فحسب، بل هي في صميم حقيقتها ما يزعمه الصوفية من أنها تجربة مباشرة بالواحد، وبالذات الكلية، وبالله، ونحن نتبنى ذلك على اعتبار أنه سيكون رأينا النهائي طوال الأجزاء المتبقية من هذا الكتاب، مُسلِّمين أثناء بحثنا أن هناك مشكلات أخرى، وإذا تبنينا هذا الرأي فسوف تظهر في الحال مشكلات جديدة تفرض نفسها علينا. المشكلة الأولى، وهي موضوع حديثنا في هذا الفصل، تتصل بالعلاقة بين الله والعالم من حيث الهوية والاختلاف: فهل الله والعالم متحدان في هوية واحدة، كما يؤكد البعض؟ أم إنهما متمايزان تمامًا؟ أم إن هناك احتمالًا آخر؟ تلك هي المشكلات التي علينا أن نُناقشها لنرى ما إذا كانت التجربة الصوفية تُلقي عليها أي ضوء. وتلك هي المشكلة التي يشار إليها عادة تحت اسم: مذهب «وحدة الوجود Pantheism».

ومذهب وحدة الوجود بأوسع معنى له هو نظرية عن العلاقة بين الله والعالم ككل. وهناك معنى أضيق للمصطلح شائع في كتابات التصوف المسيحي، يُشير إلى العلاقة بين الله وجزء خاص من العالم، وهو الذات الفردية للمتصوِّف عندما تصل إلى حالة «الاتحاد»، فهل الاتحاد الصوفي بالله يعني الهوية مع الله، على الأقل خلال فترة الاتحاد؟ أم يبقى الله والروح كيانات متمايزة؟ الرأي الذي يقول إنَّهما يصبحان، أو هما بالفعل، في هوية واحدة هو الرأي الذي يُطلق عليه الكُتَّاب المسيحيون اسم وحدة الوجود، ويعتبرونه «هرطقة»، والتي يُتَّهم بها المتصوِّفة المسيحيون من حين لآخر. وطالما أن الذات المتناهية جزء من العالم، فإنَّه ينتج من ذلك أن وحدة الوجود بمعناها الضيق هي جزء أو نموذج، لوحدة الوجود بمعناها الواسع. وسوف أفحص في هذا الفصل هذين المعنيَين.

وسوف أبدأ في هذا القسم بأن أُناقش فحسب ما الذي تعنيه نظرية وحدة الوجود بالفعل، أعني ما العلاقة التي تؤكِّد وجودها بين الله والعالم، أو بين الله والذات المتناهية؟ ما هو التصوُّر المناسب أو التعريف الصحيح لمذهب وحدة وجود؟ ومن أجل أغراض المناقشة سوف أتناول «اسبينوزا» و«الأوبنشاد»، كنموذجَين لوحدة الوجود أسْتمِد منهما تعريفًا لهذا المذهب.

كتب بروفيسور «إبراهام ولف» في مقال في «دائرة المعارف البريطانية» يقول:

«وحدة الوجود في الفلسفة واللاهوت تعني النظرية التي تقول إن الله هو كل شيء وكل شيء هو الله. فالكون ليس خلقًا متميزًا عن الله … فالله هو الكون، والكون هو الله … والشارح الكلاسيكي لمذهب وحدة الوجود هو «اسبينوزا».»

وسوف نرى أن مذهب وحدة الوجود طبقًا لما يقوله بروفيسور «ولف» هو النظرية التي تقول إن العلاقة بين الله والعالم هي علاقة هوية بسيطة.

على الرغم من أنني لا أستطيع أن أقبل هذا التعريف، ففي استطاعتنا أن نبدأ منه كأساس للمناقشة، خصوصًا أنه يُمثِّل، فيما يبدو، وجهة النظر الشائعة. كما أنه التعريف الذي يتفق مع التحليل اللغوي لمصطلح وحدة الوجود Pantheism.١ وعندئذٍ تسأل: هل هو تأويل مقبول لنظرية وحدة الوجود؟
لقد استخدم اسبينوزا، بالتأكيد، اللغة التي يبدو أنها تتضمن ذلك؛ فقد اعتاد أن يتحدَّث عن «الله» أو الطبيعة، كأنهما مترادفان. وحديثه عن «الطبيعة الطابعة» و«الطبيعة المطبوعة» لا يبدو أنه يُغيِّر من ذلك شيئًا، فهما فحسب طريقتان في التفكير عن شيء واحد، إمَّا أن يُسمَّى بالطبيعة أو الله. وفضلًا عن ذلك فهو لا يُسلم، فيما يبدو، بأي وجود خالص Being خارج الطبيعة؛ فالكون يتألَّف من جوهر وصفاته التي يُقال أيضًا إنَّها صفات لله. ولا يوجد شيء غير ذلك.

أما الأوبنشاد التي أعتبرها هنا الكتابات الأساسية الأكثر أهمية للفيدانتا التي قامت عليها فيما بعد فلسفات مثل فلسفة «سانكارا» و«ورامانجا» تستخدم لغة إذا ما أخذت بقيمتها السطحية، تشهد هي الأخرى، فيما يبدو، بهوية الله والعالم؛ إذ تقول الماندوكا أوبنشاد «كل ذلك هو براهمان». ونحن نجد في «سفتسفاتارا أوبنشاد» الفقرة الآتية:

«إنَّك أنت النار،
وأنت الشمس،
وأنت الهواء،
وأنت القمر،
وأنت الفلك المرصَّع بالنجوم،
أنت براهمان الأعلى،
أنت المياه،
أنت خالق كل شيء.
أنت المرأة، وأنت الرجل،
أنت الشاب، وأنتِ الصبية،
أنت الشيخ الذي يتوكَّأ على عصاه،
فثم وجهك في كل مكان.
أنت الفراشة السوداء.
أنت الببغاء الأخضر، ذو العينين الحمراوين.
أنت رعد السحاب، وأنت الفصول، وأنت البحار.
أنت البداية،
أنت فوق الزمان، وفوق المكان …»٢
تتحدث «الأوبنشاد» بلغة المجاز والشعر متجنبة التجريدات الفلسفية، لكن من الواضح أن هذه القائمة من الأشياء: النار، والشمس، والقمر، والهواء، والرجل، والمرأة، ورعد السحاب، وما إلى ذلك، تُمثِّل ببساطة الكون بأسره. إنَّه لمن المُخجل أن نقطع هذا الشعر الجميل المؤثر بسكين المنطق، لكن علينا أن نُشير إلى أنَّ إحدى العبارات تستخدم اسم «براهمان» وتُطلق عليه «خالق كل شيء» وهي تبدو بوضوح متناقضة مع نظرية الهوية الدقيقة؛ إذ لا بد أن تعني أن الكون هو خالق الكون. وعبارة اسبينوزا «علة ذاته Sui Causa» تتضمَّن فعلًا تجميعًا للفكرتين المتناقضتين، ما دامت العلة والنتيجة حسب تعريفهما متمايزتَين. وفضلًا عن ذلك فإنَّنا إذا ما عُدنا إلى عبارة الأوبنشاد التي تقول إن «براهمان» فوق الزمان، وفوق المكان لوجدنا أنها لا تتسق مع العبارة التي تقول إن «براهمان» يتحد في هوية واحدة مع السحب، والهواء، والشمس، والقمر، وأشياء أخرى تقع داخل الزمان والمكان. وقد يُقال، بغير شك، إنَّني نسيت في غمرة هذه التعليقات أنَّنا لا نتعامل مع بحث نسقي من التصوُّرات الفلسفية المجردة. إنَّه لمن الصواب أن نقول إن المعنى المنتشر في هذه الفقرة وفي فقرات أخرى من «الأوبنشاد»، يؤكِّد، بغير شك، تصوُّر الهوية. وهناك شاهد آخر يؤكِّد هذه الهوية نفسها هو التوحيد الشهير بين أتمان Atman (الروح أو النفس البشرية) وبراهمان، أعني بين الذات الفردية والذات الكلية في عبارات «أنت هو كذا».

ومع ذلك فأيًّا ما كان الخطر في أن نُعالج الشعر على نحو ما نُعالج المنطق، فإن التناقض في الفقرة التي اقتبسناها توًّا من الأوبنشاد تُوحي لي أن هناك شيئًا ناقصًا في تعريف الفيدانتا لوحدة الوجود، بتأكيدها للهوية البسيطة بين الله والعالم. إنَّنا إذا ما سلَّمنا بالطابع الشعري لهذه الكتابات، وبحرية الشعراء في الغموض والالتباس والتناقض، وبالعقلية الساذجة الفجة لمؤلفيها، رغم ما فيها من عمق، فإنَّه يبدو لي مع ذلك أن التناقضات التي اقتبستها هي أغراض لشيء أعمق من الحرية الشعرية ومن الفجاجة الشعرية. وأنا لا أقول إن الفيدانتا لا تتضمَّن وحدة وجود؛ فهي بالقطع تتضمن ذلك، لكني أقول إن وحدة الوجود فيها لا تُفهم فهمًا سليمًا على أنها تأكيد بسيط للهوية بين الله والعالم.

دعنا نفترض أن وحدة الوجود عند كل من اسبينوزا والفيدانتا لا تعني أكثر من هذه الهوية، فهل خطر لأنصار هذا التأويل أنهم يُصوِّرون جوهر هذه الفلسفات العظيمة على أنها وجهة نظر سخيفة حمقاء لا يُمكن أن توصف إلا بأنها لعب فارغ بالألفاظ؟ ذلك لأنه لو كانت وحدة الوجود هي وجهة النظر التي ترى أن الله هو العالم، لكان علينا أن نبحث عن معنى كلمة «هو» في هذه العبارة. وطبقًا للتأويل الذي نُناقشه فإن كلمة «هو» خاصة بالهوية، بنفس المعنى الذي تظهر فيه كلمة هو في عبارة مثل «العربة هي السيارة» أو «زيد وعمرو»، لكنَّا عندما نقول «العربة» هي «السيارة» فكأننا نقول إن «السيارة» و«العربة» كلمتان مختلفتان تطلقان على شيء واحد. وعلى ذلك فإذا لم تكن كلمة وحدة الوجود تعني شيئًا سوى هوية الله والعالم، فإن ذلك يُرادف قولنا إن صاحب وحدة الوجود يقصد أن «الله» هو اسم آخر يختار بعض الناس استخدامه — لسبب بالغ الغرابة — لما يُطلق عليه بعضهم الآخر اسم العالم. ولا شك أن اسبينوزا كان يستطيع — لو أنه أراد ذلك — أن يُقرِّر أنه في المستقبل سوف يُسمَّى الكون باسم الله. وكان يستطيع أيضًا — لو أنه أراد ذلك — أن يُطلق على الكون اسم زيد، أو عمرو، أو خالد، أو العمة مريم. وكان في استطاعته أن يُطلق على هذه المنضدة اسم البيضة. ذلك هو الضرب من الحمق الذي ارتدت إليه فلسفات اسبينوزا والأوبنشاد لو صحَّ تأويل الهوية عندهما.

لا شك أن الفلاسفة كغيرهم من الناس يتحدثون لغوًا في بعض الأحيان، بل ربما كان اللغو في أحاديثهم أكثر مما هو عند غيرهم. لكن لا بد أن نتذكَّر أن الأفكار الأساسية في الأوبنشاد قد شكَّلت الغذاء الروحي الذي عاش عليه ملايين من الموجودات البشرية لثلاثة آلاف عام، فهل يُمكن أن نُصدِّق أن التصورات التي كانت عندهم صادقة، ليست سوى ألفاظ فارغة ليس لها دلالة سوى ما تدل عليه عبارة «العربة هي السيارة» …؟ لا يُمكن أن يُقال إن كثرةً من البشر عاشوا على فلسفة اسبينوزا، وإن كان اسبينوزا قد فعل. ومهما يكن صوابًا أنه حتى الفلسفات العظيمة يُمكن أن نجد فيها فقرات من اللغو الفارغ، فيبدو بعيدًا عن التصديق ألَّا تكون السكينة في فلسفة اسبينوزا، أكثر من سوء استخدام أحمق للألفاظ. ولا شك أنَّ الفلاسفة كثيرًا ما أساءوا استخدام الألفاظ نتيجة للالتباس الخفي في اللغة، أو نتيجة للفشل في الانتباه إلى الاستخدامات المألوفة للكلمات، لكني لا أستطيع أن أعرف كيف يُمكن لأي اعتبار من هذين الاعتبارين أن يُفسِّر فلسفة اسبينوزا.

وبالتالي فإنَّني سوف أسوق ما أعتقد أنه فهم أعمق لوحدة الوجود. وطبقًا للتعريف الذي اقترحه، فإن وحدة الوجود هي الفلسفة التي تؤكد القضيتين الآتيتين في آن معًا، وهما:
  • (١)

    العالم يتحد مع الله في هوية واحدة.

  • (٢)
    العالم متميز عن الله، أي إنَّه لا يتحد معه في هوية واحدة.

وأنا أعتقد أن هذا الرأي ينطوي على مفارقة، هي السمة الكلية العامة لجميع أنواع التصوف. وسوف تنعكس هذه المفارقة الأساسية، بالطبع، في جميع الفلسفات التي أوَّلت التصوف تأويلًا عاليًا، إن صحَّ التعبير، ولأنَّ وحدة الوجود مهما ارتدت من رداء خارجي من المنطق والعقلانية، كما هي الحال عند اسبينوزا، تضرب بجذورها باستمرار في التصوف، فإنَّنا لا بد أن نتوقَّع أنها تنطوي على مفارقة. فقط أولئك النقَّاد الذين جذبهم المنهج الهندسي المصطنع عند اسبينوزا، وعجزوا عن النفاذ تحت السطح إلى منابع فكر اسبينوزا المستترة سوف يؤمنون بشيء مختلف. فالقضية التي تقول إن العالم متحد مع الله ومختلف عنه في آنٍ معًا، يُمكن أن تُسمَّى: مفارقة وحدة الوجود.

وفي استطاعتنا أن نقول — إنْ شئنا — إن ما هو مُتضمَّن هنا في مفارقة وحدة الوجود، وفي جميع مفارقات التصوف في حقيقة الأمر، هو الفكرة التي تُسمَّى «وحدة الأضداد» أو «الهوية في الاختلاف». ولقد ارتبطت العبارتان، بالطبع، باسم هيجل، وهو اسم يثير الآن، بين الفلاسفة الذين يتحدَّثون الإنجليزية، ردود أفعال غير متعاطفة عمومًا. ولذلك لا بد أن أقول شيئًا عن هذا الموضوع قبل أن أواصل السير في البحث. أعتقد أن وجهة النظر السائدة الآن في الحلقات الفلسفية في العالم الأنجلو سكسوني يُمكن التعبير عنها بقولنا إن مفهوم هوية الأضداد هو جزء من المغالطات والحيل التي ابتكرها هيجل، والتي ظهر لحسن الطالع أنها لغو في فترة قصيرة، ومن ثم فقد اختفت مع مؤلفها تمامًا، في صناديق القمامة.٣ غير أن ذلك ليس سوى صورة زائفة للوقائع، أولًا؛ لأن فكرة «هوية الأضداد» ليست من اختراع هيجل، بل إن عمرها على الأقل ثلاثة آلاف سنة؛ لأنها جزء من التصوف الذي أثَّر في بارمنيدس، وأفلاطون، وأفلوطين، وكثير من الفلاسفة الآخرين قبل هيجل. وما فعله هيجل هو أنه أدركها ووضعها في مصطلحات واضحة، بعد أن كانت كامنة وضمنية في كثير جدًّا من الفكر البشري العظيم قبل عصره. وهو حين فعل ذلك فقد أظهر بصيرة تاريخية عميقة، لكن سوء الطالع أن هيجل بعد أن تلقَّى هذه الفكرة من الماضي تقدَّم ليسير في خلط مرعب لها، فقد افترض أن ما قد عُثر عليه هو مبدأ منطقي، وحاول أن يجعل منه أساسًا لمنطق جديد أعلى، وكان ذلك خُلقًا مُحالًا؛ لأن هوية الأضداد ليست منطقية، بل هي فكرة، بالقطع، ضد المنطق. إنَّها تعبير عن العنصر اللاعقلي في الفكر البشري، ومحاولة خلق منطق منها، أوقع هيجل بالفعل في نوع من المغالطة؛ لأن كل استدلال من استدلالاته المنطقية المزعومة قد تم بسوء استخدام منسق للغة، وبالمغالطات الواضحة الملموسة، وأحيانًا كما أشار رسل عن طريق التلاعب بالألفاظ. وكانت هذه الحيل هي التي تم عرضها بسرعة، وهي السبب الرئيسي، وإن لم يكن الوحيد في سقوط الفلسفة الهيجلية. سوف أترك الآن هيجل وشأنه، وأعود من جديد إلى الموضوع الذي أتحدَّث عنه.
ليس من الصعب أن نُبيِّن أن فكرة الهوية في الاختلاف بين الله والعالم متضمَّنة بالفعل في فلسفات وحدة الوجودة في فلسفة الفيدانتا أولًا؛ فإن علينا أن نُبيِّن في آنٍ واحد هوية براهمان مع العالم واختلافهما. لقد سبق أن ذكرنا بعض شواهد الهوية بالفعل في الفقرات التي اقتبسناها من الأوبنشاد، لكنَّها واضحة كذلك في بعض التأويلات المتأخرة، وعند بعض الفلاسفة، من أمثال «سنكارا»، فهنا نجد «براهمان» يُمثِّل الحقيقة الواقعية Reality الوحيدة. والقول بأن «براهمان واحد ليس له ثانٍ» يعني أنه لا توجد حقيقة واقعية أخرى. والعالم التجريبي وهم يختفي في الحقيقة الواقعية لبراهمان. وقد يعترض معترض على ذلك بقوله إن معنى ذلك أن العالم لا يوجد على الإطلاق طبقًا لفلسفة الفيدانتا، ومن ثَم فلا يُمكن أن يتَّحد مع براهمان في هوية واحدة، لكن ذلك لا يعني سوى أن أيَّة محاولة للضغط على هذه التصوُّرات لتصل إلى نتائجها المنطقية توقعنا فحسب في المتناقضات.

