الفصل الأول

الأعمال الفنية الحداثية

يبدو مرجحًا أن أسلوب الشعراء في حضارتنا، بصورتها الحالية، لا بد أن يكون «صعبًا» بالضرورة؛ فحضارتنا تتضمن قدرًا كبيرًا من التنوع والتعقيد. هذا التنوع وذاك التعقيد، اللذان يلعبان على وتر من الإدراك المصقول، لا بد أن يُسفرا عن نتائج متنوعة ومعقدة. ولا بد للشاعر أن يصبح أكثر وأكثر شمولًا، وأكثر تلميحًا، وأكثر مراوغة، من أجل دفع اللغة، وخلخلتها إن لزم الأمر؛ لتتلاءم مع مقصده.

تي إس إليوت، «الشعراء الميتافيزيقيون» (١٩٢١)
أغطية المداخن التي تنبئ بنهاية العالم
تصيح في قبعة الرقيب المخملية
الحمير والطيور الورقية الأخرى
تقيَّأت مراسيم بابوية على القط.
محاكاة ساخرة من جيه سي سكوير لقصيدة رباعية كتبها تي إس إليوت

يدور هذا الكتاب حول الأفكار والأساليب التي تخللت الأعمال الفنية المجدِّدة في الفترة من عام ١٩٠٩ حتى عام ١٩٣٩. إنه لا يتحدث، في الأساس، عن «الحداثة»؛ أي الضغوط والمتاعب التي وقعت خلال هذه الفترة بفعل فقدان الإيمان بالدين، وتصاعد اعتمادنا على العلم والتكنولوجيا، وتوسع الأسواق، وتحويل كل شيء إلى سلعة بفعل الرأسمالية، ونمو الثقافة الجماهيرية وتأثيرها، واجتياح البيروقراطية للحياة الخاصة، وتغير المعتقدات بشأن العلاقات بين الجنسين. لقد كان لكل هذه التطورات تأثيرات خطيرة على الفنون، كما سنرى، ولكن فكرتي الأساسية هنا تتمثل في التحدي الذي يواجه فهمنا للأعمال الفنية الفردية.

يمكننا استخلاص فكرة أولية جيدة عن طبيعة الحداثة في العمل الفني من خلال النظر إلى بعض الصعوبات التي جالت بذهن إليوت؛ لذا سوف أتناول رواية ولوحة فنية وعملًا موسيقيًّا، وأتساءل إن كان بإمكانها أن تخبرنا عن طبيعة الفن في حقبتها (وتركز الأعمال الثلاثة جميعًا على جانب عظيم من الحداثة؛ ألا وهو الحياة في المدينة). سوف أحاول من خلال هذه الأعمال أن أوضح كيف يمكن أن يحدث تفاعل بين الأساليب التجديدية والأفكار الحداثية. وفي غضون ذلك، يتعين علينا تقبل بعض المشكلات الصعبة المتعلقة بالتأويل؛ إذ إن جميعها تنحرف بطرق مثيرة عن المعايير والمبادئ الواقعية للقرن التاسع عشر، والتي لا نزال نعول عليها بوجه عام لفهم العالم، ولكن روايات مثل «ميدل مارش» و«آنا كارنينا» (على الرغم من تركيزها على التوترات التي جلبتها المطالبات الجديدة فيما يتعلق بوضع المرأة) تبدو الآن وكأنها تأتينا من إطار فكري مستقر نسبيًّا، وتُقدَّم لنا عن طريق راوٍ ودودٍ — بدرجة أو بأخرى — وواضحٍ وذي مصداقية على المستوى المعنوي، ويخلق لنا عالمًا يتوقع منا إدراكه، وينتمي للماضي. ولكن الفن الحداثي أقل مباشرة من ذلك بكثير؛ فبمقدوره أن يجعل العالم يبدو غير مألوف لنا؛ إذ يعاد ترتيبه من خلال تقاليد وأعراف الفن.

