الفصل السادس عشر

خديعة التطعيم الثلاثي في وسائل الإعلام

كانت فضائح مسحة «إم آر إس إيه» خديعة بسيطة، محدَّدة، وجماعية. أما بالنسبة إلى التطعيم الثلاثي، فالأمر أكبر كثيرًا؛ فهو المثال النموذجي للمخاوف الصحية، التي يجب قياس المخاوف الأخرى وفهمها على أساسه. تتضمَّن خديعة التطعيم الثلاثي كل عنصر، وكل شائعة، وكل حيلة، وكل ملمح من ملامح الهستيريا وعدم الكفاءة والفساد، على المستويين المنظومي والفردي. وحتى الآن لا أجرؤ حتى على ذكر الخديعة بالاسم إلا بقدر كبير من القلق والخوف؛ لسببين في غاية البساطة:

أولًا: عند أدنى إشارة لمناقشة حول الموضوع، سيظل جيشٌ من منظِّمي الحملات وكُتَّاب الأعمدة الصحفية، حتى في عام ٢٠٠٨، يطرقون أبواب المحرِّرين مطالبين بالحق في كتابة ردٍّ مطوَّل، ومضلِّل، وعاطفي باسم «التوازن». ودائمًا ما تُلبَّى مطالبهم دون استثناء.

السبب الثاني قد يكون أقل أهمية مما يبدو للوهلة الأولى؛ وهو أن أندرو ويكفيلد، الطبيب الذي يعتقد الكثيرون أنه في قلب أحداث القصة، يَمثُل حاليًّا أمام المجلس الطبي العام بتُهَم سوء السلوك المهني، وبين انتهائي من كتابة الكتاب وقراءتك له، ربما سيصدر حكم المجلس.

ليس لديَّ أدنى فكرة ماذا سيكون هذا الحكم، وصدقًا، على الرغم من أنني أفترض أنني أشعر بالسرور من أن المجلس يبحث أشياء كهذه عمومًا، فإن قضية مثل قضيته تُعَدُّ غير ذات قيمة في المجلس الطبي العام. ولا أهتم كثيرًا بما إذا كان عَمَلُ أحدِ الأفراد محلَّ شك من الناحية الأخلاقية: فلا يمكن إلقاء المسئولية عن المخاوف حيال التطعيم الثلاثي على شخص واحد، مهما كانت وسائل الإعلام تحاول الآن الدفع بأن الأمر كذلك حتمًا.

تُلقَى اللائمة بدلًا من ذلك على مئات الصحفيين، وكُتَّاب الأعمدة، والمحررين، والمسئولين التنفيذيين، الذين دفعوا بهذه القصة على نحوٍ نفعي، غير عقلاني، وعمدي، إلى صَدْر الصفحات الأولى طوال تسع سنوات متصلة. ومثلما سنرى، أفرط هؤلاء في الاستقراء انطلاقًا من دراسة واحدة عن شيء عبثي، مع تجاهل جميع البيانات التأكيدية، وجميع التفنيدات اللاحقة في مثابرة مدهشة. فقد استشهدوا ﺑ «خبراء» باعتبارهم مصادر للسلطة العلمية بدلًا من تفسير الأمور العلمية، وتجاهلوا السياق التاريخي، ونصَّبوا بُلَهاء لتغطية الحقائق، وروَّجوا لقصص عاطفية من آباء ضد أكاديميين مملِّين (قاموا بتلطيخ سمعتهم)، ولعل الأكثر غرابة في الأمر كله، أنهم في بعض الحالات اختلقوا الأمور اختلاقًا.

والآن هم يزعمون أن بحث ويكفيلد الأصلي المنشور في عام ١٩٩٨ جرى «دحضه» (لم يكن في البحث أي شيء مثير على الإطلاق في المقام الأول)، وسيمكنك المشاهدة هذا العام أثناء محاولتهم إلصاق الخوف كاملًا برجل واحد. أنا طبيب أيضًا، ولا أتصوَّر للحظة واحدة أنني أستطيع أن أتقدَّم وأكتب قصة إخبارية تستمر تسعة أعوام اعتمادًا على نزوة، وهو ما يرجع إلى عَمَى وسائل الإعلام — وعدم رغبتها في تحمُّل مسئوليتها — حتى إنها ستستمر بارتكاب الجرائم نفسها في المستقبل. لا يوجد ما يمكن أن تفعله حيال ذلك؛ لذا قد يجدر بنا الانتباه الآن.

ولتذكير أنفسنا، إليك القصة الإخبارية حول التطعيم الثلاثي مثلما نُشرتْ في الوسائل الإعلامية الإخبارية البريطانية منذ عام ١٩٩٨ وما تلاه:
  • يزداد مرض التوحُّد شيوعًا شيئًا فشيئًا، على الرغم من عدم معرفة أحد سبب ذلك.

  • أجرى طبيب يُدعى أندرو ويكفيلد بحثًا علميًّا يبين العلاقة بين حقنة التطعيم الثلاثي ومرض التوحد.

  • منذ ذلك الحين، أُجريت الكثير من البحوث العلمية التي تؤكِّد وجود هذه العلاقة.

  • ثمة دليل على أن حقن التطعيم الفردية ربما تكون أكثر أمنًا، لكن الأطباء الحكوميين وأولئك الذين يتلقَّوْن أجورهم من شركات صناعة الدواء حطُّوا ببساطة من قَدْر هذه المزاعم.

  • ربما لم يُعطِ توني بلير ابنَه الصغير هذا التطعيم.

  • الحصبة ليست ضارة بدرجة كبيرة.

  • أيضًا لم يَقِ التطعيم منها بشكل كبير على أي حال.

أعتقد أن هذا منصفٌ نوعًا ما. فالزعم الأساسي في كل واحدة من هذه النقاط كان إما مضلِّلًا أو غير صحيح على الإطلاق، مثلما سنرى.

(١) المخاوف من التطعيم في سياقها

قبل أن نبدأ، يجدر بنا التمهُّل للحظة لننظر في المخاوف من التطعيم حول العالَم؛ إذ إنني أشعر بدهشة بالغة من الطريقة التي يَجرِي بها اختزال هذه المخاوف، وكيف تُروِّج هذه المخاوف لنفسها على نحوٍ سيئ في دول مختلفة. لا توجد مخاوف من التطعيم الثلاثي والتوحد، على سبيل المثال، بشكل فعلي خارج بريطانيا، ولا حتى في أوروبا وأمريكا. لكن على مدى عَقْد التسعينيات من القرن العشرين كانت فرنسا في قبضة خوف من أن التطعيم ضد التهاب الكبد «ب» كان يتسبَّب في تصلُّب الأنسجة المتعدد (لن يدهشني الأمر لو كنتُ أول مَن يخبرك بذلك).

في الولايات المتحدة، كان الخوف الأكبر إزاء التطعيمات يتعلَّق باستخدام تطعيم وقائيٍّ يُسمى «ثيومرسال»، على الرغم من أن تلك المخاوف لم تنتشر هنا، بالرغم من استخدام التطعيم الواقي نفسه في بريطانيا. وفي سبعينيات القرن العشرين — إذ إن الماضي دولة أخرى أيضًا — كان ثمة مخاوف واسعة النطاق في المملكة المتحدة، مرة أخرى حرَّكها طبيب واحد، من أن التطعيم ضد السعال الديكي يتسبَّب في أضرار عصبية.

بالعودة إلى الوراء أكثر، كانت ثمة حركة قوية مناهضة لاستخدام تطعيم الجدري في لستر حتى ثلاثينيات القرن العشرين، على الرغم من فوائده الواضحة، وفي حقيقة الأمر تعود المشاعر المناهضة للتطعيم إلى بداياته الأولى؛ فعندما كان جيمس جورين يدرس التطعيم ضد الجدري (مكتشفًا أنه مرتبط بمعدلات وفيات أقل من معدلات الوفيات جراء المرض)، جرى النظر إلى الأرقام الحديثة والأفكار الإحصائية التي تقدَّم بها بشكٍّ كبير. في حقيقة الأمر، ظل التطعيم ضد الجدري غير قانوني في فرنسا حتى عام ١٧٦٩.١ حتى عندما قدَّم إدوارد جينر التطعيم الأكثر أمانًا للوقاية ضد مرض الجدري في مطلع القرن التاسع عشر، عارضته الجماعة العلمية في لندن معارضة شديدة.
وفي مقال منشور في مجلة «ساينتيفيك أمريكان» في عام ١٨٨٨ يمكنك أن تجد الدفوع نفسها التي لا يزال منظمو الحملات المناهضة التطعيم الجدد يستخدمونها اليوم:

تبيَّن نجاح حملات مناهضي عمليات التطعيم من خلال نتائج البحوث التي أُجريت في زيورخ، بسويسرا؛ حيث جرى على مدى عدة سنوات، حتى عام ١٨٨٣، سن قانون تطعيم إجباري، وتحققت الوقاية تمامًا من مرض الجدري، ولم تقع حالة إصابة واحدة في عام ١٨٨٢. وانتهز منظمو حملات مناهضة التطعيم فرصة نشر هذه النتائج في العام التالي واستغلوها في حملات تنادي بعدم ضرورة وجود قوانين كهذه، ويبدو أنهم كان لديهم ما يكفي من التأثير ما أفضى إلى إلغاء القانون. أظهرت معدلات الوفاة في ذلك العام (١٨٨٣) أنه لكل ألف حالة وفاة كانت حالتان منها يتسبب فيهما مرض الجدري؛ وفي عام ١٨٨٤ كان ثمة ثلاث حالات وفاة؛ وفي عام ١٨٨٥، بلغ عدد الوفيات ١٧، وفي الربع الأول من عام ١٨٨٦، ٨٥ حالة.

في غضون ذلك، كان برنامج منظمة الصحة العالمية الناجح للغاية في القضاء على مرض شلل الأطفال عالميًّا يستهدف القضاء على المرض القاتل نهائيًّا من على وجه الأرض بحلول العام الحالي — وهو مصير لاقاه فيروس الجدري بالفعل، اللهم إلا أنواعًا قليلة منه — حتى زعم عددٌ من الأئمة المحليين في مقاطعة صغيرة تُسمى كانو في شمال نيجيريا أن التطعيم كان جزءًا من مخطط أمريكي لنشر مرض الإيدز والعقم في العالَم الإسلامي، ونظَّموا حملة مقاطعة انتشرت سريعًا في خمس ولايات أخرى في البلاد. وتلا ذلك تفشِّي مرض شلل الأطفال بمعدلات كبيرة في نيجيريا والدول المحيطة، وما يدعو للأسف أنه قد انتشر لأبعد من ذلك كثيرًا؛ فقد تفشَّى المرض في اليمن وإندونيسيا، وهو ما تسبَّب في حالات شلل طوال الحياة لدى الأطفال، وأظهرت نتائج التحليل المخبرية للشفرة الجينية أن حالات التفشي هذه كان سببها نفس سلالة فيروس شلل الأطفال القادمة من كانو.

على أي حال، مثلما قد يتفق زوجان عصريان لديهما أطفال، ينتميان إلى الطبقة المتوسطة ويعيشان في شمال لندن، ومتخرجان من إحدى كليات الدراسات الإنسانية، ويتفاديان استخدام التطعيم الثلاثي، ليس معنى أن التطعيم قد قضى على مرض شلل الأطفال تقريبًا — وهو مرض يوهن الجسد كان متوطِّنًا في ١٢٥ دولةً حتى ١٩٨٨ — أن يكون بالضرورة علاجًا جيدًا.

يسهم تنوع وعزلة مخاوف مناهضة استخدام التطعيمات في بيان الطريقة التي تعكس بها المخاوف السياسية والاجتماعية المحلية أكثر من إجراء عملية تقييم حقيقية لبيانات المخاطر؛ إذ إنه في حال إذا ما كان التطعيم ضد الالتهاب الكبدي «ب»، أو التطعيم الثلاثي، أو شلل الأطفال خطرًا في إحدى الدول، يجب أن يكون خطرًا بالقدر نفسه في كل مكان على ظهر الكوكب، وإذا كانت هذه المخاوف مبنية حقيقة على الأدلة، خاصة في عصر الانتشار السريع للمعلومات، فستتوقع أن يعبِّر الصحفيون عن المخاوف نفسها في كل مكان. ولكن ذلك لا يحدث.

(٢) أندرو ويكفيلد وورقته البحثية المنشورة في دورية «ذا لانست»

في فبراير ١٩٩٨، نشرت مجموعة من الباحثين والأطباء بقيادة جرَّاح يُدعى أندرو ويكفيلد من المستشفى المجاني الملكي في لندن ورقةً بحثية في دورية «ذا لانست» تُعتبر الآن إحدى أكثر الأوراق البحثية التي أُسيء فهمها ونشرها في تاريخ البحوث الأكاديمية. من بعض الجوانب، لا يوجد أي شيء في صالح الورقة البحثية؛ فهي مكتوبة على نحو سيِّئ، ولا توجد بها عبارة واضحة تنص على فرضيتها الأساسية، أو استنتاجاتها في واقع الأمر (يمكنك أن تقرأها مجانًا على الإنترنت إذا كنتَ ترغب في ذلك). وجرى نقضُها جزئيًّا بعد ذلك.

كانت الورقة تصف حالة اثني عشر طفلًا كانت لديهم مشكلات في المعدة ومشكلات سلوكية (معظمهم مصابون بالتوحد)، وذكرتْ أن آباء أو أطباء ثمانية من هؤلاء الأطفال كانوا يعتقدون أن مشكلات طفلهم قد بدأتْ في غضون أيام من تطعيمه بمصل التطعيم الثلاثي. أشارتِ الورقة أيضًا إلى اختبارات دم متنوعة، واختبارات على عينات من الأنسجة مأخوذة من الأطفال. كانت نتائج تحليل هذه العينات غير طبيعية في بعض الأحيان، لكنها كانت تختلف من طفل إلى آخر.

جرى فحص ١٢ طفلًا، أحيلوا بالتتابع إلى قسم أمراض الجهاز الهضمي للأطفال يصاحبهم تاريخ طبي من اضطراب النمو المتأصِّل مع فقدان المهارات المكتسبة وأعراض مشكلات هضمية (إسهال، آلام في البطن، انتفاخ، عسر هضم).

… في ثمانية أطفال، جرى الربط بين ظهور المشكلات السلوكية، سواء من خلال الآباء أو طبيب الطفل، وبين استخدام تطعيم الحصبة، والنكاف، والحصبة الألمانية … في حالة هؤلاء الأطفال الثمانية كان متوسط الفترة منذ التعرض للفيروس إلى ظهور أول عرض سلوكي ٦٫٣ أيام (تتراوح هذه الفترة بين ١ و١٤ يومًا).

ماذا يمكن أن يخبرك هذا النوع من الأوراق البحثية عن وجود علاقة بين شيء شائع مثل التطعيم الثلاثي، وشيء شائع مثل التوحد؟ لا شيء حقيقة، سواء فيما يتعلَّق بالتطعيم الثلاثي أو التوحد. لم تكن هذه الورقة البحثية إلا مجموعة من اثنتي عشرة قصة إكلينيكية غير مؤكدة، وهو نوع من الأوراق البحثية يُطلق عليه «سلسلة حالات». وسلسلة الحالات، بطبيعتها، لا تبيِّن مثل هذه العلاقة بين عملية تعرُّض لأحد المؤثرات ونتيجة ما بأي قوة. لم تستعِنِ التجربة ببعض الأطفال الذي تلقَّوا التطعيم الثلاثي وبعض الأطفال الذين لم يتلقَّوا هذا التطعيم، ثم مقارنة معدلات الإصابة بمرض التوحد بين المجموعتين (كانت في هذه الحالة ستصبح «دراسة حشدية»). كذلك لم تستعِنِ التجربة ببعض الأطفال المصابين بالتوحد، وبعض الأطفال غير المصابين به، ثم مقارنة معدلات التطعيم بين المجموعتين (ومِن ثَمَّ كانت ستصبح «دراسة حالة مقارنة»).

