الفصل التاسع

أين وجهتنا من هنا؟

مع أننا لم نَرَ بعدُ الكوارثَ المتوقَّع حدوثها نتيجة الآثار غير المباشرة للاحترار العالمي في مسائل مثل الصراع على الموارد ونقص الغذاء والماء والهجرات الجماعية، فإن مؤشرات التراجع ساءت والتهديدات لبيئتنا اقتربت. وتحدث التغييرات بمعدل يتجاوز قدرة الحكومات والمؤسسات الدولية على الاستجابة على نحو فاعل، ولم يَعُدْ من الممكن تجاهل التوقعات المفزعة دون أن نتعرض لخطر. في الواقع، التنبؤات الحالية بتكاليف وعواقب الفشل في الاستجابة بسرعةٍ كافية لأخطار تغيُّر المناخ أصبحتْ أكثر قبولًا بكثير من التوقعات السابقة بحدوث كوارث، مثلما تبيَّنَ خلال مناقشات حدود النمو في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. وكمثال ربما نلقي نظرة على دراسة حديثة أجراها باتيستي ونايلور،1 اللذان وجَدَا أنه ثمة احتمال بنسبة أكبر من ٩٠٪ بأن ترتفع درجات الحرارة في مواسم النمو في المناطق المدارية وشبه المدارية في القرن الحادي والعشرين، بحيث تتجاوز حتى درجات الحرارة الموسمية الأكثر تطرفًا المسجلة خلال القرن الماضي. وتُظهر نماذجُهما التي تعرض نمو الحبوب الرئيسية في هذه المناطق خسائر في المحصول في حدود ٢٫٥–١٦٪ لكلِّ زيادة في درجات الحرارة الموسمية، ويمكن مقارنة هذه التقديرات مع بيانات المحاصيل الأوروبية لعام ٢٠٠٣ عندما كانت درجات الحرارة في الصيف أعلى ﺑ ٣٫٦ درجات مئوية (٦٫٥ درجات فهرنهايت) فوق التقديرات المناخية الطويلة المدى؛ كان محصول الذرة في إيطاليا أقل بنسبة ٣٦٪ عن العام السابق، وانخفض الإنتاج في فرنسا بنسبة ٣٠٪، وقلَّت محاصيل الفاكهة بنسبة ٢٥٪.

لا يوجد جديد في المناقشات بشأن قيود السياسة الداخلية أو ضعف نظام التفاوض الدولي، أو حول مطالب الدول النامية بمزيد من المساعدات الخارجية، أو عن عدم قدرة أو عدم رغبة حكومات أكثر البلدان تقدُّمًا بالإقدام على المخاطرات القصيرة المدى لدرء الأخطار الطويلة المدى. ومع ذلك، توجد اليوم عقبة إضافية تتمثَّل في رفض البلدان النامية قبول أيِّ قيود على السعي لتحقيق النمو عبر تبني استراتيجية تصنيع سريع تؤدي إلى انبعاثات كربون كثيفة.

مع أن الفترة الزمنية لاتخاذ إجراءات قد قصرت، فإنها لم تنتهِ بعدُ، وربما يكون لدينا حوالي ١٠ إلى ٢٠ سنة لوضع سياسات يمكن أن تبطئ معدل التدهور، وتحقِّق استقرارًا معقولًا في ارتفاع درجات الحرارة في العالم يقارب درجتين مئويتين (٣٫٦ درجات فهرنهايت)، وتبدأ في وضع الأسس لإنشاء اقتصاد طاقة منخفض الكربون. يجب أن تؤدي الخطوات الفاعلة إلى نتائج ملحوظة بسرعة، ويجب أن تُوزَّع التكاليف بإنصاف، ويجب ألَّا تبدو باهظة التكاليف في فترة عجوزات ضخمة في الميزانية. علاوة على ذلك، بينما يوجد دائمًا أمل في إنقاذنا من أخطاء طرائقنا من خلال المعرفة الجديدة أو الابتكارات التكنولوجية الثورية الجديدة، فمن المخاطرة الكبيرة للغاية أن ننتظر هذا الإنقاذ في الوقت الذي نُواصل فيه العمل كالمعتاد؛ فمِثل هذا الإنقاذ قد لا يأتي أبدًا. سيكون من الاستهتار أن نستسلم لنبوءات الوعيد والهلاك أو أن نتخلى عن القيام بكل ما نستطيع بأسرع ما يمكن. وبناء على ما تقدَّمَ، فمن الضروري انتقاء خيارات على جبهتين: بشأن مسارات التفاوض التي يمكن أن تُسفِر عن تحركات في الاتجاه الصحيح، وكذلك حول الأولويات من بين العديد من الحلول الاقتصادية-التكنولوجية-العلمية التي اقتُرِحت. وسيتناول هذا الفصل جوانب من كلٍّ منها.

(١) هل المتاح غير كافٍ؟

عندما نشرع في التوصل إلى اتفاقات بشأن السياسات المقترحة، من الضروري أن نتخذ سبيلًا ما بين اثنتين من النتائج المخيبة للآمال. فمن ناحية نحتاج للانتباه لتحذير كروجمان من أنه في حين أن الأفضل ربما يكون عدو الجيد، فإن ما هو «ليس جيدًا بما فيه الكفاية للنجاح» قد يقوِّض الأفضل والجيد (بما فيه الكفاية). ونحن نسعى بدلًا من ذلك إلى «الجيد بما فيه الكفاية للنجاح» الذي يساعد على إرساء وبدء عمليةِ وضْع سياسات ناجحة على نحو تراكمي. وعلى الناحية الأخرى، يجب أن يدرك المرء أيضًا أنه لو استمرت الأوضاع في التدهور، فإن السعي الدءوب نحو الاستراتيجية الممكنة «فحسب» قد لا يكون كافيًا لتحقيق أيِّ نتيجة ذات معنًى.

في هذا السياق ثمة أمل في الأهمية المتزايدة التي تُولِيها معظمُ حكومات البلدان المتقدمة لضرورة وضع مجموعات متناسقة من السياسات تبدأ التحول إلى اقتصادات منخفضة الكربون. ولا يوجد شك في أن عدم موافقة الصين والهند وغيرهما من البلدان النامية على الحد من انبعاثات غازات الدفيئة أمر مخيب للآمال كثيرًا، ولكن ربما توجد فترة ١٠ إلى ٢٠ سنة أمامنا سوف تكون فيها انبعاثاتهم المتزايدة مؤذِيَةً ولكن ليست مدمِّرة بعدُ. إضافة إلى ذلك، ربما يصبح «أثر المحاكاة» للتحولات السياساتية الناجحة من جانب البلدان المتقدمة ذا أهمية متزايدة كضغوط سياسية نحو زيادة التعاون، وربما تبدأ الدول النامية نفسها في إدراك التكاليف التي تتكبدها بتركيزها على التنمية الكثيفة الكربون. وعلى أيِّ حال، ما لا تفعله البلدان النامية ليس عذرًا بالنسبة للدول المتقدمة لتأجيل الجهود الجادة لخفض الانبعاثات. وفي هذا الصدد، فإن المثال الذي ضربته حكومة المملكة المتحدة بوضع استراتيجية متماسكة للانتقال نحو مجتمع منخفض الكربون، ربما يكون له آثار دولية أوسع من خلال المساعدة في إطلاق عملية التغيير.

لأن هذه المبادرة البريطانية قد يكون لها عواقب بعيدة المدى على الصعيد الدولي، فإن الأمر يستحق إيلاء بعض الاهتمام لتفاصيلها. ظهر هذا العنوان في صحيفة إنجليزية مؤخرًا: «حزب العمال يطالب بثورة الطاقة الخضراء». كان إد ميليباند — الذي كان حينها وزير الطاقة وتغيُّر المناخ في حكومة جوردون براون — قد وضع للتوِّ خارطةَ طريق طموحة لتيسير جهود المملكة المتحدة في تحقيق هدفها بخفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة ٣٤٪ بحلول عام ٢٠٢٠، وهو الهدف الذي يتضمن الحصول على ٤٠٪ من احتياجات المملكة المتحدة من الكهرباء من الرياح وطاقة المد والجزر والطاقة النووية بحلول عام ٢٠٢٠.2 واستجابة للدعم المتزايد من الأحزاب والدعم الشعبي لاتخاذ إجراءات جادة بشأن تغيُّر المناخ وأمن الطاقة، تهدف الخطة أيضًا إلى وضع بريطانيا على المسار الصحيح لخفض انبعاثاتها بنسبة ٨٠٪ بحلول عام ٢٠٥٠، وهو الجهد الذي من شأنه أن يضع البلاد في طليعة البلدان المتقدمة التي تحاول الاستجابة لتغيُّر المناخ. وتهدف التدابير العديدة في الخطة إلى الخفض السريع لاستخدام الطاقة في توليد الكهرباء وفي المنازل والنقل والصناعة، من خلال وضع بعض الأهداف الملزِمة قانونًا للحد من الكربون، واستخدام جميع التدابير المتاحة أمام الحكومة لتسيير العملية؛ بما في ذلك ضرائب الكربون، والأسواق المنظمة، والدعم الحكومي لأبحاث الطاقة المتجددة والتنمية، فضلًا عن تقديم أموال نقدية للأُسر التي تولد طاقتها الخاصة بنفسها. وتقييمًا لهذا المقترح، كتبت صحيفة «الجارديان»: «لم تنشر أيُّ حكومة أخرى في العالم أيَّ شيء مثل هذا قطُّ، إنه بيان جماعي بالنوايا ووصْف مفصل إلى حدٍّ ما للطريقة التي يمكن أن يتحقَّق بها خفض انبعاثات الكربون.»