«يوليسيس»

تبدو الكلمات الافتتاحية لرواية جيمس جويس «يوليسيس»، للوهلة الأولى، وكأنها قادمة من العالم الواقعي، ولكن المظاهر خادعة، وتصبح أكثر خداعًا مع تعمقنا أكثر في الرواية، وتصبح انحرافاتها الأسلوبية أكثر وضوحًا، على الرغم من أنها مرتكزة في الأساس داخل تاريخ دقيق إلى حد كبير.

في جلال، طلع باك موليجان من رأس السلم حاملًا دورقًا مملوءًا برغوة الصابون عليه مرآة وشفرة حلاقة وُضعتا متصالبتين. كان هناك روب أصفر اللون، غير محزم، مرفوع بخفة من خلفه على نسيم الصباح المعتدل. رفع الدورق إلى أعلى ورتَّل:

– سآتي إلى مذبح الرب.

ثم توقَّف عن الغناء وأطل برأسه لأسفل نحو الدَّرَج الملتف المظلم وقال بصوت أجش:

– اصعد يا كينتش. اصعد أيها اليسوعي المخيف!

يكمن الأسلوب الحداثي الأساسي هنا في صياغة جويس للإشارات الضمنية التي تقودنا لاستشعار حضور بنيات مفاهيمية أو شكلية. وهكذا، وكما يشير هيو كينر في دليله العبقري، في هذا الكتاب، الذي سيوازي أسلوبه السردي أسلوب «الأوديسا» لهوميروس، فإن الكلمات التسع الأولى تحاكي إيقاعات تفعيلة سداسية هوميروسية، والإناء الذي يحمله موليجان أيضًا، في عالم التلميح الضمني الموازي، يمثل كأسًا قربانية تستقر عليها أدوات حلاقته «متصالبة». والروب الأصفر يحاكي ثياب الكهنة — لأجل تلك الأيام التي لم يكن يُحدد فيها لون آخر — ذات اللونين الأبيض والذهبي. وعلاوة على ذلك، فإن كون الروب «غير محزم» (بمعنى أن حزام الروب غير مربوط، كما هو الحال بالنسبة للطقس الكهنوتي الخاص بإثبات العفة) يعني أن الكاهن عريان من الأمام، جاعلًا عورته مكشوفة يعبث بها الهواء الخفيف، وهو يعي ذلك أيضًا. وكلمة «يرتل» متعمدة؛ ففي أثناء استعداده للحلاقة يعزف أيضًا في «القداس الأسود» مع كاهنه العاري. إن الكلمات التي يتحدث بها، والتي تخص «أسقف القداس الكاثوليكي»، مشتقة من نسخة القديس جيروم اللاتينية من كلمات عبرية منسوبة إلى ناظم ترانيم في المنفى: «سوف أصعد إلى مذبح الرب.» لذلك فهو اقتباس من اقتباس من اقتباس، وهو بوجه عام صرخة استغاثة يهودية وسط الاضطهاد.

بالطبع لا يلاحظ من يقرأ لأول مرة كل هذا — أو ربما لا يحتاج لملاحظته — ولكن الكتاب ككلٍّ يصوغ مثل هذه المحاكيات، التي تعزز وعينا بالمتوازيات البنيوية المهمة؛ ومن ثَمَّ يشير كينر أيضًا إلى أنه:

قد نلاحظ أيضًا خلال قراءة أخرى لاحقة مدى ملاءمة عبارة مبدئية بعبرية متخفية، فيما يتعلق بكتاب بلوم؛ بطلها اليهودي، النسخة الحديثة من يوليسيس. لاحظ أيضًا أنه مثلما يتقمص الكاهن الروماني دور ناظم الترانيم، كان الوعي السياسي الأيرلندي في تلك السنوات يلعب دور «الشعب المختار» الأسير، مثل دور بريطانيا العظمى بالنسبة لبابل أو مصر.

