الفصل الخامس

البحث في الشبكات

أثار ستانلي ميلجرام، في الواقع، قدرًا كبيرًا من الجدل على مدار معظم حياته المهنية؛ أظهر ميلجرام، الذي يعد أحد أعظم علماء علم النفس الاجتماعي في القرن، نبوغًا في تصميم التجارب التي سبرت أغوار الحد الغامض الفاصل بين عقول الأفراد والبيئة الاجتماعية التي يعملون فيها عادةً. كانت نتائج هذه التجارب مدهشة في أغلب الأحيان، لكنها مزعجة وبغيضة أحيانًا؛ ففي أشهر الدراسات التي أجراها ميلجرام، جلب إلى معمله في جامعة ييل أعضاء بمجتمع نيو هيفن المحلي، بهدف ظاهري هو المساهمة في دراسة التعلم البشري، وعند وصولهم، قُدِّم كل مشارك إلى الشخص الخاضع للتجربة، وطُلِب منه أن يقرأ عليه مجموعة من الكلمات ليرددها وراءه، وفي حال ارتكاب الشخص الخاضع للتجربة خطأ ما، فسيكون عقابه صدمة كهربائية يعطيها له المشارك، ومع كل خطأ متعاقب تزيد قوة التيار الكهربي للصدمة، لترتفع في النهاية إلى مستويات ضارة، بل مميتة أيضًا، في تلك الأثناء يأخذ الشخص الخاضع للتجربة في التأوه والصياح والتوسل طلبًا للرحمة والتقلب في أغلاله، والمشاركون الذين يعترضون أو يحتجون على ما طُلِب منهم فعله بإنسان آخر يأمرهم بالاستمرار مشرف قاسٍ يرتدي معطفًا أبيض ويحمل لوحًا لتدوين الملاحظات. الخطير في الأمر أنهم لم يُجبَروا فعليًّا على فعل أي شيء، ولم يُهدَّدوا أبدًا بتوقيع عقاب عليهم، وإذا كانوا قد رفضوا الاستمرار في أي مرحلة، كانت التجربة ستُلغَى دون أي عواقب.

كانت التجربة برمتها مزيفة بالطبع؛ فلم تكن هناك صدمات حقيقة، وما كان الشخص الخاضع للتجربة سوى ممثل. كان الهدف الحقيقي هو رؤية ما سيفعله الأفراد ذوو الإرادة الحرة لشخص آخر عندما يرون أنهم ينفذون الأوامر وحسب. أُخبِر المشاركون في النهاية بكل ذلك، لكن أثناء التجربة ظنوا أن الأمر حقيقي، مما جعل سلوكهم يثير القلق. في إحدى صور الاختبار حيث كان للمشاركين دور فعال في التجربة، لكن الصدمات نفسها كان يعطيها وسيط، رفع سبعة وثلاثون من المشاركين البالغ إجمالي عددهم أربعين فردًا قوة التيار الكهربي إلى مستويات مميتة، الأمر الذي جعل ميلجرام يتوصل إلى نتيجة مخيفة، وهي أن النظم البيروقراطية التي باعدت بين الأفراد والعواقب النهائية لأفعالهم كانت الأكثر فعالية في ظهور الوحشية. وفي تجربة أخرى، كان مطلوبًا من المشارك تثبيت يد الشخص الخاضع للدراسة على لوح كهربائي أثناء تعرضه للصدمة! حتى في الوقت الحالي تصعب قراءة تقرير ميلجرام المتميز عن عمله، الذي يحمل عنوان «طاعة السلطة»، دون الشعور بقشعريرة تسري في جسدك من حين لآخر، لكن في السياق الأيديولوجي لفترة ما بعد الحرب في أمريكا في خمسينيات القرن العشرين، تحدَّت نتائج أبحاث ميلجرام معتقدات سائدة، وأثارت التجربة الغضب القومي.

مع ما تثيره هذه التجربة من جدل عظيم، فقد دفعت ميلجرام بالفعل إلى مصاف المفكرين الجماهيريين الذين يتذكر الناس أعمالهم ويتحدثون باستمرار عنها على نطاق واسع، إلى أن صارت جزءًا راسخًا من الثقافة نفسها. لا تزال نتائج تجارب ميلجرام تصعقنا (إن جاز التعبير)، لكننا لا نتشكك في صحتها، مع أن تجاربه لم يكررها أحد على الإطلاق (في الواقع، لا يمكن تكرارها في ظل القواعد الخاصة بإجراء التجارب على البشر في عصرنا الحالي). أيضًا نحن لا نتشكك بوجه عام في بحثه في مسألة العالم الصغير (الموضح في الفصل الأول)، لكن نظل ننظر لنتائجه على أنها مثيرة للاهتمام ومدهشة. لقد سمع الجميع عن «ست درجات من الانفصال»، لكن أغلب الناس يجهلون أصل العبارة، وعدد قليل جدًّا منهم تحقق بعناية من نتائج ميلجرام الفعلية، وحتى الباحثون الذين يستشهدون ببحث ميلجرام الأصلي، والذين قد يظن القارئ أنهم دققوا فيه بعناية، قبلوا بنتائجه ببساطة استنادًا إلى معانيها الظاهرية.

ثمة نقطة مهمة تتعلق بالعلم في هذا الجانب؛ فمن ناحية، تكمن قوة أي مشروع علمي في طبيعته التراكمية: يصل العلماء إلى المشكلة المحددة التي يتناولونها وهم مدعومون بقدر مقبول من المعرفة المسبقة، والتي يتوقعون الاستناد إليها دون التحقق من صحة كل وسيلة أو افتراض أو مجموعة حقائق يستخدمونها، وإذا حاولنا جميعًا فهم كل شيء من أصوله، أو صممنا على فهم كل جزء من اللغز بالقدر نفسه من التفصيل، فلن يصل أيٌّ منَّا إلى أي شيء؛ لذا — إلى حد ما — علينا أن نقبل بأن ما سلَّم المجتمع ذو الصلة بصحته قد أُجري على نحو صحيح ودقيق، ويمكن الاعتماد عليه.

لكن من ناحية أخرى، فإن العلماء بشر، شأنهم في ذلك شأن العاملين في أي مجال آخر، ويدفعهم باستمرار عدد من العوامل أكثر بكثير من البحث الخالص عن الحقيقة العلمية، ونظرًا لما يتسم به العلماء من عيوب بشرية من ناحية، ولأن الحقيقة نفسها قد يصعب للغاية تبيُّنها من ناحية أخرى، فإن العلماء يرتكبون أخطاء، أو يسيئون تفسير ما يتوصلون إليه من نتائج، أو يسمحون لغيرهم بإساءة تفسيرها، ونظرًا لتوقُّع حتمية هذه الأخطاء، يوظف النظام عددًا من الآليات، كمراجعة النظراء، والمؤتمرات والندوات الأكاديمية، ونشر الأبحاث المعارضة، التي تستبعد الكثير من الأخطاء، لكن هذه العملية بعيدة كل البعد عن الكمال، وبين الحين والآخر نفاجأ باكتشافنا أن جزءًا من معرفتنا، التي طالما سلَّمنا بصحتها، موضع شك أو حتى خطأ.

(١) ما الذي أوضحه ميلجرام حقًّا؟

توصلت عالمة النفس، جوديث كلاينفيلد، بالمصادفة إلى ما يبدو الآن نموذجًا كلاسيكيًّا للإيمان الموضوع في غير محله، وذلك أثناء تدريسها علم النفس لطلاب الجامعة. كانت جوديث تقدح زناد فكرها للتوصل إلى تجربة عملية يمكن لطلابها إجراؤها وتمنحهم شعورًا بإمكانية تطبيق ما كانوا يتعلمونه في المحاضرات على حياتهم خارج الفصل الدراسي. بدت تجربة ميلجرام عن العالم الصغير الاختيار الأمثل، فقررت كلاينفيلد أن تجعل طلابها يكررون التجربة بأسلوب القرن الحادي والعشرين، باستخدام البريد الإلكتروني بدلًا من الخطابات الورقية، وما حدث هو أنها لم تنفِّذ التجربة فعليًّا على الإطلاق؛ فأثناء الإعداد للتجربة نفسها، بدأت بقراءة أبحاث ميلجرام، وبدلًا من أن تشكل نتائج ميلجرام أساسًا قويًّا لتجربتها، بدت تلك النتائج — عند فحصها بعناية — لا تؤدي إلى شيء سوى طرح أسئلة مزعجة بشأنها.

تذكر أن ميلجرام بدأ السلاسل التي عمل عليها بنحو ثلاثمائة شخص كانوا يحاولون جميعًا إيصال خطاباتهم إلى هدف واحد في بوسطن. تشير القصة التي يرويها الجميع إلى أن الأشخاص الثلاثمائة كانوا يعيشون في أوماها، لكن عند التدقيق نجد أن مائة منهم كانوا في الواقع في بوسطن! بالإضافة إلى ذلك، من بين الأفراد البالغ عددهم نحو مائتي شخص في نبراسكا، لم يقع الاختيار العشوائي إلا على نصف هذا العدد فقط (من قائمة البريد التي ابتاعها ميلجرام)، أما النصف الآخر، فكانوا جميعًا مستثمرين للسندات الممتازة، والشخص المستهدف كان بالطبع سمسار أوراق مالية، والدرجات الست الشهيرة هي المتوسط المأخوذ من واقع هذه المجموعات الثلاث من الأفراد، وكما هو متوقع، يتفاوت عدد الدرجات كثيرًا فيما بينها، مع نجاح أهالي بوسطن ومستثمري الأوراق المالية في إكمال السلاسل على نحو أكثر نجاحًا وبعدد من الروابط أقل من عينة نبراسكا العشوائية.

