الفصل الثاني

جاء من السجن مريضٌ جديد ودخَلَ عنبر المستشفى، كان رجلًا عجوزًا وهزيلًا، قالوا: إنَّ صحته تدهورت أثناء التدريبات البدنية، أحضروه إلى العنبر وكان يُعاني من صعوبة التنفُّس ومن ضرباتٍ قوية في القلب، وكانت علاماتُ سوء التغذية باديةً بوضوحٍ تامٍّ على جسده، كما كانت الشقوق تُغطي بشرته والقروح تنتشر بكثرة فوق يدَيه وقدمَيه، وكانت لثته تنزف ومفاصله بارزة، ولم يكُنْ وزنه يزيد قَط عن أربعين كيلوجرامًا. وقالوا: إنَّهم جاءوا به من أحد الأماكن في «كارو»؛ حيث كان يُدير مركزًا يضمُّ مجموعةً من الجنود المختصِّين بالعمليات القتالية.

سألتُ الحرَّاس الذين أحضروه: لماذا تركوا شخصًا بمثل حالته يُمارس التدريبات البدنية؟

قالوا: لقد جاء مع مَرضى جُددٍ عن طريق الخطأ، ولمَّا كانت عمليات التجهيز والعلاج تأخذ وقتًا طويلًا، فلقَدْ أراد الجرَّاح المُناوِب أن يشغلهم بعملِ أيِّ شيء، حتَّى لا يشعُروا بملل الانتظار، وهكذا طلَبَ منهم الجري في المكان والقيام ببعض التمارين الرياضية.

قلتُ مُتسائلًا: ألَمْ يستطعْ أن يُلاحظ عجْزَ هذا الرَّجُل؟

أجابوا: إنَّه لم يكُنْ يشكو من أيِّ شيء، واعترف أنَّه لا يُعاني من شيء وأنَّه على ما يُرام، إنَّ جسده نحيلٌ وهكذا هو دائمًا.

قلتُ لهم: ألَا تعرفون الفرق بين رَجلٍ نحيل وبين الهيكل العظمي؟

هزُّوا أكتافهم ثمَّ راحوا يتعاملون معه كمريضٍ يُدعى «مايكلز»، لكنَّه أصرَّ أنَّه لا يُعاني من أيِّ شيءٍ وإنَّما يُريد فقط شيئًا للصداع، وقال أيضًا: إنَّه ليس جائعًا رغم أنَّه في الحقيقة لم يكُنْ قادرًا على الوقوف.

أخبَرَهم أنَّه في الثانية والثلاثين من عمره رغم أنَّ ما يبدو عليه يُنبئ أنَّه رَجلٌ عجوز، ربما كان كذلك بالفعل، لقد جاء من «كيب» ويعرف حلقةَ سِباق الخيل منذ نشأتها.

قال: كان بمقدوري أن أُصبح فارسًا في حلقة السِّباق أيضًا.

وأضاف: لقد عملتُ بستانيًّا وحين طرَدُوني مضيتُ للبحث عن عملٍ آخرَ في الريف واصطحبتُ أمي معي.

سألتُه: وأين أمُّك الآن؟

هزَّ رأسه وأجاب: لقد أشعلوا فيها النار وكان شعرها يحترق حول رأسها.

قال ذلك دون مبالاة وكأنَّه كان يتحدَّث عن حالة الطقس حتَّى ساوَرَني الشكُّ تجاهه، وقلتُ في نفسي: لا بد أنَّه شخصٌ لا ينتمي إلى عالمنا! لقد قبضوا عليه ووضعوه في السجن باعتباره واحدًا من المتمرِّدين لكنَّه كان يعرف بالكاد أنَّ الحرب قائمة.

•••

انتابتْه لحظاتٌ من البهجة والسعادة فانتهزتُ الفرصة للقيام بفحص فمه فأبصرتُ شقًّا بسيطًا، لكن أعلى باطنِ الفم كان سليمًا، ثمَّ سألته: هل سبَقَ وأن حاولتَ تقويم حالتك من قبل؟

لم يكُنْ يعرف؛ فقلتُ له: إنَّ العملية شيءٌ بسيط حتَّى لمَن هم في مثل عمره، وأضفتُ مُتسائلًا: هل توافق على مثل تلك العملية إذا استطعنا الترتيب لها؟

أجاب قائلًا: إنَّني هكذا دائمًا، ولم أكُنْ طيلة حياتي طامحًا في اجتذاب الفتيات.

شعَرتُ برغبة في إخباره أنَّ بمقدوره اجتذاب الفتيات بسهولةٍ إذا وافَقَ على إجراء العملية؛ لأنَّه عندئذٍ سيتكلَّم مثل الآخرين، لكنَّني لم أقُلْ شيئًا؛ لأنَّني لم أشَأْ أن أكون سببًا في إيذائه.

أشرتُ إليه بالتوجُّه إلى «نويل»، وقلت: هو لم يستطعْ أن يُدير عملية رشْقِ السِّهام بأقلَّ كثيرًا من إدارته لمركز تجمُّع الجنود. إنَّه شخصٌ ذو إمكانياتٍ عقلية ضعيفة، ولا يتمتَّع بالذكاء، ولقد وجَدَ نَفْسه بالصدفة وسط أجواء الحرب، ولم تكُنْ لديه القدرة على الخروج منها. كان ينبغي أن يقوم بصُنْع السِّلال وتجميع الخَرَز في بيئةٍ تتمتَّع بالحماية وليس في مُعسكَر لإعادة التأهيل.

أحضَرَ «نويل» السجلَّ، وقال بناءً على ما هو مكتوب: إنَّ «مايكلز» يقوم بإشعال الحرائق وهو هاربٌ من مُعسكَر العمل. كان يُدير حديقةً مُزدهِرة في مزرعةٍ مهجورة، وعندما تمَّ أسره كان يُساند حرب العصابات. هذه هي قصة «مايكلز».

هززتُ رأسي وقلتُ: لقد ارتكبوا خطأً، لقد خلطوا بينه وبين «مايكلز» آخر؛ إنَّ «مايكلز» هذا أحمقُ ومعتوه، ولا يعرف حتَّى مُجرد إشعال عودٍ من الثِّقاب. إذا كان «مايكلز» هذا يُدير حديقةً مُزدهِرة فلماذا يتضوَّر من الجوع؟

عُدْت إلى العنبر، وسألتُ «مايكلز»: لماذا لم تأكل؟ إنَّهم يقولون: إنَّك كنتَ تمتلك حديقةً فلماذا لم تكُنْ تأكل وتهتمُّ بصحتك؟

أجاب: لقد أيقظوني أثناء نومي، وبدا أنَّني كنتُ غافلًا عمَّا يحدُث، وأنا لا أحتاج إلى الطعام في نومي.

ثمَّ قال إنَّ اسمه «مايكل»، وليس «مايكلز».

•••

– ضغَطَ «نويل» عليَّ للإسراع بعملية التحوُّل، وكانت توجد ثمانية أسِرَّة في المستشفى، بينما كان عدد المرضى ستة عشر فقاموا بتسكين ثمانيةٍ منهم في حُجْرة الوزن القديمة، وسألني «نويل» عن إمكانية الإسراع في معالجتهم وإطلاق سراحهم؛ فأجبتُ أنَّه ليس من الصواب إطلاق سراح مريضٍ يُعاني من الإسهال والذهاب به إلى المُعسكَر إلَّا إذا كنتَ ترغب في انتشار الوباء.

قال: بالطبع أنا لا أرغب في ذلك، لكنَّنا شاهدنا في الماضي حالاتٍ كثيرةً كانت تدَّعي المرض، وأنا أُريد التخلُّص من مثل تلك الحالات.

كان برنامجه هو الذي يُحدِّد مسئوليته والواجب الذي يتحتم عليه القيام به، أمَّا أنا فإنَّ حالة المرضى هي التي تُحدِّد مسئوليتي.

وضَعَ يده فوق كتفي وقال: أنت تقوم بعملٍ جيد، وأنا لا أُناقش ذلك وإنَّما كلُّ ما أطلبه هو ألَّا يخطر ببالهم أنَّنا نتعامل معهم برفقٍ ودون حزم.

الْتزم كلانا بالصَّمْت لحظةً رُحْنا نُراقب خلالها الذُّباب فوق زُجاج النافذة، ثمَّ قلتُ: لكنَّنا نتعامل معهم كذلك بالفعل.

قال: ربما نكون كذلك، وربما نتآمر قليلًا، وربما نخشى إذا جاء يوم الحساب أن يأتي شخصٌ ما ويُطالب بإقالتنا لأنَّنا كنَّا نُعامل المرضى برفقٍ وبطريقةٍ لطيفة.

أضاف قائلًا: مَن يدري؟ غير أنَّ ذلك ليس هو ما أتحدَّث بشأنه، إنَّني أتحدَّث عن أعدادهم الكثيرة، فها أنت في هذه اللحظة تستقبل عددًا كبيرًا في العيادة الخاصة بك في حين أنَّ أحدًا لا يخرج.

استطرَدَ وقال مُتسائلًا: هل تنوي القيام بعملِ شيءٍ ما حيال تلك الأعداد الكبيرة من المرضى؟

خرجْنا من مكتبه فأبصرْنَا لافتاتٍ برتقاليةً وبيضاء وزرقاء مرفوعة فوق سارية العَلَم في منتصف الممرِّ، وكانت الفرقة الموسيقية المُكوَّنة من خمسة أشخاص تعزف الموسيقى، وستمائة رَجلٍ كانوا يقفون بأقدامهم العارية في حالةٍ من الغضب، كنَّا نُحاول في العام الماضي مساعدتهم على الغناء لكنَّنا توقَّفنا عن ذلك الآن.

•••

انتابتْ «مايكل» حالةٌ من السعادة والبهجة، جعلتْهُ يخرج في الهواء الطَّلق بحثًا عن نسمةِ هواءٍ نقيَّة في ذلك الصباح. مررتُ بجواره حيث كان جالسًا فوق الأعشاب مصوِّبًا وجهه نحو الشمس كما تفعل السحلية أثناء ابتهاجها بالشمس، وسألتُه: كيف ترى الحال في المستشفى؟

بدا كثيرَ الكلام على غير المتوقَّع، وقال: إنَّني سعيدٌ لعدم وجود مِذياع، في المكان الآخر الذي كنتُ أُقيم فيه كان المذياع لا يتوقَّف طوال الوقت.

اعتقدتُ في البداية أنَّه يُشير إلى مُعسكَرٍ آخر، لكنَّني اكتشفتُ أنَّه يعني تلك المؤسسة البائسة التي أمضى فيها طفولته؛ فقلتُ له: كانت الموسيقى تصدح طوال فترة ما بعد الظُّهر، وفي المساء أيضًا وحتَّى الساعة الثامنة. إنَّها ضرورية كالزيت الذي يضعونه فوق كلِّ شيء. إنَّها تُساعدك على الإحساس بالهدوء والسكينة؛ وإلَّا فإنَّك دونها قد تتشاجَرُ مع الآخرين وقد تُلقي بالمقاعد من النوافذ. إنَّ الموسيقى تُساعدك على تنقية الهواء داخل صدرك.

لم تَصدرْ منه أيَّة إشارةٌ تؤكِّد لي أنَّه فهِمَ كلامي، لكنَّه ابتسَمَ ابتسامةً في غير موضعها وقال: الموسيقى تُصيبني بالقلَق والاضطراب، لقد اعتدتُ على القلَق، ولم أستطع في يومٍ ما أن أُفكِّر في شئوني أو أفكاري الخاصة.

قلت: وما تلك الأفكار التي كنتَ ترغب في التفكير بها؟

أجاب قائلًا: كثيرًا ما فكَّرت في الطيران، وكانت رغبتي في الطيران لا تتوقَّف، كنت أبسُط ذراعيَّ وأحلم أنَّني أطير مُحلِّقًا فوق الأسوار وبين البيوت وفوق رءوس الناس دون أن يتمكَّنوا من رؤيتي، لكنَّني لم أكُنْ أستطيع عمَلَ ذلك حين كانوا يبدءون في تشغيل الموسيقى.

صمَتَ قليلًا، ثم ذكَرَ اسم المقطوعات الموسيقية التي تُصيبه بقلَقٍ أكثر.

نقلتُه إلى سريرٍ بجوار النافذة بعيدًا عن الصبي ذي الكاحل المكسور الذي يُضمر له كراهيةً خاصة لا يعلم سبَبَها سوى الله، كما أنَّه لا يتوقَّف عن مضايقته طوال الوقت. إنَّه الآن بجوار النافذة، وبمقدوره إذا وقَفَ أن يرى السماء وقمَّة سارية العَلَم.

قلتُ له بطريقةٍ لطيفة: عليك أن تأكل أكثر قليلًا حتَّى يُمكنك الخروج إلى التنزُّه.

إنَّه في الحقيقة في احتياجٍ إلى العلاج الطبيعي، لكن تلك الخدمة ليست متوفِّرة لدينا، إنَّه مثل أحد ألعاب الأطفال المصنوعة من العصيِّ المربوطة ببعضها البعض بشرائطَ من المطَّاط، إنَّه في احتياج إلى نوعٍ معيَّن من التغذية وبعض التدريبات الرياضية الخفيفة إلى جانب العلاج الطبيعي، وبعد ذلك يُمكنه العودة إلى حياة المُعسكَر ويأخذ فرصته في السَّير إلى الأمام وإلى الخلف في مضمار السِّباق، كما أنَّه يستطيع عندئذٍ أن يهتف بشعارات الحرب ويقوم بتحيَّة العَلَم ويمارس عمليات حفْرِ الخنادق ثمَّ ردْمِها مرةً ثانية.

