الفصل التاسع

ثمَّة شوارع في تشيلسي مخصصة فعليًّا لاستديوهات الرسم. كانت عبارةً عن مبانٍ عريضة وقصيرة من طابق واحد تحتوي واجهاتها الأمامية على الكثير من الأبواب، وفي الخلف صفٌّ من نوافذ كبيرةٍ تتألَّف من ألواح عديدة من الزجاج تسمح بدخول الضوء القادم من الشمال الذي يحبه الرسامون، وكانت هذه المباني مصطفةً على جانبَي الشوارع التي أسماها بارني بأسلوبه الفكاهي الارتجالي شوارع «الشفق القطبي الشمالي»؛ وذلك لأن «الأضواء القطبية الشمالية» تغمرها، كما كان يقول دائمًا. كانت هذه المراسم ملائمةً تمامًا للرسامين العاديين الذين يعرضون لوحاتهم في الأكاديمية الملكية وأماكن من هذا القبيل، إلا أن رسامًا ذا جوهرٍ حقيقي (وبالمصادفة يملك حسابًا مصرفيًّا يعتمد عليه) كان يرغب في شيءٍ أفضل من هذه الحظائر؛ لذا اشترى بارني منزلًا وجهَّزه ليلبِّي احتياجاته. كان كريجنبوتوك هاوس، كما أسماه بارني تقديرًا متأخرًا للعبقري توماس كارلايل، منزلًا من ثلاثة طوابق تفصله عن الشارع قطعة أرضٍ محيطة به. وكان أن ترك الغرف في الطابق العلوي على حالها، وخصَّص بارني غرف نومٍ لنفسه ولأصدقائه؛ فقد كان كرم ضيافته لا يُضاهى وبلا حدود. فُتحت الأقسام جميعها في الطابق الأول بعضها على بعض، بحيث كوَّن هذا الجزء من المنزل شقةً واحدة واسعة، ما عدا مساحة خصَّصها لتكون منصة تكريمٍ فخمة يُصعَد إليها، بطريقة مهيبة تليق بمعابد الفنون، عن طريق درجاتٍ حجرية عريضة حلَّت محل الدرج الخشبي التقليدي الذي اكتفى به سكان المنزل السابقون. ومن أجل توفير الدعم الضروري للطابق العلوي، بعدما أُزيل جميع أقسام الطابق السفلي، وُضعت في سقف الطابق السفلي ألواح مربعة ضخمة من الخشب، أعطت المرسم الفسيح مظهر سقف الحظيرة الضروري للغاية لإنتاج أعمالٍ فنيةٍ راقية.

اعترضت والدة بارني على البرودة القارسة لدرجات السلم الحجرية العارية. فقالَت إنه من منطلق وجود هذا السلم داخل المنزل، ولأنه ليس السلم المؤدي إلى مدخل المنزل الأمامي، فلا بد من وضع سجادةٍ عليها. أقر بارني بأنه في ظل الظروف العادية من الأفضل فعل ذلك بالفعل، وعرض طواعيةً تقديم تنازلٍ ما إذا طرأ حدث يستدعي وضع سجادة. إذا زاره أحدُ أفراد العائلة المالكة، فسيضع على الدرج السجادة الحمراء التقليدية التي اعتادَت أقدام العائلة المالكة السير عليها. بل إنه أقرَّ لوالدته بأنه قد اشترى بالفعل لفةً من السجاد الأحمر، وكانت في تلك اللحظة موضوعةً في الخزانة الموجودة أسفل الدرج؛ لكي تكون جاهزةً في أي لحظة. ولكن في الأيام العادية ستظل درجات السلم عارية؛ لأن درجات السلم الحجرية في قصر «بيتي» كانت عاريةً دائمًا، وبما أن بارني كان ينوي أن يجعل لمنزل كريجنبوتوك، في نهاية المطاف، شهرةً وصيتًا في عالم الفنون مثل معرض فلورنسا، فسيحذو حذوَه فيما يتعلق بدرجات السلم. فلا شيء يضاهي البداية الصحيحة.

في الطابق الأرضي من المنزل، كانت غرفة الطعام والمطبخ، وأسفله يوجد قبو عامر بما لذَّ وطاب. كانت الرَّدهة مدهونةً بلون أحمر قانٍ غني، وينفذ الضوء إليها عبر نافذتين من الزجاج الملون اللامع رُكِّبتا أثناء تحويل المبنى من مسكن إلى مرسم. وعندما كان أحد يُطري على هاتين النافذتين، كان بارني يقول: «نعم. إنهما جيدتان إلى حد مرضٍ، ولكنهما ليستا أصليتين، كما تعلم، ليستا أصليتين. لا، إنهما مجرد نسختين منفَّذتين بحرفية من جزء من نافذة في كاتدرائية كولونيا في عام ١٥٠٨. وقد وضعتهما هنا مؤقتًا؛ لأني كنت منشغلًا إلى حد أنني لم يتيسَّر لي وقت لتصميم شيء أفضل بنفسي، وهذا ما سأفعله فيما بعد.»

