الفصل السادس والثلاثون

عندما انتهى عامَا الدراسة في إيستبورن، عادت إدنا سارتويل إلى ويمبلدون، وعادت لتشغل مركزها المعتاد في منزل والدها. وبمرور الوقت، سُر سارتويل كثيرًا بغياب المشاحنات بين المرأتَين اللتَين في حياته، والتي كانت الذريعة التي تذرَّع بها لإرسال إدنا بعيدًا. لم يكن يأمل كثيرًا في أن يقلِّل العامان الماضيان من كراهية زوجته لابنته، والتي لم تحاول إخفاءها إلا قليلًا، ولكن في ظل هذا السلام الذي خيَّم على الأسرة، لم يحاول أن يتعمَّق في البحث عن أسباب هذا التغير المحبَّب. ولم يكن يعلم أن ابنته أصبحت تتحمَّل في صمت ما كانت تتمرد عليه سابقًا. فكان توجُّه السيدة سارتويل نحو التعليم بوجه عام موجهًا لإحباط من يناصرونه. فقد كانت تعتبر أن التعليم في المدرسة مضيعة آثمة للوقت والمال. وكانت تعتقد أن الحواريين لم يرتادوا مدرسةً داخلية، ومَن في العصر الحالي يُقارَن بالحواريين؟ لم يكن التعليم سوى أداة لتغذية ذلك الزهو المؤسف الذي كان بالفعل من السمات الراسخة لهذه الأمة المتغطرسة. وكان لديها الكثير من النصوص التي ذهبت إلى إثبات أن الكثير من التعليم شيء خطير، وكانت تُلقي هذه الاقتباسات باستمرار على مسامع إدنا، على أمل أن تخفِّف كثرةُ التكرار، إلى حدٍّ ما، من الشر الذي لا بد وأن يتبع قضاء فترةٍ في مدرسةٍ عصريةٍ وباهظة. كان الغرور المفرط هو الهم الأكبر الذي يؤرِّق السيدة سارتويل، باعتباره أسرع طريق يؤدي بالأمم المعاصرة نحو الهلاك مقارنةً بأي شيء آخر. أخبرَت السيدة سارتويل إدنا آسفةً بأنها لاحظت تغيرًا غير محبذ في سلوكها منذ عودتها من إيستبورن. وكان الغرور الذي يرتدي قناع التواضع هو أكثر أشكال هذا الإثم المقيت إهلاكًا، وكانت ترى أن صمت إدنا أمام مواعظها الحسنة دليل على أن غرورها قد أصبح من النوع العنيد، الذي يصعب كثيرًا على امرأةٍ صالحةٍ التعامل معه. وعندما هدَّدت السيدة سارتويل — على أثر شعورها بالإهانة من عدم رد خصمتها عليها، وسَلْبها حقها العادل في عرض حجتها؛ بسبب صمتها — بأن تضع أمام عينَي زوجها النتائج المروعة للإفراط في تعليم فتاةٍ ذات طبيعةٍ متغطرسةٍ بالفعل، ظهرت لمحةٌ من التمرد السابق بينهما، إلا أن التمرد قد تغير بفعل العامَين اللذَين قضَتهما في إيستبورن، مثلما تغيَّر الكِبر والغرور. فعلى الرغم من أن غضب إدنا من هذا التهديد المباشر بإخبار والدها كان واضحًا، كان ثمة قدرٌ من التحفُّظ والكبح في إدارتها لغضبها لم تستوعبه السيدة سارتويل. فقد ظلَّت الفتاة واقفةً في مكانها للحظاتٍ تحدِّق إليها، ثم قالَت بهدوءٍ شديد:

«لدى والدي الكثير ليقلق بشأنه ولا حاجة لإزعاجه بأمور تافهة. إنه يعتقد أن غيابي عن المنزل عامين جعلك تحبينني أكثر مما كنتِ قبل أن أغادر، وأود أن يستمر في اعتقاده هذا.»

«أحبك أكثر؟ ابنتي العزيزة، إن الحب الذي أُكنه في قلبي تجاهك هو ما يجعلني أسعى، بطريقتي المتواضعة، إلى تصحيح تلك الأخطاء التي ستؤدي بك إلى الهلاك يومًا ما، وأدعو الرب أن يكلل جهودي بالنجاح.»

