الفصل الثالث والعشرون

عندما وصل مارستن إلى محطة القطار، كان أول ما ندم عليه أنه لم يأخذ كل المال الذي عُرض عليه يوم فصله من العمل. فلم يكن يدري أن مغامرته ستقوده إلى الذهاب إلى منتجع أنيق ومُكلِّف يُطل على البحر. كانت الحكمة تقتضي أن يؤجل زيارته إلى إيستبورن حتى يتوافر معه المزيد من المال، ولكنه قال لنفسه إنه إذا لم يذهب على الفور، فسوف يعرف سارتويل حتمًا بأمر زيارته إلى ويمبلدون من زوجته، وقد تزداد العقبات أمامه لمقابلة إدنا في إيستبورن. وبالفعل لم يكن يعلم كيف سيجري اللقاء الذي يتمناه؛ فلا شك أن سارتويل عند إرسال ابنته إلى المدرسة الداخلية، قد منح المرأة التي أُوكِلَت لها رعاية إدنا لمحةً عن غرضه الحقيقي من إرسالها إلى هناك. ترجَّل مارستن من العربة المتجهة إلى الجنوب الغربي عند محطة كلابيم جانكشن، ووجد أنه سيُضطر إلى انتظار نصف ساعةٍ حتى يصل قطار إيستبورن. وابتسم عندما تذكر الرعاية والاهتمام اللذَين كان يوليهما إلى النقابة، بعدما أكَّد مرارًا وتكرارًا أنه على استعدادٍ لأن يكرِّس حياته للعمل. وكان من الرائع أن كل ما تحتاج إليه النقابة في الوقت الحالي هو أن تُترك وشأنها.

عندما وصل إلى إيستبورن، بدأ يبحث على الفور عن مدرسة هاي كليف، معتقدًا أنه من الأفضل استكشاف موقع المدرسة، على أمل أن توحي له رؤيتها بخطةٍ عمليةٍ يمكنه تنفيذها. كان ثمة أمرٌ واحدٌ يصب في صالحه؛ هو أن سارتويل لم يكن ليجرؤ على تحذير ابنته من مقابلته؛ خوفًا من إثارة فضولها أو شكوكها. وإذا ما تمكَّن من لقاء إدنا ولو لحظات بمفردها، فهو واثقٌ من أنه سيستطيع تدبير لقاء آخر معها. وجد أن مدرسة هاي كليف عبارة عن منزلٍ كبيرٍ يقع وسط أرضٍ شاسعةٍ ويُطل على البحر، ولكنه كان محاطًا بسورٍ يبدو رادعًا أكثر من السور المغطَّى أعلاه بالزجاج المكسور في ويمبلدون.

أدرك مارستن أن لقاءه بحبيبته سيكون أصعب ممَّا تخيل في البداية. وفكَّر للحظةٍ أن يتقدَّم بجرأةٍ عبر مدخل المدرسة الأمامي، ويطلب إذنًا بلقاء الطالبة الصغيرة، ولكنه سرعان ما تخلَّى عن هذه الخطة كونها غير عملية. فقد كان على يقينٍ من أن رجلًا في دهاء سارتويل أكثر فطنةً من أن يترك الحبل على الغارب، للسماح لأول شخصٍ يطلب مقابلة ابنته بأن يفعل، حتى إن كانَت القواعد العادية للمدرسة تسمح بذلك، وهو أمرٌ مستبعدٌ تمامًا. وأدرك أن المكان لا يمكن اختراقه عبر الهجوم المباشر، بل عبر الحصار البطيء المتأني، فذهب للتجوُّل على الشاطئ وجلس على الحصى موليًا جل تفكيره، وسط صوت الأمواج المريح، لإيجاد حلٍّ لهذه المشكلة.