يثني البعض على هذه النية المعقودة ولكنهم يصرون على أن الأهداف طموحة للغاية لدرجة يستحيل معها تحقيقها بحلول عام ٢٠٢٠. ومع ذلك، حتى لو لم تتحقق الخطة على نحو كامل، فإن هذه الانتقادات لا تعني بالضرورة أن مقترحات ميليباند غير مهمة أو محكوم عليها بالفشل. في الواقع، جهود حكومة بلد متقدم رئيسي من أجل سَنِّ هذه التدابير الطموحة وتنفيذها ربما تحفز الحكومات الأخرى على وضع خططها الخاصة، ويمكن أن يحدث أثر المحاكاة إذا جرى تطبيق جزء كبير من هذه الخطة ويبدأ في إحداث بعض الآثار المفيدة على خفض انبعاثات الكربون، ومن المفترض وجود بعض الفوائد المحتملة من «التعلم بالممارسة». وعلى أيِّ حال، فإن مجرد كسر الجمود السياسي الموجود في السنوات الأخيرة ربما يكون مهمًّا بنفس درجة أهمية تفاصيل أيِّ مقترح معين.

ومع ذلك، توجد انتقادات أخرى يلزم الإشارة إليها، ولو كَنوع من التحذير في المقام الأول لصانعي السياسات الآخرين؛ أولًا: كما أشارت «الجارديان»، تُقدم هذه الحزمة المعقدة من المقترحات مع «اقتراح جريء بأن هذه التخفيضات يمكن أن تتحقق دون حرمان الناس من وسائل الراحة الموجودة في حياتهم الحالية الكثيفة الكربون.»3 على ما يبدو أن هذا يعكس حكمًا حول مدى التضحية التي تكون الجماهير على استعداد لتحملها في فترة الاضطرابات الاقتصادية. وبطبيعة الحال، فإن التعديلات والتكييفات الضرورية سوف تلقي بمشكلة التكاليف إلى المستقبل، وعلى حكومة أخرى. توجد قاعدة حكيمة تصلح للتطبيق هنا: لا تطلب الكثير من الحكومات المثقل كاهلها بالفعل، ولا تتوقع منها خوض مخاطرات كبيرة أو أن تكون سخية تمامًا حيال التكاليف المحتملة أو العواقب غير المتوقعة. إذا أصبح التقدم واضحًا وإذا خفَّتْ حدة الأزمة الاقتصادية الراهنة، فسوف يصبح من الأسهل سياسيًّا واقتصاديًّا تحمُّل تكاليف إقامة اقتصاد طاقة جديد.
توجد مجموعة أخرى من الانتقادات الشديدة على نحو خاص، مع أنها على عكس النمط العادي المتمثل في التركيز الحكومي المفرط على المدى القصير. ويواجه الجيل الحالي من السياسيين عواقب ثلاثة عقود من الفشل في استباق تناقص إمدادات المواد الهيدروكربونية والإعداد لذلك، والاعتماد المتزايد على موفرين لخدمات الطاقة لا يمكن الاعتماد عليهم، أو من المرجح أن يكونوا في وضع غير مستقر. فعلى سبيل المثال، ربما تعاني بريطانيا العظمى من عجز في الكهرباء بتكلفة يمكن احتمالها بحلول عام ٢٠١٥، وتواجه احتمالًا مشئومًا بحدوث انقطاعات التيار الكهربائي وزيادة استخدام الفحم والابتزاز المحتمل من جانب بعض موفري خدمات الطاقة. كل هذا كان متوقعًا منذ بضع سنوات، لكن لم يُفعل حياله سوى القليل؛ إذ كان من السهل للغاية تجاهل الأخطار البعيدة. والآن بطبيعة الحال أصبح التصرف محتمًا، ولكن كما تساءلت مجلة «ذي إيكونومست»: «بما أن الغاز محفوف بمخاطر شديدة، والفحم شديد التلوث، والطاقة النووية بطيئة للغاية، ومصادر الطاقة المتجددة لا يمكن الاعتماد عليها كثيرًا»؛ فمِن أين ستأتي الإمدادات الضرورية؟4

ثمة استراتيجيات واضحة من المفترض أن حكومة المملكة المتحدة ستتبناها لزيادة الإمداد وتقليل مدى القابلية للتأثر، لكن سيكون من الصعب القيام بذلك إذا تركز الاهتمام بإفراط على التهديدات المستقبلية للاحترار العالمي. فالمعنى الضمني هو أن مقترحات ميليباند تركز كثيرًا على تهديدات المدى الطويل، ولا تركز بما فيه الكفاية على التهديدات الوشيكة على المدى القصير. هذا تعليق منصف، ولكن يجدر أيضًا القول إن بعض جوانب هذه المقترحات سوف يكون له آثار مفيدة على الطلب على المواد الهيدروكربونية على المدى القصير، وإن مسألة أمن الإمدادات هي في المقام الأول مسألة سياسة خارجية تتطلب استجابة دولية أو إقليمية منسقة. وربما يمكن تخفيف المشكلة من خلال زيادة سعة التخزين.

أخيرًا، توضح مقترحات ميليباند بعض المعضلات الشديدة التي تواجه انتقاء خيارات سياساتية فاعلة في سياقٍ تهيمن عليه المعرفة العلمية السريعة التغير، والقيود الاقتصادية الشديدة، ودعم الجمهور المتقلب وضعف الحكومات. وهكذا بينما اشتكى البعض من أن المقترحات مفرطة الطموح وربما تكون مضللة حيال ضرورة إحداث تغييرات كبيرة في أنماط الحياة، أشار البعض الآخر إلى أن المقترحات ليست طموحة بما فيه الكفاية. على سبيل المثال، حذَّر تقرير علمي حديث أُعد لوزارة الطاقة وتغير المناخ من أن الاحترار الشديد (ارتفاع درجة الحرارة بمقدار ٤ درجات مئوية (٧٫٢ درجات فهرنهايت)) يمكن أن يحدث بحلول عام ٢٠٦٠ — وليس عام ٢١٠٠، كما كان متوقَّعًا سابقًا — مع احتمال حدوث عواقب كارثية بالنسبة للبلدان المتقدمة والنامية على حدٍّ سواء. مع ذلك، أثار تقرير آخر شكوكًا شديدة حول قدرة أسواق الطاقة المحررة في المملكة المتحدة على إجراء التغييرات الضرورية في سياسات الطاقة، وما يترتب على ذلك من ضرورة زيادة التدخل الحكومي؛ وهو ما يفترض ضمنًا حدوث مزيد من الصراع السياسي والأيديولوجي المحلي، ومزيد من البطء والتذبذب في عملية وضع السياسات.5 بيت القصيد في السياق الحالي هو أنه بينما يدعم المرء مقترحات ميليباند (وغيرها من الجهود المماثلة) كخطوات مهمة في العملية المستمرة لوضع السياسات، يجب على المرء أن يدرك أيضًا ويضع في الاعتبار ضرورة الاستعداد لبذل المزيد من الجهد عند الضرورة.
ثمة استجابة وطنية أخرى نحو إدارة الطاقة جديرة بالذكر هنا؛ الدنمارك هي البلد الأكثر كفاءة في استخدام الطاقة في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يعكس خططًا وُضعت بعد أزمة النفط الأولى في سبعينيات القرن العشرين، فركزت الجهود الطويلة المدى على ضمان تأمين الإمدادات وخفض انبعاثات غازات الدفيئة والحفاظ على فاعلية التكلفة.6 وكانت النتيجة انخفاض حاد في الانبعاثات متزامن مع زيادة بنسبة ٤٠٪ في الناتج المحلي الإجمالي للدنمارك في نفس الفترة. وكذلك استثمرت الدنمارك أيضًا بكثافة في أنواع الوقود البديلة (لا سيما الرياح والكتلة الحيوية)، وأجبرت قطاع الصناعة لديها — على نحو مدهش للغاية — على الابتكار في مجال البيئة من خلال المزج بين ضرائب الطاقة والكربون، ونظام تحديد وتداول الانبعاثات، وقوانين البناء الصارمة.
ما الذي ألهم السياسيين الدنماركيين بالمخاطرة بإثارة غضب مواطنيهم وقطاع الصناعة لديهم من خلال فرض ضرائب وقوانين بناء؟ قالت متحدثة باسم الحزب الاشتراكي الدنماركي المناصر لقضايا البيئة: «ليس لدينا الكثير من الموارد، وإنما لدينا دولة رفاهة علينا أن نحافظ عليها، لذلك علينا أن نفكر للمستقبل في كل وقت ولا نظل عالقين في الماضي. هذا هو مصدر شجاعتنا.»7 لماذا لم تحذُ بلدان أخرى حذو الدنمارك أو تكنْ شُجاعة مثلما كان ساستها؟ إدراك مدى القابلية للتأثر جزء من الجواب، ولكن ثمة بلدان أخرى كانت ضعيفة على نحو مماثل ومع ذلك لم تستجب بالقدر الكافي، وكثير مما قامت به الدنمارك ليس سرًّا وله عديد من المدافعين عنه في كل مكان. ربما يكمن جزء آخَر من الجواب في الترتيبات السياسية؛ فقد سمح النظام البرلماني الدنماركي لحكومات الأغلبية بتنفيذ سياسات فاعلة، على النقيض من حكومة الولايات المتحدة المقسمة والمستقطبة. على الأقل، توضح الدنمارك أن السياسات الوطنية الفاعلة لا تزال حتمية، ويمكن أن تكون فاعلة على نحو معقول كحائط صد ضد الفشل الدولي، مثل محصلة مؤتمر كوبنهاجن.