تذكر أيضًا أن النتيجة المذهلة لفكرة العالم الصغير هي أن أي شخص يمكنه الوصول إلى أي شخص آخر؛ ولا يقتصر ذلك على الأفراد الموجودين في المدينة نفسها فحسب، أو من لديهم اهتمامات مشتركة قوية، بل أي شخص في أي مكان؛ لذا، فإن المجموعة الوحيدة التي أوفت في الواقع — وإن كان من بعيد — بشروط الفرضية كما يُعبَّر عنها عادةً (بواسطة ميلجرام نفسه)، تمثلت في الأفراد البالغ عددهم ستة وتسعين شخصًا الذين وقع عليهم الاختيار من قائمة بريد نبراسكا. في هذه المرحلة بدأت الأرقام في الانخفاض على نحو مزعج: من إجمالي ستة وتسعين خطابًا مبدئيًّا في هذه المجموعة من الأفراد، لم يصل إلى الشخص المُستهدَف سوى ثمانية عشر خطابًا! ثمانية عشر! أهذا ما أثيرت من أجله كل هذه الضجة؟ كيف يمكن لأي شخص أن يستنتج من ثماني عشرة سلسلة فحسب موجهة إلى شخص واحد مُستهدَف مبدأ عامًّا وشاملًا كالذي بدأنا في محاولة تفسيره؟ وكيف وافق بقيتنا على هذا دون الاعتراض قط بجدية على معقولية الفكرة في المقام الأول؟

أخذت كلاينفيلد، التي أربكت هذه الأسئلة تفكيرها، تفتش عن أبحاث لاحقة بقلم ميلجرام وغيره من الباحثين، مفترضةً أن الفجوة غير المدعمة ظاهريًّا بين النتائج العملية وتفسيرها اللاحق قد حظيت بدعم في مكان آخر. ومرة أخرى، أدهشها التوصل إلى أن هذا لم يحدث، بل كان العكس تمامًا في الواقع؛ فعلى الرغم من إجراء ميلجرام ومعاونيه تجارب أخرى بالفعل — أهمها كان بين السكان ذوي البشرة البيضاء في لوس أنجلوس ومستهدفين ذوي بشرة سوداء في مدينة نيويورك — فقد كانت تجارب محدودة مثل الأصلية إلى حد بعيد، بل إن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن عددًا صغيرًا فقط من الباحثين الآخرين هم من حاولوا تكرار نتائج ميلجرام، وكانت نتائجهم أقل إقناعًا من نتائجه. على سبيل المثال، سعت إحدى التجارب إلى الربط بين مُرسِلين ومستهدفين داخل الجامعة نفسها الواقعة في وسط الغرب الأمريكي، الأمر الذي يعد بالكاد اختبارًا لمبدأ عام!

ومع تزايد انزعاج كلاينفيلد مما كانت تتوصل إليه، انتهى بها الأمر وسط أرشيف جامعة ييل تبحث بعناية في ملاحظات ميلجرام الأصلية وكتاباته التي لم تنشر، ولا يزال بداخلها قناعة أنها غفلت عن شيء ما بالتأكيد، وكان الأمر كذلك بالفعل؛ فاكتشفت أن ميلجرام أجرى دراسة أخرى بالتوازي مع دراسة أوماها، واستخدمت هذه الدراسة مبتدئين من ويتشيتا بولاية كانساس، وزوجة طالب بمدرسة اللاهوت بجامعة هارفارد كشخص مُستهدَف. لقد ذكر ميلجرام هذه الدراسة بالفعل في بحثه الأول الذي نُشِر في مجلة «سايكولوجي توداي»؛ لأنها أنتجت أقصر سلسلة قاسها على الإطلاق: وصل الخطاب الأول للشخص المُستهدَف في أربعة أيام فحسب، ولم يستخدم سوى وسيطين فحسب. ما لم يذكره ميلجرام في ذلك البحث أو أي بحث آخر، هو أن هذا الخطاب الأول كان أحد ثلاثة خطابات فقط وصلت إلى الشخص المُستهدَف من إجمالي الخطابات الستين. كشفت كلاينفيلد أيضًا عن تقارير تتعلق بدراستَي متابعة كانت فيها معدلات استكمال السلاسل منخفضة للغاية، الأمر الذي أدى إلى عدم نشر أي نتائج، وكانت النتيجة النهائية لكلاينفيلد هي أن ظاهرة العالم الصغير، كما تُقدَّم لنا عادةً، ليس لها أساس تجريبي على الإطلاق.

بينما يُعَد هذا الكتاب للإصدار، نجري حاليًّا ما يُعتبر إلى حد بعيد أكبر تجربة عن العالم الصغير على الإطلاق، وذلك في محاولة تأخرت كثيرًا لحسم الأمر. يمكننا التعامل مع أعداد كبيرة من المُرسِلين والبيانات ما كان ميلجرام ليتخيلها، وذلك بواسطة استخدام البريد الإلكتروني بدلًا من الخطابات، والتنسيق بين الرسائل من خلال موقع إلكتروني مركزي، لدينا حاليًّا خمسون ألف سلسلة رسائل تصدر من أكثر من ١٥٠ دولة تحاول الوصول إلى ثمانية عشر شخصًا مستهدفًا في الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا الجنوبية وآسيا والمحيط الهادي. من أستاذ جامعي في إيثاكا (لن يمكنك أن تحرز هويته أبدًا) إلى مفتش أرشيف في إستونيا، ومن ضابط شرطة في غرب أستراليا إلى موظف في أوماها، يتنوع أشخاصنا المُستهدَفون في عالم مستخدمي الإنترنت البالغ عدده نصف مليار شخص متفرقين حول العالم. وفي الوقت نفسه، اختير المُرسِلون في هذه المهمة عن طريق التقارير الصحفية التي ظهرت عن التجربة بجميع أنحاء العالم، وصار يتصل بنا المئات منهم كل يوم.

ومع أن نصف مليار قد يبدو عددًا كبيرًا، فهو لا يزال أقل من تعداد العالم بالكامل، ومن المرجح أن مَن لديهم إمكانية الوصول إلى جهاز كمبيوتر (وما يكفي من وقت الفراغ) يمثلون قسمًا صغيرًا نسبيًّا من المجتمع العالمي، ومن ثم يصبح من الجلي أن نتائج هذه التجربة، وإن كانت كبيرة، لن يمكن تطبيقها عالميًّا، بالإضافة لذلك، تعاني التجربة مشكلة سبق أن واجهها ميلجرام أيضًا، لكن ليس بالقدر نفسه تقريبًا، وهي عدم الاهتمام: يتلقى الناس في العصر الحالي الكثير من البريد غير المهم، خاصة البريد الإلكتروني، أكثر من ستينيات القرن العشرين بكثير، ويرفضون في كثير من الأحيان المشاركة (أو يكونون مشغولين للغاية فحسب)، حتى إن طلب منهم أحد أصدقائهم ذلك، وتكون النتيجة معدل استكمال شديد الانخفاض؛ أقل من واحد بالمائة من جميع السلاسل التي تبدأ في الوصول إلى أهدافها (يجدر التذكر أن معدل الاستكمال الذي وصل إليه ميلجرام يبلغ ٢٠ بالمائة)؛ لذا، وعلى الرغم من الآمال العريضة التي نضعها على تجربتنا، فلم يحسم الأمر بعد، وقد يظل كذلك فترة طويلة، حتى عندما تُحلَّل النتائج التي توصلنا إليها بالكامل، ربما تكون الرسالة الفعلية هنا هي أن ظاهرة العالم الصغير صعبة للغاية، فلا يمكن فك طلاسمها تجريبيًّا.

(٢) هل الرقم ستة كبير أم صغير؟

إلى أين يفضي بنا كل ذلك؟ في النهاية، لقد قضينا وقتًا طويلًا محاولين فهم ظاهرة العالم الصغير. لن نشكك فيها الآن، أليس كذلك؟ ليس بالضبط، لكن هناك فارقًا مهمًّا بين ظاهرة العالم الصغير التي عرفناها في نماذج الشبكات وتلك التي بحثها ميلجرام؛ فارقًا تجنبنا التعرض له حتى الآن. تذكر هنا أن الدافع الرئيسي لتناولنا المسألة في الأساس كان صعوبة التحقق التجريبي منها، ومن ثم فإن الندرة المستمرة للأدلة التجريبية في حد ذاتها لا تمثل بالضرورة مشكلة لنتائجنا. تكمن المشكلة الحقيقية في وجود اختلاف كبير بين شخصين متصلين بمسار قصير (وهو ما تشير إليه نماذج شبكات العالم الصغير) وقدرتهما على العثور على هذا المسار. تذكر أن الأشخاص الخاضعين لدراسة ميلجرام كان من المفترض أن يعطوا الخطاب إلى شخص واحد يرون أنه أقرب للشخص المُستهدَف مقارنةً بهم، لكن ما لم يكن من المفترض منهم فعله هو إرسال نسخ من الخطاب إلى كل شخص يعرفونه، لكن هذا بالضبط هو الحساب الذي أجريته أنا وستيف في تجاربنا العددية، والذي تعبِّر عنه ضمنيًّا تقاريرنا عن أقصر أطوال المسارات، ومن ثم، من المحتمل جدًّا أننا نحيا في عالم صغير، مثل نماذج شبكات العالم الصغير الموضحة في الفصلين الثالث والرابع من هذا الكتاب، لكننا ما زلنا نشكك في صحة نتائج ميلجرام.
من الطرق الأخرى للتعبير عن الاختلاف بين اختبارنا للعالم الصغير واختبار ميلجرام هو التعبير عنه كتناقض بين «بحث واسع الانتشار» و«بحث موجه»؛ في البحث واسع الانتشار، تخبر كل من تعرفهم ليخبروا بدورهم كل شخص يعرفونه، وهكذا حتى تصل الرسالة إلى الهدف، ووفقًا لهذه القواعد، إذا كان هناك ولو حتى مسار واحد قصير يصل بين المصدر والهدف، فسوف تعثر إحدى هذه الرسائل عليه. يتمثل الجانب السلبي هنا في أن الشبكة قد أُتْخِمَت بالرسائل تمامًا، فخضعت جميع المسارات للدراسة باعتبارها مسارات محتملة للوصول إلى الوجهة. لا يبدو هذا جيدًا، وتلك هي الحقيقة بالفعل؛ ففي الواقع، هذه هي الطريقة التي تعمل بها فيروسات الكمبيوتر المزعجة بالضبط، وسوف نناقش ذلك بمزيد من الإسهاب في الفصل السادس.

أما البحث الموجه، فهو يفوق البحث واسع الانتشار بكثير في دقته، وله مزايا وعيوب مختلفة؛ في البحث الموجه، مثل تجربة ميلجرام، تُنقَل رسالة واحدة فقط في كل مرة، ومن ثم، إذا كان طول أحد المسارات بين شخصين عشوائيين ست خطوات مثلًا، فسيتلقى ستة أشخاص فقط الرسالة، وإذا كان الأشخاص الخاضعون لتجربة ميلجرام قد أجروا أبحاثًا واسعة الانتشار من خلال إرسال الرسائل إلى كل شخص يعرفونه، فسيتلقى الخطابات كل شخص في المدينة بأكملها — حوالي ٢٠٠ مليون شخص في ذلك الوقت — وذلك للوصول إلى شخص مُستهدَف واحد فقط! ومع أنه من الناحية النظرية، كان من الممكن للبحث واسع الانتشار العثور على أقصر مسار إلى الهدف، فإن ذلك مستحيل من الناحية العملية؛ فمن خلال مشاركة ستة أشخاص فحسب، يتجنب البحث الموجه الضغط على النظام، لكن تصير مهمة العثور على مسار قصير أكثر صعوبة بقدر كبير، وحتى إن كنت، نظريًّا، تبتعد عن أي شخص آخر في العالم بست درجات فحسب، فلا يزال هناك ستة مليارات شخص في العالم، وهذا القدر نفسه على الأقل من المسارات المؤدية إليهم. كيف يمكننا العثور على المسار القصير المحدد الذي نسعى إليه في ظل المعاناة من الحيرة الناتجة عن هذا التعقد المذهل؟ حسنًا، إنه أمر صعب؛ على الأقل عندما يكون المرء بمفرده.