تعد رواية «يوليسيس» حداثية بشكل نموذجي لأنها، على أقل تقدير، عمل يعبر عن الترابط التلميحي والموسوعي، مع اهتمام هائل بالتغيرات الثقافية التي تطرأ على حياة المدينة شأنه شأن «الأرض الخراب» أو «الأناشيد». ولعل أحد الأشياء التي يحققها جويس من هذا، بالنسبة للرواية، هو تنظيم خرافي وتاريخي أيضًا للسرد، وأيضًا وسيلة للمقارنة بين الثقافات بطرق ساخرة بشكل متنوع: كيف يكون الأيرلنديون «شعبًا مختارًا» مضطهدًا؟

كثير من تلك الأساليب أساسية لنا لفهم قدر كبير من الفن الحداثي، وأنا أقترح أن بوسعنا فحص «المادة الحداثية» (سواء كانت لوحة أو نصًّا أو عملًا موسيقيًّا) إلى جانب هذين البعدين: البعد الخاص بفكرة جديدة مثيرة للفكر، والبعد الخاص بأسلوب مبتكر. بالنسبة لجويس (وإليوت وباوند، ومن قبلهما ميلتون وبوب)، كانت فكرتا المقارنة الثقافية والتزامن هما المتاحتين من خلال أسلوب الإشارات الضمنية داخل النص.

«المدينة»

fig1
شكل ١-١: فرناند ليجيه، «المدينة» (١٩١٩). التكعيبية كمجموعة من تصوراتنا للمدينة.
في لوحة فرناند ليجيه الضخمة «المدينة» (١٩١٩) (الشكل ١-١)، علينا أن نواجه تأثير الرسم التكعيبي لبابلو بيكاسو، وجورج براك (ويتجسد الأخير في الشكل ١-٢)، الذي وصفه الناقد الفني لويس فوكسيل في نوفمبر ١٩٠٨ بأنه «شاب جريء لأقصى الحدود … يزدري الشكل، ويحوِّل كل شيء من أماكن وأشكال ومنازل إلى أشكال هندسية.» وهذا «التحويل» جزء من نزعة عامة نحو التجريد في الرسم الحديث توجد بأشكال متنوعة في أعمال هنري ماتيس، وخوان جريس، وفاسيلي كاندينسكي، وبيت موندريان، وخوان ميرو، وكثيرين آخرين. وقد كان تأثير هذا على الرسامين أمثال ليجيه يتمثل جزئيًّا في جعل شكل أو تصميم هندسي سِمَة أساسية لأعمالهم؛ لأن التكعيبيين كانوا قد دمَّروا، من عام ١٩٠٦ حتى عام ١٩١٢، الأعراف والمبادئ الواقعية لصالح منظور ثلاثي الأبعاد كان سائدًا في الفن منذ عصر النهضة، فكانت الأشياء في اللوحات التكعيبية تُقدَّم على نحو متناقض من أكثر من وجهة نظر داخل نفس سطح الصورة، وهذا أدى إلى:

إنشاء لوحة في إطار شبكة خطية أو هيكل خطي، واندماج الأشياء مع ما يحيط بها، واندماج العديد من الرؤى لشيء ما داخل صورة واحدة، واندماج عناصر مجردة وتمثيلية في نفس الصورة.

fig2
شكل ١-٢: جورج براك، لوحة «كنيسة القلب المقدس» (١٩١٠). تنطوي اللوحة والمبنى على أنواع متنافسة من العمارة الهندسية.