«أنا أتحدث عما يظنه والدي. وإذا ما اكتشف أن الأمور بيننا لا تزال سيئةً كعهدها دائمًا، فستنفك قبضتك من حولي. إنني أحاول الآن أن أتحمل بصبر وصمت كل ما يجب عليَّ تحمله في هذا المنزل، وما أفعل ذلك إلا لأجنِّب أبي أي متاعب غير ضرورية. أنتِ تقولين إني مغرورة، وناقمة، وعنيدة، وكل هذه الصفات. أنا أسوأ بكثير حتى ممَّا تتخيلين. وتنتابني القشعريرة عندما أفكِّر أي امرأة سأصبح إذا ما ظَلِلت تحت قبضتك أكثر من ذلك. وأشعر بأني منافقة عندما ألتزم الصمت أمام تهكماتكِ عليَّ؛ لأني إذا ما صغت مثل هذه الأمور في كلمات … حسنًا، دعينا لا نتحدث عن ذلك. إذا كنتِ تتخيلين أني قد تعلمت المهادنة لأني عشت وسط أسرة مسيحية حقيقية لعامين، فأنت مخطئة للغاية، ولكني تعلمت أن المسيحية الحقة ليست تأنيبًا يتبعه نص ديني في نهاية كل جملة مثيرة للسخط والغيظ. والآن بعد أن صرت امرأة، صرت أفهمك أكثر مما يفهمك أبي بكثير. قلت ذات مرة إنه إذا ما اختارني لأكون سيدة هذا المنزل، فستتركين مفاتيحك وتغادرين دون كلمة واحدة. أنت لن تفعلي أي شيء من هذا القبيل. بل ستقاتلين من أجل مركزك في هذا المنزل. لهذا السبب، أود أن تُدركي جيدًا ما قد تلاقينه إذا ما شكوتِ إلى والدي. ففي اللحظة التي ستشكينني فيها بأي طريقةٍ كانت، أو تجعلينه يعتقد أن ثمة خلافًا ولو بسيطًا بيننا، فسأذهب إليه وأخبره بأنني لا بد أن أكون سيدة هذا المنزل. وماذا سيحدث حينئذ؟ أنتِ تعلمين مثلما أعلم. ما دام أبي ظل غير منزعج بشئوننا، فلن أقول شيئًا، وسأُحاول أن أكون بارةً ومطيعةً كما لو كنت ابنتك.»

كانت السيدة سارتويل تجلس في مكانها، دافنةً وجهها بين يدَيها، وتبكي بصوتٍ خافت، كشخص جُرحت مشاعره الرقيقة الغضة. كان من الصعب عليها أن تُضطر إلى مواجهة المشكلة نفسها مرةً أخرى، بعد أن اعتقدت أنها قد حقَّقت نصرًا هزيلًا وغير مؤكد — إذا كان من الممكن أن يُطلق عليه نصر من الأساس — على شخصٍ عنيدٍ ظلَّت في نزاعٍ معه عمرًا كاملًا. كانَت تعلم أن أي شيءٍ يمكن أن يحدث إذا ما شكت إدنا لوالدها. فقد يكون لديه من الجبروت ما يدفعه إلى شراء منزلٍ في أي مكان، ويعيش فيه مع ابنته في سلام. فلم يكن الرجل يتورَّع عن فعل أي شيء، على الرغم من كل النصائح التي تُسديها له. ولكنها كانت ترى أنه لا يزال ثمة عزاء يتمثل في أنها قد تتمكن من إنقاذ الفتاة، بمثابرتها الصادقة والمخلصة على العمل الصالح، وكانت تُدرك أن إدنا لن تعترض ما دام والدها ظل بعيدًا عن الموضوع؛ لذا وافقت السيدة سارتويل ألَّا يدخل زوجها حكمًا بينهما، وأحاط السلام البيت السعيد مجددًا بأجنحته البيضاء.

كبرت إدنا وصارت امرأةً جميلة، أجمل بكثير مما توقعت هي نفسها أن تكون. وأصبحت أكثر وقارًا وتحفظًا مما كانت عندما غادرت المنزل، وأكثر ميلًا إلى الجلوس طويلًا في تأمل واضعةً ذقنها في يدها تفكر وتتأمل، وعيناها الحالمتان تحاولان سبر أغوار المستقبل. وبقدر ما كانت عازمةً بقوةٍ على إجبار نفسها على نسيان مارستن إلى الأبد، فلم تنجح قطُّ في ذلك، وكان صوته العميق النابض بالحياة كثيرًا ما يعود ويغزو أفكارها من جديد. وعلى الرغم من نشأتها بطريقةٍ ديمقراطية، واعتقادها النظري بأن جميع البشر أخيار، فقد نشأت في بلدٍ تعتبر فيه ابنة البقال أن رؤيتها بصحبة ابنة خضري من شأنه أن يحط من مكانتها، في حين أن ابنة بائع الأقمشة، من هدوء مكانتها الاجتماعية الرفيعة، سوف تواجه بعض الصعوبة في التفرقة بين المكانة الاجتماعية لكلٍّ منهما، ولكنها ستكون على دراية تامة بأن «الخضراوات» تحمل في طياتها مكانةً اجتماعية أقل نسبيًّا. كانت إدنا ابنة رجل كان من طبقة العمال، ولكن عندما فكَّرت في العرض الذي قُدم لها في حديقة المدرسة، صُدمت بعض الشيء عندما فكَّرت في أن أحد العمال يطمح للزواج من ابنة سيده. كانت قد تحدَّثت إلى مارستن، وتناقشا في المشكلات التي تهم كلَيهما، ولكنها لم تفكِّر ولو للحظة في أنهما متساويان. فقد كان مجرد عامل، وعندما كان يُقال هذا لها، تظهر بينهما فجوة كبيرة. ولكن الحب يمحو جميع الفوارق، طبقًا لكلمات أغنية أحد المشاهير، وعندما أمعنت الشابة التفكير في الموضوع من جميع جوانبه، بدَا أن الحدود الاجتماعية جميعها قد أصبحت أقل واقعيةً أكثر فأكثر. وتذكرت أنها لم تفكِّر قط في الطبقية الاجتماعية عندما كانت بصحبته. ولم تستنتج من فَهْمها لمشاعرها أكثر من أنها كانَت معجبةً به كثيرًا دون شك، وأنها كانت تُكن إعجابًا شديدًا برجولته وإصراره على النجاح.