ولكن من بين جميع الملحقات الزخرفية التي يحتويها هذا المرسم، ربما كان أكثرها إثارةً للاهتمام «خادم» بارني الذي ألبسه زيَّ خدم مميزًا يجمع بين اللون الأزرق، والقرمزي، والفضي، كان جذابًا إلى أبعد الحدود. على الرغم من أن بارني لم يتيسر له الوقت الكافي، لتصميم نافذةٍ من الزجاج الملوَّن تتفوَّق على نوافذ كاتدرائية كولونيا جمالًا، فقد كان مجبرًا على تصميم هذا الزي؛ فلم يكن بالإمكان نسخ هذا الزي من الخارج، ولم تكن عائلة هوب من العائلات المرموقة ذات التاريخ الطويل؛ لكي يكون للخدم لديهم زيٌّ مميزٌ خاص بهم. فلا شيء يُضفي على أي مكان طابعًا مميزًا ووقارًا مثل «خادم» يرتدي ملابس فاخرة، ذات تصميم يدل على البذخ والترف بغض النظر عن التكلفة، ويتعاظم التأثير إذا كان جليًّا أن «الخادم» لا يؤدي أي وظيفة ضرورية، أيًّا كانت؛ فقلةٌ فقط من الناس هم من يصلون إلى قمة عدم الفائدة المطلق. وتدرك الفنادق الكبرى في هذا البلد مدى التميز الذي تكتسبه عبر امتلاكها كائنًا ذا رونق وهيبة على عتبات أبوابها، يقود النزلاء الوافدين في عظمة وشموخ بإشارة من يده نحو رَدهة الفندق. غير أن هؤلاء الأشخاص المتواجدين في هذا المكان لتزيينه غالبًا ما يحطُّون من قدر أنفسهم، عبر فَتْح أبواب عربات الأجرة وأداء أعمال مفيدة أخرى، منحرفين بذلك عن وظيفتهم الأصلية، وهي، كما يُصر بارني، إسعاد أنفسهم عبر أن يكونوا حِسان المظهر لا غير.

عندما شكا أحد ضيوف بارني ذات مرة من أن الرجل الذي يقف عند قمة الدرج رفض أن يقوده إلى داخل المرسم، وضع بارني يده اليمنى على كتف الضيف بود أخوي، وقال له:

«إنه يعلم جيدًا، يا صديقي العزيز، أني سأطرده في الحال إذا ما نسي نفسه إلى حد الإجابة على سؤال.»

فسأله الضيف ببعض الاستياء: «وما الغرض من وجوده إذن؟ لا أرى له فائدة.»

أجابه بارني مهدئًا إياه: «هذا صحيح، هذا صحيح. لو رأيت له فائدة، فسيكون عليَّ أن أطرده من العمل وأبحث عمن يحل محله، وأؤكد لك أنه ليس من السهل العثور على أشخاصٍ عديمي الفائدة يبلغ طولهم ست أقدام وبوصتَين. لا يا صديقي العزيز، ليس من السهل العثور عليهم، ثِقْ بما أقول. إن الناس عازفون تمامًا عن التفكير؛ حتى إنهم «سيطرحون» أسئلةً غبية. وأنا أنوي مقاومة هذه العادة قدر استطاعتي. هل تريد أن تعرف الغرض من وجوده؟ إذا وضعت تمثالًا رخاميًّا عند قمة الدرج، لم تكن ستشعر بالإهانة إذا لم يردَّ على استفسارك، ولم تكن ستسأل عن جدوى وجوده. ثمَّة الكثير من الأشياء المفيدة في هذا العالم، لدرجة أن شيئًا لم تلوثه النفعية لا بد أن يحتفي به كل إنسانٍ مفكر عاقل، وإن أردنا إنقاذ هذا البلد النفعي ببشاعة، فعلينا، نحن معشر الفنانين، أن نقود المسيرة.»

ولكن كان لهذا الرجل المهيب الواقف أعلى الدرج استخداماته بالرغم من ذلك؛ فعندما دخل هالديمان ورجل آخر، استجابةً لدعوات بارني الشديدة الود لحضور واحد من «حفلات الاستقبال»، إلى رَدهة المنزل في الطابق الأرضي، وأبصرا هذا الرجل المذهل يقف أمامهما مثل تمثال زاهي الألوان على مستوًى أعلى منهما، قال هالديمان مبهورًا: «يا إلهي!» وتلمَّس طريقه متعثرًا إلى الخارج عائدًا من حيث أتى، وتبعه الرجل الآخر الذي لم يَقل عنه ذهولًا، وكان رسامًا أيضًا يذوق الأمرَّين في مجال الرسومات بالأبيض والأسود لصالح الصحف. تبادل الرجلان النظرات، بعدما ابتعدا لمسافة آمنة عن المرسم، وتوقفا عن السير أثناء ذلك. كان ذهولهما أقوى من أن يقويا على الكلام، إلا أن هالديمان علَّق بجدية قائلًا:

«كان يجدر بي أن أتوقع شيئًا من هذا القبيل. تخيَّل دخولنا إلى المرسم مرتديَين ملابسنا هذه! لقد نجونا بأعجوبة! أعرف مكانًا في شارع كينجز رود يمكننا أن نشتري منه شيئًا لنشربه. لنذهب إلى هناك ونرى إذا كان بإمكاننا التعافي من هذا الموقف الحَرِج. بارني، بارني، يا للأفعال التي تتم باسمك!»

