الفصل الثاني

استقصاء مفهوم «الدين»

لا يتقاتل الناس في الحقيقة بسبب الدين، وإن بدا أنهم يفعلون ذلك، فلا بد أنهم يتقاتلون على شيء آخر في واقع الأمر (بوسي ١٩٩١، ٢٦٧–٢٨٥، ٢٧٨).

كانت اللغة الجديدة هي اللغة الرسمية في أوقيانوسيا، وقد وُضعت لتناسب الاحتياجات الفكرية للاشتراكية الإنجليزية … وكما رأينا في حالة الكلمة «حر» يتم الإبقاء على بعض الكلمات التي حملت يومًا ما معنًى بِدعيًّا على سبيل المواءمة، لكن بعد تطهيرها من المعاني غير المرغوبة. وكثير من الكلمات الأخرى مثل: الشرف، والعدالة، والفضيلة، والعالمية، والديمقراطية، والعلوم، والدين لم تعد موجودة (أورويل ١٩٤٨، ٢٦٧–٢٧٩).

(١) معضلة الدين

يخبرنا الحس العام أننا نعلم جيدًا ما هو الدين. ما علينا سوى أن نفتح صفحات دليل مختلف النشاطات «وننظر» لما هو مكتوب أسفل كلمة «الدين»، أو نبحث عنها في جوجل، فهناك أكثر من ٣٦٧ مليون نتيجة بحث عن «الدين» جاهزة لإشباع فضول من يرغب. وعند قَصر البحث على «تعريف الدين»، فإن نتائج البحث تقل خمسين مرة تقريبًا، لكن يظل هناك ٧ ملايين نتيجة. أما إذا أردنا أن نلتزم بالمصادر الأكاديمية، فلم لا «ننظر» إلى جداول المحتويات والفهارس في معظم كتب العلوم الاجتماعية والسلوكية، وننقل ما يَرِد عن «الدين»؟ باعتبارهم تجريبيين ملتزمين، يرفض الكثيرون ممن يجرون استطلاعات في مجال «البحوث الاجتماعية» أن يفرضوا أي مسميات، بل يدرسون المسميات التي يمكن فهمها بسهولة في لغة الحياة اليومية، فعند السؤال عن «الدين» يفترض الباحثون أن من يجيبون عن السؤال يعرفون تعريف الكلمة.

مع ذلك، هذه بعض الحالات التي يمكن فيها للحس العام ولغة الحياة اليومية أن تضلنا ضلالًا بعيدًا؛ فلنأخذ كلمة مثل «الدين» من «على رفِّ» لغة الحياة اليومية، إن جاز التعبير، أو من أثير الإنترنت، لكن ما الذي «نراه» عندما نفعل ذلك؟ هل يكشف لنا ذلك عن السبب وراء وجود نتيجة ما بين نتائج البحث الموجودة في صفحات الدليل، أو سبب وجود نتيجة ما وسط ٣٦٧ مليونًا من نتائج البحث عن «الدين» في جوجل؟ ما «القواعد» التي يتبعها جوجل لتحديد ما يُضاف إلى القائمة اللامنتهية من نتائج البحث عن كلمة «الدين» لديه؟ وحتى إن أمكننا الدخول إلى العقل الإلكتروني لجوجل لنعرف كيف قرر إدراج شيء ما تحت بند «الدين» في بحثه، فكيف لنا أن نعرف أن عقل جوجل الإلكتروني كان على صواب؟ لذلك فإن الأشياء المألوفة في لغة الحياة اليومية أو نتائج البحث على جوجل قد تكون نقطة انطلاق جيدة لتعريف «الدين»، أو التماس ماهيته، لكنها لا يمكن أن تجيب عن أبسط سؤال عن التعريف: «لماذا» يندرج شيء ما تحت بند «الدين» أو العكس؟ إن محركات البحث دورها محدود؛ فهي لا تبصِّرنا بما «نراه» في الحقيقة عندما «ننظر» إلى ما تُظهره من نتائج.

إذن أليس من الأفضل — ربما — أن يُترك تعريف «الدين» للمتخصصين أو للمتعلمين، مثل أولئك الذين وضعوا معجم هاربر كولينز للدين؟ أليس من المؤكد أن مثل هذا المجلد الضخم يثري الحس العام أو يحسن من الفهم الشائع ﻟ «الدين»؟ أليس من المؤكد أنه قادر على إخبارنا بما «نرى» عندما «ننظر» إلى كلمة الدين؟ إلا أن النتائج — كما سأُبيِّن — ليست مبهرة. ورغم أن منهج المعجم في تعريف «الدين» يَعِدُ بما هو أكثر من مجرد الركون إلى الاستخدام العام للكلمة، فإنه يكشف نقاط الضعف في معظم محاولات تجاوز الاستخدامات الشائعة. وفي باب «تعريف الدين» يبدأ المعجم بالإشارة إلى تعريفات الدين التي غالبًا ما تسعى — مخطئة — لأن تكون فضفاضة وشاملة، لكن — للأسف — يُرى الدين وسط هذا التعميم «مرتبطًا بكل شيء»، فيكون «الدين» هو «الهدف النهائي» أو «الرؤية الأشمل للعالم»، أو يُنظر إليه باعتباره معبرًا عن «الشعور المحيطي باللامحدودية» أو «الشعور بالتبعية المطلقة». باختصار، لا يشكل التعريف الواسع للدين سوى مفهوم ملتبس بلا حدود واضحة (مجهول ١٩٩٥، ٨٩٣-٨٩٤). وفي المقابل، عندما يحاول الآخرون تضييق نطاق التعريف، فإن المعجم يحذف النتائج؛ لأنها «محدودة أو مقيدة جدًّا». فتعريف «الدين» بأنه «الإيمان بالرب» ربما ينجح في تفادي الغموض، لكنه تعريف قاصر؛ لأنه ضيق جدًّا، فقد استبعد بوذية تيرافادا من نطاقه على افتراض أنها ديانة غير سماوية (مجهول ١٩٩٥، ٨٩٣-٨٩٤، ٨٩٣).

وحتى عندما حاول المعجم أن يُعرِّف «الدين» ذاته تعريفًا لا هو فضفاض ولا هو ضيق لم يكن بأفضل مما سبق؛ إذ يقترح تعريف «الدين» بأنه «مجموعة من المعتقدات والممارسات المرتبطة بالكائنات فوق البشرية.» وهذا يشمل بوذية تيرافادا من وجهة نظر المعجم؛ لأن بعض العلماء يرون أن بوذية تيرافادا في ممارساتها — إن لم يكن في شقها النظري — تُولي مكانة خاصة ﻟ «الكائنات فوق البشرية» (مجهول ١٩٩٥، ٨٩٣-٨٩٤، ٨٩٤)، إلا أن المعجم يسكت على نحو يثير الشك عن رؤًى ومذاهب فكرية عصرية بعينها؛ مثل الفاشية والماوية والقومية، أو عن ديانات قديمة غير سماوية؛ مثل اليانية والسامخيا والزن والداوية وبوذية تيرافادا النموذجية! فلِمَ ليست تلك «أديانًا» هي الأخرى كما ذكر نينيان سمارت؟ (سمارت ١٩٨٣). إذن يمثل بقاء أساليب التفكير الملتبسة والضيقة تحديًا صعبًا، وإن لم يكن هذا تحديًا كافيًا، فما الذي نفعله في كتاب كهذا يسعى جاهدًا لتحسين فهم المواقف التي يمارس فيها كلٌّ من الدين والسياسة تأثيره؟

سوف أوضح — اتفاقًا مع المعجم — أن الأفكار الشائعة عن طبيعة الدين هي في الواقع غامضة ومشوشة وكثيرة، بحيث لا تجدي نفعًا من ناحية، وغالبًا ما تكون ضيقة الأفق بحيث يجانبها الصواب بشكل أو بآخر من الناحية الأخرى، لكن كيف نخرج بما هو أفضل مما خرج به المعجم ذاته؟ رغم أنني لا أومن بأن التعريف الدقيق لمفاهيمنا ضروري للتفكير المثمر؛ فإنني أومن بأننا يمكننا الوصول بتفكيرنا إلى درجة مناسبة من الدقة لتناول الدين والسياسة بصورة مثمرة، لكن الوصول إلى مستوًى مناسب من الدقة سيعني إثارة أمواج مفاهيمنا الساكنة؛ إذ أرى — على سبيل المثال — أن علينا تعريف كيفية استخدامنا لكلمة «الدين» بالنظر إلى استراتيجيات تفكيرنا الأعم؛ فأنا أَحُثُّ على التخلي عن الرأي القائل إن الدين يمكن — أو يجب — أن يُعرَّف بصورة مجردة، بل على العكس فإن «الدين» مصطلح ينبغي تعريفه بطرق تختلف باختلاف السياقات واستراتيجيات البحث والاستقصاء.

لكنني، وبخلاف معظم نقاد مفهوم «الدين»، سأُبين أيضًا أن مصطلحات مثل «السلطة» و«السياسة» التي يراد بها أن تحل محل «الدين» ليست بأحسن حالًا منه، والمفارقة أن التأريخ لهذين المفهومين هو ما سيبين جذورهما في الدين. إلا أن هذه الفوضى المفاهيمية تضع من يرغب في الحديث عن الدين والسياسة حديثًا واضحًا ومتماسكًا أمام مأزق كبير؛ إذ كيف يمكن تناول قضايا الدين والسياسة إذا كنا غير قادرين على تعريف هذين المصطلحين؟ أظن أنني قادر من خلال تحريك الأمواج الساكنة لمفاهيمنا حول الدين والسلطة والسياسة، على أن أُبيِّن كيف لنا أن نفكر ونخرج باستنتاجات متراتبة منطقيًّا عن الدين والسياسة؛ في الغالب نتيجة الالتفات إلى الأهداف الأعم من تفكيرنا. لذا، فإن هذا الفصل مُكرَّس لبيان كيفية زلزلة مفاهيم «الدين» المتلقاة من ناحية، إضافة إلى كيفية استرجاع جانب من مفهوم «الدين» بما يخدم تناول «السياسة».

(٢) «رؤية» الدين: ستة قوالب شائعة

ستكون أولى النقاط في خطتنا هي إجراء عملية «تنظيف» شاملة للطريقة التي «ترى» بها الحكمة التقليدية الدين عندما «تنظر» إلى العالم. وتزيل عملية التنظيف هذه أساليب تعريف الدين عمليًّا، وتطرح أخرى جديدة. إن مثل تلك «الرؤى» التقليدية للدين، كما سنرى، خاطئة ومضللة وغير وافية ومبتذلة وغير واعية وما إلى ذلك، لكن هذه الرؤى بسبب تاريخ استخدامها الطويل في الغرب يصعب استبعادها من حديثنا عن الدين، فهذه «الرؤى» الطبيعية والشائعة في غير هذا السياق ستظل باقية، فقد أفرزتها اهتمامات نظرية ولاهوتية محددة في الغرب، ومن ورائها كل ما استطاعت أن تحشده من دعم الدول والتنظيمات الإكليركية الاجتماعية. وقد صنَّفْتُ ما أرى أنه الطرق الست الأكثر شيوعًا التي تَعرف بها الحكمة التقليدية أو «ترى» الدين، وقد أسميتها القوالب الستة الشائعة التي تحكم «رؤيتنا» للدين. وفيما يلي قائمتي:

أما أول وثاني تلك القوالب فهما زوجان من الفرضيات، كلٌّ منهما يعتبر الانعكاس أو الوجه الآخر لنظيره. فالقالب الأول يعتبر الدين بالضرورة وبحكم التعريف خيرًا، والثاني في المقابل يعتبر الدين شرًّا على الدوام. وفي ضوء الافتراض الأول يميل الناس إلى «إعفاء» الدين من اللوم على أي شر يقع تقريبًا؛ مثل: الحرب، والعنصرية، وعدم التسامح، ومعاداة السامية، والإرهاب وغير ذلك. وقد اعتادت آذاننا على الحديث المستمر عن أن «الدين» خير، لكنه أحيانًا ما «يُسرق» أو «يُستغل» من قِبل المتطرفين السياسيين فيما يرتكبونه من شر. أما الشعارات التي تنادي بأن كل الأديان هي «أديان سلام»، وأن الدين ما هو إلا ضحية «استغلال» السياسيين الأشرار، فهي صور مختلفة من هذه الفرضية. وأصحاب الفرضية الثانية ما هم إلا على النقيض من الأولى، فهم يرون أن الدين يقع عليه اللوم في كل — أو جُل — الشرور التي تحدث.

ويشكل القالبان الثالث والرابع زوجين على نفس الشاكلة، لكنهما يتكاملان ولا يتعارض أحدهما مع الآخر؛ ففي هذه الحالة يفترض معظم الناس أن الدين — بخلاف ما سبق — مسألة معتقدات بالأساس (وكذلك مسألة مشاعر أو «تجارب») وليس مسألة شعائر أو ممارسات دينية. وذكر جوناثان زيتل سميث أننا في الغرب يمكن أن نحدد بوضوح نقطة الانتقال من الممارسات الكاثوليكية — الإسبانية في الغالب — التي ترى الدين عبارة عن «أداء واعٍ لمجموعة من الطقوس المفروضة» إلى النظرة البروتستانتية للدين على أنه «معتقد» (سميث ٢٠٠٤، ١٧٩–١٩٦، ١٨١ وما بعدها). لذا، فإن الدين ينبغي وصفه في عبارات ذات طابع عقائدي أو روايات لمشاعر وغيرها من أحوال العقل والقلب؛ فقد وصف طلال أسد، على سبيل المثال، المسيحيين المعتنقين للمذهب البروتستانتي بأنهم يشعرون أن الاعتقاد هو «حالة ذهنية روحية بحتة وخاصة، وهي حالة ذهنية معينة تستقل بذاتها عن الممارسات اليومية» (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ١٠ وما بعدها).

هذا التعريف للدين بأنه المعتقد تكمله الفكرةُ التي تنص على أن تلك المعتقدات والمشاعر والتجارب المكونة للدين تتمحور — في الافتراض الرابع — حول الاعتقاد المركزي بوجود الرب؛ لذا ففي أي وقت أطلب فيه من طلابي تعريف الدين، فإن الأغلبية ترد على نحو متوقع بأنه «الإيمان بالرب». وإن وجَد ممثلو هذا النوع من الدين أمامهم أي «أديان» أخرى تمثل الشعائر فيها والممارسات والوحدات الاجتماعية الخاصة وغيرها من صور التجسيد الأخرى مثل الأعمال الفنية والمعمارية جزءًا محوريًّا؛ فهم يتحفزون للهجوم بكل قوة. وفي هذه الرؤية المعتَنَقَة، فإن الشعائر والممارسات وما يشبهها ليست إلا «صورًا سطحية» لا معنى لها ولا حياة بها إلا نتيجة للمعتقدات والمشاعر والمشاهدات التي تقوِّمها وتحرِّكها. وفي ضوء ما سبق، فإن أي تعبير عن مثل تلك «الصور السطحية» يرقى إلى ما يطلق عليه المفكرون البروتستانت الليبراليون «المادية الدينية»؛ وبذلك فرضت المسيحية الليبرالية نبرة سائدة ترتاب في أن أي دين يُختزل في مراقبة الشعائر والممارسات، على سبيل المثال، هو «دين خرافات بصورة أو بأخرى» (ريفيل ١٨٧٤، ١٣٨–١٥٦، ١٥١)، فالشخص المتدين بحقٍّ لدى علماء اللاهوت البروتستانت الليبراليين هؤلاء هو من يرشد مشاعره من خلال «الروحانية» الدينية التي تنبع — كما يرون — من «حس ديني وأخلاقي أسمى» (ريفيل ١٨٧٤، ١٣٨–١٥٦، ١٥٤).

أما خامس وسادس القوالب غير المدروسة فيَنْبُعان في العادة من الافتراضات التي هي محل الجدل بالفعل، فبالنظر إلى أن المعتقدات والمشاعر والتجارب تميِّز الدين، وبالنظر إلى أنها مسائل خاصة «روحية»، فإن القالب الخامس يعتبر الدين أمرًا خاصًّا أو مسألة «شخصية جدًّا» كذلك، فقد أعلن علماء اللاهوت البروتستانت في القرن التاسع عشر بكل فخرٍ انفصال الدين التام عن العالم الخارجي للسلطة والصراع، فمن «الأعماق السحيقة لأرواحنا» — كما قال أحد كبار ممثلي البروتستانتية الليبرالية — يشع الدين «قوة … تجعل ألد الأعداء بأقوى أسلحته وبكل ما لديه من ثقافة وفصاحة … عاجزًا غير مُجدٍ على المدى الطويل» (تييل ١٨٩٨، ٢٤). لذا، فإن الدين يترعرع في معقل سري هو «القلب»، وهو الحصن المنيع المستقل الذي أرست دعائمه مبادئ التقوى البروتستانتية الليبرالية في ذلك الوقت، وبذلك أكسبته في نهاية المطاف حصانة من البحث والاستقصاء (تييل ١٨٩٨، ١٤).