إذا كان ثمة رجلٌ يطمح إلى تحرير العمال، وتغيير شكل العلاقة بين الرأسماليين والعمال بالكامل، ولا يتمكَّن من التوصُّل إلى فكرةٍ تمكِّنه من قضاء نصف ساعةٍ مع فتاةٍ صغيرةٍ ليسَت محبوسةً في سجن أو دَيْر، بل مجرد طالبة في إحدى المدارس الإنجليزية العادية؛ فإن احتمالية حلِّه للمعضلة الأكثر تعقيدًا ستكون بعيدةً ومحل شك. وهكذا ربط المعضلتَين معًا، وقال في نفسه إن نجاحه في إحداهما سيدل على قدرته على النجاح في الأخرى. كان أول شيءٍ عليه فعله هو تأمين مسكنٍ رخيص، إن كان لمسكنٍ بهذه المواصفات أن يتوافرَ في هذا المنتجع الأنيق، وبذلك يتمكَّن من توفير المال والترقُّب حتى تحين الفرصة المناسبة؛ إذ كان مقتنعًا بأن الطريقة الوحيدة للإسراع بتحقيق غايته هي التأني. كان في موقفٍ من شأن التسرُّع غير الضروري فيه أن يؤدِّيَ إلى استحالة تحقيق نصرٍ مبين. كان يعلم أن الطالبات سوف يخرجْنَ في وقتٍ ما خلال النهار للتنزُّه، ولكنهن سيكن بلا شكٍّ في حراسة معلماتٍ يقظات. وربما يمكن أن يمرَّ بهذا الموكب المثير، وفي الأثناء يدس رسالةً في يد إدنا، ولكن عندما فكَّر مارستن في هذه الخطة، تخلَّى عنها لكونها غير عملية؛ إذ ستكون دهشة إدنا من هذا التصرف غير المفهوم من قِبَله أشدَّ من أن تمتلك معه الحضور الذهني اللازم لإخفاء الرسالة بالسرعة الكافية؛ لكيلا يكتشف أمرها. وغادر مارستن الشاطئ دون أن يتوقَّف عن التفكير في المشكلة، وأثمر بحثه في الجزء من المدينة البعيد عن البحر عن مسكنٍ يناسب متطلباته وميزانيته. وبعدما أتم هذه الخطوة، ذهب للتنزه على الممشى المواجه للبحر، وهو لا يزال يولي تلك المشكلة العويصة جل تركيزه.

وفجأة، تلقَّى ضربةً قوية على ظهره كادت تُسقطه على وجهه. وبعدما تمالك نفسه، تلفَّت حوله لاهثًا في انزعاج وغضب؛ ليرى أمامه بارني هوب بجسده الضخم ووجهه الباسم مادًّا يده التي ضربته على ظهره في ود.

صاح بارني مطلقًا ضحكةً مجلجلة ساخرًا من نظرة مارستن الغاضبة الممتعضة: «مرحبًا يا صديقي العزيز! ماذا تفعل هنا؟ هل أنهكك الإضراب لدرجة دفعتك للمجيء لاستنشاق نسيم البحر لتتعافى؟»

«لم يُنهكني الإضراب مثلما فعلَت الضربة التي تلقيتها منك للتو.»

ألقى بارني رأسه إلى الخلف وضحك بصوت عالٍ، ثم شبَّك ذراعه في ذراع مارستن بودٍّ جم، وقال:

«أعلم أن يدي ليست خفيفة، كما يقول كل أصدقائي، وقد أوقعتني في مشكلة من قبل. اضطُررت ذات مرة إلى ضرب أحدهم في باريس، لمجرد أني لم أتمكن من إقناعه بأن الربتة الخفيفة التي تلقاها مني كانت بغرض المزاح. وأقرَّ بعد ذلك بأن ثمة اختلافًا، وأنه يفضِّل أن يتلقَّى راحتي المفتوحة على ظهره بدلًا من قبضتي المضمومة في وجهه، ولكن ماذا يمكن أن تتوقع؟ فالفرنسيون لا يملكون حسًّا دعابيًّا، كما أنهم لا يجيدون اللكم. عليهم، بوصفهم أمة، إما أن يتعلموا كيف يتقبلون المزاح، أو أن يتعلموا كيفية استخدام قبضاتهم إذا كانوا سيأخذون الأمور على محمل الجد. ولكن صفعتي على الظهر لا تُقارن بمصافحتي عندما أشعر بالود تجاه شخص ما. دعنا نرَ، هل صافحتك بهذه الطريقة؟»

قال مارستن بلهفة جعلت بارني يضحك مرةً أخرى: «نعم، شكرًا لك.»