لكن إذا كان براهمان يتَّحد مع العالم في هوية واحدة، فإنَّهما كذلك مختلفان. ويُمكن أن نضع الاختلافات في القائمة التالية:

براهمان هو العالم هو
(١) الحقيقة الواقعية. (١) وهم أو ظاهر.
(٢) الوحدة الخالصة. (٢) كثرة.
(٣) بلا علاقات. (٣) دائرة العلاقات.
(٤) اللامتناهي. (٤) دائرة التناهي.
(٥) خارج الزمان والمكان. (٥) يوجد في زمان ومكان.
(٦) ساكن لا يتغيَّر. (٦) في تدفُّق دائم.
وهكذا تُعرض ببساطة ووضوح مفارقةُ وحدة الوجود في الفيدانتا. والمفارقة نفسها تضرب بجذورها في الفولكلور الشعبي الهندي، وفي الأساطير، وفي الفن. ويُفسِّر هنرخ زيمر في كتابه «الأساطير، والرموز، في الفن والحضارة الهندية» إحدى الحكايات، وهي أطول من أن نذكرها هنا، لكنَّها تعني أن «سر مايا Maya» هو هوية الأضداد. ومايا هي التجلي المتأني والمتتابع ﻟ عمليات يناقض بعضها بعضًا ويمحو بعضها: الخلق والتدمير، والنمو والانحلال. وحرف «الواو» يربط ويوحِّد بين المتناقضات، وهو يُعبِّر عن الطابع الأساسي للموجود الأعلى … والأضداد هي أساسًا من ماهية واحدة، وجهان لإله هو «فشنو Vishnu».
ويُطبِّق «زيمر» تأويلًا مماثلًا على تمثال شفا Siva الشهير المنحوت في الصخر في كهف الفيلة قرب بومباي. وهو تمثال يوصف بأنه من أروع أعمال النحت في العالم. وهو تمثال يتألَّف من رأس مركزية ارتفاعها ١٩ قدمًا من الذقن حتى قمة الرأس. وعلى جانبَي الرأس يوجد رأسان آخران من اليمين واليسار. والرأس المنبثق من اليمين رأس ذكر، والرأس المنبثق من اليسار رأس أنثى، والذكر والأنثى مبدآن يرمزان إلى «الثنائيات» و«الأضداد»، التي تطبع عالم المظاهر. ويُعلِّق «زيمر» على هذه المجموعة من الأوجه قائلًا (ص١٤٨–١٥١): «تُمثِّل الرأس الأوسط المطلق؛ فهي الجلال والعظمة والماهية الإلهية التي خرجت منها الرأسان الآخران … وتنغلق الرأس الوسطى على نفسها في عزلة حالمة … إنَّها وجه الأزل … والذي يتدفَّق من صمته الجامد على نحو متواصل الزمان وعمليات الحياة، أو يظهر أنها تتدفَّق منه. ومن منظور الوسط أن لا شيء يتدفَّق … فالرأسان حادثان، والكون حادث، والفرد حادث. ولكن … أهي تحدث حقًّا؟ والقناع المركزي يعني التعبير عن حقيقة الأزلي، الذي لا يحدث فيه شيء، ولا شيء يظهر فيه، ولا شيء يختفي … ولا شيء يتغيَّر أو ينحل من جديد. والماهية الإلهية، وهي الحقيقة الوحيدة، المطلق في ذاته … تستقر في ذاتها، منغمسة في خوائها الجليل، محتوية على كل شيء.»

ونحن نرى في هذا النص هوية الأضداد، على نحو ما يُعبِّر عنها الفولكلور القديم، والحكايات، والأساطير البدائية، التي تنشأ من مشاعر الشعب، لا من عقله أو من رأسه. مما يجعل من الواضح أنها ليست من اختراع نوع حديث معتوه من المنطق.

أنتقل الآن إلى اسبينوزا، ومن المؤكَّد أن وحدة الوجد عنده تتضمَّن الهوية في الاختلاف بين الله والعالم، ما لم نقل إن جوهر فلسفته يتألَّف من الدعابة التافهة التي تُسمِّي الكون زيد أو عمرو أو الله تبعًا لهوى المرء، لكن ليس سهلًا أن نُبيِّن أين يعمل هذا المبدأ بالفعل عند اسبينوزا على نحو ما كان يعمل في الفيدانتا؛ إذ ينتمي اسبينوزا إلى عصر متأخر أكثر تحضرًا. ولو أنه قد سمح لنفسه بالوقوع في المفارقة المنطقية، لكان قد غطَّى حيله بسرعة باستخدام حيل مناسبة. وهي عملية لم تكن تحدث للناسك صاحب العقل البسيط الذي كتب الأوبنشاد. لم يكن اسبينوزا ليسمح — وهو العقلاني المحترف — بوجود تناقض في مذهبه، بالطريقة الصارخة التي كان يوجد بها عند أصحاب الفيدانتا. ومع ذلك ففي استطاعة المرء أن يجد في مذاهبه مفارقة وحدة الوجود إذا ما نظر تحت السطح.

كان لدى اسبينوزا ثلاث مقولات لتفسير الواقع، هي: الجوهر، والصفة، والحال؛ فكل ما هو موجود لا بد أن يندرج تحت مقولة — أو أكثر — من هذه المقولات الثلاث. والسؤال هو: ما هي العلاقة بين الله والعالم عند اسبينوزا؟ لكن المرء لا بد أن يسأل أولًا ما هي المقولة التي يندرج تحتها الله، وما المقولة التي يندرج تحتها العالم؟ إن العالم في اعتقادي يُمكن أن يتَّحد مع الصفات والأحوال. ويبدو أن الله أحيانًا لا يعني سوى الجوهر، وأحيانًا أخرى يعني شمول: الجوهر، والصفة، والحال. وفي الحالة الأولى، فإن الله يتميَّز عن العالم بمعنى ما، ولكنَّه في الحالة الثانية يتَّحد معه. غير أن ذلك يحتاج إلى قليل من الإيضاح.

كثيرًا ما يُخبرنا اسبينوزا أن الصفات تُشكِّل الجوهر (تعريف الجوهر في كتابه «الأخلاق»، الجزء الأول، التعريف رقم ٤).٤ أو أن الجوهر يتألَّف من الصفات. ولو صحَّ ذلك فإنَّ الجوهر عندئذٍ — أو الله — يتَّحد مع شمول الصفات، ومن ثَم يتَّحد مع العالم، لكن هناك فقرات تتناقض مع هذا التعريف، فهو يقول، مثلًا، «الجوهر المفكر، والجوهر الممتد شيء واحد، ونفس هذا الجوهر يُفهم الآن تحت هذه الصفة، ويُفهم في وقت آخر تحت صفة أخرى». ويُنكر اسبينوزا وجود أي تفاعل حقيقي بين الذهن والبدن، وهو يُفسِّر التفاعل الظاهري بقوله إن نفس هذا الجوهر يُعبِّر عن نفسه، على نحو متآنٍ، بطريقتين مختلفتين، وهما أحداث الفكر وأحداث الجسد، لكن ما لم يفترض المرء أن الجوهر وجود متميِّز، الحامل الكامن تحت الصفات، فلن يكون للتفسير قيمة؛ لأن الصفتين في هذه الحالة سوف يوجدان جنبًا إلى جنب فحسب، ولن يكون تطابق الأحداث الذهنية مع الأحداث الجسدية سوى مصادفة، دون أن يكون هناك أي تفسير لهذا التطابق. ومن الواضح أنه كان في خلفية ذهن اسبينوزا — مهما يقل هو نفسه — فكرة أن الجوهر شيء ثالث يُفسِّر سلوك الاثنين الآخرَين.

وفضلًا عن ذلك، فعلى الرغم من تأكيداته الواضحة أن الجوهر يتألَّف من الصفات، فمن غير المحتمل ألَّا يكون قد تأثَّر بفكره الحامل الكامن المتميِّز، من حيث إنه أخذ فكرة الجوهر والصفات من التراث بغير نقد، فلم يكن هناك انفصال واضح عن التراث على أساس تجريبي حتى نصل إلى هيوم، فلم يكن من المستطاع تجربة أي شيء سوى الصفات أو الكيفيات. ومن المحتمل، فيما يبدو، أن التأويلات المتناقضة للجوهر التي تُفسِّره مرة على أنه الحامل، ومرة أخرى على أنه مجموع الصفات، وهما يعملان معًا دون أن يتصالح أحدهما مع الآخر في فكر اسبينوزا. ولدينا في التأويل الأول تصوُّر الله الذي يتميَّز عن العالم، ولدينا في التأويل الثاني هوية الله مع العالم.

إذا كانت المشاعر والأفكار هي دائمًا — كما أعتقد — المصادر السيكولوجية لوحدة الوجود، مهما بدت عقلانية على السطح، وإذا كان التفكير الصوفي، كما أعتقد، هو دائمًا سلسلة من المفارقات المنطقية، لتَرَتَّب على ذلك أن وجهة النظر التي تقول إنَّ اسبينوزا — ربما ضد رغبته — تورَّط في مفارقة وحدة الوجود، ربما كانت مُفيدة إذا كان ثمة مبرر مستقل للظن بأنَّ الأفكار والمشاعر الصوفية قد دخلت بالفعل في تشكيل فلسفته، فعندئذٍ سيكون هناك عنصر صوفي في تفكيره يتأكَّد أحيانًا ويُنكَر أحيانًا أخرى. وهو يظهر عند مَن ينكرون هذا العنصر على أنه «ملحد ملعون». وهو يظهر عند من يؤكدون هذا العنصر على أنه «رجل نشوان بالله». وإذا ما أوَّل المرء عبارته «الله أو الطبيعة» على أنها تعني أن الله ليس سوى اسم آخر للطبيعة، وأنَّ الله باختصار ليس سوى كلمة لفظية، فإن من الطبيعي أن ينتهي المرء إلى أنه ليس سوى رجل ملحد، لكن إذا ما أوَّلها المرء تأويلًا صوفيًّا، بمعنى أن الله كما أنه متَّحد مع العالم فإنَّه كذلك مُتميِّز عنه، عندئذٍ سوف تكتسب لغته الدينية المؤثرة معنى، وقد تبرر أيضًا العبارة التي تصفه بأنه «رجل نشوان بالله». ورأيي أنه عرض في ذاته المفارقة الحيَّة لملحد نشوان بالله.

لقد كتب «هارولد هوفدنج» في كتابه «تاريخ الفلسفة الحديثة» (ص٢٩٤-٢٩٥) يقول «عند اسبينوزا نجد الفهم الواضح لانفعالاتنا الطاغية يرتفع فوقها ويتَّحد مع بقية معرفتنا بالطبيعة»، ثُم يُضيف أن هذا الفهم لانفعالاتنا الطاغية يجعل من الممكن أن يكون هناك «اتحاد صوفي بالله، ويُشكِّل هذا الميل الصوفي الشرقي الأساس في تفكيره كله».

ونحن نجد، من ناحية أخرى، أن مستر «ستورات هامبشير» في كتابه عن اسبينوزا في سلسلة بنجوين (ص٤٣-٤٤) يقول:
«لقد أساء ناقد اسبينوزا فهم ما يعنيه بالله كعلَّة محايثة، لو أنها عُزلت عن سياقها في فلسفته لبدت الفكرة صوفية وغير علمية … والواقع أن المضمون هو العكس تمامًا … فالنظرية لا تظهر صوفية وغير علمية إلَّا في نزعتها فحسب، فإذا نسي المرء أن اسبينوزا في استخدامه لكلمة «الله» يستخدمها بالتبادل مع كلمة «الطبيعة»، فالقول بأنَّ الله هو العلَّة المحايثة لكل شيء، هو طريقة أخرى للقول بأنَّ كل شيء ينبغي تفسيره على أنه نسق واحد يشمل كل شيء، الذي هو الطبيعة، وأنه ليس ثمَّة علَّة (ولا حتى العلَّة الأولى) يُمكن تصوُّرها على أنها خارجية أو مستقلة عن نظام الطبيعة.»

كيف وصلنا إلى مثل هذين التفسيرين المتعارضين لأفكار اسبينوزا ودوافعه الأساسية؟ لأنَّ أحدًا من هؤلاء الشرَّاح لم يدركهما معًا، وفي عبارة واحدة، وفهم جانبَي مفارقة وحدة الوجود، فقد ركَّز «هوفدنج» على جانب، في حين ركَّز «هامبشير» على الجانب الآخر. غير أن هوفدنج كان لديه — على الأقل — البصيرة ليستشعر العنصرين المتعارضين في فلسفة اسبينوزا. ومن ثَم ليرى — رغم مذهبه الطبيعي — الشعور الصوفي يجري قويًّا في فكره ليُشكِّل مكونًا مُتمَّمًا ومتكاملًا في فلسفته التي تصبح مشوهة وغير واضحة لو تجاهله المرء أو أنكره.

أمَّا القول بأنَّ الله في فلسفة اسبينوزا ليس سوى اسم آخر «للطبيعة» مثلما أن «العربة» ليست سوى اسم آخر «للسيارة»، ومن ثَم فإن كل اللغة الدينية العالية التي استخدمها اسبينوزا في كتابه «الأخلاق» ليست سوى مسألة لفظية لا معنى لها، فتلك هي وجهة النظر التي يطلب منَّا مستر «هامبشير» قبولها. ولا بد أن أقول إنَّها نظرة تبدو لي بالغة السطحية.

أنتهي من ذلك إلى القول بأنَّ النظرية الفلسفية لوحدة الوجود تعني حقًّا الهوية في الاختلاف بين الله والعالم وليس مجرد هويتهما فحسب، طالما أن ما أسميته بوحدة الوجود بالمعنى الضيق هو مجرد حالة جزئية لوحدة الوجود بالمعنى الواسع، وينتج من ذلك أنه لا بد أن وحدة الوجود تنظر إلى العلاقة بين الله والذات المتناهية على أنها حالة اتحاد، وعلى أنها كذلك نموذج للهوية في الاختلاف، وليس للهوية فحسب. غير أن ذلك كله ليس سوى استباق تمهيدي؛ ذلك لأنَّ علينا أن نفحص الظواهر الصوفية المرتبطة بها لنكشف أي ضوء تلقيه على هذا الموضوع.

ثانيًا: الثنائية

ليس مذهب وحدة الوجود مجرد نظر منطقي لذهن فلسفي، فهو ليس وجهة نظر تقوم تمامًا على حجة أو على العقل، وإنَّما هو في جوهره فكرة صوفية، رغم أنه بعد ذلك واصل تدعيم نفسه بالحجة. ومن ثَم ففي خلال التطوُّر التاريخي الطويل للفلسفة العقلية، كان هناك اعتقادٌ أن مذهب وحدة الوجود يقوم على أساس العقل، ونُسيت جذوره الصوفية، وذلك ما حدث مع اسبينوزا، أو على الأقل مع شُرَّاح اسبينوزا ومَن عرضوا فلسفته. وهكذا نجد أن مغزى مشكلة وحدة الوجود ليس ما إذا كانت حجج هذا المذهب تقوم على منطق جيد أو فاسد، بل ما إذا كانت تأويلًا صحيحًا للتجربة الصوفية. تلك هي المشكلة المطروحة أمامنا الآن.