(٢) التدابير المالية

طُرِح عدد من الأفكار التي تستخدم المميزات الاقتصادية أو العقوبات أو الضرائب كمحفزات للحد من انبعاثات غازات الدفيئة. ثمة خطة تلقى قبولًا واسعًا في الولايات المتحدة عادةً ما يُشار إليها باسم خطة تحديد وتداول الانبعاثات، وهي ذلك النهج الذي كثيرًا ما طُرح في مؤتمر كوبنهاجن عام ٢٠٠٩، والذي قَبِله مجلس النواب الأمريكي في عام ٢٠٠٩. والفكرة هي تخصيص مستوًى مسموح به من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكلِّ منتِج (محطة توليد طاقة أو مصنع أو بلد بأسره)، والسماح له ببيع أو شراء أو الاتِّجَار بحقوق هذه الانبعاثات. وينتج حافز لخفض الانبعاثات من خلال برنامج تحديد وتداول الانبعاثات؛ إذ إن أيَّ انخفاض في الانبعاثات قابل للبيع مباشَرةً في السوق، وربما تُوزَّع الحصص المسموح بها مجانًا أو بسعر محدَّد مسبقًا. ويشير أحد التقديرات8 إلى أن السوق العالمية «للاتِّجَار في انبعاثات الكربون» تلك وصلت إلى ١٢٦ مليار دولار في عام ٢٠٠٨، ولكن سوق تسعير الكربون متقلبة للغاية؛ ومن ثَم فإنه من الصعب أن يُخطط لها مقدمًا. استخدام أسقف الانبعاثات في أماكن مختلفة يعني ضمنًا الحاجة إلى المراقبة والتحقق، وهي متطلبات قابلة للتنفيذ من خلال الامتثال في ظل الظروف المحلية، ولكنها متطلبات تمثِّل حجر عثرة كبيرًا في سبيل المفاوضات الدولية. ففي حين أن الولايات المتحدة أصرَّتْ على نظام تحقُّق صارم، فإن الصين قاومت أيَّ نوع من الرقابة الدولية على هدفها المفروض ذاتيًّا بالنسبة لانبعاثات غازات الدفيئة.9
يحب أنصار هذا النظام مقارنته مع قانون الهواء النظيف لعام ١٩٩٠ في الولايات المتحدة، الذي سمح لمحطات الطاقة التي تحرق الفحم والتي تقل انبعاثاتها من ثاني أكسيد الكبريت (SO2) وأكسيد النيتروجين (NOx) عمَّا دون مستوى سقف انبعاثاتها؛ ببيع الرصيد الخاص بها إلى المرافق الأخرى التي كانت انبعاثاتها مرتفعة كثيرًا. وتشير التقارير إلى أن انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت في الولايات المتحدة انخفضت بنحو ٤٣٪ منذ تطبيق القانون،10 مع أن الكثير من محطات توليد الطاقة القديمة كانت «معفاة»؛ أيْ يُسمَح لها بتخطِّي القواعد الجديدة.

جانب آخَر من منهج تحديد وتداول الانبعاثات ينص على ما يُسمَّى «التعويض» الذي من شأنه أن يسمح باستخدام بدائل عوضًا عن عمليات خفض الانبعاثات. والتحركات التي تخلق التعويضات يمكن أن تقلل على نحو مباشر من ثاني أكسيد الكربون في الجو، مثل زرع مساحة كبيرة من الأشجار، أو يمكن أن تكون غير مباشرة في تأثيرها، مثل السياسات التي تؤدي إلى تجنب إزالة الغابات. وإذا اعتمدت التعويضات، فإن سقف الانبعاثات لأيِّ مصدر سيعلو من خلال أيِّ إجراء بمقدار يتناسب مع تأثيره على الحد من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. يبقى أن تتحدد مجموعة إجراءات التكليف أو الإسقاط التي سيتم اشتمالها ومعاملتها على أنها تعويضات.

ويرى المنتقدون أن تحديد وتداول الانبعاثات يضر أكثر مما ينفع؛11 إذ إنه «يعطل قدرتنا على الحد من انبعاثات غازات الدفيئة … ويقدِّم حوافز للشركات التي تسبب التلوث.» ويعترضون على نحو خاص على التعويضات معتقدين بأنها لن يمكن التحقق منها إلى حدٍّ كبير. للتخلص من بعض هذه الاعتراضات اقترح هانسن12 استبدال نظام آخر يُطلَق عليه «الرسوم والأرباح» بنظام تحديد وتداول الانبعاثات، والذي سيُفرض بمقتضاه رسم الكربون على كل وحدة من الوقود الحفري منتَجة أو مستورَدة، يتدرج في القيمة وفقًا لكمية ثاني أكسيد الكربون التي ينتجها احتراق هذا الوقود. ومن المحتمل أن ترتفع أسعار السلع لتعكس كمية الوقود المستخدمة في إنتاجها، ومن ثَم تثبط استخدام ذلك الوقود. وبناءً على فكرة هانسن، فإن الرسوم المحصَّلة ستُوزع على العامة كأرباح؛ حيث يمكنهم استخدامها في شراء سلع تستخدم تكنولوجيات موفرة لانبعاثات الكربون. واقترح ليفين13 شكلًا آخر من هذه الفكرة من شأنه أن يضع الرسوم على السلع الاستهلاكية (كالبنزين مثلًا) بدلًا من الوقود الحفري الأصلي؛ ومن ثَم سيحتفظ بسجل للرسوم المحصلة من كل فرد، ويعيد المبلغ المجمع إلى كل فرد في شكل حساب يمكن السحب منه في شراء السلع أو الخدمات الموصوفة بأنها تشجِّع الاستخدام المنخفض الكربون.
وثمة خطط أخرى وُضعت في تكساس وكاليفورنيا وألمانيا، واعتُمدت في وقت لاحق فيدراليًّا في الولايات المتحدة، تلك الخطط استخدمت «نقودًا مقابل السيارات القديمة» أو ما يطلق عليه «مستردات التخريد» في محاولة لتشجيع المستهلكين على استبدال سيارات جديدة أكثر كفاءة في استخدام الوقود بسياراتهم القديمة. يشير أحد التقديرات14 إلى أن الانخفاض الذي سينجم عن استبدال المركبات التي تستهلك جالونًا واحدًا لكلِّ ٣٢ ميلًا بجميع المركبات التي تستهلك جالونًا واحدًا لكلِّ ٢٠ ميلًا سيصل إلى تخفيض سنوي يبلغ ١٫٣٥ مليار جالون من البنزين؛ أيْ حوالي ١٪ من إجمالي الاستهلاك في الولايات المتحدة.

أكدنا في الفصل السابق على أن الضغوط الاقتصادية التي يمكن أن تدعم تطوير بدائل للوقود الحفري تعتمد كثيرًا على التكاليف في أيِّ سوق، وتتكون الحوافز أو تضيع عندما تتأرجح أسعار النفط والغاز الطبيعي والفحم. وعلى المدى الطويل — مثلًا، عدة عقود من الآن — من المتوقع أن ترتفع الأسعار مع تضاؤل الإنتاج والاحتياطيات، ولكن لماذا ننتظر حدوث ذلك إذا كان يمكن تسريع ضغوط السوق عن طريق تغيير السياسة المالية؟ يمكن القول إن هذه الحقيقة هي أهم سبب لدعم فرض ضرائب على استخدام الوقود الحفري، شريطة أن تكون النتيجة هي جعل بدائل الطاقة جذَّابةً بما فيه الكفاية لتشجيع تنميتها. وكذلك سينتج عن هذه الضرائب أيضًا تدفُّق للدخل يمكن استخدامه لدعم البحث والتنمية على المستوى المحلي، أو دعم المجالات الجديدة الجذابة أو تمويل المنح الدولية للحد من الانبعاثات في الدول النامية أو جميع ما سبق. إن فرض الضرائب المتدرجة أسهل عمومًا من تطبيق قواعد تحديد وتداول الانبعاثات، التي تخضع لمجموعة من التقييمات الشخصية والأحكام السياسية. وعلاوة على ذلك، يمكن لبِنْية الضرائب أن تستوعب بسهولة المستردات (في صورة ضرائب سلبية) كمكافآت للامتثال للحدود اللازمة وتخطِّيها أيضًا.