وهكذا نبَّه التمثالُ الحي بارني في صمت لوصول صديقَيه البوهيميين، اللذين لم يكن عليهما غبار في باريس، كما تعلم، ولكن لم يكن من المستحب وجودهما على الإطلاق، عندما يستقر المرء ليبدأ عملًا جادًّا ويتوقع حضور النبلاء في حفلاته.

كان الوقار الهادئ الذي يتسم به «خادم» بارني يقابله النشاط البالغ لذلك الصبي المتأنق، الذي كان يفتح باب المرسم للحضور بشكلٍ أنيق. ربما يمكن تشبيه «الخادم الصغير» بقاربٍ طوربيدي صغيرٍ يمخر عباب البحر تحت ظل سفينةٍ مدرعةٍ مهيبة. فبينما كان الفتى الصغير يفتح الباب بيده اليسرى، كان يرفع يده اليمنى إلى قبعته ملقيًا تحيةً شبه عسكرية ترحيبًا بالضيوف القادمين، وتوديعًا للضيوف المغادرين.

كان من الصعب تخيُّل مكان أكثر ملاءمةً للتجمعات الفنية على غرار «حفلات استقبال» بارني من مرسم بارني. كانت الشقة واسعة، وتحتوي على الكثير من الأركان والزوايا التي استغلها متجر الأثاث في شارع توتنهام كورت رود على الوجه الأمثل. فكانت مفروشةً عند الأركان بأرائك صغيرة تكفي لشخصين، واحتوت على أركان معزولة مجهَّزة بمقاعد فخمة، وتناثرت الأرائك الجذابة في جميع الأنحاء، وعلى الأرضية، فُرشت أنعمُ أنواع السجاد الشرقي. وألقت المصابيح الشرقية بضوءٍ خافت على الأجزاء المعزولة والتي كانت ستصبح مظلمةً لولاها، وأينما يمكن تعليق ستارة، تجد ستارةً معلقة. وكانت أبرز لوحات بارني، التي كانت توضع في أُطر ذهبية وفضية أو من الخشب الطبيعي، مزينةً على نحو رائع، ولمنع غير الفنانين من إحراج أنفسهم بمحاولة تخمين موضوعات اللوحات، كُتبَ اسم كلٍّ منها بحروفٍ سوداء واضحة على الجزء السفلي من الإطار. كان هناك لوحات «جسر باترسي عند منتصف الليل»، و«تشيلسي وسط الضباب»، و«شارع تشيني رو في الثالثة صباحًا»، وغيرها من اللوحات الشهيرة، إلا أن ثمَّة لوحةً رائعةً لنهر التيمز باللونَين القرمزي والأصفر، هي التي أظهرت قدرة بارني على رسم لوحاتٍ رائعة، تلك اللوحة التي، إذا ما أمكننا الوثوق في المقولة الشهيرة، حاول كثيرٌ من كبار الرسامين رسمها، ولكنهم فشلوا بسبب الطبيعة العصية لهذا النهر الشهير التي تحول دون رسمه بهذه الألوان التي تُظهره بهذا التوهج.

كان حفل «ما بعد الظهيرة» في مرسم بارني في أَوْجِه عندما دق جرسَ الباب شابٌّ لم يتلقَّ بطاقة دعوة، إلا أن «الخادم الصغير» لم يكن يعرف ذلك، وفتح الباب على مصراعَيه وحيا الزائر بحركةٍ أنيقة منمَّقة من يده، كما لو كان دوقًا. أجفل الوافد كثيرًا عندما رأى انتصار الطبيعة والفن الواقف عند قمة الدرج مثلما فعل هالديمان، ولكن على الرغم من أنه وقف للحظاتٍ ذاهلًا، فإنه لم يعد أدراجه. وراوده هاجس مبهم للحظة بأن هذا الرجل قد يكون بارني نفسه، إلا أنه تخلَّى عن هذه الفكرة بعدما أمعن التفكير فيها. كان مقبلًا على عالمٍ لم يألفه، ولكن همست له فطرته السليمة بأن سكان هذا العالم لا يرتدون ثيابًا على هذه الشاكلة.

سأل الشاب: «هل السيد برنارد هوب موجود؟»

أجابه الصبي بانحناءة وإشارة من يده ليدخل: «نعم يا سيدي. كعادته دائمًا. هلا تخبرني باسمك يا سيدي؟»

«مارستن.»

صاح الصبي نحو أعلى الدرج: «السيد مارستن.»

لم يتأثر تمثال أبي الهول المزخرف القابع عند قمة الدرج بهذا الإعلان، ولكن ظهر خادم آخر أقل بهرجةً أزاح الستائر الثقيلة، بينما كان مارستن يصعد الدرج، وعندما دخل، سبقه نداء اسمه وسط همهمة الأحاديث الدائرة في الداخل. كان المشهد الذي وقعَت عليه عينا مارستن عندما دخل المرسم محرجًا نوعًا ما، بالنسبة إلى رجلٍ خجول، ولكنه شعر بالارتياح عندما لاحظ، بعد لحظات من وقوفه منقطع الأنفاس عقب دخوله، أنه لم يسترعِ انتباه أيٍّ من الحضور تمامًا.