من حيث المصطلحات سوف أُحدِّد معاني الثنائية، والواحدية، ووحدة الوجود، على النحو التالي: الثنائية هي وجهة النظر التي ترى أنَّ العلاقة بين الله والعالم — بما في ذلك العلاقة بين الله والذات الفردية، في حالة الاتحاد — هي علاقة آخرية خالصة، أو علاقة اختلاف تام، فليس ثمة هوية. أمَّا الواحدية فهي وجهة النظر التي ترى هذه العلاقة هوية خالصة وليس ثمة اختلاف. أمَّا وحدة الوجود، فهي وجهة النظر التي ترى أن هذه العلاقة هي: الهوية في الاختلاف.

لقد كان هناك، بصفة عامة، انشقاق أساسي بين الشرق والغرب، أو بالأحرى بين الهند والغرب في مسألة ما إذا كان ينبغي تقديم تفسير واحدي أو ثنائي للتجربة الصوفية؛ فقد قدَّمت الهند في مذاهب «السانخا»، و«اليوجا»، و«الجينية»، وفي مذاهب الفيدانتا، تأويلات الثنائية والكثرة. غير أن التيار السائد في فلسفة الفيدانتا وهو فلسفة «سنكارا»، كان تيارًا واحديًّا، لكن صوفية الغرب، رغم ميلهم الواضح إلى الانحراف نحو الواحدية أو وحدة الوجود؛ فإنَّهم كانوا عادة ينتهون إلى إنكار هذين المذهبين لصالح الثنائية. ولقد كانت الثنائية سمة لأديان التأليه الثلاثة الرئيسية: المسيحية، والإسلام، واليهودية، على الرغم من أنه يُمكن، عمومًا، اقتباس متصوِّفة المسيحية أنفسهم — في نصوص حاسمة — كنماذج تقف إلى جانب الثنائية. ويبقى السؤال عمَّا إذا كانت هذه ستظل نظرتهم إذا لم يكونوا قد خضعوا لتهديدات اللاهوتيين والسلطات الكنسية في الكنيسة. هذا سؤال ينبغي علينا أن نتأمَّله في صفحات قادمة؛ لأنه يؤثر في مشكلتنا الرئيسية، ألا وهي مشكلة التأويل الصحيح.

تظهر التجربة الصوفية الانبساطية كمصدر رئيسي نبع منه التوحيد بين الله والعالم في مذهب وحدة الوجود، والمذهب الواحدي. أمَّا التجربة الصوفية الانطوائية فهي المصدر الرئيسي للتوحيد بين الله والذات الفردية، عندما يحدث ذلك في حالة الاتحاد.

لقد رأى المتصوِّفة الانبساطيون العالم من حولهم: الحشائش، والأشجار، والحيوان، وأحيانًا الأشياء «الجامدة»؛ كالصخور، والجبال، وقد أنتجها الله، أو أشعَّ فيها نور الحياة، الذي هو واحد، فهي نفس الحياة التي تسري في كل شيء. أو كما عبَّر عن ذلك «ر. م. بك» بقوله: «لقد رأيتُ أن الكون لا يتألَّف من مادة جامدة ميتة، بل على العكس؛ حضور حي٥ ولقد بيَّنا فيما سبق أن «بوهيمي»، و«إيكهارت»، و«ن. م»، وكثيرين غيرهم عبَّروا عن أنفسهم بلغة مماثلة. والمشكلة أمامنا هي ما إذا كانت التجربة الصوفية الانبساطية تدعم بالفعل، الثنائية، أو الوحدة، أو وحدة الوجود.

أمَّا المتصوف الانطوائي الذي تخلَّص من الإحساسات، والصور، وكل مضمون فكري، فقد وجد في داخل نفسه، في النهاية، الذات الخالصة التي أصبحت، أو التي هي، متحدة مع الذات الكلية أو مع الله. ذلك هو مصدر مشكلتنا بمقدار ما تدور بصفة خاصة حول علاقة الهوية أو الاختلاف بين الله والذات الفردية. وما هو هام هنا بصفة خاصة هو «تلاشي» أو «اختفاء» أو فناء الفردية — كما أطلق عليها المتصوِّفة المسلمون — في «الوجود الذي لا حدود له»، الذي وصفه «تنسون»، و«كويستلر»، وغيرهما بلغة حديثة غير لاهوتية.

سوف أناقش في هذا القسم وجهة النظر الثنائية التي تأخذ بها ديانات التأليه، وأقتبس بعض الشواهد من الصوفية أنفسهم لصالح هذه الوجهة من النظر؛ فقد تحدَّث المتصوِّفة المسيحيون في تجاربهم عن «الاتحاد بالله». وسوف تكون مناقشتنا أسهل؛ إذا ما استخدمنا لغتهم بصدد هذه التجارب. عندئذٍ يكون السؤال: ما الذي يحدث في لحظة الاتحاد الصوفي؟ هل تُصبح روح المتصوِّفة، ببساطة، متحدة بالله؟ أم تبقى وجودًا متمايزًا ومختلفًا عن الله تمامًا؟ أم إن هنا هوية في الاختلاف؟

لسوء الطالع لا يُساعدنا الالتجاء إلى معنى كلمة «الاتحاد» لأنه لفظ ملتبس الدلالة؛ فنحن في لغتنا العادية نعني باتحاد «أ» مع «ب» توقفهما تمامًا عن أن يكونا موجودات متمايزة؛ كاتحاد نهرين مثلًا؛ مثل نهر «ميسوري» و«نهر ميسيسبي» في نهر واحد. فسوف يكون من الصواب أن نقول إنَّه تحت اتصالهما يجري نهر واحد فحسب. ومن ناحية أخرى فإن أعضاء اتحاد التجارة لا يتحدون في هوية واحدة بعضهم مع بعض، بل يرتبطون ارتباطًا وثيقًا فحسب في نفس المنظمة. وفضلًا عن ذلك، فلو أنَّنا قلنا إن شيئين «أ» و«ب» هما «نفس» الشيء، فذلك أيضًا ملتبس الدلالة. فنحن نقول إن «نجمة المساء» و«نجمة الصباح» هما «نفس» الشيء، ونعني أنهما يتحدان في هوية واحدة، لكنَّا نقول إن الوالدين لديهما «نفس» الفكرة، ولا نعني بذلك سوى أن أفكارهما، رغم أنها متمايزة عدديًّا، بوصفها عمليات سيكولوجية في ذهنَين مختلفَين؛ فإنَّهما مع ذلك متشابهتان تمامًا. وهذا الالتباس الجزئي يُصبح على صلة وثيقة بموضوعنا عندما يقول المتصوِّفة المسيحيون إن إرادة الفرد في حالة الاتحاد تُصبح هي نفسها، أو واحدة، مع الإرادة الإلهية.

ويستخدم الصوفية باستمرار لغة ملتبسة الدلالة، وسوف نجد بالمصادفة ما يبدو واضحًا غير ملتبس الدلالة، وعبارات صريحة في كتاباتهم. وعلينا أن نُمسك بهذه العبارات على اعتبار أنها هامة، لكن حتى في هذه الحالة، فإن علينا أن نتذكَّر أن تأويل الصوفي الخاص لتجربته، حتى عندما نكون على يقين منه، لا يُمكن قبوله على أنه صحيح بطبيعة الحال؛ لأن المتصوِّفة — مع استثناءات قليلة — ليسوا من فلاسفة التحليل أو حتى من الميتافيزيقيين، وكثيرًا ما وقعوا في شراك اللغة. ومن الواضح، من ناحية أخرى، أن علينا أن ندرس عبارات المتصوِّفة عن تجاربهم، ما دامت هي في نهاية المطاف المادة الخام الوحيدة الموجودة أمامنا لتحليلها. وإن علينا أن نقيم — على أساس هذه العبارات — التأويل الذي نقترح قبوله على أنه أفضل تأويل.

سوف أبدأ ببعض المصادر المسيحية، ثم أنتقل إلى شواهد من متصوِّفة الإسلام واليهودية.

كتبت القديسة تريزا تقول:
«واضح جدًّا ما الذي يعنيه الاتحاد؛ شيئان متمايزان يُصبحان شيئًا واحدًا …»٦

ربما افترض القارئ أن هذه عبارة واضحة عن الواحدية، غير أن لغة القديسة تريزا كانت في العادة بالغة الغموض، ولم تنقد ذاتيًّا، لدرجة أن المرء لا يستطيع أن يُقيِّم، على أساس العبارة المذكورة، أيَّة نظرية على الإطلاق، لكن المرء يعرف أن «القديسة تريزا» بوصفها كاثوليكية مخلصة، ربما أصابها الرعب خشية أن يُفهم أنها تُفضِّل نظريات الهرطقة: الواحدية أو وحدة الوجود.

وكتب يوحنا حامل الصليب يقول:
«تعتمد حالة الاتحاد الإلهي على التحوُّل الشامل للإرادة البشرية إلى إرادة الله بتلك الطريقة التي تجعل كل حركة لهذه الإرادة هي باستمرار حركة لإرادة الله.»٧
فماذا كان يعني بعبارة «التحوُّل الشامل للإرادة البشرية إلى إرادة الله …»؟ هل تعني أن الإرادتين — الإرادة البشرية وإرادة الله — قد أصبحتا متحدتين في هوية واحدة؟ أم إنها تعني أنَّ الإرادتين ظلَّتا إرادتين، لكن ما يريده الواحد هو بالضبط مثل ما يريده الآخر؟ لم يكن القديس يوحنا حامل الصليب عقلًا من الطراز الأول، رغم أنه كان صاحب ذهن تحليلي أكثر من القديسة تريزا، كما كانت لغته أكثر دقة من لغتها، وما لم يكن في استطاعتنا أن نجد عبارة تُعبِّر عمَّا يقصده أوضح من هذه العبارة، فإنَّنا لن نستطيع أن نستنتج شيئًا مؤكَّدًا من هذه الكلمات. ولحسن الطالع فإن مثل هذه العبارات الواضحة موجودة، ولقد اقتبست اثنين منها، فهو يتحدَّث عن الاتحاد الصوفي على أنه:
«ذلك الاتحاد وتحوُّل الروح إلى الله لا يكتمل إلَّا إذا وجد ضمنا ذلك التشابه الذي يخلقه الحب، ولهذا السبب فإنَّني سوف أُسمِّي هذا الاتحاد: اتحاد المشابهة، الذي يحدث عندما تتطابق إرادتان: إرادة الله وإرادة الروح معًا، دون أن ترغب إحداهما في الأخرى أو تبغضها.»٨ [التشديد من عندي.]
ثم أضاف بعد ذلك بقليل:
«تلك الروح التي وصلت إلى مرحلة التطابق الكامل والمماثلة، تتحد اتحادًا تامًّا مع الله، وتتحوَّل إلى الله على نحو يفوق الطبيعة.»٩ [التشديد على الكلمات من عندي.]

وبعبارة أخرى فإن الله والروح ظلَّا، من حيث الوجود، موجودات متمايزة، واتحادها يعني فقط التشابه الكيفي لإرادتهما. ويُمكن أن يُسمَّى بالاتحاد الكيفي كتمييز له عن الاتحاد في الوجود، أو في الجوهر، أو الهوية.

وكان «روز بروك» أيضًا صريحًا:
«كما أن الهواء يخترقه ضوء الشمس وحرارتها، وكما أنَّ الحديد تنفذ فيه النار، حتى إنه يعمل من خلال النار كما تعمل النار، طالما أنه يتوهَّج ويشع مثل النار، ويُمكن أن يُقال مثل ذلك عن الهواء … ومع ذلك فكل منها يظل محتفظًا بطبيعته الخاصة؛ لأن النار لا تُصبح حديدًا، ولا يُصبح الحديد نارًا … فها هنا تمييز عظيم؛ لأن المخلوق لا يُصبح أبدًا هو الله، والله لا يُصبح أبدًا هو المخلوق.»١٠

نلاحظ أن مفهوم الوحدة الذي يقول به القديس يوحنا حامل الصليب ليس هو تمامًا المفهوم الذي يقول به «روز بروك»؛ فالعلاقة بين الله والروح القُدُس عند القديس يوحنا حامل الصليب، هي علاقة تشابه بين شيئَين مختلفَين. أمَّا هذه العلاقة عند «روز بروك» فهي تُقارن العلاقة بين ضوء الشمس والهواء، أو بين الحرارة والحديد الساخن، وربما أطلقنا عليها اسم علاقة النفاذ؛ فهي ليست مشابهة أو مماثلة؛ لأنَّ ضوء الشمس لا يُشبه الهواء، كما أن الحرارة لا تُشبه الحديد. غير أن كلًّا من القديس يوحنا حامل الصليب، و«روز بروك» يصر على أن الله والروح يظلان موجودات متمايزة، ولا يتحدان من حيث الوجود في هوية واحدة. ومن ثَم فهما يُقدِّمان لنا صورتين مختلفتين من الثنائية. وذلك وحده — رغم أنه ليس في ذاته هامًّا — يكفي لإظهارنا على أن تأويل المعنى وتحليله الذي يُقدِّمه المتصوِّفة لا يُمكن لنا قبوله بقيمته المباشرة؛ لأنه ما لم نلجأ إلى القول بأن هذين الرجلين يصفان نوعَين مختلفَين من التجربة الصوفية، فإنَّهما لا يُمكن أن يكونا معًا على صواب وإن كانا يتفقان في الثنائية.

ويقول «هنري سوزو» أيضًا بالثنائية، ويؤوِّل الاتحاد على أنه تشابه كيفي، يقول:

«إن الروح باندماجها في الله تتلاشى، لكنَّها لا تتلاشى تمامًا؛ لأنها في الواقع تتلقَّى بعض الصفات من الألوهية، لكنَّها لا تُصبح هي الله بالطبيعة … فلا يزال هناك شيء خُلق من العدم، ويستمر أن يكون كذلك إلى الأبد.»١١
وإلى جانب عباراته الواضحة عن الثنائية، فإن هذه الفقرة جديرة بالملاحظة لاستخدامه كلمات مثل «الروح تتلاشى». ويظهرنا ذلك على أن التجربة الصوفية عند «سوزو» تشمل ما يُسمِّيه صوفية المسلمين «الفناء Fana»، وهو ما مرَّ بتجربته أيضًا «تنسون»، و«روز بروك»، وغيرهما ممن اقتبسنا نصوصهم من قبل. وهي تضيف شهادة عن التشابه الأساسي بين التجارب الصوفية في جميع العصور، والديانات، والثقافات.
فإذا ما انتقلنا الآن إلى «مايستر إيكهارت» أعظم المتصوِّفة المسيحيين في العصور الوسطى من الناحية الفلسفية، لوجدنا موقفًا غريبًا؛ فهو كثيرًا ما يقول عبارات — لا سيما في المواعظ — جعلت السلطات الكنسية تتهمه بأنه يزعم الهوية مع الله؛ فمثلًا:
«ينبغي على المرء أن يحيا بحيث يكون متحدًا مع ابن الله، لدرجة أن يُصبح هو ذلك الابن، وحتى لا يكون بين الروح وبين الابن أي تمايز.»١٢
وأيضًا:
يقول القديس بولس: «إنَّنا جميعًا نتحوَّل إلى الله (كورنثوس الثانية ٣:١٨.)١٣ وكل ما يتغيَّر إلى شيء آخر، يُصبح متحدًا معه في هوية واحدة. ومن ثَم لو أنَّني تغيَّرت إلى الله، وجعلني واحدًا مع ذاته، فلن يكون هناك عندئذٍ، مع الله الحي، أي تمييز بيننا.»١٤
وأيضًا:
«الله وأنا، نحن واحد.»١٥
وأيضًا:
«عن طريق التوهُّج [وإيكهارت يعني بهذه العبارة الاتحاد] أكتشف أن الله وأنا واحد … فأنا المحرك الذي لا يتحرَّك والذي يُحرك كل شيء … وهنا أيضًا يتحد الله مع الروح في هوية واحدة …»١٦
وكمثال أخير:
«العين التي أرى بها الله، هي نفس العين التي يراني بها الله؛ فعيني وعين الله واحدة، وهي هي، واحدة في الرؤية، واحدة في المعرفة، واحدة في الحب.»١٧
ويُمكن أن نقتبس أمثلة أخرى كثيرة. فهي متناثرة في كل كتابات «إيكهارت» لكنَّه يُشير في «الدفاع» الذي كتبه ضد اتهامه بالهرطقة إلى الفقرة الأولى السابقة ويقول: «لو كانت هذه العبارة سوف تؤخذ على أنها تعني أنَّني أنا الله، فذلك كذب. أمَّا إذا كان ينبغي أن تؤخذ على أنها تعني أنَّني أنا الله بوصفي عضوًا منه فهي صادقة.»١٨ لكن ماذا تعني عبارة «عضوًا منه» …؟
أمثال هذه النصوص تجعل المرء يتساءل عمَّا إذا كان «إيكهارت» كان صريحًا تمامًا في دفاعه.١٩
لكن هناك عبارة «لإيكهارت» لها أهمية فلسفية قصوى في هذا السياق، هي ما يأتي:
«الواحد الإلهي هو نفي النفي، لكن ماذا يعني الواحد؟ شيئًا لا يُمكن أن يُضاف إلى شيء آخر، تُمسك الروح بالألوهية حيث تكون عندئذٍ خالصة، وحيث لا يكون ثمة شيء بجانبها، لا شيء آخر تتأمَّله. الواحد هو سلب السلب. كل مخلوق يتضمَّن سلبًا: الواحد يُنكر أنه أي مخلوق آخر. لكن الله يتضمَّن إنكارًا لكل إنكار. إنَّه الواحد الذي يُنكر كل آخر، فلا شيء سوى ذاته.»٢٠
في هذه الفقرة يستبِقْ «إيكهارت» كلًّا من اسبينوزا، وهيجل، ويُشير بالنظرية نفسها الموجودة في الأوبنشاد. يقول: «كل مخلوق يتضمَّن سلبًا: كل واحد يُنكر أنه الآخر.» ومن الواضح أن ذلك تعبير عن مبدأ اسبينوزا، الذي يقول «كل تعيُّن سلب.»٢١ وهذا هو تعريف المتناهي، أو بعبارة «إيكهارت» كل مخلوق متميِّز عن الخالق الذي هو اللامتناهي. فذلك الذي ينفي كل نفي هو اللامتناهي. وفضلًا عن ذلك فاللامتناهي هو — بعبارة إيكهارت — شيء لا يُمكن أن يُضاف إليه شيء آخر «أو الذي ليس له آخر ينفيه». أو كما تقول «الأوبنشاد» «الواحد الذي ليس له ثانٍ». وعلى هذا النحو، فإن الله هو اللامتناهي، لا بمعنى أنه سلسلة لا نهاية لها، بل بمعنى أنه لا يوجد شيء خارج ذاته يحده أو ينفيه. وهذه عبارة صريحة، إمَّا عن الواحدية، أو وحدة الوجود، طالما أن القول بأنه لا شيء آخر هناك سوى الله يعني القول بأنَّ الله هو كل شيء موجود.٢٢