قبل ظهور لعبة كيفن باكون بكثير، اعتاد علماء الرياضيات ممارسة لعبة مماثلة مع بول إيردوس؛ فإيردوس، الذي لم يكن عالم رياضيات عظيم (وغزير الإنتاج) فحسب، بل أيضًا أحد مشاهير عالم الرياضيات، كان يُنظَر إليه كمركز لعالم الرياضيات على نحو يشبه كثيرًا وضع باكون في عالم ممثلي الأفلام السينمائية، ومن ثم إذا كان المرء قد نشر بحثًا مع إيردوس، فرقم إيردوس الخاص به سيكون واحدًا، وإذا لم ينشر بحثًا معه، لكن تعاون في كتابة بحث مع شخص آخر فعل ذلك، فسيكون رقمه اثنين، وهلم جرًّا؛ لذا فإن السؤال هو: «ما رقم إيردوس الخاص بك؟» والهدف من اللعبة هو الحصول على أصغر عدد ممكن.

بالطبع، إذا كان رقم إيردوس الخاص بك واحدًا، فستكون المشكلة هينة، وحتى إن كان اثنين أيضًا، فليس الأمر بالغ السوء. إيردوس رجل شهير، ومن ثم من المرجح أن يذكر كل مَن عمل معه هذا الأمر، لكن عندما يصبح رقم إيردوس أكبر من اثنين، تزداد المشكلة صعوبة؛ لأنك حتى إن كنت تعلم معاونيك جيدًا، فأنت لا تعلم بوجه عام كل من تعاونوا معهم. إذا كنت قد قضيت فترة من الوقت في الأمر، ولم يكن معك الكثير من المعاونين، فقد يمكنك كتابة قائمة وافية على نحو معقول بمعاونيهم الآخرين عن طريق تفقُّد أبحاثهم الأخرى أو طلب ذلك منهم. لكن بعض العلماء يقضون أربعين عامًا أو أكثر في كتابة الأبحاث، ويمكن أن يصل عدد معاونيهم إلى العشرات خلال تلك الفترة، بعضهم لا يمكنهم تذكرهم بسهولة. يبدو ذلك صعبًا بالفعل، لكنه يزداد سوءًا؛ ففي الخطوة التالية يصير الأمر مستحيلًا تمامًا. تخيل محاولة كتابة قائمة لا تتضمن معاونيك ومعاونيهم فحسب، بل أيضًا معاوني كل هؤلاء الناس! أنت لا تعرف معظم هؤلاء الناس، بل ربما لم تسمع عنهم أيضًا، فكيف يمكنك معرفة مع من عملوا؟! في الحقيقة، لا يمكنك ذلك.

ما حاولنا فعله هنا هو إجراء بحث واسع الانتشار في إحدى شبكات التعاون، ومرة أخرى وجدنا أنه من الناحية العملية، يبدو الأمر شبه مستحيل؛ لذا، انتهى الحال بالجميع إلى إجراء بحث موجه، فتختار أحد معاونيك الذين ترى أن عملهم قد يكون الأكثر تشابهًا مع عمل إيردوس، ثم تختار أحد المؤلفين المشاركين لذلك الشخص تراه الأقرب لإيردوس، وهلم جرًّا. تتمثل المشكلة في أنك إذا لم تكن خبيرًا في أحد المجالات المتخصصة التي عمل فيها إيردوس، فقد لا تعلم أيًّا من معاونيك هو الخيار الأمثل، وفي هذه الحالة، قد يكون تخمينك المبدئي خاطئًا وينتهي بك الأمر إلى طريق مسدود، وقد يكون تخمينك المبدئي صحيحًا، لكن تخميناتك التالية خاطئة، ويمكن أن تكون على المسار الصحيح، لكنك تستسلم قبل التقدم بما فيه الكفاية. كيف يمكنك أن تعرف مدى جودة تقدم البحث؟

لا يبدو أن هناك إجابة سهلة عن هذا السؤال؛ إذ تكمن الصعوبة الأساسية في محاولة حل مشكلة عامة — وهي العثور على مسار قصير — باستخدام معلومات محلية عن الشبكة فحسب، فأنت تعرف من هم معاونوك، وقد تكون على معرفة أيضًا ببعض معاونيهم، لكن عدا ذلك، فأنت تتعامل مع عالم من الغرباء؛ لذا من المستحيل معرفة أي من المسارات العديدة التي أمامك تؤدي إلى إيردوس في أقل عدد من الخطوات. عند كل درجة من درجات الانفصال، يكون أمامك قرار جديد عليك اتخاذه، وما من سبيل واضح لتقييم خياراتك؛ فمثلما قد يقود شخص ما يعيش في مانهاتن سيارته شرقًا إلى مطار لاجارديا ليسافر جوًّا إلى الساحل الغربي، يمكن للخيار الأمثل لمسار الشبكة أن يأخذك في البداية إلى ما يبدو اتجاهًا خاطئًا، لكن على النقيض من مثال القيادة إلى المطار، ليس لديك خريطة كاملة للطريق في عقلك؛ لذلك قد لا تبدو فكرة القيادة شرقًا من أجل الطيران غربًا فكرة جيدة على الإطلاق.

مع أن الرقم ستة يبدو صغيرًا في البداية، فمن الممكن أن يكون رقمًا كبيرًا. في الواقع، عندما يتعلق الأمر بالأبحاث الموجهة يكون أي عدد أكبر من اثنين كبيرًا للغاية، وذلك ما اكتشفه ستيف ذات يوم عندما سأله أحد الصحفيين عن رقم إيردوس الخاص به، وقد اكتشفه في النهاية — وكان أربعة — لكن بعد أن أضاع يومين كاملين في البحث (أذكر ذلك لأنني كنت أحاول دفعه لفعل شيء آخر، لكنه كان منشغلًا للغاية، حتى إنه لم يتمكن من التحدث معي). إذا بدا لك ذلك كوسيلة يتجنب من خلالها علماء الرياضيات القيام بعمل حقيقي، فاعلم أن الأبحاث الموجهة لها جانب جدِّي؛ فبدءًا من تصفح الروابط على الإنترنت وصولًا إلى تحديد مكان أحد ملفات البيانات بإحدى شبكات الند للند، أو حتى محاولة العثور على الشخص المناسب للإجابة عن سؤال إداري أو فني، كثيرًا ما نجد أنفسنا نبحث عن المعلومات من خلال طرح عدد من التساؤلات الموجهة التي ننتهي فيها إلى طرق مسدودة، أو التساؤل عما إذا كنا قد اخترنا أقصر الطرق أم لا، وكما سنرى في الفصل التاسع، يصبح العثور على الطرق القصيرة إلى المعلومات الصحيحة مهمًّا على وجه الخصوص في أوقات الأزمات أو التغير السريع، وذلك عندما تكون المشكلات بحاجة لحلها سريعًا، ولا يكون لدى أحد فكرة واضحة عما يحتاجه الأمر أو من يمكنه تقديم المساعدة، وكما توصلنا من خلال مسألة العالم الصغير الأصلية فإن النظرية البسيطة يمكن أن تخبرنا في بعض الأحيان عن الكثير من الأمور بشأن عالم معقد ما كنا لنحزرها أبدًا عن طريق النظر إلى العالم نفسه مباشرةً.

(٣) مشكلة البحث في مسألة العالم الصغير

جاء الاكتشاف الأساسي هذه المرة على يد عالم كمبيوتر شاب يُدعَى جون كلاينبرج، درس كلاينبرج بجامعة كورنيل ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وقضى بضعة أعوام يعمل في مركز أبحاث ألمادن التابع لشركة آي بي إم بالقرب من سان فرانسيسكو، ثم عاد إلى جامعة كورنيل كأستاذ. طرح كلاينبرج سؤالًا لم يَرِد بذهني أو بذهن ستيف، مع أنه في إطار الشبكات عديمة المعيار، بدا ذلك السؤال طبيعيًّا للغاية، حتى إننا تعجبنا كيف غفلنا عنه. بدلًا من التركيز على وجود المسارات القصيرة فحسب — كما فعلت أنا وستيف — تساءل كلاينبرج كيف يمكن للأفراد في الشبكات العثور على هذه المسارات بالفعل. كان الدافع مرة أخرى هو ميلجرام؛ فبعيدًا عن شكوك جوديث كلاينفيلد، أوصل بعض الخاضعين لتجربة ميلجرام الخطابات بالفعل إلى الهدف المعني، ولم يكن من الواضح لكلاينبرج كيف تمكنوا من فعل ذلك. في النهاية، كان مرسلو الخطابات في تجربة ميلجرام يحاولون في الأساس إجراء بحث موجه في شبكة اجتماعية ضخمة لا يتوفر لهم عنها سوى مقدار قليل للغاية من المعلومات؛ أقل بكثير مما يتوفر لأي عالم رياضيات يحاول حساب رقم إيردوس الخاص به.

في الواقع، كان أول ما توصل إليه كلاينبرج هو أنه إذا سار العالم الحقيقي على نحو مشابه إلى أي حد للنماذج التي طرحتُها أنا وستيف، لكانت الأبحاث الموجهة — كتلك التي أشار إليها ميلجرام — أمرًا مستحيلًا. تنبع المشكلة من إحدى سمات نماذج العالم الصغير التي لم نناقشها بعد. مع أن النماذج تسمح لنا بإنشاء شبكات تعكس قدرًا متفاوتًا من الفوضى، فإن العشوائية في الواقع شيء آخر. بوجه خاص، متى ظهر طريق مختصر من خلال إحدى عمليات إعادة التوصيل العشوائية التي كنا نجريها، يتحرر أحد الأفراد المجاورين ويُختار فرد آخر مجاور عشوائيًّا لكن على نحو منتظم من الشبكة بأكملها. بعبارة أخرى، تكون فرص اختيار كل نقطة تلاقٍ كجارٍ جديد متساوية، بصرف النظر عن مكانها أو بُعدها.