بدا هذا لكثيرين الابتكار الفني الأساسي الذي أتى به العصر الحديث، ومنذ ذلك الحين تأثرت معظم اللوحات به أو عرفت نفسها في إطاره؛ فقد انطوى على انحراف جذري عن الخداع الواقعي. ويمكننا أن نرى هذا التأثير في لوحة ليجيه. وقد وصفها كيرك فارندو بأنها «لافتة إعلانية يوتوبية للحياة المدنية في عصر الماكينات». يمكننا أن نرى كيف أنها تحمل عناصر المنظور المنحسر، مثل السلالم في المنتصف، والتي تتناقض أو لا تتسق مع الأسطح المتداخلة إلى اليسار وإلى اليمين؛ فهناك عوارض، وعمود، وما يشبه ملصق حائط، وربما مدخنة على سفينة، ولكن هذه الأشياء لا تشكل مشهدًا متماسكًا؛ فهي مرسومة داخل مجموعة من الأشكال المتداخلة شبه التمثيلية. والأشياء التي «يجب» أن تُرى قريبة أو بعيدة، وهكذا على مقاييس مختلفة أحدها بالنسبة للآخر، ليست في نصابها الصحيح (على سبيل المثال، الأشكال البشرية الأنبوبية)؛ فالأشياء هنا غير مرتبة وفقًا لوسيلة تمثيلية تقليدية، ولكنها وضعت متجاورة من قِبل الفنان في حالة من التزامن داخل سطح اللوحة. لقد قام ليجيه بترتيب عدد من العناصر المتمايزة هندسيًّا، والتي تشبه المدينة من أجل تشكيل تصميم مجرد (ثمة فن مماثل للغاية؛ وهو فن التجاور المتناقض بدلًا من الارتباط المنطقي، يوجد في أشعار جيلوم أبولينير وتي إس إليوت في هذه الفترة). وقد استخدم العديد من الفنانين التكعيبيين مواد رائجة (مثل كئوس الخمر، والألواح الفولاذية، والجرائد، وما إلى ذلك) كأساسٍ للوحاتهم؛ ومن ثم فمن المغري أن ننظر إلى لوحة «المدينة» أيضًا بوصفها محاكاة لتأثيرات ملصقات الدعاية الضخمة في المدينة (ولذلك خلفت رسوم جيمس روزينكيست التصويرية، المنتمية للفن الشعبي، ليجيه في هذا المقام).

مرة أخرى، يقف جانبان من جوانب الثقافة: شكلية «راقية»، ومضمون شعبي «متدنٍّ»، أحدهما في مواجهة الآخر. وهذا النوع من التفاعل يشكل أهمية هائلة للحداثة. إن لوحة ليجيه تعد حداثية؛ لأنها تستغل لغة أو قواعد نحوية جديدة من أجل اللوحة، بمبادئ جديدة للتنظيم، فتجد عناصرها غير متناسقة معًا بأي حال من الأحوال كتناسقها داخل القواعد الواقعية. ويبقى اكتشاف تشابه أجزاء اللوحة مع العالم أمرًا متروكًا لنا، ولكنه يعتمد أيضًا على تعلمنا كيفية تقدير نظم التجريد الحديثة، والطرق التي قد تتلاءم فيها على نحو مُرضٍ داخل أي تصميم.

«أوبرا البنسات الثلاثة»

ليست كل الأعمال الحداثية تجريبية بهذا الشكل الجَليِّ، ومثالي المستمد من الموسيقى أسهل كثيرًا في فهمه ظاهريًّا، والواقع أنه شعبي من حيث الشكل في الأساس، ومليء بالإيقاعات الراقصة المعاصرة المُطعَّمة بنغمات حداثية «خاطئة». تتبع «أوبرا البنسات الثلاثة»، التي كتبها كيرت فايل لنصٍّ من تأليف برتولد بريخت، أسلوبَ جون جاي من خلال استخدام ألحانٍ شعبية (لكنها أصلية في هذه الحالة) تجعل العمل أقرب كثيرًا إلى عرض في ملهًى ليلي منه إلى عرض لفيردي أو فاجنر؛ فالمحتالون والشحَّاذون ومَن يديرون ألعاب القمار المقيمون بسوهو، في أواخر العصر الفيكتوري، في رواية بريخت، يسيرون في خطٍّ متوازٍ ومتباين مع الأشقياء في «أوبرا الشحاذ» الأصلية التي ألَّفها جاي؛ ففي رواية جاي، يلعب بيخوم دور شخص يتلقى بضائع مسروقة. أما في رواية بريخت فيقوم بتنظيم مافيا من المتسولين المحترفين. وغالبًا ما تكون الأساليب الموسيقية محاكاة ساخرة لأساليب سابقة؛ ومن ثم يتجسد التلميح الضمني مرة أخرى، على سبيل المثال، في المقدمة التي تتخللها لحظات من موسيقى هاندل ومحاولة في موسيقى الفوجا. هذا التذبذب الأسلوبي له وظيفة مهمة؛ إذ يفترض به أن يصعب علينا أكثر أن نصبح مندمجين مع الشخصيات على نحوٍ متواصل ومتعاطف، كما كنا سنفعل في الأوبرا السابقة؛ لذا:

عند الغناء، يقوم الأبطال «بتبني مواقف» وليس إخبارنا بأي شيء عن شخصياتهم أو مشاعرهم الحقيقية، والتي لا يحوزونها على وجه التحديد، على الأقل بأي معنًى تقليدي؛ فالعلاقة بين الكلمات والموسيقى ليست إطنابية وغامضة على نحو متعمد؛ فالكلمات يمكنها أن تقول شيئًا، بينما تقول الموسيقى شيئًا آخر.