يبدو واضحًا أن تفكير إيكهارت كان يميل إلى تفسير تجربته الخاصة تفسيرًا واحديًّا أو بطريقة وحدة الوجود، دون أن يُميَّز — بلا شك — بين الواحدية ووحدة الوجود. لقد جحد في دفاعه تهمة «الهرطقة» وبذلك قبل الثنائية التي تقول بها السلطات البابوية. وإذا لخَّصنا موقف المتصوِّفة المسيحيين، فلن يكون علينا، بالطبع، سوى أن نُقدِّم عينات للشواهد، وليس الشواهد كاملة. ولقلنا إن معظم النصوص الحاسمة لا تترك أي شك في موقفهم؛ فهم يدعمون الثنائية بصفة عامة، طبقًا لمعتقدات الكنيسة، لكنَّ هناك شيئًا في تجربتهم الخاصة تجعلهم ينجذبون نحو نظرية الهوية في العلاقة بين الله والروح الفردية عندما تكون في حالة الاتحاد.

ولقد تطوَّرت تجربة الاتحاد الصوفي بالله في التصوف الإسلامي، تطورًا كاملًا، ومن ثَم فإن علينا أن ننظر ما الذي قدَّمه هؤلاء المتصوِّفة من تأويل لهذه التجربة. لقد كان موقفهم، بصفة عامة، مشابهًا لموقف متصوِّفة المسيحية، أي الثنائية مع ميل إلى الثورة الغاضبة أحيانًا في اتجاه الواحدية؛ فكثيرٌ من متصوِّفة الإسلام يُفضِّلون التعبير عن تجاربهم في شعر متألِّق إلى أقصى حد، مسرف في الاستعارة والمجاز عن طريق النثر. غير أن الشعر، لا سيما من ذلك النوع الحسي الشهواني الذي كتبوه لا يكون طيِّعًا للتجربد النظري. ومع ذلك فسيطرة الثنائية واضحة؛ فالديانة الإسلامية — كالديانة اليهودية — تُصرُّ على وجود هوة عظيمة تفصل بين الخالق ومخلوقاته، وذلك ينعكس، بالطبع، في التأويلات التي يُقدِّمها المتصوِّفة لتجاربهم، لكن ذلك لم يكن يمنع وجود ثورات غضب مؤقتة تنادي بالهوية مع الله. وأحيانًا بلغة متطرفة كتلك التي تُنسب إلى «منصور الحلَّاج» وربما وجدنا تعبيرًا أكثر اعتدالًا عن الفكرة ذاتها عند «محمود الشابستاري» (١٣٢٠ ميلادية)، الذي كتب يقول:
«لا يوجد في الله ثنائية، فلا يوجد في ذلك الحضور «الأنا»، و«الأنت»، و«النحن»؛ ذلك لأنَّ «الأنا»، و«الأنت»، و«النحن»، و«الهو» تُصبح شيئًا واحدًا … ما دام لا يوجد أي تمايز في الوحدة. ويُصبح الطالب والمطلوب والطريق شيئًا واحدًا.»٢٣
وعبارة «يُصبح شيئًا واحدًا» هي بالطبع ملتبسة الدلالة، مثل كلمة «الاتحاد»، لكن عبارة «لا يوجد أي تمايز» ليست ملتبسة الدلالة ولا غامضة، فهي تعني: الهوية.
وآراء الإمام الغزالي (١٠٥٩–١١١١ ميلادية) بالغة الأهمية، فهو الصوفي، الفيلسوف العظيم، من بين صوفية المسلمين. وهو فيما يبدو لي فيلسوفًا أكثر منه متصوِّفًا. وربما انتابنا الشك فيما إذا كان حتى قد وصل بالفعل إلى الوعي الصوفي. وهو يقول عن نفسه في سيرته الذاتية: «كان النظر بالنسبة لي أسهل جدًّا من العمل، ولقد قرأتُ حتى تعلَّمت من الدراسة والهرطقة.»٢٤ ولمَّا لم يقتنع بذلك فقد اعتزل العالم، وظل لإحدى عشرة، أو اثنتي عشرة، سنة يعيش في عزلة، باحثًا عن الإشراق، طبقًا لمناهج وطرق الصوفية. ويبدو لي أن الدليل على وصوله إلى الإشراق ليس حاسمًا. أمَّا بالنسبة لقدرته ومكانته الفلسفية، فلا أحد ممن قرأ عباراته الواضحة النافذة، حتى وهي مترجمة، يستطيع أن يشك فيها. كما كانت لديه مهارة كبيرة على الكتابة؛ فكتاباته ممتعة نظرًا لقدرته غير العادية في ضرب الأمثلة التوضيحية.
والغزالي يتحدَّث أحيانًا عن «الفناء في الله»، الذي هو الهدف الذي يسعى إليه المتصوِّف ويبلغه. غير أن كلمة الفناء مجاز ملتبس الدلالة، وهي تتعارض مع الثنائية والوحدة، ولا شكَّ أن الغزالي يقصد بها معنى ثنائيًّا. ولقد اقتبسَتْ منه الآنسة «إيفلين أندرهيل» قوله «غاية التصوف الفناء التام في الله … ولقد تخيَّل البعض أنهم أصبحوا مع الله في وحدة، وتخيَّل غيرهم أنهم أصبحوا معه في هوية، وتخيَّل فريق ثالث أنهم ارتبطوا به، لكن ذلك كله غلط.»٢٥ واقتبس منه مستر «كلود فيلد» نصوصًا تدين العبارات المتطرفة لمنصور الحلَّاج، وغيره من الصوفية الذين استخدموا هذا النوع من اللغة، ثم يُضيف:

«ولقد سار هذا الأمر بعيدًا، حتى إن أشخاصًا مُعيَّنين تباهوا بالوحدة مع الله … حتى إنهم عاينوا الله واستمتعوا بالحوار معه …»

ويُشير الإمام الغزالي إلى أمثال هؤلاء المتصوِّفة على أنهم «ثرثارون حمقى».٢٦ ويبدو أنه يرفض أي تأويل غير ثنائي للتجربة الصوفية. والفقرة الآتية عن معنى «الفناء» جديرة بالتأمُّل:
«عندما لم يعد العابد يُفكِّر في عبادته أو في نفسه، لكنه فني تمامًا في الله الذي يعبده، فإن هذه الحالة يُسمِّيها العارفون بالفناء الجسدي، عندما يغيب المرء عن نفسه فلا يشعر بشيء من أعضائه الجسدية، ولا شيء مما يجري من حوله، ولا شيء مما يدور في ذهنه. لقد رحل أولًا إلى ربه، ثم أصبح في النهاية في ربه. والفناء الكامل يعني أنه لم يعد يعي شيئًا إلَّا نفسه فحسب، بل لم يعد يعي فناءه أيضًا؛ لأن الفناء عن الفناء هو هدف الفناء وغايته … ومن ثَم فعلاقة المتصوِّف بالله الذي أحبَّه، تُشبه علاقتك بمن تحب بسبب مركزه أو ثروته، أو هي أشبه بالحب البشري الذي تصل إليه … وعلى ذلك فكلَّما عظم حبيبك فإنَّك لا تدرك شيئًا آخر؛ فأنت لا تسمع شيئًا عندما يتحدَّث المتحدِّث، ولا ترى الشخص العابر، رغم أن عينيك مفتوحتان، كما أنَّك لست أصم.»٢٧

وعلينا أن نُلاحظ أن ذلك وصف سيكولوجي لحالة الصوفي الذهنية. ويقول الغزالي إنَّها تُشبه حالة الفناء الذهني عند شخص استغرقه تأمُّل المحبوب الأرضي. ولا تتضمَّن هذه الخصائص السيكولوجية في ذاتها أيَّة نظرية منطقية أو وجودية عن الواحدية أو الثنائية؛ فهي تتسق معهما معًا كما أنها لا تتضمَّن أو تنفي النظرة القائلة بأنَّ وجود الذات الفردية يتلاشى، حتى الفناء في الجوهر الإلهي للحظة، لكنَّها تقول فحسب، إن الوجود المنفصل للذات قد تم نسيانه سيكولوجيًّا. أمَّا القول بأنَّ الغزالي ظلَّ على الدوام ثنائيًّا فذلك ما يُمكن أن نجمعه من النصوص الأخرى التي ذكرناها فيما سبق ونصوص مشابهة كثيرة.

ليست فكرة الاتحاد بالله — فيما يقول «ج. ج. شوليم» في كتابه «التيارات الرئيسية في التصوف اليهودي» — هي الفكرة السائدة في اليهودية. والزعم ببلوغ هذا الاتحاد، وتأويله على أنه الهوية مع الله، إنَّما توجد في بعض الأحيان في «الحسيدية» المتأخرة، كما توجد أيضًا في حالة «أبولفيا Abulafia»،٢٨ لكنَّها — كما يقول شوليم في عبارة اقتبسناها من قبل — «حالات نادرة إلى أقصى حد تلك التي تقول إن الوجد يعني الاتحاد الفعلي بالله، بحيث تتخلى الفردية البشرية عن ذاتها في حالة الغيبة التي تندمج فيها تمامًا في التيار الإلهي … فلا مندوحة عن أن يظل الصوفي اليهودي على وعي بالمسافة بين الخالق والمخلوق، وأنَّ الأخير يلحق بالأول، والنقطة التي يلتقي عندها الاثنان على جانب عظيم من الأهمية عند الصوفي، لكنَّه لا ينظر إليها على أنها تُشكِّل أي شيء مفرط أو مبالغ فيه مثل هوية الخالق مع المخلوق».٢٩

ولسنا بحاجة إلى متابعة مضمون هذه الفقرة، ولا تبرير هذه المجازات، أكثر من ذلك. والنقطة الوحيدة الهامة الآن، هي أنه على الرغم من وجود نماذج أحيانًا في اليهودية للتأويل الواحدي للتجربة الصوفية، فإن روح التصوف اليهودي بصفة عامة ثنائية، فهو يصر مثل التصوف الإسلامي، على وجود هوة تفصل بين الخالق والمخلوق.

وباختصار، فإن الصورة العامة التي تُحصِّلها عن ديانات التأليه الثلاث في الغرب هي أن متصوفتهم يقفون بحسم إلى جانب الثنائية. وإن كانت هناك نزعات معيَّنة نحو وحدة الوجود تظهر أيضًا في هذه الديانات الثلاث. وأعظم من عبَّر عن هذه النزعة، بالطبع، هو «إيكهارت».

ثالثًا: نقد الثنائية

الثنائية هي التأويل النموذجي الذي قدَّمته ديانات التأليه في الغرب للتجربة الصوفية — رغم أنَّنا قد رأينا كثرة من الأمثلة الاستثنائية — وهي تُدان عادةً جانب السلطات الكنسية بأنها هرطقة. أمَّا الواحدية التي تؤكِّد هوية الله والعالم، وهوية الله والذات الفردية في حالة الإشراق، فهي تأويل للتجربة الصوفية قالت بها الفلسفات الدينية في الهند والفيدية المتأخرة عند «سنكارا». رغم أنه يوجد في الهند مذاهب فكرية أخرى كثيرة تؤوِّلها بطرق أخرى مختلفة. والقول بوجود هذين التأويلين المتعارضين تمامًا قد يوحي للقارئ بأنَّ الاختلافات إنَّما تكمن في التجارب ذاتها، وأنَّ لدينا نوعَين مختلفَين من التجربة، وليس تأويلان مختلفان لتجربة واحدة. غير أن هذا الرأي، رغم أنه جدير بالتصديق ظاهريًّا، فإنَّه لا يحتمل الفحص. فعلى حين أنَّنا لم نقل إن التجارب الصوفية في كل مكان متشابهة تمامًا، وأنه لا اختلاف بينها تمامًا، فإن ما حاولنا أن نُبيِّنه في الفصل الثاني هو أن هناك عناصر مشتركة بينها جميعًا، وأنها أساسية وأكثر أهمية مما يوجد فيها من اختلافات، لكن لا يوجد من بين هذه الاختلافات التي أوجزناها هناك ما يُمكن أن يُفسِّر الاختلاف بين الثنائية والواحدية. وفضلًا عن ذلك فقد رأينا أن هناك نواة باطنية داخل المجموعة الأوسع من الخصائص المشتركة التي تؤلِّف الوعي الموحِّد للتجربة الانطوائية، والرؤية الموحِّدة للنوع الانبساطي. وانتهينا إلى أنه في هذه التجربة الخاصة بالوحدة التي لا تمايُز فيها ولا اختلاف، التي يعتقد المتصوِّفة، بمعنى ما، أنها نهائية ومطلقة وأساسية للعالم، تصل إلى القلب الداخلي لكل تجربة صوفية في جميع الثقافات المتحضرة في الشرق والغرب. ويحمل ذلك معه أيضًا كوجه له انحلال الفردية في الوحدة، وتلاشيها، أو الفناء كما يُسمِّيه صوفية الإسلام الذي سقنا أمثلةً له من جميع أنحاء العالم. إن الصوفي الواحدي والثنائي يصفان الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف، بلغة الهوية من الناحية العملية، وإن كان المتصوِّف الواحدي يؤمن أنه مندرج فيها، في حين أن المتصوِّف الثنائي — لأسباب ثقافية ولاهوتية — يعتبر نفسه لا يزال خارجها، ومن ثم فإن المشكلة التي تعرض نفسها أمامنا هي ما إذا كانت الثنائية أو الواحدية تأويلًا صحيحًا، أو ما إذا كان لا بد لنا من قبول مركب منها في مفارقة وحدة الوجود.

وسوف أذهب في هذا القسم إلى أن الثنائية، سواء في صورتها المسيحية، أو الإسلامية، أو اليهودية، هي تأويل لا يُمكن الدفاع عنه. وسوف أناقش الواحدية في القسم التالي.

هناك حجج متعددة تظهرنا على أن الثنائية تأويل خاطئ. وأولى هذه الحجج هي أن الثنائية تناقض صارخ للخصائص المشتركة الأساسية بين التجارب الصوفية كلها، أعني القول بوجود وحدة مطلقة «تجاوز كل كثرة»؛ فالوعي الصوفي في تطوُّره الكامل في الصورة الانطوائية هو «الوعي الموحِّد» — إذا شئنا استخدام كلمات «الماندوكا أوبنشاد» — امَّحى منه تمامًا إدراك العالم والكثرة. وأينما وليَّنا وجهنا في الكتابات الصوفية، في الشرق أو الغرب، في المسيحية أو الهندوسية، وجدنا الشيء ذاته؛ فالتجربة الصوفية بالنسبة للمتصوِّف المسيحي أو الهندوسي هي تجربة بالواحد أو الواحدة. ولقد تحدَّث «أوربندو» المتصوِّف الهندوسي المعاصر الشهير عن ثراء تجاربه الخاصة:
«يقف عند بوابة المتعالي تلك الروح الكاملة المحض التي وصفتها الأوبنشاد: مضيئة، خالصة، تسند العالم، بغير صدع الثنائية، وبدون علامة الانقسام في صمت متعالٍ.»٣٠ [التشديد على الكلمات من عندي.]

