الفصل السابع

التصوف … والخلود

الدليل الفسيولوجي ضد بقاء الوعي بعد الموت قوي جدًّا؛ فالوعي — في جميع الحالات المعروفة — لا يوجد إلا مرتبطًا ببدن وبجهاز عصبي. وفضلًا عن ذلك فهو يختلف باختلاف الجهاز العصبي، ونمو البدن وحالته. وعندما نقول ذلك فإنَّنا لا نتورط بأيَّة حال مع أي نوع من المذهب المادي؛ إذ ليس مما يتناقض مع نظرة المذهب الثنائي أن نقول إن الوعي هو غير فزيقي؛ إذ حتى لو صحَّ ذلك لكان الارتباط بين الفزيقي وغير الفزيقي هو تقريبًا ارتباط تام؛ فنحن نجد في جسد الطفل، وعيًا طفوليًّا، ومع الجسد الناضج وعيًا ناضجًا. ومع انهيار البدن تدخل الشيخوخة والحمق في الحياة الواعية. فلو كان الوعي يبقى بعد موت الرجل العجوز، فهل ما يبقى في هذه الحالة المقبلة هو الوعي الخرف شبه المعتوه الذي كان موجودًا في لحظة الموت؟ أم إنه الوعي القوي للرجل عندما يكون في سن الأربعين؟ أم أنه العقلية الفجة لسنوات المراهقة؟ أم إنه الذهن الطفولي للرضيع وقد عاد إلى الظهور من جديد بعد الموت وراح يسير قُدمًا في طريق الأزل؟ ليس في استطاعتنا تجنب ما تحدثه هذه الأسئلة من ارتباك، ولا يمكن أن ندافع بأنَّنا لا نعرف الإجابة الصحيحة؛ لأن المهم هو أنه أيًّا ما كانت الإجابة فسوف تظهر على أنها غير محتملة، وتعسفية، ولا معنى لها. والواقع أن الشواهد الأبعد عن اعتماد الذهن على البدن تظهر في واقعة أن أي تلف للمخ قد يؤدي إلى جنون أو اضطرابات في الحياة العقلية.

وتثير نظرية التطور متاعب أيضًا أمام نظرية البقاء؛ ذلك لأنَّ الوعي البشري لا بد أن يكون قد تطوَّر من الوعي الحيواني، فما هي النطفة، في هذا التطور المتصل التي تخرج بعدها، فجأة، النفس الخالدة أو حتى الوعي الذي يبقى بعد الموت؟ هل حدث تغير معجز مع الإنسان الأول، إذا كان مما له معنًى الآن أن نتحدث عن إنسان أول؟ فكيف حدث ذلك، ولماذا؟ في استطاعتنا أن نتجنَّب هذه الأسئلة بأن نقول إن الوعي الحيواني كله — بما في ذلك الوعي في المحَّار، والسرطان، والدود — سوف يبقى بعد الموت. وربما اتسق ذلك مع النظرة الصوفية الهندية التي تقول إن جميع الأشياء أحياء، وهي أجزاء من الوعي الكلي الواحد الذي سوف يعود إلى امتصاصها كلها من جديد، لكن من الصعب أن تتسق مع النظرية الغربية في البقاء الفردي، أو أنها لا معنى لها في هذا السياق؛ إذ من الواضح أن هذه النظرية الغربية قد نشأت في عصر سابق على التطوُّر حيث كان لا يزال من الممكن النظر إلى الإنسان على أنه خلق خاص لا علاقة له «بوحوش البرية»، والإنسان في هذه الحالة يمكن أن يزعم أن له نفسًا خالدة، في حين أن الحيوانات لا نفس لها، وهذه الحجة من التطور لا تجعل بقاء الفرد بعد الموت مستحيلًا، وإن كان من الواضح أنها تزيد الصعوبات التي تواجهه. وتجعله يظهر على أنه بعيد الاحتمال جدًّا عما كان يظهر عليه في عصر ما قبل التطوُّر.

الحجة الفسيولوجية، والحجة المستمدة من التطور، رغم أنهما يشكلان واقعتين قويتين ضد بقاء الشخصية بعد الموت، فإنَّهما، بالطبع، ليستا سوى حجتين تجريبيتين محتملتين، يمكن نظريًّا دحضهما بدليل من الجانب الآخر. وقد أكَّد بعض الباحثين النفسانيين أنهم اكتشفوا مثل هذا الدليل، لكن على الرغم من أن تأكيداتهم ينبغي ألَّا تقابل بأحكام مبتسرة، بل نتلقاها بعقل مفتوح، فإن هذا الدليل يظهر على الأقل في الوقت الحاضر؛ غير حاسم. وفي مثل هذه الظروف، وطالما أنَّنا سلَّمنا بالإمكان المنطقي للرد على الحجج السيكولوجية والتطورية بدليل إيجابي من مصدر آخر. فمن الطبيعي أن نسأل عمَّا إذا كانت ظواهر التصوف يمكن أن تُلقي أي ضوء جديد على الموضوع.

إن «الإحساس بالخلود»، فيما يقول «ر. م. بك» هو إحدى السمات الشائعة بين جميع التجارب الصوفية، لكن القائمة التي وضعناها للخصائص المشتركة لا تشمله. وفضلًا عن ذلك فإن «بك» يُبدي قدرًا من الدهشة لأنه في إحدى حالات «الوعي الكوني» التي اقتبسها، وجد أن الشخص الذي مرَّ بالتجربة الصوفية لا يزال غير مؤمن بالبقاء بعد الموت. ومن الصواب أن نقول إن المتصوِّفة كثيرًا ما يُعبِّرون عن شعورهم بأنهم بلغوا مرحلة الخلود، لكن ذلك ليس تعبيرًا عامًّا، وهو قابل لمختلف التأويلات. ويقول «تنسون» إنَّه «بدا الموت في تجربته استحالة مضحكة». وليس هناك ما يدل على أنه كان يعني بهذه الكلمات الحياة بعد الموت. فكلمات تبدو أنها تعني أنه قد ظهر له أثناء تجربته أنه من الاستحالة المضحكة أن يلتقي بالمصير البشري الشائع الذي هو الموت وفساد البدن، لكن هناك — لسوء الطالع — دليل نصدقه، هو أنه الآن ميت.

