الفصل الثالث

بينما كان الأب وابنته يقتربان من ويمبلدون، كان الصمت يخيِّم عليهما. ربما كان ذلك لأنهما تحدَّثا كثيرًا في المكتب. وعندما عبرا بوابة المحطة، قال سارتويل:

«سنستقل عربة أجرة يا إدنا، وسُحقًا للنفقات.»

«لا أُمانع السير على الإطلاق؛ فلا يوجد ضباب هنا.»

«لقد تأخَّر الوقت؛ لذا سنستقل عربة أجرة.» وبمجرد أن ركبا العربة، أضاف متأملًا: «إني لأتساءل عن السبب في أن يُنظَر لعربة الأجرة على أنها من مظاهر البذخ في ويمبلدون، بينما يُنظَر لها على أنها اقتصادية في لندن.»

كان واضحًا أنه لا أحد منهما يمكنه حل هذه المعضلة؛ لذا لم يُضِف أيٌّ منهما كلمةً أخرى، حتى توقفت العربة أمام باب حديقةٍ مُسَوَّرةٍ في شارع هادئ بالقرب من الحديقة العامة ذات النسيم المنعش. أدخل سارتويل مفتاحه في الباب، وأبقى الباب مفتوحًا وجعل ابنته تمر قبله. وعلى بعد نحو مائة ياردة من الشارع، وقف منزل مربع الشكل محاط بالشجيرات وأحواض الزهور. سار الاثنان بحذرٍ شديدٍ على الطريق المغطاة بالحصى الذي كان يُصدر صوتًا مقرقعًا، وفتحا الباب الأمامي، ودخلا إلى رَدهةٍ خافتة الإضاءة. وضع سارتويل قبعته على حامل القبعات، ودفع باب غرفة الطعام ليفتحه ودخلها، تتبعه ابنته من ورائه هذه المرة. كان ثمَّة العديدُ من المقاعد المريحة في الغرفة، عدا واحد. وعلى هذا المقعد جلسَت امرأةٌ طويلةٌ ونحيلةٌ بعض الشيء لم تعُد في ريعان شبابها. كانت تجلس منتصبةً في مبالَغة، دون أن تسمح لكتفَيها بالاستناد إلى ظهر المقعد. وارتسم على وجهها تعبير صبور جعلها أشبه بضحية صموت، تعبير لا يرتسم إلا على وجه امرأةٍ أساء العالم القاسي معاملتها، ولكنها قرَّرت ألَّا تسمحَ لمعاملته السيئة بأن تؤثِّر على عدالتها الفطرية في تعامُلها مع بَني جلدتها من البشر.

قالت المرأة بلطف، بنبرة شخص ربما يكون مخطئًا فيما يقول وعلى استعدادٍ لتقبُّل مَن يصحِّح له خطأه: «أعتقد أني سمعت صوت عربة أجرة تقترب وتتوقف.»

قال سارتويل ملقيًا نفسه على مقعدٍ ذي ذراعَين: «هذا صحيح. عندما تأخر الوقت، ركبت عربة أجرة من المحطة.»

«أوه!»

ثمَّة الكثير يمكن أن تعبِّر عنه صيغة التعجب تلك التي تبدو بلا معنًى. عنَت هذه الكلمة أن السيدة سارتويل، رغم صدمتها ممَّا قيل، قد استسلمت للمحتوم، بإدراكها أنها قد تزوَّجت رجلًا لا يُذعن إلى العقل والمنطق، وعلى الرغم من أنها كانت قادرةً على قول الكثير عن تأثير التبذير غير الضروري، فقد كبحت جماح نفسها، مدركةً أنها لن تتلقَّى أي إطراءٍ على سماحتها تلك.

مرَّت بضع لحظاتٍ صامتة قضَتها السيدة سارتويل في الفحص المُدقِّق لأعمال الحياكة التي كانت منهمكةً فيها، ثم رفعَت بصرها ناحية زوجها وقالت:

«إني لأتساءل عمَّا إذا كان العمل هو ما أبقاك في المكتب حتى هذه الساعة المتأخرة حسبما أظن.»