وبذلك فإن الدين في جوهره — وبحسب القالب السادس — مستقل عن السلطة والسياسة؛ حيث إنهما من الأمور العامة المتجسدة الخارجية بطبيعتهما. ويذهب طلال أسد إلى القول بأن «الفصل بين الدين والسلطة عادة غربية حديثة» (أسد ١٩٩٣، ٢٨)؛ فالدين مسألة تتعلق بشيء يدعى «الروح»، فهو عين البعد «الروحي» للحياة على كل حال؛ ومن ثم فإن الدين بطبيعة الحال لا صلة له بالسلطة، «فالسلطة» تنتمي إلى عالم الدنس.

وبصرف النظر عن شعورنا تجاه تلك الفرضيات الست الشائعة، فإنها تستحق الدراسة والتدقيق، وذلك لأسباب ليس أقلها أن تلك الفرضيات تبين كيف يتجاوب الناس مع الأسئلة المرتبطة بالدين والسياسة. ويجب على أي عمل يتناول الأسئلة الخاصة بالدين والسياسة أن يتعامل مع تلك الفرضيات، كما يجب على أي عمل يستهدف ما أسميه «استقصاء» مفاهيم مثل الدين أو السياسة أو السلطة أن يضع في الحسبان مثل تلك الفرضيات التقليدية غير المدروسة الموجودة في أذهان الناس. واسمحوا لي أن أبدأ مشروعاتي «الاستقصائية» باستقصاء مفهوم «الدين» من خلال تناول هذه الفرضيات الست عنه في هذا الفصل.

(٣) الوقوف على أول فرضيتين غير مدروستين: الدين إما خير وإما شر

(٣-١) القالب الأول: الدين خير

رغم أن العديد من الليبراليين والمحافظين يختلفون بشدة، في أغلب الأحوال، على مجموعة كبيرة من القضايا المتعلقة بدور الدين في السياسة، فإن الكثيرين يتخذون موقفًا شائعًا على غير المتوقع بشأن جزئية واحدة على الأقل عند محاولتهم التحلي ﺑ «اللباقة السياسية»؛ إذ يتفق كلا الطرفين على أن الدين هو خير بالضرورة، وأنه ينبغي ألا يُنتقد أو يواجَه أبدًا في المواقف التي تجمع الدين والسياسة معًا. وكما سنرى، يمثل هذا القالب أساسًا لعدد من الخرافات الأخرى عن الدين والسياسة. ومن أشهر الصور الأخرى لأطروحة أن الدين خير هي أن كل الأديان هي «أديان سلام» كما يقال. يجعل ذلك الأديان مسالمة في جوهرها، بينما الكيانات السياسية وحدها هي المُتَّسمة بالعنف والميل للحروب. ومن أبرز الأدلة على إفساد السياسة والمؤسسات للدين هو تسييسه؛ بداية من الكنائس المذهبية في عهد قسطنطين، حتى اليمين المسيحي والجهادية الإسلامية، وكما قال الرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش، أمام جلسة مشتركة للكونجرس في ٢٠ سبتمبر ٢٠٠١:

كما أريد أن أتحدث الليلة مباشرة إلى المسلمين حول العالم. إننا نحترم معتقداتكم؛ فهناك ملايين من الأمريكيين يمارسونها بحرية، وغيرهم ملايين في دول تعتبرها أمريكا دولًا صديقة، فتعاليم الإسلام خيِّرة ومسالمة، وهؤلاء الذين يرتكبون الشر باسم الله يسيئون إليه (تصفيق) (خطاب بوش ٢٠٠١).

من المؤكد أن استرجاع التاريخ للحظات سيكشف ثغرات كبيرة في افتراض أن الدين مسالم بالضرورة، وأن السياسة تميل إلى الحرب دائمًا؛ إذ يعكس هذا القالب الفكري الجهل بتاريخ المسيحية في العصور الوسطى؛ حيث يقول المؤرخ جون نيفل فيجيس إن «الدولة الحقيقية في العصور الوسطى بالمعنى المعاصر — إن لم تكن الكلمات تحمل مفارقة — كانت الكنيسة» (فيجيس ١٩٩٨، ١٥)، وبصفتها «السلطة الحقيقية» في ذلك الوقت، فقد حشدت جيوشها، وأطلقت حملاتها الصليبية، وشنَّت حروبها ضد المسيحيين وغير المسيحيين على حدٍّ سواء؛ باختصار لقد فعلت كل ما يمكن لدين الحرب أن يفعله. وكما سنرى في الفصل المقبل، كان الادعاء البابوي «للحق الأصيل في ممارسة السلطة السياسية» مستمرًّا عبر تاريخ الغرب. ولم يكن ما ترتب على ذلك بأقل من تغير «العلاقة بين الرب والعالم، فأصبح الرب يحكم العالم من خلال الكنيسة.» واحتلت الكنيسة مكانتها بين السلطات الدنيوية وقتها (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٥٠)، وبلغ الأمر بفيجيس حد الزعم بأن الحقوق الإلهية للملوك طالب بها البابا أولًا (فيجيس ١٩٩٨، ٢٩)؛ لذا — إن كان فيجيس على صواب — نجد «الكهنوت الملكي» للكنيسة الرومانية في الغرب الكارولنجي أو «الملكية البابوية» التي تحدث عنها كولين موريس؛ ومن ثم فقد كانت كيانًا دينيًّا قادرًا على أن يضاهي في «الشر» أي كيان «سياسي» يمكن أن يخطر على بال (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٥٠؛ موريس ١٩٨٩، ١)، فلتنظر إلى ثقة البابا أوربانوس وحدها وهو يتحدث إلى طائفة فالومبروسا في ٧ أكتوبر ١٠٩٦ في الحملة الصليبية الأولى؛ إذ بدأ البابا أوربانوس بإخبار «الفرسان» بواجبهم المتعلق بالقتال في سبيل المسيحية قائلًا:

لقد سمعنا أن بعضكم يريد أن يخرج مع الفرسان المتوجهين إلى القدس بنية تحرير المسيحية. هذه هي التضحية السليمة، لكن التخطيط لها يجري على يد الأشخاص غير المناسبين، فنحن من كان يحث الفرسان على الخروج في هذه الحملة؛ إذ ربما يستطيعون التصدي لوحشية العرب المسلمين بأسلحتهم، ويعيدون حرية المسيحيين إلى سابق عهدها.

لكن البابا أوربانوس من جهة أخرى يخبر الكهنة باستيائه من تخطيط البعض للمشاركة في الحرب المقدسة بدورهم، إلا أنه تابع قائلًا:

إننا لا نريد من أولئك الذين اعتزلوا العالم ونذروا أنفسهم للجهاد الروحي أن يحملوا السلاح ولا أن يخرجوا في هذه الرحلة؛ بل إننا نُحرِّم عليهم ذلك، كما نُحرِّم على المتدينين — من رجال الدين والرهبان — أن يخرجوا مع هذه الحملة دون إذن من الأساقفة أو رؤساء الأديرة بما يتماشى مع أحكام الشرائع المقدسة (أوربانوس الثاني ١٩٨١، ٣٧–٤٠، مقتبس في رايلي-سميث ورايلي-سميث ١٩٨١، ٣٧).

إن كلًّا من هذين التوجيهين ذو صبغة دينية؛ حيث صدرا عن أبرز الرموز الدينية للمسيحية: البابا نفسه. ربما لا نقبل — في زماننا الحالي — هذا النوع من الدين الداعي للحرب، وربما لا نرى أن ذلك هو «الإيمان»، لكن علينا أن نواجه حقيقة أن المسيحية لها تاريخ طويل كانت فيه على هذه الحال.

وعلى أقل تقدير، يعكس الاعتقاد بأن الدين بالضرورة عبارة عن معتقد استراتيجيةً لاهوتيةً مستمدة من نفس صورة المسيحية التي كانت تسعى لتعريف الدين، في مقابل نموذج الكيان السياسي تمامًا في العصور الوسطى الذي يحكم بالحق الإلهي. وعلى وجه أخص، يعكس الإيمان بخيرية الدين هذه القناعة الثقافية الضيقة المميزة للغرب، التي نشأت على الأقل في عصر الإصلاح، وعززتها بقوة البروتستانتية الليبرالية في منتصف القرن التاسع عشر، وبذلك فإنها تفشل في الإجابة عن سؤال: «من القائل؟» وفي مقابل مسيحية العصور الوسطى، نجد أن ديانات مثل اليهودية أو الإسلام لا تضع نفسها وغيرها من الأديان في نفس الازدواجية عادة، فزعماؤها الدينيون أو «أنبياؤها» — موسى ومحمد — دائمًا ما «يحملان السلاح» بعكس المسيح الذي كان يدير خده الآخر (لكن ليس المسيح الوارد في سفر الرؤيا ولا القديسين المحاربين في العصور الوسطى الكاثوليكية)، على عكس بوذا الذي اعتزل العنف تمامًا. وتدفع صور العنف الديني هذه إلى التشكك في افتراض أن كل الأديان أديان سلام، فلماذا لا نتبنى نموذجًا آخر للدين؛ يتصف بالدنيوية، ويصطبغ بالسياسة والعنف، ويفترض أولوية «النبوة المسلحة» بدلًا من النماذج التي يبدو أنها تهيمن على الخطاب الحالي، من خلال منح الدين امتياز تعريفه بالروحانية الداخلية؟ فلننظر — بالإضافة إلى الحملات الصليبية — إلى مناهض العنصرية جون براون، ومحاربي أحياء اليهود في وارسو، ومقاتلي منظمة سوكا جاكاي التابعة لنشيرين شوشو، وأتباع حركة جوست دانس، ومحمد وصحابته، وطائفة الزيلوت اليهودية، والمسيح الذي لم يَعِد «بالسلام بل بالسيف».

علاوة على ذلك، هناك مفارقة كبيرة بشأن المسار التاريخي لما يسمى بأديان السلام، فحتى في الحالات التي يمكن فيها التفريق الواضح بين ما هو داخلي وخارجي، والتي يمكننا فيها الحديث عن أديان مسالمة وروحانية، بل حتى اعتزالية، هذه الأديان «المسالمة» تبدو أحيانًا كحركة سياسية تنتظر الوقت المناسب لتظهر، ويبدو أن نار السياسة تكمن تحت رمادها، إن جاز التعبير. فلتنظر إلى حركة الدفاع عن الحقوق المدنية الأمريكية بزعامة مارتن لوثر كينج الابن باعتبارها ظاهرة دينية وسياسية معًا بكل ما تحمله الكلمتان من معانٍ، حتى وإن لم تكن «مسلحة». أيهما في تلك الحالة الداخلي وأيهما الخارجي؟ هل استمر مثل هذا المذهب حتى فقد جدواه؟ فعندما يقود قس بروتستانتي وحَبْر يهودي وكاهن كاثوليكي مسيرة ضد الفصل العنصري في الجنوب الأمريكي، أو عندما يفعل كبير الأساقفة ديزموند توتو ما يكافئ ذلك في مواجهة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، فهل يظل لتصنيفات «الداخلي» و«الخارجي» أي معنًى؟ ربما استطعنا بكل تأكيد قبل أن تتخذ حركة مارتن لوثر كينج صورة نشطة في ستينيات القرن العشرين أن نَصِف كنائس السود البعيدة عن السياسة أو المتسمة بالانعزالية بأنها «ذات طابع روحي»؛ حيث إنها نأت بنفسها عن العمل السياسي الذي كان يميزها في أيام المظاهرات والمسيرات، لكن حتى مع هذا الشكل الانسحابي، أليس من الممكن أن نرى دين كنيسة السود وقد استمد إلهامه من الصورة الإنجيلية لكفاح بني إسرائيل في قديم الأزل من أجل الحرية، ومناداة أنبيائهم بالعدل، على أنه جنين في رحم السياسة، أو نار سياسية خامدة تحت الرماد، أو عمل سياسي «على وشك الظهور»، بغض النظر عن ابتعاد سياسته عن العنف؟

(٣-٢) «استغلال» السياسة للدين: تحليل قالب فكري

يحمل القالب الذي يرى الدين «خيرًا» في طياته شكوى من أنه مهما كان الدين «خيِّرًا»، فإنه غالبًا ما «يُستخدم» أو «يُستغل» على أيدي الساسة المعدومي الضمير. على سبيل المثال، ثار جدل مؤخرًا حول رسوم كرتونية للنبي محمد نُشرت في صحيفة دنماركية. ارتبطت دوافع الرسام ارتباطًا مباشرًا بفكرة «استخدام» السياسة للدين؛ لذا قال رسام الكرتون كورت فيسترجارد في صحيفة نيويورك تايمز: «أردت من خلال هذا الرسم أن أبين كيف يستخدم المتشددون الإسلاميون أو الإرهابيون الدين باعتباره سلاحًا روحيًّا» (مجهول ٢٠٠٨، أ١١). وعلى نحو مشابه، انضم ليبراليون بارزون في أعقاب أحداث ١١ سبتمبر إلى الرئيس جورج بوش في صرف اللوم بعيدًا عن الإسلام فيما يتعلق بالتفجيرات، وذلك في لهجة تعزز روح التسامح الديني، وكذلك بسبب أن كلا الطرفين يرى أن الدين لا يمكن أن يتسبب في شر؛ فالدين هو المعتقد بالضرورة، وأي دين يبدو أنه «سيئ» من المؤكد أنه ليس دينًا «بحق». لذا في أحداث ١١ سبتمبر استُخدم الدين من جديد — وهو الإسلام في هذه الحالة — لكنه «اختُطف» هذه المرة؛ فقد صُرف الدين عن طبيعته «الحقيقية»، وجرى العبث به على نحو «شرير». وقال الرئيس الأمريكي بوش مستكملًا خطابه أمام الكونجرس في ٢٠ سبتمبر ٢٠٠١: «إن الإرهابيين خانوا دينهم محاولين عمليًّا السطو على الإسلام نفسه. عدو أمريكا ليس أصدقاءنا المسلمين ولا أصدقاءنا العرب. إن عدونا هو شبكة من الإرهابيين المتطرفين وكل حكومة تدعمهم» (تصفيق) (خطاب بوش ٢٠٠١). إذن هجمات «الانتحاريين» في ١١ سبتمبر — برغم تلاوتهم آيات من القرآن وصيحاتهم وهم يقتربون من برجي التجارة في مانهاتن — لم تمثل أي وجه «حقيقي» للإسلام، ولم تخدم أيًّا من أهدافه الحقيقية. بالمثل فإن الحملات الصليبية أو منظمات كو كلوكس كلان لا تمثل بأي شكل الأهداف أو المصالح «الحقيقية» للمسيحية. ووفقًا لهذا الرأي السخيف، لم يكن المختطِفون في ١١ سبتمبر مسلمين «حقًّا»؛ لأن ما نفذوه من خطط وأعمال قتل كانت «شريرة». كذلك لم يكن الصليبيون مسيحيين «حقًّا»؛ حيث إنهم لم يسعوا وراء تحقيق أهداف أخلاقية مسيحية معينة، أو يتبنوا استراتيجية لنشر الإحسان والحب وعمل الخير. لكن ماذا إذا لم يكن منفذو هجمات ١١ سبتمبر سوى رجال نصبوا أنفسهم جنودًا للإسلام، وانكبوا على خطة لإعلان الجهاد؟ هل كانوا مجرد عرب ليس أكثر؟ هل كانوا — ربما — مجموعة من الذكور حديثي السن تملؤهم الحماسة ليس أكثر؟ وكذلك ألم يكن الصليبيون سوى جنود مسيحيين زحفوا من أجل الحرب؟ هل كانوا — ربما — مجرد فرنجة ليس أكثر؛ مجرد جنود مرتزقة ليس أكثر؟ من بين الوسائل التي تحاول بها الأديان أن تحصن أنفسها ضد التحديات التي تواجه إيمانها الذاتي بالخير والطهر والفضيلة هو تطبيق أساليب دفاعية تقوم على إنكار المسئولية عن الأعمال التي توصف بأنها سياسية، رغم أن الدين في طبيعته الجوهرية يعتقد بأنه خيِّر، بينما تُعزى المشكلات للسياسة.

وفي نفس الاتجاه — وبرغم الاشتراك مؤخرًا في الأنشطة السياسية — حذرت الكنيسة الإنجيلية الأمريكية أعضاءها من خطر «استغلالهم» في أغراض سياسية:

والخطأ الآخر الذي يقع فيه كل من اليسار الديني واليمين الديني في العقود الأخيرة هو تسييس الدين، عن طريق استخدامه في التعبير عن مواقف سياسية في جوهرها لدرجة فقدان الصلة بالحقيقة في الكتاب المقدس. وبهذا يفقد الإيمان استقلاله، وتصبح الكنيسة «نظامًا حاكمًا دخل في صلاته»، ويصبح المسيحيون مجموعة من «الأغبياء النافعين» لحزب سياسي أو آخر، ويتحول الدين المسيحي إلى اتجاه فكري في أنقى صوره، فالمعتقدات المسيحية تُستخدم باعتبارها أسلحة لتحقيق المصالح السياسية (الكنيسة الإنجيلية واللجنة ٢٠٠٨، ١–٢٠، ١٥).