لكن قد يُقال إن النصوص التي اقتبستها هندية، وربما دعَّمت النظرة القائلة بأنَّ التجربة الهندوسية مختلفة عن التجربة المسيحية. ومع ذلك فإنَّه من غير المحتمل، فيما يبدو، أن يُسلِّم المتصوِّف المسيحي بأنَّ المتصوِّف الهندي مرَّ بتجربة الهوية الفعلية مع الله، وهي التي لا تُمنح للمتصوِّف المسيحي! صحيح أنَّ كلمات «أوربندو» يُمكن تأويلها بطريقة ثنائية، طالما أنه لم يقل هنا إن «الوحدة التي لا يوجد فيها صدع الثنائية» قد لا تكون موضوعًا لوعيه الذي هو كذات متميِّز عن موضوعه، لكن لا أحد ممنْ لم يألف سياق التفكير الهندي يُمكن أن يؤمن بما يُجسِّده «أوربندو».

غير أن علينا أن ننظر في الاعتراض القائل بأن الاقتباسات من المصادر الهندية، لا يُمكن استخدامها لإظهارنا على أن التأويل الثنائي الذي قال به متصوِّفة المسيحية هو تأويل خاطئ. وأول ما ينبغي أن نقوله في الرد على هذا الاعتراض هو أن التجربة الأساسية عند متصوِّفة المسيحية لا يُمكن التمييز بينها وبين تجربة متصوِّفة الفيدانتا من حيث الشكل؛ فمحور التجربة هو أنَّ هناك وحدة لا تمايز فيها ولا اختلاف، وهي التي نعتقد أنها واحدة في الشرق والغرب. ولقد بذلتُ ما في وسعي لإظهار ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب. وأنا الآن أفترض أنها صحيحة، ولن أعود إلى مناقشتها أكثر من ذلك في هذه المرحلة.

والسؤال المطروح أمامنا الآن هو: هل تندرج ذات المجرِّب في الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف؟ أم تظل باقية خارج هذه الوحدة، متميِّزة عنها …؟ والأخيرة هي التأويل الثنائي. والآن: فليس صحيحًا أن متصوِّفة الفيدانتا هم وحدهم الذين يؤوِّلون التجربة الصوفية تأويلًا واحديًّا، في حين أن متصوِّفة الغرب لا بد أن يؤوِّلوها تأويلًا ثنائيًّا. بل على العكس، فكل الشواهد تدل على أن متصوِّفة الغرب — متصوِّفة المسيحية والإسلام، (وفي حالات قليلة) متصوِّفة اليهودية — يظهرون ميلًا قويًّا تجاه الموقف الواحدي، ولم يمنعهم من تبني هذا الموقف صراحة سوى تهديدات وضغوط رجال الدين والسلطات اللاهوتية. ولذلك مغزاه العام؛ فأولئك الذين مرُّوا بهذه التجربة، في الشرق والغرب، مالوا إلى تأويلها بطريقة غير ثنائية. وأولئك الذين لم يمرُّوا بالتجربة انتقدوا هذا التأويل وشجبوه. ولا ينبغي علينا، بالطبع، أن نُبالغ في هذه الحجة، صحيح أنه ليس كل صوفية المسيحية والإسلام انحرفوا نحو الواحدية؛ فمثلًا لا القديسة تريزا، ولا القديس يوحنا حامل الصليب، فعل ذلك. ومن ثَم فإن المقدمة التي استخدمتُها في هذه الحجة لا تعد أن تكون فحسب القول بأن هناك ميلًا نحو الواحدية، لا أن جميع المتصوِّفة كانوا، سرًّا أو جهرًا، من الواحديين.
والواقع أن التأويل الثنائي يُعارض روح الأقوال الصوفية كلها أينما وُجدت؛ فالوعي الصوفي عندما يُوضع على المستوى المنطقي للعقل يتضمَّن ثلاثة أشياء، هي:
  • (١)
    أنه ليس ثمة تمييزات في الواحد.
  • (٢)

    أنه لا يوجد تمايز بين موضوع وموضوع، مثلًا بين أوراق الحشائش والأحجار.

  • (٣)

    أنه لا يوجد تمايز بين ذات وذات.

ومن الواضح أن ذلك هو التطوُّر التام والكامل للموقف الصوفي. وإذا ما أنكرنا قضية من هذه القضايا الثلاث، فإن ما سيكون عندنا في هذه الحالة هو تصوُّف ضعيف معوَّق أو متخلِّف؛ فالثنائية بما هي كذلك، هي التصوف المتخلِّف.

هناك جانب آخر بالطبع من القصة تتغاضى عنه الواحدية. فمَن يرَ خطأ الثنائية يمِلْ إلى الطرف الأقصى الآخر، ويُعبِّر عن نفسه بلغة الواحدية، لكن كلًّا من هذين الطرفين يُعبِّر عن نظرة أحادية الجانب. ويحتاج كل منهما إلى أن يصحِّحه الآخر، فالواحدية الخالصة — كما سوف نرى في القسم القادم — لا يُمكن قبولها، شأنها شأن الثنائية الخالصة.

فإذا ما عدنا إلى نقد الثنائية. فإنَّنا نستطيع أن نقتبس كلمات أفلوطين:
«لا شك أنَّنا ينبغي ألَّا نتحدَّث عن الرؤية، فبدلًا من الرؤية والرائي، علينا أن نتحدَّث صراحة عن الوحدة البسيطة. ففي هذه الوحدة لا توجد رؤية، ولا يوجد شيئان اثنان؛ فالإنسان … اندمج مع الموجود الأقصى … وأصبح واحدًا معه.»٣١ [التشديد على الكلمات من عندي.]

ويُشير أفلوطين إلى أن كلمات مثل «يرى» و«الرائي» و«الرؤية»، رغم أنَّنا يصعب أن نتجنَّب استخدامها، تتضمَّن ثنائية بين الذات والموضوع. وهي بالتالي لا تتناسب مع التجربة التي لا يوجد فيها مثل هذه الثنائية. وكلمات أفلوطين هذه حاسمة ضد الثنائية. والمهرب الوحيد من هذه النتيجة هو أن نفترض أنه كان عند أفلوطين نوعٌ معين من التجربة، وعند متصوِّفة المسيحية، أو عند بعضهم، نوعًا آخر. وهذا الافتراض، كما رأينا، غير مقبول. ولا بد أن نسأل: كيف حدث، إذن، أن عددًا كبيرًا من متصوِّفة المسيحية أوَّلَ تجربته الصوفية تأويلًا ثنائيًّا؟

سوف أُقدِّم التفسير الآتي: من الواضح من جميع الشواهد التي جمعناها طوال هذا الكتاب أن اختفاء القسمة بين الذات والموضوع هو جزء أساسي من التجربة الصوفية الانطوائية. غير أن متصوِّفة المسيحية لم يسيروا مع تصوُّر الوعي الموحِّد حتى نتيجته المنطقية عندما وصلوا إلى التأويل العقلي لتجاربهم؛ فقد اضطرتهم تجاربهم الصوفية الخاصة إلى الزعم بهوية الذات والموضوع. والتوحيد بين الله والذات الفردية. ومن الواضح أن هذا الاضطرار القوي كان قائمًا عند المتصوِّفة في كل مكان، وفي جميع الثقافات، والديانات. ولمَّا كان «إيكهارت» هو أعظم وأجرأ عقل بين متصوِّفة المسيحية؛ فقد عبَّر عن ذلك بوضوح وتهور، من وجهة نظر الحرص الدنيوي. وهكذا فعل عدد من صوفية المسلمين، ولكن عندما وصلوا إلى النقطة الحاسمة تراجع معظمهم عن اتخاذ الخطوة الأخيرة التي كان يدفعهم إليها الجمع بين التجربة أو المنطق؛ فقد توقَّفوا عن تأكيد ما يُمليه عليهم وعيهم بوضوح، ففشلوا في إنجاز فكرة الوحدة كاملة. فاتَّخذوا خطوة إلى الوراء نحو الثنائية، فلماذا حدث ذلك؟

ربما، من ناحية، لأنهم انزعجوا من المشكلة الفلسفية الأصلية، فلم يفهموا فكرة الهوية في الاختلاف، التي تنطوي عليها مفارقة وحدة الوجود. وشعروا غريزيًّا — وهم على حق — أن الهوية الخالصة لا يُمكن أن تكون هي الحقيقة، فتحوَّلوا عنها واعتنقوا الاختلاف الخالص. ومن المشكوك فيه أن تكون هذه المشكلة الفلسفية قد أثَّرت فيهم كثيرًا؛ فهم قبل كل شيء لم يكونوا فلاسفة عمومًا، ومن هنا فلم يقلقوا بشأن مشكلات المنطق. وربما زعمنا أنَّ ما أثَّر فيهم أكثر هو الضغوط التاريخية والثقافية القوية؛ فهناك شيء ما في ديانات التأليه يجعل لاهوتي هذه الديانات — الذين لم يكن عندهم، في العادة، تجربة صوفية، بل كانوا عقليين فحسب — يُدينون الواحدية أو وحدة الوجود على أنها هرطقة. مع أن الصوفية كانوا، في الأعم الأغلب، أتقياء، ورعين، مُطيعين للسلطات القائمة في الديانة التي نشئوا فيها. كما أنهم أخضعوا بتواضع، جميع نتائجهم لحكم الكنيسة أو المؤسسة الموجودة في ديانتهم. وكبحوا ميولهم إلى وحدة الوجود، طاعة لأوامر رؤسائهم، وليس ثمة حاجة للكذب أو النفاق في هذه الطاعة، أو في هذا التواضع الطبيعي البسيط؛ فالمتصوِّف، بما هو كذلك، ليس رجلًا نظريًّا، ولا هو مهتم بالنظرية، مع استثناءات قليلة لمتصوِّفة عظام من أمثال «إيكهارت»، و«أفلوطين»، و«بوذا»، وإنَّما موضوع اهتمامه الأكبر هو معايشة الحياة الروحية الفعلية. فلِمَ لا يترك النظرية للاهوتيين، فتلك هي مهمتهم الخاصة؟ ولِمَ لا يعتقد إذا اختلفت آراؤهم النظرية عن الآراء التي يشعر أنه يميل إليها، أنهم الخبراء الذين يعرفون أفضل منه؟ وليس من الضروري أن يكون التهديد بعقاب محتمل من الهرطقة هو دافعه الرئيسي. رغم أنه ما دام بشرًا، فإن الخوف من العقاب، يُمكن أن يُعزز رغبته في أن يكون شخصًا مطيعًا للقانون داخل إطار المؤسسة الكنسية بالجهل أو التعسُّف، أو النزوع إلى إعاقة التقدُّم. ومن السهل، يقينًا أن نفهم لماذا نظروا إلى زعم الإنسان الهوية مع الله على أنه تجديف؛ لأنهم أيضًا لم يفهموا مفارقة وحدة الوجود؛ فالخيار الوحيد أمامهم — فيما يبدو — هو الاختيار بين القول بأن الإنسان والله متحدان في هوية واحدة، أو أنهما ببساطة مختلفان. ولمَّا كانت الأولى قد بدت لهم منافية للعقل، فقد اعتنقوا الثانية، وأصرُّوا أن تفعل رعيتهم نفس الشيء.

أنتقل الآن إلى حجة قوية ضد الثنائية، فقد ظهرت الثنائية بين متصوِّفة التأليه لتأكيده القاطع على نوع التجربة الانطوائي، وهو تأويلٌ محتملٌ، وإن كان خطأً في رأيي، لتلك التجربة، لكنَّه مستحيل تمامًا كتأويل للتجربة الانبساطية التي لا يُمكن أن ينطبق عليها انطباقًا ذا معنًى. وسوف نتذكَّر أنه تبعًا لرواية إيكهارت عن هذا النوع من التجربة أن «الكل واحد» … فهناك «جميع أواق الحشائش، والأشجار، والأحجار واحدة». إنَّ مَن يمر بهذه التجربة ينظر إلى الخارج بعينيه الجسديتين، ويُدرك أوراق الحشائش، والأشجار، والأحجار، على أنها واحد. ونحن نذهب أيضًا إلى أنه لا بد أن يدرك كذلك الاختلاف بينهما. فإذا ما تركنا هذا الجانب لوجدنا أنَّ السؤال الذي ينبغي الآن أن نسأله هو كيف تستطيع النظرية الثنائية تفسير واحدية الأشياء كعلاقة تشابه بين موجودات مختلفة؟ إن العلاقة بين الله والذات الفردية في لحظة الاتحاد، طبقًا للنظرية الثنائية، هي أنه رغم أنهما يظلان موجودين متمايزين فإنه يوجد بينهما تشابه دقيق، قلَّ أو كثر، قد يشمل جميع العناصر السيكولوجية؛ كالإرادة، والانفعال، والعلم، رغم أن النظرية تخص الإرادة، عادة، بتأكيد خاص.
سيكون من التكلُّف إلى أقصى حد، وربما من الحمق، أن نُحاول تطبيق هذه النظرية على التصوف الانبساطي؛ فالتجربة التي نتحدَّث عنها تجد الحشائش، والأشجار، واحدة بعضها مع بعض. ولا تجد معنًى للحديث عن التشابه بين الإرادات، والانفعالات، والعواطف وألوان المعارف عن قطع الأشجار أو الأحجار. وحتى لو أنَّنا نسبنا إلى المتصوِّفة فلسفة سيكولوجية شاملة فسوف يصعب أن نتحدَّث بالتفصيل عن الإرادات وألوان المعارف عن الأحجار والأشجار. وعلى أيَّة حال، فمن الواضح تمامًا أن «إيكهارت» وغيره ممن لهم تجارب صوفية انطوائية، عندما يتحدَّثون عن إدراك كثرة الموضوعات الخارجية بوصفها كلًّا واحدًا، فإن ما يتحدَّثون عنه هو الوحدة الوجودية، وليس عن التشابه المعني؛ فهم لا يقصدون أن الأشجار والأحجار ليست أشياء مختلفة، أو جواهر منفصلة، بل شيئًا واحدًا، أو جوهرًا واحدًا. وعلاقة التشابه المحض، سواء أكانت الإرادات أم أي شيء آخر، لم تطرأ بوضوح على أذهانهم على الإطلاق. ولقد ذهبنا بالطبع، إلى أنه على الرغم من أنهم أدركوا أشياء مختلفة على أنها متحدة في هوية واحدة، فلا بد أنهم أدركوا أيضًا اختلافها. وعلى أيَّة حال، فقد كان ما يتحدَّثون عنه هو الهوية والاختلاف الوجودي. ومن ثم فإن نظرية الثنائية عند صوفية المسيحية لا يُمكن أن تُفسِّر هذا النوع من التجربة.
في استطاعتنا الآن أن نُلخِّص الحجج ضد الثنائية على النحو التالي:
  • (١)
    الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف التي هي التجربة الصوفية تتضمَّن أنه لا يوجد تمييزات داخل الواحد، أو أن الذات الكلية لا يوجد فيها تمييز بين موضوع وموضوع. وفي النهاية لا يوجد فيها تمييز بين الذات والموضوع؛ فالثنائية تتغاضى عن — أو تنكر — القضية الأخيرة من هذه القضايا الثلاث، ومن ثَم فهي صورة للنظرية الصوفية فجة ومتخلِّفة؛ فهي تقف في منتصف الطريق أثناء سيرها مع تصوُّر الوحدة، فلا تسير به إلى نتيجته السليمة. لقد أكَّد أفلوطين، بوضوح، هوية «الرائي والمرئي»، ومن ثَم كانت آراؤه تستحق احترامًا خاصًّا، لا فقط بسبب عظمته كفيلسوف، وكمتصوِّف، بل لأنها لم ترتبط بالديانات في الشرق أو الغرب، فهو قاضٍ مُحايد نزيه.
  • (٢)

    حتى إذا كانت الثنائية يُمكن أن تكون مقبولة للتصوُّف الانطوائي، فلا معنى لو حاولنا تطبيقها على التصوف الانبساطي. وحتى إذا نسبنا إلى المتصوِّفة سيكولوجية شاملة، فسيكون من الحمق أن نفترض أنه عندما تحدَّث «إيكهارت» عن إدراك أوراق الحشائش، والأشجار، والأحجار، بقوله «الكل واحد»، فإن ما كان يقصده هو أنه يوجد بينها علاقة من التشابه الإرادي. فمن الواضح أن الوحدة أو الواحدية، التي نسبها إليها هي من النوع الوجودي، وذلك يُحول دون الثنائية. وما نقوله هنا عن «إيكهارت» يصدق بالطبع على التجارب الانبساطية عند «القديسة تريزا»، و«راماكريشنا»، وبوهيمي، أو أي متصوِّف آخر.