•••

كانوا يتحدثون في المطعم عن الصعوبة التي يواجهها الأطفال عندما يعيشون داخل الشقة، إنَّهم يفقدون بالقَطع الحديقةَ الكبيرة وحيواناتهم الأليفة. قالت المرأة ذات الوجه المُزدهِر: يتملَّكني البُكاء عندما أُفكِّر فيما تركناه خلْفَنا.

عندما كانت تحلُم ببيتها المهجور كان يتراءى لها رَجلٌ غريبٌ مُستلقيًا باسترخاء فوق سريرها دون أن يخلع حِذاءه، وكانت تراه في حلمٍ آخر وهو يفتح الثلَّاجة ويبصق فوق الآيس كريم، أضافت وقالت: لا تقُلْ لي إنَّك لا تشعُر بالمرارة.

كانت تُرافقها امرأةٌ شابَّةٌ ممشوقة، ساورني الشكُّ تجاهها عندما أبصرتُ شَعرها الممشَّط إلى الخلف مثلما يفعل الرجال.

هل يؤمن أحدٌ بما نقوم بعمله هنا؟ أشكُّ في ذلك، قدَّموا لنا مضمارًا قديمًا للسِّباق، وكميةً من الأسلاك الشائكة، وطلبوا أن نُحدِث تغييرًا في أرواح الرجال. ليسوا خبراء في الرُّوح لكنَّهم يفترضون بحذَرٍ أنَّ الرُّوح على اتصال بالجسد. جعلنا الأسرى يسيرون ذهابًا وإيابًا كما استخدمناهم من مخزون الفرقة النحاسية وعرضنا عليهم أفلامًا للشباب في زيٍّ نظيف وهُمْ يتظاهرون؛ ليعلِّموا كبار القرية كيفية القضاء على البَعوض، وفي نهاية العملية نضمنهم طاهرين، ثمَّ نحشدهم في كتائب لحمْلِ المياه وحفْرِ المراحيض. في المسيرات العسكرية الكبيرة كان يوجد دائمًا صحبةٌ من الكتائب العُمَّالية يسيرون أمام الكاميرات بين كل الدبابات والصواريخ وقوَّات المدفعية؛ لإثبات أنَّنا قادرون على تحويل الأعداء إلى أصدقاء، لكنَّهم كانوا يسيرون وهُمْ يحملون المجارف فوق أكتافهم وليس البنادق كما لاحظت.

•••

بعد عطلةِ يوم الأحد عُدنا إلى المُعسكَر وقدَّمتُ نفسي عند البوَّابة وكأنَّني مُقامِر يدفع رسْمَ الدخول، وكانت علامة «سياج» فوق البوَّابة الرئيسية، وكانت اللافتة فوق البوَّابة المؤدِّية إلى المستشفى تقول: «الأعضاء والموظفون فقط.»

هل يعتقدون أنَّ الطريق سوف يتمُّ فتْحُه في يومٍ ما؟ وهل لا يزال بعض الناس يقومون بتدريب خيول السِّباق في مكانٍ ما على أمَلِ أنَّ العالم سيستقرُّ بعد انتهاء حالات الهَرْج والمَرَج ويعود كما كان؟

•••

كنَّا حوالي اثني عشر مريضًا، وكانت حالة «مايكل» كما هي، ومن الواضح أنَّه كان يُعاني من تفسُّخٍ في الجدار المِعويِّ.

رقَدَ «مايكل» متوجِّهًا ببصره إلى أعلى ناحية النافذة والسماء، وكانت أذنَاه بارزتَين من رأسه المكشوفة، ابتسَمَ ابتسامته المعهودة، وعندما جاءوا به كان يحمل حُزْمة من الوَرَق البُنيِّ قام بوَضْعها تحت وِسادته، تناوَلَ حُزْمة الوَرَق وضمَّها فوق صدره، فسألته: ماذا تحوي هذه الحُزْمة؟

فتَحَ حُزمة الوَرَق وقال: إنَّها بذورُ قَرْع العسل.

قلتُ بطريقةٍ متعاطِفة: ينبغي أن تعود لعملك في البستان بعد انتهاء الحرب.

ثمَّ أضفتُ مُتسائلًا: هل ستعود إلى «كارو»؟ هل تعتقد أنك ستعود؟

نظَرَ حواليه بحذرٍ؛ فقلتُ مستطرِدًا: إنَّ «بينينسولا» تتمتَّع بتربةٍ خصبةٍ ومروجٍ خضراءَ متموِّجة، وسيكون شيئًا جميلًا أن ترى العمل في البساتين والحدائق يعود من جديد في «بينينسولا».

لم يقُلْ شيئًا، فتناولتُ حُزمةَ الوَرَق من يده وطويتُها تحت الوِسادة حفاظًا عليها. وبعد ساعةٍ وجدتُه نائمًا وكان فمه مُلتصِقًا بالوِسادة كالأطفال.

بدا كالحَجَر الصغير أو الحصاة النائمة التي تُدير شئونها منذ فجر التاريخ، لكنَّهم أمسكوا بها فجأةً، وراحوا يقذِفون بها من يدٍ إلى أخرى بطريقةٍ عشوائية. كان يشعُر بما حواليه بالكاد، لقد عاش أجواء تلك المؤسسات والمُعسكَرات والمستشفيات من قبلُ، ولا أستطيع حقًّا التفكير فيه على أساس أنَّه رَجلٌ رغم أنَّه أكبرُ منِّي بكلِّ الحسابات.

•••

استقرَّتْ حالته وأصبح قادرًا على التحكُّم في الإسهال، وكان معدل النبض منخفضًا وكذلك ضغط الدم، شعَرَ بالبرد في الليلة الماضية رغم أنَّ الجوَّ كان دافئًا، وعلى أيَّة حالٍ فقد كان يمتلك زوجًا من الجوارب. وعندما حاولتُ في الصباح أن أتودَّد إليه نهَرَني وقال: هل تعتقد أنَّني سأموت إذا تركتَني؟ لماذا تريدني أن أصبح بدينًا؟ ولماذا تقلق بشأني؟ وهل أنا بمثل تلك الأهمية؟

لم أكُنْ مستعدًّا للجدل، وحين حاولتُ الإمساك بمِعصَمه رفَعَ ذراعه ودفَعَني بقوة، أصابتْني تلك القوة بالدَّهشة وقلتُ له: لماذا أنت مهمٌّ يا «مايكل»؟ هكذا سألتَني والإجابة على سؤالك هي أنَّك لستَ مهمًّا لكن ذلك لا يعني تجاهُلك، نحن لا نتجاهل أيَّ شخص.

راح يُحدِّق في السقف وكأنَّه رَجلٌ عجوز يتحاوَرُ مع الأرواح، ثمَّ قال: لقد كانت أمي تعمل طوال حياتها، كانت تُنظِّف أرضيَّات الناس وتطهو لهم الطعام وتغسل أطباقهم وملابسهم القذرة، وكانت تقوم بتنظيف الحمَّام وتركع على ركبتَيها لتطهير المرحاض، لكنَّها وبعد أن تقدَّم بها العمر وأصابتْها الأمراض؛ لم يتذكَّرها أحدٌ من أولئك الناس، وبدا كأنَّهم لا يعرفونها. وبعد وفاتها قاموا بإشعال النيران في جسدها، ثمَّ أعطوني كِيسًا من الرَّماد، وقالوا لي: ها هي أمُّك ويجب أن تأخذها بعيدًا عن هنا، إنَّها لم تعُدْ نافعةً لنا.

كان الصبي ذو الكاحل المكسور يسمع كلَّ شيء، لكنَّه كان يتظاهر بالنوم؛ فقلتُ مخاطِبًا «مايكل»: نحن نقوم بعملٍ ما يجب علينا عمَلُه تجاهك، وأنت لا تتمتَّع بمعاملةٍ خاصة؛ فاطمئنَّ من هذه الناحية. وعندما تُصبح في حالٍ أفضل وتتحسَّن حالتك؛ سيكون في انتظارك كثيرٌ من الطوابق التي يجب أن تقوم بتنظيفها وكثير من المراحيض التي يجب عليك تطهيرها، وبالنسبة إلى أمِّك فأنا متأكِّد بأنَّك لم تُخبرني بالقصة كاملةً، وأنا على يقينٍ بأنَّك تعرف ذلك.

إنَّه رغم ذلك على حقٍّ؛ لأنَّه في الحقيقة يشغل مساحةً كبيرة من تفكيري، فمَن هو إذن قبل كل شيء؟ لدينا عددٌ هائل من اللاجئين القادمين من الريف؛ بحثًا عن الأمان في المدن من جهة، ومن جهةٍ أخرى لدينا عدد من الناس من أولئك الذين سئموا العيش بأعداد كبيرة في حُجْرةٍ واحدةٍ ضيِّقة، ولا يستطيعون الحصول على ما يكفيهم من الطعام؛ فاضطروا إلى الرحيل من المدن، وزحفوا إلى الريف المهجور، على أملِ العيش بطريقةٍ أكثرَ إنسانية. إنَّ «مايكل» إذن ليس سوى واحدٍ من جماهير الدرجة الثانية، إنَّه فأرٌ استطاع القَفْز والهرَبَ من سفينةٍ مُزدحِمةٍ مُوشِكة على الغرق، لكنَّه لم يستطعْ أن يحيا بعيدًا عن أرضه فعرَفَ الجوع، وكان من حُسن حظِّه أنَّهم شاهدوه وقبضوا عليه، فلماذا ينبغي عليه أن يشعُر بالانزعاج والاستياء؟

•••

كان «نويل» يتلقَّى مكالمةً هاتفية من شُرطة الأمير ألبرت، لقد تعرَّضتْ إمدادات المياه إلى هجوم في الليلة الماضية، وانفجرت المِضخَّة وجزءٌ كبير من الأنابيب. وبينما كانوا في انتظار المهندسين؛ كان عليهم التعامل مع مياه الآبار، كانت الخطوط البريَّة مُعطَّلة أيضًا، وكان من الواضح أنَّ السُّفن الصغيرة في طريقها إلى الغرق، بينما كانت السفن الكبيرة تشقُّ طريقها بصعوبة في الظلام وهي تئنُّ من حمولتها الزائدة من البَشَر.

انتهزت الشُّرطة الفرصةَ للتحدُّث مع «مايكل» عن المسئولين عن ذلك الانفجار، الذين اعتبرتْهم أصدقاء له حين كان يعيش في الجبال. طلبوا منَّا أن نسأله بالتناوب بعضَ الأسئلة المُحدَّدة؛ فاعترضتُ قائلًا ﻟ «نويل»: ألَمْ يستجوِبُوه من قبل؟ وما الداعي لاستجوابه مرةً ثانية؟ إنَّه مريضٌ جدًّا ولا يَقوَى على السَّفر، كما لا يُمكن الوثوق به على أيَّة حال.

سألني «نويل»: هل هو مريض إلى درجة أنَّه لا يستطيع التحدُّث إلينا؟

أجبتُ قائلًا: ليس مريضًا جدًّا، لكنَّك لا يُمكن أن تستخلص منه شيئًا مفيدًا.

قام «نويل» بإخراج أوراق «مايكل» مرةً أخرى، وطلب منِّي رؤيتها، ثمَّ قُمْنا باصطحابه إلى المتجر وهو يرتدي بيجامته ويضع البطانية فوق كتفَيه. كانت العُلَب الملوَّنة والصناديق الكرتونية مرصوصةً بجوار الحائط، وخيوط العنكبوت منتشرة في كل الأركان، والتراب يملأ الأرضية، ولم نجِدْ مكانًا للجلوس. وقَفَ «مايكل» فوق قدمَيه الهزيلتَين بشكلٍ متقاطع معنا، وضمَّ البطانية فوق صدره؛ فقال «نويل» وهو يشعل سيجارة: أنت في ورطة، لقد أساء أصدقاؤك التصرُّف في الأمير ألبرت، لقد تسببوا في إزعاج السلطات ونريد القبض عليهم، وعليك أن تتحدَّث إليهم، فنحن لا نعتقد أنك قدَّمتَ لنا كلَّ المساعدة اللازمة، وها أنت الآن تملك فرصةً أخرى للمساعدة. نريدك أن تُخبرنا عن أصدقائك وعن المكان الذي يختبئون فيه، كيف يمكننا مقابلتهم؟

لم يتحرَّك «مايكل» خطوةً واحدة، ولم يتوقَّفْ عن النظر إلينا.

قلتُ: «مايكل»، بعضنا غير متأكِّد أنك تعمل مع المتمرِّدين، وإذا استطعت إقناعنا أنك لا تعمل لحسابهم فإنَّك سوف تُنقذنا من كثيرٍ من المتاعب، وستنقذ نَفْسك من البؤس والشقاء، أخبرْني إذن وأخبر الضابط عمَّا كنت تفعله حقًّا في تلك المزرعة عندما قبضوا عليك، إنَّ كلَّ ما نعرفه هو المكتوب فقط في تلك الأوراق القادمة من شُرطة الأمير ألبرت، وفي الحقيقة فإنَّ كلَّ ما هو مكتوبٌ لا يعني شيئًا. أخبرنا بالحقيقة — إذن — وقُلْ لنا الحقيقة كاملةً وبعدها يمكنك العودة إلى النوم، ولن نزعجك بعد ذلك.

انحنى بشكلٍ ملحوظ، ولفَّ البطانية حول رقبته، وراح يُحدِّق في كلينا.

قلت: هيا يا صديقي، لن يؤذيك أحد، أخبرْنا فقط بما نريد أن نعرفه.