أرى أنه عندما ننظر إلى هذه المزاعم عن كثب نجدها مفككة؛ لذا فإن معظم الادعاءات بأن الدين «مستغَل» تفضي إلى حقيقة مفادها أن المتدينين ما هم إلا أناس غير راضين عن بعض ترتيباتهم الخاصة — التي تمت طوعًا في أغلب الأمر — مع الكيانات السياسية. فما كان ذات يوم «اتفاقًا سائغًا» استُقبل بحفاوة يَترك الآن «مذاقًا مريرًا».

إلا أن تبعات هذه النظرة — مع أنه يُقصد بها حماية سمعة الدين، والحفاظ عليها — لم تفعل شيئًا سوى الإضرار بهذه السمعة؛ لذلك فإن المؤمنين بفرضية أن الدين خيرٌ عندما يرون حالات لا يظهر فيها الدين بذلك المظهر، فإنهم يستنتجون أن الدين يساء تفسيره من خلال «استغلال» السياسة أو السياسيين له، فالسياسة والدين ينظر إليهما باعتبارهما منفصلين تمامًا بعضهما عن بعض. فالدين كان ضحية الاستغلال وفُرض عليه ما يُخالف طبيعته «الحقيقية»؛ لذا يظهر الدين ضمن هذه الرؤية بصفته شيئًا سلبيًّا؛ إذ يصبح مجرد «أداة» مثل المطرقة التي يمكن رفعها أو خفضها. ومثل المطرقة، يصبح الدين أداة جامدة تخدم أهداف قوًى أو أشخاصٍ آخرين. وكما المطرقة — مع الاحترام للنجار الذي يستخدمها — ليس للدين أي صلة جوهرية بالفواعل السياسية البشرية التي «تستخدمه». إن هذا الخطاب يصلح للحديث عن المؤسسات التي يهيمن بعضها على بعض، مثل الأجهزة الملموسة «للكنيسة» و«الدولة»؛ ففي إيران المعاصرة، يتحدث المعلقون عن صراع بين «روح الجمهورية في إيران والنخبة الدينية الحاكمة» (جاهانبيجلو ٢٠٠٩، أ٢٥)، وفي عهد مارتن لوثر يمكننا الحديث أيضًا عن الصراع بين المؤسسات الإكليركية ومؤسسات الدولة مثل إحدى الأسر الحاكمة.

لكن — للأسف — غالبًا ما يسيء أولئك الذين يستخدمون «الدين» بمعناه المجرد فهم الدين؛ إذ يدَّعون عدم رؤية «الدين» إلا كشيء «تستخدمه» السياسة، لكنهم لا يرون أنه بخلاف الحديث عن مؤسسات مادية محددة يصبح من الصعب معرفة معنى هذه المزاعم، ولا يمكنهم، على سبيل المثال، تصور الدوافع الدينية التي نُسجت في الأصل لتنتج عملية أو استراتيجية معقدة تشمل جميع جوانب الحياة الإنسانية مثل الفن والسياسة والاقتصاد وغيرها، فهل كان الجانب الديني من فاشية موسوليني مجرد «أداة» استُخدمت لأغراض سياسية؟ أم أن الدين كان — كما أوضح إميليو جنتيله باستفاضة — جزءًا من بنية أهداف موسوليني ككلٍّ: أهداف جمعت الفن والخطابة والشعائر والعمارة والموسيقى والقوة العسكرية وغيرها في بوتقة «الفاشية»؟ (جنتيله ١٩٩٦). وفيما وراء التفكك المفاهيمي والتطبيقي لفرضية «خضوع الدين للاستغلال» — وهو ما سأبينه الآن — أتوقع أن معظم المتدينين سيشعرون بنفور حادٍّ مما تتضمنه وجهة النظر هذه. وإن كانت فرضية «خضوع الدين للاستغلال» صحيحة — وهو ما لا أُومِن به — فسيتحول الدين إلى شيء متقلب في أذهان المتدينين الذين يتساءلون بجدية عن أسباب تقديسه.

(٤) القالب الثاني: الدين لا خير فيه

على نفس القدر من التعجيز، لكن على النقيض من القالب الذي يرى الدين خيرًا، هناك أحدث القوالب الفكرية التي فُرضت علينا، وهو أن الدين لا خير فيه. فمؤخرًا، وفي ظل موجة من الأعمال التي قدَّمها «الملحدون الإنجيليون الجدد»، مثل: ريتشارد دوكينز ودانيال دينيت وسام هاريس وكريستوفر هيتشنز، تعرض جمهور القراء لحملة شاملة مركزة من الكتابات المستنكرة للدين تستحق أن تُجمع تحت مظلة واحدة هي المدرسة القائلة بأنه «لا خير في الدين» (دوكينز ٢٠٠٦، ودينيت ٢٠٠٧، وهاريس ٢٠٠٦، وهيتشنز ٢٠٠٧). وبما أن هيتشنز هو من يهاجم «الدين» أغلب الوقت لفشله في المجال الاجتماعي والسياسي، فإن بعض الأمثلة من كتابه ذي العنوان المتمرد «الرب ليس عظيمًا» ربما تعطي فكرة عن الاستراتيجية التي يتبعها الكُتَّاب المؤمنون بأنه لا خير في الدين. انظر بدايةً إلى هذه الخلاصة المنمقة لاتهامات هيتشنز:

يبقى هناك أربعة اعتراضات أساسية على المعتقدات الدينية: أنها في جملتها تخطئ في تفسير أصل الإنسان والكون، وأنها بسبب ذلك الخطأ الأول استطاعت الجمع بين أقصى صور التذلل وأقصى صور الإيمان بالذات، وأنها سبب للكبت الجنسي الخطر، كما أنها في النهاية تنبني على التفكير القائم على التمني (هيتشنز ٢٠٠٧، ٤).

وهذا مثال آخر ينتقد الدين بشدة على الجانب الأخلاقي:

إننا نؤمن في يقين بأن الحياة الأخلاقية يمكن تحقيقها من دون الدين، كما نعلم تمام العلم أن الاستنتاج المترتب على ذلك سليم؛ وهو أن الدين دفع الكثيرين لأن يسلكوا سلوكًا ليس بأفضل من الآخرين، بل وأن يمنحوا أنفسهم أيضًا الإذن ليتصرفوا على نحو يثير دهشة؛ مالك بيت دعارة مثلًا، أو مجرم تطهير عرقي (هيتشنز ٢٠٠٧، ٦).

وهذا المثال الأخير يوضح أين هيتشنز من الطرح القائل بأن الدين شر، فالدين لديه بمثابة «سم»:

خلال كتابتي هذه الكلمات، وبينما تقرؤها أنت، يخطط أصحاب المعتقدات بطرق مختلفة لتدميرك وتدميري، وتدمير كل المكاسب التي حققتها البشرية بشق الأنفس مما ذكرناه، فالدين يسمم كل شيء (هيتشنز ٢٠٠٧، ١٣).

بمثل تلك الكلمات يصعب تصور شيء يراه هيتشنز نافعًا في الدين؛ فهو يرى أنه لا يمكن تحقيق أي هدف جيد من وراء الدين أيًّا كان وصفه، فالتلميح بأن «الدين له أنياب ومخالب ملوثة بالدماء» حاز إعجابًا به وبدوره في التاريخ على النحو الذي كان يرغبه هيتشنز.

إن أسهل طريقة لوضع هذه الاتهامات في سياق منطقي هو اختيار أحدها، وكشف الانتهازية السطحية التي يتميز بها «الإلحاد الجديد» ضمن المشهد بأكمله؛ فعلى سبيل المثال، يقول هيتشنز إن الدين «في جملته يخطئ في تفسير أصل الإنسان والكون.» ولا يذكر هيتشنز أي دين كان يقصد؛ لأنه — كما يُلمح هجومه المركز — يُعرِّف «الأديان» وكأنها شيء واحد، لكن بداية هل كان حق هيتشنز في تعريف «الدين» مسلمًا به في اتهاماته؟ لقد جانب هيتشنز الصواب بشدة؛ فبوذية تيرافادا مثلًا ازدرت بشدة أي تكهن حول أصول الإنسان والكون. فالكون وكل ما فيه يُعد بالنسبة للبوذيين لغزًا ليس لديهم اهتمام بشأنه؛ حيث إنه لا يرتبط بالمشكلات الوجودية الرئيسية في حياة الإنسان.

ربما يشكو هيتشنز — بغير وجه حق في واقع الأمر — من أنني اخترت حالة «متطرفة» من خلال احتواء بوذية تيرافادا في نطاق تعريفي «للدين»، فماذا عن الأديان التي تتماشى مع تعريف هيتشنز مثل المسيحية؟ ألا يظن المؤمنون بها أنهم يعلمون نشأة العالم وما فيه؟ ويجب هنا أن نستبعد فرضية أن المسيحيين، على سبيل المثال، ملتزمون بتفسير شبه علمي وموضوعي لأصول الكون والإنسان؛ أي ملتزمون بالإيمان بهذه الأمور، فرغم العبارات العقائدية عن «الإيمان بالرب خالق السموات والأرض»، لا تبين النصوص المقدسة تفسير تلك الكلمات أكثر مما توضح كيفية قراءة قصة الخلق في الأيام السبعة الواردة في سفر التكوين. فهل تُقرأ هذه العبارات كالوثائق القانونية مثل الصكوك، أم ربما ينبغي أن تُقرأ كالقصص الخيالية أو قصص الخيال العلمي؟ أما هيتشنز فيفترض الخيار الأول فحسب، لكن لم لا يكون الخيار الثاني؟ من قال إن سفر التكوين يجب أن يُقرأ ككتب التاريخ أو كتب علم الأحياء؟ وإن كان الخيار الأول هو الخيار السليم، فكيف يعلم يقينًا — بدلًا من مجرد التسليم — أن سفر التكوين لا يقترب من الحقيقة أكثر مما يؤمن به؟ هل فكر أحد في «الانفجار العظيم»؟ ثمة تساؤل حول ما كان هيتشنز سيقوله في ذروة فرضيات نظرية الانفجار العظيم الأولى. ربما التزم الرجل ببعض التواضع؛ خاصة بالنظر إلى أن نظرية الانفجار العظيم حرَّكتها جزئيًّا النظرة المؤمنة بالخلق لدى أحد أهم من وضعوها؛ وهو القس جورجيه هنري لوميتر عام ١٨٩٤.

أما في الشئون الاجتماعية والسياسية، فليس هيتشنز بأفضل حالًا، فعندما يزعم أن «أصحاب المعتقدات يخططون بطرق مختلفة لتدميرك وتدميري»، فهو لا يضع الانتحاريين في هجوم ١١ سبتمبر وحدهم في حسبانه. فهل يشحذ أعضاء جمعية الأصدقاء الدينية أو «الكويكرز» سيوفهم؟ هل يجهز البوذيون المؤمنون بمذهب الزن نوعًا من ألغازهم «المُزلزلة» للتأثير بقوة على عقولنا؟ ربما تحضِّر طائفة الآميش جيادها لنوع من غارات الفرسان على أحد متاجر «أبل» المحلية؟ ما الذي يعطي هيتشنز المبرر ليقول: إن «الدين يسمم كل شيء» (هيتشنز ٢٠٠٧، ١٣)؟ من الواضح أن هيتشنز يتبع استراتيجية «تدمير» خاصة به. اسمحوا لي في سبيل إحداث نوع من التوازن مع سخط هيتشنز على المسيحية أن أعود بالقارئ مرة أخرى لكتابات المؤرخين الذين كشفوا جذور المُثُل الجوهرية للدولة الليبرالية العلمانية التي نشأت من تاريخ المسيحية في الغرب. يبين أحدهم كيف أن الإيمان «بالمساواة» الأصيلة بين جميع الشعوب، وأن الشعب له نفس حقوق الإمبراطور وغير ذلك قد نشأ من الناحية التاريخية عن القانون الطبيعي الكاثوليكي الروماني. وبالمثل، فإن شمولية حكم القانون ونظرية الشرعية التعاقدية والقانون الدولي ذاته الذي يخضع له كلٌّ من البابا والإمبراطور ظهرت من ذات المنشأ (فيجيس ١٩٩٨، ٧). إن ثرثرة «الملحدين الجدد» عن أن الدين لا خير فيه ليست أكثر تماسكًا من دعوات المنادين بأن الدين خير، فكل من الأمرين لعنة على فريقه.

(٥) ثاني أزواج القوالب الفكرية: الدين إيمان والإيمان بالرب

(٥-١) المعتقدات والعقائد «والجوهر» المعاصر للدين

منذ أن بزغ فجر العصر الحديث في الغرب — وقبل ذلك بكثير حسبما يرى البعض — كان يُنظر للدين على أنه يتكون من المعتقدات والعقائد والتعاليم والمبادئ والعبارات المذهبية وما شابه. ونشر مؤرخ المسيحية ياروسلاف بيليكان مؤخرًا مجلدًا مكونًا من ٦٠٠ صفحة يضم مئات الوثائق التي تُصنف كحقائق عن الإيمان في الديانة المسيحية وحدها (بيليكان ٢٠٠٣). ليس من الغريب إذن أن يزعم طلال أسد أن «الإيمان يعتبر جوهر الدين» في الغرب (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ١١). ويدعم جل الدلائل الوثائقية التي جمعها بيليكان بجانب الحكمة الدينية التقليدية هذا الرأي بشدة. وبغض النظر عما إذا كان المذهب كاثوليكيًّا أو أي مذهب معدل، فإن معظم المسيحيين يتفقون مع رأي أسد أن «الإيمان بالمعتقد السليم أهم من القيام بممارسات معينة» (أسد ١٩٩٦، ١–٥، ١٠). واللافت كذلك أن هذه الحكمة الدينية التقليدية التي يتميز بها الدين في الغرب أثَّرت — وهو ما لم يكن مستغربًا — في الطريقة التي حدد بها علماء الاجتماع العلمانيون حدود الدين، وتجاوز تأييد الرأي القائل بميل الدين في الغرب نحو المعتقد حدود الخطاب الديني، لكن ما أثَّر بِدَوْرِهِ في نظرة علماء الاجتماع للدين هو زعم أسد أن كليفورد جيرتس؛ أحد أشهر علماء الأنثروبولوجيا، مثال حي على النظر للدين باعتباره المعتقد؛ لذا فإن أسد يتهم جيرتس بالنظر إلى المعتقد على أنه نوع من الأساس لما يُطلق عليه «الدين»، انطلاقًا من قوله إن «المعتقد الديني يستقل عن الأحوال والنتائج الدنيوية» التي قد نربطه بها. ويعتبر أسد أن هذه نظرة خاطئة؛ لأن المعتقدات تغير أحوال العالم الذي يعيش فيه المؤمنون بها (أسد ١٩٩٣، ٤٦). أما من ناحية الدراسة العلمية للدين فيبدو من المهم أن ويلفريد كانتويل سميث؛ أحد الشخصيات المؤثرة باعتباره مؤرخًا سابقًا للأديان في جامعة هارفرد قد سقط في فخ الاتهام نفسه بالمساواة بين الدين والمعتقد، لكن المصطلح المفضل لدى سميث للإشارة إلى الدين هو «الإيمان». وفي هذا السياق، فإن تصور سميث عن الدين لا يمكن وصفه إلا «بالورع والفردية والارتباط بالعالم الآخر» (أسد ٢٠٠١، ٢٠٥–٢٢٢). من الواضح أن هذه هي كل المصطلحات التي توحي بأن المعتقد (أو «الإيمان» ولكن باسم مختلف) هو لب وجوهر تصور سميث عن الدين.