بدت العشوائية المنتظمة افتراضًا طبيعيًّا في محاولتنا الأولى للتعامل مع المسألة؛ ذلك لأنها لا تعتمد على فكرة شخص بعينه عن مفهوم المسافة، لكن ما أشار إليه كلاينبرج هو أن الناس، في الواقع، لديهم مفاهيم قوية عن المسافة يستخدمونها طوال الوقت لتمييز أنفسهم عن الآخرين؛ فالمسافة الجغرافية واضحة، لكن المهنة والطبقة والعرق والدخل والتعليم والدين والاهتمامات الشخصية كثيرًا ما تمثل عاملًا مؤثرًا على تقييمنا لمدى «بُعدنا» عن الآخرين. ونحن نستخدم هذه المفاهيم المتعلقة بالمسافة طوال الوقت عند تعريفنا لأنفسنا وللآخرين، ويبدو أن الخاضعين لتجربة ميلجرام قد استخدموها أيضًا، لكن نظرًا لأن الاتصالات العشوائية المنتظمة، مثل تلك الموضحة في الشكل ٣-٦، لا تستخدم هذه المفاهيم المتعلقة بالمسافة، فإن الطرق المختصرة الناتجة يصعب على الأبحاث الموجهة استغلالها. وغياب أي مرجع للنظام المتناسق الأساسي — الشبيكة الحلقية في حالة النموذج بيتا الموضح في الفصل الثالث — يمنع البحث من التركيز بفعالية، فينتهي الحال بالرسالة، إما بالقفز عشوائيًّا في الأرجاء أو الانتقال ببطء في أرجاء الشبيكة. لو كان ذلك هو الحال في تجربة ميلجرام، لوصلت سلاسله في طولها إلى مئات الروابط، وهو أمر أفضل قليلًا عما إذا كانت الرسالة قد انتقلت من باب إلى باب طوال الطريق من أوماها إلى بوسطن.
fig21
شكل ٥-١: نموذج شبيكة كلاينبرج ثنائية الأبعاد. تتصل كل نقطة تلاقٍ بجيرانها الأربعة الأقرب إليها على الشبيكة وبواحد من المعارف العشوائيين.
إذن، كان ما يفكر فيه كلاينبرج هو فئة أكثر شمولًا من نماذج الشبكات تستمر فيها إضافة الروابط العشوائية إلى شبيكة أساسية، لكن تقل فيها أيضًا احتمالية الارتباط العشوائي بين نقطتَي تلاقٍ بتزايد المسافة الفاصلة بينهما كما هو مقاس على الشبيكة. بتعبير أبسط، مثَّل كلاينبرج مسألة نقل الرسالة على شبيكة ثنائية الأبعاد (الشكل ٥-١)، التي تصور أنه يُضاف فوقها روابط عشوائية وفقًا لتوزيع احتمالات تمثله إحدى الدوال الموضحة في الشكل ٥-٢. من الناحية الرياضية، يعد كل خط من هذه الخطوط الموضحة على رسم اللوغاريتم-اللوغاريتم قانونَ قوة ذا تضاعف أسِّي، يسمى جاما، يتغير من خط لخط، ويشير الأس الذي يساوي صفرًا (الخط الأفقي بالأعلى) إلى أن جميع نقاط التلاقي في الشبيكة من المحتمل على قدر متساوٍ أن تمثل معارف عشوائيين. بعبارة أخرى، يختزل نموذج كلاينبرج النموذج بيتا الموضح في الفصل الثالث إلى نسخة ثنائية الأبعاد، ومن ثم عندما تساوي جاما صفرًا يوجد الكثير من المسارات القصيرة، لكن كما رأينا، لا يمكن العثور عليها، وعلى النقيض، عندما تكون قيمة جاما كبيرة، يقل احتمال ظهور طريق مختصر عشوائي سريعًا للغاية مع المسافة، فلا تكون هناك أي فرصة للاتصال إلا لنقاط التلاقي المتقاربة للغاية (على الشبيكة). في هذا الحد، يحتوي كل اتصال عشوائي على الكثير من المعلومات عن الشبيكة الأساسية، ومن ثم يمكن تصفح المسارات بسهولة. تكمن المشكلة في أنه نظرًا لأن الطرق المختصرة طويلة المدى مستحيلة تمامًا، فليس هناك أي مسارات «قصيرة» أخرى يمكن العثور عليها؛ لذا لا ينتج عن النموذج شبكات يمكن البحث فيها، لكن ما أراد كلاينبرج معرفته هو: ماذا يحدث في المنتصف؟
fig22
شكل ٥-٢: احتمالية ظهور أحد المعارف العشوائيين وفق المسافة على الشبيكة (م). عندما يساوي الأس جاما صفرًا، تتساوى احتمالات ظهور معارف من جميع الأطوال، وعندما تكون قيمة جاما كبيرة، لا تتصل سوى نقاط التلاقي القريبة من بعضها على الشبيكة.
fig23
شكل ٥-٣: يوضح الشكل نتيجة كلاينبرج الرئيسية. لا يكون للشبكة مسارات قصيرة يمكن للأفراد العثور عليها سريعًا بالفعل إلا عندما تبلغ قيمة الأس جاما اثنين.
في الواقع، ثمة شيء مثير للغاية يحدث. يوضح الشكل ٥-٣ العدد النموذجي للوثبات اللازمة لتحدد رسالة ما هدفًا عشوائيًّا، وفقًا للأس جاما. عندما تكون قيمة جاما أقل من اثنين، تواجه الشبكة المشكلة ذاتها التي تواجهها نماذج العالم الصغير الأصلية، ألا وهي أن المسارات القصيرة تكون موجودة، لكن لا يمكن العثور عليها، وعندما تكون قيمة جاما أكبر بكثير من اثنين، لا توجد المسارات القصيرة ببساطة، لكن عندما تساوي جاما اثنين، تصل الشبكة إلى نوع من التوازن الأمثل بين الترابط الملائم المميز للشبيكة وقوة تقليل المسافات المميزة للطرق المختصرة طويلة المدى. لا يزال صحيحًا أن احتمال الاتصال بنقطة تلاقٍ معينة سينخفض مع المسافة، لكن صحيح أيضًا أنه كلما زادت المسافة، زاد عدد نقاط التلاقي التي يمكن الاتصال بها. ما أوضحه كلاينبرج هو أنه عندما تبلغ جاما قيمتها المهمة البالغة اثنين، تلغي هذه القوى المتعارضة بعضها بعضًا، وتكون النتيجة شبكة تتسم بخاصية مميزة تتمثل في أن الأفراد يمتلكون العدد نفسه من الروابط بجميع «مقاييس الطول».
يصعب إلى حد ما إدراك هذا المفهوم، لكن كلاينبرج توصل إلى صورة جيدة تعكسه، وهي صورة «نظرة على العالم من الجادة التاسعة» التي رسمها سول شتاينبرج وزينت غلاف مجلة «ذي نيويوركر» في عام ١٩٧٦ ويعاد تقديمها في الشكل ٥-٤. تشغل الجادة التاسعة في هذا الرسم مساحة مجمع سكني كامل، الذي يشغل بدوره مساحة مماثلة للجزء من مانهاتن الواقع غرب الجادة العاشرة ونهر هادسون مجتمعين. يُخصَّص القسم نفسه من الصورة بعد ذلك للولايات المتحدة كلها غربي هادسون، وصولًا إلى المحيط الهادي، ثم أخيرًا إلى بقية العالم.
كان شتاينبرج يعلق تعليقًا اجتماعيًّا على ميل أهالي نيويورك للتركيز على الشئون المحلية بالقدر نفسه الذي يركزون به على قضايا العالم العظيمة — أي النظر إلى أنفسهم كمركز للكون — لكن في نموذج كلاينبرج، تحمل الصورة معنى ملموسًا على نحو أكبر. عندما تساوي جاما قيمتها المهمة البالغة اثنين، من المحتمل أن يكون لدى شخص ما في الجادة التاسعة العدد نفسه من الأصدقاء في كل منطقة أو مقياس بالصورة. بعبارة أخرى، يجب أن تتوقع أن يكون لديك عدد من الأصدقاء يعيشون في الحي الذي تقطن به مساوٍ لمن يعيشون في باقي المدينة وباقي الولاية وباقي الدولة، وهكذا، وصولًا إلى مستوى العالم بالكامل؛ فيكون احتمال معرفتك بشخص ما يعيش في قارة أخرى مساويًا تقريبًا لاحتمال معرفتك بشخص يعيش في الشارع الذي تقطن به. يعيش بالطبع مليارات البشر في القارات الأخرى، وبضع مئات فقط على الأرجح في الشارع الذي تعيش فيه، لكن الفكرة هي أن احتمالية معرفتك بأي شخص محدد بالجانب الآخر من العالم منخفضة للغاية، حتى إن «باقي العالم» و«الشارع الذي تقطن به» لن يمثلا في نهاية الأمر سوى العدد نفسه من معارفك الاجتماعيين.
fig24
شكل ٥-٤: صورة «نظرة على العالم من الجادة التاسعة» بريشة سول شتاينبرج التي ظهرت على غلاف مجلة «ذي نيويركر» في عام ١٩٧٦، توضح مفهوم كلاينبرج عن مراحل البحث. مجموعة خاصة، نيويورك.

يكمن جوهر نتيجة كلاينبرج في أنه عند حدوث هذه الحالة من الاتصال المتساوي على جميع مقاييس الطول، لا تعكس الشبكة فحسب المسارات القصيرة بين جميع أزواج نقاط التلاقي، بل يمكن أيضًا للمرسلين الأفراد العثور على المسارات إذا وجَّه كلٌّ منهم ببساطة الرسالة للصديق الذي يبدو في نظره الأقرب إلى الشخص المستهدف. إن ما يجعل مشكلة البحث قابلة للحل هو أنه ما من شخص معين يجب عليه حلها وحده، لكن كل ما على مرسل معين القلق بشأنه عند كل مرحلة هو توصيل الرسالة إلى المرحلة التالية من البحث، وذلك عندما تكون المرحلة شبيهة بالمناطق المختلفة الموجودة بلوحة شتاينبرج؛ لذا، إذا كان هدفك النهائي هو مزارع في طاجكستان، فليس عليك التوصل إلى كيفية نقل الرسالة وصولًا إلى هذه الوجهة، أو حتى إلى الدولة الصحيحة، بل كل ما عليك فعله هو إيصالها إلى الجزء الصحيح من العالم، ثم ترك شخص آخر يهتم بالأمر. بفعل ذلك، أنت تفترض أن الشخص التالي في السلسلة، نظرًا لزيادة قربه من الشخص المستهدف، لديه معلومات أكثر دقة منك، ومن ثم فهو أقدر منك على التقدم بالبحث إلى مرحلته التالية، وهذا هو ما يحدث فعليًّا حين تساوي جاما اثنين. عندما تفي الشبكة بهذا الشرط، يكون مطلوبًا من عدد قليل من المرسِلين فحسب نقل الرسالة من مرحلة إلى أخرى تالية لها؛ من أي مكان في العالم إلى الدولة الصحيحة، ومن أي مكان في الدولة إلى المدينة الصحيحة، وهلم جرًّا، ونظرًا لأن العالم — كما رآه شتاينبرج بالضبط — يمكن دائمًا أن ينقسم إلى عدد صغير من هذه المراحل، فإن الطول الكلي لسلسلة الرسالة سيكون قصيرًا أيضًا.

