الفصل الخامس

الحالة الكمومية تكمُن في تركيب جُزيئة اﻟ «دي إن إيه»

Quantum State Built In DNA Structure
افترض شرودنجر (١٩٤٤م) أنَّ عوامل الصفات الوراثية (الجينات) لا بد أن تكون بلوراتٍ غير دورية على خلاف البلورات الدورية للمواد الصلبة، كملح الطعام؛ حيث تترتَّب الذرات ضمن البلورة بنسقٍ فراغيٍّ معيَّن ومتكرِّر لا يتغير. ومثل هذه البلوراتِ لا تحمل كثيرًا من المعلومات بينما البلورة غير الدورية مثل الجين تحتوي على تراكيبَ منتظمةٍ لكنها متغيِّرة؛ وبالتالي يمكن أن تحمل الكثير من المعلومات. كما استنتج شرودنجر أن الدقة العالية لعمل الجينات (من خلال التردُّد المنخفض جدًّا للطفرات الوراثية) ذات التركيب الذري المحدود لا يمكن أن تفسَّر على أساس قوانين الميكانيك التقليدي والديناميكا الحرارية التي تتطلب أعدادًا هائلةً من الذرات؛ حيث ينشأ النظام من الفوضى، ولا بد أن يُفسَّر عمل الجينات على أساس ميكانيك الكم. بعد ١٠ سنواتٍ من أطروحات شرودنجر، بيَّن واتسون وكريك (١٩٥٣م) أن الجينات هي امتداداتٌ أو مناطقُ من جُزيئة اﻟ DNA وقدَّما وصفًا دقيقًا لتركيب هذه الجُزيئة وطريقة عملها. وهكذا صار معروفًا أن صفات الكائن الحي وحيويته تتحدَّد بالمعلومات المحفوظة في جُزيئة اﻟ DNA عَبْر تتابع القواعد النووية في شريطَي الجُزيئة اللذَين يلتفَّان على بعضهما ويشكِّلان اللولب المزدوج. وعلى الرغم من أن طول جُزيئة اﻟ DNA يصل إلى مئات وآلاف الميكرومترات؛ أي إنه يقع ضمن أبعاد الحالة الفيزيائية التقليدية، فإن سُمكها أو قُطرها لا يتجاوز ٢ن م؛ أي إنه يقع ضمن الأبعاد المجهرية النانوية. وحيث إن الجُزيئات المتفاعلة مع جُزيئة اﻟ DNA كالبروتينات وإنزيمات البوليميريز تتعامل في الواقع مع النكليوتيدات المفردة في كل خطوة بالتوالي على شريطٍ واحد، وهي بأبعادٍ نانوية أيضًا. وهكذا فإن هذه المنظومة تسمح من حيث المبدأ بعمل الظواهر الكمومية.
هذا الدور المركزي لجُزيئة اﻟ DNA ينشأ من كون المعلومات المحفوظة في هذه الجُزيئة هي التي ستُحدِّد أنواع وكميات البروتينات وجُزيئات RNA التي ستُكوِّنها الخلية من خلال التعبير الجيني  (Gene expression) في عمليتَي النسخ (Transcription) والترجمة (Translation).
إن كافة مكوِّنات الخلية تتألف من بروتينات وبروتيناتٍ محوَّرة (بروتيناتٍ دهنية وبروتيناتٍ سكرية) ودهونٍ وجُزيئات RNA أو موادَّ أخرى متنوِّعة تتكون من خلال نشاط الإنزيمات التي هي بروتينات أيضًا. إن نوع البروتين يتحدَّد أساسًا من خلال أنواع الأحماض الأمينية وتتابُعها فيه؛ فإن تغيُّر أحد الأحماض الأمينية أو تتابُعَه في الجُزيئة سيؤدي إلى تغيُّر تركيب البروتين ونشاطه، والذي قد ينعكس كتغيُّر في الطراز المظهري (Phenotype) للخلية أو الكائن الحي. وحيث إن أنوع وتتابُع الأحماض الأمينية في جُزيئة البروتين تشفَّر من قِبَل امتدادٍ معيَن من تتابُع القواعد النووية في شريط اﻟ DNA المعروف بالجين (Gene)، فإن اختلاف إحدى هذه القواعد النووية نتيجة الطفرة (Mutation)، سيؤدي إلى اختلاف نوع البروتين عما هو عليه في الخلية أو الكائن الحي الأصلي، أو ما يُعرف بالطراز البَري (Wild type).