ساد الصَّمت لحظةً طويلة، ولم يتحدَّث «نويل»؛ فتحمَّلتُ وحدي المسئولية كاملةً وقلت: تعالَ يا «مايكل»، اليومَ لم ينتهِ بعدُ، والحرب لم تزل قائمة.

تحدَّث «مايكل» أخيرًا وقال: أنا لستُ في حرب.

غضبتُ بشدَّة وقلتُ متسائلًا: أنت لستَ في حرب؟ بالطبع أنت في حربٍ يا رَجُل سواءٌ كنتَ تحبُّها أم تكرهها، هذا مُعسكَر وليس منتجعًا لقضاء الإجازات أو مكانًا للنقاهة. إنَّه مُعسكَر لإعادة تأهيل الناس من أمثالك، ثمَّ إجبارهم على العمل. أنت في طريقك لتتعلَّم كيفية ملءِ الزكائب بالرمل وحَفْر الآبار والجحور يا صديقي حتَّى ينكسر ظَهْرك، وإذا لم تتعاونْ معنا فستجِدُ نَفْسك في مكانٍ أسوأ من هذا؛ سوف تذهب إلى حيث تقِفُ طوال اليوم في الشمس، وتأكل قِشْر البطاطس وأكواز الذُّرة. وإذا لم تقوَ على الاستمرار وفقدتَ حياتك فسوف يحذفون اسمك من القائمة، وهكذا ستكون نهايتك. هيَّا — إذن — تعالَ وتكلَّمْ؛ فالوقت يَمضي، وأخبرنا عمَّا كنتَ تفعله حتَّى يُمكننا تسجيلهُ وإرساله إلى الشُّرطة في الأمير ألبرت. إنَّ الضابط هنا رَجلٌ مشغولٌ، ولا يحبُّ تضييع الوقت. لقد جاء لإدارة هذا المُعسكَر الجميل بعد خروجه على المعاش لمساعدة مَن هُم أمثالك من الناس، وهكذا يجب أن تتعاون معنا.

بلَّل شفتَيه بلسانه الشبيه بالسحلية، ثمَّ قال وهو يواصل الانحناء: كل ما في الأمر أنَّني لستُ مُتحدِّثًا بارعًا.

قلت: لا نريدك أن تكون بارعًا في الكلام أو مُتحدِّثًا لبِقًا، ولا يهمُّنا أن تكون عاجزًا عن التعبير؛ فنحن لا نريد منك شيئًا سوى أن تُخبرنا بالحقيقة.

ابتسم ابتسامةً ماكرة.

قال «نويل»: ماذا كنتَ تزرع في البستان الذي كنتَ تملكه؟

– كان بستانًا للخضراوات.

– مَن الذي كان يستهلك تلك الخضراوات؟ ولمَن كنتَ تقدِّمها؟

– لم تكن ملكيةً خاصة بي لكنَّها كانت تنبُت من الأرض.

– لقد سألتُك عن الأشخاص الذين كنتَ تُقدِّم لهم نِتاج زراعتك.

– لقد أخَذَ الجنود كلَّ شيء.

– هل قاومتَ الجنود حين استولوا على خضرواتك؟

هزَّ كتفَيه وأجاب: إنَّ ما ينمو في الأرض هو مِلك لنا جميعًا؛ لأنَّنا جميعًا أطفالُ تلك الأرض.

قلتُ مُعترِضًا: لقد دفنتَ أمَّك في تلك المزرعة، أليس كذلك؟ ألَمْ تخبرْني بأنَّها دُفِنتْ هناك؟

تجمَّدَ وجهه كالحَجَر، وقلت ضاغطًا عليه: لقد أخبرتَني بقصة أمِّك لكنَّ الضابط لم يسمع بها؛ أخْبِر الضابطَ إذن بقصة أمِّك.

لاحظتُ للمرة الثانية مدى الحُزن والكرب الذي ينتابه حين يُصبح مضطرًا إلى الحديث عن أمِّه، حرَّك قدمَيه فوق الأرض، وراح يلعق شفتَيه المشقوقتَين، فسأله «نويل» قائلًا: أخبرْنَا عن أصدقائك الذين جاءوا في منتصف الليل، وأحرقوا المزارع، وقتلوا النساء والأطفال. ذلك بالضبط هو ما أريد سماعه.

قلت: أخبرْنَا عن والدك؛ فلقد تحدَّثتَ كثيرًا عن أمِّك، لكنَّك لم تتحدَّث قَط عن والدك؛ ماذا حدَثَ لوالدك؟

أغلق فمه بطريقةٍ تُوحي بالعناد، ثمَّ راح يُحدِّق بسخط، وعندئذٍ سارعتُ بسؤاله: هل لديك أطفال يا «مايكل»؟ وهل لا يملك رَجلٌ في مثل عمرك زوجةً وأبناء؟ هل يعيشون في مكانٍ ما؟ ولماذا أنت وحيدٌ دائمًا؟ وما خُطَطك للمستقبل؟ أتريد أن تنتهي حياتك وأنت وحيدٌ هكذا؟ ألَا تعتقد أنَّها ستكون حياةً تعيسةً وبائسة؟

سادتْ لحظاتٌ من الصَّمت الكثيف، ظلَّ الصَّمت يرنُّ في أذنَي وكان من نوع الصَّمت الذي نختبره في أعماق المناجم وفي الأقبية والملاجئ والأماكن الخالية من الهواء، ثمَّ قلتُ: لقد جئنا بك إلى هنا يا «مايكل» لكي تتكلَّم، لقد قدَّمْنا لك سريرًا مناسِبًا للنوم وطعامًا وفيرًا، وكان بمقدورك الاستلقاء بمنتهى الأمان طوال اليوم والتمتُّع بمراقبة الطيور وهي تُحلِّق في السماء. لكنَّنا كنَّا نتوقَّع أشياء في المقابل، لقد حان الوقت الذي يجب أن تتكلَّم فيه يا صديقي، خاصة وأنَّك تملك ما يجب قوله من الأخبار وإنَّنا جاهزون للاستماع، فلْتبدأْ إذن في سرْدِ قصتك، ولتَكُن البداية كما تشاء، أخبرْنَا عن أمِّك وقُلْ لنا بعض التفاصيل عن والدك واحْكِ لنا عن وجهات نظرك في الحياة، وإذا لم تكُنْ راغبًا في إخبارنا عن أمِّك وأبيك ووجهات نظرك في الحياة فعليك أن تُخبرنا عن مشروعك الزراعي الأخير وعن أصدقائك مِمَّن كنتَ تتعامل معهم في الجبال الذين كانوا يأتون هنا للزيارة وشراء الطعام من حينٍ لآخر، قل لنا يا «مايكل» كل ما نريد أن نعرفه، وعندئذٍ سوف نتركك وشأنك.

توقَّفتُ عن الكلام فراحَ «مايكل» يُحدِّق بإمعان، ثمَّ استطردتُ قائلًا: تكلَّمْ يا «مایكل»، لن تجِدَ صعوبة في التكلُّم، تكلَّم الآن فلقَدْ رأيتَ بنَفْسك كيف أنَّني ملأتُ الحُجْرة بالكلمات بسهولةٍ شديدة، إنَّني أعرف كثيرًا من الناس مِمَّن يملكون القدرة على الكلام طوال اليوم دون أن يشعُروا بالتعب، وبمقدورهم إغراق العالم كله بالكلام.

رمقني «نويل» بنظرةٍ خاطفة، لكنَّني لم أتوقَّفْ عن إصراري في الضغط عليه؛ فقلتُ مُستطرِدًا: اجعلْ لنَفْسك هدفًا في الحياة يا رَجُل وإلَّا فإنَّ حياتك ستنتهي وكأنَّك لم تكُنْ موجودًا، ستكون مجرَّد رقمٍ في طابورٍ طويل بعد أن تنتهي الحربُ، ولا شيء آخر. هل تريد أن تكون واحدًا من الموتى أو الهالكين؟ لا بد أنك راغبٌ في العيش أليس كذلك؟ تكلَّمْ إذن وارفعْ صوتك بالكلام وقُلْ لنا كلَّ شيءٍ عن حياتك، وأعِدُك أنَّنا سنستمع لك جيِّدًا. لن تجِدَ في العالم كله رجلَين متحضِّرَين ومُهذَّبَين مثلنا؛ على استعداد لسماع قصتك طوال النهار والليل.

غادَرَ «نويل» الحُجْرة دون أن يُخبرني فطلبتُ من «مايكل» أن يبقى في مكانه ولا يتحرَّك حتَّى أعود، ثمَّ سارعتُ باللَّحاق ﺑ «نويل».

أوقفتُ «نويل» في الممرِّ المُظلِم، وتوسَّلتُ إليه قائلًا: لن تصل معه إلى شيء أبدًا، وأنا متأكِّد أنك تعرف ذلك. إنَّه ساذج ومُغفَّل، وليس حتَّى ساذجًا مُثيرًا للاهتمام؛ إنَّه مجرد رُوحٍ بائسة، كما أنَّه شخصٌ مغلوبٌ على أمره من أولئك الذين تمَّ السماح لهم بالهيام في ساحة المعركة؛ أعني ساحة معركة الحياة.

ناشدتُ «نويل» أن يستمع لي جيدًا، فأضفتُ قائلًا: لديَّ رغبةٌ جادَّة أن نتركه وشأنه، ولا تُحاول الضغط عليه حتَّى يتكلَّم …

– مَن الذي تحدَّثَ عن الضغط؟

– لا تُحاوِل استنطاقه بأيِّ طريقة؛ لأنَّه في الحقيقة لا يملك شيئًا يقوله، وإذا ما نجحتَ في الوصول إلى داخل عقله وإدراك مشاعره العميقة؛ فستكتشف أنَّه لا يعرف ما يقوم به من أفعال، لقد كنتُ أُراقبه لعِدَّة أيام؛ كي أتأكَّدَ من كلامي هذا. حاوِلْ إذن عمَلَ شيءٍ بخصوص التقرير، إنَّها عصابة كبيرة من المتمردين، ألَا تعتقد ذلك؟ عشرون رجلًا؟ ثلاثون رجلًا؟ فلْيَكُن قد أخبرك أنَّهم عشرون ودائمًا هم الرجال أنفسهم، وأنَّهم يأتون إلى المزرعة كلَّ أربعة أو خمسة أو ستة أسابيع؛ لكنَّهم لم يخبروه قَط بموعد عودتهم في كلِّ مرة، ولْتفترض أنَّه يعرف أسماءهم لكنَّه لا يعرف سوى الاسم الأول لكلِّ واحدٍ منهم. ستقوم عندئذٍ بعمَلِ قائمة بأسمائهم وبالأسلحة التي كانت بحوزتهم؛ فلتَقُل أيضًا أنَّهم كانوا يعيشون في مُعسكَر في الجبال بمكانٍ ما، لكنَّهم لم يُخبروه قَط عن مكانهم، وأخبروه فقط أنَّه في مكانٍ ما في الأعالي يصلون منه إلى المزرعة بعد يومَين من السَّير على الأقدام، وإذا فكَّرتَ أنَّهم ينامون في كهوف بصُحبة نسائهم وأطفالهم فذلك يكفي، واكتب ذلك في التقرير ثمَّ قمْ بإرساله، حان الوقت لتَرْكهم وشأنهم وعدم التفكير فيهم؛ كي نتفرَّغ لمواصلة أعمالنا.

وقفنا بالخارج وسط أشعة الشمس تحت سماء الربيع الزرقاء فقال «نويل»: أنت تُريدني إذن أن أكذب في كتابة التقرير وأُوقِّع باسمي عليه!

قلت: ليس ذلك كذبًا يا «نويل» وإنَّما ما قلتُه لك هو الحقيقة التي لا تستطيع أن تحصل على أكثر منها إذا ما حاولتَ الاستمرار في استجوابه.

– ولكنْ ماذا لو أنَّ تلك العصابة لا تعيش أبدًا في الجبال؟ ما الذي سيكون عليه الوضع لو أنَّهم يعيشون حول الأمير ألبرت، ويقومون بمهامهم في هدوء وفي وضَحِ النهار، وبعد أن ينام الأطفال يستخرجون بنادقهم من تحت البلاط، ثمَّ يتجوَّلون في الظلام ويقومون بعمليات التفجير وإشعال الحرائق وإرهاب الناس؟ هل فكَّرتَ في ذلك الاحتمال؟ ولماذا أنت مُتحمِّسٌ جدًّا لحماية «مايكل»؟

– أنا لست مُتحمِّسًا لحمايته يا «نويل»، هل تريد أن تقضي بقيَّة اليوم في معرفة الحكاية من رَجلٍ أَبْلَه وبائسٍ لا يعرف مؤخِّرته من كُوعه، رَجُل لا يتحكَّم في سرواله حين تزوره أمُّه في المنام بشَعرها المُحترق، رَجُل يؤمن أنَّ الأطفال الصِّغار يجدونهم تحت الشجيرات ذات الأغصان المُتشابكة؟ علينا أن نفعل الصواب يا «نويل». أُؤكِّد لك أن لا شيء هناك، وإذا قُمتَ بتسليمه إلى الشرطة فإنَّهم سيصلون للنتيجة نَفْسها. لا شيء هناك، والعقلاء من الناس لا يُعيرون تلك القصة أدنى اهتمام؛ قلت لك إنَّني كنتُ أراقبه لعِدَّة أيام، وأكاد أجزم لك أنَّه ليس من عالَمنا، إنَّه يحيا في عالَمٍ خاصٍّ به وحده.