وهناك فقرات كثيرة في «الأوبنشاد» تذهب إلى أن مَن يصل إلى «الوعي البرهمي» فقد بلغ الخلود، ولا شك أن التجربة التي تؤيد هذه العبارة، هي «الإحساس بالخلود» الذي تحدَّث عنه «بك». وتقول الماندوكا أوبنشاد «مَن يعرف بارهمان يصبح براهمان …» وتقول «مَن يتجاوز جميع الأحزان … يتحرَّر من قيود الجهل ويصبح خالدًا …»١
من الواضح جدًّا أنه لا بد من تأويل ذلك على أنه الخلود بعد الموت أكثر منه الخلود الآن. ويؤكد المتصوِّفة، بإجماع، أن تجربتهم تجاوز الزمان. ومن الطبيعي أن نظن أن الخلود الذي شعروا هم أنفسهم أنهم وصلوا إليه هو الخلود في لحظة لا زمانية. ولم يصر متصوف مثلما أصرَّ «إيكهارت» على أن النفس التي بلغت حالة التصوف قد جاوزت الزمان إلى «الآن الأزلية». وهو يخبرنا أنه في «الذروة التي تصل إليها النفس» حيث يتم الاتحاد الصوفي بالله نجد:
«أنها ترتفع إلى مرتبة عالية حيث تتحاور مع الله وجهًا لوجه … وهي لا تعي الأمس ولا اليوم قبل الأمس، ولا الغد، ولا بعد غد؛ لأنه لا يوجد في الأزل أمس، ولا غد، بل آن فحسب.»٢
ولا شك أن «إيكهارت» كان مسيحيًّا تقليديًّا يؤمن بالحياة بعد الموت، على الرغم من أنه ربما اعتقد فيها لا على أنها استمرار في الزمان للحياة التي نعيشها، بل بالأحرى كمدخل أخير إلى الآن الأزلية. لكن لا بد أن يقوم إيمانه على القبول العقلي لمعتقدات الكنيسة، وليس على تجربته الصوفية. مفترضين أنه مرَّ في تجربته «بالإحساس بالخلود» الذي ذكرناه فيما سبق، وهو لم يُقدِّمه كدليل على الحياة بعد الموت، بل أوَّله على أنه بلوغ الآن الأزلي، أثناء لحظة الاتحاد الصوفي.
وعلى هذا النحو فإن التجربة الصوفية لا تُقدِّم دليلًا غير ملتبس الدلالة على بقاء الشخصية بعد الموت. ولا على الدوام من خلال الزمان المستمر الذي هو التصوُّر الشائع للخلود. وقد يُقال، في الواقع، إن التجربة الصوفية تُزوِّدنا بدليل ضد أي بقاء زمني. ذلك لأن أحد الأطوار الهامة في مثل هذه التجربة — كما سبق أن رأينا — يعتمد على الشعور بفناء الفردية، وذوبانها في اللامتناهي. وتعتمد ماهية هذا الطور على واقعة أن «الأنا» تكف عن الوجود، لكن ذلك ليس حاسمًا أيضًا، لأنه بعد انتهاء التجربة الزمنية، تعود «الأنا» إلى نفسها من جديد مرةً أخرى. ومن ثَم فالتجربة تتسق مع دوام «الأنا» بعد انقضاء التجربة الجزئية، وربما أيضًا بعد موت البدن، وفضلًا عن ذلك فلا بد لنا أن نتذكَّر أنه حتى أثناء التجربة هناك مفارقة وهي أن «الأنا»، بمعنى ما، لا تزال موجودة في تجربة فنائها نفسها. أو كما قال «إيكهارت» في الفقرة التي اقتبسناها من قبل: «لقد ترك لها الله [أي النفس] مسافة ضئيلة تعود منها إلى نفسها … وتعرف نفسها على أنها مخلوقة.»
وهكذا ننتهي إلى أن التصوف لم يُلقِ أي ضوء واضح على مشكلة ما إذا كانت النفس تدوم بعد الموت كروح بلا بدن. هناك بالطبع صورة أخرى من نظرية الخلود وهي الإيمان بالتناسخ، وأولئك الذين آمنوا بهذه النظرية يفترضون، عادةً، أنه يوجد بين أي حياتين بشريتين مسافة زمنية تقضيها الروح في حالة غير جسدية. ولكن من المحتمل بالطبع أن يكون هناك تنوُّع في هذه النظرية التي تقول إن النفس تنتقل باستمرار من بدن إلى بدن بطريقة فورية، لكنَّا لسنا بحاجة، على أيَّة حال، لمناقشة التناسخ هنا لأنه لا يوجد مبرر — فيما يبدو — للقول بأنَّ التجربة الصوفية تُزوِّدنا بأي دليل عليه. صحيح أن أولئك الذين بلغوا أعلى مستويات الروح، مثل بوذا، يذهب أتباعهم إلى أنهم اكتسبوا القدرة على تذكُّر حياتهم الماضية، وهكذا يزوِّدنا بدليل مباشر على التناسخ، لكن أيَّا ما كان رأينا في هذا القول، فلا بد أن يكون دليلًا ينشأ من مصدر الذاكرة، لا من مصدر التجربة الصوفية. ولا شك أن هذه القدرة المعجزة على التذكر يفترض أنها تكتسب مع — أو متآنية مع — تجربة «النرفانا»، كالقدرات الأخرى أيضًا مثل موهبة العلاج، لكن يظل من الصواب أن نقول إن التجربة الصوفية شيء والتذكُّر شيء آخر، والدليل المزعوم على التناسخ يخرج من الذاكرة ولا يخرج من التجربة الصوفية. ويقع تقييم دليل الذاكرة خارج نطاق بحثنا، الذي ينحصر في بحث مشكلة ما إذا كانت التجربة الصوفية ذاتها تُلقي أي ضوء على التناسخ. وتنتهي إلى أنها لا تفعل ذلك. وهذه النتيجة كان يمكن التنبؤ بها لو أنَّنا وضعنا في ذهننا أن التجربة الصوفية، بما أنها الآن الأزلي اللازماني لا يمكن أن تتضمَّن تذكر أحداث الزمان الماضي. ولنكرر ما قاله إيكهارت من «أنها لا تعي الأمس ولا اليوم قبل الأمس.»
على الرغم من النتيجة السلبية تمامًا لبحثنا، فسوف يكون من الجدير بالذكر أن نطرح سؤالًا افتراضيًّا تمامًا وأن نُناقشه. افرض أن التصوف لا يؤدي إلى أي دليل عن البقاء، فلا يزال من الممكن أن نسأل، لو أنَّنا افترضنا لأي سبب آخر أن البقاء حقيقة، فهل يمكن للتصوُّف أن يُلقي أي ضوء على طبيعة الحياة بعد الموت. وليس ذلك على الإطلاق سؤالًا أحمق كما يبدو للوهلة الأولى؛ لأننا سوف نجد أن هناك اختلافًا في الرأي، مثيرًا، بين الشرق والغرب حول هذا الموضوع. وأنا لا أقصد ما ذكرته بالفعل عن الاختلاف بين النظرية الشرقية عن التناسخ، والإيمان الغربي في الأرواح بلا جسد؛ لأن عقائد الشرق والغرب معًا تتفق على أنه سيأتي زمان تكون فيه الروح بلا جسد. وسيحدث ذلك، طبقًا للأفكار الغربية بعد الحياة الحالية مباشرة. وسيحدث ذلك طبقًا للهندوسية والبوذية بعد تحرر الروح النهائي من سلسلة التناسخ. ومن ثَم فالسؤال واحد بالنسبة للشرق والغرب وهو: ما هي طبيعة الروح وحياتها بعد أن تتخلَّص في النهاية من جسدها؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال يظهر الاختلاف في الرأي المثير الذي سنجد له مضامين ونتائج هامة في ميدان علم الاجتماع وحتى في النظرية السياسية، إنْ لم يكن في الميتافيزيقا والفلسفة النظرية.
