الفصل العشرون

جلس برونت بعد انتهاء مراسم دفن ابنته في غرفته الموحشة، متأملًا بمرارةٍ في حياته الفاشلة بقدر ما أسعفته ذاكرته. لم يشكُ قط من العمل الشاق المتواصل؛ فقد كان هذا قَدَره وقَدَر آبائه من قبله. كان قادرًا على العمل، بل وراغبًا فيه؛ كان العمل موجودًا ينتظر من يُنجزه، ولكن بسبب فعلة رجالٍ لم يكن له أدنى سيطرةٍ عليهم، حُكم عليه بالبطالة والجوع حتى تتغيَّر عقول الآخرين المتقلِّبة، وتُعطى الإشارة لالتقاط الأدوات التي أُلقيت على الأرض بطيش بالغ.

صاح بأعلى صوته، ضاربًا سطح الطاولة الخالي بقبضته، قائلًا: «لا يمكنني التحمل أكثر من ذلك!»

ولكن بعد فورات الإصرار اللحظية هذه، عاد الاكتئاب الذي أصبح ملازمًا له ليسيطر بقوة أكبر على عقله، فدفن وجهه بين يدَيه، وأخذ يئنُّ في إحباطٍ يائس عندما أدرك مدى عجزه. فمن الصعب أن يظل الجائع على شجاعته لفترة طويلة. ماذا بيده ليفعله؟ لا شيء على الإطلاق. قد يسقط صريعًا من الإرهاق قبل أن تتسنَّى له فرصة الحصول على وجبة، رغم أنه جاب أرجاء المدينة الضخمة بحثًا عن عمل. كانت المهنة التي يُجيدها مكتظةً بآلاف العمال المتلهفين لشغل الوظيفة التي أُجبر على تركها. حتى ممرات المشاة احتلَّها فقراء بؤساء يكسبون قوت يومهم من كَنسها. وحتى إن تمكن من شغل أحد ممرات المشاة، فهو لا يملك مالًا لشراء مكنسة. كان جيبونز، رغم حماقته، محقًّا عندما قال إن العامل ما هو إلا ترس في عجلة ضخمة، قد تحظى العجلة بترسٍ جديد، أو مجموعة جديدة من التروس، ولكن الترس المنفصل عنها يصبح عديم الفائدة كقطعةٍ من الحديد الصدئ.

انسلَّ لانجلي في هدوء إلى غرفة صديقه المنكوب، وأغلق بابها من خلفه دون صوت، كما لو كان يوشك على ارتكاب جريمة وموقنًا أنه سيُقبض عليه. لم يحيِّه برونت، ولكنه حدَّق إليه في عبوسٍ من تحت حاجبَيه الأشعثَين العابسَين.

قال عازف الأرغن في خوف وهو يضع كومةً من العملات المعدنية على الطاولة: «هاك بعض المال وعليك أخذه.»

أطاح برونت بكومة العملات بحركة غاضبة، حتى إن العُملات الفضية أصدرت أصوات صلصلة عندما سقطت على الأرض.

وقال بصوتٍ كالزئير: «لن آخذ أيًّا من هذا المال كما أخبرتك من قبل! يمكنني أن أجني المال بنفسي، إذا ما سنحت لي الفرصة.»

انحنى لانجلي دون أن ينبس بكلمة اعتراض واحدة، وبدأ يجمع العملات المتناثرة بتأنٍّ.

ثم قال وهو ينهض: «هذا ليس مالي. لقد أُرسل إليك، من أجلك أنت ولا أحد غيرك. إنه يخصك، وليس لي أي حق فيه، وهذا مال قد جنيته بنفسك. ولا أعرف أحدًا أفضل منك يستحقه.»

وضع لانجلي العملات الفضية والذهبية على الطاولة مجددًا، وخرج من الغرفة على أطراف أصابعه بشيء من العجلة قبل أن يستوعب برونت الأمر ويرد عليه.