مثَّل شرط كلاينبرج، كما أسميناه — بالإضافة إلى إثبات كلاينبرج لاستحالة البحث في شبكات العالم الصغير العشوائية بانتظام — خطوة مهمة بالفعل للأمام في تفكيرنا بشأن الشبكات، تمثلت رؤية كلاينبرج العميقة في أن الطرق المختصرة فحسب ليست كافية لتكون ظاهرة العالم الصغير مفيدة فعليًّا بأي صورة للأفراد المطلعين محليًّا؛ فلكي تكون الروابط الاجتماعية مفيدة — بمعنى العثور على الشيء المقصود — يجب أن تتضمن معلومات متعلقة بالبنية الاجتماعية الأساسية، لكن ما لا يفسره نموذج كلاينبرج هو كيف يمكن للعالم أن يكون هكذا بالفعل. قد يكون صحيحًا أنه إذا كانت الروابط في أي شبكة اجتماعية منظمة على هذا النحو أو ذاك، فسوف يصبح العالم فجأة قابلًا للبحث فيه، لكن كيف يمكن للشبكة أن تنظم على هذا النحو في المقام الأول؟ في الواقع، من وجهة النظر الاجتماعية، يبدو شرط كلاينبرج غير محتمل بالمرة. لم يكن كلاينبرج، بالطبع، يسعى لإقامة نموذج واقعي من الناحية الاجتماعية، ومن خلال الحفاظ على نموذجه بسيطًا كما فعل، تمكَّن من فهم خصائصه على نحو كان من المستحيل أن يتحقق مع نموذج أكثر تعقيدًا، لكنه ترك الباب مفتوحًا أمام سبيل جديد للتفكير بشأن المشكلة، وهو السبيل الذي تضمن بعض التفكير الاجتماعي.

(٤) رد علم الاجتماع

كنت أتحدث أنا ومارك بشأن مشكلة البحث الموجه في أحد الأيام أثناء زيارته لي في جامعة كولومبيا، التي انتقلت إليها من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أغسطس من عام ٢٠٠٠ للانضمام إلى قسم علم الاجتماع، وبعد المناقشة لبعض الوقت، اقتنعنا بأن شرط كلاينبرج لم يكن الطريقة الصحيحة لفهم نتائج ميلجرام. لكن كيف يمكن ذلك؟ ألم «يثبت» كلاينبرج أن أي شبكة غير متصلة بالتساوي عند جميع الأطوال لا يمكن البحث فيها بفعالية؟ حسنًا، بلى ونعم في الوقت نفسه. ستكون الإجابة ببلى، إذا كان صحيحًا أن الناس يقيسون كل المسافات التي بينهم في إطار شبيكة أساسية، لكن ربما ما كانت تعبر عنه النتيجة التي توصل إليها بالفعل هو أن الناس لا يحسبون فعليًّا المسافات على هذا النحو. أثناء تجولنا بأنحاء الحرم الجامعي تحت شمس الربيع، توصلنا إلى نموذج يتضمن التحدي الأصلي للعالم الصغير، ألا وهو: كيفية الوصول إلى مزارع صيني، ربما لم يكن أيُّنا على معرفة بمزارعين صينيين، وربما لن نعرف أي مزارعين منهم أبدًا، بصرف النظر عن عددهم، لكننا نعرف شخصًا يمكنه على الأقل أن يرشدنا إلى الطريق الصحيح.

إريكا جين أمريكية من أصل صيني، وقد ظلت حتى وقت قريب تشغل منصب نائب الرئيس المختص بالأبحاث في معهد سانتا في، وهي مَن عينني أنا ومارك هناك. درست إريكا بجامعة بكين أثناء سنوات الثورة الثقافية، وذلك قبل انتقالها إلى سانتا في بكثير، بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إنها كانت ناشطة اجتماعية آنذاك (وواحدة من أوائل الأمريكيين الذين درسوا في بكين)، وقد خمنَّا أنها حتى إذا لم تكن تعرف أي قادة ريفيين في إقليم سيشوان (أو أيًّا كان المكان الذي يعيش فيه المزارع الافتراضي في تجربتنا)، فربما تعرف شخصًا يعرفه. على أي حال، إذا كنا قد أعطيناها خطابًا، فقد كنا موقنين تمامًا أنه سيصل إلى الصين في خطوة واحدة، لم نكن نعلم بالضبط كيف، ولم تكن لدينا أي فكرة عما يمكن أن يحدث عند وصوله إلى هناك، لكن كلاينبرج كان محقًّا؛ فليس لنا شأن بذلك، كل ما كان يلزمنا فعله هو نقل الخطاب إلى المرحلة التالية في عملية توصيله (أي، إلى الدولة الصحيحة)، ثم إلقاء مسئولية الوصول إلى الهدف على شخص آخر.

كان الاختلاف بين نموذج كلاينبرج وسلسلتنا الخيالية من المرسِلين هو أنه على الرغم من أن إريكا كانت بلا شك حلقة مهمة في السلسلة، وربما الحلقة التي ستحرك الخطاب إلى أبعد مسافة، فلم تكن، بالنسبة لي أنا ومارك، أحد المعارف «بعيدة المدى»؛ فنحن الثلاثة كنا ننتمي في مرحلة ما إلى المجتمع الصغير المتماسك ذاته الذي تضمَّن الباحثين المقيمين في معهد سانتا في. لم يكن مهمًّا، من منظورنا، أين كانت تعيش إريكا أو ماذا كانت تفعل قبل عشرين عامًا، كل ما كان يعنينا هو أننا عندما عرفناها، كانت مديرتنا وزميلتنا وصديقتنا، فكانت تعمل في المكان ذاته وتهتم بالكثير من المشروعات الفكرية نفسها، لم تكن بعيدة عنا أكثر من بعدنا نحن بعضنا عن بعض، وحسب علمنا، فإن أصدقاءها في الصين قد لا يكونون في نظرها أبعد منها عنَّا. بعبارة أخرى، كان من الممكن لخطابنا أن يثِبْ ما يبدو لكلا الحاملَين وثبتين صغيرتين — واحدة منا إلى إريكا وأخرى من إريكا إلى صديق في الصين — وهذه قد تبدو نقلة كبيرة للغاية بالتأكيد إذا نُظِر إليها كخطوة واحدة.

كيف يمكن لخطوتين قصيرتين أن تنتجا قفزة عملاقة كهذه؟ لا يمكن ذلك في نموذج الشبيكة العادي، كالذي تناولناه أنا وستيف، ومن بعدنا كلاينبرج، الأمر الذي يجعل كل هذه النماذج (بما في ذلك نموذج كلاينبرج) تتطلب بعض الروابط بعيدة المدى، لكن يبدو ذلك «ممكنًا» في العالم الاجتماعي الحقيقي، وقد كان هذا التناقض موضع اهتمام دائم لعلماء الاجتماع ذوي الميول الرياضية؛ فمنذ خمسينيات القرن العشرين، عندما تعاون عالم الرياضيات، مانفريد كوشين، والعالم السياسي، إيثيل دي سولا بول، لأول مرة من أجل التفكير في مسألة العالم الصغير، بدت المسافات الاجتماعية وكأنها تخالف شرطًا رياضيًّا يُعرَف باسم «متباينة المثلث»، والموضحة في الشكل ٥-٥. تنص هذه المتباينة على أن طول أي ضلع في المثلث يكون دائمًا أقل من مجموع طولي الضلعين الآخرين أو مساويًا له. بعبارة أخرى، فإن التقدم خطوة واحدة ثم خطوة أخرى لا يمكن أبدًا أن يبعدك عن نقطة البداية بأكثر من خطوتين، لكن هذا بالضبط ما يبدو أن رسالتنا الافتراضية فعلته.
fig25
شكل ٥-٥: تنص متباينة المثلث على أن المسافة سأ ج   سأ ب + سب ج، ومن ثم، فإن خطوتين قصيرتين لا يمكن أبدًا أن يساويا خطوة طويلة.

هل تخالف الشبكات الاجتماعية متباينة المثلث حقًّا؟ وإن لم تكن تخالفها، فلماذا يبدو الأمر كذلك؟ إن أساس فهم التناقض المتعلق بالمسافة في الشبكات الاجتماعية هو أن بإمكاننا قياس «المسافة» بطريقتين مختلفتين، وعادةً ما نخلط بينهما: الطريقة الأولى — التي تحدثنا عنها معظم الوقت في هذا الكتاب — هي المسافة عبر الشبكة، ووفقًا لهذا المفهوم، تكون المسافة بين نقطتين، (أ) و(ب)، هي ببساطة عدد الروابط في أقصر مسار يصل بينهما، لكن ليس هذا تعريف المسافة الذي نستخدمه عادةً عند التفكير في مدى قربنا أو بعدنا عن شخص آخر. بدلًا من ذلك — وكما ذكرني هاريسون في مؤتمر الرابطة الأمريكية للنهوض بالعلم في واشنطن العاصمة العام السابق — فإننا نسعى لتعريف أنفسنا والآخرين في ضوء المجموعات والمؤسسات والأنشطة التي ننتسب إليها.

نظرًا لعملنا على شبكات الارتباط بعض الوقت بحلول تلك المرحلة، كنت أنا ومارك على علم بفكرة الهوية الاجتماعية، لكن ما أدركناه آنذاك هو أن الأفراد لا ينتمون ببساطة إلى المجموعات، فلديهم أيضًا وسيلة لتنظيم أنفسهم فيما يشبه الفضاء الاجتماعي، بحيث يقيسون مدى تشابههم واختلافهم مع الآخرين. إن كيفية فعلهم لذلك تتشابه بعض التشابه مع صورة شتاينبرج الموضحة في الشكل ٥-٤. يبدأ الأفراد على مستوى العالم ككل، ثم يقسمونه، أو «يجزئونه»، إلى عدد يمكن إدارته من الفئات الأصغر الأكثر تحديدًا، وبعد ذلك، يقسمون كلًّا من هذه الفئات إلى عدد من الفئات الفرعية، وكلًّا منها إلى فئات أصغر وأكثر تحديدًا، ويستمر ذلك الأمر، وهو ما ينتج عنه صورة من شبكات الارتباط تشبه الموضحة في الشكل ٥-٦.
fig26
شكل ٥-٦: التقسيم الهرمي للعالم على مدى بُعد اجتماعي واحد. المسافة بين (أ) و(ب) تساوي طول أكثر مجموعات الأسلاف المشتركين انخفاضًا، وهي في هذه الحالة ثلاثة (يُعَد الأفراد الموجودون في مجموعة المستوى الأدنى ذاتها على بعد درجة واحدة).
يضم المستوى الأدنى لهذا التسلسل الهرمي المجموعات التي تحدد الارتباطات الأقرب لنا؛ المبنى السكني الذي نقطن به، أو مكان عملنا، أو وسائل تسليتنا، لكن على عكس شبكات الارتباط الموضحة في الفصل الرابع، التي كان إما ينتمي لها ممثلان للمجموعة نفسها (ومن ثم يكونان مرتبطين) أو لا، يمكننا السماح الآن للارتباطات بقوى مختلفة. قد يعمل فردان في فرق مختلفة، لكن يظلان ينتميان للقسم نفسه، وربما يكونان في قسمين مختلفين، لكن ينتميان للإدارة ذاتها، أو ربما الشركة نفسها فحسب، وكلما ارتفعنا أكثر في التسلسل الهرمي للوصول إلى المجموعة المشتركة، ازداد الفردان ابتعادًا، وكما هو الحال في نموذج كلاينبرج، كلما ابتعد الفردان أحدهما عن الآخر، انخفضت احتمالية معرفة أحدهما بالآخر، ومن ثم، فإن المعادل في نموذجنا لأس جاما لكلاينبرج كان ما أطلقنا عليه اسم معامل الانجذاب إلى المثيل، وذلك نسبة إلى المصطلح الاجتماعي الذي يعكس ميل الأفراد المتشابهين إلى الارتباط بعضهم ببعض. في الشبكات ذات الدرجة العالية من الانجذاب للمثيل، لا يمكن لأحد الاتصال سوى الأفراد الذين يتشاركون أصغر المجموعات، الأمر الذي ينتج عنه عالم متشظٍّ من المجموعات المنعزلة، وعندما لا يكون هناك انجذاب إلى المثيل، نحصل على مكافئ لشرط كلاينبرج؛ إذ يقيم الأفراد ارتباطات على جميع مقاييس المسافة الاجتماعية بدرجات احتمالية متساوية.