هل يمكن لأي شيء آخر أن يفسر العلاقة الظاهرة بين التطعيم الثلاثي، ومشكلات المعدة، والتوحد عند هؤلاء الأطفال الثمانية؟ أولًا: على الرغم من أن حدوث هذه الأشياء معًا يبدو أمرًا نادرًا، كان المركز الذي أُجريت فيه التجربة مركزًا متخصصًا في مستشفًى جامعي، ولم يَجْرِ إحالة الأطفال إلى هناك إلا لأن لديهم مشكلات في المعدة ومشكلات سلوكية (يجري بحث ظروف هذه الإحالات حاليًّا من قِبَل المجلس الطبي العام، مثلما سنرى).

من بين أمة كاملة تضم الملايين من السكان، إذا اجتمع بعض الأطفال ممَّن تعرضوا لمزيج من الأشياء الشائعة نوعًا ما (التطعيم، التوحد، مشكلات في البطن) معًا في مكان واحد، مكان يمثل بالفعل «وجهة» للمصابين بهذه الأشياء، مثلما كانت هذه العيادة، يجب ألا ننبهر بطبيعة الحال. سوف تتذكَّر من خلال مناقشة حالة الممرضة الهولندية سيئة الحظ لوسيا دي بيرك (وفي حقيقة الأمر من قراءة التقارير الإخبارية حول الفائزين بجوائز اليانصيب) أن مزائج غير محتملة من الأحداث ستقع دومًا، في مكان ما، بمحض الصدفة البحتة. وتسليط الضوء عليها بعد وقوعها لا يخبرنا بأي شيء على الإطلاق.

ستبدأ جميع القصص حول العلاج والخطر بأفكار حدسية إكلينيكية متواضعة مثل هذه القصص، غير أن الأفكار الحدسية، دون وجود ما يدعمها، لا تستحق نشرها بصورة عامة. عند نشر هذه الورقة البحثية، عُقِد مؤتمر صحفي في المستشفى المجاني الملكي، ولدهشة الكثير من الأطباء الإكلينيكيين والأكاديميين الآخرين ممن حضروا المؤتمر، أعلن أندرو ويكفيلد أنه يعتقد أن من الحكمة استخدام تطعيمات مفردة بدلًا من التطعيم الثلاثي. لم يكن يجدر بأحد أن يندهش. فكان قد صدر بيان إخباري مصوَّر من قِبَل المستشفى، دعا فيه ويكفيلد إلى الشيء نفسه.

يحق لنا جميعًا أن نستعين بأفكارنا الحدسية الإكلينيكية، كأفراد، لكن لم يكن يوجد أي شيء في هذه الدراسة التي أُجريت على اثني عشر طفلًا، أو في أي بحث منشور آخر، يشير إلى أن إعطاء تطعيمات فردية سيكون أكثر أمانًا. ومثلما اتفق، توجد أسباب وجيهة للاعتقاد بأن تلقِّي التطعيمات بصورة منفصلة قد يُفضي إلى أضرار أكثر: تحتاج عمليات التطعيم إلى زيارة طبيب الممارسة العامة ست مرات، وتلقِّي ست حقن كريهة، وهو ما يجعل هناك عددًا أكبر من الزيارات للطبيب يجري تفويتها. فربما تكون مريضًا، وربما تكون في عطلة، وربما تنتقل من منزل إلى آخر، وربما نسيتَ أي التطعيمات تلقيتَها، وربما لا يمكنك فهم فائدة تلقِّي تطعيم ضد الحصبة الألمانية بالنسبة إلى الصبية، أو النكاف بالنسبة إلى الفتيات، أو ربما تكونين أمًّا وحيدة عاملة لديكِ طفلان ولا يوجد لديكِ وقت لزيارة الطبيب.

أيضًا، بالطبع، يظل الأطفال فترة أطول كثيرًا معرضين للإصابة، خاصة إذا انتظرتَ مدة سنة بين حقنتين، مثلما أوصى ويكفيلد، هكذا فجأة. والمفارقة أنه على الرغم من أن معظم أسباب حدوث التوحد تظل غير واضحة، يُعتبر أحد الأسباب القليلة المحدَّدة جيدًا للإصابة بالتوحد عدوى الحصبة الألمانية نفسها، بينما لا يزال الطفل في رحم أمه.

(٣) القصة الكاملة وراء الورقة البحثية

أُثيرت بعض الأسئلة المقلقة للغاية منذ ذلك الحين. لن نستعرض هذه الأسئلة تفصيلًا؛ لأنني لا أجد القصص «الشخصية» شائقة لدرجة تجعلني أكتب عنها، ولأنني لا أرغب في أن يكون هذا الجانب من القصة — بدلًا من الإشارة إلى الأدلة البحثية — السبب فيما تتوصَّل إليه من استنتاجات خاصة حول مخاطر التطعيم الثلاثي والتوحد. غير أن ثمة أشياء نُشرتْ في عام ٢٠٠٤ لا يمكن تجاهلها تمامًا، بما في ذلك ادِّعاءات تضارُب المصالح المتعددة، والمصادر غير المعلنة للتحيز في ضم المشاركين في البحث، والنتائج السلبية غير المعلنة، ومشكلات النزاهة الأخلاقية في إجراء الاختبارات. جرى الكشف عن هذه الأشياء بصورة كبيرة من قِبَل صحفي استقصائي عنيد من صحيفة «صنداي تايمز» يُدعى براين دير، وهي أمور تشكِّل الآن جزءًا من الادِّعاءات التي يتولَّى المجلس الطبي العام التحقيق فيها.

على سبيل المثال، يجري التحقيق فيما إذا كان ويكفيلد قد أخفى عن محرِّر دورية «ذا لانست» ضلوعه في استصدار براءة اختراع لعقَّار تطعيم جديد. ولعل الأكثر إثارة للقلق من ذلك هي المخاوف حيال الجهة التي جاء منها الأطفال الاثنا عشر في دراسة المستشفى المجاني الملكي التي أُجريتْ عام ١٩٩٨. فبينما نصَّت الورقة البحثية على أن الأطفال قد جرت إحالتهم بالتتابع إلى إحدى العيادات، كان ويكفيلد في حقيقة الأمر قد تلقَّى مبلغًا قدره ٥٠ ألف جنيه استرليني من أموال المعونة القانونية من قِبَل شركة محامين لإجراء بحث على أطفال كان آباؤهم يستعدُّون لرفع قضية ضد استخدام التطعيم الثلاثي، ولا يزال المجلس الطبي العام يجري تحقيقًا حول المصدر الذي جرت الاستعانة بالمرضى منه؛ إذ يبدو أن الكثير من الحالات التي جرى تحويلها إلى ويكفيلد جاءت إليه خصوصًا باعتباره شخصًا يستطيع إثبات وجود علاقة بين التطعيم الثلاثي والتوحد، سواء بطريقة رسمية أم غير رسمية، وكان منخرطًا في قضية قانونية. ها هي مشكلة التوجيه تعود مرة أخرى، وتحت هذه الظروف، ستكون حقيقة أن ثمانية «فقط» من بين آباء أو أطباء اثني عشر طفلًا كانوا يعتقدون أن المشكلات لدى أطفالهم سببها التطعيم الثلاثي أمرًا غير مثير، إذا كان يعني أي شيء على الإطلاق.

من بين الأطفال الاثني عشر في الورقة البحثية، قاضَى أحد عشر منهم شركات دواء (كان الطفل الوحيد الذي لم يقاضِ أي شركة أمريكيًّا)، وكان عشرة منهم قد تلقَّوْا بالفعل أموالًا كمعونة قانونية من أجل عملية التقاضي في مسألة استخدام التطعيم الثلاثي قبل نشر الورقة البحثية في عام ١٩٩٨. وتلقَّى ويكفيلد نفسه في النهاية ٤٣٥٦٤٣ جنيهًا استرلينيًّا بالإضافة إلى أتعاب من أموال المعونة القانونية لدَوْره في القضية ضد استخدام التطعيم الثلاثي.

أُجريتْ عمليات فحص إكلينيكية تدخلية متنوعة — مثل البزل القطني وتنظير القولون — على الأطفال، وهي عمليات كانت تتطلَّب إجازةً من لجنة أخلاقيات المهنة. وكان قد جرت طمأنة لجنة أخلاقيات المهنة أن الإجراءات التي أُخضِع إليها الأطفال كانت معلومةً إكلينيكيًّا، بعبارة أخرى، في صالح الرعاية الإكلينيكية للأطفال. ويحقِّق المجلس الطبي العام حاليًّا فيما إذا كانت هذه الإجراءات تتعارض مع المصلحة الإكلينيكية للأطفال، وجرى تنفيذها فقط لأغراض بحثية.

تتضمَّن عملية البزل القطني وضع إبرة في منتصف العمود الفقري لاستخلاص بعضٍ من سائل النخاع الشوكي، فيما تتضمَّن عملية تنظير القولون تثبيت كاميرا مرنة ومصدرِ ضوءٍ في فتحة الشرج، عبر المستقيم، وصولًا إلى الأمعاء على أنبوب طويل. تنطوي كلتا العمليتين على مخاطرة، وبالفعل بشدة أُضير أحد الأطفال الذين خضعوا للفحص كجزء من توسُّعٍ لمشروع البحث حول التطعيم الثلاثي خلال عملية تنظير قولون، وهُرع به إلى وحدة الرعاية المركَّزة في مستشفى شارع أورموند الكبير بعد حدوث ثقوب في معدته في اثني عشر موضعًا. عانَى الطفلُ من فشل عضوي متعدد، بما في ذلك مشكلات في الكُليتين والكبد، وأضرار في الجهاز العصبي، وتلقَّى ٤٨٢٣٠٠ جنيه استرليني على سبيل التعويض. هذه الأشياء تحدث، ولا يوجد مَن تُلقَى اللائمة عليه، ولا أقصد إلَّا الإشارة إلى أسباب ضرورةِ توخِّي الحذر عند إجراء عمليات فحص.

في غضون ذلك، في عام ١٩٩٧ كان أحد طلاب درجة الدكتوراه الشباب يُدعى نيك شادويك يبدأ مسيرته المهنية البحثية في معمل أندرو ويكفيلد، باستخدام تكنولوجيا «بي سي آر» (التي تُستخدم كجزء من عملية أخذ بصمة الحمض النووي الوراثية) للبحث عن وجود آثار مواد جينية للحصبة في أمعاء هؤلاء الأطفال الاثني عشر؛ إذ كان ذلك ملمحًا أساسيًّا من نظرية ويكفيلد. في عام ٢٠٠٤، أجرى شادويك مقابلةً في برنامج «دسباتشز» على القناة الرابعة، وفي عام ٢٠٠٧ قدَّم دليلًا في إحدى القضايا الأمريكية حول التطعيمات، مشيرًا إلى غياب أي أحماض نووية ريبية للحصبة في هذه العينات. لكن لم يَجْرِ نشر هذه النتيجة المهمة التي كانت تتعارض مع نظرية المشرف عليه ذي الشخصية الكاريزمية.

أستطيع أن أستمر في سرد التفاصيل.

لم يكن أحدٌ يعلم أي شيء عن ذلك في عام ١٩٩٨. على أي حال، لا يُعتبر الأمر مهمًّا؛ إذ إن المأساة الكبرى في خديعة وسائل الإعلام عن التطعيم الثلاثي تتمثَّل في انتهائها بالإعلان عن هذه القضايا، في الوقت الذي كان يجب إنهاؤها من خلال عملية تقييم حذرة ومتوازنة للأدلة آنذاك. الآن، سترى المراسلين الإخباريين — بما في ذلك «بي بي سي» — يقولون أشياء غبية مثل: «جرى دحض نتائج البحث بعد ذلك.» غير صحيح. لم يبرِّر البحث أبدًا التفسير المضحك المبالغ فيه في وسائل الإعلام. ولو كانت وسائل الإعلام قد انتبهت، لما ظهر الذعر من الأساس.

(٤) التغطية الصحفية تبدأ

لعل أكثر ما يثير الدهشة في مسألة الذعر حيال التطعيم الثلاثي — وهو أمر يُنسى غالبًا — أن الأمر برمته لم يبدأ في عام ١٩٩٨. لقد غطَّتْ صحيفتا «ذا جارديان» و«ذي إندبندنت» المؤتمر الصحفي في صدر صفحتَيْهما الأوليَيْن، لكن صحيفة «ذا صن» تجاهلت الأمر برمَّته، فيما وارت صحيفة «ديلي ميل» — الصحيفة الدولية التي تنشر المخاوف الصحية — تغطيتها حول المسألة في الصفحات الداخلية. كانت تغطية القصة عمومًا تُكتب من قِبَل صحفيين متخصصين في الشئون العلمية والصحية، وكانوا غالبًا قادرين على الموازنة بين المخاطر والفوائد. كان عرض القصة باهتًا نوعًا ما.

في عام ٢٠٠١، بدأ معدل الذعر في اكتساب زخم؛ فقد نشر ويكفيلد ورقة بحثية نقدية في مجلة مجهولة، مشكِّكًا في أمان برنامج التطعيم، دون تقديم أي دليل جديد. وفي مارس نشر بحثًا تجريبيًّا جديدًا بالتعاون مع باحثين يابانيين (ورقة كاواشيما)، باستخدام بيانات «بي سي آر» لإثبات وجود فيروس الحصبة في خلايا الدم البيضاء للأطفال الذين يعانون من مشكلات المعدة والتوحد. كانت نتائج هذه التجربة بصورة أساسية عكس النتائج التي توصَّل إليها نيك شادويك في معامل ويكفيلد. وظل بحث شادويك مجهولًا (وظهرتْ بعد ذلك ورقة بحثية أظهرتْ عدم صحة النتائج الإيجابية في ورقة كاواشيما، على الرغم من أن وسائل الإعلام قد تجاهلت هذا التطور، ويبدو أن ويكفيلد قد كفَّ عن تقديم الدعم للدراسة).

بدأت الأمور في التدهور، فبدأ منظِّمو حملات مناهضة التطعيمات في تفعيل آلتهم الدعائية الجبارة والمتناغمة ضد مجموعة غير منظمة من الأطباء المستقلين من جهات متنافرة متنوعة. وطُرحتْ قصصًا عاطفية يتلوها آباء مكلومون في مقابل قصص يتلوها أغبياء عجائز يرتدون سراويل مضلَّعة، لم يتلقَّوْا أي تدريب إعلامي، ويتحدثون عن بيانات علمية. إذا أردتَ يومًا أن ترى أي دليل ينفي وجود مؤامرة طبية شريرة، فلستَ بحاجة للنظر لأبعد من سيل الأطباء والأكاديميين النائين بجانبهم عن الصحافة، وانخراطهم التدريجي مع وسائل الإعلام خلال هذا الوقت. ولم تفشل الكلية الملكية لأطباء الممارسة العامة في التحدث بوضوح عن الأدلة فحسب، بل نجحتْ أيضًا — بطريقة بطولية — في التنقيب عن بعض أطباء الممارسة العامة المناهضين لاستخدام التطعيم الثلاثي لتقديمهم إلى الصحفيين عند مهاتفتهم طلبًا للحصول على تصريحات.