(٣) سؤال معقد

لنفترضْ أننا نطرح سؤالًا معقدًا: ما العوامل التي يجب أن تجتمع — أيْ تتلاقى — إذا أردنا اختراق جدار المقاومة والجمود والتحفُّظ المعرفي من أجل تكوين استجابات تعاونية وفي الوقت المناسب للتهديدات (والفرص) الكثيرة التي يولِّدها تغير المناخ؟ تناوَل كينجدون مثل هذا السؤال باستخدام استعارة «جداول المياه» الثلاثة التي يجب أن تجتمع: المشاكل والسياسات والشئون السياسية.15 ويمكننا بسْطُ نطاق تحليله حتى الساحة الدولية؛ حيث نهتم على نحو أساسي بالكيفية التي تستطيع من خلالها مسألةٌ ما على جدول الأعمال أن تخترق المقاومة السياسية للتغيير. الجواب أو الأجوبة ربما تختلف حسب اختلاف الظروف، ولكن يبدو أنه يوجد بعض الموضوعات المشتركة. في المقام الأول، يجب أن يوجد توافق في الآراء حيال وجوب معالجة القضية؛ بمعنى أنه «يجب القيام بشيءٍ ما حيالها» على نحو سريع نسبيًّا. وربما ينشأ هذا الإجماع حول ضرورة اتخاذ إجراء من أزمةٍ ما أو حدثٍ مأساوي أو تغيُّر ملحوظ للغاية في مؤشر ما (كما هو الحال مع مختلف «الصدمات» الاقتصادية). إن تحديد ما يتعين اتخاذه من إجراءات وما يتعين تنفيذه من سياسات عادةً ما يكون أكثر إثارةً للجدل؛ لأن القوى المقاوِمة للتغيير دائمًا ما تكون قوية، ولا بد من توقُّعِ حدوث خلافات حول كيفية الاستجابة.
حدث مثال على ذلك في عام ٢٠٠٩ عندما وافق مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون يسعى لاستخدام آلية تحديد وتداول الانبعاثات للحد من انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة ٨٣٪ بحلول عام ٢٠٥٠. ينشئ القانون ما يسمَّى بتراخيص الكربون التي يمكن أن تباع وتشترى، ويخصص ٣٥٫٥٪ من التراخيص المجانية لقطاع الطاقة (المرافق) و٢٫٢٥٪ فقط لمنشآت تكرير النفط. ردًّا على ذلك، نظَّم معهد البترول الأمريكي سلسلة من الاحتشادات العامة لإرسال رسالة «شديدة وواضحة» لمجلس الشيوخ معارضةً لهذا التشريع، بحجة أنه سيجبر شركات النفط على شراء العديد من تراخيصهم في السوق الحرة.16 وردًّا على ذلك، أوضح المتحدث بِاسْم منظمة للبحث والتوعية يطلق عليها «مركز التقدم الأمريكي» أن معامل التكرير سيُسمَح لها بالحفاظ على قيمة التصاريح المجانية، في حين أن المرافق العامة ستضطر لإرجاع قيمة تراخيصها للعملاء، ووجَّهَ تهمًا بأنه «كان هدفُ قطاع النفط هو منعَ أو إضعاف الجهود الرامية لمعالجة الاحترار العالمي.»
العامل الثاني الذي يسهِّل التقارب هو التطوير التدريجي للتوافق في الآراء بين الخبراء والمختصين في مسألة حول ما يعرفونه وما لا يعرفونه، والبدائل التي ينبغي النظر فيها والتي لا ينبغي النظر فيها. وقد لاحظ كينجدون أن الأفكار التي تنجو من الجدل السياساتي هي تلك التي تبدو مجدية من الناحية الفنية، والتي تعكس قيم المجتمع ولا تبدو مكلفة للغاية وتحظى بتأييد عام.17 ومع ذلك، حتى عندما يوجد إجماع سياساتي بين الخبراء وتتطلب مشكلةٌ ما استجابةً سياساتية قوية، فمن المرجح ألَّا يتحقَّق إلا القليل ما لم يكنِ النظام السياسي (محليًّا ودوليًّا في حالة الولايات المتحدة) منفتحًا للتغيير. ويمكن أن يتحقق هذا بمجموعة متنوعة من الطرق: تغيُّر في الحكومات، أو ظهور زعيم قوي يتمتع بالكاريزما، أو تغير في توزيع السلطة والأيديولوجيات في الهيئات المتفاوضة، أو تغير في الرأي العام أو المزاج العام حيال قضيةٍ ما، أو حدث صادم — أحداث الحادي عشر من سبتمبر أو أحداث بيرل هاربر — يقوض الأنماط التقليدية للفكر والعمل. عادة ما ينبثق الإجماع في الساحة السياساتية من خلال المناقشة والتحليل، ولكن الإجماع في النظام السياسي يعكس عادة إما التفاوض والتسوية أو التفوق الانتخابي لحزب واحد وأيديولوجيته.

إن التقارب في مسألة صعبة، والوصول لدرجة كبيرة من التوافق بين الخبراء حول ما يجب القيام به حيالها، ووجود نظام سياسي قادر وراغب في اتخاذ إجراء سياساتي جدِّي، كل هذا يخلق — بمصطلحات كينجدون — «فرصة سانحة»؛ وهي فرصة يمكن أن تزول بسرعة أو لا تُدرك أو يمكن أن تزول قسرًا إذا كانت مقاومة التغيير لا تزال قوية. ونظرًا لمعارضة التغيير المحتملة ووجود درجة معينة من الشكوك الفكرية حول أفضل مسار للعمل، فليس من المرجح اغتنام الفرصة دون قيادة قوية على استعداد للمخاطرة برأس المال السياسي.

يوجد بعض التشابه المحتمل هنا مع تطور الجدل حول الطاقة والبيئة. في المقام الأول، أصبحت المشاكل نفسها أكثر إلحاحًا وصعوبة؛ حيث زاد التوافق العلمي، وأصبحت الأحداث الخطيرة مثل الأعاصير والجفاف تحدث بوتيرة أسرع وتخلِّف مستويات أعلى من الدمار، كما أن المؤشرات المختلفة للكوارث (ارتفاع درجات الحرارة، وذوبان الأنهار الجليدية، وارتفاع منسوب المياه، وتناقص الأرصدة السمكية) تزداد في شدتها فيما يبدو. واشتدت المناقشات السياساتية بين الخبراء أيضًا، ويوجد شبه إجماع حول ضرورة التصرف بسرعة وبتعاون، واقتُرِحَ الكثير من البدائل بالفعل أو أنها ما زالت قيد الدراسة النشطة. إن الحلقة المفقودة واضحة: توجد عقبات سياسية واقتصادية أمام الاتفاق واستغلال الفرصة السانحة التي تبدو متاحة، وتظهر تلك العقبات بمجموعة متنوعة من الطرق.

باختصار، لدينا درجة كبيرة من التوافق. من الواضح أن الطاقة والبيئة تُعرفان بوصفهما مشكلتين تحتاجان إلى التعامل معهما من قِبَل الحكومات الوطنية وكذلك المؤسسات الدولية، ويوجد إجماع متزايد في الأوساط العلمية حول طبيعة السياسات التي يتعين تبنِّيها. وأخيرًا، قد يوجد أكثر من مجرد حركة مظهرية في الساحة السياسية؛ فتوجد إدارة جديدة في واشنطن، وخطط قوية من المملكة المتحدة ربما تحفز الآخرين على العمل، وبعض العلامات المشجعة من الصين على أنها عازمة على خفض انبعاثاتها وإنشاء قطاع طاقة متجددة قادر على المنافسة، وتوجد بوادر على أن أسوأ ما في الأزمة الاقتصادية قد انتهى، ووعي متزايد بالفوائد المحتملة للاستثمارات الواسعة النطاق في مجال الطاقة المتجددة وتعزيز كفاءةِ عمليةِ التعافي الاقتصادية الآن ولعقود قادمة. ويحتاج المرء إلى التأكيد على أن هذه التطورات الإيجابية المحتملة كلها في خطر. على سبيل المثال، لا تزال الصين تواصل بعنادٍ تطبيقَ سياسات قومية، وربما تسبِّب أزمة الديون الجارية في اليونان وجنوب أوروبا تباطؤًا في النمو وركودًا آخر في الاقتصاد العالمي.

(٤) تقييم عام

من الواضح أن كلًّا من التوافق الكامل بين تعريف المشكلة والإجماع السياساتي والاتفاق السياسي لا يزال بعيدَ المنال. ويمكن سرد التأثيرات السلبية بسهولة:
  • (١)

    لا تزال الأزمة الاقتصادية موجودة.

  • (٢)

    لا تزال المخاوف حيال تحمل تكاليف الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون عالية.