في تناقض غريب قَبِل الرجل المنحدر من يوركشاير المال الذي أنقذ ابنته من جنازة الفقراء دون أي تساؤلات، على الرغم من أنه، ببعض التفكير، كان سيعلم دون شكٍّ أن شخصًا ما قد تكفَّل بهذه النفقات، ولكن الصدقة التي لم تؤتَ له مباشرة، لم توقظ أي استياء في نفسه المضطربة، بينما العرض المباشر بتزويده بالمال أو الطعام أثار في نفسه عاصفة غضب في الحال.

تأمل برونت كلمات عازف الأرغن. كيف يمكن أن يكون هذا المال ملكًا له؟ كيف جنى هذه العملات؟ وتوصل عقله البطيء بالتدريج إلى حل المعضلة؛ لا بد أن المال مُرسل من هوب أو مونكتون، أو ربما من سارتويل. صب برونت اللعنات على ثلاثتهم، مجتمعين ومتفرقين، وبعثر كومة المال مرةً أخرى على الأرض في خِضم ثورته. أخذت العملات تدور عشوائيًّا في أنحاء الغرفة، واستقر بها المقام بعد دورانها على ألواح الأرضية العارية. حدَّق برونت في العملات المستقرة على الأرضية التي تلمع تحت الإضاءة الخافتة، وكفَّ ذهنه عن التفكير في مسئولية الرؤساء أو المرءوسين عن الأوضاع التي كان يعاني منها. كان فيما مضى يعتبر هوب ومونكتون رأسماليَّين متكبرَين يتباهيان بثروتيهما، حتى رأى سلوكهما الصاغر المذعور عندما كان رجال الشرطة يرافقونهما إلى خارج المصنع، ومنذ ذلك الوقت وهو يسعى لإعادة تشكيل أفكاره عنهما. إذن لمَ يرفض أخذ المال إذا أرسله أيٌّ منهما؟ كان يحدِّق إلى العملات المتناثرة على الأرض ويرى بقعًا بيضاء ونقاطًا صفراء من الضوء، وعدَّل كرسيه حتى تتسنى له رؤية أفضل لها. كان قد سمع أن المرء قد يُنوم مغناطيسيًّا إذا ظل يحدِّق بثبات إلى قطعة من الفضة يحملها في راحة يده. وبينما كان برونت ينظر بتركيز إلى العملات المعدنية، مرَّر يده بسرعة على جبهته، مُضيقًا عينَيه ليرى العملات بتركيز أكبر. انحنى إلى الأمام، ثم نحو الأرض. كان واثقًا أن العملات تتحرك مقتربةً بعضها من بعض، وتذكر بذهن مرتبك أن اجتذاب الكومات الأكبر حجمًا للذرات المعدنية المختلفة، هو حال النقود في جميع أنحاء العالم، ما بدا له سببًا منطقيًّا، مثلما يحدث في الأحلام، لزحف العملات وتقاربها، رغم أن ما تبقى من صوابه أخبره بأن كل هذا مجرد وهم. دخلت الأجزاء المدركة والمشوشة من ذهنه في صراع معًا من أجل السيطرة، بينما كان برونت ينحني أكثر فأكثر نحو المال، حتى صار في تلك اللحظة جالسًا على حافة مقعده يلهث مستغرقًا بكامل وجدانه تقريبًا، في الحركة الغريبة التي تحدث على الأرضية، وبدأ يفقد الاهتمام تدريجيًّا بالصراع الذهني الدائر حول واقعية ما تخبره عيناه المجهدتان الجاحظتان بأنه يحدث تحت قدمَيه. وفي النهاية، لاحظ أن الكومة تتسلَّل ببطء وبوضوح في الوقت ذاته بعيدًا عنه. وتبدَّدت جميع شكوكه حيال واقعية ما يرى. فالمال يحاول الفرار.

فهبَّ واقفًا وقفز نحو الباب مغلقًا إياه بظهره.

وأخذ يصرخ قائلًا: «أوه، لا، أنت ملكي، أنت ملكي!»