«أنا سعيد بلقائك غير المتوقع هذا. اسمك لانجتون، على ما أتذكر، أليس كذلك؟»

«اسمي مارستن.»

«أوه، نعم، بالطبع. أنا أغبى رعايا المملكة في تذكر الأسماء، وأعلم أنه ذنب لا يُغتفر. فالناس يشعرون بالإهانة، على ما يبدو، إذا لم تستطع أن تتذكر أسماءهم. ولا أعلم سبب ذلك. فأنا لا يهمني على الإطلاق الاسم الذي تدعوني به ما دمت لم تقُل إني لست رسامًا. فحينئذٍ سأكون على استعدادٍ للقتال. فالرجل الذي لا يقاتل من أجل فنِّه لا يستحق أن يكون فنانًا. وبمناسبة الحديث عن الفن، أتذكَّر الآن أن لانجتون هو الرجل الذي أرسلته إليَّ، والذي يعزف على البيانو ببراعةٍ تضاهي روبينوف، ذلك العازف الروسي. حسنًا، أنا سعيد للغاية بمقابلتك، كنت أتمنى للتو أن ألتقي أي شخص أعرفه. كنت متلهفًا للتحدث إلى شخص ما. إن إيستبورن مدينة مملة للغاية، كما تعلم.»

«لم آتِ إلى هنا من قبلُ قط. وهي تبدو لي مكانًا جميلًا للغاية.»

«نعم، تبدو كذلك للوهلة الأولى، ولكن انتظر حتى يمر عليك هنا يومٌ أو اثنان. إنها مكان وقور بصورةٍ مبالغ فيها! وهذا ما أكرهه فيها. فالوقار سيئ بطبيعته بما يكفي، ولكن يبدو أن نسيم البحر يُفاقم تأثيره. لا يمكنني أن أعرف السبب، ولكن هكذا هو الحال؛ ومن ثم يتحوَّل الوقار الذي يُمكنك تحمُّله في لندن إلى وقارٍ لا يُحتمل بالقرب من البحر. ألم تُلاحظ ذلك؟ كما أن هذا الوقار قائم على أساس هش؛ فأجرة قطار الدرجة الثالثة إلى برايتون تكلِّف أربعة شلنات وبنسين ونصفًا، بينما الأجرة إلى إيستبورن تكلِّف أربعة شلنات وأحد عشر بنسًا، ما يعني أن كل هذه العجرفة قائمةٌ على أساسٍ هزيلٍ لا يتجاوز ثمانية بنسات ونصفًا. هل فهمت ما أعنيه؟ لن أقايض أسبوعًا في برايتون مقابل يومٍ في إيستبورن، على الرغم من كراهيتي لأن أجبر على الذهاب إلى أيٍّ منهما. لندن هي المدينة الوحيدة التي تناسب ذوقي، كما تعلم.»

«لماذا جئت إلى إيستبورن إذن؟»

«آه، ها أنت ذا قد وصلت إلى مربط الفرس، لقد وصلت إلى لب الموضوع. لماذا جئت بالفعل؟ ألَا يمكنك أن تخمِّن؟ يمكنني أن أخمن سبب وجودك هنا في الحال دون تفكير.»

سأله مارستن: «لماذا؟» وكان منزعجًا بعض الشيء.