«عمل مهم.»

تنهَّدت السيدة سارتويل.

وقالت: «لطالما كان ذاك هو الحال. كان يجدر بي أن أعلم ذلك دون أن أسأل. بعض الرجال يجعلون من العمل إلههم، رغم أنهم سيدركون يقينًا أنه إله زائف لا ينفع ولا يضر عندما تحين النهاية. ثمَّة شيء اسمه الواجب مثلما هناك شيء اسمه العمل، وعلى الرجل أن يفكِّر، ولو قليلًا، في زوجته وبيته.»

بدت تلك العبارة الأخيرة غير قابلة للجدل، حتى إن سارتويل لم يكلِّف نفسه عناء الاعتراض. فجلس في مقعده مُسندًا رأسَه إلى الخلف، وأغمض عينَيه، وعقد كلتا يدَيه أمام ركبته. لطالما اعتبرَت السيدة سارتويل هذا التصرُّف الملاذ الأخير للشخص المتهكِّم؛ تصرُّف سيكون مطالَبًا بتبريره، مثلما يتعيَّن على الشخص الآثم أن يُبرِّر أفعال الشر التي يأتي بها.

قالت إدنا: «كان لدى أبي الليلة مشاغل أكثر من المعتاد.» كانت تقف بجوار الطاولة وقد خلعَت قبعتها وقفازها.

علَت دهشةٌ خفيفة قَسَمات وجه السيدة سارتويل. فالتفتَت ببطء، وتفحَّصت ابنة زوجها ببرودٍ من قمَّة رأسها حتى أَخمَص قدمَيها. كان يبدو أنها لم تنتبه إلى وجودها إلا الآن، الأمر الذي قد لا يفسِّره إلا أن الفتاة دخلت الغرفة خلف والدها.

قالت السيدة سارتويل: «إدنا، كم من مرةٍ أخبرتكِ بألَّا تضعي قبعتكِ وقفازكِ على طاولة الطعام؟! ثمَّة مكان مخصص لكل شيء. أنا على يقين من أنكِ عندما تزورين والدك في مكتبه، الأمر الذي تحبينه كثيرًا، تجدين كل شيءٍ في مكانه؛ لأن والدك، على الأقل، رجل منظم. ولا شك في أنكِ لم ترثي عاداتك الفوضوية منه، ويشهد الجميع، ربما عداكِ أنت ووالدك، بأنكما تعيشان في منزل منظم. من أين جاءت تلك البقعة التي تلطِّخ ثوبك؟»

خفضت إدنا بصرها بسرعة لتنظر إلى تنورتها، وللأسف! كانت عجلة العربة قد تركت علامةً عليها. لم تكن السرعة البطيئة هي العيب الوحيد للعربات ذات الخيل في الأيام الموحلة.

قالت السيدة سارتويل: «إنكِ لخيبة أمل كبيرة بالنسبة إليَّ يا إدنا، إنكِ مهملة للغاية، ولا أحد يعلم كم يؤلمني أن أقول ذلك. إنكِ لم ترتدي هذه التنورة إلا منذ …»

صاح والد إدنا بنبرة قاطعة قائلًا: «إدنا، هل أنتِ جائعة؟»

«لا، يا أبي.»

«هل أنتِ واثقة من ذلك؟»

«تمام الثقة. لا أشعر بأي جوع على الإطلاق.»

«اذهبي إلى فراشك إذن.»

اتجهت إدنا نحو الطاولة إلى حيث تجلس زوجة أبيها، وطبعت قبلةً على خدها.

وقالت: «طابت ليلتك.»

غمغمت السيدة سارتويل متنهِّدة: «طابت ليلتك يا طفلتي المسكينة.»