عندما بدأ الإضراب عن العمل وعلمت أن والدها وحبيبها خصمان، أصاب حالتها الذهنية اضطراب قوي. فكان من الصعب عليها أن تدرك أن أحدهما لا بد أن يُهزم، وزفرت بحرارة عندما فكَّرت في قسوة القدر؛ إذ وضَعَ الرجلين العزيزين إلى قلبها من العالم أجمع في مواجهة ضارية أحدهما أمام الآخر.

ومع استمرار النزاع، ورؤية والدها ينحني تحت وطأة العاصفة، وتمكُّن الهَرَم من ملامحه بصورة ملحوظة يومًا بعد يوم، وازدياد صمته أكثر فأكثر، ازدادت مشاعرها نحوه قوة، وكانت تتوق لرؤيته، وتتمنى لو تمكَّنت من التخفيف عنه، ولكنها كانت تعلم أن ما بيدها حيلة. وفي بعض الأحيان كان يثور في قلبها فجأة نقمة شديدة على مارستن. كان لديه العالم بأسره ليحاربه، ولكنه لم يختَر من بين كل هؤلاء الملايين سوى والدها ليتخذه خصمًا له. أزعجها كثيرًا إدراكها أن هذه النقمة لم تكن تدوم طويلًا قط، وأنها كانت تجد نفسها تتعاطف أيضًا مع أصغر الخصمين، وتلتمس له الأعذار. فمن يناصر جانبًا واحدًا لا يواجه الكثير من المصاعب في هذا العالم، مقارنةً بمَن يُدرك أن من النادر أن يقع كل الخير أو كل الشر في العالم على جانبٍ واحد فقط، بل يتداخلان مثل القطن والصوف في قطعة من القماش. كان كلٌّ من سارتويل ومارستن يرى أنه يناضل من أجل الحق، إلا أن إدنا رأت أن الحق والباطل مجتمعان معًا على كلا الجانبين، على الرغم من أنها لم تمتلك الشجاعة الكافية لتقول ذلك إلى والدها عندما بدأت المواجهة.

ولكن مع استمرار الحرب، دائمًا ما يختفي الحق أو الباطل الأصلي عن العيون، ونختار الجانب الذي نناصره بناءً على اعتبارات تختلف عن تلك التي تروق لعقول البشر في وقت السلم. ومن ينزوي ويظل بعيدًا يوصَم بالخيانة، ولكن الإنسان، بقُدرته المذهلة على تقدير ذاته، يُطري على نفسه بأنه حيوان مفكر.

كان سارتويل يعود إلى منزله عادةً في وقتٍ متأخر، وأحيانًا يعود مستقلًّا آخر قطار. وأصبح من الملاحظ أنه منح إدنا امتياز السهر والجلوس في انتظاره، وعلى الرغم من اعتراضه المحدود لمرةٍ أو اثنتَين عندما عاد إلى المنزل بعد منتصف الليل ووجدها في انتظاره، كان من الواضح تمامًا أن وجودها كان فيه السلوى والراحة له. كانت إدنا تتصرف تجاهه بطريقة تبعث الهدوء والراحة في نفسه؛ فكانت تتحرك في أنحاء الغرفة دون صوت، وتستبق حاجات الرجل المتعب من دون جلبةٍ لا داعي لها، وبدون طرح أسئلة مزعجة، ولكنها كانت مستمعةً متعاطفة ومنفتحة إذا كان ثمة ما يقال. بعض النساء يصاحب وجودهن جلبة وأصوات ارتطام من الأشياء الجامدة؛ فتُصفق الأبواب، وتسقط الأطباق، وتقرقع الأكواب والصحون، وتُقلب المقاعد، ما يثير الأعصاب الحساسة للصوت، أما إدنا فيمكنها أن تُعد العشاء بمهارةٍ دون أن تُصدر أي صوت يتجاوز رنين الأطباق الخزفية. وكانت تدرك قيمة التفاصيل الدقيقة، مثل وضع المقعد ذي الذراعَين بالزاوية المناسبة حتى يسقط الضوء من فوق كتف الجالس، كما ينبغي أن يسقط، ووضع الخف حيث تسقط القدمان المكسوتان بالجوارب بسلاسة فيه، وحين يكون والدها مرهقًا للغاية لدرجةٍ تجعله لا يعبأ برسميات تناول الطعام على السفرة في ساعة متأخرة من الليل، كانت تظهر عند مرفقه الأيمن طاولة صغيرة، مغطاة بمفرش نظيف من الكتان، وبعض من أطايب الطعام التي قد تُسيل لعاب حتى الرجال الذين اعتادوا تناول أشهى أصناف الطعام، كما لو أنها زحفت دون صوتٍ على أرضية المنزل. كان كل ذلك يندرج تحت عنوان «التدليل» في قاموس مفردات السيدة سارتويل، وكانت المرأة الصالحة تأوي إلى فراشها مبكرًا للراحة، عندما تجد أن وجودها باعتبارها قدوةً يُحتذى بها ليس له أي تأثير يُذكر في إيقاف ما يحدث، ولكيلا تشجِّع على استمراره بوجودها. كان ثمة وقت للأكل ووقت للشرب، وإذا ما كان من المفترض برجل أن يكون جائعًا عند منتصف الليل، فيُعد ذلك إثمًا يجب أن يُعاقب عليه بعسر الهضم في الحياة الدنيا، ويعلم الرب وحده ما سيحل به في الحياة الآخرة.