بدَت الحجرة الكبيرة مكتظةً بالناس على نحوٍ محيِّر، وكان ثمة صف من الرجال يقفون مولين ظهورهم للجدار، كما لو كانوا جزءًا من الديكور الجداري. كان الكثير منهم يمسكون بأقداح شاي في أيديهم، وبدا الملل على وجوههم جميعًا بصورة أو بأخرى. كانت الأرائك والمقاعد مرتبةً على هيئة صفوف، كما لو كانوا سيشاهدون عرضًا، وكانت المقاعد جميعها مشغولة، وأغلب الجالسين من النساء. كان ثمَّة خادمان يجولان في أرجاء الحجرة لتقديم الشاي والكعك، بينما كان بارني نفسه يتنقَّل بين الحضور، كما لو كان فراشةً عملاقة في حديقة زهور، ينثر رقةً وفكاهة أينما حل. ودائمًا ما كانت تصدح ضحكة مبهجة تضفي البهجة على الهمهمات الرتيبة للأحاديث الدائرة. كان واضحًا أن الحضور، ربما باستثناء تلك المجموعة التي كانت تقف عند الجدران في جدية، يستمتعون بوقتهم.

ومع تحوُّل الزحام أمام عينَي مارستن الشاب تدريجيًّا إلى أشخاص، توقف قلبه عن الدق فجأة، ثم عاد ليدق مجددًا بسرعة أكبر، حين أبصر إدنا سارتويل جالسةً على أحد المقاعد الأمامية، تبتسم لدى سماعها تعليقًا فكاهيًّا من بارني، الذي كان مائلًا باتجاهها. قبل لحظات، كان مارستن يحاول قهر رغبته في التراجع، عبر إخبار نفسه بأن جميع هؤلاء الأشخاص المتبطلين لا يمثلون شيئًا بالنسبة إليه، أما الآن، بعدما لاحظ وجود الشخص الذي يمثل كل شيء بالنسبة إليه، فقد أصبح عليه أن يقمع ذعره المتزايد بأسلوبٍ جديد. وعلى الرغم من صعوبة موقفه وعدم شعوره بالراحة، كان يعلم أنه لن يفرَّ من أرض المعركة يجرُّ أذيال الخيبة قبل حتى أن تبدأ المهمة التي كلَّف نفسه بها. فقد كان طبعه الحقيقي عنيدًا ككلاب البولدوج، وهو الأمر الذي لم يختبر حدوده من قبل، على الرغم من أن هذا اللقاء المفاجئ مع عدد من الأشخاص يتبوءون مكانةً اجتماعية أعلى منه؛ قد وضع عبئًا ثقيلًا على شجاعته الأدبية. وعبثًا راح يُخبر نفسه أنه ليس أقل من أيٍّ منهم؛ فلم يكن في أعماق نفسه يصدِّق ذلك؛ لذا لم يكن لكل هذه الطمأنة قيمةٌ تُذكر بالنسبة إليه. وفي نهاية المطاف، استجمع شجاعته، وتحدث إلى الخادم الذي أزاح الستار من أجله.

قال له: «هلا تخبر السيد هوب أني أود التحدث إليه للحظات؟»

اقترب بارني من الوافد الجديد بوجه باسم ويد ممدودة.

وقال: «كيف حالك، كيف حالك؟ يسعدني أنك قد وجدت بعض الوقت لتحضر حفلي المتواضع. لقد وصلت في الوقت المناسب؛ في الوقت المناسب تمامًا.»

تفحَّص بارني مظهر ضيفه سريعًا بعين الفنان، وأدرك فجأةً أن ملابسه لا تحمل طابع شارع بوند، دون أن يدرك حقيقة أنها أفضل حُلَّة يمتلكها الضيف. فاختفت الابتسامة من على وجه الفنان.

وأضاف قائلًا: «معذرة! ظننت أني أعرفك، ولكني لا أعتقد الآن أنني قد تشرفت ﺑ…»

«لا. لا توجد معرفة سابقة بيننا يا سيد هوب. أنا أحد عمال مصنع والدك.»

«حقًّا. هل جئت حاملًا لي رسالة منه؟»

«جئت للقائك من تلقاء نفسي. وكنت أتمنى بشدة أن أتحدث إليك بشأن العمل.»

«أوه، ولكن، يا صديقي، كما تعلم! هذا يوم «حفل الاستقبال» الذي أنظِّمه. ولا أتحدث عن العمل في هذه الأيام، أبدًا. وإذا أردت أن تشتري أيًّا من لوحاتي، أو كانت لك أي طلبات أخرى، فسيكون عليك أن تأتي في يوم آخر.»

«لم آتِ للحديث عن اللوحات، بل للحديث عن أمر مختلف تمامًا وأكثر جدية.»

«هلا تسامحني على مقاطعتك يا صديقي؟ لا يوجد شيء جاد إلا الفن، واليوم لن أتحدث حتى عن الفن.»

قال مارستن بانفعال: «حياة الناس أكثر جديةً من الفن.»