وهناك راوي المسرح الذي يصنع سردًا «ملحميًّا» منفصلًا للأحداث (ففي النص الأوبرالي الذي يعود لعام ١٩٢٨، والذي كان بريخت يعتقد أنه تجربة ناجحة في نوع جديد من «المسرح الملحمي»، كان يتم تشجيع المنتجين على عرض النصوص السردية المترابطة على الشاشات). ويعدُّ ذلك استخدامًا مبكرًا لتلك الأساليب الإبعادية أو «التغريبية» التي تشكل أهمية للتطور اللاحق للدراما السياسية البريختية، كما سنرى. والشيء الحداثي المميز هنا هو وجود عداء للأفكار «البرجوازية» المتعلقة بالتعاطف والاندماج؛ لارتباطها بالواقعية التقليدية (كما في أوبرا «فيرسيمو» لبوتشيني، أو الحركة في «الفارس ذو الوردة»، على الرغم من علاقتها بالفالس الفييني الأشبه بمحاكاة ساخرة)، وعليه يكون ابتكار بريخت للعديد من التأثيرات التحررية النقدية التغريبية، المُصمَّمة لمساعدة الجماهير، ليس «لاستنزاف» العمل، ولكن للتراجع خطوة إلى الخلف؛ من أجل التفكير والتدبر في الدلالة السياسية للشخصيات في القصة، وليس للتعاطف مع مشاعرهم كأفراد والتغذي عليها. ففي النسخة الأصلية من مشهد الإعدام الأخير، يخرج ماك ذا نايف (أي ماكهيث) من سياق دَوره ليُجادل، في مواجهة صوت «مؤلف» قادم من وراء الكواليس، بأن المسرحية لا يشترط أن تنتهي بإعدامه.

تشترك الرواية مع كثير من الفن الحداثي في كونها تنأى بنفسها عن الماضي بمحاكاته على نحو ساخر. فدافع «الفعل الدموي» المرتبط بماك ذا نايف يعد محاكاة ساخرة بسيطة لتخصيص فاجنر فكرة موسيقية متكررة للشخصية؛ فتجد القصيدة الغنائية لقواد، ودويتوهات ماكي وبولي الغرامية الكاريكاتيرية مدهشة وغريبة. وعلى ذلك فإن «أوبرا البنسات الثلاثة» ضد الفردية التعبيرية، وضد الرومانسية. وبحسب تعبير فايل في أحد الحوارات عام ١٩٢٩، مستخدمًا منطقًا يساريًّا نموذجيًّا مفاده «بعد هذا، لم يعد لذاك وجود»: «إن هذا النوع من الموسيقى هو رد الفعل الأكثر توافقًا تجاه فاجنر؛ فهو بمنزلة دلالة على الانهيار التام لمفهوم الدراما الموسيقية.» وقال فليكس سالتن (في مراجعة للعرض المقدم في عام ١٩٢٩ في فيينا): إن الموسيقى «مثيرة في إيقاعها كأبيات القصائد الشعرية، وتافهة، وزاخرة بالتلميحات على نحو مدروس ورائع كالقوافي التعميمية، وخفيفة في معالجة الجاز للآلات الموسيقية، ومعاصرة وجريئة ومليئة بالمرح والعنف مثل النص.»