على الرغم من التقارب الذي بينهما، لم يكن سارتويل يُخبر ابنته بالكثير عن تطورات الإضراب، وكانت تمتنع عن سؤاله عندما تراه راغبًا عن الحديث؛ إذ كانت تشعر بأن أي اقتراح قد تقدِّمه له لن يكون ذا قيمة بالنسبة إليه، مكتفيةً بحمايته من أي مصدر من مصادر الضيق في المنزل، والتسرية عنه قدر الإمكان عندما يكونان معًا. ولكن كان قلبها ينفطر وهي تراه يزداد وهنًا وعجزًا بصورة ملحوظة يومًا بعد يوم، وخطوته التي كانت تتوق لسماع وقعها، تفقد ثقتها أكثر فأكثر.

جلست إدنا ذات ليلة في مقعده ذي الذراعين تنتظره وتفكر بعمق. ورفعت رأسها فجأةً فزعة، ورأت والدها يقف بجوار الطاولة يحدِّق إليها. كان وجهه شاحبًا، وهزيلًا، ومنهكًا، وزادت الابتسامة الكئيبة التي ارتسمت على شفتَيه، وهو ينظر إليها من الكآبة البادية على قسماته بدلًا من أن تخفِّفها. كان يبدو كرجلٍ على شفا الوقوع فريسةً لمرضٍ عضال، ففزعت الفتاة بشدة؛ حتى إنها ظلَّت تحدِّق إليه لحظاتٍ بعينَين متسعتَين خوفًا من أن يكون ذلك الواقف أمامها شبحًا.

وصاحت أخيرًا وهي تهب واقفة: «أبي! ماذا حدث؟»

«لا شيء يا ابنتي سوى أنكِ كنت نائمةً في المقعد، بينما كان يجب أن تكوني نائمةً في فراشكِ منذ مدة طويلة.»

«لا أظن أنني كنت نائمة، ولكني لم أسمعك تفتح الباب. ولكنك تبدو مريضًا.»

«أنا بخير. أنا متعب قليلًا لا أكثر. لا، ولن آكل أي شيء، شكرًا لك. أعلم أنني جئت بعد مواعيد الإغلاق، ولكني عابر سبيل، وسأتناول مشروبًا، إذا كنت لا تمانعين.»

وحاول أن يضحك قليلًا على مزحته المفتعلة، إلا أن ضحكته بدا وقعها كئيبًا، ما زاد من فزع إدنا بدلًا من طمأنتها، كما كان ينوي. ظل عنق زجاجة الشراب يصطدم بالكوب مصدرًا صوتًا كاصطكاك الأسنان، وبدا الصوت يُزعج سارتويل؛ إذ غمغم بشيء ما ثم صوَّب نظرةً خاطفة نحو ابنته ليرى إن كانت قد لاحظت عصبيته غير المعتادة. ثم أمسك بالزجاجة بإحكام أكبر، وصب الخمر بيد أكثر ثباتًا، إلا أن هذا الجهد جعله يزم شفتيه. ثم تجرع الشراب دفعةً واحدة ووضع الكوب الفارغ على الطاولة. كانت إدنا واقفةً أمامه، فرفع بصره نحوها وارتسمت على شفتيه ابتسامة فاترة.

وقال: «حسنًا يا ابنتي، لقد انتهت اللعبة.»

فسألته بصوت متهدج: «هل انتهى الإضراب يا أبي؟»

«فعليًّا، لا؛ عمليًّا، نعم. ستستسلم الشركة غدًا، وأنا سأستقيل. هل تشعرين بالأسف؟»

قالت إدنا وقد جثت على ركبتيها بجواره: «لن أشعر بالأسف إلا إذا كنت تشعر به يا أبي. لست آسفةً على انتهاء التوتر؛ فأنا أرى أن أي شيء أفضل من القلق الذي كنت ترزح تحت وطأته طوال الأسابيع القليلة الماضية. وتبدو عليك علامات المرض الليلة.»

«نعم. الإنسان يكره الهزيمة. حسنًا، لقد تجرَّعت هزيمةً منكرةً لا شك فيها، وإذا كان ثمة أي عزاء في تلقِّي ضربة قاضية، فقد وجدته.»