عُدتُ وخاطبتُ «مايكل» قائلًا: لقد أنقذتُك ببلاغتي یا «مايكل»، سوف تحكي للشُّرطة عن قصةٍ مُقنِعة، وبدلًا من أن تعود إلى الأمير ألبرت وأنت مُقيَّد فوق ظَهْر الشاحنة وسط رائحة البول؛ فسوف تستطيع النوم فوق مُلاءاتٍ نظيفة وأنت تستمع إلى هديل الحمَام فوق الأشجار، ويُمكنك أن تغفو وتغرق في أفكارك الخاصة. أتمنَّى أن تشعُر بالامتنان في يومٍ ما، لقد عشتَ ثلاثين عامًا في ظلامِ المدينة وكان ذلك حدثًا استثنائيًّا خرجتَ منه سليمًا. كان بقاؤك على قيد الحياة مثل الحفاظ على حياةِ بطَّةٍ ضعيفةٍ وصغيرة، وكنتَ شبيهًا بطائرٍ وليد يُرفرف في العُشِّ؛ لا أوراق ثبوتية ولا نقود ولا عائلة ولا أصدقاء ولا حتَّى إدراك بكينونتك. أنت أكثر غموضًا من الغموض ذاته، أنت معجزة بكلِّ المقاييس.

•••

كان اليوم الأول من أيام الصيف الدافئة، وكان يومًا صالحًا للذهاب إلى الشاطئ، وبدلًا من الكشف على المريض الجديد الذي يُعاني من الحمَّى الشديدة والشعور بالدُّوار والتقيُّؤ والورم الليمفاوي؛ قمتُ بعزله في الحُجْرة القديمة، وأرسلت عينات من الدم والبول للتحليل. وقبل ذلك بنصف ساعةٍ كنتُ مارًّا بالقرب من حُجْرة البريد فلاحظتُ أنَّ الطَّرد لا يزال موجودًا، وكان من اليسير على الجميع أن يُلاحظ تلك الشَّارة الحمراء وطابع البريد السريع فوق الطَّرد.

قال الموظف المختصُّ: إنَّ سيارة البريد لم تأتِ اليوم.

قلت له: لماذا لم ترسلْه بالدرَّاجة مع مبعوثٍ مخصوص؟

أجاب: لا يوجد مبعوث.

قلت: إنَّ الأمر لا يتعلَّق بسجينٍ واحد، لكنَّه يتعلَّق بصحَّة المُعسكَر كله.

كان جالسًا إلى مكتبه، فهزَّ كتفَيه وهو يتصفَّح مجلةً نسائية وقال: وفيمَ العَجَلة؟

خلْفَ السياج الغربي والطوب المصنوع من الطين وخلْفَ الأسوار الشائكة؛ كان شجرُ البلوط المنتشر عبْرَ شارع «روزميد» قد تحوَّل في الأيام القليلة الماضية إلى اللون الأخضر الزمرديِّ الكثيف، وكانت حوافر الجياد باديةً في الشارع. وفي الاتجاه الآخر كانت أصواتُ فرقة الكورال الموسيقية القادمة من الكنيسة في «واينبرج»، والتي يُمكن سماعها كلَّ يومِ أَحَد تُغنِّي بقيادة عازف الأُكُوردِيُون للمساجين. بينما كانوا في طريقهم إلى المبنى رقم «د» لتناوُل وجباتهم المتواضعة من الفاصوليا وصلصة اللحم؛ كانت الموسيقى تُساعد في رفْعِ معنوياتهم، كما كان القَسُّ يُقلِّل من معاناتهم، وربما لذلك لم يكُنْ هناك نَقْص في عدد القساوسة، وهكذا لم يكُنْ ينقُصهم شيء.

قال «نويل»: لا يُمكن أن تستمر الحرب إلى الأبد، لا بد أن تنتهي في يومٍ ما كما ينتهي كلُّ شيء.

قلت: ومع ذلك فعندما تتوقَّف طلقات النيران ويهرب الحراس، ويمضي الأعداء عبْرَ البوَّابات دون أن يعترضهم أحد؛ فإنَّهم سيأملون في رؤية قائد المُعسكَر وهو يُسدِّد طلقةً من الرصاص إلى رأسه، بينما يكون جالسًا إلى مكتبه، ذلك ما سوف يأملونه على الرغم من كل شيء.

لم يقُل «نويل» أيَّ شيء وكأنَّه لم يسمع شيئًا.

•••

أطلقتُ سراح «مايكل» بالأمس، وذكرتُ في بيان إطلاق السراح إعفاءه من التدريبات البدنية لمدَّة أسبوعٍ على الأقل. وفيما بعد، وحين كنتُ خارجًا من المدرَّج ذات صباح؛ شاهدتُ «مايكل» في ميدان السِّباق وهو يُمارس بصعوبة مع بقيَّة المساجين تمارينهم البدنية. كان عاريًا حتَّى خصره، وبدا كالجمجمة وهو يُجرْجِر قدمَيه خلْفَ أربعين من الأجساد القوية. أخبرتُ الضابط المُناوب باحتجاجي واعتراضي؛ فأجابني قائلًا: عندما يفقد قدرته على الاستمرار فإنَّه سيتوقَّف.

قلت مُعترِضًا: لن يتوقَّف، لكنَّه سيموت. إنَّ قلبه هو الذي سيتوقَّف.

قال: لقد أخبرك ببعض الحكايات، وأرجوك ألَّا تُصدِّق كلَّ ما يُخبرك به أولئك التافهون. إنَّه لا يُعاني من شيءٍ؛ فلماذا أنت مهتمٌ به على أيَّة حال؟

استطرد وهو يشير إلى «مايكل»: انظر، عيناه مغلقتان ويتنفَّس بعمق، ووجهه لا يُوحي بشيء.

ربما أكون فعلًا قد صدَّقتُ كثيرًا من الحكايات التي أخبرني بها، وربما تتمثَّل الحقيقة ببساطة في حاجته لأن يأكل أقلَّ من الآخرين.

•••

كنت مخطئًا حين ساورني الشكُّ بخصوص «مايكل»، فها هو يعود بعد يومين مستندًا إلى اثنين من الحُرَّاس. كان غائبًا عن الوعي حين اتجهتْ «فیلیستي» نحو الباب وسألتْ: ماذا حدَثَ له؟

تظاهروا بعدم المعرفة وقالوا: اسألي الضابط «ألبريشت».

كانت يداه وقدمَاه باردتَين كالثلج، وكانت نبضات قلبه ضعيفةً جدًّا. لفَّتْ «فیلیستي» البطاطين حول جسده الهزيل مع بعض زجاجات الماء الساخن، ثمَّ قُمتُ أنا بحَقْنه، وبعد فترةٍ وجيزة أطعمتُه بالجلوكوز واللبن من خلال الأنبوبة.

شرَحَ «ألبريشت» الحالة قائلًا: إنَّها حالةُ عصيان وعدم التزامٍ بالأوامر؛ لقد رفَضَ «مايكل» الاشتراك في الأعمال والأنشطة المُقرَّرة؛ فعاقبوه بعمَلِ مزيدٍ من التدريبات الشاقَّة مثل القَفْز وهو جالسٌ القرفصاء، لكنَّه انهَارَ بعد القفزة السادسة، ولم يستطع أن يستعيد وعيه.

قلتُ له مُتسائلًا: وما العمل الذي رفَضَ القيام به؟

– لقد رفَضَ أن يُغنِّي.

– يُغنِّي؟! إنَّه ليس شخصًا سويًّا، كما أنَّه لا يستطيع الكلام بطريقةٍ صحيحة؛ فكيف تتوقَّع منه أن يُغنِّي؟

أجاب بلا مبالاة: لو أنَّه حاوَلَ لمَا أصابه الضرر.

– وكيف تُعاقبونه بممارسة التدريبات الجسدية الشاقَّة في حين أنكم ترونه ضعيفًا وهزيلًا كما الطفل الرضيع؟

أجاب: تلك هي المسئولية المفروضة علينا.

•••

ما إن استردَّ «مايكل» قليلًا من صحته، واستعاد وعيه من جديد حتَّى سارع بشدِّ أنبوبة الجلوكوز واللبن من أنفه، ولم تتمكَّن «فيليستي» من إيقافه؛ لأنَّها جاءت مُتأخِّرة، وها هو يرقد الآن بجوار الباب تحت كومة البطاطين كالجثة رافضًا الطعام. دفَعَ زجاجة الغذاء بعيدًا بذراعه النحيلة، وقال: ليس ذلك هو نوع الطعام المناسب لي.

سألتُه بطريقةٍ ساخرة: وما نوع الطعام المناسب لك؟ ولماذا تتعامل معنا بهذه الطريقة؟ ألَا ترى أنَّنا نُحاول مساعدتك؟

رمَقَني بنظرةٍ هادئةٍ وخاليةٍ من أيِّ اهتمام، أيقَظَت الغضَبَ بداخلي؛ فقلت: هناك مئات من الناس يموتون من الجوع كلَّ يوم وأنت لا تُريد أن تأكل، قُل لي لماذا؟ هل أنت صائم؟ أم أنَّه صوم احتجاجي؟ وما الشيء الذي تحتجُّ من أجله؟ هل تريد أن تَنعَم بحريتك؟ إذا أطلقنا سراحك وتركناك للشارع وأنت في مثل تلك الحالة فسوف تموت في خلال أربعٍ وعشرين ساعة، أنت تستطيع العناية بنَفْسك، لكنَّك لا تعرف كيف تفعل ذلك. أنا و«فيليستي» فقط في العالم كله اللذان نهتمُّ بك كثيرًا، ونُحاول مساعدتك، وليس ذلك لأنَّك شخصٌ مُتميِّزٌ أو حميم؛ وإنَّما لأنَّ طبيعة عمَلِنا تُحتِّم علينا الاهتمام بك، لماذا إذن لا تتعاون معنا؟

سمِعَ جميع مَن في العنبر حديثنا فحدثتْ ضجَّةٌ كبيرة، وكان الولد الذي اشتبهتُ في إصابته بالالتهاب السحائي الذي أمسكتُه بالأمس مُتلبِّسًا بوضْعِ يده فوق تنورة «فيليسيتي» واقفًا فوق السرير لرؤية ما يحدُث وهو يبتسم ابتسامةً عريضة.

قال «مايكل» مُتذمِّرًا: لم أطلُب قَط أيَّ معاملةٍ خاصة.

استدرتُ من أمامه، وخرجتُ قائلًا: أنت لم تطلُب قَط أيَّ شيء، لكنَّك أصبحتَ كالطائر العملاق القابض على رقبتي، وذراعاك النحيلتان تلتفَّان حول رأسي، كما أنك تُمثِّل عبئًا ثقيلًا فوق كاهلي.

بعد لحظاتٍ عاد الهدوء إلى العنبر فعُدتُ وجلستُ على طرف سريره، ثمَّ انتظرت فترة طويلة حتَّى فتَحَ عينيه، وقال: أنا لن أموت، لكنَّني لا أستطيع تناوُل الطعام هنا، لا أستطيع تناوُل طعام المُعسكَر، هذا كل ما في الأمر.

قلتُ مخاطبًا «نويل»: لماذا لم تكتبْ طلبًا يُفيد بإطلاق سراحه، سوف أصطحِبه الليلة إلى البوَّابة، وسأضع بعض النقود في جيبه، ثمَّ سأتركه ليرحل، وعندئذٍ سيتصرف مع نَفْسه بطريقةٍ مختلفة. عليك أن تكتب الطَّلب، وسأذكُر في التقرير أنَّه يُعاني من الْتهابٍ رئويٍّ حادٍّ ومن سوء التغذية، وهكذا نستطيع أن نشطُبه من قائمة المحتجَزين ونتخلَّص من التفكير فيه للأبد.

قال «نويل»: إنَّني حقًّا في حيرةٍ من أمْرِ اهتمامك به، لا تطلبْ منِّي أن أتلاعَبَ في الأوراق فلَنْ أفعل ذلك حتَّى لو أنَّه في طريقه إلى الموت، وحتَّى إذا تعمَّد تجويع نَفْسه حتَّى الموت. دَعْه يموت، إنَّه أمرٌ بسيط جدًّا.

قلتُ: ليست مسألةَ موت، ولا يتعلَّق الأمر بكونه يريد أن يموت؛ إنَّه فقط لا يُحبُّ الطعام الذي نُقدِّمه هنا، لا يُحبُّه على الإطلاق. ربما لا يعجبه سوى خبز الحرية.

ساد بيننا صمْتٌ مُثير للحيرة، ثمَّ استطردتُ قائلًا: وكلانا أيضًا لا يُحبُّ طعام المُعسكَر.

قال «نويل»: أنت شاهدتَه حين جاءوا به إلى هنا، لقد كان كالهيكل العظمي، وكذلك حين كان يعيش بمفرده في تلك المزرعة حُرًّا طليقًا كالطائر، وكان يتناول خبز الحرية كان كالهيكل العظمي.

قلت: ربما هو رجُلٌ نحيل جدًّا بطبيعته.