يُصرُّ الفكر الديني الغربي على أن الخلود يعني دوام الفرد المنفصل كفرد خلال الزمان المقبل كله. ومن ناحية أخرى كانت وجهة نظر التراث الهندوسي الرئيسي — وهو تراث الأوفيتا فيدانتا — كانت باستمرار تقول إن الفرد بعد تحرره من دورة التناسخ يكف عن الوجود بما هو كذلك ويصبح ممتصًّا ومندمجًا في حياة الموجود اللامتناهي. وتستخدم مجازات شتى للتعبير عن ذلك؛ فالنفس الفردية تشبه النهر الذي يفقد وجوده المنفصل عندما يصب في المحيط، أو نسمع عن «قطرات الندى التي تنزلق في البحر المتألق». ويمكن بلوغ «النرفانا» — فيما ترى البوذية — خلال هذه الحياة في الوقت الذي لا يزال فيه المرء في البدن، ومن يبلغ هذه المرحلة فلن يولد من جديد مرة أخرى، فماذا يحدث له عندما يبلى جسده ويزول؟ لقد قيل، بالنسبة لبوذا، إنَّه عندئذٍ انتقل إلى «النرفانا المتعددة Parinirvana»، وهي الخلاص النهائي الذي لا عودة منه. ولنا أن نسأل ما هي هذه الحالة من النرفانا النهائية؟ أهيَّ — كما هيَّ الحال في الهندوسية — ذوبان الروح المتناهي في اللامتناهي؟ سوف نُذكِّر القارئ بعد لحظات قليلة بما يُفترض أن بوذا قاله في هذا الموضوع، لكن دعنا الآن نعود إلى التصوُّر الهندوسي للحياة بعد الموت كامتصاص في براهمان. لا شك أن هذا التصوُّر — مثل كل تفكير هندي فلسفي — ديني تقريبًا — يضرب بجذوره في التجربة الصوفية، بينما الأفكار الغربية عن الحياة في العالم الآخر هي أفكار صوفية في أساسها. وربما توقعنا من المصادر الهندية أن نحصل على بعض الضوء عن العلاقة بين التصوف والسؤال الافتراضي كيف ينبغي علينا أن نفكر في الحياة المقبلة، إذا كان هناك مثل هذه الحياة.
من الجدير بالبحث، إذن، أن نعرف ما المقصود بهذه التصوُّرات الهندية؛ لأنه بمجرد ما نحاول فهمها سنجد أنفسنا قد انخرطنا في مشكلات وصعوبات. إن العقل الهندي يتجه، كالمعتاد باستمرار، إلى الاكتفاء بالمجازات الشعرية التي لا يتضح معناها الحرفي إن كان لها مثل هذا المعنى. تأمَّل المجاز في عبارة: قطرات الندى التي تنزل إلى البحر، فماذا تعني؟ والقول بأن هذه العبارة الجزئية عن قطرات الندى ليست ذات أصل هندي، وإنَّما صاغها كاتب إنجليزي لا يؤثر في السؤال أدنى تأثير؛ فهي بالقطع تُعبِّر عن روح الإيمان الهندي. وهي مجاز، لكن ما الذي تعنيه حرفيًّا عن الحياة المقبلة التي يرمز إليها المجاز؟ ربما ظنَّ القارئ أن التحليل الذي أوشك تقديمه هو مثال على الحرفية العابثة، أشبه بعبارة «نحن نقبل لكي تشرح الجثة». سوف يكون لرد الفعل ما يبرره لو أن مجاز قطرات الندى سينظر إليه على أنه شعر خالص، ونستمتع به لجماله الشعري ولا شيء غير ذلك، لكنا لا نستطيع أن ننظر إليه على هذا النحو، فالمفروض أنه يرمز إلى حقيقة ما، وهي لا يُمكن أن تعني سوى قضية صادقة حرفيًّا، عن مصير الذات التي وصلت إلى التحرر ثم ماتت بعد ذلك. وعلينا أن نسأل: ما هي هذه القضية الصادقة؟ كل مجاز يقوم على أساس بعض التشابه الذي يفترض وجوده بين الصورة الحسِّية للمجاز والتصوُّر الحرفي الذي يرمز إليه. ومجاز قطرات الندى لا بد أن يعني أن ما يحدث للنفس بعد الموت يشبه قطرات الندى بعد أن تكون كذلك؛ فقطرات الندى تتألَّف من جزيئات الماء، وعندما تسقط في البحر، فإن القطرة كقطرة، جزء ضئيل من الماء، تختفي بغير شك، لكن جزيئات الفرد تستمر وتتغير في جميع جهات الشرق والغرب، حتى إنه لو كان من الممكن مطاردتها ومتابعتها لبضع سنوات، فإن المرء قد يجدها على بعد آلاف الأميال بعضها عن بعض. ولا يمكن أن يكون ذلك مشابهًا لما يحدث للنفس على الإطلاق! فهي لا يُمكن أن تتألَّف من قطع صغيرة من النفس — جزيئات روحية — ولا من أجزاء لا تنقسم. ومن الواضح أن المجاز لو سار في هذا الطريق فسوف يكون لغوًا بغير معنى. وبعبارة أخرى المجاز — رغم جماله الحسي — لا معنى له. ومن هنا فهو لا يُساعدنا في فهم التصوُّرات الهندية لامتصاص الذات المتناهية في اللامتناهي.
والمشكلة التي تفرض نفسها علينا في هذه الحالة هي: النظرية الهندية في الامتصاص تعني، بالقطع، أن الفرد يتوقَّف عن الوجود كفرد، تمامًا كما تتوقَّف قطرات الندى عن الوجود كقطرات متحدة. ويُمكن أن يُقال إن المجاز في جانبه السلبي الخالص عن توقف الوجود الفردي، قد يكون دقيقًا وذا معنًى. إنَّنا عندما نسعى لفهم نوع الوجود الإيجابي الذي يفترض أن يكون للذات (أو النفس) بعد امتصاصها، تتحطَّم جميع المجازات بما في ذلك مجاز الامتصاص نفسه. إذ من الواضح أنَّنا نصل هنا إلى إحراج منطقي Dilemma، فالعقل المنطقي سوف يُصرُّ على أنه إما أن تواصل الذات (النفس) وجودها كفرد أو أن تتوقَّف عن الوجود تمامًا — بعبارة أخرى تُعاني الانعدام والملاشاة؛ لأنَّ فكرة ذات لا تكون ذاتًا لفرد تبدو للعقل الغربي خُلفًا مُحالًا. ومن هنا فسوف يُقال إن النظرية الهندية عن توقف الفرد عن الوجود لا يُمكن أن تعني شيئًا سوى الانعدام أو التلاشي التام. وسوف يقول عندئذٍ أن كل ما يفعله المجاز هو فقط إخفاء هذه الحقيقة المؤلمة، وتلطيفها — بغير أمانة — بكلمات وردية، وصور شعرية.