بدأت القصة في اكتساب زخم، وهو، ربما، ما جاء متلازمًا بشكل كبير مع الرغبة الأوسع لبعض الصحف والشخصيات في الهجوم وحسب على الحكومة والخدمة الصحية. فقد صار التعبير عن موقف حيال التطعيم الثلاثي جزءًا من السياسات التحريرية لكثير من الصحف، وكان ذلك الموقف غالبًا ما يرتبط بالشائعات الدائرة حول الشخصيات الإدارية الكبرى التي كان قد أُصيب بعض أفراد عائلاتهم بمرض التوحد. كانت هذه هي القصة المثالية، في ظل وجود شخصية كاريزمية تحارب النظام، وهي شخصية شبيهة بجاليليو. كانت ثمة عناصر خطر، وعناصر أحداث شخصية مأساوية مريعة، وبالطبع، مسألة المسئولية. على مَن تقع مسئولية التوحد؟ كان في خلفية القصة هذا التشخيص الجديد غير العادي، مرض أصاب الصبية الصغار وبدا كما لو كان ظهر فجأة دون سابق إنذار، ودون أي تفسير.

(٥) التوحد

ما زلنا لا نعرف سبب التوحد. يُعتبر وجود تاريخ مرضي نفسي في العائلة، والولادة المبكرة، ووقوع مشكلات عند الولادة، والولادة المقعدية، جميعها عوامل خطر، لكنها عوامل بسيطة، وهو ما يعني أنها شائقة من منظور بحثي، لكن لا يفسر أيٌّ منها الحالة لدى شخص محدَّد. فهكذا هو الوضع غالبًا مع عوامل الخطر. يصاب الصبيان بالمرض أكثر من الفتيات، ويتواصل ظهور حالات الإصابة بمرض التوحد، وهو ما يُعزى جزئيًّا لتحسُّن عمليات التشخيص — إذ صار المرضى الذين كانوا يُشخَّصون في السابق كأشخاص «غير أسوياء عقليًّا» أو «فصاميين» يشخَّصون الآن باعتبارهم مصابين بمرض «التوحد» — لكن ربما يرجع الأمر أيضًا إلى عوامل أخرى لا تزال غير مفهومة. وفي ظل فراغ اللايقين هذا، ظهرتْ قصة التطعيم الثلاثي.

كان ثمة شيء جذاب على نحو غريب أيضًا حيال التوحد كفكرة بالنسبة إلى الصحفيين والمعلِّقين الآخرين. فمن بين أشياء أخرى، يُعتبر التوحد اضطرابًا لغويًّا، وهو ما قد يلمس وترًا حساسًا بالنسبة إلى الكُتَّاب، لكنه يعتبر أيضًا موضوعًا ممتعًا على الصعيد الفلسفي للتفكير فيه؛ لأن أوجه القصور في التفكير الاجتماعي التي تظهر من خلال الأشخاص المصابين بالتوحد تمنحنا سببًا للحديث عن معاييرنا وأعرافنا الاجتماعية. وصارت الكتب حول التوحد والنظرة التوحدية للعالم من أكثر الكتب مبيعًا. ها هي بعض الكلمات الحكيمة مقدَّمة إلينا جميعًا من لوك جاكسون، ذي الثلاثة عشر عامًا والمصاب بمتلازمة أسبرجر، والذي ألَّف كتابًا يقدِّم فيه النصائح إلى المراهقين المصابين بمرض التوحد (بعنوان: «المسوخ، والأذكياء المنعزلون اجتماعيًّا، ومتلازمة أسبرجر»). هذا المقتطف من الجزء الذي يتحدث فيه عن المواعدة:

إذا تساءلت الفتاة عن شيء مثل «هل تبدو مؤخرتي كبيرة؟» أو حتى «لستُ متأكدة مما إذا كان هذا الفستان يعجبني»، يُسمى هذا «السعي وراء الإطراء». هذه أمور يصعب فهمها للغاية، لكن يُقال لي إن بدلًا من أن يكون المرء في غاية الصراحة ويقول لهذه الفتاة إن مؤخرتها تبدو كبيرة بالفعل، يكون من قبيل الأدب أكثر الإجابة بشيء مثل: «لا تكوني سخيفة، إنك تبدين رائعة.» أنتَ لا تكذب، بل أنت تتفادى ببساطة سؤالًا مزعجًا وتطريها في الوقت نفسه. كن مقتصدًا في ذكر الحقيقة!

تُشخَّص أعداد متزايدة من الأشخاص بمتلازمة أسبرجر، أو اضطراب طيف التوحد، وصارتْ شخصيات الأطفال أو البالغين الذين كانوا ربما يُعتبرون «غريبي الأطوار» تُصنَّف طبيًّا على نحو متكرِّر من خلال الإشارة إلى أن لديهم «سمات متلازمة أسبرجر». اتخذ تنامي تصنيف التوحد باعتباره فئةً من التشخيص غير الحقيقي أبعادًا مشابهة لتشخيص متلازمة «عسر القراءة الطفيف» — ربما تكون لديك آراؤك الخاصة فيما كانت هذه العملية مفيدة أم لا — والانتشار الواسع لهذا التشخيص جعلنا جميعًا نشعر بأننا نستطيع المشاركة في أعجوبة وغموض التوحد، كلٌّ على أساس علاقة شخصية بالمخاوف حيال التطعيم الثلاثي.

بالطبع، إلَّا إذا كان التوحد الحقيقي اضطرابًا شاملًا في النمو، ومعظم الأشخاص المصابين بالتوحد لا يكتبون كُتبًا غريبة الأطوار عن وجهة نظرهم الغريبة حول العالَم التي تكشف لنا الكثير عن أعرافنا ومعاييرنا الاجتماعية بأسلوب سردي بسيط وطبيعي على نحوٍ ساحر. بالمثل، لا يمتلك معظم الأشخاص المصابين بالتوحد مهارات الظهور الإعلامي التي استمتعت وسائل الإعلام كثيرًا بدعمها وترويجها في أفلامها الوثائقية الرديئة، مثل أن يكون المرء «مدهشًا حقًّا» في العمليات الحسابية العقلية، أو العزف على البيانو وفق معايير العزف المتعارف عليها مع التحديق في حيرة في الأفق القريب.

ولعل حقيقة أن هذا النوع من الأشياء هو ما يتبادر إلى أذهان معظم الناس عند ورود كلمة «التوحد» إلى عقولهم هو ما يجعلها شهادةً على إضفاء الطابع الخرافي و«الشعبية» المتناقضة على تشخيص التوحد. يقول مايك فيتزباتريك، وهو طبيب ممارسة عامة، له ابن مصاب بالتوحد، إن ثمة سؤالين حول الموضوع سيجعلانه يريد صفعك؛ الأول: «هل تعتقد أن سبب التوحد التطعيم الثلاثي؟» والآخر: «هل لدى ابنك أي مهارات خاصة؟»

(٦) ليو بلير

لكن تمثَّلتِ الكارثة الصحية العامة الكبرى في طفل رضيع صغير جميل اسمه ليو. في ديسمبر ٢٠٠١، سُئلتْ عائلةُ بلير إذا ما كان ابنهم الرضيع قد تلقَّى التطعيم الثلاثي، فرفضوا الإجابة عن السؤال. كان معظم الساسة الآخرين يسعدون بتوضيح ما إذا كان أطفالهم قد تلقَّوا التطعيم أم لا، لكن يمكنك أن تتصوَّر كيف يمكن أن يصدِّق الناس أن عائلة بلير كانت من نوع العائلات التي لا تُطعِّم أبناءها، خاصة في ظل حديث الجميع عن «الحصانة الجماعية»، وقلقهم من أنهم ربما كانوا يُطعِّمون ابنهم، ويعرِّضونه للخطر، حتى يصبح بقية أفراد الشعب أكثر أمنًا.

ثارتِ المخاوف على نحوٍ خاص من خلال الظهور المكثَّف لأقرب صديقات شيري بلير ومساعدتها. كانت كارول كابلن خبيرة تنتمي إلى العصر الجديد، و«مدرِّبة حياة»، و«شخصية اجتماعية»، على الرغم من أن صديقها، بيتر فوستر، كان مزوِّرًا يقضي عقوبةً في السجن. كان فوستر يساعد عائلة بلير في إجراء صفقاتها العقارية، ويقول أيضا إن عائلة بلير اصطحبت ليو إلى معالِج ينتمي إلى العصر الجديد، هو جاك تمبل، الذي عرض العلاج من خلال حركة البندول الكريستالي، والمعالجة المثلية، والأعشاب، والعلاج من خلال الخطو داخل دوائر الحجر التي ترجع إلى العصر الحجري الحديث في حديقته الخلفية.

لستُ أعرف إلى أي درجةٍ يمكن أن أرى في مزاعم فوستر أيَّ مصداقية شخصيًّا، لكن أثر ذلك على المخاوف حيال التطعيم الثلاثي تمثَّل في انتشارها على نطاق واسع في وسائل الإعلام في ذلك الوقت. فقيل لنا إن رئيس وزراء المملكة المتحدة وافق على أرجحة تمبل بندولًا كريستاليًّا فوق رأس ابنه لوقايته (ومِن ثَمَّ زملائه في الفصل، بالطبع) من الحصبة، والنكاف، والحصبة الألمانية، وأن توني سمح لشيري بإعطاء تمبل بعض خصلات من شعره وبعض قصاصات أظافره، التي احتفظ بها تمبل في برطمانات تحتوي على كحول. وقال إنه كان يحتاج فقط إلى أرجحة بندوله فوق البرطمان لمعرفة ما إذا كان صاحب الشعر والأظافر عفيًّا أم مريضًا.

بعض الأشياء صحيحة بالتأكيد. فباستخدام البندول الكريستالي هذا، زعم تمبل قدرته على تسخير طاقة من أجسام سماوية. وكان يبيع علاجات تحمل أسماءً مثل «الذاكرة البركانية»، «الزبد النتن»، «عصي القرد»، «ساق الموزة»، والعلاج المفضَّل لديَّ، «سفنكتر». كان أيضًا رجلًا ذا علاقات واسعة، فقد كتبتْ دوقةُ يورك مقدِّمةَ كتابه «المعالج: أساليب العلاج الاستثنائية لجاك تمبل» (كتاب في غاية السخافة). وقد صرَّح لصحيفة «ديلي ميل» بأن الأطفال الرُّضع الذين يرضعون من أثداء أمهاتهم منذ لحظة ميلادهم يكتسبون مناعةً ضد جميع الأمراض، بل إنه باع أيضًا علاجًا مثليًّا بديلًا لحقنة التطعيم الثلاثي.
«أُخبر مريضاتي الحبليات أنه عند ولادة الطفل يجب أن يضعن أثداءهن في أفواه أطفالهن حتى يختفي النبض في الحبل السُّرِّي. عادةً ما يستغرق الأمر حوالي ٣٠ دقيقة. من خلال القيام بذلك، ينقلن الجهاز المناعي للأم إلى الطفل، الذي سيتوافر لديه جهاز مناعي يعمل بشكل كامل؛ ومِن ثَمَّ لن يحتاج إلى أي تطعيم» … وقد رفض السيد تمبل بالأمس التأكيد على ما إذا كان قد أسدى نصيحةً إلى السيدة بلير بألَّا تُطعِّم رضيعها ليو. لكنه قال: «إذا اتَّبعَتِ النساء نصيحتي، لن يحتاج أطفالهن إلى حقن التطعيم الثلاثي.»٢
صحيفة «ديلي ميل»، ٢٦ ديسمبر ٢٠٠١
كانت شيري بلير تداوم أيضًا على زيارة والدة كارول، سيلفيا كابلن، وهي خبيرة علاج روحي. ونَشرتْ صحيفة «ديلي ميل» قائلةً: «كانت ثمة فترة نشاط على وجه الخصوص في الصيف عندما كانت سيلفيا تذهب إلى شيري أكثر من مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيًّا، مع اتصال شبه يومي بينهما. وكانت ثمة فترات بلغ عدد صفحات الفاكسات التي كانت شيري ترسلها عشر صفحات.» كانت سيلفيا — إلى جانب كثير من معالِجي الطب البديل، إن لم يكن معظمهم — مناهضةً شرسةً لاستخدام التطعيم الثلاثي (نصح أكثرُ من نصف معالجي الطب البديل في أحد استطلاعات الرأي بشكل صارم بعدم استخدام التطعيم). وكتبت صحيفة «ذا ديلي تليجراف» قائلة:

ننتقل إلى ما قد يُعتبر موضوعًا سياسيًّا للغاية؛ ألا وهو موضوع التطعيم الثلاثي. أبدت عائلة بلير تأييدًا علنيًّا لاستخدام التطعيم الثلاثي، ثم تسبَّبوا في غضب بسبب رفضهم التصريح بما إذا كان قد جرى تطعيم رضيعهم ليو أم لا. لا تتردد سيلفيا كابلن في الإدلاء برأيها؛ إذ تقول: «أنا ضد استخدامه. أشعر بالصدمة إزاء إعطاء جرعات كبيرة منه لأطفال صغار. لعل مناط الأمر فيما يتعلَّق بهذه الأدوية هو المادة السُّمِّية التي يضعون التطعيمات فيها. بالنسبة إلى طفل صغير، يُعتبر التطعيم الثلاثي أمرًا مثيرًا للسخرية.

لا شك في أن التطعيم الثلاثي يسبِّب التوحد. وجميع الأدلة المقدمة لإنكار ذلك، الآتية من مدرسة الطب القديمة، محل شك؛ لأن المنطق والتفكير السليم سيدلانك حتمًا لا بد إلى أن ثمة مادة سمية في التطعيم الثلاثي. ألا تعتقد أن ذلك سيؤثر على طفل صغير؟ هل ستسمح بذلك؟ لا، ليس كثيرًا، ليس سريعًا، باستخدام التركيبة الخاطئة.»

نُشر أيضًا — لا شك كجزء من عملية تشهير رخيصة — أن شيري بلير وكارول كابلن شجعتا رئيس الوزراء على أن يجعل سيلفيا «تطفئ وتستشير الضوء، الذي كان يُعتقد من قِبَل سيلفيا في كونه كيانًا سماويًّا أو إلهًا، من خلال استخدام بندولها» ليقرر ما إذا كان خوض الحرب على العراق آمنًا. وبينما لا نزال نناقش الموضوع، في ديسمبر ٢٠٠١، أشارت صحيفة «ذا تايمز» إلى عطلة عائلة بلير في تمازكال، بالمكسيك؛ حيث كانوا يفركون الفواكه والطين فوق أجساد بعضهم البعض داخل هرم كبير على الشاطئ، ثم يصرخون بينما كانوا يمارسون طقس الانبعاث الجديد؛ أحد طقوس العصر الجديد. ثم تمنَّوْا تحقُّق السلام في العالم.

لا أقول إنني مقتنع بكل هذا. لا أقول إلَّا أن هذا هو ما كان يفكِّر الناس فيه عندما رفضت عائلة بلير أن يوضحوا علنًا ما إذا كانوا قد أعطَوْا رضيعهم التطعيم الثلاثي بينما كانت أبواب الجحيم مفتوحةً عليهم من كل حَدَب وصوب. ليس هذا حدسًا من جانبي، فقد أشارت نسبة اثنتين وثلاثين في المائة من جميع القصص الإخبارية المكتوبة في ذلك العام حول التطعيم الثلاثي إلى ما إذا كان ليو بلير قد تلقَّى التطعيم أم لا (حتى أندرو ويكفيلد أشير إليه في ٢٥ في المائة فقط منها)، وكان ذلك هو أحد أكثر الحقائق التي التصقت بالأذهان بشأن القصة في الاستطلاعات الشعبية؛ فقد كان العامة — وهو أمر مفهوم تمامًا — ينظرون إلى تلقِّي ليو بلير التطعيم باعتباره مؤشِّرًا على ثقة رئيس الوزراء في التطعيم، ولم يستوعب كثيرون لمَ ينبغي أن يكون الأمر سرًّا، إذا لم يكن موضوعًا يستحق الاهتمام من الأساس.