«أوه، الأمر بكل بساطةٍ أن طبيبًا أحمق لا يفقه شيئًا في الطب أرسلك إلى هنا. أنت هنا من أجل الهواء العليل يا فتى: إنك لم تأتِ من أجل الاجتماعيات، فلا بد أنك أتيت من أجل الهواء؛ فذاك هو الشيء الوحيد خلاف الاجتماعيات الذي تمتلكه إيستبورن. لقد أخبرَك الطبيب بأنَّك ستتعافى في غضون أسبوع، وستفعل، إذا ما تمكنت من الاحتفاظ برشدك طوال هذه المدة. كنت سأجنُّ، رغم أني عاقل كما ترى، لو أُجبرت على العيش في هذا المكان أسبوعَين، كنت سأجنُّ، وأقسم على ذلك بشرفي! لا، إنك لم تلتقني في إيستبورن من أجل الهواء العليل أو التفاعل الاجتماعي، ولكني أتيت من أجل الاجتماعيات أيضًا، بصورةٍ ما، إلا أن الأمر لم ينجح؛ وها أنا ذا عالقٌ هنا مع سائق عربة وسائس خيل، بخلاف خادم خاص، وحصانَين، وواحدة من أفضل العربات التي غادرت لندن على الإطلاق. هذا ركبي هناك. دائمًا ما أقود عربةً بحصانَين بالطبع؛ فهي الطريقة الوحيدة الصحيحة لقيادة العربات. لا أقصد بذلك أنني لا أهتم بأسلوب القيادة — آمل أني تخطَّيت كل هذه الأمور — وليسَت مسئوليتي أن كثيرين آخرين يفعلون المثل؛ فأنا أحبُّ العربات ذات الحصانَين لذاتها. هل قدت عربةً ذات حصانَين من قبل؟»

قال مارستن: «لا، على الإطلاق»، قالها وهو ينظر إلى عربة بارني الجميلة التي كان يقودها ببطءٍ جيئةً وذهابًا على طول الطريق رجلٌ يرتدي حلةً أنيقة. كان قد رأى العربة من قبل، ولكنه في تلك اللحظة كان يرمقها باهتمامٍ جديدٍ بعدما أعلن بارني بتواضعٍ أنه مالكها.

«إن قيادتها ليست سهلةً مثلما تبدو. فلا يمكن لأي أحمق أن يقود عربةً ذات حصانَين، على الرغم ممَّا يُقال عن كوني أحد أوائل سائقي العربات ذات الحصانَين في لندن. أنا لا أدَّعي ذلك بالطبع، ولكن ثمَّة مَن يدَّعون ذلك، وقد نصَّبوا أنفسهم قضاةً أيضًا. ولكن لا متعة في القيادة بمفردك؛ فلكي تستمتع بقيادة عربةٍ ذات حصانَين، تحتاج إلى فتاةٍ جميلةٍ تجلس بجوارك.»

«ألَا يوجد فتيات جميلات في إيستبورن؟»

«يوجد يا صديقي، وهذا تحديدًا ما أريد التحدُّث إليك بشأنه. دعنا نجلس هنا تحت هذه الظُّلة لأني أريدك أن توليني كامل انتباهك. لقد أسديتك معروفًا ذات يوم، على الرغم من أنه كان لشخص آخر، أليس كذلك؟»

«بلى. لقد أسديتني معروفَين على الأقل.»

«حسنًا، لا بأس. وربما سأسديك في المستقبل معروفًا ثالثًا أو رابعًا، مَن يدري؟ وأذكر هذا المعروف لأنني سأطلب منك معروفًا كبيرًا الآن. وهذا ما جعلني سعيدًا للغاية برؤيتك بالطبع إلى جانب سعادتي بالحديث معك مرةً أخرى في هذه المدينة الكئيبة. كنت أفكِّر في الأمر الآن وأتساءل عمن يمكنه مساعدتي، وعندما رفعت بصري لأعلى، وجدتك أمامي. دائمًا ما تساعدني العناية الإلهية عندما أقع في مأزق، دائمًا. ولطالما علمت أنها لن تخذلني، رغم أني لست بالرجل الذي يمكن أن تصفه بالتقي. أعتقد أنك لم تأتِ إلى هنا لشيءٍ بعينه، أليس كذلك؟»

«لا شيء سوى المتعة.»