  • (٣)

    لا تزال الشركاتُ تخشى من مسألة أنَّ تبنِّي تكنولوجيات جديدة ولكن مكلفة يمكن أن يضعفها أمام المنافسين الذين لم يتبنَّوا مثل هذه التكنولوجيات.

  • (٤)

    يوجد خوف مستمر من أن الفوائد التي ستنتج عن أيِّ طفرة تكنولوجية سيتم اكتنازها ولن تجري مشاركتها مع الآخرين.

  • (٥)

    لا يزال الرأي العام غير داعم بقوة للتغييرات الضرورية في السياسات (خاصة إذا كانت تتطلب تكاليف).

  • (٦)

    لا تزال المصالح المتعارضة ووجهات النظر المختلفة سائدة.

  • (٧)

    تتزايد الشكوك حول إن كانت سياسات إدارة أوباما سوف تطابق خطابها السياسي أم لا.

  • (٨)

    لا تزال البلدان النامية غير راغبة في تغيير استراتيجيات النمو الحالية، أو قبول الأهداف والجداول الزمنية الصارمة، أو أن تفعل شيئًا دون زيادات كبيرة في المساعدات الخارجية.

لرؤية أحد أمثلة هذه الضغوط، لاحظ أنه في حين أن الصين تستثمر بكثافة في مصادر الطاقة المتجددة، فإنها تفعل ذلك من خلال استراتيجية حمائية وقومية، تدعم إلى حدٍّ كبير شركات الطاقة المحلية الخاصة بها عندما يتم منح العقود.18 وإذا حذت البلدان الأخرى حذوها، فربما يتسبب ذلك في حرب تجارية. وقد لا تكون إجراءات الصين في هذا الصدد إلا رَدًّا على الشرط الموجود في تشريع تحديد وتداول الانبعاثات الأمريكي، الذي من شأنه أن يسمح بفرض تعريفات جمركية على صادرات البلدان التي لا تسيطر على الانبعاثات بشكل كافٍ وسريع.

يمكننا أن نلاحظ على الجانب الإيجابي أن بعض هذه المشاكل ربما تضاءلت بالانتقال إلى ساحة مفاوضات أضيق وأكثر تركيزًا؛ لأنه لا يحتاج كل بلد إلى تبنِّي كل سياسة من البداية (هندسة المتغيرات، كما هي الحال لدى الاتحاد الأوروبي). علاوة على ذلك، ربما ينتج أثر المحاكاة من إجراءات عمليات التكييف الناجحة، وربما تزيد وتيرة التوافق لا سيما إذا تمخضت السياسات المعتمدة حديثًا عن فوائد سريعة بتكلفة مقبولة. وفي حين أنه من الواضح أن التقدم نحو التعاون لا يزال معلقًا، يبدو أن عدد المؤشرات الإيجابية ينمو بوتيرة أسرع قليلًا من المؤشرات السلبية. على أيِّ حال، يبدو من الحكمة أن نسعى إلى تعميق وتوسيع الاتجاهات والتطورات التي يمكن أن تكون مفيدة بدلًا من المطالبة غير المُجديَة سياسيًّا ولا اقتصاديًّا بإجراء بتغييرات هائلة وفورية في السياسات. إلى جانب هذه الاتجاهات، يجب علينا أن نعترف بالحقيقة غير المرغوب فيها بأن بعض حالات عدم التوازن التي نخشاها ونأمل تجنُّبها ربما تغيِّر التوازن إذا ظهرت باعتبارها مؤشرات جديدة على كارثة تَلُوح في الأفق. وعلى أيِّ حال، لا يوجد عذر لتأخير الاستعدادات لعمليات التكيُّف مع تغير المناخ وتخفيف الآثار التي يمكن على الأقل أن تضع أساسًا لانتعاش أكثر سرعة.

(٥) الاختيارات والأولويات

عدَّد الكثيرُ من المحللين مكونات حزمة سياسات الولايات المتحدة للتعامل مع تغير المناخ وأمن الطاقة.19 كانت هذه القضايا مطروحة منذ أزمة النفط في سبعينيات القرن العشرين والجدل المحموم حول حدود النمو. ومع ذلك، ما كان غائبًا خلال مناقشة معظم هذه القوائم هو تحليل الأولويات — ما ينبغي القيام به ومتى ولماذا — وإدراك كيفية التعامل مع القيود المفروضة على عملية صنع السياسات في سياق سياسي واقتصادي صعب للغاية. وفي مسألة الأولويات نأمل أن نشير إلى بعض الاتجاهات المفيدة من خلال تقسيم المجال إلى شرائح وفقًا للجدول الزمني المناسب لكلِّ خيار. وفيما يتعلق بالسياسة، ندرك أن الجدلَ التقليدي بين مؤيدي منهج السوق الحرة ومؤيدي الحاجة إلى تدخل حكومي قوي؛ أدَّى دائمًا إلى تعقيد مشكلة الاختيار. ومن وجهة نظرنا، فإنه من الصعب جدًّا أن نرى كيف يمكن إنجاز الكثير دون الدعم الحكومي لمصادر الطاقة المتجددة وللبحث والتطوير لعدد من التقنيات الأخرى، ودون تحديد الحكومة لتكلفةٍ لانبعاثات الكربون، ودون وضع الحكومة إطارًا قانونيًّا للاستثمار الخاص ودعمها له. ولكن ينبغي أن نلاحظ أيضًا ما هو واضح؛ أيْ أن اختيار نهج واحد واستبعاد الآخرين كافة أمر غير معقول أو حكيم؛ فالاستثمار الخاص والمبادرات الخاصة عنصر مهم من العناصر المشكِّلة للاستجابة الفاعلة.

وللتغلب على الجمود الحكومي والميل إلى المماطلة توجد مطالبات في بعض الدوائر باتخاذ إجراء سريع وقوي قد لا يكون مجديًا من الناحية السياسية، فالأكثر أهميةً هو اختيار السياسات التي تتسم بالفاعلية والكفاءة والإنصاف لنطاق واسع من المجموعات الاقتصادية. وتشير القيود السياقية أيضًا إلى أنه سيكون من الحكمة اختيار سياسات قصيرة المدى من المتوقع أن تعطي نتائج سريعة نسبيًّا من أجل عامة الجماهير المتشكِّكة من البداية، والتي لا تتطلب نفقات ضخمة وأعباءً ضريبية أثقل من أجل تمويل المشاريع الممكنة. وقبل كل شيء، يجب أن تكون السياسات مَرِنة بما فيه الكفاية للاستجابة بسرعة لأيِّ إشارات إيجابية أو سلبية، وأن تكون قابلة لبسط نطاقها إذا ظهرت ضرورة أو فرصة لذلك. ولا يرغب المرء أيضًا في أن يطلب من الحكومات الضعيفة والمثقل كاهلها أن تتخذ إجراءاتٍ تهدِّد بهزيمة سياسية أو بخسارة كبيرة للدعم الشعبي. وتوجد قاعدة حكيمة سياسيًّا جوهرية هنا: لا تطلب أشياء كثيرة من الحكومات المثقل كاهلها بالفعل، ولا تتوقع منها القيام بمخاطرات كبيرة أو أن تكون شفافة تمامًا حول التكاليف أو التبعات غير المتوقعة.

نحن لم نتحدث بعدُ عن الأبعاد الاقتصادية للمشاكل التي أوجدها الاحترار العالمي الآن أو التي سيوجدها في الفترات المختلفة في المستقبل. فالأزمة الاقتصادية التي اندلعت في عام ٢٠٠٨ وَضعت بوضوح قيودًا قاسية على المال الذي من المتوقع أن يكون متاحًا، بل ربما يكون حتى من الصعب الحفاظ على المستويات الحالية للإنفاق على الاستثمارات في مجال الطاقة المتجددة والمساعدات الخارجية في حالة عدم استئناف النمو وعدم استعادة التفاؤل بشأن المستقبل، ربما الأهم من ذلك أن تفاعُلَ الكثيرِ جدًّا من المتغيرات في الكثير جدًّا من السياقات المختلفة والفترات الزمنية يشير إلى أن أيَّ مجموعة من الأرقام افتراضيةٌ إلى حدٍّ كبير، وربما تنطوي على درجة زائفة من الدقة. ومن ثَم فإننا نتفق مع إيفو دي بور — الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ — عندما أعلن مؤخرًا أن تقديرات التكلفة «لا تزال هدفًا متحركًا، فبدء سد الهوة الآن أكثر أهمية من تحديد حجمها الدقيق في المستقبل.»20 في هذا الصدد، تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الاقتصادي بول كروجمان الحاصل على جائزة نوبل يعتقد أن «ادعاءات الأضرار الاقتصادية الهائلة الناتجة عن التشريعات المناخية … وهميةٌ … وأن أفضل التحليلات الاقتصادية المتاحة تشير إلى أنه حتى التخفيضات الكبيرة في انبعاثات غازات الدفيئة لن تفرض سوى تكاليف متواضعة على الأسرة المتوسطة الحال».21

على الرغم من هذه الشكوك، فإن إدراك ما يكتنفه التكيف مع تغير المناخ من مبالغ ضخمة أمر مفيد. هذه هي الحال، خاصة أن كثيرًا من الذين يعارضون ضرورة تخفيف الاحترار العالمي بأقصى سرعة ممكنة يبنون حجتهم على تقديرات التكاليف غير السليمة من الناحية التحليلية، والمقصودة على ما يبدو لترويع الجمهور بدلًا من تثقيفهم. لا أحد بالطبع ينفي وجود تكاليف للتسوية في إنشاء اقتصاد طاقة جديد أو في التكيف مع التكاليف المباشرة وغير المباشرة الحالية لتغير المناخ، ولكن يجب أن تكون تلك التكاليف ممكنة التحمل. في الواقع، إذا كانت بعضُ التوقعاتِ العلميةِ لاحتماليةِ وقوعِ كوارثَ وشيكةٍ (١٠–٢٠ سنة) دقيقةً، فإن تكاليف عدم القدرة على التصرف الآن قد تفوق بمراحل تكاليف التصرف بحكمةٍ الآن وفي العقدين المقبلين.