قد نختلف حول التاريخ الدقيق الذي بدأ فيه الناس في الغرب النظر إلى الدين في الأساس على أنه المعتقد؛ حيث كان المسيحيون في مرحلة وضع نصوص صريحة للمعتقدات في عقائدهم منذ القرون الأولى، إلا أن المؤرخ بنيامين جيه كابلان قال إن تأكيدنا في الوقت المعاصر على المعتقدات في صورتها الحالية وبقوتها الحاضرة المصاحبة تجسد في اتباع استراتيجيات لاهوتية أحدث. ويقول كابلان إن الدين في الغرب أصبح صورة مطابقة للمعتقدات مع بداية الحقبة الحديثة. لا يعني هذا أن ننكر قول مؤرخ يتمتع بنفس مكانة ياروسلاف بيليكان — على الأقل فيما يخص المسيحيين — إن الأمر «بالإيمان» و«الاعتراف» يعود إلى عهد الحواريين (بيليكان ٢٠٠٣)، بل إنه لا يقصد منه إلا بيان أن أحدث تركيز وتعريف لهذا الاتجاه جاء على أثر حركات دينية أكبر، وضمن أهدافها اللاهوتية المحددة؛ لذا فالسؤال عما إذا كان إصرار الكنيسة القديم على صياغة نصوص عقائدية للمعتقدات هو الصورة المتطرفة من الافتراض المعاصر القائل بأن الدين في جوهره هو الإيمان هو سؤال لم يتناوله بيليكان نفسه. ويكتفي كابلان بالقول إن الظروف التي فرضتها الصراعات حول الإصلاح الديني عززت من الإصرار على وضع استراتيجية لاهوتية أصبح فيها المعتقد هو المعيار المطلق للتدين. وفي ظل انقسام العالم المسيحي، برزت أطراف مختلفة في صراع محتدم بعضها ضد بعض. كان من الواجب تحديد اتجاهات الولاء المختلفة بكل دقة، وبذلك يبين كابلان كيف تحول الدين «بالتدريج ليصبح الإيمان بعقيدة معينة والعيش تبعًا لها» (كابلان ٢٠٠٧، ٣١)، وهذا ما يسميه كابلان «المذهبية»؛ وهي الفكرة التي تكونت حديثًا في الغرب عن أن الاعتراف بمجموعة من المعتقدات تحدد طبيعة الدين؛ لذا فإننا ورثنا «نموذجًا من الثقافة الدينية التي تطورت في القرنين السادس عشر والسابع عشر» بجانب اهتماماتها واستراتيجياتها المصاحبة بالتبعية، والتي لا تزال تهيمن على الدين في الغرب إلى اليوم (كابلان ٢٠٠٧، ٤٦).

(٥-٢) التدين يعني الاستعداد لإقرار ذلك

كان المشروع «المذهبي» — أو «الاستراتيجية المذهبية» — يعني في جزء منه كذلك أن المعتقدات الدينية تُعرَّف بأنها افتراضية، فكانت تعني «الإيمان بشيء ما». لا يعني هذا إنكار الحديث المتكرر عن الإيمان في سياق تجريبي أو غير افتراضي مثل الثقة أو «الإيمان» (بالمسيح على سبيل المثال). وعليه، ذكرت اللجنة التوجيهية للإنجيليين الأمريكيين في بيانها عام ٢٠٠٨ — وهو بيان بالمعتقدات الأساسية في حد ذاته — أن ما يُعرِّف المسيحي الإنجيلي الحقيقي «قبل كل شيء … هو الالتزام والإخلاص لشخص المسيح وعمله، ولتعاليمه ولأسلوب حياته، والالتزام بلا فتور بسيادته قبل كل السلطات والانتماءات الدنيوية» (الكنيسة الإنجيلية واللجنة ٢٠٠٨، ١–٢٠، ٨). واللافت في الإيمان الافتراضي هو أنه حتى مع وجود الالتزام الشخصي التجريبي — أي الإيمان — فإن المجتمع الإنجيلي لا يزال يؤكد على الطبيعة الافتراضية للإيمان؛ لذا يتابع البيان الإنجيلي قائلًا: إن «الانتماء إلى المذهب الإنجيلي يعني الإخلاص المستمر ليسوع المسيح … والانتماء للمذهب الإنجيلي يعني الاعتراف بالسلطة العليا للكتاب المقدس الذي يوجهنا إلى يسوع …» (الكنيسة الإنجيلية واللجنة ٢٠٠٨، ١–٢٠). وهذا يعني أن عليك أن تعرف أنك محفوظ ومستعدٌّ وتوَّاق لإقرار ذلك على حد سواء. ومن النادر — إن لم يكن غائبًا — دراسة الأسباب وراء أهمية تبني هذه الصورة من التدين، فالأسباب واضحة بذاتها.

لكن — في حالة معينة — ماذا لو كانت الحياة المتدينة أو مجرد التدين هو الأهم في واقع الأمر؛ من منظور الحياة الأبدية على سبيل المثال؟ ماذا لو كان تحريم الإنجيل لما يسمى «الرياء» أكثر تكرارًا؟ يتناول إنجيل متى (٧: ٢١) هذا الموضوع بوضوح شديد: «ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب، يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات.» ماذا لو كان يوجد عدد كبير من الفجوات التي يجب ملؤها بين التدين من الناحية الفعلية، وبين فكرة الاعتراف أو الإقرار بذلك في كثير من الكلام؟

سيقر المسيحيون المتأملون أنه رغم الوظيفة الجوهرية للاهوت، فإن الخطاب اللاهوتي لا يحفز النزعات الدينية بالضرورة، بل — على عكس ذلك — لا تعتمد النزعات الدينية بالضرورة على وجود تصور واضح للإطار الكوني لدى الشخص المتدين (أسد ١٩٩٣، ٣٦).

غالبًا ما يُخلط بين العيش من ناحية، والكلام أو التفكير من الناحية الأخرى في مفهوم الدين «المذهبي» باعتباره المعتقد في الغرب. ويتابع طلال أسد قائلًا: «ثمة فكرة حديثة تقول إن الممارس لا سبيل لديه لمعرفة كيفية عيش حياة ورعة من دون القدرة على التعبير عن هذه المعرفة» (أسد ١٩٩٣، ٣٦). فالمذهبية حوَّلتنا جميعًا إلى خبراء رأي! لذا ربما يصبح السؤال للمسيحيين المعاصرين — وأي متدين — عن الأهداف التي يستتبعها مثل هذا الفهم «للدين». ما الغاية التي يخدمها أتباع استراتيجية دينية تقوم على الأمر بأن يجهر الإنسان بمعتقده؟ وكذلك كيف سيبدو «الدين» المسيحي إن تبنى استراتيجية أخرى يُنظر فيها للدين بتواضُع أكبر، باعتباره يتمحور أكثر حول التصرف بالطريقة اللائقة — بما يناسب روح الآية الواردة في إنجيل متى (٧: ٢١)، بحيث لا يدخل مملكة الأب إلا «الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات»؟

وعلى وجه الخصوص، عندما يتعلق الأمر بالدين والخطاب العام، فعلينا أن ندرك ما الذي يؤكد عليه أسد، بما أن قدرًا كبيرًا من الأهمية يُعزى في الغالب إلى الإقرار بالتدين. بعبارة أخرى إلى الإعلان الإنجيلي الجريء لالتزام الإنسان أو تأكيده بفخر على ميلاده الجديد. ورغم أننا نتكلم عن المخاوف بشأن وجود الدين أكثر من اللازم أو أقل من اللازم في الحياة السياسية، فمن الصعب أحيانًا معرفة المشكلات الحقيقية. بعبارة أخرى هل المشكلة تكمن في الوجود الفعلي للدين بصورة أو بأخرى؛ تشمل أي شيء يتراوح بين الدافع الديني الشخصي والقوانين الصريحة التي تُميز دينًا معينًا؟ أم أن المشكلة في إعلان انتماءات الفرد الدينية ودوافعه وأغراضه وخلافه، وذلك ضمن استراتيجية تفرضها أحكام الإنجيل لتعليم الكتاب المقدس لكل الأمم؟ وتوحي وثيقة حديثة مهمة صادرة عن اللجنة الوطنية للإنجيليين الأمريكيين بعنوان «بيان مبادئ إنجيلي: إعلان الهوية الإنجيلية والالتزام الشعبي»، على أقل تقدير، بأن إعلان التدين هو أمر على قدر كبير من الأهمية لدى بعض المتدينين الذين يبحثون التدخل في المجال العام والمجال السياسي؛ لذا فهم يقولون بكل جرأة: «نؤكد — اتفاقًا مع القديس بولس — أننا لا نخجل من إنجيل يسوع المسيح؛ لأنه قوة الرب التي ترشد للخلاص» (الكنيسة الإنجيلية واللجنة ٢٠٠٨، ١–٢٠، ٤)، فالضغط من أجل «الاعتراف»، أو الإقرار بالتدين أصبح صريحًا.

ويمكن دعم فكرتي بالجدل الذي ثار مؤخرًا في السياسة البريطانية؛ فقد ذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز مؤخرًا أن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير أعلن لأول مرة أن «إيمانه ألهم حياته السياسية في كثير من الأحيان» (مورفي ٢٠٠٨، أ٨). لقد دخل بلير مجال «الاعتراف» الحديث ودخل مجال استغلال الأوامر الدينية الملزمة التي يعتنقها المؤمنون بأن الدين هو المعتقد. وفي هذه الحالة لم يعلن بلير إلا قبل وقت قصير عن اعتناقه المذهب الكاثوليكي الروماني «بعد سنوات من حضور القداس سرًّا» بينما كان رئيسًا للوزراء، حسبما ذُكر. وكان لهذا الاعتراف دلالة خاصة لدى بعض مراقبي المشهد السياسي البريطاني؛ ففي تصريح لم يُسمع به من قبلُ في السياسة الإنجليزية — إن لم تكن الأوروبية — أخبر بلير مراسلين آخرين أنه قد صلَّى عند اتخاذه قرار إرسال قوات بريطانية إلى العراق. وفي نفس السياق، ذكر المقربون من بلير أن قراراته بالتدخل في كوسوفو وسيراليون لم «يحركها» هي الأخرى حساب «المعطيات» السياسية، بل الاعتقاد بأنه كان يفعل «الشيء الصواب»، على حد قوله. ولتحديد موقع «الإيمان» في حياته السياسية تابع بلير قائلًا:

ليس الإيمان بالشيء المنفصل عن منطقنا، وكذلك لا ينفصل عن المجتمع من حولنا، بل هو جزء لا يتجزأ منه؛ إذ يضع لاستخدام المنطق غاية، ويَهَب المجتمع روحًا، ويعطي البشر معرفة بالرب … وهذه هي غاية الحياة التي لا يمكن أن تجدها في الدساتير أو الخُطب أو الفن المؤثر أو البلاغة، فهي غاية تتمحور في صورة فريدة حول الخضوع للرب (مورفي ٢٠٠٨، أ٨).

لو كان إعلان بلير هو آخر ما في الحكاية لما تبقى الكثير ليقال، لكن هناك الكثير مما يكمن وراء هذه الواجهة؛ ففي أغلب الأحيان لا يُقصد بدخول الدين «للميدان العام» إن كانت سياسة شخص ما يحركها الدين فعليًّا أم لا، بل يُقصد به اعترافهم بذلك؛ أي إقرارهم بذلك صراحة. وفي لهجة قاسية، قال أحد نقَّاد بلير الغاضبين؛ وهو المعلق الإعلامي رون ليدل: «لقد كان توني بلير يؤمن بالرب، لكن ليس بالقدْر أو الحماس الكافي ليُعرِّف الناخبين بأنه مؤمن به» (مورفي ٢٠٠٨، أ٨). إذن فنحن نرى مرة أخرى أثر الاستراتيجية «المذهبية» إذ تتطلب قوة اعتقاد الإنسان بالضرورة تصريحه به على نحو واضح ثم الجهر به! وعلى ما يبدو فإن بعض الجمهور البريطاني يشعر أن «الإقرار بذلك» في غاية الأهمية. ربما أهم من السلوك أو العيش الملتزم دينيًّا.

كان بلير سريعًا في ملاحظته هذا الأمر عن بلده. وأيًّا كان، ففي الولايات المتحدة «لا يعتبر التعبير الصريح عن المعتقد غريبًا. أما في أوروبا العلمانية … فالتدين غالبًا ما يُنظر إليه في ريبة.» بالطبع لا يتناول بلير السؤال عما إذا كان جهر الإنسان بمعتقده تصرفًا صحيًّا من ناحية الدين أو السياسة! لكنه في بريطانيا مع ذلك امتنع عن الإقرار علنًا بمعتقده؛ خوفًا من أن «يُتَّهم بالجنون» (مورفي ٢٠٠٨، أ٨). وفي نفس السياق، ذكر بلير كيف «يقود الاعتراف بالمعتقد في أوروبا إلى سلسلة طويلة من الافتراضات لا تصبُّ في مصلحة السياسي الممارس.» دفع هذا الناطق الإعلامي لبلير آلاستير كامبل إلى رفض الحديث العلني عن الدين بتصريحه الهام: «لا شأن لنا بالرب.» ويثير كل هذا سؤالًا عما إذا كان اعتناق معتقد ديني أو العضوية في كيان ديني هو سبب المشكلة، أم أن الاشتهار بالتدين هو السبب.

وتأخذنا تلك المسألة برمتها إلى أسئلة أعمق بشأن الجانب النفسي للمعتقد، وتثير على وجه التحديد أسئلة متشككة عما إذا كان بلير متيقنًا من أنه كان يتصرف تبعًا لمعتقده الديني. لنفترض مرة أخرى أنه كان صادقًا في يقينه أن تقاليده الدينية شكلت سياساته وعمله السياسي، لا بأس، لكن هل يمكننا من بعد فرويد أن نتيقن من حقيقة معرفة الذات؟ ربما من المناسب التزام قدر أكبر من التواضع تجاه مزاعم المعرفة الذاتية اليقينية بدوافعنا الخاصة وعلاقتها بأفعالنا. إذن كيف لنا أن نعرف — بل وكيف لتوني بلير نفسه أن يعرف — أن أفعاله السياسية شكَّلتها معتقداته الدينية؟ فالوهم الذاتي شائع بدرجة كافية، ولا أستثني الساسة، حتى أولئك الذين يزعمون وجود دافع ديني.

(٥-٣) اختزال الدين في المعتقد

إذن تداعيات الاستراتيجية «المذهبية» الساعية لاختزال الدين في المعتقد كثيرة، فمع أنه من الممكن أن تزيد دقة العبارات الافتراضية من قوة النظام المذهبي، برزت نتيجة غير مقصودة لربما؛ وهي التقليل من قيمة اللمسة الخيالية للشعر والأساطير والرقص والإشارات واستبعادها من الدين؛ ومن ثم استبعادها من تعريف «الدين». فالمعتقدات يجب أن تكون محددة، وتلك الصورة الفضفاضة التي تميز التصورات التأويلية لا يمكن السماح بها. ولا يزال بعض من هذا العالم المفقود فيما قبل الخيال الديني المذهبي قائمًا إلى يومنا هذا في ترانيم ما قبل عهد الإصلاح. وكان جمعُ المؤلف الموسيقي الأمريكي صامويل باربر لمجموعة من «أغاني الناسك»، التي كتبها رهبان أيرلنديون فيما بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلادي، تجسيدًا قويًّا لهذه الروح؛ فتلك الأغاني تعصف بالخيال بصورها الوحشية والغامضة؛ ففي أغنية «صلب المسيح»، على سبيل المثال، يُوجَّه الحديث إلى المسيح وهو يحتضر على الصليب بكلمات غريبة مثل: «لَمَّا أخذوا يصلبونك، يا طائر البجع.» ما الإشارات والألغاز التي تكمن في الكناية المتضمنة في عبارة: «يا طائر البجع»؟ وفي «مائدة السماء»، نجد القديسة بريجيد وهي تُعد «مأدبة» من الجعة ليسوع:

أريد بحرًا من الجعة لملك الملوك
أريد أن أرى عائلة السماء
تشربه أبد الدهر.

بمَ يوحي هذا بشأن الحياة الآخرة، خاصة إن لم يُفسر بركاكة بالأسلوب الجدي «المذهبي» لما بعد الإصلاح على أنه «حقيقة (عقائدية)»؟ وربما نألف بصورة أكبر ترانيم عيد الميلاد القديمة التي ننشدها حتى اليوم، مثل لحن روبرت يونج (١٩٢٣) لترنيمة القرن الخامس عشر «لا زهرة بهذا الجمال»:

لا زهرة بجمال الزهرة التي تحملها يا يسوع
مرحى!
ففي هذه الزهرة كانت السماء والأرض. (يا للروعة!)
وبها نرى أنه الرب في أشخاص ثلاثة، (في هيئة واحدة!)

يا له من «هراء» رائع — من وجهة نظر الإيمان المذهبي — أن يُتغنى بأن يسوع وُلد من زهرة، أو أن الزهرة تكشف عن الثالوث! بل ما أعظمه من جمال، وما أحلاه من تعلق، وما أسماه من سرور! لكن وبرغم ذلك، يا له من «هراء» حرفي من وجهة نظر أولئك الذين يعتبرون الدين مجرد اعتناق معتقدات معينة!