«قُضيَ الأمر إذن. وبما أنه لا توجد أيُّ متعةٍ هنا، فلربما يمكنك أن تحوِّل مسارك وتساعدني، ستكون مزحةً رائعة. أنا بحاجةٍ إلى رجلٍ ذكي ولا أعتقد أني قد أعثر عليه في إيستبورن؛ فلو كان ذكيًّا لما بقي فيها. كما أنه يجب ألَّا يكون رجلًا معروفًا في البلدة، هل تفهم ما أقول؟ كذلك يجب أن يكون ملمًّا بالطبقات العاملة وطرائقهم وعاداتهم، وكما ترى يا صديقي، لقد أرسلَت لي العناية الإلهية الرجل الذي أحتاج إليه تمامًا. عدني أنك ستساعدني.»

«سأفعل إن استطعت.»

«ستفعل! أنت الشخص الذي يستطيع مساعدتي، ولا يمكن لأي شخص آخر أن يفعل لي ما أريده بنصف كفاءتك. قبل كل شيء، هل رأيت ابنة سارتويل من قبل؟ إن لديه ابنةً واحدةً فقط.»

«رأيتُها من قبل؟»

«نعم. كانَت من بين الحضور في حفل الاستقبال في مرسمي يوم أتيت إلى هناك. لا أظن أنك قد لاحظتها وسط هذا الحشد من الحاضرين، ولكنها كانت أجملَ فتاةٍ في الغرفة بكل المقاييس.»

«نعم، رأيت الآنسة سارتويل من قبل. كانت معتادةً زيارةَ والدها في مكتبه على نحوٍ دائم.»

«هذا أيضًا جيد! هذا هو المؤهل الرابع المطلوب في الشخص الذي سيُساعدني؛ ومن ثم أصبحت تدرك أنك الرجل المناسب تمامًا لأداء المهمة. تصادف أن هذه الفتاة الساحرة في إحدى المدارس في إيستبورن، وهذا هو باختصارٍ سبب حضوري إلى هنا. أريد أن أبعث رسالةً إلى الآنسة سارتويل في المدرسة، وأريد منك أن تتولَّى تسليمها إليها.»

«أوه، لا أعتقد أنه يجدر بي أداء مهمةٍ من هذا القبيل يا سيد هوب. فإذا علم السيد سارتويل أنني …»

قاطعه بارني واضعًا يده على كتف مارستن بطريقة ودود، قائلًا: «صديقي العزيز، لا بأس، ثِق بي. نحن لا نفعل أي شيءٍ في الخفاء. يا إلهي، أنا واثقٌ من أنك لا تظنُّني من هذا النوع من الرجال يا لانجتون! أوه، لا! إن لديَّ إذنًا من والدها.»

«لماذا لا تذهب إلى المدرسة إذن وتقابلها؟»

