راجي الراعي

شرارة من دماغ النبوغ، وقطرة من ندى العبقرية، ذلك هو راجي الراعي. بالله تراه وهو يمشي، فهو غريب الشكل، مترهِّل الهيكل في أعصاب، تحيط به هالة من العيون، إذ لا يقع مثله إلا في الندر.

تلتقيه في الطريق فتحيِّيه: مرحبًا يا أستاذ.

فلا يأبه لتحيَّتك أو لا يسمعها، فهو في يد التفكير أيَّان وُجد وأيَّان وجدته، وهو قد يكون عالقًا بأذيال «قطرة» يجمعها إلى بحره فتحيِّيه: مرحبًا يا أستاذ.

فلا يسلخ عينيه عن الأرض، إذ توقف مجاري الهواء صوتك بينك وبينه؛ لئلا ينبهه صفاء باله فيضيع عليه قطرته، أما إذا أنزل بك البخت حظًّا موفورًا فحملت درجات الهواء صوتك إليه، فإنك لتسمع من حنجرته عنَّة ضعيفة هي جواب تحيتك، وكثيرًا ما تظل هذه التحية تتزحف مع الأثير وتتسلق تياره حتى تصير إليه وهو منك على عشرين خطوة فيلتفت فإذا أنت قد ضعت بين حشد من الناس وإذا عنَّته قد ضاعت عليك.

لا يتردَّى بثوب غير ثوبه، ولا يذهب بنفسه ذهاب المتكبِّرين، فهو مفطور على سجية الصدق، لا يعمد في أمر إلى التكلف: ربي كما خلقتني.

أكل جبينه نصف وجهه، ولو قدِّر له أن يطعمه النصف الآخر لما تردَّد أن يضحِّي بأنفه ومُقلتيه وفمه لهذه الوليمة، فهو يذهب إلى أنَّ الوجه الحقيقي إنما هو الجبين.

عينان عميقتان مستديرتان مئونتان بالذكاء والنار، تغدقان على الحياة نظرات السخرية والبراكين؛ تانك عيناه، وفم تحيَّر بين الجمال والقبح، إلَّا أنه تمنَّع من قبحه وجماله بحصن من قوة الكلام؛ ذاك فمه.

يدخِّن النارجيلة ويضمر لها كلفًا راسخًا، فلقد كانت سميرته في ليالي العزوبة ولمَّا تَزَلْ، ويشرب الخمرة الحمراء من غير أن يجد مضضًا في إتباع الكأس بالكأس، ولقد ارتفعت الكلفة بين خمرته ونارجيلته، فلا تخف إليه هذه حتى تلحق بها تلك، وقد يكون أطيب أوقاته الوقت الذي يأنس فيه «بالخمر والجمر».

إذا علق نظرك برجل في نحو الخامسة والثلاثين، يَدلِف في سيره دلف الضفدع، وعيناه مثبتتان لا تعلم في أي شيء على الأرض، وعلى رأسه قبعة فرنجية تفرَّد بلبسها بين جميع الرجال، وفي يده اليسرى حقيبة «دوسييه» مورمة الجوانب، أو إذا أحلَّك أحد المقاهي، وقد حشرج النهار، فأصاب نظرك رجلًا منزويًا، تألَّبت عليه صحف بيروت ومصر، وجاوره كرسيٌّ استعمرتْه قبعة من الجوخ، فقل هذا «راجي الراعي».

لم يتناول الأدب بحسب ما تناوله الكثيرون من أدباء عصره، فمن يُلقِ عصا التجوال في «قطرات ندى» أو «خمر وجمر» لا يبقَ في مخيلته فضل للشك في أنَّ ﻟ «راجي الراعي» طريقة في الأدب هو فيها نسيجُ وحدِه.

لا تعلم بأي سماء يناط خياله، فهو عالٍ على اللحظ، ولقد يظن من تعييه الثقافة الصحيحة عن تفهُّم ما انطبع في قطراته من حقائق الخيال وألوان الصور أنَّ معظم عباراته لا يستوي لها معنى، ﻓ «راجي الراعي» لا يكتب للسوقي، فمائدة خياله مبسوطة لناضجي العقول؛ إذن فلا يضيره أنه لم يفتح في سذاجة الفكرة وبساطة القول فتحًا يمكِّنه من نواصي العامة.

إذا ظمئت إلى الفكرة النبيلة والخيال المهذب والأدب الخالد، فبالله لا استرفدت إلا «قطراته»، فقد تقع فيها على قصيدة في سطرين وعلى حكمة رائعة في ثلاث كلمات، وعلى صورة ملونة في كلمتين.