•••

كان العنبر مُظلِمًا، وكانت «فيليستي» نائمةً في حُجْرتها. حملت مصباحًا يدويًّا، ووقفت فوق سرير «مايكل»، ثمَّ قُمتُ بهزِّه حتَّى استيقظ. وضَعَ يده فوق عينَيه، فانحنيتُ واقتربتُ منه حتَّى شممتُ رائحة الدُّخان نَفْسه التي تُلازمه دائمًا، رغم حرصه الدائم على الاغتسال، وقلت له هامسًا: ثمَّة شيء أريد قوله لك يا «مايكل»، إذا لم تأكلْ فإنَّك حتمًا ستموت. نَعَم ستموت، وقد يستغرق موتك وقتًا طويلًا، وسيكون وقتًا مريرًا وشاقًّا، لكنَّك في النهاية ستموت حتمًا، وعندئذٍ لن أستطيع عمَلَ أيِّ شيءٍ لإنقاذك. ولْتعلم أنَّه بمقدوري أن أربطك بإحكامٍ وأُثبِّتَ رأسك بحِزام، ثمَّ أضع الأنبوبة داخل حنجرتك لإجبارك على الطعام، لكنَّني لن أفعل ذلك؛ لأنَّني أتعامل معك كرَجلٍ حرٍّ، وليس كطفلٍ أو حيوان. إذا أردتَ إذن التخلُّصَ من حياتك فافعلْ ذلك؛ لأنَّها حياتُك وليست حياتي.

رفَعَ يده من فوق عينَيه، ثمَّ تنحنح وبدا أنَّه على وشك الكلام؛ لكنَّه اكتفى بهزِّ رأسه وارتسمتْ فوق وجهه ابتسامةٌ طفيفة، بدتْ في ضوء المصباح اليدوي من نوع الابتسامات الكريهة؛ فقلتُ له هامسًا: ماذا تُريد من أنواع الطعام؟ وأيُّ نوع من الطعام أنت مستعدٌّ لتناوُله؟

أزاح بيده المصباح اليدوي جانبًا، ثمَّ استدار وعاد إلى النوم.

•••

في الصباح بدأ طابورٌ طويل من الرجال الحفاة في السَّير لمسافةٍ تُقدَّر باثني عشر كيلومترًا. كانوا في طريقهم إلى الذهاب إلى فِناء محطة السكك الحديدية، وكان يتقدَّمهم أحد الطبَّالين تحت حِراسةٍ مُسلَّحة، لكن حوالي ستة منهم لم يمتَثِلُوا للأوامر؛ فوضعوهم في محبسٍ مؤقَّت لحين إرسالهم إلى «مولديرسروس»، كما عاد إلى المستشفى ثلاثةٌ آخرون من أولئك الرجال الحفاة، كان «مایكل» من بينهم؛ لأنَّهم كانوا عاجزين عن السَّير.

كانت رائحة الصابون المشبَّع بحمض الكاربوليك تملأ الجوَّ، وساد نوعٌ من الهدوء المريح؛ فشعرتُ ببعض الراحة وقَدرٍ غريبٍ من السعادة، فهل سينتابني الشعورُ نَفْسه عندما تنتهي الحرب ويتمُّ إغلاق المُعسكَر؟ ربما لا يُغلقون المُعسكَر؛ فمثل هذا المُعسكَر والمعسكرات الأخرى ذات الأسوار العالية لها استخداماتٌ أخرى، وسيكون لكلِّ العاملين على حِراسة الضعفاء والعجَزَة الحقُّ في الحصول على إجازة نهاية الأسبوع. كانت خِدمات السكك الحديدية قد تدهورتْ وأصبحت أسوأ ممَّا كانت عليه؛ ممَّا نتَجَ عنه تأخير وصول حصة أنابيب التغذية، وكان من المُفترَض وصولُ حصة شهر نوفمبر. سمِعَ «نويل» من مصدرٍ موثوق أنَّ الحرب كانت مشتعلةً الأسبوع الماضي في «دوآر»؛ فحدثتْ أعطالٌ كثيرة في الطريق.

•••

اشتريت قطعةً من الجوز من أحد الباعة الجائلين في الطريق الرئيسي، وقمتُ بتقطيعها إلى شرائح، ثمَّ وضعتُها في المِحمَصة للشِّواء، وقلت ﻟ «مايكل» بعد أن ساعدتُه على الاستناد إلى الوِسادة: إنَّها ليست قَرْع العسل، لكن لها الطَّعم نَفْسه تقريبًا.

تناوَلَ قضمةً، ورُحتُ أراقبه وهو يضعُها في فمه، ثمَّ قلتُ: هل تُعجبك؟

أشار برأسه.

كنت قد قمتُ برشِّ قليلٍ من السكَّر فوق شريحة الجوز، غير أنَّني لم أتمكَّن من العثور على القرفة، تعمَّدتُ أن أُغادر بعد لحظة حتَّى لا يشعُر بالإحراج، وعندما عدتُ كان نائمًا، وكان طبَقُ الجوز فارغًا بجواره. لكنَّني افترضتُ أنَّ «فیلیستي» حين تأتي للتنظيف في المرة القادمة فإنَّها ستجِدُ الجوز، وقَدْ غطَّتْه الحشرات، مُلقى تحت السرير … يا لَلْأسف!

سألتُه بعد حين: ما الذي حثَّك على الأكل؟

لم يقُل شيئًا، وظلَّ صامتًا لفترةٍ طويلة؛ فاعتقدتُ أنَّه استسلَمَ للنَّوم، لكنَّه تنحنَحَ بعد ذلك وقال: لم يهتمَّ أحدٌ من قبلُ بطعامي؛ ولذلك فإنَّني أتساءل عن سبَبِ اهتمامك.

أجبتُ قائلًا: لأنَّني لا أرغب في رؤيتك وأنت تتضوَّر من الجوع حتَّى الموت؛ لأنَّني لا أريد أن أرى أيَّ شخصٍ هنا وهو يموت من الجوع.

أعتقد أنَّه لم يسمع إجابتي، وتحركتْ شفتاه المشققتان بطريقةٍ تُنبئ عن خوفه من فقدان بعض الأفكار التي تدور في ذهنه؛ فقلتُ لنَفْسي مُتسائلًا: ماذا أعني أنا بالنسبة إلى ذلك الرَّجُل؟ وما الفرق لديه إذا كنتُ حيًّا أو ميِّتًا؟

ثمَّ قلتُ له: قد تسألني أيضًا عن السبب الذي من أجله لا نُطلق النار على المساجين، إنَّه السؤال نفسه …

حرَّكَ رأسه من جانب إلى آخر، ثمَّ فتَحَ عينَيه ورمَقَني بنظرةٍ زائغة؛ فلم أستطع الاستطراد في حديثي، مع أنَّني كنتُ راغبًا في قول المزيد. وبدا واضحًا أنَّ المناقشة أو الجدل مع شخصٍ ينظُر إليك بمثل تلك النظرة، وكأنَّه قادمٌ لتوِّه من المقبرة، هو أمرٌ أحمقُ ومثيرٌ للضحك.

ظلَّ كلانا يُحدِّق في الآخر لحظاتٍ طويلة، ثمَّ وجدتُ نَفْسي أتحدَّث، ولكنَّه كان حديثًا هامسًا. فكَّرتُ أثناء حديثي في الاستسلام ونسيان أمره تمامًا، لكنَّني عُدتُ وتساءلتُ مرةً أخرى عمَّا أعنيه أنا بالنسبة إلى ذلك الرَّجُل.

كان قلبي يدقُّ حين قلتُ له: لم أطلُب منك أن تأتي إلى هنا، كلُّ شيءٍ كان على ما يُرام قبل مجيئك، وكنتُ سعيدًا. ولذلك فإنَّني أتساءل: لماذا أنا …؟

أغلَقَ عينَيه مرةً ثانية، وكان حلقي جافًّا فتركتُه وذهبتُ إلى الحمَّام وشربت، ثمَّ وقفتُ مدَّةً طويلة مستندًا إلى الحوض وقد غمَرَني النَّدم والأسف، ورُحتُ أُفكِّر في المتاعب القادمة، عدْتُ إليه حاملًا كوبًا من الماء، وقلتُ: إذا كنت لا ترغب في الطعام فأنت حر، ولكن يجب أن تشرب.

ساعدتُه في النهوض من رقدته، ثمَّ تناوَلَ جرعةً قليلة من الماء.

عزیزي «مايكل»

الإجابة عن سؤالك كالتالي: لأنَّني أريد معرفة حكايتك، أريد معرفة كيفية اشتراكك في الحرب وأنت لستَ جنديًّا، أنت يا «مايكل» تُمثِّل صورة هزلية، وأنت مُهرِّج ورَجلٌ مُتبلِّد وعديمُ الحيوية، ما عملك في هذا المُعسكَر؟! نحن لا نستطيع عمَلَ شيءٍ لإنقاذك من فكرة الانتقام لِمَا حدَثَ لأمِّك التي تزورك بشعرها المحترق في أحلامك، «هل فهمت قصة أمِّك بشكل صحيح؟ على أيَّة حال فلقَدْ فهمْتَها على هذا النحو»، وما المطلوب منَّا لكي نُعيد تأهيلك ونعمل على إصلاحك؟ هل يكون ذلك بأن تعمل في صُنْع السِّلال أو قصِّ الأعشاب مثلًا؟ أنت شخصٌ تافهٌ يا «مايكل»، وغريب لمَن هم على شاكلتك أن يقفوا في مواجهةِ حيوانات العالم المُفترِسة بمفردهم. أنت كالحشرة التي سقطتْ وسط كميةٍ كبيرة من الخَرَسانة المُسلَّحة، إنَّك ترفع قدمَيك النحيلتَين وتتقدَّم ببطء مُحاولًا الاندماج في شيءٍ ما، لكنَّك لا تجِدُ شيئًا. لماذا تُغادر الأدغال دائمًا يا «مایكل» حيث هي المكان الذي تنتمي إليه؟ كان ينبغي عليك أن تبقى طوال حياتك مُتشبِّثًا بالأدغال والشجيرات التي لا يُمكن وصفها، وتبقى في ركنٍ هادئ من البستان المجهول وتَنعَم بالسَّلام، ويكون بمقدورك عندئذٍ أن تفعل كلَّ ما تفعله الحشرات للحفاظ على حياتك؛ كأنْ تقضم ورقةً هنا وهناك وتأكل اليرقات الغريبة وتشرب من قطرات الندى، يجب أن تتخلَّص من حكاية أمِّك الكابوسية، وتبدأ حياةً جديدةً مستقلة. لقد أخطأتَ خطأً كبيرًا يا «مايكل» عندما لم تستطع نسيان حكاية أمِّك، وظللتَ تُفكِّر فيها دائمًا، وهربتَ من المدينة المحترقة بحثًا عن الأمان في الريف. لأنَّني حين أُفكِّر فيك وأنت تحمل أمَّك، وتلهث مُختنقًا من الدخان مُحاولًا تجنُّب طلقات الرصاص؛ فإنَّني أُفكِّر أيضًا فيها وهي قابعةٌ فوق كتفَيك، فتجعلك غير قادر حتَّى على التفكير؛ ممَّا جعلك تخطط الآن للَّحاق بها. إنَّني أتساءل يا «مايكل» عن عدم رؤيتك لي حين تفتح عينَيك عن آخرهما. إنَّك لا ترى جدران المستشفى البيضاء والأَسِرَّة الفارغة. ألَا ترى «فيليستي» بطرحتها البيضاء؟ قل لي ما الذي يُمكنك أن تراه؟ هل هي أمُّك التي تراها بتلك الهالة من اللَّهب حول شَعرها وهي تُشير لك بإصبعها المعقوف وتبتسم ابتسامةً عريضة كي تلحق بها؟ هل يُفسِّر ذلك لامبالاتك وعدم اهتمامك بالحياة؟

الشيء الآخر الذي أرغب في معرفته هو نوعُ الطعام الذي كنتَ تتناوله في البرِّية الذي جعَلَك غيرَ قادرٍ على تذوُّق كلِّ أنواع الطعام الأخرى، أنت لم تتحدَّث عن أيِّ نوعٍ من الطعام سوى قَرْع العسل حتَّى إنَّك تحمل بذور قَرْع العسل معك؛ فهل لا يعرفون في «كارو» سوى قَرْع العسل؟ وهل يجب أن أصدِّق أنك بقيتَ على قيد الحياة لمدَّة عامٍ كامل دون أن تأكل شيئًا غير قَرْع العسل؟ إنَّ الجسد البشري غيرُ مؤهَّلٍ لذلك يا «مايكل»، قُل لي عن شيءٍ آخر كنتَ تأكله، هل كنتَ تصطاد؟ هل صنعتَ لنَفْسك رُمحًا وبعض السِّهام للصَّيد؟ هل تناولتَ الجذور وحبَّات التوت؟ هل أكلتَ الجراد؟ تقول أوراقك إنَّك كنتَ تعيش على غذاء ينزل من السماء؛ فهل كان ذلك الغذاء يهبط من السماء خصوصًا لك؟ وهل كنت تقوم بتخزين ذلك الغذاء في عُلَب تحت الأرض من أجل أصدقائك؛ لكي يُشاركوك إيَّاه في الليل؟ هل لهذا السبب كنتَ لا تَقبَل طعام المُعسكَر؟ هل لأنَّك كنتَ مُدلَّلًا بطعام السماء ذي المذاق الخاص؟

يجب أن تختفي يا «مايكل» فأنت لا تُبالي بنَفْسك على الإطلاق، يجب أن تَمضي بعيدًا وتذهب للاختباء في حفرةٍ عميقةٍ مُظلِمة حتَّى تنتهي كلُّ متاعب الحياة ومشاكلها، هل تعتقد أنك رُوحٌ مجهولة ولا يُمكن رؤيتها أم أنَّك مجرَّدُ زائرٍ في كوكبنا؟ هل أنت مخلوق لا يُمكن أن تَطَالك قوانين الدولة؟ حسنًا، إنَّ قوانين الدولة رابضةٌ في قبضة يدك، إنَّها القوانين التي تربطك الآن في السرير تحت منصةِ مضمار «كينيلورث» القديم، وإذا لزم الأمر فإنَّهم سيُلقون بك وسط القاذورات. إنَّ القوانين يا «مايكل» ليس لها قلبٌ وأتمنَّى أن تَعِي ذلك، كما أنَّهم لن يرحموك لنحافتك وعجزك، لا مكان للأرواح الكونية إلَّا ربما في القارة القطبية الجنوبية أو في أعالي البحار.