«لأن الأمر، يا صديقي العزيز، معقدٌ بعض الشيء. يمكنني أن أحصل على إذنٍ من الآباء متى أردت؛ فالمال كفيلٌ بذلك. والفتيات في العموم يعجبْنَ بي، ولن أقول إن السبب الوحيد في ذلك هو المال، لا، عليَّ أن أمدح نفسي؛ فأنا حسن المظهر، وعلى درجةٍ معقولةٍ من الذكاء، ولديَّ سمعة فنية لا شك في تحقُّقها، ولكن كبار السن لا يهتمُّون إلا بالمال. وأنا وسارتويل يفهم أحدنا الآخر. ولكي أكون صريحًا ومباشرًا، فهو يقول لي بطريقة عملية: «بارني أنت أحمق، ولكنك ثري، ولا أظن أنك أكثر حماقةً من شابٍّ عادي من شباب هذه الأيام؛ ولذا أفتح لك الطريق، فاذهب يا بني، وفُز بقلبها.» وأنا أقول لسارتويل: «أنت عجوز فظ حاد الطباع سريع الغضب يمتلك حسًّا فنيًّا لا يختلف عن حس برج صناعة الطلقات، ولكن ابنتك كالملاك، وأنا أملك من المال ما يكفي كلَينا.» وكما ترى، لم أهتمَّ قط بالمال إلا لكي أحقِّق غاياتي. وهذا هو الموقف بيننا الآن. كان سارتويل سيأتي إلى هنا معي، ولكن بعدما انطلقت، أرسل برقيةً إلى مرسمي يقول فيها إنه مشغولٌ للغاية في المصنع بعد عودة جميع العمال مجددًا، ويريد مني تأجيل زيارتي أسبوعًا. لذا اضطُررت لأن أُحضر الخيل والعربة إلى هنا، فانطلقت بالعربة، وغادرت لندن قبل يومٍ من الموعد الذي كان من المفترض أن أُغادر فيه. ثم واجهَتني العقبة الحالية. ذهبت إلى المدرسة وطلبت لقاء الآنسة سارتويل قائلًا إني صديقٌ لوالدها، إلا أن السيدة المسئولة رمقَتني بنظرة شك، نعم، لقد فعلَت دون شك، يا صديقي، وأعلم أنه من الصعب تصديق ذلك. قالت السيدة إنها لا يمكن أن تسمح للآنسة سارتويل بلقاء أي شخص، إلا إذا كان بصحبة والدها. كما أنها لن تتسلَّم أي رسائل للفتاة، ولم أدرِ ماذا أفعل. لقد كتبت خطابًا إلى الآنسة سارتويل من الفندق الذي أقيم به هنا، ولكن فتحته أنثى التنين تلك ثم أعادَته إليَّ طالبةً مني ألَّا أحاول التواصل مع أيٍّ من الفتيات اللاتي تتولَّى مسئوليتهن. وها هي العربة الأنيقة ذات الحصانَين، وها هي الفتاة الجميلة، وها أنا أهيم على وجهي متشوقًا لاصطحابها في جولة بالعربة. هذا هو الموقف باختصار، وأريدك أن تساعدني عبر حمل رسالة إلى الآنسة إدنا.»

«لا أعلم كيف يمكنني فعل ذلك. فأنت، رغم حصولك على إذن والدها، لم تتمكن من رؤيتها ولو لحظات، فكيف سأتمكن أنا من ذلك؟»

«أوه، لقد رتَّبت كل شيء. فكرت في البداية أن أرسل شابًّا إلى هناك يدَّعي أنه نجار أو سباك، ولكن مواسير المدرسة ونجارتها في حالة جيدة على حد علمي. ثم حضرني إلهام؛ فأنا رهن الإلهام. الرجل الذي يعتني بحديقة المدرسة يعيش في البلدة، وهو على أتم استعدادٍ لمساعدتي، في الواقع لقد أغدقت عليه العطاء. المشكلة أن جميع مساعديه ريفيُّون حمقى لن يتورَّعوا عن إفساد مهمةٍ حساسةٍ كتلك، ولكني كنت سأُغامر وأمضي في خطتي قدمًا غدًا مع أحدهم عندما وقعَت عليك عيناي، فقلت في نفسي: «هذا هو الرجل المناسب!» فأنا دائمًا ما أميِّز الرجل المناسب عندما ترسله إليَّ العناية الإلهية. هذا هو السر الأهم للحياة الناجحة؛ أن تكون قادرًا على ملاحظة العطايا التي تُرسلها لك العناية الإلهية لحظة إرسالها لك. أغلب الناس يضلون طريقهم لأنهم لا يقدِّرون تدخُّل العناية الإلهية إلا لاحقًا. سترتدي ثياب بستاني، وتُمسك مكنسةً قبيحة وثقيلة في يدك، وتذهب إلى مدرسة هاي كليف لتكنس الممرات وما إلى ذلك. وعندما تخرج الفتيات للتنزُّه، تتحيَّن الوقت المناسب وتخبر الآنسة إدنا بأني أنتظرها هنا مع العربة ذات الحصانَين. يُسمح للفتيات بالخروج في مجموعاتٍ من ثلاث فتياتٍ في المرة الواحدة. يمكن لفتاتَين منهن أن تجلسا ظهرًا لظهر في العربة، على أن تجلس إدنا بجواري. أخبرها بأن تتخيَّر اثنتَين من صديقاتها ممَّن يمكنها الوثوق بهن، وسنذهب جميعًا في جولةٍ ممتعةٍ بالعربة. وإذا تردَّدَت، فأخبرها بأني أتيت إلى هنا بإذنٍ من والدها، ولكن لا تقُل هذا إلا باعتباره خيارًا أخيرًا. فأنا أفضِّل كثيرًا أن تأتي من تلقاء نفسها.»