يبدو لي أن الانتقادات التي طوَّرناها ضد الثنائية لا يُمكن الإجابة عنها، وأنَّ الثنائية، بالتالي، لا بد أن تُرفض بوصفها تأويلًا غير صحيح للتجربة الصوفية.

رابعًا: الواحدية

يُمكن للمرء أن يفترض أن بديل النظرية الثنائية للاختلاف الخالص، التي رفضناها، لا بد أن يكون النظرية الواحدية للهوية الخالصة، أو القول بأنَّ الله والعالم متحدان، ببساطة، في هوية واحدة. وكذلك فإن الله والذات الفردية هما في حالة الاتَّحاد في هوية بسيطة. ولقد ظهرت هذه النظريات بين الحين والآخر.

النظرية التي تقول إن الله والعالم متحدان في هوية واحدة، يمكن أن تتخذ صورتين، قد تصل إحداهما إلى حد «الإلحاد Atheism». وقد تصل الأخرى إلى حد «اللاكونية Acosmism».٣٢ فلو قالت إنَّه لا شيء يوجد إلى جانب المجموع الكلي للأشياء المتناهية: الشموس، النجوم، والأشجار، والصخور، والحيوانات، والذوات الفردية. ولو كان الله هو مجموع الأشياء المتناهية، فهي إذن نظرية الإلحاد. وتلك هي النظرية التي نسبها مستر «ستوارت هامبشير» إلى اسبينوزا، سواء استخدام كلمة الإلحاد أم لا. ولقد رأينا في القسم الأول من هذا الفصل أن هناك أسبابًا وجيهةً لرفضها، ولسنا بحاجة إلى مناقشتها هنا أكثر من ذلك.
أما الصورة «اللاكونية» من الواحدية فسوف تقول إن عالم الأشياء المتناهية — كعالم منفصل عن الله — لا وجود له على الإطلاق؛ فالله هو وحده الواقع الحقيقي، والله وحدة لا تمايُز فيها، فلا توجد فيه كثرة من الأشياء المتناهية، فهل هناك شخص قال بمثل هذه النظرية على نحو جاد؟ نحن نجد في بعض نصوص بوذية «المهايانا»، عبارات تقول: لا شيء موجود سوى الخواء، أي الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف. وهي — بعبارات مختلفة — جوهر مذهب الفيدانتا عند «سانكارا»، لكن ليس من الصعب أن نبيِّن أن النظرية، أيًّا ما كانت الصورة التي تتخذها، لا بد أن تُلقي مراسيها في النهاية في لغو فارغ. والسؤال الحاسم الذي ينبغي أن نسأله هو: كيف تُفسِّر هذه النظرية مظهر الكثرة في الأشياء المتناهية؟ لا بد أن تُفسِّره على أنه يرجع إلى «الجهل» أو «التخيلات الكاذبة» أو «الوهم».٣٣ وألفاظ مثل «الجهل»، و«الجهالة» شائعة في الصور الهندسية لهذه النظرية. وعبارة «التخيلات الكاذبة» تُستخدم بحرية في ترجمة نص المهايانا البوذية المسمى «صحوة الإيمان».٣٤

ولقد بدأ رفض هذه النظريات جميعًا بتطبيق مبدأ ديكارت «أنا أفكر، إذن أنا موجود». ولسنا بحاجة إلى متابعة ديكارت في افتراض أن هذه القضية تقيِّم وجود جوهر ذهني وجودًا دائمًا، لكنها تبرهن على الأقل على أن «الأنا» موجود، حتى لو كانت «الأنا» تعني فحسب، وعيًا مؤقتًا. أو أنا تجريبي وقتي. ولو أن شخصًا قال عندئذٍ إنَّ إيماني بوجود العالم المتناهي يرجع إلى «الوهم» أو «الجهل» أو «الخيال الكاذب» فلا بد لنا أن نسأل السؤال الديكارتي: كيف يمكن أن تكون لي أفكار وهمية أو خيالية إذا كنت غير موجود؟ ومن ثم فلا بد أن يكون هناك على الأقل موجود متناهٍ واحد، وهو نفسي. ويمكن أن نقول بعبارة أخرى: العالم وهم، لكن وهم من؟ وهمي أنا؟ عندئذٍ لا بد أن أكون موجودًا حتى يكون عندي مثل هذا الوهم، لكن ربما كنت أنا نفسي وهمًا في ذهن شخص آخر، عندئذٍ لا بد لهذا الشخص الآخر أن يكون موجودًا، ما لم يكن هو نفسه وهمًا في ذهن شخص ثالث وهكذا يكون لدينا تراجع فارغ.

لكن هناك بديلين آخرَين، يوجدان معًا في الكتابات الهندية يمكن بهما تجنب ألوان العبث المذكورة الآن توًّا؛ فقد يقال إن العالم المتناهي وهم أو خيال كاذب، لكنه يجد سنده ومستقره لا في أذهان الأفراد المتناهية، وإنَّما في ذهن الله. غير أن هذه النظرية تؤدي إلى تناقض ذاتي، رغم أنها لا تؤدي إلى تراجع لا متناهٍ الذي تنتهي إليه النظرية الواحدية في الصورة السابقة؛ لأنها تدخل كثرة العالم في الله، في الواحد الخالص الذي يجاوز كل كثرة، فإذا ما كانت ظواهر مثل المنازل، والأشجار، والنجوم هي مظاهر بطريقة ما أو أوهام في الله، لكانت تشكل كثرة من الأوهام وليست حقائق واقعية. وتسميتها بالأوهام ليست سوى تطبيق لكلمة ازدرائية عليها؛ فالأوهام تظل موجودة كأوهام، فلو أنَّك أنكرت حقيقة هذه القطعة من الورق، وقلت إنَّها وهم، فليس في استطاعتك أن تنكر أن وهم الورقة هذا موجود حقًّا.

وقد يعترض معترض بقوله إنَّه ليس لي حق الشكوى من وجود تناقض في النظرية، طالما أن الحقيقة في النظرية التي أدافع عنها أنا نفسي، تكمن في مجموعة متناقضة من القضايا مثل مفارقة وحدة الوجود، وقد يقول الناقد إنَّنا نُثير اعتراض التناقض فقط عندما يتناسب مع غرضنا كما هي الحال الآن، غير أن الفلسفة الواحدية التي ننقدها تعترف بوجود اتساق ذاتي، وهي تزعم أن الوحدة الخالصة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف هي الواقع الحقيقي كله. ونحن ندحضها بأن نُشير إلى أنها لا يمكن أن تدعم نفسها في هذا الموقف؛ فهي تحطم نفسها بوجهة النظر التي تقول إن الكثرة أوهام في ذهن الله، ومع ذلك ليس ثمة كثرة في الله، أو أن الله هو الخلاء-الملاء. وهي النظرة التي سوف نؤكدها. إنَّها تتحطم، باختصار، في وحدة الوجود كمذهب متميِّز عن الواحدية.

لا يزال هناك بديل آخر قدَّمه بعض فلاسفة الهنود؛ وهو نظرية ترى أن «الجهل» المسئول عن القول بأن العالم وهم، هو مبدأ كوني غير شخصي، جزء من العالم، وليس حالة لأي ذهن، بشري أو إلهي، لكن هذه النظرية تظهر في البداية وكأنَّ لها معنى نتيجة لسوء استخدام الألفاظ. فكلمات «الجهل»، و«الوهم»، و«الخيال» تُشير بالضرورة إلى الحالات الذاتية لذهن ما، متناهٍ أو لا متناهٍ؛ فالقول بأن «جهل» فقط دون أن يكون جهلًا لأي موجود واعٍ، ليس سوى استخدام لكلمات لا معنى لها. وفي استطاعتنا بالطبع أن نمط اللغة لتقول: إن الحجر جاهل! وهو يقينا لا يعرف شيئًا، لكن حين تُسمِّي ذلك جهلًا، فإنَّ ذلك يعني من جديد، سوء استخدام للغة. ولا شك أنه بسبب طريقة غامضة في إدراك هذه الحقيقة، اخترع الفلاسفة من أصحاب هذه النظرة الكلمة الفجة وهي «الجهالة Nescience»، لكن حتى إذا ما تركنا هذه المسألة فإن علينا أن نشير إلى أن كلمة «الجهالة» أو الجهل بالحجر أو بأي موجود غير واعٍ ليست حالة فيها يمكن أن تُقدِّم أوهامًا أو خيالات كاذبة.

لكن افرض أنَّنا، بغضِّ النظر عن ذلك، وافقنا على القول بأن الجهل هو مبدأ أو خاصية للكون، وليس لأي ذهن، بشري أو إلهي أو حيواني. إن ذلك لا يمكن أن يعني سوى أن الجهل موجود في عالم الصخور والأنهار، والأشجار، والنجوم. وفي استطاعتنا أن نقول الشيء نفسه بكلمات هندسية. إذا لم يكن الجهل موجودًا في «براهمان»، فلا بد أن يكون موجودًا في تجليات براهمان المتناهية، أعني العالم، لكن لكي تكون أشياء مثل الصخور، والأنهار، والأحجار، والأشجار، جاهلة، فلا بد أن تكون موجودة، وذلك يتناقض مع النظرية التي يفترض هذا الزعم تدعيمها.

ليس ثمة مجال، إذن أن تكون هذه الصورة من الواحدية التي لا تنتهي إلى اللغو الفارغ ممكنة. وطالما أنه لا يمكن قبول الثنائية ولا الواحدية، فإنَّنا نصبح مدفوعين نحو المركب منهما في مفارقة وحدة الوجود. وذلك حتى الآن هو التبرير السلبي لوحدة الوجود، وسوف تظهرنا دراستنا القادمة في القسم التالي على أن هناك أيضًا كثرة من التبريرات الإيجابية.

خامسًا: تبرير وحدة الوجود

علينا أن نأخذ، كنقطة انطلاق لنا، تجربة الأنا الخالص، أو الذات الكلية، أو الوعي الخالص، الذي رأينا فيما سبق أنه ينكشف في التجربة الصوفية الانطوائية. وهذه الذات الكلية، أو الكونية: هي التأويل الديني التأليهي لله. وهي أيضًا «روح براهمان» في الأوبنشاد. وطالما أنها فارغة من كل مضمون تجريبي فهي الخواء عند البوذيين، وهي العدم عند «إيكهارت»، وهي الظلام والصمت الذي يمكن، طبقًا لما يقوله المتصوِّفة، لمواكبة العالم. تلك هي بعض النقاط التي علينا أن نذكرها لنبدأ الآن منها.

سوف تعتمد الخطوة التالية على توضيح أن الذات الكلية هي أيضًا اللامتناهي المطلق. وتتحدث «الماندوكا أوبنشاد» عن «براهمان» على أنه:
«يعلو على كل علاقة، لا سمة له، لا يمكن التفكير فيه، يبقى كل شيء فيه «ساكنًا»٣٥ وليست هذه الفكرة «لمحة خاطفة» معزولة، وإنَّما هي تتكرر باستمرار في «الأوبنشاد» في صور مختلفة. وينبغي ألَّا نتصور، خطأً، أنها نتيجة لسلسلة ميتافيزيقية من الحجج، وإنَّما هي تقرير مباشر عن تجربة فورية. ويختلف المطلق في الفيداتنا اختلافًا تامًّا، من هذه الزاوية، عن المطلق عند هيجل وبرادلي، اللذين نسجا المطلق عندهما من خيوط جدلية؛ فهما لم يعترفا أنهما التقيا بالمطلق على نحو مباشر، وأنهما كانا يرويان هذا اللقاء. أمَّا مؤلفو «الأوبنشاد» فقد كانوا من «الرائين»، ولم يكونوا من الفلاسفة العقليين، ودوَّنوا أن ما رأوه كان «يعلو على العلاقة، لا سمة له، لا يمكن التفكير فيه، يبقى كل شيء فيه ساكنًا». وكونه «لا سمة له» تعني أنه يخلو من جميع العناصر الجزئية، وكونه يعلو على كل علاقة، يعني أنه لا توجد فيه كثرة يمكن أن تكون فيها علاقات. وما يعلو تمامًا على جميع العلاقات هو بالضرورة لا متناهٍ؛ ذلك لأن اللامتناهي هو ما ليس محدودًا بأي شيء آخر. ومن ثَم فهو ما ليس له آخِر، طالما أن أي آخِر سيُشكل تخومًا له وبالتالي حدودًا. ومن هنا تتحدث «الأوبنشاد» باستمرار عن الذات الكلية بوصفها «الواحد الذي ليس له ثانٍ».»

هناك معنيان واضحان فقط تستخدم فيها كلمة «اللامتناهي»؛ الأول هو الذي يستخدمه علماء الرياضة ويعني سلسلة من الحدود لا نهاية لها. ولا يمكن أن يكون اللامتناهي الخاص بالذات الكلية من هذا القبيل. فطالما أنه خواء فارغ فهو لا يتضمَّن أيَّة حدود تُشكِّل سلسلة. بل إن اللاهوتيين، بالمعنى الاصطلاحي، يقولون إن الله ليس موجودًا زمانيًّا، ومن ثَم فإن أزليته لا تعني اللانهائية في الزمان.

ويُمكن أن نجد المعنى الثاني لكلمة «اللامتناهي» بسهولة أكثر في «الأوبنشاد» أو عند اسبينوزا. جاء في «الشاندوجيا أوبنشاد»:
«حينما لا يرى المرء شيئًا آخر، ولا يسمع شيئًا، ولا يفهم شيئًا آخر، فذلك هو اللامتناهي. وحينما يرى المرء شيئًا آخر، ويسمع شيئًا آخر، ويفهم شيئًا آخر، فذلك هو المتناهي.»٣٦
وبعبارة أخرى اللامتناهي هو ما لا يوجد خارجه شيء ولا يوجد شيء غيره. وهذا هو التصور نفسه اللامتناهي الذي ذكره اسبينوزا في تعريفه للجوهر يقول: «أعني بالجوهر، ما يوجد بذاته، وبعبارة أخرى ما لا يحتاج تصوُّره إلى تكوين تصور أي شيء آخر.»٣٧ صحيح أن اسبينوزا يقوم هنا بتعريف الجوهر بمقدار ما تكون لغته واضحة، وليس اللامتناهي، لكن طالما أن الجوهر عنده هو «اللامتناهي على نحو مطلق» الذي يُميِّزه بعناية من نوع اللامتناهي المنسوب إلى الزمان والمكان، وهذا يعني أنه يُرادف تعريف اللامتناهي.
طالما أن لا تناهي الله لا يُمكن أن يكون من النوع الرياضي، فلا بد أن يكون من نوع اللامتناهي المذكور في الأوبنشاد وعند اسبينوزا. وطالما أن اللامتناهي بهذا المعنى «ما لا يوجد خارجه شيء، ولا يوجد شيء آخر غيره»، فإنَّه ينتج من ذلك أنه ليس ثمة سوى الله؛ فالعالم لا يُمكن أن يكون شيئًا آخر غير الله، ولا يُمكن أن يقع خارجه. وهذا هو مصدر وحدة الوجود في الأوبنشاد، وعند اسبينوزا أيضًا، وهو يُفسِّر بدقة العلاقة بين التجربة الصوفية ووحدة الوجود التي ذكرناها من قبل في ألفاظ غامضة. وهي لا تُعطينا سوى النصف الواحدي من مفارقة وحدة الوجود، وأعني به هوية الله والعالم. ولا بد أن يكتمل ذلك في السياق المناسب بالتحقق من أن هذه الهوية ليست علاقة فارغة أو تحصيل حاصل للألفاظ. بل هي الهوية في الاختلاف، غير أن رؤية هوية الله والعالم هي الخطوة الأولى نحو وحدة الوجود، إنَّها ما يُميِّز وحدة الوجود عن الثنائية، وتظهر الأخيرة على أنها تأويل ناقص غير مُقنع للوعي الصوفي. ولا شك أن اللاهوتيين كانوا على حق تمامًا في إدراكهم أنَّ مَن يتخذ هذه الخطوة لا بد بالضرورة أن ينتهي إلى وحدة الوجود. وهكذا نجد أن وحدة الوجود تفرض نفسها علينا عن طريق التصوف جنبًا إلى جنب مع الفهم السليم لمعنى فكرة اللامتناهي.
ولا يستطيع اللاهوتيون الإفلات من قوة هذا الاستدلال، ما لم يقدموا معنًى آخر لكلمة «اللامتناهي» يختلف عن المعنيين السابقين. لكنَّهم سيجدون أنفسهم عاجزين عن ذلك. والبديل الوحيد المتبقي — بعيدًا عن الإذعان الأحمق لفكرة إله متناهٍ — هو التسليم بأنَّنا حين نقول إن الله لا متناهٍ، إمَّا أن يكون حشوًا لغويًّا محضًا، أو يكون تمجيدًا فارغًا. وهذا ما اعتقده في الواقع كثير من الكتاب الذين حيَّرتهم لغة اللاهوتيين الذين يتحدثون عن الله على أنه لا متناهٍ دون أن يتدبروا معنى هذه الكلمة. فمثلًا برفسور «ش. د. برود» كتب يقول «لا أعرف كيف يُمكن أن تؤخذ عبارات اللاهوتيين عن الكمال الأخلاقي لله، أو القدرة على كل شيء، أو العلم بكل شيء، بحرفيتها. فربما كان دفع صفات الله إلى حدودها القصوى إنَّما يقصد به الإطراء فحسب.»٣٨

لقد تحدَّثت حتى الآن، في هذا القسم، عن وحدة الوجود كنظرية عن العلاقة بين الله والعالم، بصفة عامة. وسوف يكون مفيدًا أن نوجِّه انتباهنا، عند هذه النقطة، إلى الجانب الخاص من وحدة الوجود الذي يتعلَّق بالعلاقة بين الله والذات الفردية أثناء الاتحاد الصوفي. لقد رأينا أن كلًّا من المتصوِّفة المسيحيين والمسلمين، يتحدَّثون بكثرة عن تجربتهم الباطنية، بوصفها تجربة هوية مع الله. وذلك ما جلب عليهم الاتهام بالواحدية أو وحدة الوجود. سوف أواصل السير وأتساءل عمَّا إذا كان يُمكن للمرء أن يجد في كتاباتهم أي دليل مباشر، لا فقط عن الهوية، بل عن الهوية في الاختلاف: فهل لا توجد فقط تأويلات خاصة بوحدة الوجود تقوم على أساس تجاربهم، بل تجارب وحدة وجود فعلية؟ وأنا أعني بتجربة وحدة الوجود تجربة الهوية في الاختلاف بين الله والعالم، أو بين الله والروح؛ فإذا كانت هناك مثل هذه التجارب، فسوف تكون تأكيدًا قويًّا لوجهة نظرنا القائلة بأنَّ وحدة الوجود — لا الثنائية ولا الواحدية — هي العبارة الصحيحة عن التصوف.