اتجاه البوذية إلى المجاز أقل من اتجاه الهندوسية. ومن هنا كانت نظرية «النرفانا» أمام العقل الغربي — ليس كقاعدة أن تكون مموهة بعبارة شعرية — تظهر باستمرار كاسم آخر للانعدام أو التلاشي، والروايات التي انتقلت من الشرق إلى أوروبا عن طريق البعثات التبشيرية المسيحية المبكرة وغيرها، تؤكِّد ذلك باستمرار؛ إذ لم يكن لديهم أي فهم أو تعاطف مع الأفكار الصوفية أو المفارقات الصوفية. وإذا كان تأويلهم تأويلًا صحيحًا، فإن علينا أن ننتهي إلى أن الديانات الشرقية الحالية، ليست بديلًا مقبولًا للتصوُّر الغربي للخلود، الذي يعني دوام الأفراد المنفصلين. غير أنه لا يوجد بوذي يوافق على أن «النرفانا» تعني الانعدام والتلاشي، كما أنه لا يوجد باحث غربي جاد في البوذية في يومنا الراهن يقول به؛ فبلوغ «النرفانا» يعني الغبطة القصوى، رغم أنه يعني أيضًا ضياع الفردية المنفصلة.

وإذا كنَّا نميل إلى رفض هذا التفسير على أنه مستحيل، فلا بد أن نتذكَّر تأكيد «تنسون» أن ضياع الفردية الذي مرَّ بتجربة بدا له «ليس انطفاء بل الحياة الحقَّة الوحيدة». كما أنَّنا لا بد أن نتذكَّر أيضًا عبارة «كويستلر» التي يقول فيها «إن الأنا تتوقف عن الوجود لأنها أقامت اتصالًا مع، أو انحلت في، بركة كلية». ومع ذلك فهذه التجربة تجلب معها «السلام الذي يجاوز كل فهم» ولستُ قادرًا على أن أجد أي فارق أو اختلاف بين تأكيدات «تنسون»، و«كويستلر»، والتأكيدات البوذية عن «النرفانا»؛ فضياع الفردية نفسه الذي تصاحبه الغبطة بدلًا من الانعدام أو التلاشي يرويه المتصوِّفة في جميع أنحاء العالم، في الأوبنشاد، وعند المتصوِّفة المسلمين، والمتصوِّفة المسيحيين.
ولقد حدث أن وضع الإحراج المنطقي الذي يقول: «إما أن أواصل الوجود بعد الموت كفرد، أو أن أكفَّ عن الوجود تمامًا وأعاني الانطفاء»، أمام شريعة بالي Pali، وعند بوذا نفسه وجوابه مدوَّن. ولقد رويت ذلك بالتفصيل في فقرة اقتبستها من قبل. وسوف أُذكِّر القارئ هنا فقط بملامحها الأساسية. لقد سأل الناسك المُتجوِّل فاشا Vacha «بوذا» عمَّا إذا كان يعتقد أن القديس «يظل موجودًا بعد الموت» أو «أنه لا يكون موجودًا بعد الموت». ومن الواضح أن السبب في أنها لا تناسب الحالة هو أن سؤال «فاشا» يُحاول — عن طريق الإحراج المنطقي «إما … أو» — أن يُطبِّق قوانين المنطق — وفي هذه الحالة قانون الثالث المرفوع — على الحالة الصوفية للذهن؛ لأن «النرفانا» هي ببساطة التجربة الصوفية الانطوائية أو «الوعي الموحد» في «الماندوكا أوبنشاد». وقد سارت إلى أعلى مستوى ممكن لها. ولقد أخبر «بوذا» تلميذه «فاشا» أيضًا «أن نظرية «النرفانا» لا يمكن الوصول إليها عن طريق الاستدلال المحض» — وهو التأكيد المعتاد أن التجربة الصوفية «تُجاوز العقل» أو «تعلو على الفهم». وهو يقول أيضًا إن ذلك لا يكون واضحًا إلَّا أمام «الحكيم»، و«الحكيم» في هذا السياق يعني الرجل المستنير صوفيًّا، لا الرجل الحكيم من الناحية العقلية أو العملية. والخلاصة أن هذه الفقرة تدعم بقوة وجهة نظرنا عن طابع المفارقة الأساسي لجميع الأفكار الصوفية، كما تدعم الرأي القائل بأنَّ قوانين المنطق لا تنطبق على التجربة الصوفية.
لا بد أن ننتهي من ذلك إلى أن هناك وجهتين من النظر بديلتين ممكنتين حول طبيعة الحياة المقبلة — لو شئنا القول بوجود حياة مقبلة — فهناك وجهة النظر الغربية التي تعني دوام الفرديات المنفصلة؛ «فزيد» يبقى «زيدًا»، و«خالد» يبقى «خالدًا»، و«علي» يبقى «عليًّا»، لكنا وجدنا أن وجهة النظر الإنسانية الخاصة بامتصاص الفرد المنفصل في حياة الوعي الكلي أو في «النرفانا» في الوقت الذي لا يعاني فيه الانعدام أو التلاشي، هي وجهة نظر واقعية رغم أنها مفارقة بديلة. ومن هنا فإن السؤال الآن الذي ينبغي طرحه هو أي وجهة نظر يميل الوعي الصوفي إلى دعمها؟ ولا أستطيع أن أعرف كيف يمكن تجنب النتيجة التي تقول إن وجهة النظر الهندية تنسجم أكثر مع التصوف.