يُعَد التكاثر الذاتي أحد أهم الخواصِّ المميِّزة للكائنات الحية وشرط بقائها. هذه الخاصية تفترض بالضرورة الأمانة التامة في نقل المعلومات المحفوظة في اﻟ DNA؛ حيث تُورَّث للأجيال اللاحقة؛ لذلك تُسمَّى بالمعلومات الوراثية. غير أن دقة الأحداث في الطبيعة تكون محدودة، وهذا ما تُشير إليه لامتساويات وغنر (Wigner inqualities). وهكذا فإن عملية مضاعفة اﻟ DNA تبلغ درجةً عالية جدًّا من الدقة، وبنسبة خطأٍ تبلغ واحدًا بالمليار. ونسبة الخطأ هذه تُذكِّرنا بنسبة الخطأ (بمعنى الشذوذ أو الاختلاف) نفسها عند بداية نشوء المادة؛ فحين كان تصادُم المادة والمادة المضادة يؤدِّي إلى فنائهما وتكوين فوتونات، كان واحد بالمليار فقط من هذه المصادمات يشذُّ لينتج مادة، والتي شكَّلَت مادة الكون. صحيح أن النقل تامَّ الأمانة للمادة الوراثية لنسل الخلية أو الكائن الحي ضروريٌّ من أجل تأمين خواصها وفعالياتها، غير أن ذلك يجعلها عاجزةً عن القدرة على الحياة إذا ما تغيَّرَت عوامل البيئة؛ كدرجات الحرارة والرطوبة والضوء والموارد الغذائية … إلخ، بمدَياتٍ مهمة، وهو ما يحصُل فعلًا؛ فعلى الرغم من أن الكائن الحي معزولٌ بحدودٍ معيَّنة عن البيئة، إلا أنه لا يتمكن من الحياة أبدًا دون تبادُل المواد والطاقة والمعلومات مع البيئة؛ فهو منظومةٌ معقَّدة متكيِّفة مفتوحة. ومن المعروف أيضًا أن عمل معظم الجينات يتأثَّر بتغيُّر عوامل البيئة. وهكذا سيكون حصول تأثيرٍ مدمِّرٍ للعوامل البيئية لفرد من نوعٍ معيَّن من الكائنات الحية كفيلًا بتدمير جميع الأفراد الأخرى (كونها متماثلةً وراثيًّا) وتدهور أو انقراض النوع. إن عدم الدقة في تضاعُف جُزيئات اﻟ DNA على ضآلته يفتح إمكانية نشوء تغايُر فيها قد يكون محايدًا أو ضارًّا في الغالب أو نافعًا أحيانًا. وفي حين تؤدي التغايُرات الضارة إلى تدهور الفرد الحامل لها أو زواله، فإن التغايُرات المحايدة أو النافعة يمكن أن تتراكم مع الزمن محدثةً اختلافاتٍ تركيبيةً ووظيفية ثم تنوُّعًا يزيد من قدرة الأحياء على التكيف مع البيئة، من خلال الانتخاب الطبيعي الذي يُبقي على الأفراد الأكثر أهلية للانسجام مع البيئة. إن هذا النوع من التغاير الذي يعتمد على التغيُّر التلقائي (العشوائي) والدائم في جُزيئات اﻟ DNA والذي يُعرف بالطفرة هو المصدر الأوَّلي للتنوُّع والتطوُّر الذي استخدمَتْه الأشكال الأُولى للنُّظم الحية والأحياء الخلَوية البدائية، المتمثِّلة بالبكتيريا والأركيا واستمرَّت بالاعتماد عليه حتى الوقت الحاضر، مع وجود بعض آليات التغايُر الأخرى؛ كالتزاوج (Conjugation) والتحوُّل  (Transformation) والتوصيل (Transduction). غير أن الأحياء الأكثر تطوُّرًا ابتدعَت طَريقا أكثر ضمانًا وتأثيرًا للتغايُر، تمثَّل بالتكاثُر الجنسي. مع ذلك، استمر فعل التغايُر التلقائي (الطفرة التلقائية) في هذه الأحياء أيضًا/والذي ورثته عن أسلافها من الأحياء الأقل تطورًا.
إضافة إلى الطفرة التلقائية ثمة أنواع أخرى تعرف بالطفرات المستحثَّة (Induced mutations) والتي تتسبَّب بفعل عاملٍ مطفَّرٍ (Mutagen) خارجي فيزيائي؛ كالأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية والإشعاعات النووية، أو كيميائية؛ كجذور الأوكسجين الفعَّالة وحامض النتروز والصوديوم أزايد والسموم الفطرية؛ الأفلاتوكين وغيرها. ويمكن أن تنشأ الطفرة المستحثَّة، إضافةً إلى الطفرة التلقائية نتيجة السلوك الكمومي في جُزيئة اﻟ DNA وهو موضوعُ هذا الفصل.

(١) تضاعُف اﻟ DNA Replication

fig78
شكل ٥-١: دَورة الخلية. تُمثِّل نقطةَ سيطرة.