التنويع الأسلوبي

هذه أعمال تشير إلى اتجاهات مختلفة من شتى الأنواع، وسيكون من التضليل استخدامها لوضع أي حدود صارمة «للحداثة» أو لتقديم «تعريفات» لها؛ فقد كانت تضم شتى أنواع الأشياء. وهذا التعدد والارتباك كان واضحًا في ذلك الوقت، كما يمكن أن نرى من التعريفات المتناقضة والاستراتيجيات التفسيرية التي طُبِّقت آنذاك على الأعمال الفنية الجديدة. على سبيل المثال، حين شاهد إف إس فلينت، الذي شارك مع إزرا باوند في الترويج لما يسمى «المدرسة التصويرية» في الشعر، باليه «العرض» (١٩١٧)، الذي جمع بين موسيقى إريك ساتيه التصويرية المستوحاة من الموسيقى والملابس ذات الطراز التكعيبي من تصميم بيكاسو، ونص أوبرالي ساذج تمامًا من تأليف جان كوكتو، وذلك في ساحة إمباير ليستر سكوير في لندن؛ تساءل:

أي عبارة يمكن أن تصفه؟ تكعيبي مستقبلي؟ نَظمٌ حرٌّ حسي؟ موسيقى جاز من آلة بلاستيكية؟ الشكل الزخرفي الغريب؟ لا يوجد أي انسجام به. إن البرنامج لا يفيد كثيرًا. إنه يخبرك أن الفترة هي القرن الثامن عشر، والموضوع يدور حول المحاولات العابثة لمنظمي أحد العروض لجذب العامة للدخول إلى أكشاكهم، ولكنك تبدأ في التساؤل عما إذا كان تحليل البرنامج للباليه المعروض حديثًا ليس مجرد جزء آخر من فكاهة السيد ماسين، حين تكتشف «المدير الأمريكي» متنكرًا في هيئة ناطحة سحاب، و«المدير» كطرفة معمارية أخرى، ومديري السيرك وقد ارتطموا معًا بأَظرف أحصنة البانتومايم التي شوهدت على الإطلاق. يسهل تمييز السيد ماسين في دور العراف الصيني، وكذلك الحال بالنسبة لمدام كارسافينا في دور الطفلة الأمريكية المضحكة، لا على طراز القرن الثامن عشر ولكن على طراز القرن العشرين، وقد ارتدت معطف بحار ورابطة بيضاء ضخمة في شعرها، ولا يمكن لأحد أن يخطئ الآنسة نيمتشينوفا والسيد زفيرف في دور لاعبي الأكروبات في رداءيهما الأزرق الضيق.

بحلول تلك الفترة (نوفمبر ١٩١٩)، كان هناك، بالنسبة إلى فلينت والآخرين جميعًا، العديد من الأساليب والطرق الجديدة وجدت في الفن المعاصر؛ وذلك بفضل الازدهار الكبير للتغيير التقني من عام ١٩٠٠ حتى عام ١٩١٦؛ ففي الفن، تخلَّى أنصار الحركة الفوفية أو الوحشية، الذين يحذون حذو جوجان وفنسنت فان جوخ، عن اللون المحلي؛ بحيث كان من الممكن أن تكون الشجرة زرقاء، وتخلى التكعيبيون عن منظور النقطة الواحدة، واتجه كاندينسكي نحو نوع من الفن التجريدي لم يبدُ أنه يمثل الأشياء في العالم الواقعي على الإطلاق. كان جويس منخرطًا في الحلقات الأكثر تجريبية من «يوليسيس»، التي كتبت جميعًا بأساليب شديدة التنوع، مستخدمًا جميع شخصيات كتب البلاغة في «أيولوس»، وتحريف موسيقيٍّ لمقاطع وقواعد لغوية في «حوريات البحر»، ومحاكيات ساخرة لأساليب النثر من الأنجلو ساكسون حتى الأمريكية الحديثة في «الثيران»، والأدب الشعبي في «نوسيكا»، وكل شكل من أشكال الفانتازيا الدادائيَّة والتعبيرية والسريالية في «سيرس»، وغير ذلك كثير. وقد اخترع أرنولد شونبرج وأتباعه موسيقى لا مقامية رفَضتْ، شأنها شأن الفن التكعيبي، تنسيق العمل بالإشارة إلى نقاط التنظيم المقامية المركزية؛ ومن ثم هُجر الترتيب الهرمي للعلاقات الوترية التي ظلت لها الغلبة لقرون، وابتكرت حرية جديدة للترابط بين الأصوات، فصنع إيجور سترافينسكي تكوينات إيقاعية شاذة على نحو بالغ لم يسمع بها من قبلُ في «طقوس الربيع» (١٩١٣)، وقامت التجارب الشعرية لكلٍّ من جيلوم أبولينير، وبليز سندرار، وإزرا باوند، وتي إس إليوت، وأوجست سترام، وفليبو توماسو مارينيتي، بتجميع ومجاورة أجزاء السرد والمجاز، مستبعدةً العديد من تلك الوصلات المنطقية والنحوية التي كانت فيما مضى تصوغ قصة للقارئ.