وترتبط المشكلة بالطبع بمشكلة وحدة الوجود. وهنا أيضًا ترفض ديانات التأليه أن تقبل اختفاء الذات الفردية، حتى ولو للحظة قصيرة، في اتحاد صوفي. ونفس المشكلة هنا بالضبط متضمنة في فكرة الخلود. فيما عدا أن هناك اختلافًا فيما يتعلق بالزمان، أو أن هناك فرقًا بالأحرى بين الزمان والأزل. إن المُفكِّر المؤلِّه في رفضه لوحدة الوجود على أنها «هرطقة»، فإنَّه يرفض التنازل عن فرديته المستقلة أثناء لحظة الاتحاد الصوفي. ويُصرُّ على أن النفس خلال هذه الفترة وكذلك الوجود الإلهي — تظل موجودات متميِّزة، وهو يرفض — بالنظر إلى الحياة الخالدة — أن يتنازل عن فرديته في الأزل.

ولقد راجعنا بعناية الدليل في هذا الموضوع في الفصل الرابع الذي عقدناه عن «وحدة الوجود، والثنائية، والواحدية». وانتهينا إلى أن صاحب التأليه عاجز عن تدعيم نظرته الثنائية. ورأينا أنه على الرغم من أنه كان على حق في إصراره على الاختلاف بين الله والذات المتناهية، فإنَّه أخطأ في رفضه لهويتهما، وتكمن الحقيقة في مفارقة الهوية في الاختلاف. والملاحظات التي قادتنا إلى هذه النتيجة بخصوص مشكلة وحدة الوجود، لها كلها نفس الوزن عندما تُطبَّق على مشكلة الخلود. ومن ثَم فسوف نكون على حق عندما ننقل هذه النتيجة إلى الموقف الراهن. فإذا لم تكن دراستنا للتصوف عبثًا بغير جدوى، فإن علينا أن نُسلِّم بأنها تُشير إلى تصور الحياة المقبلة على أنه ضياع الفردية المستقلة في حين أن «الأنا» في الوقت ذاته تتلاشى، بل تستمتع بسلام مطلق.