«لا ترفع صوتك من فضلك. لا شك في أن الأمور مختلطة عليك، ولكني لا أملك وقتًا لتصحيح مفاهيمك اليوم. وكل ما يجب قوله بشأن تعليقك الأخير أن حياة الناس إلى زوال، أما الفن فسرمدي. لهذا السبب، الفن هو أهم الأمرين. ولكننا سنتغاضى عن ذلك. ألَا يمكنك أن تأتي لنتحدث في يومٍ آخر؟ ثق أني سأسعد بلقائك في أي وقت.»

«ألَا يمكنك أن تمنحني خمس دقائق من وقتك نتحدث خلالها على السلم في الخارج؟»

«مستحيل. لا يمكنني ترك ضيوفي. كما ترى، سنستقبل الإيرل الراقص خلال لحظات معدودة. وسموه الآن يرتِّب تنوراته أثناء حديثنا. لا بد أن أعود لضيوفي.»

«سأنتظر إذن حتى يُنهي الإيرل رقصته، إذا كان هذا هو سبب حضوره.»

«لك هذا يا صديقي العزيز، لك هذا. إنها فكرة رائعة. وأنا على يقينٍ من أنها ستعجبك، ورغم أني لم أشاهد الرقصة بنفسي، فأنا أرى أنها فريدةٌ من نوعها. فلتحصل على كوب من الشاي. كنت سأرسل لك بطاقة دعوة لو اعتقدتُ أن أيًّا من العاملين لدى والدي مهتم بأحدث الحركات الفنية، ولكن لا تعبأ بأمر الدعوة. إذا أردت البقاء دون دعوة، فسيسعدني ذلك. من الرائع حقًّا أن تزورني بهذه الطريقة المفاجئة؛ هكذا أحب أن تسير الأمور، بطريقة بوهيمية تمامًا. أنا واثق من أنك ستعذرني الآن لتركك»، وانصرف عنه بارني ليرى إذا ما كانت جميع ترتيبات ظهور الإيرل قد تمت.

أُزيح تمثال عرض الأزياء إلى أحد أطراف الحجرة المواجه للحضور، وأُسدلت ستائر سميكة على النافذة الشمالية الكبيرة تاركةً المكان شبه مظلم، وسُمعت أصوات فحيح وقرقعة إضاءة الجير في الرواق، ما دفع الفضوليين من الحضور إلى الالتفات برءوسهم ليروا ما يحدث.

وقف مارستن مستندًا إلى الجدار بجوار رجلٍ آخر، قال له بنبرةٍ يغلب عليها الضجر:

«من يكون هذا الرجل برنارد هوب؟»

أجابه مارستن، متعجبًا من أن أحد الضيوف قد يسأل شخصًا لا يعرفه عن مضيفهما: «إنه فنان.»

رد الرجل الآخر: «هذا واضح. ولكن، من تكون عائلته، أم ليس له عائلة؟»

«والده أحد أثرى رجال الصناعة في لندن.»

«يا إلهي، كنت واثقًا من ذلك. كنت أعلم أن ثمَّة شيئًا يتعلق بالتجارة في أصوله؛ فالرجل مهذب للغاية.»

قوطع الحديث الدائر بينهما في هذه اللحظة، حين وقف جسمٌ ما على حامل عرض اللوحات، وفي اللحظة نفسها، سطع ضوء باهر من الرواق عليه. سرت موجة من التصفيق وانحنى الإيرل، الذي كان شابًّا بدون لحية ربما كان في العشرين من عمره. كان يشبه الفتيات في تنوراته الضيقة المحزَّزة. كان سليل عائلة نبيلة عريقة أسَّسها راقص شغوف في عهد الملك تشارلز الثاني، ووفقًا للترتيب المعتاد للأمور، كان لا بد أن تتفجر مَلَكة الرقص هذه من جديد لدى آخر أفراد العائلة.

تحول اللون الأبيض إلى الأحمر وبدأت رقصة التنورة. وأثناء العرض، كان الحضور يصفقون بحرارة؛ فجمهور لندن من السهل إرضاؤه دومًا، لا سيَّما إذا كان الدخول وحضور العرض مجانًا. ولكن إحقاقًا للحق، كان الإيرل الصغير الرشيق يستحق الحفاوة التي استُقبل بها؛ فقد كان أداؤه نموذجًا للأناقة والرشاقة معًا، كما أن تلاعبه بالتنورات العديدة التي كان يرتديها، كان مثاليًّا. وأضفَت الألوان المتنوعة التي سقطَت على القماش أثناء رفرفته ودورانه تأثيرًا غريبًا ورائعًا لحركات سموه السريعة، وأعطى المشهد الختامي الباهر، حينما سقط ضوءٌ قرمزي على الحرير الخفيف الذي يخفق عاليًا فوق رأس الراقص، النبيل الشاب الرشيق مظهر أحد الشهداء القدامى تحوطه ألسنة اللهب.