إليك هذه القصيدة:

لا يجوز أن يكون تمثال الحرية من حديد، فالحديد يذكِّرك بالقيود التي من أجل تحطيمها يُقام ذلك التمثال.

وإليك هذه الحكمة: «إذا أفرغت المعد امتلأت السجون.»

وإليك هذه الصورة: «الخلود إرادة ثائرة على الموت.»

ألقت إليه الأفكار مقاليدها، فهو لا يتحيَّن فرص القريحة ليكتب، بل هي تتحيَّن فرص فراغه لتهرول إليه.

إذا جلس إلى القلم تحفَّلت حوله طوائف من الصور في ألوان شتى، فيرمقها بخاطر سريع وفي عبارات لاسلكية، وقد تتبادره الأفكار فلا يبقى في قوسها منزع ظفر، أما إذا استوى على فكرة قديمة رثَّة فيأخذ يعالجها بريشته الساحرة ويذرُّ عليها كبريت الجمال من عبقرية فنِّه حتى يجدَّها.١

قال «ألفرد ده موسه»: «إن طرفة الفن يجب أن تعيش من ناحيتين؛ الأولى: أن يستسيغها الخبيرون، والأخرى: أن يستسيغها الجمهور، وفي كل عمل يقدر له أن يبلغ إحدى هاتين الناحيتين موهبة ناقصة، أما الموهبة الكاملة فينبغي لها أن تبلغ الاثنتين معًا.»

إذا صح هذا الزعم فإن الخلود لسوف ينضو عنه «قطرات» «الراعي»؛ لأن هذا الشاعر الحكيم تحمَّل بخياله الرحب عن رجال عصره أو عن معظمهم، ومعظم هؤلاء يصدفون عن العالي من الكلام ولا ينتحون إلا على ما أتاحت لهم الثقافة الضئيلة أن يتناولوا منه.

وحتى يصحَّ هذا الزعم كان حريًّا بالخلود أن يشيح بوجهه عن الشاعر «ألفرد ده فينيي» ويقمره حقه، فلقد صرف هذا الشاعر العظيم بياض أيامه وسواد لياليه في إراقة ماء شاعريته على صحائف أنكرتها غباوة الأغبياء في زمنه، وما أكثر هؤلاء في كل زمن، إلَّا أنَّ الأجيال نقَّادة تختار لها الجياد.

يدهشك في قطرات هذا الرجل أنها بجملتها في مستوى واحد، فلا تقع على قطرة منها تنحطُّ في حلبة الجمال عن أختها، ولقد جبتُ جيوب «قطرات الندى» وقطعتُ المسافة التي تبتدئ ﺑ «كيف أكتب؟» وتنتهي ﺑ «إنني لأتساءل: في ذمة من ذهب الذين قضوا في سبيل الجهل قبل أن بلغ العلم شأوه الحالي؟» فاختلط عليَّ؛ أية فكرة أنضج من الأخرى؟، فكأن هذه الروح قد طبعت من يوم مدرجها على عنصر سليم، وكأن الخيال السامي آلى على نفسه ألَّا يحول معها عن عهده ساعة واحدة.

و«راجي الراعي» محامٍ حسَّاس، ينظر إلى القضاء من الوجهة الإنسانية، وكثيرًا ما يمزج الشريعة بالخيال؛ ليوفِّق بين اصطلاحات الناس وضمائرهم.

قال: «يجب أن يكون القاضي مع رصانته ممثلًا، وتمثيله قائم بأن يكون له شخصيتان: الشخصية التي يظهر بها بين الناس، والشخصية التي يتجلى بها على منصة القضاء.»

وقال: «ولا يعيب مهن المحاماة والطب والهندسة إلَّا أمر واحد، وهو أنها لا تبني بناءها إلَّا على الأنقاض؛ المحامي يطلب قتيلًا أو جريحًا، والطبيب يطلب عليلًا، والمهندس يطلب جسرًا يتداعى.»

إذن ﻓ «راجي الراعي» حكيم وشاعر حتى في مهنته، ولو قدِّر له أن يطلي القوانين بصباغ الشاعرية أو أن يلقحها بلقاح الحكمة لاستبدل بشرائع البشر «سفر سليمان» وبقوانينهم «إلياذة هوميروس».

ستسقط الأجيال رعاية الكثيرين من أدباء هذا العصر، وتظل فكرة «راجي الراعي» — على حد قول «البحتري» — أبقى على الزمن الباقي من الزمن.

١  صيَّره جديدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