قبَّلت الفتاة والدها وهمست في أذنه في هذه الأثناء قائلة: «أخشى أنني قد عدت طفلتكَ الصغيرة مجددًا بطريقة أمرك لي بأن أذهب لأنام.»

قال والدها: «ستظلين في نظري دائمًا طفلتي الصغيرة يا عزيزتي. طابت ليلتك.»

تنهَّدت السيدة سارتويل مرةً أخرى، بينما كانت إدنا تُغلق الباب من خلفها.

وقالت: «ظني أنك تعتقد أنه من اللائق أن تهمس في أذن إدنا بهذه الطريقة أثناء وجودي في الغرفة، وإلا لم تكن لتفعل ذلك. هل تتوقع أن تُكنَّ الفتاة أي احترام لي وأنت تسمح لها بأن تهمس …؟»

«هل ثمَّة شيء لنأكله في هذا المنزل؟»

«أنت تعلم أنه دائمًا ما يوجد شيء لتأكله في هذا المنزل.»

«حسنًا، هل ستدقين أنتِ الجرس، أم أدقه أنا؟»

«لا يمكن أن تتوقع أن يظل الخدم مستيقظين طوال الليل …»

«حسنًا إذن، أعطني المفاتيح وسأذهب لأُحضر لنفسي طعامًا.»

ارتعشت شفتا السيدة سارتويل، بينما كانت تطوي ما تحيك في نظام، وتلفُّه حول الإبرة، والكشتبان، والعديد من لوازم الحياكة الأخرى في حزمةٍ واحدة، ثم تضعها في مكانها في سلَّة الحياكة. وجلجلت المفاتيح المعلَّقة في خصرها وهي تنهض من جِلستها.

وقالت: «أنا على استعداد، ولطالما كنت على استعدادٍ لأن أُحضر لك أي شيءٍ تريد وقتما تريده. قد تكون توقعاتي تفوق الحدود، ولكن أعتقد أنه يجدر بك أن تطلب ما تريد بطريقةٍ متحضِّرة. إذا كنت تعامل رجالك كما تعامل زوجتك، فلا عجب في أنهم سيُضربون عن العمل.»

لم يردَّ سارتويل، وبقيَ جالسًا في مكانه مغمضًا عينَيه حتى أخبرته زوجته، بصوتٍ متهدج، أن عشاءه جاهز. كانت مأدُبة عامرة، تضم من الشراب أفخر أنواع البيرة أو الكحوليات؛ فقد كانت إحدى نقاط ضعف سارتويل اعتقاده بأن على الرجل لكي يعمل جيدًا أن يأكل جيدًا. وعلى الرغم من أن زوجته لم تكن تؤمن بهذا التدليل أو تقبله، فإنها لم تكن تتوانى عن توفير كل ما يريد؛ ألَا تكون المرأة بلا حولٍ ولا قوةٍ في موقف مثل هذا؟ وبينما كان رجل البيت يأكل في صمت، رمقَته بنظرةٍ أو اثنتين أثناء عملها في الحياكة، وقالت أخيرًا في شفقة:

«أنا واثقةٌ من أن إدنا كانت جائعة، ولكنها خشيَت أن تُفصح عن ذلك؛ فقد كنتَ فظًّا معها للغاية. قد يعتقد المرء أنك إذا كنت لا تُكنُّ أي مشاعر لزوجتك، فسيكون لديك بعض المشاعر تجاه ابنتك الوحيدة.»

قطع سارتويل شريحةً أخرى من اللحم البارد، ونقلها إلى طبقه.