ولا بد أن نتذكَّر أنَّنا إذا خالفنا صاحب التأليه في إنكاره للهوية بين الفرد والذات الكلية، فإن نتيجتنا تُخالف أيضًا النظرة الهندية بمقدار ما تؤول هذه النظرة على أنها إنكار للاختلافات والانفصالات. والواقع أن التأويلين معًا — الخاص بمفارقة وحدة الوجود، والخاص بالهوية الواحدية الخالصة — قد وُجِدا في الهند، لكن هناك فهمًا أفضل لوجهة نظر المفارقة الصوفية أكثر مما هو موجود في الغرب. علينا أن نُصرَّ على الهوية ضد أتباع التأليه. ونُصرُّ على الاختلاف ضد نظرة الهوية الخالصة. ومن ثَم فإن النتيجة التي انتهينا إليها ينبغي أن لا تُفهم على أنها قبول غير مشروط لأحد جانبَي المفارقة دون الآخر. وعلى نحو ما كانت ملاحظتنا في حالة مفارقة وحدة الوجود، فكذلك هنا في مشكلة الخلود، نُقدِّم نظرتنا على أنها توفيق ومصالحة بين التيارات الرئيسية في الشرق، والتيارات الرئيسية في الغرب.

وسوف يكون من الممتع حقًّا أن ننظر فيما إذا كان إيكهارت أعظم المتصوِّفة المسيحيين جميعًا من حيث العقلية الفلسفية، قد عبَّر عن آراء تحمل دلالات خاصة بالنسبة للموضوع الذي نناقشه. وسوف يكون من الصواب أيضًا أن نقول إن إيكهارت كانت له من بين متصوِّفة المسيحية جميعًا، خصائص مشتركة مع وجهات النظر الهندية، دون أن يعلم، بالطبع، أي شيء عنهم. ومن الجدير بالملاحظة، يقينًا، أن آراءه كانت موضوع مقارنات طويلة مع آراء «سنكارا» الفيدانتي في كتاب «رودلف أوتو».٣ ومقارنات طويلة أيضًا مع المعتقدات البوذية عند «سوزوكي».٤ ولقد كانت ميوله التي تتجه نحو تصورات وحدة الوجود الشرقية، هي التي أوقعته في مشاكل مع السلطات الكنسية. ولقد سبق أن رأينا أن أقواله كانت ملتبسة بالنسبة لمشكلة ما إذا كان الاتحاد الصوفي بالله ينبغي أن يفهم على أنه هوية مع الله؛ فهناك فقرات كثيرة تدعم موقف التأليه التقليدي، القائل بأن المخلوق يظل باستمرار موجودًا متميزًا عن الخالق، لكن هناك فقرات كثيرة أيضًا يبدو أنها تقول العكس أو على الأقل تتضمَّن ذلك. وهذه الفقرات هي التي أمسكت بها الرقابة الكنسية. ففقرة منها تُعطي انطباعًا أن ميوله الطبيعية التلقائية، كانت متعاطفة مع الواحدية أو مع وحدة الوجود، وأن الفقرات الثنائية لا بد أن تكون قد كُتبت في تلك المناسبات التي كانت التزاماته فيها تحتم أن تتشابه وجهات نظره مع آراء الكنسية، وأن ينحني لسلطانها. ولا يعني ذلك أبدًا أن ننسب إليه أي افتقار إلى الأمانة أو الإخلاص؛ إذ لا شك أنه لم يكن على وعي بصراع أفكاره بعضها مع بعض. وربما لم يكن مدركًا — مثله في ذلك مثل معظم المفكرين — بتناقضاته الخاصة. ومن الطبيعي أن تكون الفقرات في كتاباته التي تميل أن تتضمَّن وجهة النظر عن الخلود التي تتصوَّر أنه امتصاص في الحياة الإلهية — هي أيضًا تلك الفقرات التي تتجه نحو الهرطقة. ونحن عندما نؤكِّدها نكون على وعي، بالطبع، أنها لا تخبرنا إلَّا بجانب واحد من قصة عقله، لكنَّها الجانب البالغ الأهمية، بالنسبة لنا لموضوع هذا الفصل.
ومن المؤكَّد أن اتحاد النفس مع الله في الحياة المقبلة سيكون، كما هو الحال في الاتحاد الزمني في هذه الحياة، مجاوز للزمان والمكان في «آن أزلي»؛ لأنه يقول عن معرفتنا بالله في هذه الحياة:
«لا شيء يعوق معرفة الروح بالله، مثل الزمان والمكان؛ ذلك لأنَّ الزمان والمكان شذرات في حين أن الله واحد، ومن ثَم فلو كانت الروح تريد معرفة الله، فلا بد لها أن تعرفه فوق الزمان وخارج المكان.»٥
وفي فقرة يُشير فيها إشارة مباشرة إلى الحياة بعد الموت يقول:
«أوصيكم أيُّها الأخوة والأخوات … أثناء تواجدكم في الزمان … أن تُوحِّدوا أنفسكم بطبيعته الإلهية؛ لأنه إذا ما خرجتم من الزمان ضاعت عليكم الفرصة.»٦
وذلك يتضمَّن، بالطبع، النتيجة القائلة بأن الروح بعد الموت التي يستلهمها الرجل المسيحي تكون في اتحاد صوفي مع الله، فما الذي يقوم، إذن، بوظيفة مبدأ التفرد سواء بين الذات المتناهية وذات أخرى، أو بين الذات المتناهية وبين الله؟ لا يمكن أن يكون الزمان والمكان؛ فقد رأينا في فصل سابق أن لا شيء يميِّز ذات فردية عن ذات أخرى إلا تيار الوعي، أنعني المضمون الذهني الجزئي، أو التجارب التي تشكل الأنا التجريبي. «فأنا» الأفراد التجريبي منفصل متعدد، لكن لا يوجد سوى أنا خالص واحد فقط وهو الذات الكلية، ومن هنا فإن دوام الفردية بعد الموت لا يمكن تصوُّره إلا بشرط أن تكون ذواتنا التجريبية، كل واحدة بتجاربها الجزئية، ستدوم بعد الموت. غير أن إيكهارت كان واضحًا تمامًا في قوله إن اتحادنا بالله في هذه الحياة يعني أن تُمحى المضامين الجزئية الخاصة بكل وعي فردي؛ لأن ذلك الاتحاد يحدث في «ذروة الروح»، تاركًا بقية الروح لتدرك مضمونها التجريبي خارج الاتحاد لكنه يذهب إلى أنه لا يوجد «مخلوق» أعني شيئًا متناهيًا يمكن أن يقتحم هذه «الذروة». كتب يقول:
«الصمت المركزي قائم هناك، حيث لا يمكن لمخلوق، ولا الفكرة، أن يدخل. والروح هناك لا تفكر ولا تعمل، ولا تضمر أي فكرة من ذاتها ولا من أي شيء آخر. وأيًّا ما كان ما تفعله الروح، فإنَّها تفعله من خلال أدواتها؛ فهي تفهم عن طريق الذكاء، وتتذكر عن طريق الذاكرة. وإذا أحبت فلا بد أن تستخدم الإرادة.»٧