رُفعت الستائر، ونهض الحضور المبهور واقفًا، وتجمَّعوا حول مضيِّفهم يهنِّئونه على نجاح حفل ما بعد الظهيرة. تقبَّل بارني هذه التهاني بامتنان جَذِل، وتلقَّى الإيرل الشاب في تواضع حصته المستحقة من الإشادات، بعد أن ظهر أخيرًا من خلف الكواليس، وقد ارتدى ثيابه وعاد إلى حالته الذهنية الطبيعية، ولكنه كان يلهث قليلًا؛ لأن أصحاب الموهبة الحقيقية واثقون دائمًا أنهم سيجدون التقدير في هذه المدينة العظيمة، ودع السفهاء يقولوا ما يحلو لهم.

أخذت إدنا سارتويل تتلكأ ببطء للحظاتٍ حول دائرة الزحام التي أحاطت ببارني والإيرل الصغير، ثم شقَّت طريقها متمهلةً نحو الباب، منتظرةً زوجةَ أبيها التي اتجهَت نحو مضيِّفها على مهلٍ لتشكرَه. كان الرجال الذين ظلوا واقفين بمحاذاة الجدار قد خرجوا إلى الشارع بالفعل، وغادر جميع الضيوف الآخرين تقريبًا.

وقف مارستن وحيدًا في نفس المكان الذي شاهد منه العرض، محدقًا بقلب يخفق بقوةٍ في الفتاة التي أحبها. اقتربَت الفتاة منه ببطءٍ دون أن تنظر نحوه؛ إذ كانت تراقب زوجة أبيها التي كانت تقف وسط الجمع الملتف حول بارني الذي كان في تناقص سريع. كانت تتحرَّك كما لو كانت فاقدةً الوعي، كما لو أن الشاب قد نومها مغناطيسيًّا، وكان يجرها نحوه بقوة الإرادة فحسب. وأخيرًا لمسته تنورتها وتخدرت أعصابه حتى أطراف أصابعه. وعلى نحو شبه لا إرادي، غمغم قائلًا:

«مرحبًا يا آنسة سارتويل.»

أدارت الفتاة رأسها نحوه في حركةٍ سريعة، ولوهلة التقت عيناهما دون أن تعرفه.

قال مارستن بصوت أجش بعدما أدرك أنها لم تعرفه: «اسمي مارستن. التقيت بكِ ذات ليلةٍ في مكتب والدك عندما كنا نتحدث عن الإضراب.»

ردت قائلة: «أوه، نعم. لم أتذكرك للوهلة الأولى. فلم … لم أتوقع أن …»، ثم صمتَت وبدا عليها الارتباك، وأشاحَت بوجهها بعيدًا عنه.

قال الشاب متمِّمًا جملتها نيابةً عنها: «أن تجديني هنا»، واستجمع شجاعته؛ فقد ألقت الحقيقة المبهجة بأنه يتحدث إليها بالفعل بواقعها الذي لا يُصدَّق عليه. «لم أكن أعلم أن ثمَّة حفلًا كهذا مُقام هنا. لقد حضرت للتشاور مع السيد هوب بشأن الموضوع نفسه …» واحمرَّ وجهه عندما عادت إلى ذهنه ذكرى موضوعٍ ما، وشعر بأن شجاعته التي اكتسبها حديثًا قد بدأَت تتراجع مجددًا. ثم لملم شتات نفسه واختتم عبارته ببطءٍ قائلًا: «… عن الإضراب، كما تعلمين.»

قالت إدنا وقد استرعى الموضوع اهتمامها في الحال: «أوه. هل من جديدٍ بشأن الإضراب؟»

«نعم، كان ثمَّة اجتماع ليلة أمس، وتم التصويت بالإجماع على الامتناع عن العمل.»

شحب وجه الفتاة.

وقالت: «وهل بدأ العمال الإضراب بالفعل؟ هل حضرت إلى هنا اليوم لهذا السبب؟»

«لا، لن يبدءوا الإضراب حتى يوم السبت القادم. لقد بذلت قصارى جهدي لأمنع حدوثه، ولكني لم أفلح. وطلبت من والدك الحصول على إجازة عصر اليوم، ومنحني إياها دون أن يسألني عن السبب. وخطر لي أننا قد نستطيع القيام بشيء خلال الأيام القليلة التي تفصلنا عن الإضراب، بعدما تخمد حماسة الاجتماع. ولهذا السبب حضرت إلى هنا، ولكني أخشى أني لن أحظى بأي مساعدة هنا.»

«هل يعلم والدي؟»

«عن الإضراب؟ نعم.»

غشي القلق وجه الفتاة الساحر. وأخيرًا قالت: «أنا آسفة للغاية. أنا واثقةٌ من أن ما حدث ليس خطأ والدي؛ فهو يرفق بالجميع. حتى وإن كان صارمًا في بعض الأحيان» — ثم رفعت عينَيها مرسلةً نظرةً خجولةً إلى الشاب جعلَت نبضات قلبه تتسارع — «إنه عادلٌ دائمًا.»

«نعم، أعلم أن هذا صحيح. سينتصر على العمال؛ ولهذا السبب أريد أن تكون الغلبة للناصحين المحايدين. لطالما كان العمال مستضعفين. وأغلب من يتشدقون بأنهم أصدقاؤهم حمقى، والعمال أنفسهم هم الأكثر حمقًا على الإطلاق.»