من ثم تعمل المسافة الاجتماعية على نحو مماثل تقريبًا لنموذج كلاينبرج، لكن الآن هناك الكثير من صور المسافة التي يمكننا الإشارة إليها عند تقييم احتمالية التقاء شخصين. وبينما تحدد شبيكة كلاينبرج أماكن الأفراد في إطار الإحداثيات الجغرافية لهم فحسب، فإن الأفراد في العالم الحقيقي يستقون مفاهيم المسافة من مجموعة متنوعة من الأبعاد الاجتماعية. يظل الموقع الجغرافي مهمًّا، لكن العرق والمهنة والديانة والتعليم والطبقة الاجتماعية ووسائل التسلية والارتباطات المؤسسية تحمل أهمية أيضًا. بعبارة أخرى، عندما نقسم العالم إلى مجموعات أصغر وأكثر تحديدًا، فنحن نستخدم الأبعاد المتعددة على نحو متزامن. في بعض الأحيان، يكون الاقتراب الجغرافي أمرًا مهمًّا، لكن في أوقات أخرى، يمكن أن يكون العمل في المجال ذاته أو ارتياد الجامعة نفسها أو الإعجاب بالنوع ذاته من الموسيقى أهم بكثير في تحديد من يعرفه الفرد مقارنة بمكان معيشة ذلك الشخص، بالإضافة إلى ذلك، فإن الاقتراب في بعد واحد لا يشير بالضرورة إلى الاقتراب في بعد آخر؛ فالنشأة في نيويورك لا تزيد من احتمال أن تصبح طبيبًا وليس مدرسًا مقارنة بالنشأة في أستراليا، وأيضًا الانتماء إلى المهنة ذاتها لا يشير بالضرورة إلى حتمية سكنك بالقرب من الآخرين العاملين بالمهنة ذاتها.

وأخيرًا، إذا كان فردان متقاربين في أحد الأبعاد فقط، فقد يعتبران أنفسهما قريبين على نحو مطلق، حتى وإن كانا بعيدين تمامًا في أبعاد أخرى؛ فأنا وأنت بحاجة إلى شيء واحد مشترك فحسب — سياق واحد فقط من التفاعل — وقد يكون ذلك كافيًا لنا لكي يعرف كلٌّ منا الآخر. بعبارة أخرى، تركز المسافة الاجتماعية على أوجه التشابه مقارنة بأوجه الاختلاف، وهنا يكمن حل متناقضة العالم الصغير؛ فكما يمكننا أن نرى في الشكل ٥-٧، يمكن لفردين، (أ) و(ب)، أن يعتبرا أنفسهما قريبين من فرد ثالث، (ج)، بحيث يكون (أ) قريبًا في بعد واحد (الموقع الجغرافي مثلًا)، و(ب) في بعد آخر (المهنة مثلًا). نظرًا لأن أقصر مسافة هي المهمة فقط، فلا يهم أن (ج) بعيد تمامًا أيضًا عن كلٍّ من (أ) و(ب) من منظور آخر، لكن نظرًا لأن (أ) و(ب) بعيدان أحدهما عن الآخر في كلا البعدين، فهما يريان أنفسهما بعيدين أحدهما عن الآخر. يشبه ذلك عندما يكون لديك صديقان تعرفهما في ظروف مختلفة، ومع أنك تحب كليهما، فإنك تشعر أنه ما من شيء مشترك بينهما، لكن هناك شيئًا مشتركًا بالفعل بينهما، ألا وهو أنت، ومن ثم فهما قريبان سواء أكانا على علم بذلك أم لا. من الطرق الأخرى للتفكير في هذه السمة أنه بينما يمكن تصنيف المجموعات بسهولة، لا يمكن فعل ذلك مع الأفراد، من ثم، تعكس الهوية الاجتماعية طبيعة متعددة الأبعاد — بمعنى أن الأفراد يدورون في سياقات اجتماعية مختلفة — مما يفسر مخالفة متباينة المثلث في المسافة الاجتماعية. وقد بدا لي أنا ومارك أن الطبيعة متعددة الأبعاد للهوية الاجتماعية الفردية هي ما يسمح للرسائل بالانتقال بواسطة شبكة في وجه ما قد يبدو حواجز اجتماعية مفزعة.
fig27
شكل ٥-٧: يقسم الأفراد العالم في وقت واحد حسب الأبعاد الاجتماعية المستقلة المتعددة. يعرض هذا المثال التخطيطي المواضع النسبية لثلاثة أفراد — (أ) و(ب) و(ج) — في بعدين (الموقع الجغرافي والمهنة مثلًا). (أ) و(ج) قريبان جغرافيًّا، و(ب) و(ج) قريبان مهنيًّا؛ لذا، فإن (ج) يرى نفسه قريبًا لكلٍّ من (أ) و(ب)، لكن (أ) و(ب) يريان أنفسهما بعيدين، مما يخالف متباينة المثلث الموضحة في الشكل ٥-٥.

وصلت أنا ومارك إلى هذا الحد في مناقشتنا قبل أن يضطر للعودة إلى سانتا في، فانشغلنا انشغالًا حال دون إجراء مزيد من العمل على المسألة. بعد نحو ستة أشهر، كان جون كلاينبرج يزور جامعة كولومبيا لإلقاء محاضرة في قسم علم الاجتماع عن بحثه المتعلق بالعالم الصغير، فانتهزت الفرصة لعرض أفكارنا عليه، لم يوافقنا فحسب على أن منهجنا بدا كطريقة سليمة للتفكير في المسألة، بل بدأ أيضًا في سلسلة مشابهة من الأفكار خاصة به. كان ذلك خبرًا سيئًا لنا؛ ففي النهاية، جون عالم شهير بسرعة بديهته؛ من النوع الذي يسمع عن أي مسألة في محاضرة للمرة الأولى وينتهي به الأمر إلى فهمها أفضل ممن يلقي المحاضرة ذاته؛ لذلك، إذا كان يفكر في منهجنا — إلى جانب آخرين أيضًا حسبما يقول — لم يكن أمامنا الكثير من الوقت لتنظيم جهودنا.

لحسن الحظ، يتسم جون بالكرم مثلما يتسم بالذكاء تقريبًا، فوافق على أن يبحث في تفاصيل مناقشتنا لبضعة أشهر حتى يمنحنا الفرصة لنشر شيء ما أولًا، مع ذلك، كنت أنا ومارك مشغولَين تمامًا خلال المستقبل القريب، ومن ثم كنا بحاجة إلى بعض المساعدة إذا كنا ننوي إنجاز شيء ما بسرعة. لحسن الحظ، كان بيتر دودز — وهو عالم رياضيات بجامعة كولومبيا وأحد أعضاء مجموعتي البحثية — حاضرًا المناقشة أيضًا مع جون. كنت أنا وبيتر نعمل بالفعل معًا على مسألة أخرى (سنتناولها في الفصل التاسع)، فعلمت أن بإمكانه برمجة جهاز كمبيوتر بالسرعة نفسها تقريبًا التي يقوم بها مارك. وبعودة مارك إلى سانتا في، صار بيتر قريبًا للغاية! وخلال أيام من زيارة كلاينبرج، تخليت أنا وبيتر عن مشروعاتنا الأخرى للعمل على مسألة البحث، وبعد بضعة أسابيع فاجأنا مارك بمجموعة من النتائج أفضل مما توقعناه.
كانت النتيجة الرئيسية التي توصلنا إليها هي أننا عندما سمحنا للأفراد في نموذجنا باستغلال الأبعاد الاجتماعية المتعددة، تمكنوا من العثور على الأهداف المختارة عشوائيًّا في الشبكات الضخمة بسهولة نسبية، حتى عندما كانت ارتباطاتهم ذات معامل انجذاب إلى المثيل مرتفع. في الواقع، كما يمكننا أن نرى في الشكل ٥-٨، يتضح أن وجود الشبكات القابلة للبحث فيها لا يعتمد كثيرًا على معيار الانجذاب إلى المثيل، أو حتى على عدد الأبعاد الاجتماعية. من منظور الرسوم البيانية، يعني ذلك أن الشبكات القابلة للبحث فيها تقع في أي نطاق لمعايير النموذج داخل المنطقة المظللة بالشكل ٥-٨، على النقيض من ذلك، يتمثل مكافئ شرط كلاينبرج في النقطة المفردة الموجودة أقصى يسار أسفل الشكل، من ثم كانت نتيجتنا مناقضة، إلى حد ما، لنتيجة كلاينبرج؛ ففي حين يوضِّح شرطه أن العالم يجب أن يكون على شكل معين لتنجح عمليات بحث العالم الصغير، تشير النتيجة التي توصلنا إليها إلى أنه يمكن أن يكون العالم على أي شكل على الإطلاق؛ فما دام الأفراد من المحتمل أكثر أن يعرفوا أشخاصًا مثلهم (الانجذاب إلى المثيل)، وما داموا — وهو الأمر الحاسم — يقيسون التشابه على مدى أكثر من بعد اجتماعي واحد، فلن توجد مسارات قصيرة فحسب بين أي شخصين في أي مكان تقريبًا، بل سيكون الأفراد الذين لديهم معلومات محلية فقط عن الشبكة قادرين على العثور عليهم.
fig28
شكل ٥-٨: تكون الشبكات الاجتماعية قابلة للبحث متى وُجِدَت داخل المنطقة المظللة لمساحة معيار النموذج. تتوافق هذه المنطقة مع انجذاب المجموعات الاجتماعية للمثيل (α = ٠)، لكن الأفراد يحكمون على التشابه من خلال أبعاد متعددة (ب)، وعلى النقيض، يحتل شرط كلاينبرج نقطة واحدة في الركن الأيسر السفلي بمساحة الشبكات.

لكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه تم التوصل إلى أفضل أداء عندما لم يتعدَّ عدد الأبعاد اثنين أو ثلاثة فحسب. كان هذا منطقيًّا على نحو ما من الناحية الرياضية؛ فعندما يستخدم الجميع بعدًا واحدًا فحسب (البعد الجغرافي، مثلًا) لتقسيم العالم، لن يمكنهم الاستفادة من الارتباطات المتعددة لتجاوز مسافات كبيرة في الحيز الاجتماعي، من ثم نعود مرة أخرى إلى عالم كلاينبرج حيث يلزم تنظيم الروابط بالتساوي على جميع مقاييس الطول لكي تنجح الأبحاث الموجهة، وعندما ينشر الجميع معارفهم بين الكثير من الأبعاد — أي عندما لا ينتمي أيٌّ من أصدقائك إلى المجموعات نفسها التي ينتمي إليها أصدقاؤك الآخرون — نعود مرة أخرى إلى عالم الشبكات العشوائية حيث توجد مسارات قصيرة لكن لا يمكن العثور عليها؛ لذا من المنطقي أنه يجب على الشبكات التي يمكن البحث فيها أن توجد في مكان ما بالمنتصف؛ حيث لا يكون الأفراد منتمين للغاية لبعد واحد أو مشتتين إلى حد بعيد، لكن مثَّلت فكرة أن الأداء المثالي يجب أن يحدث عندما يكون عدد الأبعاد اثنين تقريبًا مفاجأة سعيدة؛ لأن هذا هو العدد الذي يبدو أن الناس يستخدمونه بالفعل.

بعد عدة أعوام من نشر ميلجرام لبحثه المؤثر عن العالم الصغير، أجرت مجموعة أخرى من الباحثين بقيادة راسل برنارد (عالم إنسانيات) وبيتر كيلوورث (عالم محيطات، من بين كل العلوم الأخرى) ما أطلقوا عليه اسم «تجربة عكسية للعالم الصغير»؛ فبدلًا من إرسال طرود وتتبع تقدمها — كما فعل ميلجرام — شرح هؤلاء الباحثون التجربة لعدة مئات من الأفراد الخاضعين لها، وسألوهم عن المعايير التي سيستخدمونها لتوجيه أحد الطرود إذا طُلِب منهم ذلك، فتوصلوا إلى أن معظم الناس لا يستخدمون سوى بُعدين فقط — الموقع الجغرافي والمهنة أكثرها شيوعًا — لتوجيه الرسالة إلى المتلقي التالي. أدهشنا للغاية أن يكون ذلك هو الرقم نفسه الذي نتوصل إليه من خلال تحليلنا بعد خمسة وعشرين عامًا، ودون أي فكرة مسبقة (لم تكن لدينا أي فكرة عما سيكون عليه الرقم، لكننا ما كنا لنعتقد أنه سيكون اثنين)، لكننا تفوقنا في نقطة إضافية.

فمن خلال إدخال تقديرات تقريبية للمعايير في نموذجنا، مثلما كانت ستطبق في تجربة ميلجرام، تمكنَّا من مقارنة توقعاتنا بالنتائج الفعلية التي توصل إليها ميلجرام. يوضح الشكل ٥-٩ المقارنة. لم تبدُ مجموعتا النتائج قابلتين للمقارنة فحسب، لكن لا يمكن تمييز إحداهما عن الأخرى أيضًا باستخدام الاختبارات الإحصائية القياسية، فهما متماثلتان تمامًا، ومع الوضع في الاعتبار استيعاب نموذجنا لقدر كبير من تعقيدات العالم، كانت هذه النتيجة مدهشة بحق. لنرى كيف يعمل الأمر، دعونا نعد إلى مثال المزارع الصيني الافتراضي؛ من خلال استخدام صديقتنا إريكا كوسيط أول، فنحن نستخدم بذلك مجموعتين من المعلومات؛ أولًا: يؤدي مفهومنا عن المسافة الاجتماعية إلى استنتاجنا أننا بعيدون تمامًا عن هدفنا، لكنه يخبرنا أيضًا عن المجموعات التي يجب أن ينتمي إليها المرء لكي يكون قريبًا؛ لذلك يساعدنا مفهومنا عن المسافة الاجتماعية في تحديد الظروف التي تجعل أحد الأفراد مرشحًا جيدًا لنقل الرسالة إليه. ثانيًا: نحن نستخدم معرفتنا المحلية عن الشبكة لتحديد هل أيٌّ من أصدقائنا يلبي هذه الشروط؛ أي هل ينتمي أيٌّ من أصدقائنا إلى مجموعة واحدة على الأقل تجعلهم أقرب إلى الهدف؟ وحياة إريكا في الصين آنذاك جعلت منها مرشحة جيدة.
fig29
شكل ٥-٩: نتيجة نموذج أبحاث الشبكة الاجتماعية بالمقارنة بنتائج أبحاث ميلجرام في نبراسكا. تمثل الأعمدة اثنتين وأربعين سلسلة مكتملة بدأت في نبراسكا، بينما يمثل المنحنى المتوسطَ على مر الكثير من أبحاث المحاكاة المؤداة وفقًا لنموذجنا.

هذا هو المنهج الأساسي الذي اتبعه الخاضعون لتجربة ميلجرام؛ لذلك فإن ما يعرضه نموذجنا هو أنه ما دام لديهم بُعدان على الأقل يمكنهم من خلالهما الحكم على أوجه التشابه بينهم وبين الآخرين، عندئذٍ حتى في عالم تكون فيه كل صلاتهم بأشخاص يشبهونهم كثيرًا، سيظل بإمكانهم العثور على مسارات قصيرة توصلهم بأفراد بعيدين وغير مألوفين لهم. إن استمرار التوافق بين نموذجنا ونتائج ميلجرام بقوة، وذلك على نحو مستقل إلى حدٍّ بعيد عن كيفية اختيارنا للمعايير، يخبرنا بشيء عميق عن العالم الاجتماعي، فعلى عكس شبكات المولدات الكهربائية أو الخلايا العصبية في المخ، يملك الأفراد في الشبكات الاجتماعية أفكارهم الخاصة بشأن ما يجعلهم ما هم عليه. بعبارة أخرى، يكون لكل شخص في أي شبكة اجتماعية هوية اجتماعية، وهذه الهوية الاجتماعية، من خلال التحفيز على إنشاء الشبكة وتحديد مفاهيم المسافة التي تمكن الأفراد من التنقل عبرها، هي ما يجعل الشبكات قابلة للبحث فيها.

(٥) البحث في شبكات الند للند

بناءً على ما سبق، تعد القابلية للبحث سمة عامة للشبكات الاجتماعية؛ فبتقسيم العالم على النحو الذي نفعله — حسب المفاهيم المتزامنة المتعددة للمسافة الاجتماعية — وتقسيم عملية البحث نفسها إلى مراحل يمكن تطويعها، يمكننا حل ما يبدو كمشكلة في غاية الصعوبة (حاوِل فقط ممارسة لعبة الدرجات الست لكيفن باكون دون الاستعانة بكمبيوتر) بسهولة نسبية، وشأن كثير من الأفكار الثاقبة، فإن إدراك أن الشبكات الاجتماعية يجب أن تنشأ من مكان ما، وأن أصلها في الهوية الاجتماعية يلعب دورًا حاسمًا في السمات التي تملكها هذه الشبكات، يبدو أمرًا بديهيًّا الآن، لكن في علم يهيمن عليه علماء الفيزياء على نحو متزايد، كان دخول علم الاجتماع مرة ثانية إلى الصورة بمنزلة تطور فكري ذي دلالة، وما تعلمناه هو أنه مع عدم وجود أي خطأ في النماذج البسيطة، فإن هناك الكثير من هذه النماذج في أي واقع معقد، ومن خلال التفكير فقط في الكيفية التي يعمل بها العالم — أي التفكير فقط كما يفكر علماء الاجتماع والرياضيات أيضًا — يمكننا اختيار النموذج الصحيح.

لكن هناك سببًا عمليًّا أيضًا لفهم أن الأبحاث الموجهة داخل الشبكات، وتحديدًا عملية العثور على شخص مستهدف في شبكة اجتماعية، من خلال سلسلة من المعارف الوسطاء، تشبه بشكل أساسي العثور على ملف أو أي معلومة أخرى محددة على نحو متفرد في قاعدة بيانات موزعة. وُجِّه الكثير من الاهتمام حديثًا لإمكانيات ما يُعرَف باسم شبكات «الند للند»، وخاصةً في مجال الموسيقى، في الواقع، لم يكن الجيل الأول لهذه الشبكات الموسيقية، التي تعد شبكة نابستر سيئة السمعة النموذج الأوَّلي لها، سوى شبكة ند لند على نحو محدود، وبينما توجد الملفات نفسها بأجهزة الكمبيوتر الشخصية الخاصة بالأفراد — الذين يطلق عليهم اسم الأنداد — وتحدث عمليات تبادل الملفات بشكل مباشر بين الأنداد، يُحتفَظ بسجل كامل من جميع الملفات المتاحة (ومواقعها) على خادم مركزي.

من ناحية المبدأ، يجعل السجل المركزي مشكلة البحث عن المعلومات أمرًا تافهًا، حتى إن كان ذلك في شبكة ضخمة؛ فكل ما عليك فعله هو طلب المعلومات من السجل، وسوف يخبرك بمكان الملف، لكن السجلات المركزية مكلفة من حيث إنشاؤها والحفاظ عليها. من وجهة نظر المستخدم، تشكل محركات البحث على الإنترنت، مثل جوجل، سجلات مركزية، وتقوم بعمل معقول بوجه عام في تحديد أماكن المعلومات (رغم الإحباط بين الحين والآخر)، لكن جوجل لا يشبه أي موقع إلكتروني عادي آخر؛ فهو يتضمن عشرات الآلاف من الخوادم المتطورة للتعامل مع طلبات المعالجة الهائلة لملايين الاستفسارات المتزامنة عن المعلومات. عندما سمعتُ لاري بيج — أحد مؤسسي جوجل — يتحدث عن الشركة منذ عامين بمؤتمر في سان فرانسيسكو، قال إنهم كانوا يضيفون نحو ثلاثين خادمًا كل يوم لملاحقة الطلبات فحسب! قد تكون السجلات المركزية حلًّا فعالًا لمشكلة البحث، لكنها ليست رخيصة. يمكن أيضًا للتصميم المركزي أن يكون ضعيفًا للغاية، وذلك ما اكتشفه مستخدمو نابستر عندما أغلقت الجهات المختصة بالتسجيل آليتهم المفضلة لتبادل ملفات الموسيقى، فما إن يختفِ المركز حتى ينهار النظام بالكامل، مثل شبكة الخطوط الجوية التي لا تحتوي إلا على مركز واحد يجب أن تمر به جميع رحلات الطيران.