واصلت السيدة سارتويل حديثها قائلة: «لقد اعتدتُ معاملتكَ هذه، وآمل أن أكون اعتدتها بالفعل، ولكنها لا تزال صغيرةً ولا شيء يشوِّه شخصية الصغار أكثر من القسوة والغلظة اللتَين بلا مبرِّر. إنك تغض الطرف عن أخطائها الحقيقية، ثم تقسو عليها عندما لا تكون ثمَّة حاجة للقسوة. ماذا فعلت الفتاة حتى تأمرها بأن تذهب إلى فراشها بهذه الطريقة؟»

صمتَت لبرهةٍ انتظارًا لسماع إجابة على سؤالها، ولكنه لم يُجِب. كانت السيدة سارتويل معتادةً على ذلك، كما قالت؛ إذ كان قاسيًا في صمته مثلما كان قاسيًا في حديثه؛ لذا أخذَت تتفحَّص خصمها مثلما يفعل شخصٌ يبحث عن نقطة ضعفٍ في درع خصمه يمكن أن ينفذ منها طرفُ سيفه. ثم قبضت بقوةٍ على مقبض السيف، ودفعته ببطءٍ إلى الأمام. فكان أن نحَّت الحياكة جانبًا وهي تتنهَّد بصوتٍ مسموعٍ بالكاد، وقالت بصوتٍ خفيض:

«مثلما قلت للسيدة هوب عندما زارَتني …»

التفت سارتويل نحوها فجأةً وصاح: «قلتِ لمَن؟»

«أوه، لم أكن أعتقد قط أنك مهتم بزُواري. أظن أنه مسموح لي بأن يكون لي بعض الأصدقاء. ولكن إذا كنت ترغب في أن أقبع في المنزل طوال اليوم وحيدةً بمفردي، فمرني بذلك فحسب، ولسوف أُطيعك.»

«كُفي عن الهراء إذا كان باستطاعتك ذلك. ماذا كانت السيدة هوب تفعل هنا؟»

«كانت تزورني.»

«حسنًا إذن. أعتقد أنني أفهم ذلك جيدًا. ما الغرض من زيارتها؟ أي بدعةٍ جديدة جاءت بها هذه المرة؟»

«أعتقد أن عليك أن تخجلَ من الحديث عن زوجة رب عملك بهذه الطريقة، وهي التي لم تفعل شيئًا سوى أنها شرَّفت زوجتك باستشارتها …»

«بشأن ماذا؟ هذا ما أريد أن أعرفه.»

«بشأن الإضراب.»

«آه!» لاح في عينَي سارتويل بريق غضب، ونظرت له زوجته ببعض القلق.

«السيدة هوب امرأةٌ تسعى إلى فعل الخير. وهي مهتمةٌ كثيرًا بالعمال في «المصنع»، وتُفكِّر في زيارة زوجاتهم وأسرهم لتتفقَّد بنفسها أحوال معيشتهم. تعتقد أنه ربما كان ثمة ما يمكن فعله من أجلهم.»

«حقًّا؟»

«نعم. إنها تتساءل عمَّا إذا كنت تتحرَّى الصبر والكياسة معهم.»

«وإلامَ توصَّلت؟ لا شك في أنكِ أخبرتها أنني قد تعلمت الكياسة على يدَيك، وأن كل شيء على ما يرام فيما يتعلق بهذا الشأن.»

صاحت السيدة سارتويل في ثورة: «لقد أخبرتها بالحقيقة.»

«ألا وهي أن …؟»

«أنك رجل عنيد ومتسلِّط لا يطيق أن يعارضه أحد.»

«لقد أصبتِ كبد الحقيقة مرةً واحدةً في حياتك. وماذا قالت؟»

«قالت إنها تتمنى لو أنك راعيت أسر العمال المساكين.»

«وأنتِ قلتِ لها إني لا أراعي أسرتي من الأساس، فمن غير المرجَّح أن أُولي الكثير من الاهتمام بزوجات وأسر العمال.»

«لم أقل ذلك، ولكني فكَّرت في قوله.»

«يعجبني كبحكِ لجماح نفسك! والآن أنصتي لي يا سارة، أنت تلعبين بالنار ولا تدرين أنكِ تفعلين ذلك. السيدة هوب امرأة فضولية حمقاء مختلة، و…»

«أنت لا تجرؤ على قول ذلك لرب عملك.»

