عصبة العشرة

هل غشيت مرةً حانوتًا عُرضت على حيطانه صور ملوَّنة بأزرق وأخضر وأحمر وأصفر وأبيض وأسود، فتناول نظرك صورة منها تمثِّل طبقة من طبقات الجحيم استوى «لوسيفورس» في وسطها على عرش من اللهيب ترف به طائفة من الأبالسة الحمر؟ إذا انتحيت إدارة التحرير في جريدة «المعرض» بين الساعة الثانية عشرة والثالثة ظهرًا، فإنك ليقف بصرك على مشهد يذكِّرك بصورة الحانوت.

فناجين من القهوة أعجفت بطنها حناجر «أبي شهلا» و«بشار» و«حبيش» وغيرهم، تقيلُ في زاوية من المكتب، فاغرة الأفواه، تضرب عليها الذلة والمسكنة. فناجين من القهوة تحلَّب ريقها الأسود على شفاهها البيض كأنها لا تزال في لاعج من الشوق إلى الملامظ، تنبطح على أقدامها عشائر من الصحون فكَّت الأشداق رقبة أدمها فلا تجد فيها لماظة لمتلمِّظ، وفتائت من الخبز تنتشر على أوراق سالت عليها جداول من السمنة والزيت فغطت ما أمدتها به قرائح الشعراء، ولم يقدَّر لها كفل من النشر، كما تغطي المياه الزرقاء الضفادع في المستنقعات، وقبيلة من الكتب جمعت إلى جمال التجليد وتحف القماش غوالي من متناول الكلام، تغط على المقاعد وفي زوايا المكتب غطيط مَن نهكَهُ الجهد سحابة يومه.

فهذا «ابن الرومي» — وقد فضَّت الألسن بكارة حفل من قصائده — تطيب له القيلولة على مقعد وثير، وهذا «ضرير معرَّة النعمان» — وقد هتك عرض فلسفته فلاسفة العصبة — يرين عليه النعاس في سرير «ابن الرومي»، وهناك «شارل روايه» — رسول العري في فرنسا — ينام على مكتب زميله «حبيش»، والهواء العليل يَمْرَدُ صفحاته ثنيًا بعد ثنيٍ، فيرفعها إلى الفضاء كما ترفع الريح تنُّورة القرويات، وهناك «شكسبير» و«غوت» و«ملتون» يشخرون بين الصحف المصوَّرة على مكتب «أبي شهلا»، هذا يحلم بالفردوس المفقود، وذاك يحلم ﺑ «مفيستوفليس» وقد أزعجته رؤية الدم المتقطر من ذراع «فوست»، وذيالك يحلم ﺑ «عطيل المغربي» وقد راعه مشهد المنديل الذي قدمه «عطيل» لزوجته «ديدمونة» مطروحًا في غرفة الضابط «كاسيو».

وفتيان العصبة العشرة وقد أترفهم الدخان والقهوة، فأنستهم القهوة والدخان حرمة المكان، يهش بعضهم على بعض بأساليب من متباين الظرف والنكات ومن مجانة اللسان بفلتات.

فهذا — لا نسميه — وقد ملأت الخمرة فراغ بطنه، فنضح بريقُها من مقلتيه الكستنائيتين، فهو من الصحو والسكْر في ريبتين، أو إذا خِفنا ألَّا نعدل فبين بين. يستعمر المكتب استعمارًا دونه استعمار القاسطين، وإلى جنبه حفيدة «طهماز الفارسي»١ تتفاءل شرًّا في مصيرها.

وهذا «بشَّار» — عفريت العصبة — منبطح على المقعد، وقد ملكه من جميع نواحيه؛ فرِجْله اليمنى معكوفة كاللام على إحدى عارضتيْه، واليسرى على العارضة الأخرى، ولقد أتاحت له فخذاه الجبارتان أن يحتلَّ عارضتَيْ المقعد على بُعد ما بينهما، فهو هناك كأنه في سريره، ولنارجيلته المحمومة وجه غريب تحيط بجبينه هالة من النار كوجه إبليس، ولها كركرة رجيمة ككركرة الزفت في مراجل جهنم.

وهذا «حبيش» — أحد عفاريت العصبة — يرقب الحين بعد الحين ليمهر الحلقة بألفاظ زيغ وطيش، لا هي في لغة فارس ولا في لغة قريش، وإذا انحطَّ الأتباع على كتيبة منها انحطَّ هو على جيش.

وهذا «أبو شهلا» — وقد أمره الرفاق فاحتلَّ صدر المكان — يظهر كرسيه كأنه مغشيٌّ عليه؛ لكثرة ما ضحك.

وهذا رسَّامٌ — أحد العفاريت — يصرخ بملء شدقيه: «هاتوا نارجيلة!» فلا يأبهُ أحد لصراخه، ويرى النراجيل من حوله كإطلاء من حول غدير، فيتميَّز غيظًا وتربد خِلقته من الغضب، فيقطع على العصبة الحوار بصُراخه: «هاتوا نارجيلة! دقوا الجرس! ألست من العفاريت؟ هاتوا نارجيلة بحق قصائدي ومقالاتي وآرائي وشهرتي …!» فيستمرون في حوارهم غير آبهين.

إذا انتحيت إدارة التحرير في جريدة «المعرض» بين الساعة الثانية عشرة والثالثة ظهرًا، فإنك ليقف بصرك على هذا المشهد، ولكنْ هيهات يقيَّض لك ذلك والإدارة في ذلك الحين حرم منيع محظور دخوله حتى على نائب الشباب.

١  النارجيلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