تتم عمليةُ مضاعفة جُزيئات DNA في الخلايا الحية خلال دورة الخلية (Cell cycle). والأخيرة هي المدة الزمنية بين تكوُّن الخلية الجديدة بعد الانقسام حتى انقسام هذه الخلية إلى خليتَين.
دَورَة الخلية هي مجموعةُ أحداثٍ مرتَّبة، متتالية، يمكن تمييزها إلى جزأَين رئيسَين هما: الطور البَيْني (Interphase) والانقسام الخيطي (Mitosis). الطور البَيْني هو الأطول في دَورة الخلية، وخلالَه تُمارِس الخلية فعالياتها الطبيعية، ويميَّز إلى ثلاث فتراتٍ هي الفترة الأولى (G1) يتم خلالها بلوغ الخلية لحجمها الطبيعي ومضاعفة أعداد عُضيَّات الخلية، وتوفير البروتينات اللازمة لمضاعفة اﻟ DNA. وفترة التخليق (S) حيث يتم خلالها تضاعُف اﻟ DNA ويُصبِح كل كروموسوم مكوَّنًا من زوجٍ من الكروماتيدات بعد أن كان كروماتيدًا واحدًا. وفترة (G2) حيث تخلق البروتينات اللازمة للانقسام الخيطي. الطور الأخير (M) يتضمَّن انقسام النواة في الأحياء الحقيقية النواة، يُتبع بانقسام الخلية (Cytokinasis) حيث تنشأ خليتان تحتوي كلٌّ منهما على نواة ونفس العدد من عُضيَّات الخلية. في الأحياء البدائية النواة ينشأ جدارٌ وسط الخلية يفصل جُزيئتَي اﻟ DNA المتضاعفة، لتتكوَّن خليتان تحوي كلٌّ منهما جُزيئةَ DNA (كروموسوم واحد) وكميةً متساويةً من السايتوبلازم.
fig79
شكل ٥-٢: بدء تضاعُف اﻟ DNA بإفصال الشريطَين وتكوين شوكتَي التضاعُف.
في دَورة الخلية يُوجد عددٌ من نقاط السيطرة (Check points) أهمُّها في فترات G1 وG2 وM للتأكُّد من سلامة جُزيئات DNA. عند اكتشاف خطأ فيها تتم عمليةُ إصلاحٍ تتضمَّن استبدال القواعد النووية الخطأ (غير المتمِّمة للقواعد النووية في شريط القالب) بأخرى صحيحة (متمِّمة لشريط القالب) بواسطة أحد أنواع الإنزيم DNApolymerase وتستمر دَورة الخلية. لكن عند فشل عملية الاصلاح، أو عند عدم وجود المستلزمات الضرورية من أجل مضاعفة اﻟ DNA كما في الخلايا التي لا تنقسم بعد نُضجها كالخلايا العضلية والعصبية، فيتم احتجاز الخلية في طَورٍ يُسمَّى G0 وتتوقَّف دورة الخلية (أي إنها لا تنقسم) كما في الشكل ٥-١.
fig80
شكل ٥-٣: الإنزيمات والبروتينات المشتركة في تضاعُف اﻟ DNA.
fig81
شكل ٥-٤: ازدواجُ واتسون-كريك للقواعد النووية في اﻟ DNA.
يختلف زمن دَورة الخلية بين أنواع الأحياء المختلفة؛ فهي تكون قصيرةً في البكتيريا؛ حيث تكون في الظروف الملائمة بحدود ٢٠ دقيقة في البكتيريا Escherichia coli و١٠٠ دقيقة في الفطر النموذجي Neurospora crassa و٢٤ ساعةً في الإنسان.
تتلخَّص عملية مُضاعَفة جُزيئات اﻟ DNA بفك شريطَي جُزيئة اﻟ DNA في نقطةٍ تُسمَّى نقطة الأصل وتتوسَّع تدريجيًّا، لتتخذ شكل الفقاعة والتي تحتضن انفراجَ شريطَي اﻟ DNA، لتُكوِّن ما يُشبِه الشوكة المتقابلة كما في الشكل ٥-٢. ويقوم الإنزيم DNApolymerase بعد ارتباطه ببادئ RNA (Primer) قصيرٍ يُكوِّنه الإنزيم Primase بقراءة القواعد النووية على أحد شريطَي الجُزيئة الذي يستخدمه كقالب ويُنشئ شريطًا جديدًا مُتمِّمًا لشريط القالب؛ حيث يضع قاعدةً نوويةً متمِّمة متوفرة مقابل كل قاعدةٍ نوويةٍ من شريط القالب. وفي الوقت نفسه تقوم جُزيئةٌ أخرى من الإنزيم بالعمل نفسه على الشريط الآخر ولكن باتجاهٍ معاكس. وهكذا ستتكون جُزيئتان من اﻟ DNA يتألَّف كلٌّ منهما من شريطَين أحدهما أصلي (القالب) والآخر جديد. فك الشريطَين يتم من خلال تكسيرِ الأواصر الهيدروجينية بواسطة الإنزيم Helicase ومساعدة الإنزيم Topoisomerase وبعض البروتينات الرابطة (Binding proteins) (شكل ٥-٣).