ومع أننا لا زلنا هنا في عالم الخطاب — حتى وإن كان خطابًا أسطوريًّا وشعريًّا — علينا أن نتفق أنه ثبت قصور العقائد والمعتقدات في شمول كل ما هو ديني. وسأثبت في هذا الفصل أن مفهومنا عن «الدين» يمكن — إن أردنا — أن يتمدَّد ليشمل الشعر والأسطورة، فكثيرٌ مما يندرج تحت الخطاب الديني ينتمي لهذا النوع من الأسطورة والشعر، لكن هذه الأشياء غالبًا ما تُستبعد من تعريف الدين. وبتبني رؤية مختلفة، هناك مجموعة أخرى من الأغراض أو الاستراتيجيات التي يمكن أن يشملها تعريف «الدين»، لكن هذا يتوقف على التجديد في اللاهوت. ولم أذكر سوى مقتطفات من تلك الأغاني، ففي سياق الكلمات التي تُقال عن الدين والمرتبطة بالدين؛ فإن حجم اللغة الأسطورية والشعرية لا يمكن حسابه؛ لذا فإن تعريف الدين في ضوء المعتقد سيجرد مصطلح «الدين» من التقدير؛ لما يحتويه مجمل الخطاب الديني وحده. ربما يعيد أحد علماء اللاهوت المجددين صياغة أغراض الحياة الدينية ليجعل الجانب الخيالي والجسدي جزءًا من تلك الحياة الجديدة. ويعني ذلك — في رأيي — أن مفهوم «الدين» يمكن إثراؤه أو توسيعه أو إصلاحه على نحو شامل؛ ليتجاوز حدود الافتراضية أو المذهبية عديمة الروح لدى أولئك الذين يختزلون الدين في مجموعة من المعتقدات. وبكل أسف — كما سأبين في مناقشتي للانتحاريين في الشرق الأوسط — خدمت الجوانب الخيالية والجسدية للدين انتشار العنف، بغض النظر عن محاولة تبرير ذلك من عدمه. لكن، كما سأبين، من دون تجاوز القالب الفكري القائل بأن الدين هو المعتقد، وذلك القائل بأن الدين خير وغيرهما من القوالب الفكرية، لا يمكننا أن ننتظر التعامل مع السياسة بصورة تعكس ما يجري في عالم الواقع.

(٥-٤) توحيد الإله

لكن هناك المزيد ليقال بخصوص الميل الغربي لتعريف الدين في ضوء المعتقد؛ وهو الشيء الذي أود تسميته «القالب ٣٫٥»، وهو ينص بالطبع على أن المذهبية في الغرب ترى الدين على أنه الإيمان بالرب، وأن الكثيرين لا يزالون يرون أن ما يُعرِّف الدين — وما يجب أن يُعرِّفه — هو التوحيد. زعم أحد معاصري دوركايم — البروتستانتي الليبرالي ألبرت ريفيل — أن الفكرة القائلة إن تاريخ الدين «وضَّح وبيَّن عمومية الدين واستمراريته وقوة حضوره المدهشة في حياة الإنسان هي عندي شهادة بوجود الرب لا جدال فيها» (ريفيل ١٩٠٥، ٧). وبهذا المنطق ينصُّ «القسم الثاني من القالب ٣٫٥» على أن الدين شهود داخلي للرب؛ «حالة ذهنية روحية بحتة وخاصة، وهي حالة ذهنية معينة تستقل بذاتها عن الممارسات اليومية» (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ١٠).

أحيانًا ما تبدو تلك النظرة كلحنٍ يمكن عزفه بعدة طرق. مرة أخرى يشيد ألبرت ريفيل بوجود نزعة نفسية طبيعية نحو الدين: «احتياج داخلي للروح» (ريفيل ١٩٠٥، ٦). أما ابنه — جان ريفيل — فقد قال إن «التفسير الكامن والحقيقي للظواهر الدينية» يكمن «في الخيال والقلب والعقل والضمير والفطرة والعاطفة.» وكلها جوانب داخلية تجريبية مهمة من حياة الإنسان (ريفيل ١٩٠٧، ١٨٩–٢٠٧، ٢٠٣). وسيكون من المثير للاهتمام البحث من أجل معرفة الإجابة عن السؤال المتعلق بماهية الأهداف الكبرى التي يحققها تعريف الدين بأنه الإيمان برب واحد. وبالنظر إلى عدد المعتقدات القائمة على الإيمان بإله واحد وعدد أتباعها الضخم تتعدد الإجابات. فحتى في مناقشة جان بودان الشهيرة في القرن السادس عشر لطبيعة الدين «حوار الحكماء السبعة عن أسرار الذات الإلهية»، اتفق المشاركون فيها على أن هناك إلهًا وحدًا كان «أبا الآلهة جميعًا» من دون نفي ممارسة «الدين» عن أولئك الذين يعبدون عدة «آلهة» (بودان ١٩٧٥، ٤٦٥)، وفيها يطرح اللوثري فريدريكوس متهكمًا السؤال البلاغي: «من ينكر أن الديانة المسيحية هي الدين الحق، أو أنها الدين الوحيد؟» فيرد أكتافيوس — وهو كاثوليكي روماني اعتنق الإسلام — قائلًا: «كلُّ من في العالم تقريبًا — في آسيا على اتساعها ومعظم أفريقيا وقسم كبير من أوروبا — ينقسمون إلى طوائف لا حصر لها، وكل جماعة ترى أن الدين الذي تحبه بوجه خاص هو الدين الأكثر جمالًا ونبلًا» (بودان ١٩٧٥، ١٦٣). فماذا كانت أهداف مؤيدي التوحيد في القرن التاسع عشر وخصوم دوركايم ليتخذوا مواقفهم تلك؟ أي استراتيجية لاهوتية كانت موضع التنفيذ؟ وكيف كان ذلك ليشكل المقصد المحدد لتعريفهم «للدين»؟

(٦) الأجزاء الخاصة من «الدين»

انطلاقًا من الطبيعة النفسية والتجريبية لجوهر الدين يبرز قالب فكري رابع يخص طبيعة تدفق الدين؛ وهو أن الدين «خاص» بالضرورة. ووفقًا لهذه النظرة، فإن المسيحية «الحقة» مثل الإسلام «الحق» ذات طبيعة «داخلية» — أي تلك الأشياء المتعلقة بالمنظومة الأخلاقية الشخصية أو «القلب» — وهو ما يمكن ملاحظته في شخص ما باختبار إخلاصه أو نواياه أو معتقداته. وينبني افتراض التعارض بين السريرة الداخلية المستقلة والعالم الخارجي الدنس على بعض التقاليد الدينية الخاصة بالمعتقدات الدينية التي نشأت عبر تاريخ الدين في الغرب. تبقى هذه الافتراضات من المسلمات، ولا تزال تتمتع بانتشار واسع في يومنا هذا، وخاصة في الولايات المتحدة. ورغم أن هذا الاتجاه من الفكر الديني يرجع في معظمه إلى مذهب جون ويزلي، فإن جذوره في «الدين الكامن في القلب»، أو دين الإخلاص والتعصب تضرب على نحو أعمق في أسس الحداثة الدينية الغربية (نوكس ١٩٥٠). ويرى عالم اللاهوت البروتستانتي الفرنسي في القرن التاسع عشر أوجست ساباتيه، أن هذه الظواهر الدينية المعروفة ﺑ «ارتكاب الخطيئة والتكفير عنها» غير علنية إطلاقًا، وإنما تكمن في أمانٍ ودون انتهاك خلف الأبواب الموصدة «لقلب الإنسان» (ساباتيه ١٩٠٤، ١٣٤). ويدفع هذا الإصرارُ على تعريف الدين بأنه خاص — ومن ثم مستقل عن أي سلطة من أي نوع — المفكرين المتشبعين بمُثُل خصوصيةِ الدين نحو تبني بعض الآراء الشاذة. وإن واجهوا أي ممارسات دينية عامة لا تقبل الجدل — مثل الأضاحي والقرابين — فهم يجدون طرقًا حاذقة لنفي صفة العمومية عنها؛ لذا فقد أكد مؤرخ الأديان الهولندي كورنيليس بي تييل أن القيمة الوحيدة لمثل هذه المظاهر الدينية العامة كشعائر القرابين هي السلوك الداخلي للقلب في سياقها؛ أي «اشتياق المؤمن للاتحاد الدائم مع» الرب (تييل ١٨٩٨، ١٤٩). وبالنسبة لمثل هؤلاء المفكرين الذين هيمنوا على دراسة الدين لمدة طويلة، فإن السمات الأساسية للدين — مثل الأضحية — كانت عادة ما تُفسَّر في ضوء ما يسمونه السياق «الروحي»؛ وبذلك فهو ليس سياقًا عامًّا (ريفيير ١٩١٢، ٢٨٥، ٩٨، ٩٩).

ورغم أن تصور الدين الذي يتضمن الألفة منتشر عبر مجموعة واسعة من الديانات، فإن تعريف الدين بأنه شيء خاص ومميز يضرب بجذور عميقة في إصرار عهد الإصلاح على ترسيخ وعي ديني خاص، فإرساء دعائم ما يسمى ﺑ «خصوصية» الدين هو نفسه الوجه الآخر من إثبات استقلاليته عن السياسة و«الميدان العام»، فخصوصية الدين تعود إلى استراتيجية مارتن لوثر السياسية الدينية التي سعت إلى «إبراز» الدولة من خلال التأكيد على استقلاليتها المؤسسية عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة البابوية من زاوية إكليركية إمبراطورية. «كل السلطة القسرية يخولها للحاكم الحق الإلهي؛ إذ يُعهد إليه بسلطة الدولة المطلقة، فلا يمكن لأي مؤسسة أخرى منفصلة أن توجد إلا بأمره أو بتكليف منه … ولا ينبغي أن تقوم أي كيانات اجتماعية حقيقية بخلاف الدولة» (فيجيس ١٩٩٨، ٦٩). وكان ثمن التأكيد على استقلالية الدولة هو جعل الدين «غير مرئي» ومستقلًّا في عالمه الخاص، فتراجع الدين في «الميدان العام» أمام السياسة. وأصبح الدين مسألة داخلية — مسألة خاصة بالضمير الخاص الحر — دون الحق في أي صوت في «الميدان العام»، أو صار محدودًا بمؤسسة هي الكنيسة الوطنية (فيجيس ١٩٩٨، ٦٨). فالدين — في صورة كيان اجتماعي — هجر عالم السلطة والسياسة، وأعطى الحاكم سلطة على الدين ومختلف كنائس الدولة التي نشأت في أوروبا فيما بعد الحقبة اللوثرية.

(٧) في الجنة بلا سلطات

أخيرًا، وانطلاقًا من النظر إلى الدين باعتباره حقيقة مستقلة وخاصة، يبرز الافتراض الشائع بأن الدين والسلطة أو السياسة لم يكن بينهما أي صلة من الناحية التاريخية. مرة أخرى، يحير تأكيد أي شخص على ذلك كل من هو على دراية بتاريخ الغرب وحده، فإن واصلنا حديثنا بتعريف الدين دون الإشارة إلى السلطة أو السياسة، فكيف ستبدو مثل هذه الاستراتيجية الاستقصائية؟ لقد طرح كُتَّاب مثل طلال أسد وتيم فيتزجيرالد وغيرهما إجابات على هذا التساؤل تتعلق بترسخ نموذج معين من الحداثة، لكن يكفي — بما ينسجم مع أهداف هذا الكتاب — تذكُّر أن الكنيسة في العصور الوسطى كانت كيانًا سياسيًّا خالصًا؛ «ملكية بابوية»، بحسب كلمات كولين موريس (موريس ١٩٨٩). وتشير المؤرخة جوديث هيرين — من بين آخرين — إلى أنه منذ عهد تشارلمان وحتى العصر الحديث «كانت المسيحية نظامًا سياسيًّا في الغرب وليس مجرد ديانة» (هيرين ١٩٨٧، ٤٨٠)، فعندما توج البابا تشارلمان، فإنه لم يخلع فحسب الشرعية على الكارولنجيين كخلفاء للأباطرة في الغرب، بل أعلن الكنيسة والبابا لأول مرة باعتبارهما «السلطة السياسية العليا». ويزعم المؤرخ جون نيفيل فيجيس أن «الإمبراطورية الرومانية المقدسة … حاولت بالفعل أن تجسد فكرة الدولة ذات القوة الشاملة، لكن هذه الدولة كانت هي الكنيسة» (فيجيس ١٩٩٨، ١٤). إذن فاجتماع الجهل التاريخي بوضع المسيحية في العصور الوسطى مع النفور من الزواج بين الدين والسياسة يفسر لماذا تملي علينا الحكمة التقليدية في يومنا هذا أن الدين والسياسة يجب ألا يختلط أحدهما بالآخر، فعندما يجري الخلط بين الدين والسياسة، فإن كل ما هو ذو طابع ديني في الدين — إن جاز التعبير — يُهدَم خلال ذلك. وتنعي شخصية السيد دولي التي ابتكرها فاينلي بيتر دان فساد الدين عندما تختفي الحدود بينه وبين السياسة قائلًا: «الدين شيء رائع، فإن ظل كما هو، فهو على ما يرام، لكن إن اختلط به قليل من السياسة استحال قنبلة لا يضاهيها الديناميت خطورة.» ويتابع دولي قائلًا إن الأفضل أن ينفصل عالما الدين والسياسة بعضهما عن بعض: «الدين وحده هو ما يعد الإنسان لحياة أخروية أفضل. أما لو اقترن بالسياسة فهو يعجل بنهايته» (كابلان ٢٠٠٧، ١٠١). وكذلك تقول الحكمة التقليدية في يومنا هذا إن الدين «الحق» كما يسمى يجب أن يخلو من كل ما هو سياسي. وسيقرر الناس بأنفسهم ما إذا كان «خيرًا» أم «شرًّا» أن يُعرَّف الدين بأنه خالٍ تمامًا من السياسة، أم أنه من المحتمل أن يتدخل فيها. وينبغي لنا — على أي حال — على الأقل أن نستبعد استحالة تعريف الدين بأن له جانبًا سياسيًّا. ويمكننا على الأقل أن نستبعد الرأي القائل بأن الدين يجب بالضرورة أن يُعرَف على أنه مسألة داخلية غير مادية وخاصة مستقلة عن السلطة أو السياسة.

(٨) طريقتان لإقصاء «الدين»

ونتيجة لتلك الجلبة المربكة التي سببتها التعريفات الشائعة «للدين»، فإن مجموعة من المفكرين الذين أسميهم «الإقصائيين» وجدتْ في خطابنا عن الدين — إما الملتبس وإما الضيق أفقًا — تحدِّيًا لا يُطاق. وبالنظر إلى هذين الخيارين السيئين، فقد يئس هؤلاء المفكرون من الحوار عن — أو مع — «الدين» مطلقًا. وهم يشملون هؤلاء «الشكليين» الذين يتصورون «الدين» مصطلحًا خاليًا من أي مضمون، لكنه مفيد في مقابل «الاختزاليين» الذين يستبعدون «الدين» من بين مفرداتنا، ويستعيضون عنه بشيء آخر. يرى الشكليون أنه نتيجة لأن أي محتوًى محدد يقترن «بالدين» يكون إما غامضًا أكثر من اللازم، وإما ضيق الأفق أكثر من اللازم، فإن المصطلح ينبغي اعتباره «خاويًا في جوهره، ولا يصلح إلا كأداة للتمييز» (براون ٢٠٠٠، ٣–٢٠، ٩). «فالدين» لدى هؤلاء لا يدل على شيء موضوعي من بين الأشياء له مضمونه الخاص، «فالدين» لا يرمز ﻟ «مادة موجودة من حولنا، أو شيء يمكن أن ينير عقولنا إن حالفنا الحظ وتوافرت لدينا وسيلة التلقي المناسبة.» وليس «الدين» سوى اسم لشيء «شكلي» من الناحية المنطقية، فهو «تصور» أو «مفهوم»؛ أو بعبارة أخرى هو «شيء يستخدم في تصنيف ما في عالم الواقع ضمن فئة من الأشياء … بهدف تفسير عِلَّاتها» (براون ٢٠٠٠، ٣–٢٠، ٩). فتعريف «الدين» إذن عملية تصنيف عشوائية «تشبه الطريقة التي تقسم بها مكتبة الكونجرس أو المكتبة البريطانية المواد المنشورة على نحو صوري إلى أقسام من المفاهيم والموضوعات المترابطة بما يُسهِّل استرجاع البيانات» (براون ٢٠٠٠، ٣–٢٠، ١٠).