في غضون ذلك، أشارت عائلة بلير إلى حق طفلها في الخصوصية، الذي رأوا أنه أكثر أهمية من أزمة صحية عامة ناشئة. ومن المدهش الآن أن شيري بلير قرَّرت، في خطوة تسويقية لسيرتها الذاتية المربحة، التخلي عن ذلك المبدأ الذي كان في غاية الأهمية في ذلك الوقت، ولم تكتفِ شيري بالكتابة باستفاضة في كتابها الذي رُوِّج له بشكل مكثَّف عن مرَّة الجماع المحدَّدة التي أفضت إلى الحمل في ليو، لكنها كتبت أيضًا عما إذا كان قد تلقَّى التطعيم (تقول نعم، لكن يبدو أنها لا تشير في وضوح إلى ما إذا كانت التطعيمات قد أُعطيتْ له بشكل منفرد، بل لم توضح أيضًا متى جرى حقنه. صدقًا، لم أَعُد مهتمًّا بما يقوله هؤلاء الأشخاص).

fig12
شكل ١٦-١: القصص الإعلامية حول التطعيم الثلاثي في الصحف القومية.

على الرغم من أن كل ذلك قد يبدو بالنسبة إليك ابتذالًا وتلصُّصًا، كانت هذه الواقعة أساسية في تغطية التطعيم الثلاثي. كان عام ٢٠٠٢ هو عام ليو بلير بامتياز، وعام رحيل ويكفيلد عن المستشفى المجاني الملكي، وكان يمثِّل ذروة التغطية الإعلامية للموضوع، بهامش كبير للغاية.

(٧) ماذا كانت تتضمَّن هذه القصص؟

أفضتِ المخاوف حيال التطعيم الثلاثي إلى خَلْق صناعة محدودة النطاق في التحليل الإعلامي؛ لذا ثمة قدرٌ كبير معروف عن التغطية. في عام ٢٠٠٣، نَشر مجلس البحوث الاقتصادية والاجتماعية ورقةً بحثية حول دور وسائل الإعلام في فهم العامة للعلم، وهي ورقة استقت عَيِّنة من جميع القصص العلمية في وسائل الإعلام الكبرى في الفترة من يناير إلى سبتمبر ٢٠٠٢، وهو العام الذي شهد ذروة تغطية المخاوف حول التطعيم الثلاثي. كانت نسبة عشرة في المائة من جميع القصص العلمية تدور حول التطعيم الثلاثي، وكان موضوع التطعيم الثلاثي أيضًا أكثر الموضوعات التي كانت في الأغلب تستدعي إرسال القراء خطاباتٍ إلى الصحف (إذن كان القراء متابعين للموضوع على نحوٍ واضح)، وكان أكثرَ الموضوعات العلمية في الأغلب التي كان يُكتب عنها في مقالات الرأي أو المقالات الافتتاحية، وأسفر عن نشر أطول الموضوعات الصحفية على الدوام. لقد كان التطعيم الثلاثي أكبر الموضوعات العلمية التي حظيت بأقصى تغطية على مدى سنوات.

كانت المقالات حول الأغذية المعدَّلة وراثيًّا، أو عن الاستنساخ، تُكتب على الأرجح من قِبَل صحفيين علميين متخصصين، لكن كان يجري تنحية هؤلاء الصحفيين بصورة كبيرة في موضوعات التطعيم الثلاثي؛ إذ كان يغطي ثمانين في المائة من أهم القصص العلمية في العام صحفيون غير متخصصين. وفجأةً، صرنا نتلقَّى تعليقات ونصائح حول أمور معقَّدة في مجال علم المناعة وعلم الأوبئة من أشخاص كان كل ما يخبروننا به في الأغلب شيئًا طريفًا حدث لمربِّية أجنبية وهي في طريقها إلى حفل عشاء. فكتبتْ كلٌّ من نايجيلا لاوسون، وليبي بيرفز، وسوزان مور، وليندا لي-بوتر، وكارول فوردرمان — وهي أمثلة قليلة فقط — عن مخاوفهن القائمة على غير أساس حيال التطعيم الثلاثي، نافخات في أبواق الدعاية بصوت مرتفع. في الوقت نفسه، صار معروفًا عن جماعة الضغط المناهِضة لاستخدام التطعيم الثلاثي استهداف الصحفيين غير المتخصصين متى كان ذلك ممكنًا؛ حيث يمدُّونهم بالقصص الإخبارية، فيما يتجنَّبون بشكل عملي المراسلين المتخصصين في الشئون الصحية أو العلمية.

هذا نمط جرى رصدُه من قبلُ. إذا كان ثمة شيء أثَّر تأثيرًا سلبيًّا على عملية التواصل بين العلماء، والصحفيين، والعامة، فهو حقيقة أن الصحفيين المتخصصين في الشئون العلمية ببساطة لا يغطُّون الأخبار العلمية الكبرى. فمن خلال احتساء الشراب مع الصحفيين المتخصصين في الشئون العلمية، أعرف ذلك معظم الوقت، لا يتأكَّد أحدٌ من صحة هذه القصص الكبرى التي يكتبونها ولو بمراجعة سريعة.

مرة أخرى، لا أتحدَّث عن عموميات هنا. خلال اليومين المهمَّين اللذين تليا نشر قصة «الأغذية المريعة» المعدَّلة وراثيًّا في فبراير ١٩٩٩، لم تجرِ كتابة «مقال إخباري واحد»، أو مقال رأي، أو مقال افتتاحي حول الموضوع من قِبَل صحفي متخصص في الشئون العلمية. كان أي مراسل علمي يُخبر رئيس تحريره أنه عندما يقدِّم أحد الأشخاص نتائجه العلمية حول تسبُّب البطاطس المعدلة وراثيًّا في مرض السرطان لدى الجرذان، مثلما أشار أرباد بوستاي في برنامج «وورلد إن أكشن» في محطة «آي تي في» بدلًا من تقديمها في مجلة أكاديمية، إذن فلا بد أن ثمة أمرًا مريبًا يحدث. نُشرتْ تجربة بوستاي أخيرًا بعد ذلك بعام — بعد فترة طويلة بحيث لم يستطع أحد التعليق عليها؛ إذ لم يكن أحدٌ يعرف ماذا فعل في حقيقة الأمر — وعندما جرى الكشف عن كل شيء في مطبوعة محترمة، لم تتضمَّن نتائج التجربة أي معلومات تبرِّر المخاوف الإعلامية.

تترتَّب على عملية إزاحة المراسلين المتخصصين جانبًا عندما يصبح العلم موضوع أخبار الصفحة الأولى، وعدم الاستعانة بهم حتى كمصدر معلومات خلال هذه الفترات؛ نتائجُ متوقَّعة. لقد اعتاد الصحفيون الاستماع بآذان ناقدة إلى البيانات الصحفية من المسئولين الصحفيين، والساسة، ومسئولي العلاقات العامة التنفيذيين، ومسئولي المبيعات، وجماعات المصالح، والمشاهير، ومروِّجي الإشاعات والنمائم، ويُظهِرون بشكل عام شكًّا طبيعيًّا صحيًّا إزاء ما يسمعون. لكن في حالة العلم، لا يمتلك الصحفيون المهارات اللازمة لتقييم دليل علمي تقييمًا نقديًّا بناءً على مميزاته وعيوبه بشكل موضوعي. في أفضل الأحوال، سيجري التحقُّق من صحة أدلة هؤلاء «الخبراء» من خلال هُويَّتهم كأشخاص، أو ربما مَن عملوا لصالحه. يعتقد الصحفيون — وكثيرٌ من منظِّمي الحملات الدعائية — أن هذا هو فحوى التقييم النقدي لإحدى الأطروحات العلمية، ويبدون فخورين بأنفسهم حين يقومون بذلك.

يجري التخلُّص من المحتوى العلمي للقصص — الأدلة التجريبية الفعلية — وإحلال عبارات توجيهية محلها من شخصيات تتمتَّع بسمعة علمية من كلا جانبَيِ المناظرة، وهو ما يُسهم في ترسيخ شعور جامح باعتباطية النصائح العلمية إلى حدٍّ ما، واعتمادها على دور اجتماعي — «الخبير» — أكثر مِن اعتمادها على أدلة تجريبية واضحة وقابلة للفهم في الحال. ولعل الأكثر سوءًا من هذا أن عناصر أخرى تبرز إلى واجهة النقاش: موضوعات سياسية، رفض توني بلير التصريح بما إذا كان رضيعه قد تلقَّى تطعيمًا، القصص الخرافية، عالِم «منشق» تُسلَّط عليه الأضواء، والتوسلات العاطفية من الآباء.

أيُّ فردٍ عاقل من العامة، يجري توجيهه بمثل هذه القصة الإنسانية الجذابة المقنِعة، سيكون له الحق تمامًا في النظر إلى أي خبير يزعم أن التطعيم الثلاثي آمنٌ باعتباره أخرقَ ووقحًا، خاصة إذا كان هذا الزعم قد جاء في غياب أي دليل يدعمه.

كانت القصة جذَّابة أيضًا؛ فمثل قصة الأغذية المعدلة وراثيًّا، بدتْ قصةُ التطعيم الثلاثي متلائمةً نوعًا ما مع نموذج أخلاقي بسيط، وهو نموذج أتفهَّمه شخصيًّا مفادُه: الشركات الكبرى مراوِغة في الغالب، ولا يمكن الوثوق في الساسة. لكنَّ مسألةَ ما إذا كانت أفكارك الحدسية السياسية والأخلاقية تقع في الإطار الصحيح تُعَد مسألةً ذات أهمية. عن نفسي، أشك كثيرًا في شركات الأدوية؛ ليس لأنني أعتقد أن جميع الأدوية رديئة، لكن لأنني أعرف أنها أخفتْ بياناتٍ ليست في صالحها، ولأنني رأيتُ موادها الترويجية تسيء تمثيل العلم. وللمصادفة أيضًا أن لديَّ شكوكًا بالغةً حيال الأغذية المعدَّلة وراثيًّا؛ ليس بسبب أي أوجه قصور كامنة في التكنولوجيا، وليس لأنني أعتقد أنها على درجة فريدة من الخطورة. ففي موضع ما بين الجمع بين الجينات من أجل إنتاج منتجات ستعالج مرض الهيموفيليا من جانب، وإنتاج جينات لعلاج مقاومة المضادات الحيوية على نطاق واسع من جانب آخر، يوجد مسارٌ وسطٌ معقولٌ لتنظيم عملية التعديل الوراثي، لكن لا يوجد شيء لافت بشدة أو خطر فريد من نوعه حيال عملية التعديل الوراثي كتقنية.

على الرغم من كل ذلك، ما زالت لديَّ شكوك بالغة حيال عملية التعديل الوراثي لأسباب لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم؛ وذلك لأنها ببساطة أسفرت عن نوع خطير من انتقال السلطة في مجال الزراعة، وتُعتبر «البذور المنهية»، التي تموت في نهاية الموسم، إحدى الطرق التي تزيد من اعتمادية المزارعين، على المستوى القومي وفي العالم النامي على حدٍّ سواء، وفي الوقت ذاته تضع إمدادات الغذاء العالمي في أيدي الشركات المتعددة الجنسيات. إذا أردتَ أن تستقصي أكثر، تُعتبر مونسانتو أيضًا شركةً في غاية الشناعة (هي التي صنعتْ مُبيد العامل البرتقالي خلال حرب فيتنام، على سبيل المثال).

عند رصد الحملات العمياء، المحمومة، الخرقاء ضد التطعيم الثلاثي والأغذية المعدَّلة وراثيًّا — وهو ما يعكس سلسلة الأفكار الطفولية القائلة بأن «المعالجة المثلية تنجح؛ لأن الآثار الجانبية لعقار فيوكس تَتَسَتَّر عليها شركة مرك» — يسهُل الإحساس بشعور عميق بضياع الفرص السياسية، وأن غضبنا العارم حيال الموضوعات التنموية، ودور الثروات في مجتمعنا، وسوء ممارسات الشركات الكبرى الصريحة، يجري تغيير مساره بشكل ما بعيدًا عن أي غاية صحيحة ومفيدة، وفي اتجاه خيالات طفولية خرافية. ويبدو لي أنك إذا كنتَ تهتم حقًّا بالشركات الكبرى، والبيئة والصحة، إذن فأنتَ تُهدِر وقتك مع الهَذِرين أمثال بوستاي وويكفيلد.

تواجه التغطية العلمية مزيدًا من التعطيل والإعاقة، بالطبع، من خلال حقيقة أن الموضوع يمكن أن يكون صعب الفهم للغاية. قد يبدو هذا في حد ذاته إهانةً للأذكياء، مثل الصحفيين، الذين يتخيَّلون أنفسهم قادرين على فهم معظم الأشياء، لكن كان ثمة تسارُع أيضًا في معدلات تعقُّد الأمور مؤخرًا. فقبل خمسين عامًا، كان بإمكانك أن تصيغ تفسيرًا كاملًا لطريقة عمل جهاز راديو «إيه إم» على ظهر فوطة مائدة، من خلال معرفة علمية مدرسية بسيطة، وتصميم مستقبل راديو لاسلكي بمكشاف بِلَّوري في الفصل كذلك الذي في سيارتك تمامًا. وعندما كان أبواك في مرحلة الشباب، كانا يستطيعان إصلاح سيارتهما بنفسيهما، وكانا يستطيعان فَهْم القاعدة العلمية الكامنة وراء معظم الأجهزة التكنولوجية اليومية التي كانوا يصادفونها، لكن لم يعد الأمر كذلك اليوم. فحتى أكثر الأشخاص خبرة بالتكنولوجيا سيجد صعوبةً بالغةً في تفسير طريقة عمل هاتفه النقال؛ لأن التكنولوجيا صارت أكثر صعوبة في فهمها وتفسيرها، ولقد اكتسبتِ الأجهزة اليومية نوعًا من التعقيد والغموض يشبه «الصندوق الأسود»، وهو ما قد يبدو أمرًا مشئومًا فضلًا عن كونه مدمِّرًا فكريًّا. لقد بُذِرتِ البذور.

لكن يجب أن نعود إلى الموضوع الأساسي. إذا كان ثمة قَدْر قليل من العلم، إذن فما الذي «نُشر» في جميع هذه القصص المطوَّلة عن التطعيم الثلاثي؟ بالعودة إلى بيانات عام ٢٠٠٢ المستقاة من مجلس البحوث الاقتصادية والاجتماعية، لم يذكر أندرو ويكفيلد إلا ربع الباحثين، وهو ما يبدو غريبًا، بالنظر إلى أنه كان يمثِّل الركن الأساسي في القصة. وخَلَق هذا انطباعًا خاطئًا بأن ثمة مجموعة كبيرة من الآراء الطبية كانت تتشكَّك في التطعيم الثلاثي، وليس مجرد عالِم واحد «منشق». أشار أقلُّ من ثُلث التقارير ذات الحجم الكبير إلى الأدلة التجريبية الدامغة القائلة بأن التطعيم الثلاثي آمن، ولم تُشِر إلا نسبة بلغت ١١ في المائة فقط إلى اعتبار التطعيم الثلاثي آمنًا في الدول التسعين الأخرى التي يُستخدم فيها.

كان من النادر العثور على مناقشة مستفيضة حول الأدلة على الدوام؛ إذ اعتُبِرتْ مناقشة كهذه في غاية التعقيد، وعندما كان الأطباء يحاولون تفسيرها كان يجري إسكاتهم دائمًا، أو الأسوأ، كان يجري اختزال تفسيراتهم في صورة عبارات باهتة مفادها أن «العلم قد أثبت» عدم وجود أي شيء للقلق حياله. كان يجري وضع وجهة النظر القاصرة هذه في مقابل المخاوف العاطفية لدى الآباء المكلومين.