تحصُل الطفرة التلقائية نتيجةً لطريقة ارتباط القواعد النووية في شريطَي اﻟ DNA؛ فمن المعروف أن القاعدة النووية أدنين (A) في أحد الشريطَين ترتبط بالقاعدة النووية المتمِّمة والمقابلة لها ثيامين (T) في الشريط الآخر بواسطة اثنَين من الأواصر الهيدروجينية. كما ترتبط القاعدة النووية سايتوسين (C) في أحد الشريطَين بالقاعدة النووية المتمِّمة والمقابلة لها كوانين (G) من الشريط الآخر بواسطة ثلاثِ أواصرَ هيدروجينية. ازدواجُ القواعد النووية القياسي هذا يُسمَّى بازدواجِ واتسون-كريك (شكل ٥-٤).
الأواصر الهيدروجينية بين القواعد النووية على الشريطَين المتقابلين للَّولب المزدوج لجُزيئة اﻟ DNA قُوًى مستقرة من حيث الديناميكية الحرارية. الآصرة الهيدروجينية المُفرَدة ضعيفةٌ غير أن عددها الكبير جدًّا على امتداد شريطَي اﻟ DNA يجعل منها قوةً مهمةً وكافيةً لربط الشريطَين بشكل لولبٍ مزدوج. الآصرة الهيدروجينية تنشأ نتيجة شراكة ذرَّتَين في جُزيئتَين؛ إحداهما ذات كهروسالبيةٍ أعلى؛ مثل ذرة الأوكسجين من جُزيئة مع ذرة الهيدروجين من جُزيئةٍ أخرى، أو ذرة النتروجين من جُزيئة مع ذرة الهيدروجين من جُزيئةٍ أخرى. وحيث إن إلكترون ذرة الهيدروجين سيُسحب إلى الذرة ذات الكهروسالبية الأعلى، تبقى الجُزيئتان مرتبطتَين أو مشتركتَين بنواة الهيدروجين أو البروتون. إن تكوينَ الأواصرِ الهيدروجينية بين القواعد النووية هو الذي يمكِّن من تكوينِ ارتباطاتِ واتسون-كريك بين هذه القواعد النووية؛ فالقاعدة النووية أدنين تزدوج مع القاعدة النووية ثيامين؛ لأن كل جُزيئة أدنين تحمل بروتوناتٍ في المواقع المناسبة التي تمكِّنها من عملِ آصرةٍ هيدروجينية مع الثيامين. ولا تتمكَّن جزيئة الأدنين من الازدواج مع الكوانيين ولا السايتوسين مع الثيامين؛ لأن البروتونات لا تتموضع في المواقع المناسبة لتكوين الأواصر. مع ذلك، يمكن أن تتكوَّن أواصرُ هيدروجينيةٌ بين الكوانين والثيامين منتجةً قواعدَ نوويةً مشابهة لازدواج واتسون-كريك. كما تزدوج القواعد النووية كوانين مع اليوراسيل في جُزيئات RNA، وتلعب دورًا مهمًّا في تركيب RNA وتآثُرات RNA -بروتين، لكن تغيُّر ازدواج كوانين-سايتوسين إلى كوانين-ثيامين في اﻟ DNA يُمكِن أن يغيِّر تتابُع القواعد النووية على نحوٍ مُؤثِّر مع كل انقسامٍ خلَوي؛ لذلك تُوجد آلياتُ تصحيحٍ وتصليحٍ حيث تُميز أزواج القواعد النووية المختلفة عن نموذج واتسون-كريك ويتم تصحيح معظم الأخطاء (Allison, 2007).
ومن المعروف أن سلوك الجُسَيمات تحت الذرية؛ مثل الإلكترونات والبروتونات والذرات، تخضع لقوانين ميكانيك الكَم. وكان الفيزيائي السويدي Per-Olov Löwdin، أول من أشار إلى أن موقع البروتون يخضع لقوانين ميكانيك الكَم وليس للميكانيك التقليدي (Johnjoe & Al-Khalili, 2014).