كل هذا أدى إلى تنويع أسلوبي في كل واحد من الفنون التي كانت أساسية ومحورية لفترة الحداثة. ويعد بيكاسو معتنقًا تقليديًّا لهذا، وكان يجيد الاستعارة من الآخرين. فعلى مدار مشواره المهني المبكر، راح يتطور بالانتقال من المحاكيات الانطباعية الأولى إلى «المرحلة الزرقاء»، ثم إلى مرحلة تكعيبية، وصولًا إلى مرحلة كلاسيكية حديثة. إن تطوره ليس خطيًّا، وإنما تراكميًّا ومتشابكًا؛ فيتوافر لديه العديد من أساليب التعبير، مثل جويس، وسترافينسكي، وإليوت. فقانون فن الماضي بالنسبة لهؤلاء الحداثيين متاح دومًا لإعادة التفسير، والتقليد، وحتى المحاكاة الساخرة أو المزج بين عدة أعمال. وعن ذلك قال بيكاسو: «بالنسبة لي، لا يوجد ماضٍ أو مستقبل في الفن، وشخصية هؤلاء الفنانين هي — في النهاية — ما تجمع الأشياء معًا (وهذا هو السبب في إمكانية اعتبار مجموعة «الاقتباسات» الواردة في «الأرض الخراب» لإليوت اعترافًا جنسيًّا، على الرغم من تأييده لفكرة «التجرُّد»، تمامًا مثل مجموعة التشويهات غير العادية التي يلحقها بيكاسو بأجساد النساء).

قال بيكاسو: «لو كانت الموضوعات التي أردت التعبير عنها قد أوحت بأساليب مختلفة للتعبير لما ترددت لحظة في تبنِّيها.» وهذا الاختيار الحداثي للأساليب ليس دلالة على التذبذب وعدم الاستقرار، ولكنه جانب من جوانب الحرية؛ فتنوع الأساليب هو ديمقراطية حرة في الفن. وكما سنرى، فقد كانت الديكتاتوريات النازية والسوفييتية هي التي طالبت بارتداد صريح عن الحداثة، والعودة إلى وحدة رسمية في الفنون متمثلة في الأسلوب الواقعي.