«ما لا أفهمه في خطتك هو سبب وجودها من الأساس، إذا كنت حصلت على إذن السيد سارتويل … لا، لا، أنا لا أشكِّك في كلماتك … كان عليَّ أن أقول بما أنك حصلت على إذن والدها … فلمَ لا ترسل له برقيةً تخبره فيها بأنك هنا، وتجعله يرسل برقيةً إلى المعلمة في المدرسة يطلب فيها السماح للآنسة سارتويل بالخروج معك في نزهةٍ بالعربة، مع مرافقٍ مناسب بالطبع؟»

«عزيزي لانجتون …»

«مارستن، من فضلك.»

«أوه، نعم، بالطبع. عزيزي مارستن، إن ما تقترحه يسيرٌ للغاية، وهو بالضبط ما سيفكر به أيُّ عقل منظم. فهذا هو التصرف العقلاني وسيكون ملائمًا تمامًا. ولكن يا صغيري مارستن، أنا أعرف عن النساء أمورًا ربما لم تُتح لك الخبرة الكافية بعدُ لمعرفتها. أنا لست بحاجةٍ للحصول على موافقةٍ تامةٍ من والدها على هذه العلاقة؛ لأن الفتيات الصغيرات يستمتعْنَ بالخروج في مغامراتٍ صغيرةٍ بريئةٍ بمفردهن دون إذن من آبائهن، هل تفهم ما أعنيه؟ وبالطبع، إذا لم يدرِ رأس المشكلة في هذه القصة ما عليه أن يفعل، فسيلجأ في نهاية المطاف إلى السلطة المناسبة، ولكنك تعلم أني قد التقيت هذه الفتاة كثيرًا تحت عينَي والدها، إن لم يكن في ذلك تجاوز، وعلى الرغم من أنها جذابةٌ وجميلةٌ للغاية ولا ينقصها شيء، فلا يبدو أنني أحرز معها التقدُّم الكافي كيفما أريد. وإضافة لمحة من … تفهم ما أعنيه … هذا الشيء … أعني الرومانسية ومثل هذه الأشياء، تساوي كل عبارات المباركة التقليدية الجاهزة التي يردِّدها الآباء. ستعرف كل شيء عن ذلك عندما يتقدَّم بك العمر يا فتى.»

«سيد هوب …»

«اسمع يا فتى، ادعُني بارني. قلَّة فقط من أصدقائي هم من يدعونني «سيد هوب»، وعندما ينطق أحدٌ هذا الاسم، دائمًا ما أظن أنه يقصد أبي الذي يمتِّع نفسه حاليًّا إلى أقصى مدًى في دريسدن، أو في مكانٍ ما قريبٍ منها. كنتَ على وَشْك أن تقول …»

«كنت على وَشْك أن أقول إنني كنت أودُّ بشدةٍ أن أُلبِّي لك مطلبك، ولكن لديَّ مخاوف بشأن ما تطلبه مني.»