أعتقد أن في استطاعتنا أن نجد قدرًا لا بأس به من الشواهد. لكنَّا لا بد أن نضع في أذهاننا عند قراءتها، أنَّنا لا نستطيع، كقاعدة، أن نتوقَّع من الصوفية عبارة واضحة عن جانبي مفارقة وحدة الوجود. ولا عبارة تُعطي تأكيدًا مماثلًا للجانبين معًا؛ فأقوالهم «الهرطقية» المزعومة تميل، عمومًا، إلى جانب الهوية، ولا تذكر الاختلاف. وهذا ما يوقعهم في مشاكل، لكن هذا ما ينبغي أن نتوقَّعه؛ ذلك لأنَّ الاختلاف بين الله والذات المتناهية هو ما يُسلِّم به كل إنسان بالفعل بوصفه مسألة طبيعية لا تحتاج إلى متصوِّف ولا إلى فيلسوف ليوضِّحها. أمَّا الهوية فهي اكتشاف خاص للمتصوِّف، ولهذا نراه يهتم بالحديث فقط عن هذا الجانب أو يضعه، على الأقل، في مقدمة رسالته. وفي استطاعتنا أن نتقدَّم، مع هذا التحذير، إلى الشواهد.

سوف أقتبس هنا مرة أخرى فقرة من «إيكهارت» سبق أن اقتبستها بالفعل في سياق آخر؛ فهو يتساءل ماذا يحدث للروح التي فَقَدت ذاتها المناسبة في اتحادها مع الطبيعة الإلهية. وكلمة «المناسبة» هنا تُستخدم بمعنى «الخاصة بالمرء» أو «الفرد» حتى إن الذات «المناسبة» تعني الذات بوصفها فردًا منفصلًا، هو الذي «يضيع» أو يتلاشى في تجربة الفناء، في الوحدة الإلهية، فما الذي يحدث له عندئذ؟ كتب إيكهارت:

«هل تجد الذات نفسها أم لا؟ … لقد ترك لها الله مسافة ضئيلة تعود منها إلى ذاتها … وتُعرِّف نفسها على أنها مخلوقة.»

لقد عبَّر عن الفكرة تعبيرًا غريبًا، ونحن بالطبع لا نجد اللغة الواضحة للهوية في الاختلاف، لكن من الواضح أن «المسافة الضئيلة أو الضيقة» هي المسافة التي تظل فيها «الأنا» محتفظة بذاتها الفردية عندما «تضيع» في الوحدة الإلهية. وكلمة «تضيع» تُشير إلى هوية الله والروح، في حين أن «المسافة الضئيلة» هي عنصر الاختلاف.
ويُمكن أن نقتبس من «سوزو» أيضًا في نفس المعنى، عبارة كنت قد اقتبستها في سياق آخر:

«إن الروح في اندماجها على هذا النحو بالله، تتلاشى، لكنَّها لا تتلاشى كلية.»

ولا شكَّ أن هذه العبارة تحمل معنى عبارة «إيكهارت» عن «المسافة الضئيلة»، ومن ثَم فيمكن أن نتخذها دليلًا على الهوية في الاختلاف، لكن من الصواب أن نقول إن العبارة التالية مباشرة قد تبدو مناقضة لذلك ﻓ«سوزو» يستطرد قائلًا:

«ذلك لأنَّ الروح تتلقى في الواقع بعض الصفات من الألوهية، لكنَّها لا تصبح الله بالطبيعة … فهي لا تزال شيئًا مخلوقًا من العدم، وتواصل أن تكون كذلك إلى الأبد.»

ولا شكَّ أن العبارات الأخيرة تُبشِّر بالثنائية، ومع ذلك فيبدو لي أن القراءة الواعية للفقرة كلها تكشف اختلافًا في النغمة أو في «الشعور» بين العبارة الأولى وبقية الفقرة. إذ يبدو لي أن العبارة الأولى هي تقرير مباشر عن تجربة «سوزو»، فقد شعر بتلاشي روحه في اللامتناهي وباندماجها معه، لكن ليس «اندماجًا كليًّا»؛ فالمسافة الضئيلة ما زالت هناك، لكن يبدو لي أن بقية الفقرة كُتبت بعد أن خلَّف التجربة المباشرة وراءه، وهو الآن يتحدَّث كابن مخلص للكنيسة، مؤوِّلًا تجربته تأويلًا ثنائيًّا.
وفي اعتقادي أنَّنا ربما ألقينا الضوء على هذا الموضوع، لو أنَّنا نظرنا إلى الشواهد المعاصرة لتجربة «الفناء»، و«الاندماج» في اللامتناهي. على نحو ما وجدنا في حالات مثل حالة «تنسون»، و«كويستلر». وكما لاحظت فيما سبق، هناك سيكولوجيا واعية لم تكن موجودة عند المتصوِّفة الكلاسيكيين أو متصوِّفة العصور الوسطى، فاستنباطهم كان أبعد ما يكون عن الدقة بالنسبة لنا، رغم أنه ينقصه من بعض الجوانب عظمة الصوفيين القدماء. وعلينا أن نتذكَّر أن ضياع الفردية عند «تنسون» التي شعر أنها «ذابت وتلاشت في وجود بغير حدود أكانت بالنسبة له» ليست انطفاء، بل الحياة الحقيقة الوحيدة، لكن أي مفارقة هذه! «أنا» «تنسون» أجد أن هذا الفرد «تنسون» يختفي، وليس ذلك انطفاءً ﻟ «تنسون»، وإنَّما هو حياته الوحيدة الحقيقة. وربما اتضح الشيء نفسه إذا أشرنا إلى اللغة التي يستخدمها «كويستلر» يقول: «أنا أتوقَّف عن الوجود؛ لأنني تلاشيت في البركة الكلية.» لكنَّه يستمر فيقول: عندما تتوقَّف «الأنا» عن الوجود على هذا النحو فإنَّه يمر بتجربة «السلام الذي يفوق كل فهم»، فمن الذي يمر بهذه التجربة؟ لا يُمكن أن يكون سوى «أنا» «آرثر كويستلر»، فأنا أظل أنا حتى عندما أختفي أو أتلاشى في الوجود اللامتناهي. ومن الواضح أن هنا تعبيرًا عن الهوية في الاختلاف. فبمقدار ما أختفي في الوجود اللامتناهي، وأتوقَّف عن أن أكون أنا نفسي، فإنني أصبح متحدًا في هوية واحدة مع ذلك الوجود، لكن بمقدار ما أظل شاعرًا بأنَّني «أنا» كويستلر أو «تنسون»، يمر بتجربة السلام أو الغبطة، فإنَّني أظل ذاتي الفردية، وأكون متميِّزًا عن الوجود اللامتناهي. ألا تُلقي هذه الفقرات الضوء، بوضوح، على الأقوال التي كانت غامضة عند «إيكهارت» و«سوزو»؟ لستُ أعرف كيف يُمكن الشك أنهما معًا، فضلًا عن الكُتَّاب المعاصرين، قد مرُّوا بتجارب واحدة عن هذا الفناء. غير أن المتصوِّفة القدامى عبَّروا عنها بلغة غامضة ملتبسة الدلالة، وكان المعاصرون أشد وضوحًا وأكثر دقة. ما قلناه الآن توًّا عن الفقرات المقتبسة من «تنسون» و«كويستلر» يُمكن من ثم تطبيقه على «إيكهارت»، و«سوزو» فلا بد أنهما مرَّا بنفس هذه التجربة: تجربة الهوية في الاختلاف، ولو صحَّ ذلك، فإن وحدة الوجود عندئذٍ ليست مجرد نظرية عقلية بعيدة تقوم على أساس التجربة، بل هي نسخة طبق الأصل من التجربة ذاتها. بل هي بالطبع، وصف مباشر يتضمَّن الحد الأدنى أو المستوى الأدنى من التأويل، لكنَّه لا يتضمَّن المستوى الأعلى من البناء العقلي للنظرية الفلسفية.

لم يبقَ سوى أن نعرف لماذا يخشى اللاهوتيون والسلطات الكنسية على هذا النحو من وحدة الوجود، ويسرعون إلى إعلان الهرطقة بوصفها أقل علامة لها، ثم نسأل أنفسنا: أيُمكن أن نُقدِّم «مصالحة» بين الشرق والغرب في هذا الموضوع؟

يبدو أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية لعدم ثقة المؤلهين في وحدة الوجود:
  • أولًا: يُركز التأليه على فكرة إله شخصي، بينما وحدة الوجود فيما بدت للمفكرين الغربيين تتجه نحو مطلق غير شخصي. إن من ماهية العبادة المسيحية، وقل مثل ذلك في الإسلام واليهودية، أن يتوجَّه العابد في صلاته إلى الله، ويسأل العون والغفران والنعمة. لكن أيُمكن له أن يُصلِّي للعالم، أو يسأل الغفران والنعمة من المطلق؟
  • ثانيًا: الاعتراض المُثار هو أنه إذا كان العالم — كما تزعم وحدة الوجود — وكل ما يوجد فيه إلهيًّا، كان الشر الموجود فيه لا بد أن يكون إلهيًّا أيضًا. وهناك صورة أخرى للاعتراض تقول: إذا كان الله فوق جميع التمييزات، فلا بد أن يكون عندئذٍ فوق الخير والشر. وفي الحالتين ستكون جميع التمييزات غامضة أو يُنظر إليها على أنها وهمية.
  • ثالثًا: هناك شعور تؤكِّده جميع الديانات ذات الأصل السامي «بالرهبة» من الله. وهذا واضح جدًّا في تصوُّر «رودلف أوتو» «للسر الأعظم»؛ فالإنسان لا شيء أمام الله، ذرة من الغبار أو الرماد، فهو موجود آثم، غريب عن الله أو بعيد عنه، وهو في حالته الطبيعية التي لم تتخلَّص من الخطيئة لا يستطيع إلَّا «أن يفر من وجه الله». مثل هذا الموجود، من المحال، بل من التجديف على الله، أن يدَّعي الاتحاد معه، بمعنى الهوية مع الله؛ فهناك هوة عميقة بين الله والإنسان، وبين الله والعالم. وسوف أتناول هذه النقاط الثلاث واحدة إثر أخرى.
    • أولًا: لقد سبق أن بيَّنا (في الفصل الثالث، القسم الخامس) في التعارض المزعوم بين تصوُّر التأليه لإله شخصي، والتصوُّرات اللاشخصية لمذهب وحدة الوجود، إنَّه لمَّا كان التصوف يؤدي إلى مفارقة تقول إن الله متحد مع العالم ومتميِّز عنه في وقت واحد، فإنَّه يؤدي كذلك إلى مفارقة تقول إنَّه شخص ولا شخص في آن معًا. إن ديانات التأليه تميل إلى التركيز تمامًا على جانب واحد من هذه المتناقضة. أمَّا القول بأن فلسفة وحدة الوجود في الفيدانتا تحتوي على تركيز مماثل على الجانب الآخر، فذلك ليس بهذه الدرجة من الوضوح، لكنَّها حتى إذا فعلت فإن المصالحة لا بد أن تكمن في قبول المفارقة ككل؛ فالله شخص وغير شخص، والشخصية هي في آنٍ معًا متحدة ومختلفة عن اللاشخصية.
    • ثانيًا: علينا أن ننظر في الاعتراض الذي يقول إن وحدة الوجود تُقوِّض التمييزات الأخلاقية. هناك معنًى لا بد أن نقول فيه إنَّه لو صدق ذلك على وحدة الوجود، فلا بد أن يصدق كذلك على الثنائية أو أيَّة نظرية أخرى محتملة عن العلاقة بين الله والعالم، أو أن المشكلة التي يُقدِّمها الشر أمام جميع الفلسفات التي تتضمَّن تصوُّرًا للإله الخيِّر العادل هي من الناحية الجوهرية نفس المشكلة، فلو أنك كنت تؤمن بأنَّ الموجود الخيِّر الكامل القادر على كل شيء خلق العالم، وإذا كان العالم يحتوي على الشر، فلا بد أن يكون هذا الموجود الكامل هو الذي خلق الشر أيضًا. تلك هي صورة المشكلة التي تعرض نفسها أمام الثنائي، أمَّا لو كنت تؤمن أن العالم يتحد ببساطة مع الله (الواحدية)، أو يتحد معه ويتميَّز عنه في وقت واحد (وحدة الوجود)، عندئذٍ فما دام الشر موجودًا في العالم، فلا بد أن يكون هناك شر عند الله. هاتان صورتان من مشكلة واحدة.

ربما اعتقد صاحب التأليه أنه قادر على حل المشكلة، أو أن اللاهوتيين عنده قادرون على ذلك؛ فالقديس توما الأكويني، وغيره فعلوا ذلك. أمَّا صاحب وحدة الوجود فهو غير قادر على حلها. ولا بد أن يتلمَّس القارئ العذر إذا ما ذهبنا إلى أنَّ هذه الثقة بالغة السذاجة؛ إذ من المحتمل أكثر أن المشكلة إمَّا أن تكون غير قابلة للحل بواسطة العقل البشري، أو يُمكن حلها، سواء كان المرء من أصحاب التأليه، أو وحدة الوجود.

ويُمكن أن تتخذ المشكلة صورة إظهار أنه لو كان الله — بغض النظر عن مشكلة علاقته بالعالم — كما هو في ذاته فوق جميع التمييزات، كما يجزم المتصوِّفة جميعًا، فإنَّه لا بد عندئذٍ أن يكون فوق الخير والشر، أعني محايدًا أخلاقيًّا، بدلًا من أن يكون خيِّرًا كما يتطلَّب الوعي الديني المألوف. إن جوهر موعظة «إيكهارت» التي أعطاها «بلانكي» في ترجمته رقم ٢٣، يُلخِّصها عنوان «التمييزات تضييع في الله». وهي نفسها وجهة نظر «روز بروك». والواقع أن ذلك كله ينتج من تصوُّر الحالة الصوفية الانطوائية بوصفها تعلو على كل كثرة، وذلك يتناقض مع الإيمان بأنَّ الله يقف إلى جانب الخير والاستقامة وضد الشر، لكن لا بد من النظر إلى ذلك الاعتراض على أنه اعتراض ضد التصوف بما هو كذلك، وليس له علاقة خاصة بوحدة الوجود، ومن المفيد أن نؤكِّد الحقيقة، وهي أن مشكلة الشر هي مشكلة عامة أمام الوعي الديني، وهي ليست أسوأ أمام وحدة الوجود، منها أمام أيَّة فلسفة دينية أخرى.