ومن الواضح أن «إيكهارت» يقبل «ملكات» علم النفس، «فأدوات» الروح هي ملكاتها: الذاكرة، والإرادة، والفهم … إلخ، ومن هنا كانت هذه العبارة ذات الصدى الغريب عن «الروح التي تتذكر عن طريق الذاكرة». والقول بأنه وضع استبصاراته في إطار عتيق من علم النفس لا يسلب هذه الاستبصارات قيمتها بالطبع. فهو يُفكِّر في «الأدوات» بالمماثلة مع الأدوات التي يستخدمها الرجل الحِرَفيح فهذه الأدوات معًا، مع أعمال التذكُّر، والفهم … إلخ، التي تقوم بها، هي مستبعدة من «الذروة» ومن ثم مستبعدة من الاتحاد بالله، لكن إذا ما حذفنا علم النفس العتيق، الذي لا يمكن قبوله، فإن ما تبقى هو ما يأتي: الذروة هي وحدة الوعي، الأنا الخالص، الذي يتحد بالله. فإذا ما اتحدت الذروة مع الله لأصبحت هي في آنٍ معًا عين الله وعين النفس. ومن هنا تأتي العبارة التي اقتبسناها فيما سبق والتي تقول «العين التي يراني بها الله هي العين التي أرى بها الله؛ لأن عين الله وعيني واحد ونفس الشيء.» ومن هنا فإن الفقرة التي نشرحها تعني ببساطة، أن ما هو واحد مع الله في الاتحاد الصوفي هو الأنا الخالص، وأن الوعي التجريبي أي تيار الأفكار، والذاكرة، والإرادة، والإحساسات والصور … إلخ، تترك خارج الاتحاد. ومن هنا فسوف يكون من المستحيل بالنسبة «لإيكهارت» أن يذهب إلى أن الروح في حالة الاتحاد في هذه الحياة يمكن أن تتميَّز عن أرواح الأفراد الأخرى أو عن الله، سواء عن طريق المكان أو الزمان، أو عن طريق أي مضمون تجريبي للوعي. وسوف يكون من المستحيل بالنسبة له أيضًا أن يذهب إلى أن الاتحاد الأزلي للروح بالله في الحياة المقبلة يمكن أن يكون أقل كمالًا واكتمالًا، من اتحادها أثناء هذه الحياة. ومن هنا فدوام الفردية بعد الموت يتناقض تمامًا مع معظم المبادئ الرئيسية في فلسفته الصوفية — أيًّا ما كانت فكرته — عن خلقه المحافظ التقليدي. والنتيجة هي أن عبارات «إيكهارت» تتسق أكثر مع نظرية أن ما بعد الحياة هو امتصاص للفردية أكثر منه دوامًا لها. أمَّا ما إذا كان هو نفسه يُسلِّم بذلك، فتلك مسألة أخرى. فحتى عندما تُؤوَّل آراء «إيكهارت» لتعني هوية الروح مع الله بعد الموت، فلا بد أن يصحح ذلك، من وجهة نظرنا، بالتسليم بالاختلاف كالهوية سواءً بسواء.

نتيجتنا العامة هي أن التصوف لا يُقدِّم أي دليل على البقاء بعد الموت، لكن إذا ما قبل البقاء على أساس التصوف، فلا بد أن تفضل نظرية الامتصاص بدلًا من نظرية دوام الفرد.

سوف أنُهي هذا الفصل ببعض الملاحظات عن إمكان وجود رابطة بين الآراء حول الحياة الأخرى في الشرق والغرب من ناحية، وفلسفاتها السياسية من ناحية أخرى؛ فقد يُقال إن هناك رابطة بين الإيمان الغربي في دوام الفرد بعد الموت وفكرة ما يُسمَّى بالقيمة اللامتناهية للفرد، التي لعبت دورًا في التفكير السياسي في الديمقراطيات الغربية. ولو صحَّ ذلك فلا بد أن يُقال أبعد من ذلك إن النظرية الشرقية في الخلود كامتصاص في اللامتناهي ترتبط بفشل الشرق في تطوير مؤسسات ديمقراطية قبل استيرادها من أوروبا في العصور الحديثة.٨ وربما كان هذا التأكيد نفسه على أهمية الفرد هو الذي عبَّر عن نفسه في وقت واحد في النظريات الغربية عن الحرية والديمقراطية، وفي العقائد الدينية الغربية عن الحياة بعد الموت. وطالما أنَّنا نُدين النظريات السياسية التي تُقلِّل من قيمة الفرد وتدمجه في حياة الدولة كلها، ألا ينبغي أن نُدين بالمثل نفس النزعة عندما تظهر في النظريات الدينية عن الحياة بعد الموت؟

غير أن مثل هذه الحجة لا بد أن تكون نظرية وغير واقعية. صحيح أنَّنا نتحدث عن قيمة الفرد «اللامتناهية». غير أن كلمة «اللامتناهي»، في المقام الأول، لا يُمكن أن تؤخذ هنا بمعناها الحرفي، إذ من الواضح أنها ليست أكثر من وسيلة بلاغية للإعلاء من أهمية الفرد وحقوقه ضد الموقف الاستبدادي لدولة الطغيان. وهذا النوع من التفكير له ما يُبرِّره في السياسة، وهو جدير بالثناء تمامًا؛ فضد الطغيان الشمولي الوحشي — الذي يدعو إلى السخرية لاحتقاره لحقوق البشر، وقسوته في إنزال الألم والبؤس — نؤكد حقوق كل موجود بشري في الحماية من هذه الأعمال اللاإنسانية، وفي تحرره من القهر والكبت. وأن يُسيِّر حياته ويسعى إلى سعادته الخاصة. كل ذلك صحيح ومرغوب في عالم الزمان النسبي وفي النشاط السياسي.