جلس برونت القرفصاء من دون أن يرفع عينَيه عن العملات، واستند على يدَيه وركبتَيه وبدأ يزحف نحوها ببراعة، ثم انقض فجأةً على الكومة الأساسية، بينما أسرعت العملات المنفصلة عائدةً إلى مواضعها السابقة، متظاهرةً بأنها لم تغيِّر مكانها من الأساس. فضحك ساخرًا من محاولاتها العقيمة لخداعه، وسكب كومة العملات في جيبه، والتقط كل العملات المنفصلة المتبقية عبر الانقضاض عليها. فتَّش برونت الغرفة بالكامل مثل حيوان يتشمَّم الأركان، وعندما يلمح عملةً فضية أو ذهبية تدحرجت لمسافةٍ بعيدة، كان يجثم أكثر على الأرض، ويتحرك بمزيدٍ من الحذر، ويضحك في سعادةٍ عندما يمسك بها ويضعها مع العملات الأخرى. وأخيرًا نهض واقفًا ضاربًا بيده على جيبه في سعادةٍ ليسمع صليل المال. وما إن انتصبَت قامته حتى اندفع الدم إلى رأسه فشعر بالدوار. أخذ يترنَّح واستند إلى الجدار وقد فارقَتْه بهجته تمامًا. بدَت الغرفة وكأنها تدور من حوله، فغطى عينَيه بيدَيه.

وهمس قائلًا: «سأُجن. لا بد أن أحصل على شيء لآكله أو أشربه.»

خرج برونت مترنحًا من باب الغرفة إلى الممر ثم نزل على الدرج، ومنه إلى الهواء الطلق الذي أعاد له الشعور بالحياة وقرصة الجوع مرةً أخرى. بمجرد أن خرج إلى شارع لايت، دخل حانة «روز آند كراون» وطلب كوبًا من البيرة. تردَّد الساقي في إجابة طلبه. فقد انتهى رصيد المضربين منذ فترة طويلة.

قال الساقي بفظاظة: «أرني نقودك.»

«لا أملك أي نقود. سأدفع لك الأسبوع القادم؛ فسأُنهي الإضراب اليوم.»

وضع برونت راحته المفتوحة على جيب سرواله ليؤكد على فقره، ولكنه أجفل عندما سمع صوت رنين العملات. فأدخل يده في جيبه وأخرج منه قطعةً فضية من المال، وأخذ يحدِّق فيها ذاهلًا.

ثم قال أخيرًا وهو يلهث: «يا إلهي، ظننت أني كنت أحلم!»

ضحك الساقي وأمسك بكوب فارغ وقبض على مقبض مضخة البيرة.

وقال: «هذا الحلم مفيد لحانة «كراون». من الأفضل أن تأخذ بعض الخبز والجبن مع البيرة.»

«حسنًا. أسرع يا رجل.»

أكل برونت وشرب بنَهَم دون أن يتحرك من مكانه.

قال الساقي، بعدما رأى كم كان برونت جائعًا: «يمكنني أن أحضر لك طبقًا من اللحم البارد.» أومأ برونت برأسه موافقًا، ووُضع الطبق أمامه، ومعه شوكة وسكين.

قال الساقي متكئًا بذراعيه على الطاولة: «لقد انتهى الإضراب إذن، أليس كذلك؟»

«سينتهي بمجرد أن أصل إلى هناك.»

«حسنًا، هذا التوقيت مناسب تمامًا. فقد تضرَّر عملنا كثيرًا.»

«لقد تضرَّرنا أكثر ممَّا تضرَّر عملك للأسف. فلا أحد يساعد المُعوِزين إلا إذا كان بحوزته مال.»

«أوه، لن يفعل الآخرون إلا المثل. لسنا مؤسسةً خيرية، وكذلك جيراننا.»