إذا لم تحاول توفيق أوضاعك؛ فإنَّك ستموت يا «مايكل»، ولا تعتقدْ أنك ستنتهي هكذا ببساطة، لا تتصوَّر أنك ستتحوَّل إلى رُوحٍ يمكنها أن تطير في الأثير. لقد اخترتَ طريقةً مؤلمةً وبائسة للموت، إنَّها طريقةٌ مُخجِلةٌ ومُؤسِفة يا «مايكل». أنت تمضي بسرعةٍ نحو الموت ولْتعلمْ أنَّ قصَّتك ستموت معك للأبد إلَّا إذا عُدتَ إلى رُشدك واستمعتَ لي، اسمعني إذن يا «مايكل»؛ فأنا الشخص الوحيد الذي يُمكنه إنقاذك، وأنا الوحيد الذي يراك على حقيقتك، إنَّني الوحيد الذي يهتمُّ بك، وأنظُر إليك كحالةٍ إنسانية بعيدًا عن أيِّ تصنيفات، وأراك رُوحًا لم تتأثَّر بأيِّ مذهبٍ أو عقيدة، روحًا خارج التاريخ، وروحًا تُرفرف بأجنحتها من داخل تابوت حَجَريٍّ صلد، وتتذمَّر من خَلْف قناعٍ أخرق. أنت شخصٌ رائع يا «مايكل»، وذو قيمةٍ كبيرة، وفريدٌ من نوعك. أنت مخلوقٌ قادم من العصور السحيقة؛ مثل: أسماك الكويلاكانس. لقد تعثَّرنا جميعًا، واصطدمنا بحافةِ بوتقة التاريخ، لكنَّك وحدك الذي يتبع تلك الطريقة البلهاء. هل ينبغي علينا أن نُقدِّرك ونحتفل بك؟ وهل يتوجَّب علينا أن نضع ملابسك في المتحف، ونضع معها أيضًا كِيسَ بُذورِ قَرْع العسل الذي تحمله ومعه ملصق مع تثبيت لوحة معدنية فوق جدران حلبة السِّباق إحياءً لذكرى إقامتك هنا؟ لا، إنَّها ليست الطريقة التي ستسير عليها الأمور؛ فالحقيقة أنك ستمضي نحو الهاوية وستفنى بطريقةٍ غامضة، وسيدفنونك في حفرةٍ دون اسم في أحد أركان حلبة السباق، ولن يتذكَّرك أحدٌ غيري إلَّا إذا استسلمتَ أخيرًا وفتحتَ فمَّك لتتكلَّم؛ أرجوك يا «مايكل» وأتوسَّل إليك أن تتكلَّم.

صديق

بعد كثيرٍ من الشائعات، قالوا أخيرًا كلمةً واضحةً ومُحدَّدة عن القادمين هذا الشهر. كانت الدفعة الرئيسية واقفةً في «ريديرسبورج» في طابور انتظارًا لنَقْلها، أمَّا بالنسبة إلى القادمين من «كيب الشرقية» فلَنْ تأتي أبدًا، ولم يعُدْ لدى معسكر الجنود في «أويتنهاج» ما يكفي من الجنود للفصل بين المساجين الذين يُشكِّلون خطرًا وبين المساجين العاديين، وكان كل المُعتقَلين في هذا القطاع تحت حِراسةٍ مُشدَّدة إلى حين صدور أوامر أخرى.

مضى يوم العُطلة في المُعسكَر ببطءٍ شديد، وكانوا قد اتفقوا على إقامة مباراة في لعبة الكرة والمضرب غدًا بين العاملين في المُعسكَر وفريق آخر. كانت المباراة حماسيَّة ومليئة بالكرِّ والفرِّ، وكان «نويل» هو كابتن الفريق رغم أنَّه لم يُمارس اللعبة منذ ثلاثين عامًا كما قال، حتَّى إنَّه لم يستطع أن يجِدَ الملابس الرياضية المناسبة له.

حضَرَ «نويل» للتفتيش، ولم يكُنْ موجودًا في العنبر سوى اثنين من المساجين: أحدهما «مايكل»، وحالة أخرى كانت مُصابة بارتجاجٍ في المخ. تحدَّثنا بصوتٍ خفيض عن «مايكل» رغم أنَّه كان نائمًا، وقُلتُ مُخاطِبًا «نويل»: كنتُ لا أزال قادرًا على إنقاذه إذا كنتُ قد استخدمتُ الأنبوبة، لكنَّ الأمر يُصبح كريهًا حين تُحاول إجبارَ شخصٍ ما على العيش في الوقت الذي يكون فيه رافضًا للعيش، أعرف أنَّ القوانين واللوائح تُقيِّدني، تلك القوانين التي تنصُّ على عدم إكراه المريض على الأكل، وعدم محاولة الإنقاذ وإطالة العمر.

سألت «نويل»: كم من الوقت مضى عليه وهو في هذه الحالة؟

– ربما أسبوعان.

قلتُ له: وربما ثلاثة.

قال: إنَّها نهايةٌ هادئة على الأقل.

قلتُ بسرعة: لا؛ إنَّها نهايةٌ مُؤلِمةٌ ومُفجِعة.

سألني: ألَا تستطيع أن تحقنه بنوعٍ معيَّن من الحقن؟

أجبتُ: أتقصد القضاء عليه؟

قال: لا؛ أنا لا أعني القضاء عليه، ولكنَّني أقصد شيئًا يُساعده على الموت بطريقةٍ أسهل.

رفضتُ الفكرة وقلتُ: لا أستطيع تحمُّل مثل تلك المسئولية، بينما ما زالت الفرصةُ قائمةً لتغيير أفكاره.

•••

أُقيمت المباراة، وفاز الفريق الآخر. قفَزَ ضاربو المِضرب لتجنُّب ضربةِ إرسالٍ فوق العشب غير المُنبسِط. وكان «نويل» يلعب ببدلة السِّباق البيضاء المُخطَّطة باللون الأحمر الفاتح؛ فبدا كالأب في حفلة رأس السنة، سألته: أين تعلَّمتَ لعبة المِضرب؟

أجاب: في «موريسبيرج» عام ١٩٣٠م بملعب المدرسة أثناء استراحة الغذاء.

أقاموا حفلًا صاخبًا في الليل بعد انتهاء المباراة، وحدَّدوا موعد مباراة العودة في فبراير، في مدينة «سيمون».

•••

سيطَرَ اليأسُ على «نويل» بعدما سمِعَ اليوم أنَّ «أوتينهاج» ليست سوى البداية، وأنَّ التمييز بين معسكرات التأهيل ومعسكرات الاعتقال لم يعُدْ ساريًا، وأنَّهم أغلقوا أحد تلك المُعسكَرات الأربعة، وبقيَ منها ثلاثة، بينها مُعسكَر «كینیلورث»، ستتحوَّل إلى معسكرات اعتقال.

قلتُ مُتسائلًا: هل تعني يا «نويل» أنك ستقوم باعتقال الجنود هنا في «كينيلورث» والزجِّ بهم خلْفَ الأسوار والأسلاك الشائكة مع عددٍ قليل من كبار السنِّ والصبية؟

أجاب قائلًا: لقد وضعوا في اعتبارهم عيوبَ مُعسكَر «كینیلورث»، وسوف يقومون بعمَلِ بعض التعديلات على الإضاءة وأبراج الحِراسة قبل أن يُعيدوا افتتاحه.

أخبرني «نويل» أنَّه يُفكِّر في الاستقالة، إنَّه في الستين من عمره، ولقد خدَمَ وقتًا طويلًا من حياته، كما أنَّ لديه ابنةً أرملةً كثيرًا ما ضغطتْ عليه للعيش معها في خليج جوردون؛ قال لي: أنت في حاجةٍ لرَجلٍ قويٍّ لإدارة مُعسكَرٍ شاقٍّ كهذا، وأنا لستُ ذلك الرَّجُل.

لم أستطع الاختلاف معه، كان «نويل» على حق.

•••

عندما وصلتْ «فيليستي» في الصباح لاحظتْ عدم وجود «مايكل» فوق سريره، لا بد أنَّه هرَبَ في الليل. لم تُعلن «فیلیستي» عن غيابه فقَدْ خطَرَ بذهنها أنَّه لم يهرب لكنَّه ذهَبَ إلى الحمَّام. لم تَكُن الحِراسة كافيةً في المُعسكَر باستثناء أولئك الجنود المُكلَّفين بحراسة البوَّابة الرئيسية وبوَّابة العاملين. لم تكُنْ هناك دورياتٌ تُحيط بالحدود الخارجية، وكانت البوَّابة مغلقة؛ فلم نعُدْ نُفكِّر في أمر «مايكل». ربما يكون قد خرَجَ بعد أن تسلَّق الجدار — الله وحده يعلم كيف يستطيع التسلُّق بحالته المزرية — وفرَّ بعيدًا، ولكن الأسلاك الشائكة كانت سليمة، لا بد إذن أنَّه تسلَّل من خلال أيِّ شيء؛ لأنَّ جسده نحيلٌ ولا يتعدَّى كونه شبحًا أو طيفًا.

وقَعَ «نويل» في مأزق، فالإجراءات المُحدَّدة تتطلَّب كتابةَ تقريرٍ عن حالة الهرب، وتمريره إلى الشُّرطة المدنية، غير أنَّ مثل تلك الحالة سيترتَّب عليها القيام بتحقيقٍ شامل، وستتدخَّل وزارة الخارجية بلا شك، وسيقف كلُّ طاقم الموظفين في الممرَّات الليلية، ولن تتوقَّف الدوريات الراجلة، وإذا لم يحدث ذلك فإنَّهم سيُلفِّقون تقريرًا بالوفاة وينسون أمر «مايكل».

ناشدتُ «نویل» قائلًا: أرجوك أن تنسى قصة «مايكل» تمامًا؛ فلقَدْ رحَلَ المُغفَّل المسكين كالكلب المريض ليلقى حتفه في مكانٍ ما، دَعه يموت في أيِّ مكان، ولا تُحاول إعادته وإجباره على الموت هنا على مَرأًى من أعين الغرباء.

ابتسم «نويل» فقلتُ: أنت تبتسم، لكنَّني أقول الحقيقة؛ فالناس من أمثال «مايكل» مرتبطون بأشياء لا أفهمها أنا، ولا تستطيع أنت أن تفهمها أيضًا. إنَّهم يسمعون نداء الربِّ فيطيعون، ألَمْ تسمع عن الأفيال؟

استطردتُ قائلًا: على «مايكل» ألَّا يعود أبدًا إلى هذا المُعسكَر، كان وجوده هنا خطأً. وفي الواقع إنَّ حياته كلها منذ البداية وحتَّى النهاية كانت خطأً. وعلى الرغم من إدراكي لقسوة ووحشية ما سوف أقوله فإنَّني سأقوله: كان لا ينبغي أبدًا أن يُولد شخصٌ ما ويتم الزجُّ به في العالم بتلك الطريقة التي حدثتْ مع «مايكل»، وكان من الأفضل بالنسبة إلى أمِّه أن تخنقه عندما شاهدتْ شكله ثمَّ تضَعُه بعد ذلك في صندوق القُمامة. والآن أرجوك أن تتركه وشأنه، سأكتب شهادة الوفاة وعليك أن تُصدِّق على توقيعي، وسوف يضَعُها الموظف في الملف دون حتَّى أن ينظُر إليها، وهكذا تكون نهاية قصة «مايكل».

قال «نويل»: إنَّه يرتدي البيجاما الكاكي الخاصة بالمُعسكَر، وسوف تقبض الشُّرطة عليه وتسأله عن المكان الذي كان فيه، ولا شكَّ أنَّه سيُخبرهم بأنَّه جاء من مُعسكَر «كينيلورث»، وعندما يقومون بمراجعة الملفات؛ لن يجدوا أيَّ تقريرٍ يُفيد بالهَرَب، عندئذٍ فلْنذهب إلى الجحيم.

أجبته قائلًا: لم يكن يرتدي بيجاما المُعسكَر؛ لأنَّه ترك بيجامته فوق السرير، وليتني أعرف ما يرتديه الآن. أمَّا فيما يتعلَّق باعترافه أنَّه قادم من مُعسكَر «كينيلورث»؛ فإنَّه لن يفعل ذلك لسببٍ بسيط جدًّا، وهو أنَّه لا يُريد العودة إلى «كينيلورث». سوف يُخبرهم بواحدةٍ من قصصه الأخرى؛ فبمقدوره مثلًا أن يقول لهم: إنَّه قادمٌ من بستان الجنة. سيضع أمامهم كِيس بُذور قَرْع العسل، ويقوم بهزِّه، ثمَّ سيبتسم لهم. وعندئذٍ سيضعونه في السيارة ويُسارعون لإيداعه مستشفى المجانين. لقد استمعتَ یا «نويل» إلى آخر كلماته، بالإضافة إلى أنك تعرف أنَّ وزنه كان خمسةً وثلاثين كيلو، أنت تعرف أنَّه مُجرَّد جِلدٍ على عَظْم؛ فهو لم يتناول أيَّ طعامٍ طيلة أسبوعَين كاملَين. لقد فَقدَ جسده القدرة على استيعاب المواد الغذائية العادية، حتَّى إنَّني مندهشٌ لكونه كان قادرًا على الوقوف والمشي. إنَّ تسلقه للجدار كان معجزةً ولا أدري كم استغرق من الوقت في تسلُّق الجدار. سيموت ذات ليلةٍ في العراء بعد تعرُّضه لعوامل الجوِّ وسيتوقَّف قلبه.