مع انقضاء عام ٢٠٠٢، صارت الأمور غريبة حقًّا؛ فقد جعلتْ بعض الصحف، مثل صحيفتي «ديلي ميل» و«ذا ديلي تليجراف»، التطعيمَ الثلاثي محور حملة سياسية موسعة، وبلغت مباركة ويكفيلد نوعًا من الترويج المحموم. فأَجْرت لورين فريزر مقابلةً حصرية معه نُشرتْ في صحيفة «ذا ديلي تليجراف» وُصِف فيها باعتباره «نصيرًا للمرضى الذين يشعرون بأن مخاوفهم قد جرى تجاهلها.» وكتبتْ فريزر مجموعةً من المقالات المشابِهة على مدى السنة التالية (وتلقَّتْ مكافأتها عندما حصلت على جائزة كاتبة الشئون الصحية للصحافة البريطانية لعام ٢٠٠٢، وهي جائزة لا أتوقع أن أتلقَّاها شخصيًّا).

قدَّمتْ جوستين بيكاردي مقالًا مصوَّرًا مبهرًا عن ويكفيلد، ومنزله، وعائلته في مجلة «تليجراف» الصادرة يوم السبت. فتخبرنا أن آندي «بطل وسيم، لامع الشعر بالنسبة إلى عائلات الأطفال المتوحدين.» كيف تبدو عائلته؟ «عائلة تدعو إلى الإعجاب، نابضة بالحياة، العائلة التي تسعد بمصادقتها، في مواجهة قوًى خفية زرعتْ أجهزة تنصُّت وسرقتْ سجلَّات المرضى الصحية في عمليات سطو «غير مفهومة ظاهريًّا».» إنها تختلق خيالات — وأقسم لك إنني لا أختلق أيًّا من هذا — حول صورة هوليوودية لصراع ويكفيلد البطولي، فيما يلعب راسل كرو دور البطولة «أمام جوليا روبرتس التي تلعب دور أمٍّ وحيدة مِقدامة تناضل من أجل تحقيق العدالة لطفلها.»

(٨) الأدلة على أمان التطعيم الثلاثي

إذن ما الأدلة على أمان استخدام التطعيم الثلاثي؟

ثمة عددٌ من الطرق لبحث الأدلة على أمان تدخُّل علاجي معيَّن، وهو ما يعتمد على مقدار الانتباه الذي يجب أن توليه له. تتمثَّل أبسط الطرق في انتقاء إحدى الشخصيات ذات السلطة العلمية والثقل، ربما يكون طبيبًا، على الرغم من أن ذلك لا يبدو مستساغًا (في استطلاعات الرأي يقول المُستطلَعون إنهم يثقون في الأطباء أكثر من أي شخص آخر، وفي الصحفيين أقل من أي شخص آخر، وهو ما يبيِّن وجه القصور في هذا النوع من الاستطلاعات).

يمكن أيضًا انتقاء شخصية أخرى أكثر تأثيرًا دون تدقيق، إذا كانت ثمة شخصية تناسبك. كان معهد الطب، والكليات الملكية، وهيئة الخدمات الصحية الوطنية، وغير ذلك من المؤسَّسات، قد أيَّدوا استخدام التطعيم الثلاثي، لكن لم يكن ذلك فيما يبدو كافيًا بحيث يكون مُقنِعًا. يمكنك أن تقدِّم بعض المعلومات: جاءت العبارة الآتية في صدارة موقع هيئة الخدمات الصحية الوطنية mmrthefacts.nhs.uk: «التطعيم الثلاثي آمن» (حرفيًّا). ووفَّر الموقع للقارئ إمكانية البحث تفصيليًّا في الدراسات المفردة.٣ لكن لم يُفلح هذا أيضًا إلا قليلًا في وقف المدِّ، فبمجرد انتشار إحدى المخاوف الصحية، ربما يبدو كل تفنيد بمنزلة إقرارٍ بالذنب، وهو ما يجذب الانتباه أكثر إلى مصدر المخاوف.

تأتي تقارير «كوكرين كولابوريشن» خالية من الأخطاء، وقد قام المشروع بإجراء مراجعة بحثية نقدية منهجية حول أدبيات التطعيم الثلاثي، وخَلَصتِ المراجعة إلى عدم وجود دليل على عدم أمان التطعيم الثلاثي (على الرغم من عدم ظهور المراجعة إلا في عام ٢٠٠٥). أجرت هذه المراجعةُ البحثية عمليةَ مراجعةٍ للبيانات التي كانت وسائل الإعلام قد تجاهلتْها بشكل ممنهج. علامَ يدل ذلك؟

إذا أردنا أن نحتفظ بالأرض الصلبة الأخلاقية المرتفعة التي نقف عليها؛ فثمة أشياء قليلة نحتاج إلى فهمها بشأن الأدلة؛ أولًا: لا توجد دراسة واحدة قاطعة تثبت أن التطعيم الثلاثي آمن (على الرغم من أن الأدلة التي تقول إنه خطير كانت غير مقنعة على الإطلاق). فلا توجد، على سبيل المثال، تجربةٌ تتضمَّن مجموعةً ضابطة وتوزيعًا عشوائيًّا. بل يُعرض علينا، بدلًا من ذلك، مستنقع ضخم من البيانات، من عدة دراسات مختلفة، جميعها تتضمَّن عيوبًا في طرائقها الخاصة المتَّبَعة في البحث لأسباب تتعلَّق بالتكلفة، والكفاءة، إلخ. ثمة مشكلة شائعة في استخدام البيانات القديمة في الإجابة عن أسئلة قديمة، هي أن هذه الأوراق البحثية ومجموعات البيانات ربما كانت تتضمَّن الكثير من المعلومات المفيدة، التي جرى جمعها على نحوٍ يتسم بالكفاءة العالية للإجابة عن الأسئلة التي كان الباحثون مهتمِّين بها في ذلك الوقت، لكنها ليست مثالية لتلبية حاجاتك، هي ربما بيانات جيدة فقط.

أجرى سميث وآخرون، على سبيل المثال، شيئًا أطلقوا عليه دراسة «حالة مقارنة»، باستخدام قاعدة بيانات بحوث أطباء الممارسة العامة. يُعتبر هذا نوعًا شائعًا من الدراسات، يجري فيه أخذ مجموعة من الأشخاص المصابين بالمرض الذي تبحثه (التوحد)، ومجموعة أخرى من الأشخاص غير المصابين به، ثم تبحث إذا ما كان ثمة أيُّ اختلاف في حجم تعرُّض كل مجموعة للشيء الذي تعتقد أنه ربما يسبِّب المرض (التطعيم الثلاثي).

إذا كنتَ تهتم بمعرفة الجهة التي تحمَّلتْ تكاليف الدراسة — وآمُل أن تكون قد أصبحتَ أكثر تطورًا فكريًّا من ذلك الآن — فهي مجلس البحوث الطبية. فقد وجد الباحثون حوالي ١٣٠٠ شخص مصاب بالتوحد، ثم استعانوا بمجموعة من الأشخاص «كمجموعة ضابطة»؛ عيِّنة عشوائية من أشخاص غير مصابين بالتوحد، في نفس العمر، ومن نفس الجنس، والمهنة. ثم نظر الباحثون إلى ما إذا كان التطعيم أكثر شيوعًا بين الأشخاص المصابين بالتوحد، أم لدى المجموعة الضابطة، ولم يجدوا أيَّ فرق بين المجموعتين. أجرى الباحثون أنفسُهم مراجعةً بحثية نقدية منهجية لدراسات مشابهة في الولايات المتحدة وفي الدول الاسكندنافية، ومرة أخرى، من خلال جمع البيانات، لم يجدوا أيَّ علاقة بين التطعيم الثلاثي والتوحد.

هناك مشكلة عملية في هذا النوع من البحوث، بالتأكيد، وهي ما آمُل أن تلاحظها: «يتلقَّى» معظم الناس التطعيم الثلاثي؛ لذا ربما يكون الأشخاص الذين تبحثهم و«لم» يتلقَّوا التطعيم غيرَ عاديين من أوجه أخرى — ربما رفض آباؤهم التطعيم لأسباب أيديولوجية أو ثقافية، أو لدى الطفل مشكلة صحية عضوية قائمة — وربما تتعلَّق تلك العوامل نفسها بالتوحد. ليس هناك الكثير مما يمكنك عمله في إطار تصميم الدراسة حيال هذا «المتغير المحير» المحتمل؛ لأنه من غير المحتمل — مثلما ذكرنا — أن تُجري دراسة تتضمَّن توزيعًا عشوائيًّا ومجموعة ضابطة لا تعطي الأطفال فيها التطعيمات على نحو عشوائي؛ إذ إنك بذلك تُلقي بالنتيجة في بوتقة واحدة مع بقية المعلومات، من أجل الوصول إلى حكمك الخاص. ومثلما اتفق، مضى سميث وآخرون بعيدًا لضمان أن المجموعة الضابطة التي استعانوا بها كانت معبِّرة. إذا شئتَ، يمكنك أن تقرأ الورقة البحثية وتقرِّر ما إذا كنتَ تتفق مع ذلك أم لا.

إذن كانت دراسة «سميث» دراسة «حالة مقارنة»؛ حيث تجري مقارنة بين مجموعتين تتحقَّق لديهما النتيجة أو لا تتحقَّق، ويجري البحث من خلالها في مدى شيوع الإصابة بالمرض في كل مجموعة. في الدنمارك، قام مادسن وآخرون بدراسة عكسية، تُسمَّى «دراسة حشدية». في هذه الدراسة تجري مقارنة مجموعتين مصابتين بالمرض أو لا، من أجل بحث ما إذا كان ثمة أي تغيير في النتيجة النهائية. في هذه الحالة تحديدًا، تُشكَّل مجموعتان، تلقَّى أفرادهما التطعيم الثلاثي أو لا، ثم يجري التأكد لاحقًا مما إذا كان معدل الإصابة بالتوحد مختلفًا بأي حال من الأحوال بين المجموعتين.

كانت هذه الدراسة كبيرة — كبيرة جدًّا — وشملتْ جميع الأطفال الذين وُلدوا في الدنمارك بين يناير ١٩٩١ وديسمبر ١٩٩٨. في الدنمارك ثمة نظام يتضمَّن أرقام هُويَّة شخصية مميزة، تتصل بسجلَّات التطعيم والمعلومات المتوافرة حول تشخيص التوحد، وهو ما جعل بالإمكان متابعة حالة جميع الأطفال المشاركين في الدراسة تقريبًا. كان هذا إنجازًا باهرًا؛ إذ كان ثمة ٤٤٠٦٥٥ طفلًا قد تلقَّوا التطعيمات، و٩٦٦٤٨ لم يتلقَّوْها. ولم تُسفِر النتائج عن وجود أي فرق بين الأطفال المطعَّمين وغير المطعَّمين، سواء في معدلات الإصابة بالتوحد أو اضطرابات طيف التوحد، كما لم تُسفِر النتائج عن وجود ارتباط بين الإصابة بالتوحد والعمر عند تلقِّي التطعيمات.

استجاب منظِّمو الحملات المناهضة لاستخدام التطعيم الثلاثي إلى هذه الدراسة من خلال القول بأن عددًا صغيرًا فقط من الأطفال يتضرَّر جراء التطعيمات، وهو ما لا يبدو متوافقًا مع ادِّعاءاتهم بأن التطعيم الثلاثي مسئول عن الطفرة الهائلة في تشخيص التوحد. على أي حال، إذا تسبَّب أحد التطعيمات في ضرر لعدد صغير جدًّا من الأشخاص، فلن يكون هذا مدهشًا؛ إذ لن يكون الأمر مختلفًا عن أي تدخل علاجي آخر (أو أي نشاط إنساني، وهو أمر محل جدل)، وبالتأكيد لن يكون ثمة أي قصة.

كما مع جميع الدراسات، هناك مشكلات مع هذه الدراسة الضخمة. تنتهي سجلات متابعة التشخيص (٣١ ديسمبر ١٩٩٩) بعد اليوم الأخير من تاريخ الانضمام إلى مجموعة الدراسة؛ لذا، نظرًا لأن التوحد تتم الإصابة به بعد عمر عام واحد، لن يكون من المحتمل أن يُظهر الأطفال الذين يولدون لاحقًا في المجموعة البحثية أي أعراض للتوحد مع نهاية فترة المتابعة. ولكن جرى تسليط الضوء على هذا في الدراسة، وبإمكانك أن تقرِّر ما إذا كنتَ تعتقد أن هذا سيقوِّض النتائج الإجمالية لها أم لا. لا أعتقد أن في هذا مشكلة كبيرة. هذا رأيي، وأعتقد أنك ربما توافق على أن التجربة لم تكن خرقاء. فقد أُجريت التجربة على أي حال من يناير ١٩٩١.

هذا هو نوع الأدلة التي ستجدها في مراجعة كوكرين البحثية، التي وَجدتْ، ببساطة شديدة، أن «الأدلة المتوافرة حول أمان وفاعلية التطعيم الثلاثي تدعم سياسات التطعيم الجماعي الحالية الهادفة إلى القضاء على الحصبة تمامًا بغرض تقليص معدلات انتشار المرض والوفيات المرتبطة بالنكاف والحصبة الألمانية.»

تضمَّنتْ مراجعة كوكرين أيضًا انتقادات متعدِّدة للأدلة التي راجعَتْها، والتي، للغرابة، انتهزها معلِّقون كثيرون فرصةً للزعم بأن ثمة نوعًا من التلفيق. كانت المراجعة النقدية البحثية تسير في اتجاه التوصل إلى نتيجة مفادها أن التطعيم الثلاثي يمثِّل خطرًا، مثلما يزعمون، إذا قرأتَ المحتوى، لكن بعد ذلك، فجأةً، خَلَصتِ المراجعة إلى استنتاج مطمئن، وهو ما يرجع بلا شك إلى ضغط سياسي خفي.

غضبتْ ميلاني فيليبس الصحفية في «ديلي ميل»، وهي إحدى رواد حركة مناهضة التطعيمات، غضبًا عارمًا بسبب ما ظنَّت أنها اكتشفَتْه: «ذكرتِ المراجعةُ أن ما لا يقل عن تسع دراسات من بين أشهر الدراسات التي استُخدمتْ ضد أندرو ويكفيلد لم تكن يُعتمد عليها من حيث طريقة بنائها.» بالطبع ذكرتْ ذلك. وأنا مندهش أنها لم تذكر أكثر من ذلك. فمراجعات كوكرين «تهدف» إلى نقد الأوراق البحثية.

(٩) «الأدلة» العلمية في وسائل الإعلام

ولكن كان لدى الصحف في عام ٢٠٠٢ ما هو أكثر من مجرد آباء يعتصرهم القلق. كان ثمة قدر يسير للغاية من المعرفة العلمية بما كان يجعل الأمور تمضي؛ ستتذكَّر صور الفيروسات وجدران المعدة التي التُقطتْ بواسطة الكمبيوتر، ربما، وقصص عن النتائج المخبرية. لماذا لم أذكر تلك الأشياء؟

لسبب واحد؛ ألَا وهو أن هذه النتائج العلمية المهمة كان يجري نشرها في الصحف والمجلات، وفي المقابلات، بل في كل مكان فيما عدا المجلات الأكاديمية الحقيقية التي يمكن قراءتها فيها وتقييمها بعناية. ففي مايو، على سبيل المثال، «كشف» ويكفيلد «حصريًّا» أن «أكثر من ٩٥ في المائة من أولئك الذين كانوا يحملون الفيروس في معدتهم تلقَّوا التطعيم الثلاثي باعتباره المصدر الوحيد الموثَّق لمرض الحصبة.» لا يبدو أن ويكفيلد قد كشف عن هذا في مجلة أكاديمية تخضع لمراجعة الأقران، ولكن في ملحق ملوَّن يصدر في نهاية الأسبوع.

بدأ أشخاص آخرون في الظهور في كل مكان، زاعمين الحصول على نتيجة عظيمة ما، لكن دون نشر بحوثهم في مجلَّات أكاديمية خاضعة لمراجعة الأقران. نُوِّه عن بحث لأحد الصيادلة في سندرلاند يُدعى السيد بول شاتوك في برنامج «توداي»، وفي صحف قومية عديدة، قيل فيها إنه توصَّل إلى مجموعة فرعية مميزة من الأطفال الذين يعانون من التوحد الناشئ عن التطعيم الثلاثي. إن السيد شاتوك نَشِطٌ جدًّا في مواقع مناهضة التطعيم عبر الإنترنت، لكن يبدو أنه لم يتوصَّل بعدُ إلى نشر بحثه المهم هذا بعد الإعلان عنه بسنوات، على الرغم من توصية مجلس البحوث الطبية في عام ٢٠٠٢ بضرورة «نشر هذا البحث والتقدُّم إلى مجلس البحوث الطبية بأطروحات إيجابية.»

في الوقت نفسه، كان د. آرثر كريجزمان، وهو استشاري أطفال متخصص في الأمراض الباطنية يعمل في منطقة نيويورك، يقول في جلسات استماع في واشنطن إنه توصَّل إلى جميع أنواع النتائج الشائقة في أمعاء الأطفال المتوحدين، باستخدام المناظير. وقد سُلِّطتِ الأضواء على هذا كثيرًا في وسائل الإعلام. وها هو مقتطف من صحيفة «ذا ديلي تليجراف»:

نشر العلماء في أمريكا أول البحوث المستقلة التي تدعم النتائج البحثية التي توصَّل إليها د. أندرو ويكفيلد. يُعتبر اكتشاف د. كريجزمان مهمًّا؛ إذ إنه يدعم على نحوٍ مستقل الاستنتاج الذي توصَّل إليه د. ويكفيلد من وجود مزيج غير محدَّد ومدمِّر من أمراض المعدة والمخ يؤثر على الأطفال الصغار، وهو زعم استبعدَتْه وزارة الصحة باعتباره «علمًا زائفًا».

في حدود معرفتي — وأنا أتميز بالبراعة الشديدة في البحث عن هذه الأشياء — لم يَجْرِ نشر النتائج البحثية العلمية الجديدة التي توصَّل إليها كريجزمان، والتي تدعم نتائج بحوث أندرو ويكفيلد، على الإطلاق في أي مجلة أكاديمية؛ بالتأكيد لا يوجد أي أثر لهذه النتائج في موقع «ببميد»، وهو المسرد الذي يضم جميع المقالات الأكاديمية الطبية تقريبًا.

في حال إذا لم تستوعب سبب أهمية هذا، دعني إذن أوضح الأمر مرة أخرى. إذا زرتَ مباني الجمعية الملكية في لندن، فسترى شعارها يقول في فخر: «لا تركن إلى رأي أحد.» ما أحبُّ أن أتصوَّر أن هذا يشير إليه، بطريقتي المملة الغريبة، هو أهمية نشر أوراق بحثية علمية سليمة إذا كنتَ تريد أن يلتفت الناس إلى عملك. لا يزال د. آرثر كريجزمان يزعم لسنوات الآن أنه توصَّل إلى الأدلة التي تربط بين التطعيم الثلاثي والتوحد وأمراض المعدة. وإذ إنه لم يَنشر نتائجه، فبوسعه الاستمرار في الزعم بها كما يشاء؛ لأنه حتى نرى ما فعل بالضبط، لا يمكننا أن نرى أوجه القصور التي قد تكمن في الأساليب التي اتبعها. ربما لم ينتقِ المشاركين في البحث جيدًا. ربما قاس أشياء غير صحيحة. إذا لم يكتب ما فعل بصورة رسمية، فلن نعرف أبدًا؛ لأن هذا هو ما يفعله العلماء: يكتبون البحوث، ويحللونها حتى يتأكدوا مما إذا كانت نتائجهم سليمة أم لا.

لم تكن إخفاقات كريجزمان وآخرين في نشر نتائج بحوثهم في مجلَّات أكاديمية خاضعةٍ لمراجعة الأقران حوادثَ منفصلةً. في حقيقة الأمر، لا يزال الأمر يحدث بعد مرور سنوات. ففي عام ٢٠٠٦، حدث الشيء نفسه تمامًا مرة أخرى. فقد كتبت صحيفة «ذا ديلي تليجراف» قائلة: «العلماء الأمريكيون يعضدون العلاقة بين التوحد والتطعيم الثلاثي.» ونشرت «ديلي ميل» خبرًا يقول: «العلماء يخشون وجود علاقة بين التطعيم الثلاثي والتوحد.» بينما صرختْ صحيفة «ذا تايمز» بعدها بيوم قائلةً: «دراسة أمريكية تدعم مزاعم وجود علاقة بين التطعيم الثلاثي والتوحد.»

أي بيانات جديدة مخيفة هذه؟ لقد كانت قصص المخاوف هذه تعتمد على عرض تقديمي على ملصق كبير، في مؤتمر كان سينعقد، على بحث لم يكتمل بعد، من قِبَل رجل له تاريخ سابق في الإعلان عن بحوث لا تظهر أبدًا فيما بعدُ في أي مجلة أكاديمية. في الحقيقة، وهو أمر مثير للدهشة، بعدها بأربع سنوات، كان مَن قام بذلك هو د. آرثر كريجزمان مرة أخرى. كانت القصة مختلفة هذه المرة: فقد اكتشف مادة جينية (آر إن إيه) من خلال إحدى سلالات الحصبة التي تُحقن من خلال التطعيم في بعض العينات المأخوذة من الأمعاء من أطفال مصابين بالتوحد ولديهم مشكلات في الأمعاء. إذا كان هذا صحيحًا، فلا بد أنه كان سيتلاءم مع نظرية ويكفيلد، التي كانت بحلول عام ٢٠٠٦ في طريقها للتداعي. ربما نذكر أيضًا أن ويكفيلد وكريجزمان طبيبان يعملان معًا في «ثوتفول هاوس»، وهي عيادة توحد خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية تقدِّم علاجات غير مألوفة لاضطرابات النمو.

مضت صحيفة «ذا ديلي تليجراف» لتوضِّح أن أحدث مزاعم كريجزمان غير المنشورة يستنسخ بحثَيْن مشابهين يرجع أحدهما إلى عام ١٩٩٨ أجراه د. أندرو ويكفيلد، والآخر يرجع إلى ٢٠٠٢ للبروفيسور جون أوليري. كان هذا — وهو أقل ما يقال عن الأمر — يمثل تشويهًا للحقائق. فلا توجد بحوث ترجع إلى عام ١٩٩٨ أجراها ويكفيلد تتلاءم مع ادِّعاء صحيفة «ذا تليجراف»، على الأقل في «ببميد» حيث يمكن أن أجدها. أعتقد أن الصحيفة خلطت بين البحث المشار إليه والورقة البحثية سيئة السمعة المنشورة في دورية «ذا لانست» حول التطعيم الثلاثي، التي بحلول عام ٢٠٠٤ كان قد جرى نقضها جزئيًّا.

لكنْ هناك ورقتان بحثيَّتان تشيران إلى العثور على آثار لمادة جينيَّة من الحصبة في الأطفال. وتلقَّتْ هاتان الورقتان البحثيتان تغطيةً إعلامية هائلة على مدى نصف عَقْد، وعلى الرغم من ذلك ظلَّتْ وسائل الإعلام ملتزمةً الصمتَ بشأن الأدلة المنشورة التي تشير إلى عدم صحة النتائج الإيجابية التي توصَّلتْ إليها الورقتان، مثلما سنرى الآن.

كانت إحدى هاتين الورقتين من تأليف كاواشيما وآخرين، في عام ٢٠٠٢، وتتضمَّن اسم ويكفيلد كأحد مؤلِّفيها، وزُعِم فيها وجود مادة جينية من مصل التطعيم ضد الحصبة في الخلايا الدموية. تخيِّم ظلالٌ من الشك على هذا الادِّعاء من خلال محاولات تكرار النتائج، ومن خلال شهادة نيك شادويك، طالب الدكتوراه الذي أشرنا إلى بحوثه سابقًا. حتى أندرو ويكفيلد نفسه لم يَعُد يعتمد على هذه الورقة البحثية.

الورقة البحثية الثانية ترجع إلى أوليري من عام ٢٠٠٢، وتتضمَّن ويكفيلد أيضًا باعتباره أحد مؤلِّفيها. أسفرتْ عن أدلةٍ على وجود جزيئات «آر إن إيه» في عينات الأنسجة المأخوذة من الأطفال. وأظهر مزيد من التجارب اللاحقة، مرة أخرى، مصدر النتائج الإيجابية الزائفة، وفي عام ٢٠٠٤، عندما كان البروفيسور ستيفن باستن يبحث الأدلة في قضية المعونة القانونية، أوضح كيف أثبت على نحو مُرضٍ له — خلال إحدى الزيارات لمختبر أوليري — أن هذه النتائج الإيجابية كانت زائفة بسبب التلوث وعدم اتباع الأساليب التجريبية على نحو كافٍ. فأوضح، أولًا، عدم وجود أي «مجموعات ضابطة» للتأكد من صحة النتائج الإيجابية (يُعتبر التلوث مصدر خطر كبير عندما يتقصَّى الباحث آثارًا طفيفة للمواد الجينية؛ لذا يستخدم الباحث عينات «خالية» على وجه العموم لضمان الحصول على مواد جينية خالية من أي أمراض)، كما وجد مشكلات معايرة في الماكينات المستخدَمة في إجراء التجربة، ومشكلات في سجلَّات تدوين النتائج، وما هو أسوأ من ذلك. وقد أشار إلى كلِّ هذا في استفاضةٍ بالغة في إحدى القضايا المنظورة أمام إحدى المحاكم الأمريكية حول التوحد وعقاقير التطعيم في عام ٢٠٠٦. تستطيع قراءة تفسيره كاملًا على الإنترنت. ولدهشتي لم يأبه أي صحفي في المملكة المتحدة بالإشارة إلى هذا التفسير.

تلقَّتْ هاتان الورقتان البحثيتان اللتان تزعمان وجودَ علاقةٍ تغطيةً إعلامية واسعة في ذلك الوقت، مثلما حدث مع ادِّعاءات كريجزمان.

(١٠) ما لم يخبروك به

في عدد مايو ٢٠٠٦ من دورية «جورنال أوف ميديكال فايرولوجي» كانت ثمة دراسة مشابهة للغاية للدراسة التي أشار إليها كريجزمان، إلَّا أن هذه كانت قد نُشرتْ في حقيقة الأمر، من تأليف أفزال وآخرين. كانت الدراسة تبحث عن جزيئات «آر إن إيه» للحصبة في الأطفال المصابين بالتوحد النكوصي بعد تلقِّي التطعيم الثلاثي، وهو ما يشبه كثيرًا دراسة كريجزمان غير المنشورة، واستخدمتْ أدوات في غاية الفاعلية، حتى إنها كانت تستطيع تحديد جزيئات «آر إن إيه» للحصبة على درجة من الدقة تصل إلى تحديد أعداد نسخ الجينات المفردة. لم تَجِدِ الدراسة أيَّ عامل تأثير للتطعيم الثلاثي في ظهور جزيئات «آر إن إيه» في سلالات الحصبة المستخدمة في التطعيمات السحرية التي يجري تلقيها. ربما بسبب هذه النتيجة غير المخيفة، لاقتِ الدراسة تجاهلًا تامًّا من قِبَل الصحافة.

ولمَّا كانت الدراسة قد نُشرتْ كاملةً، أستطيع أن أقرأها، وتحديد أوجه القصور فيها، وأشعر بسعادة بالغة في عمل ذلك؛ إذ إن العلم يدور حول نقد البيانات والأساليب المنشورة علنًا، وليس البيانات الصحفية الوهمية. وفي العالم الواقعي تتضمَّن جميع الدراسات بعض أوجه القصور، بدرجة أكبر أو أقل. وغالبًا ما تكون أوجه القصور هذه عملية؛ فهنا، على سبيل المثال، لم يستطع الباحثون العثور على الأنسجة التي كانوا سيستخدمونها بصورة مثالية في تجربتهم؛ لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على موافقة لجنة أخلاقيات المهنة للقيام بإجراءات طبية تدخُّلية مثل البزل القطني، وأَخْذ عينات أنسجة من المعدة من الأطفال (نجح ويكفيلد في الحصول على مثل هذه العينات، ولكن يجب أن نتذكَّر أنه يخضع حاليًّا لجلسة استماع من لجنة السلوك المهني بالمجلس الطبي العام حول الموضوع).

بالتأكيد كان بإمكانهم اقتراض بعض العينات الموجودة، من أطفال قيل إنهم تضرَّروا جراء تلقِّي التطعيمات، أليس كذلك؟ ربما فكرتَ في ذلك. يشيرون في الورقة البحثية إلى أنهم حاولوا سؤال الباحثين المناهضين لاستخدام التطعيم الثلاثي — إذا لم يكن هذا اصطلاحًا غير منصف — عما إذا كانوا يستطيعون اقتراض بعض عينات الأنسجة التي يستخدمونها لِيُجروا بحوثهم عليها، إلا أنهم قوبلوا بالتجاهل.٤

لم تجرِ الإشارة إلى تجربة أفزال وآخرين في وسائل الإعلام، في أي وسيلة على الإطلاق، فيما عدا عمودي الصحفي.

ليست هذه حالة منعزلة؛ فقد نُشرتْ ورقة بحثية كبرى أخرى في الدورية الأكاديمية الرائدة «بيدياتريكس» بعدها بشهور قليلة — استكمالًا لحلقة الصمت الإعلامي — أشارت مرة أخرى بقوة بالغة إلى أن النتائج الأولى التي أسفرتْ عنها تجربتا كاواشيما وأوليري غير صحيحة، ولا تمثِّل إلا نتائج إيجابية غير حقيقية. استنسخ دي سوزا وآخرون في تجربتهم التجارب السابقة على نحو بالغ الدقة، وبمزيد من الحرص من بعض الجوانب. ولعل أهم ما في الأمر أن التجربة قد تقفَّتْ أثر الطرق المحتملة التي ربما أدَّتْ لتحقُّق النتائج الإيجابية غير الحقيقية، وتوصَّلتْ إلى بعض النتائج المدهشة.

تُعتبر النتائج الإيجابية غير الحقيقية أمرًا شائعًا في تكنولوجيا «بي سي آر»؛ إذ إنها تعمل من خلال استخدام إنزيمات لاستنساخ جزيئات «آر إن إيه»؛ لذا يبدأ الباحث باستخدام كمية قليلة من الإنزيمات في العَيِّنة، التي يجري بعد ذلك «تكبيرها»، ونسخها مرة بعد مرة، حتى يتوافر ما يكفي منها للقياس وإجراء التجارب عليه. بالبدء بجزيء واحد من المادة الجينية، تستطيع تكنولوجيا «بي سي آر» توليد ١٠٠ مليار جزيء مشابه في فترة وجيزة جدًّا؛ ونظرًا لذلك، تعتبر العملية التي تجري من خلال تكنولوجيا «بي سي آر» في غاية الحساسية تجاه التلوث — مثلما قد يُخبرك أشخاص بريئون كثيرون يرزحون تحت قيود السجن — لذا على الباحث أن يكون في غاية الحذر، وتنظيف الآثار المتخلِّفة عند الانتقال من خطوة إلى أخرى.

فضلًا عن إثارة المخاوف حيال التلوث، وجد دي سوزا أيضًا أن أسلوب أوليري ربما كان قد ضخَّم دون قصد من الأجزاء غير المقصودة من جزيئات «آر إن إيه».