من الصعب للغاية تحديد تقديرات لمتوسط التكاليف بالنسبة للبلدان المتقدمة؛ لأنه من المرجح أن يكون لدى كل بلد مزيج مختلف جدًّا من مصادر الطاقة المتجددة ومصادر الطاقة التقليدية وبأسعار مختلفة. وإضافة إلى ذلك، فإنه من الصعب للغاية أن نعرف ما هي البنود التي ينبغي أو لا ينبغي أن تُدرَج في التقديرات. وإن لم يحدث ارتفاع حاد ومستمر في أسعار الوقود الحفري، فإنه من غير المرجح أن تحل الطاقة المتجددة محل جزء كبير للغاية من استخدامات النفط والغاز الطبيعي لعدة عقود قادمة، وحتى عملية الاستبدال الجزئي سوف تتطلب دعمًا حكوميًّا لعدة سنوات. ومع ذلك، في حين أن تكاليف الفرصة البديلة للإنفاق على إنشاء اقتصاد طاقة جديدة ربما تكون عالية، فإنه يمكن لمعظم البلدان المتقدمة أن تستفيد على نحو كبير من المساهمة في هذا الإنفاق لصالح حزم تدابير التحفيز الحالية. على أيِّ حال، كما هو الوضع مع الإنفاق في زمن الحرب، لا يوجد بديل معقول لإيجاد الموارد اللازمة.

لخص بول كروجمان أفضل التقديرات المتاحة حاليًّا للتكاليف بالنسبة للولايات المتحدة، وأشار إلى أن دراسة حديثة أجراها مكتب الميزانية التابع للكونجرس غير المتحزب خلصت إلى أن مشروع قانون واكسمان-ماركي للطاقة الذي تمت الموافقة عليه مؤخرًا «سيكلف الأسرة المتوسطة ١٦٠ دولارًا فقط في السنة، أو ٠٫٢ بالمائة من الدخل» في عام ٢٠٢٠، وسيرتفع العبء إلى ١٫٢٪ من الدخل بحلول عام ٢٠٥٠، ولكن بما أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي سيتضاعف بحوالي ٢٫٥ مرة، فإن «تكلفة حماية المناخ لن تؤثِّر في هذا النمو.»22 وبطبيعة الحال، تقديرات التكاليف تلك لا تشمل الفوائد الواضحة للحد من أسوأ آثار الاحترار العالمي. إن الاستقطاب المتزايد للجدل حول تغير المناخ في الولايات المتحدة يخاطر بتوليد نوع من قانون جريشام في السياسة؛ حيث تقضي المواقف الحزبية على التحليل المعقول؛ ومن ثَم يجب بذل الجهود باستمرار لمقاومة المبالغات الأيديولوجية الذاتيةِ المصلحةِ في التكاليف المحتملة.
توجد مشكلة اقتصادية أكثر إزعاجًا تؤرِّق البلدان النامية؛ ففي الواقع، مطالبهم بالحصول على التزام كبير من المساعدات الخارجية كتعويض عن الأضرار الناجمة عن انبعاثات البلدان المتقدمة الآن وفي العقود الماضية، والتعامل مع عمليات التكيف مع تغير المناخ؛ أصبحت واحدة من العقبات الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق في كوبنهاجن. وتشير التقديرات الأولية إلى رقم سنوي يبلغ نحو ١٠٠ مليار دولار لمدة ١٠ سنوات، وهو ما يتجاوز المستويات الحالية للمساعدات الخارجية. وزادت تحليلات أحدث وأكثر تخصصًا من الناحية الفنية من المبالغ المتوقَّعة اللازمة لتكيُّفٍ ناجحٍ زيادةً حادةً. وبسبب حالات فشل التنمية السابقة، لا سيما الفشل في تطوير بِنًى تحتية عاملة، أشارت إحدى الدراسات الحديثة إلى الحاجة إلى ٣١٥ مليار دولار سنويًّا لمدة ٢٠ عامًا للتخلص من عجز البنية التحتية، ومبلغ آخر قدره ١٦ إلى ٦٣ مليار دولار سنويًّا لتحديث البنية التحتية للتعامل مع تغير المناخ.23 وأشار تقرير جديد للأمم المتحدة إلى رقم سنوي يبلغ ٥٠٠ إلى ٦٠٠ مليار دولار لمدة ١٠ سنوات للسماح للبلدان النامية بالنمو دون الاعتماد على الوقود «الملوِّث».24 ومع أن هذه المبالغ الضخمة أقل من إجمالي المبالغ المتعهد بها في إطار حزم برامج التحفيز الحالية، فإن المبالغ مثبطة للهمة حتى لو كانت تقديرات تقريبية. وعندما تضاف لنفقات برامج التحفيز، فإنه لا يبدو أن هذه المبالغ مجدية على المستوى السياسي أو الاقتصادي. مع ذلك، يبدو أن نوعًا من الالتزام المالي — على ما يبدو بين ١٠٠ مليار دولار و٦٠٠ مليار دولار في السنة — سوف ينتج عن المفاوضات، لو كان السبب الوحيد عدم وجود أيِّ أمل فعليًّا في إبطاء الاحترار العالمي دون التزامات قوية بنموذج جديد للطاقة من قِبَل البلدان النامية. وهذا إنفاق ضخم للغاية في الظروف الحالية، ربما يزيد من ضغوط زيادة الإنفاق على البحث والتطوير لمصادر الطاقة المتجددة و/أو بعض مقترحات هندسة المناخ المتنوعة التي طُرِحت بهدف خفض التكاليف على نحو ملحوظ. وخلال تقييم أثر هذه الأرقام، فإنه ينبغي أن يضاف في الموافقة على ذلك أنه إذا التزمت جميع البلدان المتقدمة بهدف تقديم ٠٫٧٪ من الناتج القومي الإجمالي في صورة مساعدات إنمائية رسمية، فإن المبلغ سيقترب من تحقيق الهدف البالغ ٣٠٠ مليار دولار. حتى الآن لم يقدِّم الجميع هذا الالتزام، ولا حتى الولايات المتحدة. وتقييمًا لتلك الممانعة، يجب الاعتراف بأن آثار المساعدات الخارجية كثيرًا ما كانت مخيبة للآمال؛ فالكثير منها أُهدِر على مشاريع خاطئة، أو فُقِد بسبب الفساد أو عدم الكفاءة.
إن أشد البلدان فقرًا والبلدان النامية المتوسطة الدخل تُنتج بالفعل ما يقرب من نصف إجمالي انبعاثات الكربون، ومن المتوقع أن تزداد انبعاثاتها باطراد. واستمرار إزالة الغابات، وزيادة محطات توليد الطاقة التي تستخدم الوقود «الملوِّث»، واستمرار الالتزام باستراتيجية النمو القياسية للتصنيع السريع تُعَدُّ في حدِّ ذاتها وصفة لإحداث كارثة. وبصرف النظر عن أيِّ تكاليف ضخمة من منطلق الكوارث الطبيعية وتدهوُر الصحة وزيادة الصراع ونقص الغذاء والتحركات السكانية الضخمة، فإن أحدث دراسة للبنك الدولي25 تشير إلى أن التكاليف بالنسبة إلى أفريقيا يمكن أن تصل إلى ٤٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وإلى ٥٪ في الهند. وهذه التكلفة المرعبة تشير إلى أن البلدان النامية لديها أمور على المحك في مفاوضات كوبنهاجن أكثر من أيِّ مجموعة أخرى من البلدان؛ مما يعني أنه يوجد احتمال للوصول لحلول توافقية يمكن أن تتحملها جميع الأطراف في المؤتمر نفسه.
إن ما قد يجعل هذه الحلول التوافقية صعبة التحقيق ليس مجرد ضخامة المطالب المالية لدول العالم الثالث — التي من الواضح أنها تجعل مستويات المساعدات الحالية تبدو ضئيلة، في الوقت الذي تتعرض فيه فاعلية المساعدات الخارجية لهجوم حاد وثمة مطالبات بديلة كثيرة بشأن الموارد المتاحة — ولكن أيضًا أن هذه المطالب تعكس شعورًا عميقًا بالظلم والاستياء؛ إذ تشعر البلدان الفقيرة أن البلدان المتقدمة سبَّبَتِ المشكلة، وأنه لا ينبغي ولا يمكن حلها من خلال طلب تضحيات في النمو المستقبلي من أولئك الذين لا يستطيعون تحمُّله. علاوة على ذلك، بما أن البلدان الفقيرة ترى المساعدات تعويضًا عن ظلم الماضي، فهم لا يريدون أيَّ قيود على المساعدات التي يحصلون عليها.26 وفي الواقع يرفضون حتى الآن قبول المطالب الغربية القياسية بالمساءلة والشفافية حيال جميع سبل إنفاق المساعدات. وتفاقمت الشكوك الغربية حول جدوى هذا الإنفاق بسبب فشل كثير من مشروعات المساعدات، وبسبب نقاط ضعف البلدان النامية في التنفيذ الفاعل (وهي مسألة سوف نتناولها لاحقًا). على أيِّ حال، سوف يجري تفاوض على ما يبدو حول بعض الحلول التوافقية في نهاية المطاف؛ لأنه من الواضح أن ذلك يصبُّ في مصلحة جميع الأطراف التي تسعى إلى الحد من الاحترار العالمي، ولكن حدود ذلك الحل التوافقي هي مجرد تخمينات في هذا الوقت. وإذا لم يُتوصَّل لحل توافقي، أو إذا نُظِر للاتفاق على أنه مظهريٌّ إلى حدٍّ كبير وغير فاعل؛ فإن مطالب زيادة الإنفاق على مشاريع الهندسة الجيولوجية ستزداد بالتأكيد، وهي المسألة التي سنعود لها لاحقًا في هذا الفصل.