«ماذا حدث؟»

«إدنا، كما تعلمين، دائمًا ما نرسم في لوحات المعارك خيولًا جامحة، وجنودًا يطلقون النار، أو تُطلَق عليهم، أو يضربون أعداءهم بالسيوف، ولكننا نادرًا ما نعرض فيها أي شيء عن الخلفية؛ ولذا أحيانًا لا يعلم بعضهم بوجودها من الأساس: ولكن اللوحة لا تعرض إلا واجهة المعركة، إن جاز التعبير، بينما يتحقَّق النصر في المعارك بفضل الترتيبات المحكمة في الخلفية؛ كالإمداد بالذخيرة، وحَمَلة الطعام والماء، وكل هذه الأمور. الإضراب عن العمل مثل المعركة، ثمة أمور أخرى يجب وضعها في الاعتبار خلاف القتال الفعلي، وهذه الأمور عادةً ما تحدِّد نتيجة المعركة. إن الخسارة المباشرة في نزاع من هذا النوع لا يُقارن بالخسارة غير المباشرة. إننا نرى أعمال الشركة تنسل من بين أيدينا وتذهب إلى أشرس منافسينا. بعض من عملائنا قد يعود للتعامل معنا وبعضهم الآخر قد لا يفعل. هذا إلى جانب أننا لا نستطيع الوفاء بالعقود التي أبرمناها، ولأن الإضراب عن العمل لا يمكن أن يُطلق عليه قضاء وقدر، فنحن مُلزَمون بتحمل التعويضات المفروضة علينا؛ إذ لا يوجد بند للإضرابات في الاتفاق. وكان عليَّ أن أواجه كل هذا إلى جانب مواجهة المضربين أنفسهم. هذا علاوةً على مشكلة ملء المصنع بالعمالة التي تبيَّن أنها أصعب بكثيرٍ مما توقعت. وخلال الأسبوع الماضي، بدأت أخسر ثقة مجلس الإدارة تدريجيًّا. لم يقُل أحدهم شيئًا، ولكني استشعرتها. كان الانطباع العام السائد أننا نقاتل في معركةٍ خاسرة، وأن كل شيءٍ أصبح على المحك، وكان السبب الوحيد الذي حال دون استسلام مجلس الإدارة منذ أسبوع مضى هو علمهم بأني سأستقيل إذا فعلوا. ولم يكن الأمر يتطلَّب سوى قشةٍ لتقصم ظهر البعير، وتنقلب كل موازين الموقف لتصبح ضدي. في وقتٍ ما قبل أن يبدأ الإضراب، أبحرت سفينة بخارية إلى سيدني في نيو ساوث ويلز. وكانت تحمل كميةً كبيرةً من بضائعنا على متنها. واليوم تلقيت إخطارًا من ملاك السفينة بأنها متوقفة هناك، ولا يمكن تفريغ حمولتها بسبب إضرابنا. ويعتزمون تحميلنا مسئولية التأخير، ما يعني قضيةً مُكلِّفة أمام القضاء بغض النظر لمن سيكون الحكم في صالحه. وهذا أمر خطير في حد ذاته، ولكن حقيقة أننا ضُربنا في أقاصي الأرض بينما حركتنا مشلولة في لندن ستدفع مجلس الإدارة إلى الاستسلام على الفور. لذا يا صغيرتي، أنا رجلٌ مهزوم.»

«ولكن، ألم يكن من الوارد أن تُهزم على أي حال؟»

«نعم، إذا استمر الإضراب أسبوعًا آخر، كان العمال سيعودون إلى عملهم؛ أنا واثق من ذلك. إنهم يشتعلون غضبًا، وقد دعَوا إلى اجتماع غدًا ليلًا، رغم اعتراضات مارستن. لا شك في وجود انقسام بين صفوفهم، وكل ما أحتاج إليه هو انشقاق طفيف لأعيد المصنع إلى العمل.»

«ما الداعي لأن تستقيل يا أبي؟ لقد بذلت أقصى ما في وسعك، ومجلس الإدارة يعلم ذلك.»

«آه، أنت ناعسة يا ابنتي، يمكنني رؤية ذلك بوضوح، وإلا فَمَا طرحت سؤالًا كهذا. ولكنكِ تعرفين كل شيء الآن؛ لذا اذهبي إلى النوم.»

•••

في الصباح، سارت إدنا مع والدها حتى محطة القطار.

فسألته: «هل سيُعقد اجتماع لمجلس إدارة الشركة اليوم؟»

«نعم. سيُعقد اجتماع في تمام الخامسة مساء اليوم.»

«هل تعتقد أن الإضراب سينتهي إذا ما أعطوك مهلة أسبوع آخر؟»

«أنا واثق من ذلك تمام الثقة. لا شك في أنه سيحدث شقاق في اجتماع العمال الليلة. فقد جاءت الدعوة لعقد هذا الاجتماع رغمًا عن مارستن كما تعلمين، وهذا يشير إلى أنه بدأ يفقد أي سيطرة له على المضربين.»

«ألن يكون لديك مبرِّرك إذن لئلا تقول شيئًا عما قاله أصحاب السفينة حتى موعد اجتماع مجلس الإدارة التالي؟ وحتى يحين ذلك الموعد، ستكون قد علمت نتيجة اجتماع المضربين.»