«ألَا ترى أنك تقسو قليلًا على العمال؟ هل وصلت إلى هنا في الوقت المناسب لتشاهد الإيرل الراقص؟»

نظرَت إليه وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة واضحة، وابتسم لها مارستن أيضًا ابتسامةً أضاءت وجهه على نحو رائع، وأنشأت بينهما رابطة صداقة عابرة.

قال: «لقد نسيت الإيرل.»

«يجب أن أذهب الآن. فأنا أرى زوجة أبي تبحث عني. أتمنى أن تنجحَ في تدارُك المشكلة في المصنع.»

مدت يدها نحوه لتصافحه، فأمسك بها برقة؛ خشية أن يقبض عليها بقوةٍ مبالغٍ فيها ويفصح عمَّا في قلبه.

كانَت السيدة سارتويل وابنة زوجها آخر المغادرين.

ألقى بارني نفسه على إحدى الأرائك وأشعل سيجارة.

وقال: «حسنًا، يا صديقي الشاب، ها قد أصبحنا بمفردنا أخيرًا. خذ ما يحلو لك من سجائر، واسمح لي بأن أقدِّم لك مشروبًا أقوى من الشاي الذي نمتِّع به النساء. لدينا العديد من أنواع الشراب في الخزانة، كل ما عليك فعله هو أن تذكر نوعك المفضل من المشروبات الكحولية، بينما أطلب لنفسي براندي وصودا. قد لا تصدق ما سأقول، ولكن حفلات ما بعد الظهر هذه قد تكون أكثر إرهاقًا للمرء من يوم عملٍ كاملٍ في المصنع. ولا يعني هذا أني قد عملت في المصنع من قبل، ولكن أعتقد أنك قد قلت إنه مجال عملك.»

قال مارستن بعدما رفض عروض الضيافة التي قدَّمها مضيِّفه: «هذا صحيح. أريد التحدث إليك بشأن المصنع. لقد قرر العمال ليلة أمس الإضراب عن العمل.»

«متسولون حمقى.»

«أتفق معك في هذا تمامًا. إن تصرفهم أسوأ من الحمق نفسه؛ ولهذا السبب حضرت إليك لأرى إن كنت مستعدًّا للتدخل بأي شكلٍ بهدف بث مزيد من الرضا في نفوسهم.»

«حسنًا، الآن دعنا نرَ، أعتقد أني نسيت اسمك، أم أخبرتني به؟ أوه نعم، مارستن، شكرًا لك، ثمَّة الكثير من الأمور تزحم فكري. كما ترى يا سيد مارستن، إن الأمر لا يخصني من قريب أو بعيد، وإن كان لا بد أن أُقر بأن عرضك أن أكون مُحكِّمًا يسعدني كثيرًا. وهذا ثاني عرض يصلني في هذا الشأن في غضون أيام قليلة؛ لذا أعتقد أنني دبلوماسي بالفطرة. ولكن، كما ترى، لا متعة لديَّ تضاهي الاهتمام بشئوني، وهذا الإضراب لا يعنيني.»

«أعتقد أنه يعنيك. لا شك في أن كل الترف الذي تعيش فيه هنا قد جنيته من وراء العمال الذين أتحدث باسمهم الآن.»

«صديقي العزيز، حديثك الآن يخلو من أي إطراء ولا يمنحني أي سعادة على الإطلاق، أؤكد لك هذا. فما تقوله يعني أن لوحاتي لا تُباع.»

«لم يكن لديَّ أي نية للتلميح بأي شيء من هذا القبيل. فأنا على يقين من أنك قادر على بيع أي لوحة ترسمها.»

«آه، إنك تبالغ في الثناء على الفطنة الفنية لدى الجمهور البريطاني التي تُعد — في الوقت الحالي — شرفًا لا يستحقه الجمهور البريطاني. سيدركون قيمة الفن في النهاية — فالجمهور البريطاني العظيم دائمًا ما يفعل ذلك — ولكن ليس بعدُ يا صديقي، ليس بعد. تحلَّ بالصبر، وسترى الأموال تنهال عليك. يؤسفني أن هذه اللحظة — كيف يجدر بي قول ذلك؟ — حسنًا، لم تأتِ حتى الآن. إن العمال الذين تشرِّفهم بالانتماء إليهم، في الوقت الراهن — كما قلت أنت بفظاظة لا داعي لها — يُعوِّضون العجز المالي الذي أعاني منه. إلا أن الجمهور سيدفع مقابل هذا العجز في نهاية المطاف؛ سيدفعون كل بنس منه يا صديقي. هل ترى هذه اللوحات المعلَّقة على الجدران؟ حسنًا، لقد حدَّدت سعر كل واحدة منها بألفَي جنيه. وأجد بعض الصعوبة في بيعها بهذا المبلغ؛ إذ لم يُبدِ أي قطاع من الجمهور البريطاني العظيم، حتى وقتنا هذا، أي رغبة في شرائها مني مقابل هذا المبلغ الضخم. وما عاقبة ذلك؟ أقسم أنني سأرفع سعرها خمسمائة جنيه كل عام، وكلما طال بقاؤها على الجدار، سيزداد المبلغ الذي سيكون عليهم دفعه مقابلها، وهم يستحقون ذلك تمامًا. عشر لوحات مقابل عشرين ألف جنيه هذا العام. وفي العام القادم، ستساوي خمسة وعشرين ألف جنيه، وهكذا. ومع زيادة أسعار ممتلكاتي بهذا المعدل، سأكون أحمق إن حضضت الناس على الشراء. إن أسعار إيجارات العقارات في بلجرافيا لا تُقارن، باعتباره استثمارًا، بلوحاتي. لذا، كما ترى يا مارستن، عندما يصبح النجاح حليفي، لن يكون المصنع سوى مصدر تافه للدخل مقارنةً بفُرشاتي.»