لنكن واضحين: لا يُعتبر أيٌّ من ذلك نقدًا موجَّهًا لباحثين أفراد. فالتقنيات تتطوَّر، وفي بعض الأحيان لا يمكن تكرار النتائج، ولا تعتبر عمليات التأكد من النتائج جميعًا عملية (على الرغم من أن شهادة باستن تشير إلى أن معايير مختبر أوليري كانت محل إشكال). لكن المثير للدهشة أن وسائل الإعلام سرعان ما تناولت البيانات المخيفة الأصلية تفصيليًّا، ثم تجاهلت تمامًا البيانات المطمْئِنة الجديدة. فقد جرى تجاهل هذه الدراسة التي أجراها دي سوزا، مثل تجربة أفزال قبلها، بالإجماع من قِبَل وسائل الإعلام. وجرت تغطية الدراسة، وفق تقديري، في عمودي الصحفي، وفي مقالة نشرتْها وكالة رويترز لم يلتفت إليها أحد، وفي تعليق في مدونة صديق الباحثة الرئيسية (وهي المدونة التي تحدَّث فيها عن مدى افتخاره بصديقته). ولم تجرِ الإشارة إلى الدراسة في أي مكان آخر.٥

يمكنك أن تقول، على نحو منطقي جدًّا، إن هذا أمر متوقع جدًّا؛ فالصحف تنشر الأخبار، ولا يعتبر أمرًا شائقًا لدرجة كبيرة أن يخرج بحث يشير إلى أن شيئًا ما آمن. لكنني كنتُ سأدفع — ربما على نحو ينطوي على مراء — بأن وسائل الإعلام تتحمَّل مسئولية خاصة في هذه الحالة؛ لأنها طالبت بنفسها إجراء «مزيد من البحوث»، وأيضًا لأنها «في الوقت نفسه» الذي تجاهلتْ فيه النتائج السلبية لبحوث منشورة، بالكامل ومُجراة على نحو صحيح، كانت تدعم بحماس بالغ نتائج مخيفة من دراسة غير منشورة من تأليف كريجزمان، وهو رجل لديه تاريخ في طرح ادِّعاءات مخيفة تظل غير منشورة.

ليس التطعيم الثلاثي حالة منعزلة في هذا المقام. ربما تتذكَّر القصص المخيفة حول حشوات الزئبق خلال العقدين السابقين؛ تلك القصص التي تَظهَر كلَّ بضعة أعوام، تصاحبها عادةً قصة شخصية تدور حول تلاشي الإرهاق، والدوار، وصداع الرأس بعد التخلص من الحشوات عن طريق طبيب أسنان ذي بصيرة وبُعْد نظر. وتُختتم هذه القصص، على نحو تقليدي، بإشارة إلى أن مؤسسة علاج الأسنان الرسمية ربما تتستَّر على حقيقة الزئبق، ومطالبة بإجراء المزيد من البحوث حول سلامته.

نُشرتْ أولى التجارب واسعة النطاق ذات التوزيع العشوائي والتي تتضمَّن مجموعات ضابطة حول سلامة حشوات الزئبق مؤخرًا، وإذا كنتَ تنتظر الاطلاع على هذه النتائج التي ينتظرها الجميع في شغف بالغ، والتي يطلبها الصحفيون شخصيًّا في عدد لا يُحصى من الصحف، فلن يحالفك الحظ؛ لأنك لن تجدها منشورة في أي مكان. ثمة دراسة على أكثر من ١٠٠٠ طفل، أُجري خلالها حشو أسنان بعض الأطفال بحشوات الزئبق، فيما تمَّ حشو أسنان البعض الآخر بحشوات خالية من الزئبق، وهي دراسة تقيس وظائف الكُلَى، ونتائج تطوُّر وظائف الجهاز العصبي مثل الذاكرة، والتناسق العصبي-العضلي، والتوصيل العصبي، ونتائج اختبارات الذكاء، إلخ، على مدى سنوات عديدة. أُجريتِ التجربة على نحو جيد، ولم تكن ثمة اختلافات جوهرية بين المجموعتين. وهذه مسألة تستأهل معرفتها إذا كان قد سبق لك أن أُثيرتْ مخاوفك من قِبَل التقارير الإعلامية حول حشوات الزئبق، وبالله كنتَ ستصاب بالذعر.

عرض برنامج «بانوراما» فيلمًا وثائقيًّا صادمًا على نحو خاص في عام ١٩٩٤ بعنوان «السم في فمك». تضمَّن المشهد الافتتاحي صورًا درامية لرجال يرتدون ملابس واقية كاملة ويدحرجون براميل من الزئبق. لا أقدم لك هنا رأيًا نهائيًّا حاسمًا حول الزئبق. لكنني أعتقد أننا من الممكن أن نفترض بلا قلق عدم وجود فيلم وثائقي في برنامج «بانوراما» يجري إعداده يغطي بيانات البحوث الجديدة الصادمة التي تشير إلى أن حشوات الزئبق ربما لا تكون ضارة على الإطلاق.

من بعض الجوانب، يُعتبر هذا نموذجًا إضافيًّا يبيِّن مدى عدم إمكانية الوثوق في الأفكار الحدسية عند تقييم مخاطر مثل تلك التي تُصاحب استخدام لقاح ما؛ فلا يُعتبر الاعتماد على الأفكار الحدسية استراتيجيةً قاصرة فحسب بالنسبة إلى هذا النوع من التقييم الحسابي، لتقييم نتائج يندر للغاية أن يجمع شخص واحد بيانات مفيدة حولها خلال رحلته الشخصية في الحياة، بل تعتبر المعلومات التي تتلقَّاها من وسائل الإعلام حول عموم السكان معلومات مغلوطة على نحو ساخر، وشنيع، ومشين. إذن في نهاية كل هذا، ماذا حققتِ المؤسسة الإعلامية الإخبارية البريطانية؟

(١١) الأمراض القديمة تعود

لا يكاد يكون الأمر مدهشًا أن معدلات التطعيم الثلاثي قد انخفضت، من ٩٢ في المائة في عام ١٩٩٦ إلى ٧٣ في المائة حاليًّا. وفي بعض أجزاء لندن، انخفض المعدل إلى ٦٠ في المائة، وأظهرتِ الأرقام في عامَيْ ٢٠٠٤-٢٠٠٥ أن في ويستمنستر وحدها لم يتلقَّ إلا ٣٨ في المائة من الأطفال كلتا الحقنتين ببلوغهم سن خمسة أعوام.٦

يصعب تصوُّر ما يحرِّك كل هذا، إذا لم تكن حملة إعلامية مناهضة للتطعيم الثلاثي شديدة النجاح وفي غاية التنسيق، وهي حملة روَّجتْ لمشاعر وهستيريا ضد الأدلة العلمية؛ لأن الناس يستمعون إلى الصحفيين، وهو ما جرى إثباته مرارًا وتكرارًا، وليس فقط في نوعية القصص التي يستعرضها هذا الكتاب.

بحثتْ دراسة نُشرتْ عام ٢٠٠٥ في دورية «ميديكال جورنال أوف أستراليا» حجوزات أشعة فحص الثدي، ووجدتْ أن خلال ذروة التغطية الإعلامية لحملة كايلي مينوج حول سرطان الثدي، ارتفع معدل الحجوزات بنسبة ٤٠ في المائة. كانت الزيادة بين النساء اللائي لم يجرين عمليات فحص سابقة في الشريحة العمرية الواقعة بين أربعين إلى تسعة وستين عامًا تبلغ ١٠١ في المائة. كانت هذه الزيادات غير مسبوقة. ولستُ أنتقي أمثلةً دون غيرها؛ فقد وَجدتْ مراجعةٌ بحثية نقدية أُجريتْ من قِبَل «كوكرين كولابوريشن» خمسَ دراسات تبحث استخدام تدخلات علاجية صحية محدَّدة قبل وبعد التغطية الإعلامية لقصص محدَّدة، ووجد كلٌّ من هذه الدراسات أن الدعاية الإيجابية كانت مرتبطة باستخدام أكبر، والتغطية السلبية باستخدام أقل.

لا يقتصر الأمر على العامة فقط؛ فالممارسة الطبية تتأثر بالإعلام أيضًا، والأمر ذاته مع الأكاديميين. فقد أظهرتْ ورقة بحثية مثيرة من دورية «نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن» في عام ١٩٩١ أنه لو جرت تغطية دراسة من خلال صحيفة «نيويورك تايمز»، فسيكون هناك احتمال أكبر كثيرًا أن يجري الاستشهاد بها من قِبَل الأوراق البحثية الأكاديمية الأخرى. ببلوغك مبلغًا كهذا، ربما تتغاضى عن هذه الدراسة بالفعل. هل كانت التغطية في صحيفة «نيويورك تايمز» علامة بديلة على أهمية البحث؟ وفَّر التاريخُ للباحثين مجموعةً ضابطة لمقارنة نتائجهم على أساسها؛ فعلى مدى ثلاثة شهور، أضرب عدد كبير من العاملين في الصحيفة، وبينما أصدر الصحفيون «نسخة تاريخية»، لم يجرِ طبع هذه النسخة قط. فقد كتب الصحفيون قصصًا حول البحوث الأكاديمية، بالاعتماد على المعايير نفسها للحكم على أهمية الموضوعات التي طالما استخدموها دومًا، لكن البحوث التي كتبوا عنها في مقالات لم ترَ النور قط لم تشهد أي زيادة في الاقتباس منها أو الإحالة إليها.

يقرأ الناس الصحف، وعلى الرغم من كل شيء نعتقد أننا نعرفه، تتسرَّب إلينا مفاهيمها وأفكارها، ونعتقد في صحتها، ونتصرَّف بناءً عليها، وما يجعل الأمر أكثر مأساويةً أن محتواها يكون قاصرًا ومعيبًا بصورة دائمة. هل أُجري عمليةَ استقراء غير منصفة انطلاقًا من الأمثلة المتطرفة في هذا الكتاب؟ ربما لا. ففي عام ٢٠٠٨ نشر جاري شويتزر — وهو صحفي سابق يعمل حاليًّا في مجال الدراسات الكمية الإعلامية — تحليلًا لخمسمائة مقال في مجال الصحة تغطي علاجات وردت في صحف رئيسية في الولايات المتحدة. لم يَجرِ تصنيف إلا ٣٥ في المائة من القصص باعتبارها مُرضية فيما يتعلَّق بما إذا كان الصحفي قد «تناول أسلوب الدراسة وجودة الأدلة» (لأنه في وسائل الإعلام، مثلما شهدنا مرارًا وتكرارًا في هذا الكتاب، يدور العلم حول عبارات تنطوي على حقائق مطلقة مصدرها شخصيات تتمتع بسلطة علمية تعسُّفية ترتدي معاطف بيضاء، وليس وصفًا واضحًا للدراسات، والأسباب التي تكمن وراء استخلاص الناس استنتاجات منها). لم تغطِّ إلا ٢٨ في المائة فقط من الدراسات الفوائدَ المتحقِّقة من استخدام العلاجات بصورة وافية، فيما لم تقدِّم تغطية وافية للأضرار المحتملة سوى نسبة ٣٣ في المائة منها فقط. فشلتِ المقالات بصورة ثابتة في تقديم أي معلومات كمية مفيدة في عبارات موضوعية مطلقة، مفضِّلة بدلًا من ذلك استخدام عبارات غير مفيدة تجذب الأنظار؛ مثل «٥٠ في المائة أعلى.»

في حقيقة الأمر، كانت ثمة استطلاعات رأي كمية منهجية حول دقة التغطية الإعلامية الصحية في كندا، وأستراليا، وأمريكا — أحاول أن أبتعد في حديثي عن المملكة المتحدة — وكانت النتائج عمومًا غير مثيرة على الإطلاق. يبدو لي أن حالة التغطية الصحية في المملكة المتحدة ربما تمثِّل قضية صحية عامة خطيرة.

لكن يزداد معدل الإصابة بمرضين من الأمراض الثلاثة التي يجري التطعيم ضدها من خلال التطعيم الثلاثي بصورة هائلة. فنحن نمتلك أعلى معدلات إصابة بالحصبة في إنجلترا وويلز منذ بدء تطبيق أساليب الرقابة على المرض عام ١٩٩٥، مع وقوع إصابات أغلبها بين أطفال لم يكونوا قد تلقَّوْا تطعيمًا ملائمًا؛ فقد جرى الإعلان عن ٩٧١ حالة إصابة مؤكدة في عام ٢٠٠٧ (معظمها مرتبط بتفشِّي الأمراض لفترات طويلة لدى جماعات متنقلة ودينية، شهد فيها معدل تلقي التطعيمات انخفاضًا تاريخيًّا)، بعد أن كانت ٧٤٠ حالة فقط في عام ٢٠٠٦ (وحالة الوفاة الأولى منذ عام ١٩٩٢). وقد وقع ثلاثة وسبعون في المائة من الحالات في الجنوب الشرقي، وكان معظمها في لندن.

بدأ معدل الإصابة بالنكاف في الصعود مجددًا في عام ١٩٩٩، بعد سنوات عديدة من وقوع حالات محدودة لم تتجاوز المائة؛ فبحلول عام ٢٠٠٥، كان النكاف قد وصل إلى مرتبة الوباء في المملكة المتحدة، في ظل وصول إخطارات الإصابة بها إلى ٥ آلاف إخطار تقريبًا في شهر يناير فقط.

يحب الكثير من الأشخاص الذين ينظِّمون حملات ضد استخدام التطعيمات التظاهر بأن التطعيمات غير مؤثرة كثيرًا، وأن الأمراض التي تقي ضدها لم تكن خطيرة للدرجة على أي حال. لا أريد أن أُجبِر أحدًا على تطعيم طفله، لكنني لا أعتقد بنفس القدر أن أحدًا يستفيد من المعلومات المضلِّلة. فمقارنةً بالحالة غير المحتملة لارتباط التوحد بالتطعيم الثلاثي، تعتبر المخاطر الناشئة عن الحصبة، على الرغم من ضآلتها، حقيقية وقابلة للقياس. أجرى تقرير بيكام عن سياسات التطعيم، الذي نُشر بعد وقت قصير من ظهور التطعيم الثلاثي، استطلاعًا حول الإصابة مؤخرًا بالحصبة في الدول الغربية، وقدَّر أنه لكل ١٠٠٠ حالة جرى الإخطار بها، تقع ٠٫٢ حالة وفاة، وتدخل عشر حالات المستشفى، وتظهر عشر حالات مضاعفات في الجهاز العصبي، وأربعون حالة مضاعفات في الجهاز التنفسي. وتأكَّدتْ صحة هذه التقديرات من خلال أوبئة حديثة وقعتْ على نطاق ضيق في هولندا (في عام ١٩٩٩: وقعت ٢٣٠٠ حالة إصابة في مجتمع معارِض من الناحية الفلسفية للتطعيم، وثلاث حالات وفاة)، وأيرلندا (في عام ٢٠٠٠: وقعت ١٢٠٠ حالة إصابة، وثلاث حالات وفاة)، وإيطاليا (في عام ٢٠٠٢: وقعت ثلاث حالات وفاة). جدير بالذكر أن الكثير من حالات الوفاة هذه حدثت لأطفال كانوا فيما سبق يتمتعون بصحة جيدة، في دول متقدمة، تمتلك نظمَ رعايةٍ صحية جيدة.

على الرغم من أن النكاف نادرًا ما يكون قاتلًا، فإنه مرض مقيت تترتَّب عليه مضاعفات مقيتة (بما في ذلك الالتهاب السحائي، والتهاب البنكرياس، والعقم). صارت متلازمة الحصبة الألمانية الخلقية نادرةً بشكل متزايد منذ ظهور التطعيم الثلاثي، لكنها تتسبَّب في إعاقات بالغة، بما في ذلك الصمم، والتوحد، والعمى، والإعاقة الذهنية، وهو ما ينشأ عن إصابة الجنين بضررٍ خلال فترة الحمل الأولى.