إن سلامة تتابُع القواعد النووية على شريطَي اﻟ DNA لا يضمن أمانة المحافظة على المعلومات الوراثية لهذه الجُزيئة ونقلها باستمرار إلى الخلايا الجديدة من خلال مضاعفة اﻟ DNA وحسب، وإنما هو عاملٌ مقرِّر لبناء مكوِّنات الخلايا والكائن الحي وفعاليتهما عَبْر التعبير الجيني. وهذا الأخير يتضمَّن عمل الإنزيم RNApolymerase الذي يقرأ تتابُع القواعد النووية على شريط اﻟ DNA مُكوِّنًا جُزيئات mRNA متمِّمة في عملية النسخ، تُتبَع بتكوين البروتينات في عملية الترجمة.

(٢) دَور البروتونات في إحداث الطفرة Role of Protons In Mutation

(٢-١) الطفرة التلقائية Spontanous Mutation

كما أشرنا سابقًا أن ارتباط القواعد النووية في جُزيئة اﻟ DNA يتم من خلال تكوين الأواصر الهيدروجينية، وأن العامل الحاسم في نُشوء هذه الأواصر هو مشاركة القاعدتَين النوويتَين المتقابلتَين بالبروتون. وكما نرى في الشكل ٥-٥ فإن الأواصر الهيدروجينية تمثَّل بخطوطٍ متقطِّعة لتوضيح أن مواقع البروتونات يمكن أن تكون على امتداداتِ هذه الخطوط المتقطِّعة. وكما يُلاحظ في الشكل فإن البروتون لا يكون في منتصف المسافة، بل أقرب إلى أحد الشريطَين دون الآخر. السبب في ذلك يرجع إلى أن البروتون هو جُسيمٌ ذرِّي يظهر حالة ازدواجية الجسيم – الموجة. وهكذا يمكن أن يتحرَّك البروتون كموجةٍ في المسافة بين ذرَّتَي النتروجين في الأدنين والأوكسجين في الثيامين على الشريط الآخر أو ذرة النتروجين في الثيامين على شريط وذرة النتروجين في الأدنين على الشريط الآخر. وإذا أخذنا مثال ازدواج الأدنين والثيامين في الشكل ٥-٥ (a)، فإن أحد البروتونَين سيكون أقرب إلى ذرة النتروجين في الأدنين والآخر أقرب إلى ذرة الأوكسجين في الثيامين مؤديًا إلى تكوين آصرتَين هيدروجينيتَين. لكن في الحالة الكمومية التي نُناقِشها ليس للبروتون موقعٌ ثابت؛ فهو يمكن أن يكون في جميع المواقع في الوقت نفسه، وهو أمرٌ تحدِّده الاحتمالات. وما عرضناه عن مواقع البروتونات في هذا المثال إنما يمثِّل الاحتمالاتِ الأرجح. مع ذلك لا يمكن استبعادُ الاحتمالات الضئيلة الأخرى التي تتطلَّب عملية اختراق (Tunneling). عدم التناظُر في موضع البروتونات هنا هو عاملٌ حاسمٌ في عمل جُزيئة اﻟ DNA (Johnjoe & Al-Khalili, 2014).
fig82
شكل ٥-٥: زوج القواعد النووية أدنين A وثيامين T. عن: Johnjoe & Al-Khalili (2014).
لو أن البروتونَين اللذَين يربطان القاعدتَين النوويتَين قفزا إلى الجانب الآخر من الآصرة الهيدروجينية، فسيكون كلٌّ منهما أقرب إلى القاعدة النووية المقابلة. هذا سيؤدي إلى تكوين شكلٍ بديلٍ لكل قاعدةٍ نووية يُسمَّى بالصنو أو التاوتومير (Tautomer) كما في الشكل ٥-٦. وهكذا كل قاعدةٍ نوويةٍ في اﻟ DNA يمكن أن تُوجد بصيغتها الاعتيادية الشائعة حسب ازدواج واتسون-كريك، وكذلك بصيغتها التاوتوميرية النادرة حيث تَعبُر بروتوناتها المشفَّرة إلى المواقع الجديدة. الحالة الأُولى ستُنتِج ازدواجًا طبيعيًّا للقواعد النووية، أما الحالة الثانية فستؤدي إلى ازدواجٍ غير طبيعي، فإذا حصل أنْ أدَّى انتقال البروتونات إلى تكوين الصيغ التاوتوميرية النادرة الحدوث للقواعد النووية أثناء عملية مضاعفة شريط اﻟ DNA، فسيتم تضمينُ القواعد النووية الخطأ في الشريط الجديد.
fig83
شكل ٥-٦: يمكن للثيامين بصيغته التاوتوميرية (الأينولية) المشار اليها بالرمز أن يزدوج خطأً مع الكوانين G وليس مع شريكه الاعتيادي؛ الأدنين A. كذلك يُمكِن للصيغة التاوتوميرية للأدنين A أن تزدوج خطأً مع السايتوسين C وليس مع الثيامين T. إذا ما تم تضمين هذه الأخطاء خلال تضاعُف اﻟ DNA ستنتج طفرة. عن: Johnjoe & Al-Khalili (2014).