«عزيزتي إدنا، أنت تقدِّمين اقتراحات تسلب المرء أنفاسه. لا، لن يكون ذلك مقبولًا. يجب أن يكون مجلس الإدارة على درايةٍ تامةٍ بكل المعلومات. لا يمكنني تحمل مسئولية إخفاء أي شيءٍ يضرُّ بمصالحهم، أيًّا كانَت عاقبة ذلك بالنسبة إليَّ، وإن كنت أتمنى لو أن الرسالة ضلَّت طريقها ليومٍ أو اثنَين.»

«سأكون في مكتبك في تمام السادسة الليلة يا أبي.»

ضحك سارتويل، ولكنها كانت ضحكةً كئيبة ويائسة.

وقال: «ألن يكون من الأفضل أن تأتيَ في تمام الخامسة، وتخبري أعضاء مجلس الإدارة برأيكِ فيهم؟ وأنا واثق أنه لن ينطوي على أي إطراء.»

«لا تسخر مني يا أبي. إن الموقف خطير للغاية، ولا يمكنني أن أتحمَّل إثارة الانتظار حتى عودتك إلى المنزل. لا بد أن أعرف ما يحدث، فلا تمنعني عن ذلك أرجوك. كما أنها قد تكون ليلتك الأخيرة في هذا المكتب، وأود أن أُحضرك معي إلى المنزل.»

«أوه، لن تكون ليلتي الأخيرة. لن أترك الشركة القديمة هكذا. سأواصل عملي حتى يُعيَّن المدير الجديد وتسير جميع الأمور على خير ما يرام. حتى وإن هُزم المرء يا إدنا، فهو يستحق من نفسه الانسحاب بطريقة جيدة؛ ففي بعض الأحيان يدل الانسحاب المتقن على حسن القيادة مثل النصر تمامًا. وبما أن الوضع مستتب، يمكنك الحضور إذا كنت قلقة، ولا شك في أنك كذلك، أو يمكنني أن أرسل لك برقيةً بما حدث، إذا كنت تفضلين ذلك. ولكن النتيجة محتومة، أنا على يقين من ذلك. فعندما يرون هذه الرسالة، ويعرفون أني لم أُحرز تقدمًا يُذكر في ملء المصنع بالعمال، سوف يستسلمون، ولا أعلم إن كان بإمكاني أن ألومهم على ذلك أم لا. إن لديهم الكثير من المصالح على المحك، وقد دعموني بقوة حتى هذه اللحظة، ولولاي لاستسلموا منذ مدة طويلة. سأنتظرك في الساعة السادسة يا عزيزتي. استقلي عربةً من محطة القطار، واطلبي من السائق أن ينتظر في فناء المصنع. انتظريني في غرفتي إذا جئت ولم تجديني. سأخبر البواب بأن يعتني بك.»

راقبت إدنا القطار وهو يصل إلى المحطة ويغادرها، ثم استدارت وسارت نحو منزلها بقلب مهموم. اجتازت إدنا المنزل وواصلت سيرها نحو الحديقة العامة محاكيةً والدها، دون وعي منها؛ إذ كان يقصد هذا المكان الرحيب ذا الهواء العليل، عندما يكون ثمة ما يؤرقه. توقفت عن السير عدة مرات، وفكرَت في إرسال برقيةٍ إلى مارستن تطلب منه أن يلتقيها في الحديقة القديمة في ويمبلدون في الحال. تخيَّلت نفسها تقف في الحديقة تتوسل إلى مارستن أن يُنهي الإضراب، ولكنها خشيَت غضب والدها إذا ما اكتشف ما فعلته، حتى وإن كان لأجله. لم يخطر لها قط أن توسُّلاتها قد تكون بلا طائل؛ لأنها كانت تعلم أنها ستفعل أي شيءٍ يطلب منها من أجل شخص تحبه، ولم يكن يراودها شكٌّ في أن مارستن يحبها حبًّا صادقًا ودائمًا. ولكنها سألت نفسها، ماذا لو وضع مارستن شروطًا؟ هل ستكون على استعدادٍ لأن يُسدى إليها معروف كبير دون أن تمنح شيئًا في المقابل؟ ماذا سيظن إذا ما أرسلت له برقيةً تخبره فيها بالحضور؟ كان الجواب بديهيًّا، وحين استفتَت قلبها، أقرَّت لنفسها للمرة الأولى بأن ردَّها سيختلف عن ردها في إيستبورن.