تناول برونت طعامه وشرب كوب البيرة، ولكنه لم يرد. كان منطق الساقي صحيحًا من المنظور التجاري، ولا يمكن لأحد يمتلك ذرةً من العدالة أن يجد فيه ما يعيبه. فالمال هو المفتاح العمومي للكون الذي يفتح جميع الأبواب. لم يكن الساقي يعبأ بكيفية حصول برونت على المال طالما دفع مقابل ما طلب، أمَّا برونت فبات في تلك اللحظة يشعر بالشجاعة تحل محل اليأس؛ فقط لأنه يملك مالًا في جيبه. شعر بأنه أصبح يملك طاقةً كافية للتصدي للمُضربين؛ فقط لأنه سد رمقه بينما لا يزالون هم جائعين. لن ينتظر أي اجتماعات، بل سيخطب في العمال في الشارع، أولئك المحتشدون في مجموعاتٍ عقيمةٍ لا حول لها ولا قوة حول البوابات المغلقة، ولا شك في أن أغلبهم سيكونون هناك. وإذا اعترض جيبونز، فسيحسم المسألة بضربةٍ سريعةٍ وقاضية؛ فهذا هو أسلوب النقاش الذي يسهل على جميع الحاضرين فهمه.

مسح برونت شفتيه بظهر يده بعدما أنهى وجبته، وخرج من الحانة متجهًا إلى المصنع. وكما توقع، وجد العمال اليائسين واقفين هناك وقد دسوا أيديهم في أعماق جيوبهم الفارغة في عجز ويأس. لم يكن الدخان يتصاعد من غلايينهم شأنها شأن مداخن المصنع العالية، وكان ذلك في حد ذاته دلالةً على أن حالهم قد وصل إلى الحضيض. كانوا يستمعون بلا مبالاة وفتور إلى جدال محتدم بين جيبونز ومارستن، كما لو أن الموضوع قيد النقاش لا يمسهم من قريب أو بعيد.

كان مارستن يصيح قائلًا: «كان من الممكن أن تلعب بهذه الورقة الأسبوع الماضي، ولكن مضى أوانها الآن. لم يعد بإمكانك أن تلتقي المالكَين. لقد أخبرتك بأنهما قد غادرا البلاد، ولن يعودا قبل أسبوعَين، وفي خلال هذه الفترة، سيُملَأ المصنع بعمالٍ جدد. سيأتي العمال الجدد يوم الإثنين. وأُطالب اللجنة بالدعوة إلى اجتماعٍ على الفور والتصويت.»

صرخ جيبونز: «لا تبالوا به أيها العمال! إنه مأجورٌ من سارتويل.»

لم يبالِ العمال بما قاله مارستن، ولم يولوا انتباهًا إلى جيبونز أيضًا. فكل ما كانوا يريدونه في هذا الوقت هو بعض الطعام والشراب، وبعض التبغ للتدخين بعد ذلك. وإذا كان مارستن مأجورًا من سارتويل، كان أيٌّ منهم سيسعد بأن يتبادل معه الأماكن. شق برونت طريقه عبر الحشد بقوةٍ دافعًا الرجال جانبًا بوقاحة. ولم يعترض أحدٌ على ذلك؛ فقد تبخَّرت أيُّ رغبةٍ لديهم في المقاومة. بدا مارستن على وَشْك الانقضاض على جيبونز بعد افترائه عليه بالقول عندما شعر بيد برونت الثقيلة على كتفه.

قال الرجل الضخم: «لقد فات أوان الاجتماعات يا صديقي، والكلام أيضًا. الاجتماع هنا، وسأتعامل معه. دعك من هذا الأحمق، اذهب وقف وسط الحشد، واستعد لدعمي إذا ما احتجت إلى دعم.»

نفَّذ مارستن ما طُلب منه على الفور، وفي الوقت نفسه كان برونت يسير عبر المساحة الخالية، على الرغم من تحذيرات أحد رجال الشرطة له بأن يتراجع.

لم يكن هناك الكثير من رجال الشرطة؛ إذ رأت السلطات أنه لا يوجد ما يخيفهم في مجموعة من العمال المنقادين المهزومين.

قال الضابط: «عليك أن تتراجع وإلا فسأقبض عليك.»

صاح برونت في شراسة وهو يشمِّر عن ذراعيه مواجهًا خصمه في تحدٍّ: «هل ستفعل حقًّا؟ أحذِّرك إذن، اطلب المزيد من الدعم. فعدد رجالك هنا لا يكفي للقبض عليَّ. لقد أكلت اليوم.»