وهكذا يُمكِن أن يزدوج الثيامين التاوتوميري مع الكوانين بدلا من الأدنين، وبذلك سيضمن الكوانين في الشريط الجديد حيث كان أدنين في الشريط القديم. كذلك لو أن الأدنين هو في الصيغة التاوتوميرية أثناء تضاعُف اﻟ DNA، فإنه سيزدوج مع السايتوسين بدلا من الثيامين، وسيكون الشريط الجديد محتويًا على السايتوسين؛ حيث الشريط القديم يحتوي الثيامين. وفي الحالتَين ستحصُل طفرات تنتقل إلى الذَّرية. وحسب Johnjoe & Al-Khalili (2014)، فإن كشف Wang et al., (2011) من أن القواعد النووية التاوتوميرية يمكن أن تنتظم في الموقع الفعَّال للإنزيم DNApolymerase بحيث يمكن أن تضمن في شريط اﻟ DNA الجديد أثناء عملية التضاعُف وتسبب الطفرات، يدعم إمكانية تحقُّق التأثير الكمومي لبروتونات القواعد النووية. غير أن نسبة القواعد النووية التاوتوميرية ﻟﻠ DNA تساوي حوالي ٠٫٠١٪ من مجموع القواعد النووية فيها ستؤدي إلى نسبة خطأ أو طفراتٍ مماثلة (أي ١ / ١٠٠٠٠). هذه النسبة أكبر بكثيرٍ من نسبة الطفرات التلقائية الطبيعية التي تبلُغ واحدًا في المليار، ما يُسلِّط الشك على هذه الآليَّة في تفسير الطفرات. لكن تصحيح معظم الأخطاء بواسطة الإنزيم DNApolymerase يُبقي على القليل جدًّا منها، والتي تظهر بشكل طفرات، ما يُبقي المجال مفتوحًا أمام عمل هذه الآلية الكمومية.
وفي بحثٍ حديثٍ وباستخدام المحاكاة الحاسوبية وطرق ميكانيك الكَم ومعتبرين التداخُلات الجُزيئية والبيئية، بيَّن slocombe et al., (2021) أنَّ دَور الاختراق في زوج A–T التاوتاميري ﻟﻠ DNA أقل ترجيحًا بسبب صغرِ حاجزِ التفاعُل العكسي، لكنه يكون مرجَّحًا في زوج حيث يلعب دَورًا غيرَ عابرٍ في إحداث الطفرة النقطوية.

(٢-٢) الطفرة المستحثَّة Induced Mutation

في جميع الأحياء يتم تكوين البروتينات بما فيها الإنزيمات عن طريق عملية النسخ  (Transcription) حيث يقوم الإنزيم RNApolymerase بعد الارتباط بالمحفِّز (Promoter) الذي يقع في مقدِّمة الجين أو مجموعة الجينات المكوِّنة لمشغل (Operon) بتكوين جُزيئة mRNA كنُسخةٍ متممةٍ لتتابُع القواعد النووية المشفِّرة للبروتين في الجين. تُتبع هذه العملية بالترجمة  (Translation) حيث ترتبط جُزيئة mRNA بالرايبوسوم وبمشاركة جُزيئات tRNA التي يحمل كلٌّ منها أحد الأحماض الأمينية الخاصة، وبخطواتٍ متتاليةٍ تتحد الأحماض الأمينية مُكوِّنةً سلسلةً من عديد الببتيد التي ستكوِّن البروتين حسب تسلسُل القواعد النووية في جُزيئة mRNA. إن هذه العملية خاضعةٌ لآلياتِ تنظيمٍ محكَمة؛ فباستثناء عددٍ محدودٍ من الجينات، والتي تُسمَّى جينات مدبِّرة المنزل  (House keeper genes) والتي يُعبر عنها باستمرار، بقية الجينات تشغل فقط حين الحاجة إلى نواتجها من البروتينات؛ ذلك يعود إلى ضبط اقتصاد الخلية، التي هي محدودة الموارد؛ فالبروتينات جُزيئاتٌ ضخمةٌ في الغالب تتطلَّب مواردَ جُزيئيةً وطاقيةً عالية؛ وعليه فإنها لا تنتج إلا عند الحاجة إليها. كما يجري تحليل الموجود منها إلى مكوِّناتها عند عدم الحاجة إليها لاستغلالها في بناء بروتيناتٍ جديدةٍ مطلوبة. كمثالٍ معروفٍ جيد هو مشغل لاك (lac Operon) (شكل ٥-٧) ويتألَّف من ثلاثة جيناتٍ متجاورةٍ هي lacZ وlacY وlacA تشترك بمحفِّز (Promoter) واحد، ويتم التعبيرُ عنها بتكوين ثلاثة بروتيناتٍ تشكل الإنزيم Beta-galactosidase الذي يتمكَّن من تحليل السكَّر الثنائي لاكتوز إلى السكَّرين الأحاديَّين كلوكوز وكالاكتوز؛ حيث تتمكَّن الخلية من استغلالهما في عملية التنفس. عدم وجود سُكَّر اللاكتوز في وسط نمو البكتيريا، يجعل مشغل لاك لا يعمل بسبب وجود مادةٍ كابحةٍ  (Suppressor) في المحفِّز، تمنع اتصال الإنزيم RNApolymerase بالمحفِّز، وبذلك تثبِّط عملية النسخ لتكوين الإنزيم Beta-galactosidase. توافُر سكَّر اللاكتوز في الوسط يجعل جُزيئات هذا السكَّر تُزيح جُزيئة المادة الكابحة من المحفِّز ويتمكَّن الإنزيم RNApolymerase من الاتصال بمحفِّز المشغِّل لاك والقيام بالتعبير الجيني وتكوين الإنزيم Beta-galactosidase، لتحليل اللاكتوز. من ناحيةٍ أخرى، فإن حصول طفرة في أحد جينات المشغِّل تُفقد الخليةَ القدرةَ على تكوين الإنزيم Beta-galactosidase وبالتالي تُفقِدها القدرة على النمو في وسطٍ غذائي، يكون فيه سكَّر اللاكتوز هو المصدر الوحيد للكاربون. وهكذا، حسب المبدأ المركزي في البيولوجيا الجُزيئية، المعلومات التي في اﻟ DNA تنساب باتجاهٍ واحدٍ عَبْر عملية النسخ إلى البروتينات، وإلى بيئة الخلية أو الكائن الحي. لكن ظهور طفراتٍ بكتيريةٍ مستحثَّة قادرة على النمو في وسطٍ يحتوي على اللاكتوز كمصدرٍ وحيدٍ للكاربون من سُلالةٍ فاقدةٍ للقدرة على استغلال سكَّر اللاكتوز، يُظهِر أن العامل البيئي وهنا هو اللاكتوز، قد حثَّ على ظهور الطفرة النافعة، التي مكَّنَت البكتيريا من النمو (Cairns et al., 1988). أي إن سيل المعلومات لا يكون باتجاهٍ واحدٍ فقط من اﻟ DNA باتجاه البيئة؛ وإنما بالاتجاه الآخر أيضًا من البيئة إلى اﻟ DNA. هذه الظاهرة تستند إلى مسلَّمة أنَّ البروتونات في القواعد النووية في جُزيئة اﻟ DNA للبكتيريا تسلك سلوكًا كموميًّا؛ فهي تكون في مواقعَ تجعل هذه القواعد النووية اعتيادية، أو أحيانًا تكون في مواقعَ تجعل القاعدة النووية تاوتوميرية. وحيث إنها في حالةِ تماسُكٍ كمومي فالبروتونات تُعاني حالة التراكُب وتكون في الحالتَين الاعتيادية والتاوتوميرية في الوقت نفسه. وجود اللاكتوز (باعتباره جزءًا من البيئة) سيعمل كمراقبٍ أو آلةِ قياسٍ ويؤدِّي إلى فك التماسُك وانهيار دالَّة الموجة، أما في الوضع الذي يكون فيه البروتون اعتياديًّا (وهنا لا تتمكَّن الخلايا من استغلال اللاكتوز لغرض النمو) وهو ما يحصُل في الغالب، أو في الوضع التاوتوميري أحيانًا، الذي تصبح فيه الخلايا طافرة وتتمكَّن من النمو على اللاكتوز (McFadden & Al-Khalili, 1999; 2014). في هذه العملية تُحوِّل جزيئات اللاكتوز الحالة الكمومية إلى حالةٍ تقليديةٍ متحقِّقة في الواقع.
fig84
شكل ٥-٧: مشغِّل لاك (lac Operon).

بناءً على ما تقدَّم فإن حصول الطفرات التلقائية وكذلك الطفرات المستحثَّة يمكن أن يستند إلى خواص ميكانيك الكَم؛ كالتماسُك والتراكُب والتسرُّب.