«مارستن، معذرةً لِمَا سأقول، ولكني أخشى أنك مثل بقية البشر في العالم. دائمًا ما يرغب الناس في تنفيذ ما تطلبه منهم، ولكنهم يرفضون تنفيذ المطلب الذي تريده منهم، إذا كان المغزى من كلماتي واضحًا. إذا ما رغبت في اقتراض خمسة جنيهات، فسيفعلون كل ما يمكنهم فعله من أجلك ما عدا إقراضَك إياها. وهذا ما يحدث الآن، بغضِّ النظر عن رغبتك في اقتراض خمسة الجنيهات، سأعطيك هذا المبلغ، بل سأعطيك ورقةً بعشرة جنيهات، إذا ما وافقت على أداء هذه المهمة.»

«أوه، إذا وافقت على أداء المهمة، فلن آخذ أي مال مقابل ذلك.»

«ولكني لا أريد أن يؤدِّي لي أيُّ شخصٍ خدمةً من منطلق المحبة. فأنا لا أُومِن بذلك. إذا بعت لوحة، أريد الحصول على السعر المحدد لها، نعم، أقسم لك بأنني سأفعل!»

«وإذا ما أديت هذه المهمة، فستكون في سبيل المحبة الخالصة، دون أي اعتباراتٍ أخرى. ولكني لا أعتقد أني سأكون أمينًا أو نزيهًا إذا ما أديتها. لا يمكنني أن أخبرَك بسبب اعتقادي هذا؛ فكل ما أريده هو أن أنفِّذ ما تطلبه مني، ولكني على يقين من أنني يجب أن أقول لا، لو كنت شخصًا نزيهًا تمامًا كما أودُّ أن أكون.»

«أنا أقدِّر مخاوفك يا صديقي العزيز، ولكني أؤكِّد لك أن لا محل لها من الصحة في موقفنا هذا. أؤكد لك ذلك. كما أنك قطعت على نفسِك وعدًا وسأُلزمك به. لن أهرب معها وأتزوَّجها دون رغبتها ورغبة ذويها جميعًا. لو أردت مقابلة الفتاة دون رغبة والدها، فقد يكون لك كل الحق في الاعتراض على ما أعتزم فعله، ولكني لا أريد ذلك، ألَا ترى أن الحقيقة تصنع كل الفارق في هذا العالم؟ إنك تدرك ذلك دون شك. على الرجل أن يبذل قُصارى جهده من أجل الفتاة التي يحبُّها، وسيكون جبانًا لو لم يفعل. لهذا السبب أتحمَّل كل هذه المشقة ولا أبرح تلك البلدة البائسة الموحشة. إذا لم ترَ الفتاة أنك تُجابه بعض المشقة لكي تراها، فلن تفكِّر بك كثيرًا أو دائمًا، ثِق بي في ذلك.»

«أعتقد أنك محق. سأذهب.»

صاح بارني متحمسًا وهو يضرب على كتف رفيقه بقوة: «إنك لشخصٌ طيب القلب يا مارستن! نعم يا فتى، شخص طيب ومعدنك أصيل!»

«أخشى أن معدني من أرخص أنواع المعادن يا سيد هوب. أعتقد أنك تؤمن بمقولة: «كل شيءٍ في الحب مباح»؟»

«أُومِن بها بالطبع يا صديقي العزيز، إنه المبدأ الذي أرتِّب حياتي اليومية وفقًا له.»

«حسنًا إذن. ولكني لن أحمل رسالةً شفهية؛ فقد لا تسنح لي الفرصة لتوصيلها، كما أني قد أنسى جزءًا منها، أو أحرِّف صياغتها بطريقةٍ تجعلها مضللة. إذا كتبت ما تريد أن تعرفه الآنسة سارتويل بالضبط وأعطيتني الخطاب، فسأوصله لها حتى وإن سنحت لي أقل فرصة.»

«أنت محق يا صديقي! والآن، تعالَ معي وسأعرِّفك بالبستاني ونرى إذا كان يمتلك ثوبًا يناسبك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