«تعليقكِ هذا يدل على أن امرأةً في مكانتكِ قد تعيش مع رجلٍ سنواتٍ دون أن تتمكَّن من فَهْم شخصيته. المشكلة هي أنني سأقول ذلك تحديدًا لرب عملي، كما تحبين أن تصفيه، بمجرَّد أن تحشر زوجته أنفها في الأمر. وماذا سيحدث حينها؟»

«ستخسر وظيفتك.»

«بالضبط. أو لمزيد من الواقعية في التعبير، سأستقيل؛ سأخرج إلى الشارع.»

«ولكنك لن تفعل شيئًا بهذا الغباء.»

«سيحدث ذلك في اللحظة التي أكون فيها مجبرًا على الإدلاء برأيي للسيد هوب في علاقاته الأسرية. وماذا سيحدث حينها لدَخْل هذه الأسرة؟ هل ستساهم السيدة هوب في الإنفاق عليك، هل تظنين أنها ستفعل؟ هل تطمحين في مكانٍ لكِ على قائمة أعمالها الخيرية؟ أيًّا كان رأيكِ فيَّ، وسواء أضمرتِه أم أعلنته، فعليكِ أن تُقرِّي بأني أضخُّ مالًا يكفي، على الأقل، لاستمرار هذا البيت، وأنا على يقينٍ من أنكِ عاقلةٌ بما يكفي لتقدِّري ذلك. أنت لم تستطيعي طوال حياتكِ أن ترَي أبعد من أرنبة أنفك، أو تدركي أن النتيجة تتبع السبب لا محالة مثل القدر المحتوم. لا أستطيع أن أفهم كيف لامرأة أن تصف رجلًا بأنه عنيد ومتسلط، ولا يصبر على أي شيء، ثم تتعمد التشدُّق بالحديث لتتسبَّب في حدوث التدخُّل الذي تعرف حتمًا، إذا كانت تصدِّق ما وصفته به، أنه لن يتحمَّله. إن ثرثرتكِ اليوم قد تحتِّم عليَّ البحث عن عملٍ آخر غدًا.»

كانت السيدة سارتويل تبكي خلال الجزء الأخير من هذه الخطبة.

وقالت باكية: «أنا دائمًا مَن يُلقى عليها اللوم في أي شيء خاطئ. أمَّا طبعك المتسرع الجامح فلا يُحمَّل أي لوم. لو قرَّبتني إليك واستشرتني في أمورك … رجال آخرون يستشيرون زوجاتهم، رجال أفضل منك، وأكثر ثراءً ممَّا ستكون عليه يومًا. تقول السيدة هوب إن زوجها …»

«لا أريد سماع المزيد عن السيدة هوب.»

«أنت مَن أصر على الحديث عنها. لم أرغب في قول أي شيء، ولكنك ظَلِلت تستجوبني حتى بُحت بكل شيء مضطرة، والآن تُلقي باللوم عليَّ.»

«حسنًا، فلندع الأمر عند هذا الحد. أحضري لي دورقًا من الحليب، من فضلك.»

«هل أنت واثق من أنك ستشرب الحليب بعد البيرة؟»

«أُطالب بحقي كمواطن بريطاني في أن أكون حرًّا في شُرب ما يحلو لي من شراب. دعينا لا نتشاجر حول هذا الأمر.»

«ولكنك بذلك لن يَغمُض لك جفن يا جون. أنا أتحدث من أجل مصلحتك.»

«إن كل ما تفعلينه لصالحي يا سارة، وربما كان هذا هو سبب نفاد صبري.»

«حسنًا، أنت تعلم كيف تُصبح حالتك بعد ليلةٍ بلا نوم.»