قال «نويل»: عن أيِّ شيءٍ تتحدَّث؟ هل تحقَّق أحدٌ من أنَّه لا يرقد في مكانٍ ما خارج الأسوار، لا بد أنَّه سقَطَ في الناحية الأخرى أثناء محاولته تسلُّق الجدار.

انتصبتُ واقفًا؛ فأضاف: وإذا أردتَ التحقُّق من كلِّ شيءٍ وبكلِّ الطُّرق؛ فعليك بذلك، ويمكنك استخدام سيارتي.

لم أستخدم السيارة، لكنَّني قمتُ بجولةٍ حول المُعسكَر على أقدامي. كانت الأعشاب الضارَّة تنمو بغزارةٍ حول محيط المُعسكَر، وحين مررتُ بجوار الجدار الخلفي؛ بذلتُ مجهودًا كبيرًا في العبور. لم أشاهدْ أيَّ شخص، ولم أجِدْ أيَّ قَطعٍ في الأسلاك. عُدتُ في خلال نصف ساعة إلى المكان الذي بدأتُ منه. كانت دهشتي كبيرةً حين رأيتُ المُعسكَر من الخارج صغيرًا، والذي يبدو بالنسبة إلى قاطنيه هو العالم بأَسْره. وبدلًا من العودة إلى «نويل» وإخباره بما رأيتُ؛ رُحتُ أتجوَّل في شارع «روزميد» تحت ظلال أشجار البلوط محاولًا الاستمتاع بهدوء منتصف النهار. مرَّ بجواري رَجلٌ عجوز كان يقود درَّاجةً لا تتوقَّف عن إصدار أصواتٍ مُزعِجة. رفَعَ الرَّجُل يده للتحية، وفكَّرتُ لو أنَّني تتبَّعتُه ومضيتُ قُدمًا في الشارع، وفي خطٍّ مستقيم حتَّى أصِلَ إلى الشاطئ عند الساعة الثانية، فسألتُ نفسي: هل هناك ما يستدعي عمَلَ ذلك، هل ثمَّة سببٌ مُحدَّد يفرض عليَّ الذهاب إلى الشاطئ؟ ولماذا لا يتمُّ تقويض الأوامر والإخلال بالنظام اليوم وليس غدًا أو في العام القادم؟ وما أعظَمُ الفوائد التي ستعود على الجنس البشري إذا أمضيتُ فترةَ ما بعد الظُّهر في المستوصف أو إذا ذهبتُ إلى الشاطئ وخلعتُ ملابسي ورقدتُ بملابسي الداخلية؛ لأتنسم رحيق الربيع الجميل، ولكي أَنعَم بدفء الشمس وبمراقبة لهْوِ الأطفال ومَرَحهم في الماء، ثمَّ لشراء الآيس كريم من الكشك المجاوِر لساحة الانتظار إذا كان الكشك لا يزال موجودًا في مكانه؟ ما الذي حقَّقَه «نويل» أخيرًا بالعمل المتواصِل فوق مكتبه في رصْدِ الداخل والخارج؟ أليس من الأفضل له أن يغفو قليلًا؟ وربما ستتضاعف السعادة في العالم كله إذا قُمْنا بالإعلان عن أنَّ هذا المساء إجازةٌ للجميع، ثمَّ سارعنا بالذهاب إلى الشاطئ. القائد، والطبيب، والقَس، والحرَّاس، والموجهون، وأولئك الذين يمسكون بالكلاب للحراسة، مع ستةٍ من الحالات الخَطِرة في مبنى الاعتقال. ربما نلتقي هناك ببعض الفتيات، فما السبب الذي من أجله قُمْنا بالحرب إن لم يكُنْ من أجل زيادة نسبة السعادة في العالم؟ أم أنَّني لا أتذكَّر جيدًا؟ فهل هي حربٌ أخرى التي كنتُ أُفكِّر فيها؟

ذكرتُ في التقرير أنَّ «مايكل» غيرُ موجودٍ خارجَ الأسوار، وأنَّه لا يرتدي ملابسَ المُعسكَر الكاكي التي يُمكن أن تتسبَّب في إدانتنا. إنَّه يرتدي ملابس العمل البسيطة المزركشة، وهكذا نستطيع أن نُنكره دون أن نشعُر بالقَلَق.

كان الإرهاق واضحًا فوق وجه «نويل»، وبدا في تلك اللحظة رَجلًا عجوزًا؛ فقلت: هل بمقدورك أنْ تذكِّرني أيضًا بالسبب الذي من أجله نُقاوم هذه الحرب؟ لقد أخبرتُك ذات مرةٍ منذ زمنٍ بعيد عن السبب في مناهضة تلك الحرب، ولكنْ يبدو أنَّني نسيتُ الآن.

قال «نويل»: نحن نُناهض هذه الحرب، لكنَّ الأقليات لديها ما تقوله بخصوص مصائرها.

تَبادَلنا بعض النظرات الخالية من أيِّ مَعنًى، وأدركتُ أنَّه لن يستطيع مشاركتي أفكاري مهما كانت حالتي المزاجية.

قال: أعطني شهادتك المكتوبة، ولكن لا تكتب التاريخ؛ فليكُنْ مكان كتابة التاريخ شاغرًا.

بينما كنتُ جالسًا إلى مكتب المُمرِّضة في المساء لا أجِدُ شيئًا أفعله، وكان العنبر مُظلِمًا، خطَرَ بذهني فجأةً أنَّني أُبدِّد حياتي بتلك الطريقة التي أعيش بها من يومٍ إلى آخر في حالة من الانتظار، وشعرتُ أنَّني سجين لتلك الحرب. خرجتُ ووقفتُ في مِضمار السِّباق الخالي وأنا أُحدِّق في السماء. كانت السماء صافيةً بعد أن هبَّت الرياح، وتمنَّيتُ أن أتخلَّص من رُوح الضَّجر والقلَقِ وأن يعود الهدوء القديم. إنَّ الزمن الذي تستغرقه الحروب هو زمنٌ ضائع؛ لأنَّه زمنُ الانتظار كما قال «نويل» ذات مرة. نحن لا نفعل شيئًا في المُعسكَر سوى الانتظار، ونمضي في الحياة للوفاء بالضروريات فقط في حين نضع آذاننا فوق سطح الجدار؛ لنستمع إلى أصوات الحرب من خَلْفه على أمَلِ حدوث التغيير. إنَّني ما زلتُ أتساءل بشأن «فيليستي» وأقول: هل فكَّرتْ في نَفْسها ذات مرَّةٍ أنَّها تعيش في حرمان، وفي أنَّها شخصٌ خارج الزمن؟ هل تُدرِك أنَّها ما زالتْ تتنفَّس لكنَّها ميتةٌ في الوقت نَفْسه الذي يمضي فيه التاريخ في اختیار مساره دون اعتبارٍ لأَحَد؟ «فيليستي» بحُكم عملي معها ومعرفتي بها، لا تُدرك شيئًا عن التاريخ سوى ما تعلَّمتْه في الطفولة؛ كالسؤال مثلًا عن العام الذي تمَّ فيه اكتشاف جنوب أفريقيا، وربما تستطيع أن تُجيب قائلة: في العام ١٦٥٢م.

أعتقد أنَّ «فيليستي» لا تُدرِك أنَّ الأيام تتسرَّب من بين أيادينا وسط جبهات القتال وبين المواقع الحربية، وكذلك في المصانع وفي الشوارع وفي الغُرَف المُخصَّصة للمجالس الإدارية وفي مكاتب مجالس الوزراء. تتسرَّب الأيام في البداية بشكل غامض، ثمَّ تجنح نحو لحظةٍ من التجلِّي والوضوح، يظهر التاريخ من خلالها في ثوب المُنتصِر، وإذا كنتُ قد أخطأت في معرفة «فيليستي» فهي على الأقل لا تُفكِّر في نَفْسها على أنَّها منبوذة، والوقت الذي تُمضيه داخل المُعسكَر ووقت الانتظار ووقت الحرب بالنسبة إليها مجرد أوقات، وكذلك تلك الأوقات التي تقوم فيها بغَسْل المُلاءات وكَنْس الأرضيَّات في حين أنَّني منشغلٌ بالعلاقات الصغيرة والتافهة التي تحدُث في المُعسكَر؛ فهل أنا أستخفُّ بقَدْر «فيليستي»؟ إنَّ أولئك الذين يعيشون كالموتى ولا يُدرِكون ما يدور حولهم يُعانون أكثر من أولئك المشغولين بالتساؤلات.

على الرغم من الارتباك والحيرة التي نُعاني منهما، فإنَّني وجدت نفسي أُفكِّر، وأتمنَّى أن يأتي أحد رجال الشُّرطة وهو مُمسِكٌ بمؤخرةِ رقبة «مايكل» كالدُّمية الخرقاء ويقول: يجب أن تُشدِّدوا الحِراسة على أولئك الأوغاد.

إنَّ «مايكل» بخياله الجامح ورغبته في العمل على ازدهار الصحراء وإغراقها بحبَّات قَرْع العسل لهو شخصٌ مُختلف عن أولئك المشغولين جدًّا والأغبياء جدًّا الذين لا يتوقَّفون عن متابعة حركة التاريخ.

•••

وصلتْ في الصباح قافلةٌ من الشاحنات فجأةً ودون سابق إنذار، كانت الشاحنات تُقلُّ أربعمائة سجينٍ جديد، وقد توقَّفتْ في البداية عند «ريديرسبورج» لمدَّة أسبوع، ثمَّ عند الشريط الشمالي ﻟ «بوفورت الغربية».

كنَّا طوال الوقت نُمارس مختلفَ أنواع الألعاب هنا، وكنا نُمضي الوقت مع صديقاتنا، ونتناقش بطريقةٍ فلسفية عن أمور الحياة والموت والتاريخ، وكان أولئك الرجال ينتظرون في شاحنات الماشية المصطفَّة في جانب الطريق تحت لهيب شمس نوفمبر، وكانوا ينامون متكدِّسين فوق بعضهم البعض في صقيع ليالي الجبال والمرتفعات، وكانوا يسمحون لهم بالخروج مرتَين في اليوم للترويح عن أنْفُسهم، وكانوا يقتاتون على العصيدة التي يصنعونها فوق نار خشب الشجيرات بالقرب من الطريق فقط، كما كان العنكبوت ينسج خيوطه بين عَجَلات الشاحنة التي ينامون فيها.

قال «نويل»: إنَّه سيرفض استلام هذه الدفعة من المساجين حتَّى شمَّ رائحتهم، وشاهَدَ مقدار التعب والعجز الذي يُعانون منه، وعرَفَ لو أنَّه اختلَقَ الصِّعاب ووقَفَ عقبةً في طريق استقبالهم؛ فإنَّهم سيعودون ببساطة إلى ساحات السكك الحديدية، وسيقودونهم كالقطيع إلى الشاحنات نَفْسها حيث يُمكنهم انتظار الموت.

لم يستطع «نويل» أن يرفض استلامهم، فبدَأْنا جميعًا نعمل طوال اليوم دون أن يتوفَّر لنا وقتٌ للراحة، ورُحْنا نُعالجهم، ونُزيل القمل عنهم، كما قُمْنا بإحراق ملابسهم، وأجبرناهم على ارتداء زيِّ المُعسكَر، ثمَّ أطعمناهم وزوَّدناهم بجرعةٍ من الدواء. فَصَلْنا بعد ذلك المرضى عن الذين يتضوَّرون من الجوع، وكان العنبر والجناح المُلحَق به مزدحِمًا عن آخره، وكان بعض المرضى الجُدُد يُعانون من حالة الضعف نَفْسها التي يُعاني منها «مايكل» الذي أعتقد أنَّه قارَبَ على الموت.

قال لنا المساجين: إنَّ عشرين حالةَ وفاةٍ على الأقل حدثتْ في الطريق، وقد تمَّ دفْنُهم في مقابرَ غيرِ معروفة في الواحة. راجع «نويل» الأوراق فسألته: لماذا لم تطلبْ مستندات الدُّخول؟

أجاب: سيكون ذلك ضياعًا للوقت؛ لأنَّهم سيقولون إنَّ الأوراق لم تأتِ بعدُ؛ إنَّ الأوراق لا تأتي أبدًا معهم، ولا أحد يُريد أن يتحمَّل المسئولية ويُعرِّض نفسه للمساءلة، ثمَّ مَن الذي قال إنَّ وفاة عشرين من أربعمائة هو مُعدَّل مرفوض؟ الناس تموت، يموت الناس طوال الوقت، إنَّها الطبيعة البشرية، ولا تستطيع إيقاف ذلك.

لم نستطع أنا و«فيليستي» بصراحة أن نُواجه ذلك العدد الكبير من مرضى الإسهال والالتهاب الكبدي، وبالطبع فلقَدْ كان عسيرًا علينا التعامل مع أولئك الذين يُعانون من الفيروسات الدودية المتنقِّلة، فوافق «نويل» على وجوب تجنيد اثنَين من المساجين للعمل على مساعدتي.