يوجد تعليق أخير حول هذه المسألة على قدر من الأهمية. من الواضح أن الجزء الأكبر من مساهمات العالم الثالث الحالية في الاحتباس الحراري تأتي من مجموعة صغيرة من البلدان؛ وهي الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا (البَلدان الأخيران يسهمان بسبب إزالة الغابات). وتوجد بعض الدلائل على أن هذه البلاد أصبحت تدرك على نحو متزايد المخاطر التي ستعاني هي نفسها منها جرَّاء الاحترار العالمي والفوائد المحتملة من محاولة التربح من الطفرات التكنولوجية. كما أنه من الواضح أن هذه البلدان أيضًا كانت عازمة على الحفاظ على النفوذ التفاوضي قبل مؤتمر كوبنهاجن وأثناءه وبعده. ومع ذلك، استمرت مواقفهم المتشددة في الوقت الذي كانت فيه قدرةُ الدول المتقدمة على الاستجابة بسخاءٍ محدودةً بشكل كبير.

لم يأتِ الموقف المتشدد من اللامبالاة أو الجهل؛ فالصين على وجه الخصوص — على الرغم من عدم استعدادها لقبول أهداف وجداول زمنية ثابتة — تبذل جهودًا كبيرة للحد من انبعاثاتها والانضمام إلى الجهود الرامية إلى الاستفادة من تطوير أنواع وقود بديلة. وكذلك البرازيل وإندونيسيا كانتا ترسلان إشارات مؤخرًا حول استعدادهما لخفض إزالة الغابات خفضًا كبيرًا (وهو الأمر الذي يساهم بحصة كبيرة في إجمالي الانبعاثات)، إذا حصلت على تعويضات كافية. لا تريد أيٌّ من هذه البلدان أن تتحمل اللوم على فشل خفض الانبعاثات بسبب المصلحة الذاتية، ولا تريد أيٌّ منها أن تفوِّت فرصة الحصول على المكاسب الاقتصادية المحتملة، ولا تريد أيٌّ منها أن تُدمَّر جرَّاء تبعات الاحترار العالمي.

ربما يرى المتفائل الحَذِر (جدًّا) في هذا الأمر — ولو من خلال نظارة سوداء — علامات ضمنية على تنامي الوعي بأن المصلحة الذاتية والمصلحة العالمية مرتبطتان، وكذلك التنمية والجهود الرامية لخفض الاحترار العالمي. ولكن وجود طرفين يتحدث كل منهما بجانب الآخَر ولا يحاول فَهْم ما يحتاجه الآخر أو يريده؛ ليس بوصفة لنجاح التفاوض. وفي الوقت الراهن لا توجد وسيلة لمعرفة إن كانت هذه الفجوة سوف تستمر أو تتقلص أو تزيد، وربما يكون التأخر في التحرك نحو حل توافقي مكلِّفًا بمرور الوقت.

(٦) المحاذير

اختيار السياسات في مجال معقد للغاية ومليء بالشكوك مهمة صعبة دائمًا؛ فيتحرك كلٌّ من المتغيرات — العلمية والسياسية والاقتصادية وغير المتوقعة — بإيقاعاته الخاصة، ولكن يمكن أيضًا أن يحيد عن طريقه جراء حركة حادة مفاجئة من المتغيرات الأخرى. على سبيل المثال، التركيز على «الفرص السانحة» المألوفة (مثلًا، حماية البيئة أو زيادة كفاءة الاستخدام) يكون منطقيًّا على نحو عملي بارز على المدى القصير، ولكنه يمكن أيضًا أن تَثبُت عدم كفايته إذا استمر الاحترار العالمي في الزيادة وتأخرت بلدان أخرى في الاستجابة. إذا كان هذا يحدث، فعلينا أن نكون مستعدين للتحرك بقوة لحشد دعم شعبي أو للعمل دون الحصول على هذا الدعم إذا كانت توجد ضرورة لاتخاذ إجراء طارئ. عمومًا، يجب أن تهدف القرارات لكسب الوقت والدعم لسياسات أشد قوة في المستقبل، إذا وُجدت ضرورة لها — وعندما تظهر أيضًا.

يمكن تبرير التمويل المبكر للأبحاث إذا كانت المشاريع المختارة شكلًا من أشكال التأمين الطويل المدى. قدَّمَ ستيفن تشو — وزير الطاقة في إدارة أوباما — عددًا من المقترحات المهمة بشأن البحث والتطوير، التي ينبغي أن يتلقَّى معظمُها تمويلًا الآن، مع أنه قد تمر عقودٌ قبل أن يمكن تحقيقها. وكما ذكرنا آنفًا، ربما يصبح المدى الطويل مدًى قصيرًا إذا تدهورت الظروف. وتشمل اقتراحات تشو طلاء أسطح المباني والطرقات بالأبيض لتعكس أشعة الشمس مرة أخرى نحو الفضاء، وبناء شبكة كهرباء «ذكية»، وحرق النفايات النووية في مفاعلات خاصة من شأنها أن تحولها إلى عناصر حميدة بشكل أكبر. وخفَّضَ تشو أيضًا تمويلَ المشاريع التي يعتبرها غير مدروسة.27

أما بالنسبة للقرارات الطويلة المدى، فإن الكثير منها يعتمد على نجاحات السياسات القصيرة المدى، فضلًا عن مزيد من التطورات على صعيد الاحترار العالمي وأمن الطاقة والتطورات الخارجية غير المتوقعة («الصدمات» الاقتصادية والاضطرابات السياسية في البلدان الرئيسية … إلخ). وسوف يكون الإنفاق الكبير على البحث والتطوير مناسبًا لجميع الفترات الزمنية الثلاث التي سنناقشها، ولكن التمييز القاطع بين الفترات الزمنية المختلفة مصطنع إلى حدٍّ ما؛ لأن بعض السياسات المتوسطة المدى (مثلًا، بناء المفاعلات النووية) وبعض السياسات الطويلة المدى (مثلًا، الاندماج النووي أو بعض مشاريع الهندسة الجيولوجية) تتطلب تمويلًا مستدامًا وقصير المدى. وينبغي توزيع الإنفاق الأولي بين عدد معقول من الاحتمالات، ولكن عندما يبدو أحد هذه الاحتمالات واعدًا أكثر من غيره، يجب أن يكون الإنفاق أكثر تركيزًا وأكثر كثافةً. فمن قِصَر النظر المقامرة في وقت مبكر على أيِّ مشروع كبير بعينه.

الساحة الدولية على نفس القدر من الأهمية، ولكن من المتوقع أن تكون العقبات التي تعترض سبيل الاتفاقات التعاونية أشد مما تكون عليه في الساحة المحلية؛ فالتفسيرات المتباينة للمصالح الوطنية ومستويات التنمية المختلفة والجداول الزمنية السياسية المختلفة والقيم والأيديولوجيات المختلفة تعقِّد عملية التفاوض. في هذه الظروف، إذا افترضنا أن السرعة على القدر نفسه من أهمية الكفاءة والفاعلية والإنصاف في الاستجابات السياساتية الدولية، فمن المنطقي للغاية أن نركِّز في البداية على الاتفاقيات التعاونية «الحقيقية» (لا البلاغية) بين مسببي التلوث الرئيسيين الحاليين. يأمل المرء أن تشكِّل هذه المجموعة الأخيرة «ائتلافًا للقوى الراغبة»؛ إذا لم يحدث ذلك، فربما ينبغي استخدام مختلف أساليب الترغيب والترهيب من أجل التحفيز على التعاون. وسوف تصبح المؤتمرات العالمية مثل مؤتمر ريو ومؤتمر كوبنهاجن أكثرَ إثمارًا إذا كان التعاون القصير المدى بين مسببي التلوث الرئيسيين ناجحًا على نحو معقول، وإذا توافرت تكنولوجيات جديدة ومساعدات خارجية إضافية. ومن المأمول أن تلقى التكنولوجيات الجديدة مشاركةً وألَّا تسبِّب المخاوف من أضرار المنافسة نزعة قومية وحمائية مفرطة، وهذا سبب قوي لتفضيل الاتفاقات الدولية التي تضع معايير للنظام ككلٍّ. أخيرًا، يجدر إعادة التأكيد مجددًا على نقطة سابقة: لا يمكن أن ينجح التعاون الدولي إلا إذا كان قائمًا على سياسات وطنية قوية للحد من الانبعاثات والتحرك نحو تبنِّي اقتصاد طاقة جديد.