لكن ينبغي علينا ألَّا نُطوِّر هذه الفكرة لنضعها في نظرية ميتافيزيقية عن الأزل، فحقيقتها نسبية وبرجماتية؛ نسبية لأنه من الضروري فقط أن نُصرَّ على حقوق وقيمة الفرد بسبب وجود الطغاة والأشرار الذين يستمتعون باستعبادنا وكبت فرديتنا. كما أنها ترتبط بخلفية البيئة البشرية في الزمان، ولا يمكن أن يكون لها معنى في «الآن الأزلي». وإذا كان هناك شخص مسيحي، أو غيره من اللاهوتيين الذين يُصوِّرون الله تصويرًا بشريًّا على أنه الحاكم القاسي المنتقم، فلسنا بحاجة إلى أن نأخذهم في تفكيرنا، في يومنا الراهن، مأخذ الجد.

وما لم نأخذهم مأخذ الجد، وتصوَّرنا الله على أنه الشخص الذي تتأكد حقوقنا الفردية ضده، فلن يكون هناك معنًى لأن نحمل فكرة القيمة اللامتناهية للفرد معنا إلى الأزل.

وفضلًا عن ذلك فربما كان لديانات الشرق نوع خاص من الرد على هذه المحاولة التي تحط من قدرها. وتؤكد الهندوسية — والبوذية بصفة خاصة — أن انفصال كل أنا فردي، وتعلقه بهذا الانفصال، هو جذر الكراهية والشر الأخلاقي بصفة عامة. وينبع من إصراري على أهمية ذاتي الفردية الخاصة، إدراكي لما يُمكن أن أحصله عن نفسي، ومن ذلك تأتي الكراهية، والحقد والحسد، والخبث، والسرقة، والغش، والقتل والحرب. فإذا ما تخلَّصت كل «أنا» منفصلة للإنسان. وإذا ما شعر أنه هو نفسه ليس مجرد «أنا»، بل واحد مع حياة الأفراد الآخرين جميعًا ومع حياة الله، في هذه الحالة وحدها نستطيع أن نأمل في الخلاص. وهذا ممكن، إلى حد ما، حتى في هذه الحياة، إنَّه بالضبط ما يحدث في التجربة الصوفية. ذلك لأنَّ «الأنا» في هذه التجربة تكف عن الوجود كموجود منفصل بسبب أن اللامتناهي يفيض عليها. والمقابل الانفعالي لذلك لاختفاء الفرد، وللقضاء على الإيمان «بقيمته اللامتناهية» هو أن حب البشر الآخرين جميعًا هو مصدر الجانب الأخلاقي في جميع الديانات العظيمة. ويحدث ذلك الآن في أفضل لحظاتنا الزمانية. وهذا هو ما ينبغي أن نعتقد أنه يتحقق على نحو تام، وكامل، ونهائي، في الحياة بعد الموت، لو كانت هناك حياة بعد الموت. والقول بأن الأجناس الغربية من البشر تُصرُّ على نظرية الخلود التي تشمل دوام الفردية، في حين أن الأجناس الهندية — على الأقل في الغالبية العظمى من تراثها — لا تفعل ذلك، وأنَّ الشعب الهندي يوافق بترحاب على ذلك، هو علامة على عدوانية أكثر وتأكيد على الذات أكثر عند الرجل الغربي.

مِثل هذا الحِجاج بين الشرق والغرب لا نفع فيه، بل ربما أظهرنا، على الأقل، على أن هناك محاولة لإدانة النظرية الهندية في الخلود، ونقل التصوُّر الغربي عن القيمة اللامتناهية للفرد من ميدان السياسة إلى المجال الديني، دون أيَّة ميزة لهذا العمل.

١  الأوبنشاد، مرجع سابق ص٤٨. (المؤلف)
٢  مايستر إيكهارت، ترجمة ر. ب. بلانكي، نيويورك، عام ١٩٤١م، الموعظة رقم ١١، ص١٥٣. (المترجم)
٣  رودلف أوتو، «التصوف في الشرق والغرب»، نيويورك، عام ١٩٥٧م. (المؤلف)
٤  د. ت. سوزوكي، «المتصوف المسيحي والبوذي»، نيويورك، عام ١٩٥٧م. (المؤلف)
٥  بلانكي (مترجم)، مرجع سابق، موعظة رقم ٦، ص١٣١. (المؤلف)
٦  ف. فليفر، مايستر إيكهارت، ترجمة س. ر. ب إيفانز، ص٣٥٢. (المؤلف)
٧  بلانكي، (مترجم)، مرجع سابق، الموعظة رقم ١، ص٩٦. (المؤلف)
٨  في ظني أن المؤلف جانَبه الصواب هنا، ذلك لأن فكرة «الامتصاص» أو انحلال الفرد في اللامتناهي وهي الفكرة الهندية أساسًا، لا وجود لها في العالم الإسلامي بصفة عامة، ومع ذلك فشل في إنشاء مؤسسات ديمقراطية لأسباب تاريخية واجتماعية واقتصادية ودينية. في حين أن الهند تحاول تطوير نظام أقرب إلى الديمقراطية. راجع كتابنا «الطاغية»، الطبعة الثالثة، أصدرته مكتبة مدبولي بالقاهرة، عام ١٩٩٧م. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