اقترح Rieper et al., (2010) أن التشابُك الكمومي يلعبُ دورًا مهمًّا في ثبات شريطَي اﻟ DNA. وأكَّد باحثون حصولَ التشابُك الكمومي أيضًا في عمل جُزيئة اﻟ DNA؛ فحسب Mihelic (2013; 2019) فإن جُزيئة اﻟ DNA تعمل كمعالجٍ منطقيٍّ كمومي؛ فقد بيَّنَت أبحاثٌ سابقة عن مُقاومة محورِ جُزيئة اﻟ DNA لنقل الإلكترونات اختلافاتٍ كبيرةً في نتائجها؛ فأحدها بيَّن أنها غيرُ مُوصِّلة، وفي بحثٍ آخر أنها شبهُ موصِّلة، وآخر موصِّلة معدنية وآخر أنها فائقة التوصيل. هذا دفع الباحث لأن يعتبرها مؤشرًا لعمل المنطق الكمومي. وقد سبق أنْ تم توضيحُ وجودِ نقلٍ متماسك للإلكترونات طوليًّا على امتداد الجُزيئة من خلال تآثُرات تنضيد pi للقواعد النووية العطرية. كما تمَّ تبيانُ أن الإلكترونات المتحركة طوليًّا على امتداد الجُزيئة، تتعرَّض لعمليةٍ ترشيحٍ كفوءةٍ جدًّا لبَرمها المغزلي بسبب تآثُر لولبية الجُزيئة مع البَرم المغزلي للإلكترونات. وكان Göhler et al., (2011) قد بيَّن ترشيح البَرم المغزلي في جُزيئة اﻟ DNA، حيث إن حركة الإلكترونات على امتداد الجُزيئة الملتفَّة إلى اليمين لا تُعيق البَرم المغزلي الأسفل للإلكترونات، لكن البرم المغزلي الأعلى يثبط على امتداد حوالي ٢٠ نكليويدة. وهذا يعني حسب الباحث أن الإلكترونات تنقل كموميًّا على امتداد مرشَّح لفٍّ مغزلي كَفوءٍ جدًّا. وهنا يلعب عدم التناضُر المرآتي لذرَّتَي الكاربون ٢ و٣ لجُزيئة الرايبوز اللاأوكسجيني في كل نكليويدة ما يمكِّن كل نكليويدة لأن تعمل كبوابةٍ منطقية. وإن جُزيئة اﻟ DNA قابلةٌ للتعامُل مع عددٍ كبيرٍ من الكيوبتات وفي درجة حرارة الغرفة. التقلُّبات للمنظومة المنطقية الكمومية لجُزيئة اﻟ DNA تنشأ من تداخُل الجُزيئات الأخرى مثل البروتينات التي ترتبط باﻟ DNA وتحدث تغيُّرات تشاكُلية (طوبولوجية)، يتم تنسيقها بواسطة قدرات المعالجة المنطقية لجُزيئة اﻟ DNA.
وحسَب Mihelic (2019) فإن أزواج الإلكترونات المتشابكة كموميًّا يمكن أن تُفصل بواسطة ترشيح البَرم المغزلي، وتبقى متماسكةً كموميًّا في درجات الحرارة البيولوجية ضمن البوابات الكمومية للنكليوتيدة المعزولة حراريًّا، وأن تُضمَّن في أشرطةٍ DNA منفصلةٍ خلال تضاعُف اﻟ DNA. وهكذا يمكن لشريطَي DNA يشتركان بإلكتروناتٍ متشابكةٍ كموميًّا أن يعانيا انقسامًا خيطيًّا ويكونا في خلايا منفصلة، وبالتالي في مزرعتَين خلَويتَين منفصلتَين. وبيَّنَت التجارب الأولية أن نموذج اﻟ DNA الكمومي أظهر ارتباطاتٍ في اللااستقطابية بين مزارعِ خلايا عصبيةٍ منفصلة.
وبيَّن Hubač et al., (2017) حصول ظاهرة التشابك الكمومي بين القواعد النووية في جُزيئة اﻟ DNA وبالإضافة إلى المعلومات التقليدية المعروفة في هذه الجُزيئة، ثمَّة معلوماتٌ كمومية وهما مرتبطان معًا. وأبرز الباحثون أهمية القواعد النووية في التتابُعات المشفرة وغير المشفرة، واعتبروا لها قيمة إنتروبي المعلومات الكمومية ومجموع تتابُعات الإنتروبي الكمومي هذه تشكِّل المعلومات الكمومية في اﻟ DNA. وانطلاقًا من مبدأ أن الإنتروبي مقياسٌ مهم لتعقيد المنظومة، وحيث إن الجزء غير المشفر للبروتين يزداد كثيرًا مع درجة تعقيد الكائن الحي، ويصل إلى ٩٨٪ في الإنسان، فإن كمية المعلومات الكمومية ﻟﻠ DNA تزداد مع زيادة تعقيد الكائن الحي وتنوُّعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