الأسلوب والفكرة

ولكن هنا يثار السؤال حتمًا: ماذا كان الهدف من كل هذه التجربة الفنية؟ ما الفكرة التي كانت تحاول توضيحها؟ يتضمن جزء من الإجابة، بالنسبة للأعمال الثلاثة المستعرضة أعلاه، مقارنة ثقافية، والتزامن المتعارض للتجربة الحضرية الحديثة، والمسافة الحرجة التي أتاحتها المحاكاة الساخرة. وإذا تسنَّى لنا الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق نحو فهم الفن الحداثي. ونحن بحاجة، على نحو خاص، إلى معرفة كيف كانت هذه التغيرات الفنية مدفوعة بأفكار جديدة، أو تغيرات في المخطط المفاهيمي لفنان من نوعية ثورية. إن الفنان في عملية القيام بالاكتشافات الشكلية يكون مدعومًا بتوقُّع متمثل في أنها ستكون ذات أهمية فيما يتعلق بمحتوًى بعينه. أي إنها ستؤدي إلى مكسب معرفي؛ لأن التطور الفني والتجريبي الذي نراه في العمل الحداثي ينبع على نحو شبه دائم من تغيرات عميقة في الافتراضات الفكرية للفنانين. فالأفكار الكامنة في عقول الرجال والنساء، كتلك المتعلقة بالنفس، والخرافة، والعقل الباطن، والهوية الجنسية، والتي أخذها الحداثيون من جهابذة أمثال: فردريك نيتشه، وهنري برجسون، وفليبو توماسو مارينيتي، وجيمس فريزر، وسيجموند فرويد، وكارل يونج، وألبرت أينشتاين وآخرين، هي التي تصنع الثورات الثقافية. فالفكرة — سواء فكرة خلق إشارات ضمنية عبر الثقافات، أو البحث عن نموذج تحليلي شبه علمي — تحفِّز تغيرًا في الأسلوب الفني. وهذه الإنجازات الفذة بطبيعتها «تقدمية»؛ لأنك ما إن تتمكن من إتقان الأسلوب (أو من محاكاته على أقل تقدير، مثلما فعل صغار التكعيبيين؛ أمثال: ألبرت جليزس، وجان ميتزينجر) حتى يصبح بمقدورك أن تفعل شيئًا لم تستطع فعله من قبل.

وهكذا قدمت أكثر الأعمال الحداثية تأثيرًا إجراءات نموذجية أمكن استخدامها فيما بعد لأغراض متنوعة كثيرة، كجزء من حركة حداثية تقدمية بوجه عام، موجهة نحو «الجديد». ومن ثم تقوم لوحة «المدينة» بتطوير نموذج التكعيبية. وفكرة أن المدينة، مثل جريدة يومية (مثلما أشار المستقبلي مارينيتي)، هي مكان الأحداث المتزامنة التي لا يسعنا سوى وضع أحدها بجوار الآخر. ومع ذلك، تقوم فيرجينيا وولف، التي لم تجد في نفسها الكثير من القبول للنبرة الأخلاقية في «يوليسيس»، بتوسيع نموذجها في روايتها «السيدة دالواي» (١٩٢٧)، التي تتبع تيار الوعي الخاص بشخصياتها الأساسية على مدى أربع وعشرين ساعة من الحياة في إحدى المدن الكبيرة. وتستخدم نقاطًا طوبولوجية وزمنية مركزية لتوجيه الشخصيات والقارئ (فيتحول عمود نيلسون في رواية جويس إلى ساعة بج بن لدى وولف)، وتؤسس حبكتها الدرامية على اللقاء الذهني الذي أُرجئ طويلًا بين شخصين متضادين: أحدهما صغير، والآخر أكبر سنًّا.

إذن كي نفهم أي تجديد، نحتاج لفهم النموذج الفكري الذي يستخدمه الفنان أو العالم. يمكننا أن نتساءل ما إن كان مارسيل بروست، أو تي إس إليوت، أو جيمس جويس، أو فيرجينيا وولف قد وضعوا افتراضات برجسونية بشأن الذاكرة وطبيعة العقل أو النفس، أو نتساءل: إلى أي مدًى كانت فرويدية ريتشارد شتراوس في «إلكترا»، أو أرنولد شونبرج في «التوقع»؟ غير أنه من أجل نقل قناعة تاريخية، يحتاج الفنان المجدد أيضًا إلى أن يكون مدعومًا بأدلة على انتشار الفكرة؛ كالإيعاز بتحليل مثير للقلق للطرائق والمعتقدات التقليدية. وهكذا تقدم «أوبرا البنسات الثلاثة» وأعمال بريخت التالية منظورًا «تغريبيًّا» جديدًا عن الشخصية الفردية. وفي سياق ذلك، تحاول تشجيع منظور ماركسي مناهض للرأسمالية فيما يخص العلاقات الطبقية. وهذا الجانب من أي معارضة مجددة لما مضى ضروري لوصف الحقب الفنية؛ لأنه يساعدنا على إبراز التغيرات في الحالات الذهنية والشعورية السائدة التي تخللتها؛ ولذلك أتحول في الفصل التالي إلى الحركات الحداثية وعلاقتها بالتقليد الثقافي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