وبعد برهة من التحديق بغضب في عينَي الضابط، استدار برونت وسار بخطًى واسعة نحو البوابة المغلقة دون أن يعترضه أحد.

استمع الضابط إلى النصيحة وأرسل في طلب المزيد من الرجال. فقد أدرك أن ثمَّة مشكلةً ما تلوح في الأفق.

ضرب برونت ألواح البوابة بقبضته الضخمة، وصاح بأعلى صوته بنبرة هادرة قائلًا:

«افتحوا البوابات!»

بدت لمحة طفيفة من الاهتمام المتبلد على وجوه العمال. تزاحم العمال مقتربين أكثر بعضهم من بعض، وراحوا يجرون أقدامهم ويمدون أعناقهم إلى الأمام. وراح العمال الواقفون في الخلف يتدافعون إلى الأمام، متسائلين عمَّا يوشك أن يحدث. ووقف رجال الشرطة القلائل يراقبون ما يحدث دون تدخُّل انتظارًا للتعزيزات. ضرب برونت بقبضته على الألواح الخشبية الرنانة من شدة الضربات، وكانت هذه الضربات المنتظمة هي الصوت الوحيد الذي كسر حاجز الصمت الذي انتهى بتكراره صيحته الجهورية: «افتحوا البوابات!»

هُرع البواب الذي كان يقف خلف البوابة الصغيرة يبحث عن سارتويل؛ خشية التعرض إلى هجوم، وقابل مديره يهبط الدرج.

قال البواب لاهثًا: «أخشى أنه سيحدث شغبٌ آخر يا سيدي.»

لم يُجِبه سارتويل، بل سار مسرعًا نحو البوابة الصغيرة، وفتحها، وخرج عبرها.

وقال: «ماذا تريد؟»

صاح برونت قائلًا: «نريد العودة إلى عملنا! افتحوا البوابات!»

مرَّر سارتويل بصره سريعًا على العمال الذين وقفوا في أماكنهم مشدوهين، ووجوههم النحيلة وعيونهم الجائعة الشرسة متجهة نحو الحواجز المغلقة. وسرعان ما أدرك المدير أنه لم يعُد ثمَّة وقتٌ لمناقشاتٍ أو اتفاقٍ على شروط. كان الموقف يتطلَّب تحركًا حاسمًا وسريعًا. فالتفت نحو البواب المرتعب، وقال بنبرةٍ قاطعة:

«ارفع المزلاج!»

رغم الشكوك التي ساورَت الرجل بشأن حصافة مثل هذا الأمر في مواجهة هذا الحشد العدواني، فقد فضَّل مواجهة الخطر المحتمل من الحشد على الغضب الذي سيصبُّه عليه مديره قطعًا إن لم يُطِعه، وأسرع بتنفيذ الأمر. وانفتحت البوابتان الثقيلتان رويدًا رويدًا.

صاح برونت ملوحًا بذراعه الطويلة جاعلًا إياها على شكل منجل: «هلمُّوا يا رجال! ذلك الرجل الذي يتلكَّأ في الخلف، يا إلهي! سأكسر ظهره!» مضى أحد الرجال إلى الأمام متعثرًا كما لو أن أحدًا دفعه من الخلف، ثم بدا وكأن حبلًا خفيًّا كان يشدُّ الحشد إلى الخلف قد انقطع فجأة. واندفع العمال عبر البوابة المفتوحة بحركةٍ ثابتةٍ ومنتظمة. فصرخ جيبونز، ملوحًا بيدَيه كالمجنون:

«توقفوا! توقفوا! اسمعوني لحظة!»

ولكن لم يتوقف أحد، ولم يستمع له أحد. أما برونت، الذي شحب وجهه بشدة من فرط الغضب، فكان يمضي بصعوبةٍ في عكس اتجاه الحشد وهو يصيح:

«دعوني أنَلْ منه! سأخنق هذا الحقير!»

قال سارتويل بحدةٍ وقد شق صوته الجلبة الصادرة عن حركة الأحذية الطويلة: «برونت! دعه وشأنه وادخل. اجمع الرجال في الفناء. أريد أن أتحدَّث إليهم.»