«نعم، نعم أعلم. أعتقد أني لن أتمكن من النوم الليلة على أي حال. أحضري الحليب أو أخبريني بمكانه.» كانت السيدة سارتويل تنهض دائمًا عندما يقول زوجها إنه سيُحضر شيئًا بنفسه من خزانة المؤن. ووضعت دورق الحليب بجوار يده.

قال سارتويل: «لديَّ العديد من الأمور لأفكِّر فيها. أُريد أن أكون بمفردي.»

كانت تقف بجوار الطاولة وتحدِّق إليه.

وأخيرًا قالت متلعثمة: «طابت ليلتك يا جون.»

رد عليها قائلًا: «طابت ليلتك.»

ظلَّت تحدق إليه بنظراتٍ لائمةٍ في صمت، ولكنه لم يرفع رأسه، فاستدارَت في نهاية المطاف مطلقةً تنهيدةً عميقة، وتركَته لتأمُّلاته.

جلس سارتويل في مكانه وقد حفر القلق علاماته عميقًا في حاجبيه. كان الصمت يخيِّم على المنزل بأكمله. وأخيرًا نهض سيد المنزل واتجه نحو الطاولة. دهن شريحتَين من الخبز بالزبد وقطع قطعةً من الكعكة اللذيذة، ووضع كل هذا على طبقٍ حمله بيدٍ مع كأس للشرب. وبعدما أشعل شمعةً وأطفأ الغاز، بدأ في حركاته البهلوانية لموازنة طبق، ودورق، وشمعة معًا دون أن يسقط منه شيء. في البداية فتح الباب بهدوءٍ وألقى نعلَيه من قدمَيه. صَعِد سارتويل الدرج محمَّلًا بكل هذا بخطًى خرقاء، وكان يتحرك خلسةً كاللصوص، إلا أنه على الرغم من حذره، أصدر الدرج صوت صرير منذر بالخطر وسط السكون. ثم دخل إحدى الغرف دون أن يصدر صوتًا، وأغلق الباب من خلفه في هدوء وهو يضع حمله الثقيل على طاولة. عندما سقط الضوء على وجه الفتاة النائمة، فتحت عينَيها على اتساعهما، ثم غطَّتهما بيدها، وأطلقت ضحكةً خافتة، ضحكةً خفيفة ناعسة، ودفنت وجهها في وسادتها البيضاء.

قال لها والدها: «صه.»

استفاقت الفتاة من سُباتها على الفور.

همس لها والدها قائلًا: «كنت أخشى أنكِ جائعة على أي حال.»

«لم أكن جائعةً في حينها، ولكني جائعة قليلًا الآن.»

«جيد.»

وضع طاولةً صغيرة مستديرة بالقرب من الفراش، ووضع عليها الطبق ودورق الحليب.

«لا شك في أنكِ تعلمين أني عندما قلت لكِ أن تذهبي للنوم، كنت أريدكِ أن تنعمي بقسط طويل من الراحة. لقد كنتِ متعبة.»

«أوه، أعلم ذلك يا أبي.»

«طابت ليلتك إذن يا عزيزتي، ربما كان من الحمق أن أوقظكِ من نومك، ولكن سرعان ما ستخلدين إلى النوم مرةً أخرى.»

«على الفور، ويبدو هذا الطعام مغريًا. لم أكن أرغب إلا في كوب من الحليب. إنه لعطف جمٌّ منك يا أبي.»

وجذبت رأسه نحوها وقبَّلته.

وأضافت قائلة: «أتمنى لك نومًا هادئًا.»

«سأحرص على ذلك.»

ثم توقف عند باب الغرفة، وهمس بحذر بعد لحظة صمت قائلًا:

«إدنا، ستحملين هذه الأشياء إلى الطابق السفلي بنفسك في الصباح، في هدوء تام. فالخدم، كما تعلمين لا يحبون أداء أي عمل إضافي أحيانًا.»

«حسنًا يا أبي، فهمت.»

ثم انسلَّ سارتويل في هدوء كما لو كان لصًّا يتسلل في جُنح الليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