(٧) قائمة مهام

قبل مناقشة خيارات سياساتية محددة لفترات زمنية مختلفة، ربما يكون من المفيد إجمال الخصائص التي نأمل أو يجب أن تكون موجودةً في السياسات التي نختارها. وربما يكون من المفيد أيضًا الإشارة إلى أننا ندعو لاستراتيجية ذات مسارين تغطي ثلاث فترات زمنية، وتشمل أيضًا مسارًا ثالثًا محتملًا إذا تدهورت الأوضاع تدهورًا حادًّا. باختصار، سوف نقترح استراتيجيات ملائمة لاتباع سياسات مناسبة في فترات زمنية مختلفة.

سوف نسعى لسياسات تلتزم بمبادئ توجيهية واضحة المعالم، على النحو التالي:
  • (١)

    يجب وضع الأهداف المتوقَّع أن تكون قابلةً للتحقيق في فترة زمنية أو أخرى، ويجب أن تكون الفترات الزمنية الأولى اللازمة لوضع وتنفيذ سياسات معينة شديدة الوضوح على المدى القصير، ومعتدلة الوضوح على المدى المتوسط، وربما تكون في نطاق التوقعات على المدى الطويل.

  • (٢)

    يجب أن تبدو التكاليف من الممكن تحملها في أعين واضعي السياسات والجمهور، على الرغم من أن عبارة «من الممكن تحملها» في هذا السياق يجب أيضًا أن تتعدل وفق حجم الخطر المُدرَك في أيِّ لحظة.

  • (٣)

    يجب دائمًا أن تؤخذ الآثار الجانبية المحتملة في الحسبان؛ ومبدئيًّا، ينبغي اختبار المشاريع المحفوفة بالمخاطر كثيرًا، وتقييمها تجريبيًّا قبل التنفيذ.

  • (٤)

    يجب أن تكون السياسات مقبولة على المستوى السياسي لدى أغلبية كافية، محليًّا ودوليًّا، إلا إذا أصبح خطر الاحترار العالمي شديدًا للغاية، لدرجة أن تصبح الإجراءات الفورية أمرًا حتميًّا.

  • (٥)

    اختيار أيِّ نهج سياساتي مفرد أمر مبكر على نحو خطير، وينبغي الحفاظ على مرونة التمويل والدعم.

  • (٦)

    لا يمكن أن تكون السياسات جائرة؛ بمعنى أن قطاعًا واحدًا فحسب من المجتمع يستفيد منها على حساب القطاعات الأخرى، وإذا كان من المرجح أن تحدث هذه النتيجة، فيجب وضع خطط تعويضية.

توفر هذه المتطلبات المثالية معايير مفيدة للخيارات المحددة اللاحقة.

بغض النظر عما حدث في كوبنهاجن، علينا مسئولية أخلاقية وعملية للقيام بأقصى ما يمكننا بأسرع ما في وسعنا للتعامل مع الآثار المباشرة للاحترار العالمي، والاستعداد للتعامل بأفضل ما نستطيع مع آثاره الطويلة المدى. وهذا هو مسارنا الأول والذي يشمل الإجراءات السياساتية الواجب اتخاذها في المستقبل القريب وعلى المدى المتوسط والطويل؛ بحيث تلبِّي أكبر عدد ممكن من الخصائص السياساتية المرغوبة. ونسعى لأفضل اندماج للإجراءات الممكنة والضرورية التي يمكننا اتخاذها. واختيارنا المفضل هو القيام بذلك على المستوى الوطني والدولي من خلال ائتلافات القوى الراغبة التي تسعى للتغلب على أوجُه القصور في عملية صنع السياسات من خلال عملية التدرج المتسارع خطوة فخطوة.

يجب علينا أيضًا أن نبدأ في الاستعداد لقصور في المسار الأول عن طريق زيادة الإنفاق على البحث والتطوير لبعض التكنولوجيات التي لم تُختبَر، والتي تستند إلى علوم معترف بها، فضلًا عن مجموعة متنوعة من تقنيات الهندسة الجيولوجية غير التقليدية والجديدة ذات النتائج غير المعروفة بعدُ. هذا هو المسار الثاني الذي ينبغي السير فيه في الوقت نفسه مع المسار الأول. ماذا عن أسوأ سيناريو: فَلْنفترض أن المسارين كليهما لا يكفيان، وزادت سرعة الاحترار العالمي مع كل أخطاره البيئية والسياسية والاجتماعية المصاحبة له؟ وبإدراك هذا الاحتمال، ينبغي للقائمين على التخطيط في المنظمات الحكومية والدولية ذات الصلة تكريسُ بعض الطاقات الفكرية لتحديد العقوبات و/أو الجزاءات التي ربما تكون ضرورية في مثل هذه الظروف العصيبة.

هوامش

(1) D. S. Battisti and R. L. Naylor, “Historical Warnings of Future Food Insecurity with Unprecedented Seasonal Heat,” science, Vol. 323, January 9, 2009, p. 240.
(2) “Labour Orders Green Energy Revolution,” The Guardian, July 16, 2009, pp. 1, 6-7, and 32.
(3) Ibid.
(4) “A Good Climate for Development,” The Economist, August 6, 2009, p. 9.
(5) David Adam, “Catastrophic Warming ‘in our lifetimes’—Met Office,” The Guardian, September 28, 2009, p. 1, and “Questioning the Invisible Hand,” The Economist, October 17, 2009, p. 66.
(6) Danish Climate and Energy Policy (Copenhagen: Danish Energy Agency, 2009) and Renewable Energy Policy Review (Copenhagen: Danish Energy Agency, 2008). We have relied on these reports for our comments.
(7) Quoted in Thomas L. Friedman, “The Copenhagen That Matters,” New York Times, December 23, 2009, p. A27.
(8) K. Capoor and P. Ambrosi, State and Trends of the Carbon Market 2009 (Washington, DC: World Bank, 2009).
(9) John M. Broder and James Kanter, “China and U.S. Hit Strident Impasse at Climate Talks,” New York Times, December 15, 2009, p. 1.
(10) James Hansen, “Cap and Fade,” New York Times, December 7, 2009, p. A27.
(11) Laurie Williams and Allen Zabel, “Cap and Trade does More Harm than Good,” Philadelphia Inquirer, June 24, 2009, p. A19.
(12) James Hansen, “Cap and Fade,” op. cit.
(13) Marshall Levine, personal communication, December 1, 2009.
(14) Lisa Margonelli, “Let’s get Serious about Auto Sales, Eco-incentives,” New York Times, May 16, 2009.
(15) John W. Kingdon, Agendas, Alternatives, and Public Policies (Boston: Little, Brown and Company, 1984).
(16) Clifford Krauss and Jad Mouawad, “Oil Industry Backs Protests of Emissions Bill”, New York Times, August 19, 2009, p. B1.
(17) John W. Kingdon, Agendas, Alternatives, and Public Policies, op. cit., p. 126ff.
(18) Keith Bradsher, “In China, a Shield Goes Up for Energy Firms,” International Herald Tribune, July 15, 2009, p. 13.
(19) See, for example, various essays in Kurt M. Campbell and Jonathan Price, eds, The Global Politics of Energy (Washington, DC: Aspen Institute, 2008).
(20) Quoted in Tom Zeller, Jr., “A High Cost to Deal with Climate Shift,” International Herald Tribune, August 31, 2009, p. 18.
(21) Paul Krugman, “The Truth: It’s Easy Being Green,” New York Times, September 25, 2009, p. A25.
(22) Ibid.
(23) Martin Parry, Nigel Arnel, Pam Berry, et al., Assessing the Costs of Adaptation to Climate Change: a Review of the UNFCCC and Other Recent Estimates (London: IIED and the Grantham Institute, Imperial College, 2009).
(24) Neil MacFarquhar, “A Sobering Estimate for Clean Global Energy,” International Herald Tribune, August 10, p. 12.
(25) World Development Report 2010: Development and Climate Change (Washington, DC: World Bank, 2009), pp. 12 and 45-6.
(26) See “A Bad Climate for Development,” The Economist, September 19, 2009, p. 77.
(27) See “The Alternative Choice,” The Economist, July 4, 2009, p. 62.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