اختفَت النظرة الوحشية من فوق وجه برونت على الفور. واستدار ليسير مع العمال، ووصل إلى حيث يقف سارتويل ينظر متجهمًا إلى الحشد المتحرك. لم يُوجِّه أيٌّ من العمال بصره نحو المدير، ولكن حاول كلٌّ منهم بعنادٍ أن يتقدَّم الصفوف مطأطئ الرأس، كما لو أنه اقترف ذنبًا يخجل منه. وقف برونت إلى جوار سارتويل وهمس في أذنه قائلًا:

«بحق السماء يا سيادة المدير، دعهم يتجهوا إلى العمل، ولا تتحدث إليهم. إنهم مهزومون، ولم يعُد هناك شيءٌ يُقال. ترفَّق بهم؛ فقد سمعوا ما يكفي من الأحاديث.»

قال سارتويل بأسلوبٍ رقيق: «أتفق معك تمامًا. لا تخَف، ولكن اجمعهم. أنت من بدأت كل هذا. فقد سمعت صيحتك الأولى عند البوابات من مكتبي.»

مع مرور آخر العمال عبر البوابة، سمع سارتويل صوت برونت يصيح فيهم أن يتوقفوا. ظل بعض العمال بالخارج، وكان هؤلاء هم سكيمينس ورفاقه من أعضاء لجنة الإضراب، يستمعون متجهمين لاستنكار جيبونز الغاضب للانشقاق الجماعي للعمال. دخل مدير المصنع، وأمر البواب الحائر بأن يغلق البوابات.

وبينما كان سارتويل يسير بهمة نحو المصنع، رأى العمال ملتفين بعضهم حول بعض كالأغنام، وقد عصف بهم الخزي والغم، وعلى استعدادٍ واضح لتحمُّل أي تأنيبٍ يرى مدير المصنع أنهم يستحقُّون أن يُصَب على رءوسهم الصاغرة. كان برونت، الذي وقف شامخًا أمامهم، ينظر إليه في قلق، كما لو كان كلبًا ضخمًا لا يعلم كيف سيتصرَّف القطيع الذي يحميه.

ارتقى سارتويل درجات السلم المؤدِّي إلى باب مكتبه القديم، وبدأ يتحدَّث.

قال: «أنا أعتبر هذا الإضراب انتهى يا رجال. وأريد أن أبدأ بعدل وإنصاف؛ لذا من كان منكم لا يرغب في العودة إلى عمله وفقًا لشروطي، فليتقدَّم ويقُل لا.»

مرت فترة قصيرة من الصمت، لم يقطعه أيُّ صوت. ولم يتقدَّم أحد.

فواصل مدير المصنع حديثه قائلًا: «عظيم. لقد قُضي الأمر. كل رجلٍ منكم يعرف مكانه في هذه المباني؛ فليذهب إليه، ويظل فيه حتى صدور تعليماتٍ أخرى. لن يعمل أحدٌ اليوم؛ فثمة بعض الاستعدادات يجب إجراؤها قبل البدء. ستحضرون غدًا لتبدءوا عملكم في الموعد المعتاد، وبعد الانتهاء من تجهيزات العمل، سيحصل كلٌّ منكم على أجر نصف أسبوع مقدمًا من الصراف، وسأُصدر أوامر بذلك. كان ثمَّة عددٌ من البرقيات كُتبت ليتم إرسالها يوم السبت، ولم يعُد من الضروري إرسالها الآن؛ لذا فسأنفق المال الذي ادَّخرت لهذا الغرض على التبغ؛ سيحصل كل عاملٍ على حصةٍ من التبغ أثناء خروجه من البوابة الصغيرة. ولن تُفتح البوابات الكبيرة حتى صباح الغد.»

انطلقَت صيحة تهليلٍ خافتة عندما أنهى سارتويل حديثه، وهبط من على الدرج. ثم بدأ العمال يدخلون إلى المصنع تباعًا بخطًى بطيئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