ولكن عندما توصلت إلى هذه الحقيقة، لم تتمكن من حمل نفسها على إرسال الرسالة. وتراجعت عن استخدام هذه الورقة الشديدة الخطورة؛ فإن لم تنجح الحيلة، فكيف ستواجه المذلة التي ستترتب عليها؟ كان ثمة شيء في نبرة صوت مارستن الواثقة، شيء في إصراره العنيد، شيء في نظرة عينَيه المقنعة، حذَّرها من أنه لن يخون الراية التي يقاتل من أجلها، حتى وإن كان ذلك من أجل إسعاد الفتاة التي يحب، وأخبرها شيءٌ ما في قلبها أنه سيقل في نظرها إذا فعل ذلك. ولكن إذا رفض، كانت واثقةً من أنها لن تستطيع التحدث معه مرة أخرى أبدًا. فبعدما يرفض طلبًا لها، لن تتمكن أبدًا من تلبية طلبٍ له، أو حتى الاستماع إليه. وتخيَّلت السعادة التي ستشعر بها عندما تراه يدافع عن قضيته مرةً أخرى، وتقرأ إجابته في عينَيه الشغوفتَين قبل أن تنطق بها شفتاه، ولكن إذا ما رفض توسُّلاتها له بأن يكفي والدها مذلة الهزيمة الوشيكة، فلن يكون بالإمكان أن تظل بينهما أي صداقة. عادت إدنا إلى المنزل أخيرًا حائرة الفكر ومترددةً فيما عليها أن تفعل، واستمعت إلى محاضرة عن إثم إضاعة المرء لوقته، وإن كانت لم تسمع أو تفهم إلا القليل من تلك الخطبة الرائعة.

مع اقتراب المساء، زاد قلق إدنا أكثر وأكثر، وانتظرت في نفاد صبر الساعة التي ستتحرَّك فيها إلى لندن. كانت شبه متوقعة أن تتلقى برقيةً من والدها، ولكنها أدركت أن الموقف لم يطرأ عليه أي تحسن عندما لم يصلها شيء منه. وبعد السادسة بقليل، دخلت العربة التي تستقلها إدنا فناء المصنع، وكان من الواضح أن البواب كان في انتظارها، وفتح لها البوابات وأغلقها بمجرد مرور عربتها. كان للطابع الصامت المهجور لهذا المكان الشاسع تأثيرٌ قابضٌ عليها أثناء صعودها الدرج المؤدي إلى مكتب والدها. كان والدها واقفًا أمام مكتبه عندما دخلت، وكان بمفرده تمامًا، وتلفَّت حوله في شرود عندما سمع باب المكتب يُفتح.

قال: «حسنًا يا ابنتي، لقد حضرت لتساعديني في حزم أغراضي، في نهاية المطاف.»

«إذا كان لزامًا أن تحزم أغراضك، فأنا على استعداد لمساعدتك يا أبي.»

«أخشى أن هذا هو كل ما تبقى فعله يا عزيزتي. ولكننا لن نُظهر أيًّا من أمارات الجبن، أليس كذلك؟ لقد كنت أخطِّط الآن لجولة صغيرة رائعة في أوروبا لي ولك لكي ننسى، ولو لوهلة، أن ثمة شيئًا قبيحًا في هذا العالم يدعى الإضراب. ستكونين أميرة، وسأكون أنا الملك العجوز المخلوع عن عرشه؛ فدائمًا ما يذهب هؤلاء إلى أوروبا بعد الهزيمة.»

فشلت محاولة سارتويل للمزاح فشلًا ذريعًا، وتجنب أن تتلاقى عيناه بعينَي ابنته متظاهرًا بترتيب بعض الأوراق. وأدركَت ابنته مدى قوة الضربة التي تلقَّاها، فاغرورقت عيناها بالدموع.

ثم سألته أخيرًا: «هل انتهى اجتماع مجلس الإدارة؟»

«لا. لا يزالون مجتمعين يُعدون شروط الاستسلام، أو ليس هكذا بالضبط؛ فلا توجد شروط للاستسلام. سيعطون العمال كل ما طلبوه، الأمر الذي كان من الأفضل بالطبع أن يفعلوه منذ شهر مضى، ويوفرون على أنفسهم كل هذا العناء. كنت أعرف إلامَ ستئول الأمور عندما يعرفون بأمر السفينة الواقفة في أستراليا بحمولتها كما هي. لم تتبقَّ لديهم ذرة عزيمة لمواصلة القتال، وكنت واثقًا من أن تلك الضربة التي تلقَّوها من هذا المكان البعيد ستؤثر على الخيال المحدود الذي يمتلكه أي منهم. إنها تبدو لهم ضربةً قاصمة، ولكنها بالطبع ليست كذلك على الإطلاق. إنها مجرد حدث درامي هامشي يجب ألَّا يؤثر على النتيجة النهائية. ولكن لا فائدة من محاولة تحدي القدر. إنهم منهمكون الآن في كتابة خطاب استسلامهم، كما لو أن صياغة إقرارك بالهزيمة والاستسلام ستُحدث فارقًا لدى مجموعة من السذج الجهلة السكيرين الذين لا … ولكن بمَ يجدي السب؟ كان أسبوع آخر من التذبذب والارتباك كفيلًا بأن يثبط همتي؛ وفي واقع الأمر، أعتقد أن هذا قد حدث بالفعل؛ فأنا غير شكاءٍ في العموم.»