قبل دخول نابستر إلى مراحل اضمحلالها، كانت أكثر الصور تطرفًا من قواعد البيانات الموزعة — التي يمكن أن نطلق عليها شبكات الند للند حقًّا — قد بدأت في الظهور في عالم الإنترنت غير الشرعي. صمم إحدى هذه الشبكات، التي تُعرف باسم «نيوتيلا»، مبرمِجٌ متمرد بشركة إيه أو إل، وقد نشر البروتوكول على الموقع الإلكتروني لشركة إيه أو إل في مارس من عام ٢٠٠٠. أزالت سلطات شركة إيه أو إل الكود المضر في غضون نصف ساعة من نشره، لمعرفتها لإمكانية انتهاك حقوق النشر التي ينطوي عليها أي نظام لمشاركة الملفات، وإدراكها لاندماجها المكتمل الجديد مع شركة تايم وارنر، لكنها تأخرت كثيرًا في ذلك؛ إذ جرى تحميل الكود بالفعل وسرى كالنار في الهشيم في مجتمع قراصنة الإنترنت، ومر بعشرات التحسينات والتنويعات. كان من أوائل الداعين لاستخدام بروتوكول نيوتيلا مبرمِجٌ شاب يُدعَى جين خان، وقد زعم أن نيوتيلا هو الاستجابة لدعوات جميع من يتبادلون الملفات، والخصم الدائم لصناعة التسجيلات الموسيقية، ونظرًا لأن نيوتيلا لم يكن سوى بروتوكول، فلم يكن من الممكن مصادرته، ونظرًا لأنه لم يوجد مركز، لم يكن بالإمكان مقاضاة أي شخص أو إغلاق أي موقع. عند الاستماع إلى خان، يمكن للمرء أن يظن أن نيوتيلا شيء خالد عظيم.

بعد عام واحد ثبت أن خان لم يكن على حق تمامًا، فلم ينجح أحد في تدمير نيوتيلا، لكن أيضًا لم تكن هناك حاجة لذلك. من الواضح أن شبكة نيوتيلا قد ارتبطت أجزاؤها في نقاط تلاقٍ، وذلك بالتوافق مع البنية الموزعة التي جعلتها تبدو واعدة جدًّا، ونظرًا لأنه ما من خادم واحد يعرف أين توجد جميع الملفات — لأنه لا يوجد سجل مركزي — يصبح كل طلب للمعلومات بحثًا واسع الانتشار يسأل كل نقطة تلاقٍ في الشبكة السؤال الآتي: «هل لديك هذا الملف؟» ومن ثم، فإن شبكات الند للند، مثل نيوتيلا، التي تنطوي على عشرة آلاف نقطة تلاقٍ، تنتج على سبيل المثال، عددًا من الرسائل يزيد بنحو عشرة آلاف مرة عن شبكة مثل نابستر ذات حجم مماثل، حيث لا يُرسَل كل طلب للمعلومات إلا إلى خادم واحد عالي القدرة. ونظرًا لأن الهدف من شبكات الند للند هو أن يزيد حجمها قدر الإمكان (من أجل زيادة عدد الملفات المتاحة)، ونظرًا لأنه كلما زاد حجم الشبكة، ساء أداؤها، فهل من الممكن أن تكون شبكات الند للند مدمرة لذاتها حقًّا؟

ظهرت بالمصادفة إشارة إلى عالم شبيه بشبكة نيوتيلا منذ نحو عام أو أكثر بواسطة فصل السيدة جانيت فورست للدراسات الاجتماعية بالصف السادس بمدرسة تايلورزفيل الابتدائية بولاية كارولاينا الشمالية، بدأت السيدة فورست وطلابها «مشروعًا بالبريد الإلكتروني»، فأرسلوا رسالة قصيرة رقيقة لكل أسرهم وأصدقائهم، وطلبوا من جميع متلقي الرسالة توجيهها إلى كل من يعرفونهم ليرسلوها بدورهم إلى كل معارفهم (وهلم جرًّا)، وقد طلبوا أيضًا من كل متلقٍّ أن يرد عليهم ليسجلوا عدد الأشخاص الذين وصلت إليهم الرسالة ومكانهم، وكانت فكرة سيئة. بحلول الوقت الذي أُلغي فيه المشروع أخيرًا بعد بضعة أسابيع، كان الفصل قد تلقى ما يزيد عن ٤٥٠ ألف رد من كل ولاية في البلاد، وثلاث وثمانين دولة أخرى، وكان هؤلاء فقط من ردوا! لك أن تتخيل محاولة كل فصل للدراسات الاجتماعية بالصف السادس في العالم إجراء تجربة مماثلة في الوقت ذاته. (الأمر الذي لا يصدقه عقل هو أنني قد تلقيت بالفعل رسالة أخرى مماثلة مؤخرًا من مدرسة في نيوزيلندا، مصدقًا عليها من وزير التعليم النيوزيلندي نفسه. يبدو أن بعض الناس لا يتعلمون أبدًا.) الأسوأ هو أن تتخيل أن يبدأ أي شخص مثل هذا النشر العالمي عندما يرغب في أي وقت في توصيل رسالة إلى شخص آخر. إن حدث ذلك، لكان عصر الإنترنت قد وصل إلى نهاية سريعة ومشينة بوصوله إلى درجة من الازدحام في تدفق البيانات تفوق ازدحام المرور على طريق بانكوك السريع.

إذن، السجلات المركزية، بوجه عام، باهظة التكلفة وسريعة التأثر بالهجمات، أما الأبحاث واسعة الانتشار فتسفر عن مشكلات أكثر مما تحققه من ميزات، وبناءً عليه، من المفترض أن تكون لوغاريتمات البحث الفعالة، التي لا تتطلب سوى معلومات محلية عن الشبكة، ذات أهمية عملية كبيرة. من أكثر السمات المثيرة للاهتمام لظاهرة العالم الصغير أن الأفراد الموجودين في الشبكات الاجتماعية يبدون قادرين على حل مشكلة البحث في شبكات الند للند، حتى إن كانوا هم أنفسهم لا يعلمون كيف يفعلون ذلك، ومن خلال فهم خصائص الصورة الاجتماعية للمشكلة واستغلالها، يمكننا أن نطمح لابتكار حلول جديدة لمشكلات البحث في الشبكات لا تتضمن بالضرورة أناسًا على الإطلاق. ولاستكمال منهجنا في تناول المشكلة، اقْتُرِحت بعض الحلول الأخرى لمشكلة البحث الموجه بشبكات الند للند لاستغلال الجوانب الأخرى لبنية الشبكات. من أبرز هذه الجهود ما قام به الفيزيائي برناردو هوبرمان وطالبته لادا أداميك بمعمل أبحاث (إتش بي) في بالو ألتو بولاية كاليفورنيا.

من خلال ملاحظة أن درجة التوزيع لشبكة نيوتيلا تتبع أحد توزيعات قوانين القوة (إلى حد ما)، اقترح هوبرمان وأداميك لوغاريتمًا للبحث، تُوجِّه من خلاله نقاط التلاقي طلبات المعلومات لجاراتها «الأكثر اتصالًا» بها، التي تبحث بدورها في السجل المحلي، وسجلات نقاط التلاقي المجاورة لها، للحصول على نسخة من الملف المطلوب، مع تكرار الإجراء في حال عدم العثور على الملف، وبهذا الشكل، يحدد سريعًا كل استعلام عددًا صغيرًا نسبيًّا من المراكز التي يشيع وجودها في الشبكات عديمة المعيار وترتبط بمعظم الشبكة، ومن خلال البحث في هذه الشبكة من المراكز عشوائيًّا، أوضحت المجموعة أن معظم الملفات يمكن العثور عليها في وقت قصير نسبيًّا دون إثقال الحمل على الشبكة ككل. مع ما يتسم به هذا المنهج من إبداع، فإنه يعاني صورة أضعف من حل السجل المركزي؛ إذ يجب أن يكون لدى المراكز قدرة أكبر من نقاط التلاقي العادية، ويعتمد أداء الشبكة بدقة على قدرة المراكز المهمة على العمل، وعلى النقيض من ذلك، تبدو قابلية البحث في الشبكات الاجتماعية عملية متساوية تمامًا. في نموذجنا، يكون الأفراد العاديون قادرين على العثور على مسارات قصيرة، فلا تكون هناك حاجة لمراكز خاصة.

مع ذلك، ربما تكون الفكرة الرئيسية هي أنه عند التحفيز للحصول على حلول جديدة لمشكلات مختلفة (بوضوح)، تقدم مسألة العالم الصغير النموذج الأمثل حول كيف يمكن للنظم المختلفة أن تساعد بعضها بعضًا في تأسيس علم شبكات جديد. بالعودة إلى الخمسينيات من القرن العشرين، كان كوشين (عالم رياضيات) وبوول (عالم سياسي) أول من فكرا في ذلك، لكنهما لم يتمكنا من العثور على حل دون أجهزة كمبيوتر. تناول بعد ذلك ميلجرام (عالم نفس)، بمعاونة من وايت (عالم فيزياء واجتماع) المسألة عمليًّا، وتبعهما في ذلك كلٌّ من برنارد (عالم إنسانيات) وكيلوورث (عالم محيطات)، لكنهم لم يتمكنوا من تفسير كيفية عملها بالفعل، وبعد ثلاثين عامًا حوَّلت أنا وستيف (عالما رياضيات) المسألة إلى مسألة خاصة بالشبكات بوجه عام، لكننا فشلنا في معرفة مكونها اللوغاريتمي، لنترك بذلك المجال لجون (عالم كمبيوتر) كي يتناولها، وترك جون بدوره المجال أمام مارك (عالم فيزياء)، وبيتر (عالم رياضيات)، وأنا (عالم اجتماع حاليًّا) لاختيار الحل الذي يبدو الآن أنه كان موجودًا طوال تلك الفترة.

لقد كان طريقًا طويلًا، استمر نحو خمسين عامًا، والآن وقد صرنا نعتقد أننا فهمنا أخيرًا المسألة، يبدو أنه كان ينبغي على أحدهم التوصل إليها منذ فترة طويلة، لكن ما كان للأمر أن يحدث بطريقة أخرى؛ فبدون جون — على سبيل المثال — ما كنا لنفهم أبدًا كيف نفكر في مسألة البحث؛ أي ما كنا لنعلم الطريق الذي ينبغي السير فيه، ودون عملنا المبكر على شبكات العالم الصغير، ما كان جون ليفكر أبدًا في المشكلة في المقام الأول، ودون ميلجرام، ما كان أحد منا ليعرف ما كنا نحاول تفسيره، ولولا بوول وكوشين، لكان ميلجرام يجري تجربة مختلفة. بالنظر إلى الماضي، يبدو كل شيء واضحًا، لكن الحقيقة أن مسألة العالم الصغير لا يمكن حلها إلا عن طريق الجهود المتضافرة لكثير من المفكرين المختلفين، وذلك من خلال تناولها من الزوايا المختلفة كافة، والإسهام فيها بمجموعة هائلة من المهارات والأفكار ووجهات النظر. في العلم — كما هو الحال بالضبط في الحياة — لا يمكن تقديم الشريط تقديمًا سريعًا لمعرفة ما ستكون عليه النهاية؛ ذلك لأن النهاية لا تُكتَب سوى أثناء الوصول إليها، وكما هو الحال في أفلام هوليوود الناجحة فإن النهاية، حتى وإن كانت تقدم حلًّا ما، ليست سوى تمهيد لجزء ثانٍ. في حالتنا، كان الجزء الثاني هو الديناميكيات، ومقارنةً بالألغاز المتعلقة بالديناميكيات القائمة على الشبكة — سواء تمثلت في تفشي وباء ما أو سلسلة أعطال في أنظمة الطاقة الكهربائية أو اندلاع الثورات — تعد مشكلات الشبكات التي واجهتنا حتى الآن قطرة في بحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