لا يُمكن أن يكون هناك شك، في رأيي، فيما كان يُمكن أن يقوله «إيكهارت»، رغم أنَّني لا أستطيع أن أسترجع أيَّة فقرة مما قاله بالفعل. فليس على المرء سوى أن يطبق مبادئه العامة، وسوف يجد أنه استغل التفرقة بين الله والألوهية؛ ففي الألويهة تضيع جميع التمييزات، ولا شك أن ذلك يشمل التمييز بين الخير والشر. وبهذا المعنى فإن الله، أو بالأحرى الألوهية، «تعلو على الخير والشر». لكن مثلما في فكر «إيكهارت»، فليس ثمة نشاط خلَّاق أو غيره في الألوهية، لكن ذلك موجود مع الله، فكذلك أيضًا، رغم أن الألوهية لا هي عادلة أو غير عادلة، فإن الله — مع ذلك — عادل ولا شر معه، وهو يُدافع عن العدل، لكن كما رأينا، فإن الفصل الكامل بين الألوهية والله، لا يُمكن قبوله. ومن هنا فإن الفصل الثنائي لا بد أن يُفسح المجال للهوية في الاختلاف، وفي الفقرات الأكثر عمقًا التي اقتبسناها في الفصل الثالث (القسم الخامس)، أدرك إيكهارت نفسه ذلك. وفي النهاية لا نستطيع أن نهرب من مفارقة أن الله في وقت واحد يتضمن الشر ولا يتضمنه.

وقد يكون من المفيد أن نُحاول هنا تفسير كيف يميل المتصوِّف — كما يعتقد المؤلف — إلى الشعور بهذه المشكلة بوصفها مشكلة عملية؛ فالغالبية العظمى من المتصوِّفة، بما أنهم ليسوا فلاسفة نظريين، لم تشغلهم المشكلة فيما يبدو، ولا التناقض الظاهر، كما يفعلون عمومًا بين الرأي، الذي يقول إن الله يجاوز جميع التمييزات، وأنه مع ذلك عادل. أو أن الصوفي — كغيره من الناس — يُمكن أن يلجأ إلى بعض المراوغات والحيل — أو كلها — اللاهوتية المألوفة، كالقول مثلًا بأن الشر عدم للوجود، ومن ثم فهو لا يوجد وجودًا حقيقيًّا، أو أن مظهر الشر يعود إلى رؤية جزئية متناهية، ولا بد أن يختفي إذا نظرنا إلى الكون ككل. أو أن الشر يُسهم في خير العالم، بنفس الطريقة التي يُسهم بها جزء من العمل الفني يكون قبيحًا إذا ما عزل عن جمال اللوحة كلها.

لكن لا يزال علينا أن نتساءل ما هو الموقف العملي للمتصوِّف. إن الإجابات المفيدة التي ترد إلى ذهني، لا من الأقوال المنشورة لمتصوِّفة العالم المشهورين، بل من إشارات قليلة تناثرت أثناء الحوار مع متصوف أو اثنين من الذين كانت لهم تجارب صوفية؛ يقول «ﻫ. س» إنَّ مشكلة الشر لا تجد لها في التجربة الصوفية أي حل عقلي أو منطقي، بل انحلَّت المشكلة وتوقفت عن الوجود، فلا يوجد حل عقلي. غير أن الصوفي يصل إلى وجهة نظر ما، يوافق فيها على نوع ما من القبول لوجود الشر، بينما يواصل مع ذلك، في الوقت نفسه، رفضها ومحاربتها. وتلك نفسها مفارقة. أمَّا «ب. ط»، فهو يقول إن أول تجربة صوفية له قد جاءته عندما صعقه الموت الفجائي لشخص ما كان حُبُّه مركز حياته. ولقد وجد نفسه في تجربته الصوفية وقد تصالح تمامًا مع حزنه، واختفت كل تعاسة، رغم أن الحزن لم يكف عن أن يكون حزنًا. ويتحدَّث «ن. م» عن نفس المفارقة، فيقول إن تجربته أعطت معنًى للحياة التي كانت من قبل بلا معنًى، لكن عندما سألته هل تقصد بعثورك على معنى الحياة أنَّك عثرت على غرض للعالم أو للحياة نفسها، بالمعنى الغائي المألوف، أنكر ذلك، قائلًا إن الأشياء موجودة فحسب، ولا غرض لها يُجاوز ذاتها، فالعالم والحياة «كافيان» على ما هما عليه. ثم أضاف «إن الرجل الذي ليس قانعًا ولا راضيًا بما هو موجود، لا يعرف ببساطة ما هو. وهذا هو كل ما تعنيه وحدة الوجود عندما لا يزخرفها القول بأنها نظرية فلسفية». ولم يدَّعِ «ن. م» أن تلك مسألة واضحة، ولا أنها تزودنا بأي حل عقلي للمشكلة. ومن الواضح أن موقفًا جديدًا دخل حياته، موقفًا قَبِل ما حدث تمامًا بل ربما بغبطة، بما في ذلك الشر والألم، على حين أنه لم ينكر في الوقت نفسه أن الألم ألم، وأن الشر شر. ألم تكن صرخة «أيوب» الشهيرة: «رغم أنه ذبحني، فإنَّني أثق به»، تُعبِّر عن هذه الروح نفسها؟ ولهذا فكثيرًا ما أطلق على هذه المشكلة اسم السر. وهي تسمية صحيحة، لكن كلمة «السر» ينبغي ألَّا تُفهم بمعناها المبتذل على أنها شيء قابل، بغير شك، للتفسير العقلي، ومع ذلك فهي لا تُفسَّر عقليًّا. «السر» بالمعنى الديني يعني ذلك الذي يجاوز تمامًا إمكان الفهم العقلي، والحل الوحيد، في حالة الشر، هو القبول — بغبطة — لذلك السر، الذي لا يشمل مع ذلك تحمل الشر بمعنى الفشل في محاربته.
  • ثالثًا: الاعتراض الثالث الذي تُفهم به وحدة الوجود عمومًا هو أنها تنحو نحو إلغاء «الخشية» أو «الرهبة» من الله، وانعدام الإنسان في حضرة الله، التي تُركِّز عليها ديانات التأليه. ولقد قيل إنَّ الشعور بهذه الرهبة سوف يمنع الإنسان من أن يدَّعي الهوية مع الله.

غير أن الرد المقنع على ذلك، على المستوى النظري، سوف يأتي من القول بأنه سوء فهم لوحدة الوجود عندما يرى جانبًا واحدًا فحسب من المفارقة، أعني جانب الهوية بين الله والإنسان. غير أن وحدة الوجود تؤكِّد أيضًا آخرية الله عن الإنسان والعالم، ولو أنَّنا أردنا أن نستخدم مجاز الهوة بينهما ففي استطاعتنا أن نفعل ذلك، ونجعل الهوة تتسع كما يشاء خيالنا، ونظل مع ذلك من أصحاب وحدة الوجود. فهل لو فهم رجل اللاهوت ذلك، يكف عن معارضته المستميتة لمذهب وحدة الوجود؟

وإذا كان صاحب مذهب وحدة الوجود يؤمن مثل الثنائي تمامًا، بوجود هوة تفصل بينه وبين الله، فإنَّه يستطيع كذلك أن يُغذِّي داخل ذاته مواقف الخشية والرهبة، والاغتراب والانعدام. والواقع أنه سيكون شيئًا عجيبًا أن تفترض أن الإنسان لا يستطيع أن يشعر بالرهبة أو الخشية، أو جلال الكون وعظمة خالقه، دون أن يُسلِّم بولائه لنوع ما من الميتافيزيقا أو العقيدة اللاهوتية.

١  مصطلح وحدة الوجود Pantheism يوناني، مؤلَّف من مقطعين Pan بمعنى شامل أو عام وTheism بمعنى إله، فهو شمول الألوهية لكل شيء، أو أن وجود الله ووجود العالم هما ضرب واحد من الوجود. (المترجم)
٢  الأوبنشاد ترجمة سواني وفردريك، مانشستر، نيويورك، منشور المكتبة الأمريكية الجديدة في آداب العام، عام ١٩٥٧م، ص١٢٣-١٢٤ (وكانت في الأصل من منشورات مطبعة الفيدانتا التي نشرتها جمعية الفيدانتا في كاليفورنيا الجنوبية). (المؤلف)
٣  لأحظ أن «ستيس» كتب هذه السطور عام ١٩٦٠م عندما كانت الفلسفة التحليلية بصفة عامة والوصفية المنطقية بصفة خاصة، هي الفلسفة المسيطرة على فكر العالم الأنجلو سكسوني. أمَّا الآن فقد تغيَّر الوضع كثيرًا وظهر ابتداءً من عام ١٩٧٦م ما أسميناه باسم «الصحوة الهيجلية». قارن المدخل العام الذي صدَّرنا به الطبعة الثالثة من ترجمتنا «لأصول فلسفة الحق» (المكتبة الهيجلية، المجلد الأول من «المؤلفات»، أصدرته مكتبة مدبولي بالقاهرة، عام ١٩٩٦م). (المترجم)
٤  قارن ترجمة الدكتور جلال الدين سعيد «علم الأخلاق» لاسبينوزا، ص٣٢-٣٣، دار الجنوب للنشر، تونس. (المترجم)
٥  قارن فيما سبق، القسم الخامس، من الفصل الثاني. (المؤلف)
٦  القديسة تريزا، «حياة القديسة تريزا»، الفصل الثامن عشر. (المؤلف)
٧  القديس يوحنا حامل الصليب: «صعود جبل الكرمل»، ترجمة ديفيد لوس، الطبعة الرابعة، عام ١٩٢٢م، الكتاب الأول، الفصل الخامس. (المؤلف)
٨  المرجع السابق. (المؤلف)
٩  المرجع السابق، فقرة ٤. (المؤلف)
١٠  «كتاب الحقيقة العظمى»، الفصل الثامن في كتاب روز بروك «تزين الزواج الروحي». و«كتاب الحقيقة العظمى: الحجر المتوهج»، ترجمة س. أ. ونشنك دوم، لندن، عام ١٩١٦م، وقد اقتبسه أيضًا روفس جونز في أماكن مختلفة من كتابه «ازدهار التصوف»، نيويورك، ماكميلان، عام ١٩٣٧م، ص٢٠٧. (المؤلف)
١١  هنري سوزو «حياة هنري سوزو»، ترجمة ت. ف. نوكس، الفصل السادس والخمسون. (المؤلف)
١٢  مايستر إيكهارت، ترجمة ر. ب. بلانكي، نيويورك، عام ١٩٤١م، الموعظة رقم ٢٥، ص٢١٣. (المؤلف)
١٣  عبارة القديس بولس هي «ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح.» (المترجم)
١٤  المرجع السابق، ص١٨١. (المؤلف)
١٥  المرجع نفسه، ص١٨٢. (المؤلف)
١٦  المرجع نفسه، ص٢٣٢. (المؤلف)
١٧  المرجع السابق، ص٢٠٦. (المؤلف)
١٨  المرجع نفسه، ص٣٠٣. (المؤلف)
١٩  عبارات إيكهارت السابقة تُذكِّرنا بالحديث القدسي الشهير: «لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به …» (المترجم)
٢٠  المرجع نفسه، ص٢٤٧. (المؤلف)
٢١  راجع شرح هذا المبدأ في كتابنا «المنهج الجدلي عند هيجل» أصدرته مكتبة مدبولي بالقاهرة، عام ١٩٩٦م. (المترجم)
٢٢  يثير ذلك سؤالًا عن مدى الدَّين الذي يدين به هيجل لإيكهارت. يقول روفس جونز Rufus Jones في كتابه «ازدهار التصوف» الفصل الرابع «إن هيجل — كما هو معروف — زعم أن مايستر إيكهارت هو مصدر مذهبه» وأنا نفسي لا أذكر مثل هذه العبارة في أي من كتابات هيجل، على الرغم من أنَّني لمَّا كنت قد قرأتها منذ ثلاثين عامًا، فقد تخونني الذاكرة. كما أن عبارة جونز تبدو متسرعة وبلا عناية. لقد اقتبس ر. ب. بلانكي في المقدمة التي صدَّر بها ترجمته لإيكهارت، من «فراتر فون بآدر» كثيرًا ما كنتُ مع هيجل في برلين، وذات مرة قرأت له فقرة من مايستر إيكهارت، الذي لم يكن بالنسبة لي سوى اسم فحسب. ولقد أثارته الفقرة للغاية، حتى إنه في اليوم التالي قرأ لي محاضرة كاملة عن إيكهارت تنتهي بعبارة «ها هنا نجد، في الواقع، ما كنَّا نبحث عنه». ويُعطينا ذلك انطباعًا بأنَّ ذهن هيجل كان متعاطفًا مع أفكار إيكهارت لدرجة أن بعض العبارات القليلة التي اقتُبست من إيكهارت وقُرِئت عليه من صديق جعلت ذهنه يشتعل، حتى إنه تحدَّث عنها بالتفصيل وبإثارة في صبيحة اليوم التالي. ويُمكن أن يكون ذلك قد حدث دون أن يقرأ سطرًا واحدًا لإيكهارت. (المؤلف)
٢٣  مارجريت سميث، «قراءات في متصوِّفة الإسلام»، ص١١٠. (المؤلف)
٢٤  الإشارة إلى كتاب الإمام الغزالي «المنقذ من الضلال»، وقد كتبه بعد أزمة روحية عنيفة، أقلع فيها عن تدريس ما كان يُدرِّسه من العلوم، وأقبل على العزلة عن الناس، مع أنه كان قد أصاب في التدريس شهرة واسعة. وقد نُشِر الكتاب مع دراسة الدكتور عبد الحليم محمود. (المترجم)
٢٥  الإمام الغزالي «كيمياء السعادة»، ترجمة كلود فيلد، لندن، ١٩١٠م، مقدمة المترجم. (المؤلف)
٢٦  سميث، مرجع سابق، ص٧٠. (المؤلف)
٢٧  سميث، مرجع سابق، ص٧٠. (المؤلف)
٢٨  أبولفيا (إبراهيم بن صموئيل) (١٢٤٠–١٢٩١م)، قائد ديني يهودي، يُلقَّب بنبي القبلانية، من تعاليمه أنه يُمكن اكتساب «روح النبوة» من تأمُّل أحرف الهجاء العبرية. (المترجم)
٢٩  ج. ج. شوليم، «التيارات الرئيسية في التصوف اليهودي»، ص١٢٢-١٢٣. (المؤلف)
٣٠  سراي أوربندو، «الحياة الألوهية»، مطبعة جراي ستون، ١٩٤٩م، ص١٢٣. (المؤلف)
٣١  أفلوطين، الأعمال الكاملة، ترجمة ستفين ماكينا، جمعية مديتشي، التساعية السادسة. (المؤلف)
٣٢  مصطلح أطلقه هيجل في «موسوعة العلوم الفلسفية على مذهب اسبينوزا» ليعارض به من قالوا إنَّه مذهب إلحادي، وذهب إلى أن الأدنى إلى الصواب أن يوصف للاكونية Acosmism. راجع ترجمتنا العربية للموسوعة التي أصدرتها مكتبة مدبولي بالقاهرة ص١٧٠-١٧١. (المترجم)
٣٣  يجب ألَّا تختلط الواحدية التي نناقشها هنا مع الفلسفات الغربية مثل فلسفة «برادلي» التي لم تزعم أبدًا أنَّ العالم لا وجود له، بل إنَّه ليس الحقيقة الواقعية Reality «النهائية» أو المطلقة فحسب. (المؤلف)
٣٤  دوايت جودارد (محرر)، «إنجيل بوذا»، الطبعة الثانية عام ١٩٣٨م. (المؤلف)
٣٥  تلك هي الكلمات الموجودة في البيت رقم ٧ من الأوبنشاد، التي جعلها «أوربندو» عنوانًا للفصل الثالث من كتابه «الحياة الإلهية». (المؤلف)
٣٦  الشاندوجيا أوبنشاد ٧:٢٤، وقد أخذ هذه العبارة من ترجمة «الكتابات المقدسة الهندوسية»، نيويورك، مكتبة إفري مان، ص١٨٣. (المؤلف)
٣٧  اسبينوزا، الأخلاق، الجزء الأول تعريف رقم ٤. (المؤلف) وقارن أيضًا: ترجمة «علم الأخلاق» لاسبينوزا، للدكتور جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، ص٣٠. (المترجم)
٣٨  ش. د. برود، «الدين، والفلسفة، والبحث النفسي»، نيويورك، عام ١٩٥٣م، ص١٦٤. (المؤلف)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