«هل ستعود معي إلى المنزل يا أبي؟»

«لا يا عزيزتي. لم يكن يجدر بي أن أدعك تقطعين كل هذه المسافة إلى هنا لتسمعي ما يعلمه كلانا منذ الصباح. عودي إلى المنزل على الفور، فتاةً مطيعة، ولا تنتظري عودتي الليلة. فسوف أتأخر. على الرغم من تأنيبي لك على حضورك، فسأبقى حتى النهاية. سأُشرف على ترتيب جميع الأمور، وأرفع الراية البيضاء بنفسي. لن يكون من اللائق أن يحظى المرء بكل متعة القتال، ثم يُحجم عن الاستسلام بفعل الخوف. لم أحضر إلى هذه الغرفة إلا لأني أتوقع حضورك الساعة السادسة، ولأريح أعصابي قليلًا. سأعود إلى اجتماع مجلس الإدارة، وسأكتب خطاب الاستسلام بنفسي؛ فلن يستجمعوا ما يكفي من الشجاعة للقيام حتى بذلك إلا إذا كنت برفقتهم. سأغرق مع سفينتي يا ابنتي، وأتظاهر بأن الأمر يروق لي؛ لذا اذهبي يا إدنا، ولن يواصل الأمر إزعاجنا بحلول الأسبوع القادم … ربما.»

سرت في نفس إدنا رعشة خوف حين لاحظت أن والدها بقدر ما كان يبدو منهكًا في الليلة السابقة، فقد بدا الآن وللمرة الأولى رجلًا مسنًّا. فقد انحنت كتفاه العريضتان، وحتى ملابسه التي كانت على مقاسه تمامًا أصبحت فضفاضة. وكوميض كهربائي، أظهر لها التردد والنبرة الحزينة في صوته وهو ينطق بالكلمة الأخيرة، «ربما»، ما يدور في عقله والذي لم يخطر ببالها من قبل، أنه عندما يُبعَد فجأةً عن المهمة التي كان يعتبرها كل حياته، سوف تحطمه البطالة ويصبح مثل حطام سفينة عديم النفع على الصخور.

فصاحت إدنا: «أبي، لا تدعهم يرسلون ذلك الخطاب حتى الغد. إن يومًا زائدًا أو ناقصًا لن يحدث فارقًا، ولن يرسلوه إذا ما طلبت منهم ذلك.»

هزَّ سارتويل رأسه رافضًا.

وقال: «لا فائدة من التأجيل. لطالما كنت معتادًا أن أفعل ما يجب فعله سريعًا، ولم أعد في سن تسمح لي بتغيير عاداتي. إذا لم يكن أمامك سوى السير على حافة السفينة وتلقي نفسك في البحر، فلتفعل، وأنهِ الأمر.»

لم تحاول إدنا أن تضغط عليه أكثر من ذلك، فقبَّلته وقالت: «ليلة سعيدة.» وأوصلها والدها حتى العربة، وأخبر السائق بأن يوصلها إلى محطة ووترلو. ومع أول منعطف، فتحت إدنا الباب الخفي الصغير في سقف العربة.

وسألت السائق: «هل تعرف أين يوجد مقر المضربين؟»

«نعم يا آنسة. في قاعة الخلاص يا آنسة.»

«حسنًا، أوصلني إلى قاعة الخلاص بأسرع ما يمكن.»

وجَّه سائق عربة الأجرة حصانه نحو قاعة الخلاص، وسرعان ما كان يشق طريقه عبر حشود العمال الذين كانوا يتجمعون من كل حدب وصوب من أجل الاجتماع. توقف السائق بجوار الرصيف أمام القاعة. وترجَّلت إدنا من العربة وقد احمرَّ وجهها عندما رأت العمال ينظرون إليها بفضول. فخاطبت أحدهم قائلة:

«أين يمكنني أن أجد السيد مارستن؟»

«إنه في الغرفة عند مؤخرة القاعة يا آنسة. من هذا الطريق يا آنسة. سأوصلك حتى بابها.»

تبعت إدنا الرجل عبر الممر الطويل الضيق على جانب القاعة.

صاح جيبونز في دهشة وهو يخرج غليونه من فمه: «بالله عليكم يا رفاق، ماذا يعني ذلك؟»

ضحك بعض الرجال إلا أن الجدية كانت باديةً على قسمات وجه جيبونز، وأدركوا أن ما خفي كان أعظم.

صاح جيبونز عندما ظهر الرجل الذي قاد إدنا عبر الممر: «بمَن تريد أن تلتقي؟»

«طلبَت لقاء مارستن. إنها تجلس معه في الغرفة الآن.»

صاح جيبونز: «اسمعوني يا رفاق. بمَ كنت أخبركم؟ نحن نتعرض لخيانة، أنا واثق من ذلك. تلك الفتاة هي ابنة سارتويل، وأنا واثق من أنها آتية من مكتبه مباشرةً إلى هنا. أيها السائق، هل أوصلت هذه السيدة الشابة إلى هنا من المصنع؟»

أجابه السائق غير عابئ بنظرات التهديد البادية في أعين الحشد: «وما شأنك أنت؟ لست أنت من يدفع أجرتي.»

قال أحد العمال: «إنه آتٍ من المصنع، لقد رأيته.»

فصاح جيبونز في حسم: «دعونا ندخل ونعقد ذلك الاجتماع.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