على النقيض تمامًا، هناك «الاختزاليون» الذين يحاكون كلمات جورج أورويل عن استبعاد اللغة الجديدة لفئات من الكلمات برمتها، يقول اليائس وينستون سميث: «كثير من الكلمات الأخرى مثل الشرف والعدالة والفضيلة والعالمية والديمقراطية والعلوم والدين لم تعد موجودة» (أورويل ١٩٤٨، ٢٦٧–٢٧٩). وهؤلاء الذين يجتثون «الدين» من كلامنا أسميهم «الإقصائيين»؛ فهم يرون أننا لسنا في حاجة لمثل هذه الكلمة، في حين أن كلمات أخرى مثل «الثقافة» أو «الأيديولوجية» من المفترض أن تؤدي نفس الغرض إن لم تكن أفضل (فيتزجيرالد ١٩٩٧، ٩١–١١٠)، فعند «الاختزاليين» لا يهم إن كان الدين شرًّا أم خيرًا، خاصًّا أم عامًّا أم غير ذلك؛ لأن الدين لديهم — بمعنى المعتقدات والكيانات المسلَّم بأنها «دينية» وما شابه — لا يهم، فاعتبار ما يسمى «الدين» سببًا لحدوث الأشياء في العالم لا يخدم أي استراتيجية نظرية يمكن الدفاع عنها، ولا أي محاولة لتفسير أو فهم الأشياء من حولنا، فليس ثمة استراتيجية فكرية مثمرة للفهم أو التفسير يمكن تطبيقها من خلال الرجوع إلى أي شيء يحمل اسم «الدين»؛ لذا فلا حاجة لمفهوم «الدين» في فهم العالم، إذ لا يوجد في العالم شيء يحمل اسم «الدين» من شأنه أن يعزز فهمنا، وإلا فيمكننا أن ننادي بأن فكرة «اللاهوب» (فلوجيستون) التي سبقت علم الكيمياء ستساعدنا على فهم الطبيعة في يومنا هذا! فأي استراتيجية علمية يعززها ما سبق؟ لقد اعتقد علماء الطبيعة في عصور سابقة أن «اللاهوب» كان من العناصر الأولية القليلة المكونة للأشياء، وأنه يجعل الأشياء قابلة للاشتعال، وينطلق من المواد حال تحولها إلى لهب. وعلى نحو مشابه، يُعتقد أن بعض المفكرين يلجئون إلى فكرة مثل «الدين» — في سياق الدوافع الدينية مثلًا — لتفسير أفعال الناس حول العالم؛ لذا ينكر بعض «الإقصائيين» أن الناس يشتركون في «الأحداث التاريخية» نتيجة «دوافع دينية» (ماكوتشن ٢٠٠١، ٢-٣)، بينما يرى آخرون أن مصطلح «الدين» «لا يرمز لشيء مميز، ولا يوضح أي شيء» (فيتزجيرالد ١٩٩٧، ٩١–١١٠)؛ ومن ثم يرون أن «الدين» «غير صالح عمليًّا باعتباره مفهومًا تحليليًّا عابرًا للثقافات» (فيتزجيرالد ١٩٩٧، ٩١–١١٠)، «فالدين» لا يمكن أن يخدم أي استراتيجية ممكنة لتفسير العالم. فمثل أوائل «الكيميائيين» في القرن التاسع عشر الذين أرادوا حذف «اللاهوب» من قاموس العلم، يقول فريق إقصاء «الدين» إنه لا فائدة من الاحتفاظ «بالدين» أو إصلاحه، فنحن بحاجة للتخلص منه.

إلا أن السؤال الحقيقي لدى مختزلي «الدين» هو هل كان «الدين» فعلًا «كاللاهوب»، وهل كانت استراتيجيات تفسير الأحداث يدعمها أو يعرقلها توظيف مفهوم «الدين»؟ لكن ماذا لو كان «الدين»، على غرار مصطلح «العلم» القديم، مرتبطًا هو الآخر بجميع أشكال الممارسات المبهمة أكثر من كونه شبيهًا بمصطلح «اللاهوب»؟ «فالعلم» لا يعني اليوم ما كان يعنيه لدى إسحق نيوتن مثلًا، فهل كان نيوتن «أول العلماء أم آخر السحرة»، كما تساءل جون مينارد كينز؟ وبغض النظر عن كون «العلم» مصطلحًا ملتبسًا يغطي أي شيء في عالم الإدراك، فإن رجلًا مثل نيوتن لم يفصل الأغراض والاستراتيجيات الخاصة بما يسمى استقصاءاته «العلمية» عن العمل الذي قد نعتبره «من الكيمياء القديمة» أو «لاهوتيًّا» أو حتى «مبهمًا». وعلى غرار ما نسميه «الدين» و«السياسة» في نفس ذلك العهد الذي ولَّى، لم يُطبق الفصل في الأغراض، إلا أن مصطلح «العلم» بقي حتى اليوم، ويمكن ربط معانيه التي حملها في الماضي — بقدر أقل أو أكثر من النجاح — بمعانيه اليوم. لقد كان عمل نيوتن بالتأكيد يشبه، بل ويناظر، «علم» اليوم، حتى وإن تضمنت أغراضه الأشمل استراتيجيات لشخص لا نعترف به «عالِمًا». إذن ماذا لو كان «الدين» مصطلحًا يمكن إصلاحه بنفس الصورة بدلًا من التخلص منه؟ الإجابات عن هذه الأسئلة ليست واضحة. فهل لنا أن نظن — مثلًا — أن «السلطة» و«السياسة» مثل «اللاهوب» كذلك؟ هل علينا استبعادهما والتخلص منهما أيضًا؟ الإجابة على الأرجح بالنفي، وهل «الفن» و«الأخلاق» و«الاقتصاد» وغيرها مثل «اللاهوب»؟ لا شك أن النفي هو الجواب هنا أيضًا.

(٩) هل الدين هو لاهوب العصر؟ دراسة حالة تاريخية

خيرُ اختبارٍ لما إذا كان الدين بمثابة لاهوب العصر هو إخضاع هذه الفرضية لدراسة حالة تجريبية. لفت بعض كبار مؤرخينا انتباهي إلى استيعاب الدين بصورة أشمل، باعتباره عاملًا مؤثرًا في تفسير العالم، وخاصة فيما يرتبط بالسياسة والسلطة. وكما يوضح هؤلاء المؤرخون، فإن محاولات استبعاد الدين من فهم حقب تاريخية محددة تفشل في فهم العالم، فاختزال الدين في النظام السياسي من خلال تجاهل مفاهيم مثل «الخلاص» في حسابات حروب فرنسا الدينية حقيقة غامضة. وهنا يؤكد المؤرخ ماك هولت أهمية مفهوم الدين وواقعه في مقابل ما لا يمكن اعتباره سوى جهود «تحير العقل» لاستبعاد الدين من المعادلة. وشعور هولت بأنه تعين عليه الكتابة دفاعًا عن موقع الدين في الحروب الدينية الفرنسية — دون غيرها — يشهد بالتحامل الشائع على الدين الذي ابتليت به بعض الأوساط الأكاديمية، يقول هولت:

رغم أنني سأكون أول من يتفق مع الفكرة القائلة بأن تسييس الدين كان له دور محوري في تحديد مسار الحروب (خاصة في أثناء حروب الرابطة المقدسة في تسعينيات القرن السادس عشر)، ومع أن التوترات الاجتماعية الاقتصادية كانت سمة ثابتة في المجتمع الفرنسي، وأحيانًا ما زادت حدتها لتصل إلى عنف شعبي، يبدو لي أن الدين كان نقطة ارتكاز تتمركز عليها الحروب الأهلية (هولت ١٩٩٥، ١-٢).

ثمة عامل سببي آخر ساهم، كما يقول هولت، في تحديد مسار الحروب الدينية أكثر من العوامل «الاجتماعية الاقتصادية» وحدها، فأي استراتيجية تفسيرية أفضل ستجد طريقًا لاستيعابها.

لو كان هولت هو الوحيد الذي عليه مواجهة هذه النزعة لإقصاء الدين من تفسير التاريخ لكان من الممكن اعتبار شكواه شاذة، لكنه ليس الوحيد؛ فقد كان جون بوسي — وهو مؤرخ على نفس القدر من التميز — حادًّا في نقده للمؤرخين الذين شطبوا الدين من قائمة «الأشياء المهمة» في دراسة السياسة الحديثة، فقد انضم لماك هولت في نقده للمؤرخين الإقصائيين بسبب حذفهم الدين من تفسير حروب الدين! يقول بوسي: «لمدة طويلة جدًّا، وتقريبًا منذ قيام الحروب الدينية في أوروبا، كان هناك شك في أنها كانت حروبًا دينية بالفعل»، لكن هذه النزعة لم تقتصر على المشاعر التي من الممكن تفهمها ضد الكهنة في أوروبا في عصر التنوير. يتابع بوسي:

خلال القرن الذي بدأ فيه التأريخ الحديث في الظهور، كان من بين الاستراتيجيات النموذجية للتفسير التاريخي تفسيرُ ما بدا أنه صراعات مذهبية في فرنسا أو هولندا أو ألمانيا أو إنجلترا بأنها في الحقيقة كانت صراعات سياسية، وهو شيء ارتبط بنشأة الدولة الحديثة (بوسي ١٩٩١، ٢٦٧–٢٨٥، ٢٦٨-٢٦٩).

على العكس من هؤلاء، يؤمن بوسي بأن الأحداث السياسية ارتكزت على «محور» الدين. وعليه فإن بوسي «مندهش» من أن جون كيلي الذي أرخ لجنيف في عهد كالفن تجنَّب تمامًا ذكر «الكنيسة» في كتابه عن توحيد البروتستانتية الفرنسية (بوسي ١٩٩١، ٢٦٧–٢٨٥، ٢٧٧). فهؤلاء المؤرخون المعاصرون يرون إذن أنه «لا يتقاتل الناس في الحقيقة بسبب الدين، وإن بدا أنهم يفعلون ذلك فلا بد أنهم يتقاتلون على شيء آخر في الحقيقة» (بوسي ١٩٩١، ٢٦٧–٢٨٥، ٢٧٨)، فالدافع الذي يجعل شخصًا ما يفكر فعليًّا في أشياء مخالفة للبديهة يترك المرء في حيرة من أمره فيما يتعلق بالانحياز ضد الدين الذي يظهر كثيرًا بين بعض زملائنا في الجامعة. يؤكد بوسي هذه الشكوك تأكيدًا مباشرًا، ويقدم تفسيرًا لها؛ فهؤلاء الزملاء مهووسون بالتصنيف البديل؛ لا سيما فيما يتصل بكل من «السلطة» و«السياسة» كما تحبِّذ ميولهم التحررية.

أدى هذا الهوس إلى نتائج ذات مفارقات مريرة، فرغم التزام التحرريين بالتاريخ الشعبي، فرض هؤلاء الإقصائيون على العامة تصورًا عصريًّا للعالم. ورغم رغبتهم الملحة لطرح نموذج من «التاريخ» يعطي صوتًا لمن لم يكن له صوت، ضربت الروايات التاريخية التحررية للحروب الدينية ﺑ «رؤية أصحاب الشأن» عرض الحائط. يعلق بوسي على هذه النقطة قائلًا:

لقد كانت اللغة المستخدمة في وصف ما بدا أنه صراع ديني — بالقدر الكافي غالبًا، سواءً من قِبل الضيوف أو من قِبل محاوريهم في الإعلام — هي لغة التحرير والثورة ونقيضيهما؛ لغة اليسار واليمين. وبدا من السذاجة ومن غير اللائق، وأحيانًا مما يخالف القانون، الإشارة إلى تلك الأشياء بمسمياتها التي تخطر على الذهن بصورة طبيعية؛ فقد كان يُشار إلى المسيحيين والمسلمين اللبنانيين بجناحي اليمين واليسار على الترتيب؛ وفي أيرلندا الشمالية كان الحزب الاشتراكي العمالي حزبًا سياسيًّا مهتمًّا بحقوق الإنسان صادف أن يكون ناخبوه — كما أقرت هيئة الإذاعة البريطانية على مضض — «كاثوليكيين بالأساس» (بوسي ١٩٩١، ٢٦٧–٢٨٥، ٢٦٨).

لذا، ومع أن المؤرخين الذين انتقدهم بوسي ربما نجحوا في سحب البساط من تحت أقدام «كبار رجال» الدولة، ومن دبلوماسية القصور وإدارة الدولة، وسلطوا الضوء على عامة الناس؛ فقد أقصوا دين العامة في الوقت ذاته. وفي المقابل، فرضوا أيديولوجيتهم الخاصة واستراتيجيتهم الفكرية الساعية للهيمنة على أوائل الأوروبيين المعاصرين، وكشفوا عن التحيزات المسبقة في زماننا ومكاننا هذا.

لقد تضرر قدر كبير من فهمنا للأحداث المهمة عالميًّا ضررًا بالغًا؛ لأن هذه الروايات التاريخية الاختزالية سببت «مفارقات تاريخية فئوية»، فالمصطلحات التي وصفت بها وفُسِّرت في ضوئها الحروب الدينية استُخدمت في لغة لا يعترف بها المشاركون في تلك الحروب أنفسهم. ومن دون شيء من التقدير على الأقل لرؤية المشاركين، وليس «تقبلها»، من غير المرجح أن تنجح استراتيجياتنا التفسيرية (تايلور ١٩٨٥ب، ١١٦–١٣٣). فهذه الروايات التاريخية باختصار تخلط بين الأهداف التي يسعى وراءها الناس، فهي تخلط «أمور الدولة بأمور الخلاص» — أي السياسة والدين — عندما لا تضع في الحسبان أي استراتيجية دينية إطلاقًا. ولا ينبغي أبدًا اعتبار المطالبة ﺑ «التقدير» مطالبة بتقبُّل سرد الأحداث في الحروب الدينية أو تفاسيرها، ولا بتقبُّل الأغراض الفكرية للفاعلين فيها، فالصورة النموذجية من «التقدير» لا تتطلب منا سوى الانتباه إلى المفاهيم ذات الصلة بموضوعاتنا، والامتناع عن تحويلها إلى مجرد درجة على سلم النجاح المهني. ويمكن لبوسي أن يشير بثقة إلى بعض أفضل مؤرخي العصر؛ مثل: ناتالي زيمون ديفيز، أو بنيامين نلسون باعتبارهما نموذجين للمؤرخين الذين يتعاملون مع الفئات التي «تعترف» بها موضوعات التاريخ لديهم، فكلاهما يتفادى «المفارقة التاريخية الفئوية» من خلال تجنب استخدام المصطلحات التي لا تتفق وعقلية الفاعلين في الأحداث التاريخية في مطلع تاريخ أوروبا الحديثة (ديفيز ١٩٧٥، نلسون ١٩٦٩).

(١٠) إشكالية «الدين» عند طلال أسد

لا تكتمل أي مناقشة لفئة «الدين» من دون الالتفات إلى أشهر وأكثر نقاد هذا المصطلح تمرسًا؛ عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد. يتردد الفرد في وصف أسد بأنه إقصائي صريح؛ لأن أسد — من بين أسباب أخرى — أكثر نقاد فكرة الدين مراوغة في المشهد الحالي. انظر إلى ما يبدو دفاعًا حادًّا عن إقصاء «الدين»! فأسد يستحسن إنكار ويلفريد كانتويل سميث لفكرة أن الدين «له جوهر»، باعتبار ذلك «رأيًا أصيلًا تمامًا». ويعلن أسد متفقًا مع سميث أن «الدين» ليس اسمًا لشيء «موضوعي» في عالمنا (أسد ٢٠٠١، ٢٠٥–٢٢٢، ٢٠٦). واتفاقًا مع سميث مرة أخرى، يقول أسد: إن «الدين» لا يدل على ظاهرة كونية في الحياة البشرية: «علينا أن نتخلى عن فكرة أن الدين ثابت دائمًا وبصورة جوهرية …» (أسد ٢٠٠١، ٢٠٥–٢٢٢، ٢٢٠). ولا تدع مثلُ هذه المقولات مجالًا للشك في أن أسدًا اتخذ لنفسه مكانًا بين المؤرخين الإقصائيين الاختزاليين الذين هاجمهم بشدة مارك هولت وجون بوسي.