«ولكن ماذا ستفعل في غضون ذلك؟»

«في غضون ذلك، تسير أموري على الوجه الأمثل، شكرًا لك. لن يكون للإضراب أدنى تأثير عليَّ مطلقًا. قد يتعيَّن على العمال تقليل كمية التبغ الخشن أو أيًّا كان المزيج المريع الذي يدخِّنونه، ولكني لن أقلِّل من عدد السجائر التي أدخِّنها ولو سيجارةً واحدة. ليس لي ناقة ولا جمل في هذا الصراع. وإذا أراد العمال القتال، يا ألله! رأيي أن تدعهم يفعلون.»

«لم يبدأ القتال فعليًّا بعد، ولن يبدأ حتى السبت القادم. والآن هو الوقت المناسب لتدخُّل رجل رزين للتوصل إلى اتفاق ودي. ألن تحاول حتى يا سيد هوب؟»

«عزيزي مارستن، إن الطريق أمام من يُعين نفسه وسيطًا دون سلطة تُخوِّل له ذلك؛ طريقٌ شاقٌّ وصعب. كنت أقرأ في الجريدة الصباحية اليوم عن اجتماعكم الرائع ليلة أمس، ولاحظت أن رجلًا حاول التدخل فأُطيح به من على المنصة وأُلقي في شارع جانبي. تلك هي فكرة العمال عن كيفية إنهاء المناقشات الفكرية. أنا نفسي أحب العمال، ولكني أتمنى أحيانًا لو أنهم لا يستخدمون نعال أحذيتهم ذات المسامير في النقاش. بالمناسبة، هل رأيت ما حدث؟ كنت هناك على ما أعتقد؟»

«نعم. إن برونت، الرجل الذي طُرد، أحد أفضل العمال في المصنع، ولكنه سريع الغضب للغاية. وقد فقد السيطرة على أعصابه ليلة أمس، بسبب استفزاز شديد تعرض له، وعندما أُخرج من القاعة، حاول كسر بابها. وتدخلت الشرطة، وصرع ثلاثةً منهم. كان الأمر كارثيًّا؛ إذ غُرِّم خمسة جنيهات صباح اليوم، وكنت أحاول جمع المال من أجله حتى لا يُسجن، ولكننا ضمن الأقلية — فقد أثار سخط زملائنا من العمال — ولست على وفاق مع العمال أيضًا.»

قفز بارني واقفًا على قدميه.

وقال: «هل قلت صرع ثلاثةً منهم؟ رجلٌ رائع. يعجبني هذا. إن أكثر خَصلة مشينة في شخصيتي هي أني أستمتع بالاعتداء على رجال الشرطة، ولكني أقدِّر فائدة قوات الشرطة بوجه عام. هل قلت خمسة جنيهات؟ إنها التكاليف إذن، لا أفهم هذه الأمور كثيرًا، ولكني أعتقد أنه عادةً ما يكون هناك تكاليف، أظنُّ بسبب إضافة الإهانة إلى الإصابة. هل عشرة جنيهاتٍ تكفي لإطلاق سراحه؟ جيد. ها هي. ثلاثة جنيهاتٍ فقط مقابل رجل شرطة ليس بالمبلغ الباهظ، عندما تفكِّر في أن بعض الرفاهيات هنا تتكلَّف أكثر من هذا المبلغ. لا تشكرني يا مارستن، أرجوك؛ أؤكد لك أن هذا يسعدني.»

بعدما أخذ مارستن المال، دخل أحد الخدم وقال بصوتٍ خافت: «يريد سمبسون أن يعرف إن كان يمكنه الانصراف يا سيدي.»

«يا إلهي، نعم. ظننت أنه قد انصرف منذ وقت طويل. سمبسون هو الرجل المزخرف ذو الطول الفارع البالغ ست أقدامٍ الذي يقف على قمة الدرج، لعلك رأيته أثناء دخولك. يا للمسكين! ليس مسموحًا له بفعل أي شيء عدا أن يقف مكانه ويبدو جميلًا؛ لذا أعتقد أنه بدأ يشعر بالملل. تخيَّل تفانيه في الطاعة على طريقة الفتى الواقف على سطح السفينة المحترقة في نهاية القرن التاسع عشر! لقد نسيت أمره تمامًا؛ إذ انهمكت تمامًا في محادثتك المثيرة للاهتمام. حسنًا يا مارستن، أنا آسف، لا يمكنني أن أكون مُحَكِّمًا، ولكن يمكنك زيارتي مجددًا، وإخباري بما ستئول إليه الأمور. طاب يومك!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