الشيء الآخر الذي ستسمع عنه كثيرًا هو أن التطعيمات لا تصنع فارقًا كبيرًا على أي حال؛ لأن جميع التطورات في مجال الصحة ومتوسط العمر المتوقَّع ترجع إلى تطورات في الصحة العامة لِطَيْف واسع من الأسباب الأخرى. باعتباري شخصًا مهتمًّا اهتمامًا خاصًّا بعلم الأوبئة والصحة العامة، أجد هذا الطرح جذَّابًا، ولا شك على الإطلاق أن حالات الوفاة من مرض الحصبة بدأت في الانخفاض الشديد على مدار القرن الماضي بأكمله لشتَّى أنواع الأسباب، كثيرٌ منها اجتماعي وسياسي فضلًا عن الأسباب الطبية، مثل التغذية الفضلى، وتزايد الحصول على رعاية طبية جيدة، والمضادات الحيوية، والأوضاع المعيشية الأقل ازدحامًا، وتحسُّن مستوى النظافة، إلخ.

ارتفعتْ معدلات متوسط العمر المتوقَّع خلال القرن الماضي، ويسهل نسيان كيف كان هذا التغيير هائلًا. ففي عام ١٩٠١، كان من المتوقع أن يعيش الذكور المولودون في المملكة المتحدة حتى عمر خمسة وأربعين عامًا، والإناث حتى تسعة وأربعين عامًا (انظر الشكل ١٦-٢). وبحلول عام ٢٠٠٤، كان متوسط العمر المتوقَّع عند الميلاد قد ارتفع إلى سبعة وسبعين عامًا بالنسبة إلى الرجال، وواحد وثمانين عامًا بالنسبة إلى النساء (على الرغم بالطبع من أن كثيرًا من التغيير يرجع إلى انخفاض معدلات وفيات الأطفال).
إذن نحن نعيش لفترة أطول، ولا تُعتبر التطعيمات هي السبب الوحيد في منتهى الوضوح في ذلك. وما من تغيير وحيد يُعتبر السبب في ذلك. لقد انخفضتْ معدلات الإصابة بالحصبة بشكل ضخم خلال القرن المنقضي، لكن سيكون عليك أن تجتهد كثيرًا في إقناع نفسك بأن التطعيمات لم يكن لها أي تأثير على ذلك. يُظهِر (الشكل ١٦-٣) معدلات الإصابة بالحصبة من عام ١٩٥٠ حتى عام ٢٠٠٠ في الولايات المتحدة.
fig13
شكل ١٦-٢: متوسط العمر المتوقع عند الميلاد في المملكة المتحدة.
fig14
شكل ١٦-٣: الحصبة – الولايات المتحدة، ١٩٥٠–٢٠٠٠.
بالنسبة إلى أولئك الذين يظنون أن التطعيمات المنفصلة لمكونات التطعيم الثلاثي فكرة جيدة، ستلاحظ أن هذه التطعيمات كانت متوافرة منذ سبعينيات القرن العشرين، لكن أي برنامج تطعيم مشترك — والبرنامج المشترك لإعطاء التطعيمات الثلاثة جميعًا مرة واحدة مثلما هو الحال مع التطعيم الثلاثي — يرتبط بشكل واضح نوعًا ما بحدوث مزيد من الانخفاض (بل ونهائي نوعًا ما) في معدلات الإصابة بالحصبة (انظر الشكل ١٦-٤).
ينطبق الأمر نفسه على النُّكَاف (انظر الشكل ١٦-٥).
بينما نتحدَّث عن النُّكَاف، دعنا لا ننسَ الوباء الذي ابتُلينا به في عام ٢٠٠٥، حين عاود أحد الأمراض الظهور — كان كثير من الأطباء الشباب سيجاهدون من أجل التعرف عليه فقط. في (الشكل ١٦-٦) رسم بيانيٌّ لحالات النُّكاف من مقال دورية «بريتش ميديكال جورنال» الذي حلَّل تفشِّي المرض.

كانت جميع الحالات المؤكَّدة تقريبًا خلال فترة تفشِّي المرض لدى أشخاص تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر وأربعة وعشرين عامًا، وكانت نسبة لا تزيد على ٣٫٣ قد تلقَّت الجرعتين الكاملتين لمصل التطعيم الثلاثي. لماذا أثَّر هذا على هؤلاء الأشخاص؟ بسبب وجود نقص عالمي في المصل في أوائل تسعينيات القرن العشرين.

fig15
شكل ١٦-٤
fig16
شكل ١٦-٥: حالات الإصابة بالنُّكَاف وعدد الحالات المؤكدة التي أُخطِر بها مركز متابعة الأمراض القابلة للانتقال، ١٩٦٢–١٩٩٥.
fig17
شكل ١٦-٦

النُّكاف ليس مرضًا بلا أضرار. ليس لديَّ أدنى رغبة في إخافة أحد — ومثلما ذكرتُ، معتقداتك وقراراتك حول التطعيمات هي أمور تخصُّك؛ لستُ مهتمًّا إلا بالطريقة التي جرى تضليلُك بها على هذا النحو المدهش — لكن قبل ظهور التطعيم الثلاثي، كان النُّكاف أكثر أسباب الإصابة بالالتهاب السحائي الفيروسي شيوعًا، وأحد أهم الأسباب في فقدان السمع لدى الأطفال. وتظهر الدراسات حول البزل القطني أن حوالي نصف إجمالي حالات الإصابة بالنُّكاف تتضمَّن التأثير على الجهاز العصبي المركزي. كذلك يعد التهاب الخصيتين السحائي شائعًا، ومؤلمًا إلى حدٍّ بعيد، ويحدث في ٢٠ في المائة من نسبة الرجال البالغين المصابين بالنكاف. وسيصاب حوالي نصف هؤلاء بضمور الخصيتين، عادةً في خصية واحدة فقط، لكن ما بين ١٥ إلى ٣٠ في المائة من المرضى المصابين سوف يصابون بنُكاف الخصيتين السحائي في كلتا الخصيتين، ومن بين هؤلاء، ستنخفض خصوبة ١٣ في المائة منهم.

لستُ أفصِّل هذا من أجل مصلحة القارئ العادي فقط؛ فبحلول الوقت الذي تفشَّى فيه المرض في عام ٢٠٠٥، كان الأطباء الشباب في حاجة إلى تذكيرهم بأعراض وعلامات مرض النكاف؛ إذ كان المرض غير مألوف خلال خبرتهم التدريبية والإكلينيكية. كان الناس قد نسُوا طبيعة هذه الأمراض، وفي ذلك المقام تعتبر التطعيمات ضحية نجاحها، مثلما رأينا في المقتطف السابق من مجلة «ساينتيفيك أمريكان» في عام ١٨٨٨، قبل خمسة أجيال سابقة (راجع الفصل الرابع عشر).

متى اصطحبنا طفلًا للتطعيم، نعرف أننا نُقِيم توازنًا بين الفوائد والمضار، كما هو الحال مع أي تدخل علاجي طبي. لا أعتقد أن التطعيم على هذه الدرجة من الأهمية. وحتى إذا كان التهاب الخصيتين السحائي والعقم والصمم والموت وبقية الأمراض الأخرى آثارًا غير سارَّة، فلن تسقط السماء بدون التطعيم الثلاثي. لكن عند النظر إلى كل حالة من تلك على حِدَةٍ، لا تعتبر الكثير من عوامل الخطر المنفردة مهمة أيضًا، وهو ما لا يعتبر سببًا للتخلي عن كل أمل في محاولة عمل شيء بسيط، ومنطقي، ومناسب حيالها؛ ما يزيد من صحة الأمة، بالإضافة إلى جميع الأشياء الأخرى التي يمكن عملها لتحقيق الغاية ذاتها.

يُعتبر الأمر أيضًا مسألة اتساق. فرغم ما في ذلك من مخاطرة بإحداث ذعر عام، أشعر أن من واجبي أن أشير إلى أنه إذا كان التطعيم الثلاثي لا يزال يخيفك، فإذن يجب أن يخيفك أيضًا كل شيء في مجال الطب، بل والكثير من عوامل الخطر التي ينطوي عليها أسلوب الحياة اليومية التي تصادفها؛ إذ إن ثمة عددًا هائلًا من الأشياء جرى بحثها بشكل غير مُتقَن، بمستوًى أقل كثيرًا من اليقين حيال مستوى الأمان فيها. يظل السؤال: لماذا كنتَ تسلِّط تركيزك بهذا الشكل على التطعيم الثلاثي؟ إذا أردتَ أن تفعل شيئًا حيال هذه المشكلة، فبدلًا من تنظيم حملة تتمحور حول قضية واحدة عن التطعيم الثلاثي، ربما يمكن أن توظِّف طاقاتك على نحو أكثر نفعًا. يمكنك أن تُطلِق حملةً لوضع نظام مراقبة آلي ثابت لجميع مجموعات بيانات السجلات الصحية المتوافرة لدى هيئة الخدمات الصحية الوطنية لاكتشاف أي نتائج سلبية مرتبطة بأي تدخلات علاجية، على سبيل المثال، ولسوف أشعر بالرغبة في أن أنضم إليك في مساعيك.

لكن من نواحٍ كثيرة لا يدور الأمر حول إدارة الخطر، أو المراقبة، بل حول الثقافة، والقصص الإنسانية، والأضرار البشرية اليومية. وكما أن التوحد حالة مثيرة على نحوٍ خاص بالنسبة إلى الصحفيين، وفي حقيقة الأمر بالنسبة إلينا جميعًا، يُعتبر التطعيم مسألة جذابة بنفس القدر باعتباره محور مخاوفنا. فالتطعيم برنامج عام يتعارض مع الأفكار الحديثة المتعلِّقة «بالرعاية الفردية»، وهو مرتبط بالحكومة، ويتضمَّن استخدام إبر تخترق أجسام الأطفال، ويقدِّم الفرصة لإلقاء اللائمة على شخص ما، أو شيء ما، للتسبب في مأساة مريعة.

وكما أن أسباب هذه المخاوف كانت تتسم بالعاطفية أكثر من أي شيء آخر، هكذا الأمر أيضًا مع الضرر. فآباء الأطفال المصابين بالتوحد يجتاحهم شعور بالذنب، والشك، والإدانة اللانهائية للذات حيال فكرة أنهم أنفسهم مسئولون عن إيقاع الضرر على أطفالهم. وقد أظهر عدد هائل من الدراسات هذا النوع من الإحساس بالفجيعة، لكن مع اقترابي جدًّا من نهاية الكتاب، لا أرغب في عرض المزيد من الأوراق البحثية.

ثمة مقتطف أجده — على الرغم من أنها قد تتذمَّر من استشهادي به — مؤثرًا ومزعجًا على حدٍّ سواء. يرجع هذا المقتطف إلى كارين بروسر، التي ظهرتْ مع ابنها رايان المصاب بالتوحد في بيان أندرو ويكفيلد الإخباري المصوَّر الذي أصدره المستشفى المجاني الملكي في عام ١٩٩٨. تقول كارين: «أيُّ أمٍّ لديها طفل تريده أن يكون طبيعيًّا … ومن المأساوي أن تجد بعد ذلك أن طفلها قد يكون مصابًا جينيًّا بالتوحد. وأن تكتشف أن ذلك قد حدث جرَّاء مصل تطعيم، وأنك وافقتَ على فعل ذلك به … فهذا شيء مدمر.»

هوامش

(١) لم يكن ازدراء الإحصاءات في مجال بحوث الرعاية الصحية غريبًا في ذلك الوقت. فقد لاحظ إجناز سيملفايز في عام ١٨٤٧ أن المرضى كانوا يموتون بمعدلات أعلى بكثير في عنبر الولادة الذي كان مسئولًا عنه طلاب الطب أكثر من العنبر الذي كان طلاب القبالة مسئولين عنه (كان ذلك في الفترة التي كان فيها الطلاب يجمعون البيانات والمعلومات في المستشفيات). كان موقنًا أن ذلك كان يرجع إلى أن طلاب الطب كانوا يحملون شيئًا عفنًا من الجثث في غرفة التشريح؛ لذا وضع نظامًا لغسل الأيدي جيدًا باستخدام الجير المعالَج بالكلور، وتوصَّل لبعض الأرقام توضِّح فوائد ذلك. وانخفضت معدلات الوفاة، لكن في عصر طبي كان يحتفي ﺑ «النظرية» أكثر من الأدلة التجريبية الواقعية، جرى تجاهل الإجراء من الأساس، حتى جاء لويس باستير وأكد نظرية الجراثيم. مات سيملفايز وحيدًا في مصحة للأمراض العقلية، ولم تسمع إلَّا عن باستير.
(٢) ها هو جاك يتحدَّث عن التشنُّج: «لسنوات عانى أشخاص كثيرون من التشنُّج. من خلال أرجحة البندول الكريستالي، اكتشفتُ أن هذا يرجع إلى حقيقة أن الجسم لا يمتص عنصر «سكانديوم» الذي يرتبط بعملية امتصاص فوسفات المغنسيوم ويتحكم فيها.» وها هو يتحدَّث عن الشكاوى الصحية العامة: «بناءً على خبرتي في أسلوب أرجحة البندول الكريستالي، لاحظتُ أن العديد من مرضاي كانوا يعانون من قصور شديد في عنصر الكربون في أجسامهم. تبدو السهولة التي يعاني بها الناس هذه الأيام من تقصُّف الشعر وكسور العظام واضحةً أيما وضوح للعين المدرَّبة على ملاحظة ذلك.»
(٣) يتوقَّف اقتناعك بتصريح وزارة الصحة بأن «التطعيم الثلاثي آمن» أم لا، على تحديدك لمعنى كلمة «آمن». هل الطيران آمن؟ هل غسالة الملابس آمنة؟ علامَ تجلس؟ هل ذلك الشيء الذي تجلس عليه آمن؟ يمكنك أن تمضي في التفكير في فكرة الأمان على هذا النحو الفلسفي، وهو ما قد يجعل أي شيء ليس آمنًا بنسبة مائة في المائة — وهو أمر سيفكر فيه كثيرون على هذا النحو — لكنك في هذه الحالة ستكون مُنبريًا في مناقشة حول تعريف عبثي وغير شائع للكلمة.
(٤) «دُعِيتْ مجموعات الباحثين الذين كانوا إما يملكون الوصول لعينات توحد أصلية أو قاموا بفحص هذه العينات لاحقًا لتحديد وجود فيروس الحصبة، للمشاركة في الدراسة لكنهم لم يجيبوا الدعوة. بالمثل، لم يكن يمكن الحصول على عينات إكلينيكية لحالات توحد من هؤلاء الباحثين لإجراء بحوث مستقلة.»
(٥) في عام ٢٠٠٨، وبينما كنتُ على وشك أن أفرغ من كتابة هذا الفصل، تنازل بعض الصحفيين — بصورة إعجازية — وقاموا بتغطية إحدى التجارب التي تنطوي على استخدام تكنولوجيا «بي سي آر» التي أسفرت عن نتيجة سلبية. جرى نشر التجربة بصورةٍ طَمستِ الحقائق باعتبارها التفنيد النهائي لفرضية العلاقة بين التطعيم الثلاثي والتوحد برمتها، وهو ما لم يكن أكثر من مبالغة طفولية، ولم تسهم في مساعدة أحد على فهم شيء. لستُ ممَّن يصعب إرضاؤهم.
(٦) وليس ١١٫٧ في المائة مثلما زعمت صحيفتا «ديلي تليجراف» و«ديلي ميل» في فبراير ويونيو ٢٠٠٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