لكني سأترك انطباعًا خاطئًا إن اكتفيت بهذا القدر، فأسد — في جميع الأحوال — يكتب باستمرار ودون نقد عما يندرج تحت فئة «الدين» في الخطاب العام؛ مثل الإسلام والمسيحية واليهودية وغيرها. كذلك فهو يكتب عامة عن «الدين» بصورة مستمرة، ودونما نقد في سبيل تناول قضايا «الدين الحديث في أوروبا»، أو إحدى «صور التدين السابقة»، أو «أشكال التدين»، أو «الفضائل الدينية الجوهرية» وغير ذلك (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ١١). لهذا يظل اللغز أمام شارحي كلام أسد هو كيفية التوفيق بين ما يبدو إقصاءً لكلمة «الدين» والاستمرار في استخدامها؛ أي استبعاد فئة عالمية مقارنة عابرة للثقافات مع الاستخدام المنتظم والعام لنفس المفهوم. فما الذي يستبعده أسد في حقيقة الأمر عندما يستبعد «الدين»، ويستمر رغم ذلك في استخدام المصطلح لدى انتقائه أمثلة للأشياء الخاضعة لدراساته عن «الدين»؟ وما الذي يقصده أسد — في الحقيقة — عندما يعلن أن «علينا أن نتخلى عن فكرة أن الدين ثابت دائمًا وبصورة جوهرية»؟ (أسد ٢٠٠١، ٢٠٥–٢٢٢، ٢٢٠) فهل يُطبق مجموعة من المعايير لاختيار «الدين» في حالة معينة ومعايير أخرى في غيرها؟

مع أن موقف أسد النهائي من «الدين» ربما يسبب إشكالية، من الواضح على الأقل أن أسدًا يقصد بكل تأكيد أننا بحاجة إلى التخلي عن المفاهيم الضيقة الأفق عن «الدين». وهنا أضم صوتي لصوت أسد في المطالبة بالالتفات إلى مفاهيم «الدين»؛ تلك التي هي جزء من الأغراض والاستراتيجيات اللاهوتية للتبشيريين؛ ومنها بعض القوالب الفكرية الستة المذكورة على سبيل المثال. يقصد أسد بالتأكيد إنكار العمومية المزعومة لما يطلق عليه الفكرة «البروتستانتية الليبرالية» أو «المذهبية» عن الدين؛ أي بوصفه المعتقد، وباعتباره «حالة ذهنية داخلية وخاصة، وحالة ذهنية معينة منفصلة عن الممارسات اليومية» (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ١٠ وما بعدها). إن كان هذا ما يقصده أسد فعلًا ﺑ «الدين»، فمن الصعب الاختلاف مع انتقاداته الموضَّحة للتوِّ. وهنا أعتقد أن إلقاء نظرة على قصة حياة أسد نفسه قد تساعدنا على فهم رفضه الحاد لتلك الفكرة «البروتستانتية الليبرالية» عن الدين، التي ينسبها لعالم الأنثروبولوجيا كليفورد جيرتس (أسد ١٩٩٣، ٤٨). فعند حديث أسد عن تعليمه المدرسي الذي تلقاه من التبشيريين المسيحيين في باكستان، يركز على التجارب المهينة التي تعرض لها وهو تلميذ على يد هؤلاء التبشيريين ومواقفهم من «الدين». ومن السهل تصوُّر رد فعل صبي مسلم لديه نوع من الحساسية ورقة الشعور إزاء نظرة «للدين» تقلل من شأن حياته الدينية كمسلم. ويُعرف عن هذا النوع من التبشير الغربي أنه يرى أن طريقته هي الصورة الوحيدة أو الأسمى للتدين. وتنتِج مثل تلك المواقف الضغينة المبررة بكل تأكيد؛ «إن كان هذا هو الدين؛ فأنا أرفض الدين» (سكوت ٢٠٠٦، ٢٤٣–٣٠٣). لذا، عندما يعارض أسد جيرتس في كتابه الشهير «سلالات الدين»، الصادر عام ١٩٩٣، وفي أعمال أخرى بصورة متكررة قائلًا: إن «تعريف الدين على نحو موحد تاريخيًّا غير ممكن»، فمؤكد أن ما أسميته بالفكرة «البروتستانتية الليبرالية» عن «الدين»، التي اندرجت ضمن استراتيجية تخدم غايات التحول عن الإسلام هي ما يستبعده أسد بصفتها فئة مقارنة عابرة للثقافات (أسد ١٩٩٣، ٣٠). ورغم أن الدخول إلى ميدان الدوافع النفسية التي تحفز أفكار المفكر قد يكون خطيرًا، يبدو لي في حالة أسد أنه يقدم سياقًا تأويليًّا معقولًا يساعد على فهم نقده «للدين». فعلى كلٍّ، ترى جماعات التبشير البروتستانتية (المفترض أنها ليبرالية) الدين بالفعل بالصورة العمومية المستقلة المتمحورة حول المعتقد التي يهاجمها أسد، والتي لا تنفصل عن أغراضها التبشيرية الاستعمارية كذلك!

إلا أن المشكلة هي أن أسدًا يبدو أنه لا يزال على مسار الإقصائية، فبحلول عام ٢٠٠٣ عزز أسد هذا الاستبعاد للفكرة «البروتستانتية الليبرالية» عن «الدين» من أي دور في فهم أعمال الناس؛ إذ «ليس هناك ما هو ديني في جوهره، وليس هناك أي جوهر كوني يُعرِّف اللغة أو التجارب المقدسة» (أسد ٢٠٠٣، ٢٥)، لكن هذا التصريح لا يتفق مع رغبة أسد في ذات المقال في التأكيد على أن «مدلولات الممارسات والتعبيرات الدينية … تُفسَّر باعتبارها نتاج معارف وقوًى مختلفة» (أسد ١٩٩٣، ٥٤)، إن لم يكن هناك ما هو ديني في جوهره أو — في هذه الحالة — يتميز، أو يمكن القول بأنه ديني، فكيف يحدد أسد ما يعد مثالًا على «الممارسات والتعبيرات الدينية»؟ لذا فمن غير الممكن أن أسدًا يقصد تمامًا ما يُظَن حينما يقول: «ليس هناك ما هو ديني في جوهره.» وإن كان أسد يقصد شيئًا على نحو ثابت، فمؤكد أنه لا يقصد سوى انتقاد استخدام صفة «ديني» ضمن التصور «المذهبي» أو «البروتستانتي الليبرالي» عن الدين باعتباره المعتقد.

يبدو من الواضح أننا إذا استبعدنا أي مفهوم عن «الدين»، كما تبين كلمات أسد، فسيكون من الصعوبة بمكان أن نفهم أحداثًا مثل الحادي عشر من سبتمبر، أو ما يسمى «الانتحاريين» المسلمين كما سأبينه في فصلي الأخير. وعلى عكس أسد، لا أواجه أي صعوبة في إثبات أن الأغراض والاستراتيجيات الدينية متصلة على نحو متناظر عبر الزمن وعبر الثقافات. ففي رأيي، قدَّم الانتحاريون في ١١ سبتمبر تضحية «دينية» بمعنًى يناظر شعائر الأضحية وقت الحج أو التضحية التي كان من المفترض أن تكون بإسماعيل بن إبراهيم كما صورها القرآن. إن كان فهمنا لإسحاق نيوتن سيضيق أفقه برفض تسمية أفكاره ﺑ «العلم»، فإن فهمنا للثقافات الإنسانية — وخاصة للسياسة والدين — سيضيق هو الآخر إن لم نتمكن من الحديث عن أعمال الانتحاريين في ١١ سبتمبر بوصفها «دينية». وهذا على الأقل طرح أساسي في هذ الكتاب، وهو الذي أقدم فيه أكبر استثناء للآراء المخالفة لأسد. لا أظننا في حاجة لأن ينتهي بنا الحال مثل مستخدمي اللغة الجديدة الذين سخر جورج أورويل منهم، أولئك الذين لم يعد لديهم كثير من الكلمات الأخرى مثل: الشرف والعدالة والفضيلة والعالمية والديمقراطية والعلوم والدين (أورويل ١٩٤٨، ٢٦٧–٢٧٩). بالتأكيد إن لم يقصد أسد سوى رفض «الدين» على أساس مساواته بالاستخدام «المذهبي» للكلمة، فكل الأسباب تدعو لتأييده. وفي الواقع، يسرُّني اقتباس كلمات أسد دومًا في هذا الكتاب لتأكيده الراقي على شمول الدين ﻟ «الممارسات المتجسدة»، أو لمفهومه المفيد عن الدين باعتباره كامنًا في «شبكات من الروابط العاطفية» (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ٢٠٠٥، ١٢).

أظن أن أسدًا يمكن — ولو ضمنيًّا على الأقل — اعتباره منفذًا لمشروع توسيع آفاق مفاهيمنا عن الدين، من خلال التغلب على التحيزات ضد تأطير المفهوم، والتحيزات لصالح المعتقد، وتأكيد المكانة السليمة للعاطفة والجسد والقوة. ولا سبب يدعو للاعتراض على ذلك، لكن ليس ثمة سبب يمنع إطلاق اسم «الدين» على ما سبق كذلك؛ لذا يمكننا أن نتقبل كتابات أسد عن إمكانية وجود «صورة من التدين» تختلف عن تلك التي ترجحها النزعات المتأصلة في التحيزات التي يمليها تاريخ الغرب (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ١١). إن أمامنا الكثير لنستفيده — كما سأبين — عن طريق دمج استقصاءات أسد ضمن ما يسميه «القدرات الدينية الأخلاقية المنصوص عليها التي تشمل اتباع سلوكيات مادية محددة (بما فيها العاطفة)، والاتباع الملتزم بالعادات والتطلعات والرغبات» وغيرها (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ١١). وأمامنا الكثير لنستفيده — كما سأبين أيضًا — من الانضمام إلى أسد في استهداف «الإقصاء» — أو على الأقل الإصلاح الجدي — للمفهوم المجرد المبالغ في عقلانيته للدين باعتباره «المعتقد». ونحن أيضًا نسعى للتفكير في إنتاج «صورة أخرى من التدين». وإن تم ذلك، فمع وجود غرض معين لتساؤلاتنا، وفي ضوء استراتيجية فكرية محددة، ربما نرغب في السؤال عن علاقة تلك «الصورة الأخرى من التدين» بالسياسة. وهذا — من بين أمور أخرى — ما سأفعله في هذا الكتاب؛ حيث إنني أجد هجوم أسد على هيمنة الفكرة «البروتستانتية الليبرالية» عن الدين على العديد من الأوساط في محله بصفة عامة؛ فهذه الفكرة — إن استرجعنا ما سبق — أهلٌ لأن تكون أحد «القوالب الفكرية الستة» التي ذكرتها لمعنى «الدين».

(١١) إشكالية تعريف «الدين»

كما أشرت، أعتقد أن الإقصائيين من أي نوع على خطأٍ من نواحٍ مهمة، لكن كيف إذن نلبي اهتمامات الذين ضاقوا ذرعًا من إحباطات تعريف «الدين»؟ كيف يمكن إثبات أن الدين مفهوم يمكن استخدامه، ومفهوم يمكن تعريفه بطريقة سليمة بدلًا من إقصائه أو اختزاله في صيغة جوفاء؟ وكيف نتجاوز المذهب الوضعي في العلوم الاجتماعية في يومنا هذا، ونتجاوز هؤلاء الذين يكتفون نتيجة لذلك بالبحث في صفحات دليل الهاتف عن قسم بعنوان «الدين»، ويُعرِّفون «الدين» بناءً على ما يجدونه فيه؟ والأفضل من ذلك: كيف نتجاوز مَن هم بالجامعات ممن يبحثون بنفس الصورة في الفهارس عن معظم منشورات العلوم الاجتماعية والسلوكية أو المواد الأكاديمية ليروا ما يندرج فيها تحت مصطلح «الدين»؟ فعلماء السياسة والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والجريمة ومعظم علماء الأنثروبولوجيا (باستثناء جيرتس وأسد) وغيرهم يأخذون مصطلح «الدين» «جاهزًا من على الأرفف»، إن جاز التعبير. ونتيجة للمعايير المعرفية الوضعية «للبحوث الاجتماعية» من بين أشياء أخرى، فهم نادرًا أو ربما لا يتجاوزون الاستخدامات الشائعة لمصطلح «الدين» إلى نقده على مستوًى أعمق. وكما سأُبين بعد قليل، لا تصلح الفلسفة الوضعية باعتبارها أساسًا فكريًّا للتفكير المفاهيمي؛ إذ إنها لا تتحمل مسئولية مفاهيمها، فهي تنتقي دون تفكير أي شيء يحمل اسم «الدين»، وتبدأ عملها من تلك النقطة، لكن كيف يمكن لمن يفعلون ذلك التأكد من أن مصطلح «الدين» يعني نفس ما يعنيه لكل الموضوعات التي يجري اختيارها بتلك الطريقة؟ الحقيقة أنه لا يمكنهم ذلك. من الممكن أن نستبعد القوالب الفكرية غير المرغوبة عن «الدين»، أو حتى نقصي «الدين» تمامًا من لغتنا، لكن استبعاد الأفكار المتعلقة بما يعنيه «الدين» لا يعفينا من طرح بديل أفضل؛ لذا لا يمكننا التهرب من مهمة التوصل بأسلوب نقدي إلى تعريف للدين.

سيُختَتَم هذا الفصل بعرض مقاربة لتعريف الدين تتَّسم بالخصائص السبع التالية لتعريف «الدين» المستنبط بناءً عليها:

(١١-١) براجماتي: يخدم التفسير

أولًا: عندما أقول إن مفهوم الدين ينبغي تعريفه تعريفًا براجماتيًّا؛ فإنني أقصد أن علينا أن نُخضِع المصطلح لاختبار يُظهر جدواه. فهل يساعدنا استخدام «الدين» على نحو معين في فهم العالم أم لا؟ هل يضيف لنا ما هو ناقص من دونه؟ لذا فحتى رغم أنني أرى الشكليين قد أصابوا جزئيًّا في قولهم إنهم سيجعلوننا نرى «الدين» من منظور أنه «يميز» أشياء معينة في الكون، فهم لا يقدمون أي إجابة عن السؤال المثار حول كيفية تحقيق ذلك بما هو أدنى من تخصيص «الدين» بمحتوًى مميز وليس قائمًا بذاته. وإن اضطررنا في مرحلة ما للتعامل مع المحتوى وليس مجرد الوظيفة الشكلية، فعلينا أن نتكبد عناء التعريف.

(١١-٢) مميِّز: يجب أن يقدم التعريف تصورًا «مميِّزًا» للدين

ثانيًا: يكمن جانب من إشكالية تعريف «الدين» في إثبات أن المحتوى المخصوص به «الدين» مميز، أو مختلف بدرجة كافية تبرر وجود المفهوم من الأساس. إذن فمفهوم «الدين» لا يتطلب أن يكون الدين حقيقة فريدة غير قابلة للمقارنة أو «مستقلة». أما اختلاف المحتوى أو تمايزه على نحو كافٍ، فيأتي بدوره — كما سأبين — من الالتفات إلى سياق الاستقصاء وإلى استراتيجياتنا وأهدافنا.

(١١-٣) غير مجرد

ثالثًا: لا أظن أن هناك أي جواب عن السؤال المثار حول تعريف «الدين» على نحو مجرد؛ ففي أي «سياق» نقترح تعريف كلمة «الدين»؟ إذن لا يتحدد هذا المحتوى بناءً على معايير «مجردة»، كأن لا يكون ضيقًا جدًّا ولا فضفاضًا جدًّا في نطاقه مثلًا، وألا يكون شكليًّا أكثر من اللازم، أو غير شكلي على الإطلاق. وأقترح أن نُعرِّف «الدين» على نحو مقارن ومرتبط بالسياق؛ ويعني هذا أن «الدين» سيُعرَّف في ضوء الأهداف والاستراتيجيات والسياقات المختلفة وغير ذلك.

(١١-٤) غير شكلي ولا صوري

رابعًا: بناءً على ما سبق، أقول إنه رغم أن عملية تعريف «الدين» عملية بنَّاءة، فهي ليست «صورية» كما أراد الشكليون. وتعريف «الدين» لا ينزل من السماء؛ فهو ليس فكرة مجردة منغلقة على ذاتها، بل إن تعريفنا ﻟ «الدين» جزء من مجهود فكري أشمل؛ وهو ما يمكن أن نعتبره «استراتيجية» تُحرك فكرنا. ويُعتبر الفصل الأخير من هذا الكتاب — الذي يتناول مفهوم «الدين» في الهجمات الانتحارية، إن جاز التعبير — اختبارًا لصلاحية اقتراحي أن نضع تعريفًا لمصطلح «الدين» في ضوء أهدافنا واستراتيجياتنا وسياقات نقاشاتنا المختلفة وغير ذلك.

(١١-٥) دقيق لكن ليس مُحكمًا بالضرورة

خامسًا: أنا أيضًا ألتمس تعريف هذا المصطلح على نحو أكثر مرونة؛ فتعريف «الدين» ينبغي أن يكون «دقيقًا»، لكن ليس «محكمًا» من الناحية الفنية. وليس علينا فيما يخص «الدين» أن نكون أكثر إحكامًا ودقة وصرامة وما إلى ذلك بشأن تعريف الدين، مقارنة بحالتنا عند الحديث عن أي مسألة فكرية جوهرية أخرى؛ بما في ذلك «السلطة» و«السياسة». وكما قال عالم الأنثروبولوجيا لويس دومو عن «السلطة» على سبيل المثال: «السلطة مفهوم رغم أن له دورًا مركزيًّا في علم السياسة المعاصر، فهو مشوش جدًّا بحيث لا يبرر هذا الدور إلا نادرًا» (دومو ١٩٧٩، ١٦٥).

(١١-٦) مرتبط بالسياقات والاستراتيجيات والأهداف

سادسًا: إن النتيجة المنطقية لطرحي الذي مفاده أن تعريف الدين لا ينبغي أن ينفصل عن استخدامه، وألا يكون مجردًا ولا صوريًّا ولا محكمًا على نحو عشوائي، هي أن الدين ينبغي تعريفه في ضوء علاقته بأهدافنا واستراتيجياتنا الفكرية الأعم وغيرها، فالعنصر السادس لتعريف «الدين» يتعلق بالدقة والإحكام معًا؛ إذ يراعي السياقات والاستراتيجيات والأهداف التي تحرِّك مصالحنا.