كانت تقارير الترقيات الخاصة بمُعسكَر «كينيلورث» في طريقها إلى العَرض على الجهات الأمنية، وكان مُحدَّدًا الأول من مارس موعدًا للتغيير، وستكون حركة التغيير والتبديل كبيرةً، وسوف تشمل إصلاح المدرَّجات والمنصَّات والأكواخ حتَّى يتمكَّنوا من تسكين خمسمائة سجينٍ جديد. اتصل «نويل» بالبرج ليشكو من التقصير في الردِّ على ملاحظاته؛ فطلبوا منه أن يُهدِّئ من روعه وأخبروه أنَّ كلَّ شيءٍ سيكون على ما يُرام، ثمَّ طلبوا منه أن يعمل الرجال على تطهير الأرض وتسويتها، وقالوا أيضًا: إذا كانت الأرض مليئةً بالأعشاب فعليهم أن يُحرقوها، وكذلك عليهم إزالة الأحجار من الطريق.

ثمَّ أضافوا قائلين: تمنياتنا لك بحظٍّ سعيد.

ساوَرَني إحساسٌ أنَّ «نويل» بدأ في تناوُل الشراب أكثر من المعتاد، وربما كان ذلك الوقت هو الأفضل لكِلينا، والذي نستطيع خلاله أن نهجُر المعتقل، وليَقُم المساجين بحراسة بعضهم البعض، وليُعالج المرضى بعضهم البعض، وربما يتوجَّب علينا الاقتداء ﺑ «مايكل» والذهاب في رحلةٍ إلى أحد أحياء المدينة الهادئة كتلك المناطق المجهولة في «كارو» مثلًا، حيث نستطيع أن نُؤسِّس بيتًا.

فكَّرتُ بيني وبين نَفْسي قائلًا: ها هما رجلانِ يهربان من الأوساط المُكبَّلة بالقيود ومن العادات التقليدية، غير أنَّ عدم القبض عليهما مثلما فعَلَ «مايكل» لهو أمرٌ في غاية الصعوبة، لكنَّنا نستطيع أن نبدأ بالتخلِّي عن ملابسنا الرسمية وارتداء الملابس البالية، ووضْعِ بعض القاذورات تحت أظافرنا، ثمَّ المُضِيِّ قُدمًا نحو الطريق على الرغم من أنَّنا مَهْمَا حاوَلْنا فإنَّنا لن نستطيع أبدًا أن نبدو مثلَ حالة «مايكل» التي يعجز المرء عن توصيفها.

حين أتذكَّر «مايكل» يتراءى لي دائمًا أنَّ شخصًا ما كان يعبث بحفنةٍ من التراب، وبعد أن بصَقَ عليها صنَعَ منها ذلك الرَّجُل البدائي، لكنَّه أخطأ في شيئَين: أولهما الفم، ثمَّ دون شكٍّ محتويات الرأس، بعد أن أسقط من حساباته كل الأحاسيس الجسدية المُتعلِّقة بالجنس الآخر.

قلتُ لنَفْسي: سامِحْني يا «مايكل» لأنَّني لم أستطع أن أفهمك جيدًا، ولأنَّني كنت أعاملك بتلك الطريقة. لم أستطع أن أعرِفَك على حقيقتك إلَّا في الأيام الأخيرة، وسامِحْني أيضًا لأنَّني أُحاول أن أفعل مثلك وأتتبَّع خُطاك كما أعِدُك أنَّني لن أُثقل عليك، لن أكون عِبئًا عليك كما كانت أمُّك، وإلَّا فإنَّني سأكون قد ارتكبتُ عملًا طائشًا، لن أطلُبَ منك الاعتناء بي، ولن أُحمِّلك مسئولية إطعامي، لكن احتياجي يتمثَّل في شيءٍ بسيطٍ جدًّا؛ نحن نعيش في بلدٍ كبيرٍ وشاسعٍ، حتَّى يُخيَّل لك بوجود مكانٍ لكلِّ شخص، أخبِرْني إذن يا «مايكل» عن الأشياء التي تعلَّمتَها عن الحياة هنا ولا تصلح للحياة خارج المُعتَقَلات والمُعسكَرات، أعرف أنَّ هناك مناطق ومساحات أخرى تقع بين مُعسكَرات الاعتقال، لكنَّها لا تنتمي إلى تلك المُعسكَرات ولا إلى مناطق التجمُّعات؛ مثل: بعض الجزر في وسط المستنقعات، وبعض الأماكن القاحلة التي قد يرى الإنسان أنَّها ليست أسوأ من المكان الذي يعيش فيه. إنَّني أتطلَّع لمثل تلك الأماكن؛ لكي أستقرَّ بها وربما إلى حين أن تتحسَّن الأمور أو للأبد، لن أعتمد الخرائط والطرقات دليلًا لي؛ لأنَّني لستُ أحمقَ بما يكفي، ولذلك وقَعَ اختياري عليك لتُرشدني إلى الطريق.

قد أخطو بعد ذلك للاقتراب منك أكثر حتَّى أصِلَ إلى المسافة التي تستطيع من خلالها أن ترى بعيني، كنت أسأل نَفْسي منذ اللحظة التي وصلتَ فيها يا «مايكل» قائلًا: هل استيقظتُ من غَفوتي وبدأتُ في تتبُّعك؟

عرفتُ أنَّك لا تنتمي إلى عالَم المُعسكَر، وأنَّ طبيعتك لا تتناسب مع الحياة داخله، ويجب أن أُقرَّ أنَّني في البداية كنتُ أنظر إليك كشخصٍ مُثير للهزل، لكنَّني في الحقيقة طلبتُ بإلحاحٍ من الرائد «رينسبرج» إعفاءك من الالتزام بقوانين المُعسكَر ونظامه؛ لأنَّني كنت أعتقد أنَّ انضمامك لنظام إعادة التأهيل قد يكون مثلَ محاولةِ تعليم الفأر أو السحلية على النباح والتسوُّل والإمساك بالكُرَة. ومع مرور الوقت بدأتُ أُدرِك ببطءٍ مدى جِديَّتك في المقاومة. أنت لستَ بطلًا، ولم تدَّعِ ذلك يومًا، كما أنَّك لستَ بطلًا للصيام؛ فأنت لم تُقاومْ في الواقع قَط، وعندما طلَبْنَا منك أن تقفز لم تتردَّد، وعندما كرَّرنا طلَبَنا قفزتَ مرةً ثانية، لكنَّنا حين طلَبْنَا ذلك للمرة الثالثة فقَدْ وقعتَ على الأرض في حالةٍ من الانهيار. لقد فشلتَ في المرة الثالثة؛ لأنَّك لم تجِدْ أسبابًا مُقنِعة لإطاعتنا. ساعدناك عندئذٍ على الوقوف، واكتشفنا أنَّ وزنك لا يتعدى وزنَ كِيسٍ من الريش، ثمَّ قدَّمنا لك الطعام وقُلْنا لك: فلْتأكلْ، لا بد أن تأكل لتُصبح قويًّا وتستطيع أن تقف على قدمَيك.

لم ترفض يا «مايكل» وأعرف أنَّك حاولتَ بجديَّة وقد خضعتَ لإرادتك، هكذا كنت أرى، وكان جسدك رافضًا للطعام الذي نُقدِّمه لك، حتَّى أصبحتَ أكثر نحافةً وذُبولًا. سألتُ نَفْسي بعد ذلك: لماذا لا يأكلُ هذا الرَّجُل بينما هو يتضوَّر جوعًا؟

ثم بدأت أفهم الحقيقة بعدما ظللتُ أراقبك يومًا بعد يوم، أدركتُ أنك تصرُخ في السرِّ، كنتَ تُطلق الصرخات داخلك غير واعٍ لنَفْسك طالبًا نوعًا مُختلفًا من الطعام. كنتَ تتمنَّى نوعًا من الطعام لا يُقدِّمونه في المُعسكَر فتعلَّمتُ أنَّ الجسد لا يرفض الحياة، ولا يتناقض مع نفسه، كما تعلَّمتُ أيضًا أنَّ الانتحار ليس فعلًا يقوم به الجسد ضدَّ نَفْسه، لكنَّه فعلٌ للإرادة ضدُّ الجسد.

عرفتُ فيما بعدُ أنَّ جسدك لا يُغيِّر من طبيعته، لكنَّه يمضي نحو الموت، وحين وقفتُ لعدَّة ساعات عند مدخل باب العنبر وأنا أُراقبك وأحاول فَهْم ذلك اللغز الذي هو أنت؛ عرفتُ أنَّك لا تُريد أن تموت، غير أنَّك كنت تَمضي نحو الموت بخُطًى سريعة. كنتَ كالأرنب النحيل المُلتصِق بجسدِ ثورٍ كبير، ومن المؤكَّد أنَّك كنتَ تشعُر بالاختناق، لكنَّك كنتَ تتضوَّر من الجوع أيضًا وسط كل ذلك الكمِّ من لحم الثور.

من مكانٍ ما في منتصف المسافة خلفنا، سمعتُ صوتَ رَجلٍ يسعُل ولا يتوقَّف عن البُصاق، ثمَّ شممتُ رائحةَ خشَبٍ محترِق، لكنَّني استطعتُ بعيني المتيقِّظة أن أراك، وكنت أنا الوحيد الذي يراكَ كما أنت وليس كما يبدو عليك، وساورني شعور بأنَّك لستَ مجرد مريضٍ، ولستَ مجرد حالةٍ عرضية من حالات الحرب. كنت ترقد فوق سريرك تحت النافذة مستظِلًّا بأضواء الشموع، وكانت عيناك مُغلقتَين. لكنَّك لم تكُنْ بالضرورة نائمًا، كنتُ أنا أقِفُ عند مدخل الباب وأنا أتنفَّس بهدوءٍ وأستمع إلى تأوُّهاتِ بقيَّة النائمين. شعرتُ أيضًا أنَّ هواءً كثيفًا وظلامًا دامسًا وزوبعةً سوداءَ عاتيةً تُزمجر فوق جسدك، هززتُ رأسي بقوةٍ علَّني أطرُد منها ما أشعُر به، لكنَّ ذلك لم يحدث؛ فقلت لنفسي: ذلك ليس خيالًا.

إنَّ «مايكل» يعني شيئًا، وما يعنيه ليس شيئًا خاصًّا بالنسبة إليَّ، وإذا كان كذلك فإنَّه نوعٌ من الاحتياج. كنتُ في حاجة لأنْ أُصدِّق، وربما كان هو الحنين والتَّوق الشديد لمعرفة «مايكل» ومعرفة قصته، هل هو ذلك الرَّجل النحيل جدًّا ذو الشفة المعقوفة؟ وهل هو حقًّا كما يبدو عليه أم أنَّه شيءٌ آخرُ غريب؟

ها أنا ذا الآن مُجبَر على اللَّحاق بك للوقوف عند كعبَيك؛ لكي أصيح قائلًا قبل أن أمضي لحالِ سبيلي: سامِحْني يا «مایكل». وأرجوك أن تتحلَّى بقَدْر من الصبر؛ فأنا أريد أن أُخبرك بأهميتك عندي وبما تَعنِيه بالنسبة إليَّ.

كانت إقامتك في المُعسكَر مجرد حكايةٍ رمزية. كان هروبك من المُعسكَر دون إحداث أيِّ تلَفٍ بالأسلاك الشائكة هو ما جعلني أستغرق كثيرًا في التفكير، حتَّى إنَّني قلتُ: لا بد أنَّه مُحترفٌ في القفز.

قد لا تكون مُحترفًا في القفز يا «مايكل»، لكنَّك تُجيد فنَّ الهرَبِ. إنَّك واحدٌ من أعظَمِ الهاربين، وأنا لا أتردَّد في رفْعِ قبَّعتي لك.

في تلك الأثناء وبعد تفكيرٍ طويل في محاولة تفسير الهَرَب؛ كان ينبغي أن أَلْتقطَ أنفاسي كي أتحدَّثَ عن آخر الموضوعات؛ ألَا وهو البستان الذي كنتَ تعمل فيه. دَعْني أُخبرك بمعنى قدسية البستان وفتنته الذي يزدهر في قلب الصحراء، ولا يتوقَّف عن إنتاجِ مختلف أنواع الطعام الذي يُساعد البَشَر على مواصلة الحياة، إنَّ البستان الذي تتوجَّه إليه الآن لا يوجد في مكان بعينه، لكنَّه موجودٌ في كلِّ مكان ما عدا المُعسكَرات؛ فالمكان الذي تنتمي إليه الآن يحمل اسمًا آخر يا «مايكل» حيث لا تشعُر أنك متشرد. إنَّه مكان خارج الخريطة، ولا توجد طُرُق للوصول إليه، وأنت الوحيد الذي يعرف الطريق.

أزعم أنني لا أتخيَّل ولكنَّها الحقيقة التي تتمثَّل في أنَّك استخدمتَ كلَّ قوَّتك ومهاراتك في الهرب، وكان من الواضح أنك كنتَ تجري لتتخلَّصَ من الرَّجُل الذي يصيح خَلْف ظَهْرك. ذلك الرَّجُل ذو الرِّداء الأزرق الذي يبدو مُضطهَدًا ومجنونًا؛ فهل يكون مثيرًا للدهشة أن يهرول الأطفال خلْفَنا من أجل التسلية، ويندفعون ناحيتي من كل الجهات ويُضايقونني بإلقاء العِصيِّ والحجارة لأجِدَ نَفْسي مضطرًا في النهاية إلى التوقُّف لضربهم وأنا أهتف بأعلى صوتي وأُردِّد كلماتي الأخيرة الموجَّهة إليك، بينما تكون أنت غارقًا ومُتشابكًا في الأدغال وتجري بسرعةٍ لا يتوقَّعها المرء من شخصٍ لا يأكل، هل أنا على صواب؟ هل استطعتُ أن أفهمك؟ إذا كنت على صوابٍ فعليك أن ترفع يدك اليمنى. أمَّا إذا كنتُ مُخطئا فارفع يدك اليسرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