(١١-٧) متسق مع الحس العام

سابعًا: إذا أُريد لنقطة الانطلاق أن يصبح لها أرضية صلبة، فعليها أن تبدأ من الأحاديث اليومية والحس العام، لكن لا تنتهي عندهما، فإن كان «الدين»، الذي هو مصطلح في الأحاديث اليومية على كل حال، يرمز لشيء — إذا دلَّ على شيء ما — فهو يرمز لشيء أقرب إلى منظومة من المعتقدات والممارسات التي تدور في فلك مخلوقات، أو أحوال مقدسة أو سامية ترد في — وتتشكل من — الأساطير والعقائد، والمنظومات الأخلاقية، والكيانات الاجتماعية، والأحوال النفسية، والصور المادية المميِّزة التي لها سلطة مطلقة في شئون الناس. وهذا — على الأقل — هو ما يخبرنا به الحس العام «المستنير» الذي هذَّبه الوعي بالقوالب الفكرية الشائعة عن معنى الدين في اللغة التقليدية؛ لذا إن انطلقنا من هذا التعريف، فسيُمكِّننا — على الأقل — من وضع حدود تقريبية لموضوع خطابنا في الأحاديث اليومية. وحتى أسد مع رغبته في إقصاء مصطلح «الدين» أو الحدِّ بشدة من استخدامه، يتبنى من الناحية العملية نفس الاتجاه كما أوضحت، فإن لم يكن هناك ما هو ديني «في جوهره» كما يقول، أو يمكن تمييزه، أو القول إنه ديني في هذا الشأن على الأقل، فكيف يقرر أسد ما هو مثال «للممارسات والتعبيرات الدينية»؟ فأسد يستند إلى الخطاب اليومي وإن لم يقل ذلك.

لكن بينما يمكن لتصورات الحس العام بشأن «الدين» في اللغة التقليدية أن تكون بداية معقولة وكافية، فإن التفكير النقدي لا يقف عند حد الحس العام، ولا يكتفي باللغة التقليدية. وبالنظر إلى كل المصاعب التي أوردناها بخصوص الاستخدامات الملتبسة أو النمطية «للدين»، وبخصوص جهود إقصائه أو «اختزاله»، لا يمكن لأي مفكر نقدي أن يرضى بالحس العام حكمًا؛ فالمفكر الذي يسعى ليكون أكثر دقة في تفكيره المتعلق «بالدين» سيكون عليه أن يتجاوز حدود الحس العام في الاستخدام اليومي. وفي النهاية، لا يسعنا إلا أن نحاول أن ننقد التصورات البديهية «للدين» وننقحها إن جاز التعبير، لكن كيف نخطو تلك الخطوة فيما وراء البديهة؟ كيف يمكننا أن نُجري ما يسمى تنقيحًا لتعريفاتنا «للدين»؟

(١٢) مسئولية مفهوم «الدين»

يعني تنقيح تعريفاتنا لكلمة «الدين»، ببساطة شديدة، أن علينا — نحن «المفكرين النقديين» — أن نتولى زمام المبادرة، ونتخذ بعض القرارات على المستوى المفاهيمي. وهذا يعني أن تنقيحنا للتعريفات القائمة على الحس العام لكلمة «الدين» لا يكمن في البحث عن معنًى موضوعي «أصيل» و«صادق» للدين «قائم بذاته»، يمكن اعتباره المعيار الأمثل لمدلول كلمة «الدين». فكلمة «الدين» قابلة للتطبيق على جميع الأشياء كما رأينا. وليس هناك مرجع «موضوعي» لا يُختلف عليه لكلمة «الدين» يمكنه أن يحل إشكاليات التعريف. وفي هذا السياق، أتفقُ مع النظرة «الشكلية» التي ترى أن «الدين» لا يرمز لشيء موضوعي من بين الأشياء، ولا يشير ﻟ «مادة موجودة من حولنا، أو شيء يمكن أن ينير عقولنا إن حالفنا الحظ، وتوافرت لدينا وسيلة التلقي المناسبة» (براون ٢٠٠٠، ٣–٢٠، ٩)، إلا أنه كذلك — وكما أوضحت — لا معنى من الناحية النقدية لاستخدام كلمة «الدين» بهذه الطريقة «الشكلية». فمن ناحية عملية «التمييز» التي يطرحها الاتجاه الشكلي، تصلح أي كلمة «لتمييز» الفارق بين شيء وآخر في الوجود، ومن المؤكد أن هناك سببًا لتسمية بعض الأشياء ﺑ «الدين» بدلًا من العكس؛ ولهذا أفضِّل أن أبدأ بالإقرار بالحقيقة التي تتضمنها تصورات لغة الحياة اليومية والحس العام عن الدين، فالاستخدام اليومي على الأقل يطرح مضمونًا — وإن كان مضمونًا يحتاج للتنقيح والنقد وغير ذلك — يميز الدين عن سائر جوانب عالمنا الفكري، وهنا يتدخل حتمًا عنصر القرار أو الاختيار على المستوى المفاهيمي.

أقترح في هذا الكتاب تعريف «الدين» جزئيًّا على نحو يتسق مع الأغراض أو الاستراتيجيات النظرية التي اخترتها أو افترضتها. ومع أنني قد أظهر بمظهر من يستبق النتائج، اسمح لي بأن أقول إنه في حالة الانتحاريين في الشرق الأوسط الوارد ذكرهم في الفصل الأخير، ركزْتُ على مفهوم «السلطة الشرعية» باعتباره مميزًا لصبغتهم «الدينية»، بالإضافة إلى المنظومة الكاملة التي تسمى «الإسلام». وقد اخترت مفهوم السلطة الشرعية؛ لأنه يبين بعض الملامح التي غالبًا ما تفوتنا أو يُغض الطرف عنها عند التعامل مع أحداث عالمنا التي من الواضح أنها ترتبط بالدين والسياسة. بمعنى أنه بينما يمكن العثور على كلٍّ من السلطة القسرية والسلطة الشرعية في جميع أنواع الكيانات الاجتماعية، سواء في السياسة أو الدين أو الفنون أو غير ذلك، تنطلق الطريقة المثمرة لتمييز الدين والسياسة من التمييز على نحو خاص بين السلطة الشرعية والسلطة القسرية؛ لذا أشير إلى الصيغة التالية لتمييز مضمون دقيق براجماتي مميز لكلمة «الدين» يتصل بسياق عالم الدين والسياسة، بينما قد يقترن أي «دين» بالسلطة الشرعية والسلطة القسرية كلتيهما، لا يُتصور أي «دين» من دون السلطة الشرعية، لكن يمكن تصور بعض الأديان في ظل غياب السلطة القسرية. لكن على الجانب الآخر، بينما تكشف السياسة هي الأخرى مزيجًا من السلطة الشرعية والسلطة القسرية، فإنه يمكن تصورها من دون السلطة الشرعية، لكن لا يمكن تصور كيان سياسي تنقصه السلطة القسرية. ورغم أن عناصر هذا التعريف متأصلة في المفاهيم الشائعة للدين، أرى أن التعريف يأخذنا فيما يتجاوز مجرد إعادة إنتاج التصورات الشائعة للدين، فهو يطرح مفهوم السلطة الشرعية، أو السلطة الشرعية المطلقة المقدسة السامية على وجه الدقة. وفيما يتصل بالأهداف والاستراتيجيات التي أمامي، سيثبت أن مفهوم السلطة الشرعية يفيد في تسليط الضوء على حالة واحدة على الأقل يمارس فيها كلٌّ من الدين والسياسة تأثيرهما.

في الواقع، أرى أن كل من يسعى للتفكير في الدين بطريقة نقدية أو دقيقة يفعل ما هو على شاكلة الاختيار من بين العناصر الممكنة التي تميز «الدين» في الحالات التي يتناولونها. والفرق الوحيد بين هؤلاء وبيني هو أنني أقرُّ، بل أتقبل، عنصر الاختيار أو القرار الذي يملي كيفية تعريفي «للدين». وعليه، أشك أن «الدين» يُعرَّف أو يستخدم فعلًا على نحو مجرد. فالقرارات التي نتخذها في تعريف «الدين» تحددها استراتيجياتنا وأهدافنا النظرية الأعم؛ سواء أقررنا بها أم لا. وفي مناقشتي لمكان الدين في التفجيرات الانتحارية، إن جاز التعبير، يسرُّني إعلان أن اختياري «السلطة الشرعية» باعتبارها سمة مميزة «للدين» يعتمد على الاستراتيجية النظرية الأعم والأشمل التي أتبعها لتناول الفروق بين «الدين» و«السلطة» و«السياسة». وبعد مناقشة «الدين»، في هذا الفصل، آمل أن ندرك أن «الدين» قد يعني عدة أشياء. وسيدرك مَن استفادوا مما طرحت هنا — كما آمل — تمام الإدراك أن «الدين» ليس مصطلحًا نزل علينا من السماء، كما أن مفاهيمنا الشائعة عن «الدين» لا تصلح لكل الاستخدامات. ونتيجة لذلك، ومن الناحية العملية، عندما نتحدث عن «الدين» فإننا نرجح بعض التعريفات على غيرها، فنحن نختار، ونقرر، ونميِّز، سواء على مستوى الوعي أو اللاوعي. إننا نؤكد على جوانب معينة من التعريف القائم على الحس العام للدين أكثر من غيرها، كما أوضحت في تناولي للقوالب الفكرية الستة. وعندما أتناول مسألة الانتحاريين في الشرق الأوسط، سأوضح موقع استخدامي لكلمة «الدين» — ومن ثم تعريفه المنقَّح — من أهدافي واستراتيجياتي وخططي الفكرية والجدلية الأوسع نطاقًا.

لكن ما الذي أقصده عندما أقول إنني أتبنى مقاربة في تعريف «الدين» لها دور حيوي في الاختيار والقرار المتعلق بالبعد «الاستراتيجي» للمسألة؟ إن كيفية تعريف الدين تنتج جزئيًّا عن وجود مجموعة من الأهداف أو القضايا. ولا أرى أنه يمكننا — أو ينبغي لنا — أن نعرف «الدين» على نحو مجرد. وبما أنني أبدأ فقط من منطلق تعريف مبدئي وقائم على الحس العام ﻟ «الدين» من أجل المضي قدمًا، فعليَّ في مرحلة معينة أن أتحمل المسئولية عن تصنيفاتي في هذه المسألة. إن الاستخدام اليومي أو القائم على الحس العام يتحدث بلغات كثيرة ولا يميز إطلاقًا؛ لذا في مرحلة ما، وحتى إن بقينا على مقربة من الاستخدام اليومي الشائع، علينا أن نحدد عناصر هذا الاستخدام التي نعتبرها مهمة أو محدَّدة. أي جزء من التعريف اليومي الشائع ﻟ «الدين» يُنسب إليَّ؟ عندما ننظر للدين، فإننا نختار بالضرورة من بين المعاني التي ستُنسب إلينا. فلتفكِّر مثلًا في شخص يؤلف كتابًا عن «الفن» وعن «المشهد الفني» في باريس أوائل القرن العشرين، فقد يكتب مثلًا عن أي شيء مما يُعد «فنًّا» في اللغة الشائعة، لكن من دون أن يضطر المتحدثون للنظر إلى ما يعنيه «الفن»، فالاستخدام التقليدي سيكون هو معيار تحديد دلالات الكلمة، فرسوم ديجا «فن» كتماثيل رودان وغير ذلك، لكن ماذا لو أغفل الكتاب هؤلاء القلة الذين أتقنوا «فن» المعيشة، أو راقصة الباليه التي ترى كل شيء «فنًّا»؟ ليس جميع الأشياء «فنًّا»، إلا أعمال ديجا أو رودان. لكن مَن الذي يقرر ذلك؟ هذه هي القضية بالتحديد. هناك من يقرر، ولأسباب ما، فإذا قررنا أن نرى ديجا فنانًا ونستبعد راقصة الباليه المتحررة — كما قد نفعل — فإننا نتحمل مسئوليتنا عن مفهوم معين «للفن». وتحمل مسئولية مفهوم ما — وهو تعريف «الفن» في هذه الحالة — لا يعني الإصابة أو الخطأ في تعريفه؛ فما هو إلا تسجيل لقرار يتعلق بأهداف تفكيرنا واستراتيجياته.

ورغم أن عملية تحمُّل مسئولية تعريف «الدين» أو انتسابه لصاحبه نادرًا ما اعتُرف بحقيقتها، فإنها عملية قديمة جدًّا. وهي قديمة قِدم «حوار الحكماء السبعة عن أسرار الذات الإلهية» الشهير الذي ألَّفه جان بودان (١٥٢٩–١٥٩٦) عام ١٥٨٨. استخدم بودان كلمة «الدين» بعدة طرق نفهمها بالفعل، وكانت هناك «أديان» «حقيقية» أو «زائفة» أو «أفضل» أو «أقدم» أو «مقبولة» أو «مستحسنة». كما تناول حوار بودان «الديانات» الوثنية والمسيحية واليهودية و«المحمدية»؛ وعرضها في مواجهة الشعوذة. وهناك أيضًا — كما يشير كوينتين سكينر (وهو ما أفحم فيتزجيرالد) — هجوم قوي في حوار الحكماء على فرض الدين بوصفه «المعتقد» (فيتزجيرالد ٢٠٠٧، ١٥٠، سكينر ١٩٧٨، ٢٤٩)، لكن بودان لم يكن راضيًا عن هذا التضارب في الاستخدامات؛ وهي استخدامات مقبولة بحكم المنطق الشائع في عصره. وفي مرحلة معينة، وسعيًا وراء ما اعتبره بودان «الحقيقة» بشأن طبيعة الدين؛ فقد نسب لنفسه مفهومًا من مفاهيم «الدين». وعندما اضطر بودان لتحديد عنصر حاسم في «الأديان» يحدد مضمون «الدين» قال إنه كان مفهوم الإله الواحد بوصفه «أبًا لكل الآلهة». وعمليًّا، بالرغم من أن كل «الأديان» المذكورة لم تزل أمثلة صحيحة على «الدين» كالدرجات على السلم الموسيقي، فإن الدين «الحق» في النهاية يتطلب «التناغم» بين هذه «الدرجات». ولا يمكن تحقيق التناغم إلا من خلال صهر التعددية في بوتقة التوحيد (بودان ١٩٧٥، ٤٦٥). والسبب الذي دفع بودان لتبني استراتيجيته الفكرية في المقارنة بين «الأديان» والموسيقي يطرح منظورًا أوسع يتناغم بدوره مع أهداف الاستغلاق ورؤيته الشاملة لعالم متناغم. وما لم يتبين لديَّ — على سبيل المثال — هو كيف يتسق استنتاج بودان من أن الدين «الأفضل» هو الدين «الأقدم» — وهو اليهودية بالتبعية — مع آرائه الاستغلاقية. نحن نعلم أن بودان كان يُشَكُّ — على الأقل — في أنه كان مُهوِّدًا، وربما كان يهوديًّا في السر. وهذا يفسِّر فكرته عن أن الدين الأقدم هو الأقرب لأن يكون الدين الحق، حتى وإن أبقى ذلك على إشكالية العلاقة بين هذه الرؤية وأفكاره عن التناغم الكوني (بودان ١٩٧٥، ١٧٣).

(١٣) كيف يتحمل دوركايم «مسئولية» مفهومه عن «الدين»

في وقت أقرب لزماننا الحاضر، يمكننا أن نرى بوضوح أكبر كيف لأهداف القضية الأعم أن يكون لها هي الأخرى دور في وضع التعريف؛ هذه المرة من خلال العملية السلبية بأن يوصف شيء ما بأنه «لا يمثل دينًا». فعندما تناول التبشيريون المسيحيون على سبيل المثال بوذية تيرافادا، فقد أتوها ولهم هدف محدد هو اعتناق البوذيين للمسيحية. وبالطبع جاءوا ولديهم تعريفهم الجاهز «للدين» بوصفه شيئًا مرتبطًا بالاعتقاد بوجود الرب. ومن ضمن الاستراتيجية التبشيرية كان التقليل من — بل إنكار — بوذية تيرافادا من خلال تعريفها بأنها شيء أقل مكانة (في أذهانهم) من المسيحية؛ أي ليست «دينًا». لذا «عُرِّفت» بوذية تيرافادا بأنها من صنع البشر؛ أي إنها «فلسفة»، وإنها مستبعدة من الأشياء التي تصنف ضمن «الأديان». والتعريف الوحيد «للدين» في أذهان التبشيريين الذي يستحق أن يُنسب إليهم كان لزامًا أن يكون «أسمى» في نظرهم؛ أي مُنزَّلًا من الرب أو مرتبطًا بالرب. لذا فإن تعريف «الدين» — وبالأخص تعريف بوذية تيرافادا بأنها ليست «دينًا» — يمكن اعتباره وسيلة لتطبيق أهداف استراتيجية تبشيرية، فبوذية تيرافادا لم تكن «فلسفة» بالمعنى المجرد، ولكن لم تكن تعد فلسفة إلا في ضوء المصالح والأغراض التبشيرية المسيحية وحدها. وسأسعى لتبني هذا المنظور تجاه تعريف الدين في هذا الكتاب.

وخلال ذلك سأحذو حذو دوركايم في تصنيفه بوذية تيرافادا ضمن «الأديان»، وأرى أنه نتيجة لسعيه وراء مجموعة مختلفة من الأهداف والاستراتيجيات في تناوله بوذية تيرافادا، قد عرَّفها تعريفًا مختلفًا عن تعريف التبشيريين. ولهذا السبب لا ينبغي أن يُنظر إلى تعريف دوركايم «للدين» من دون الإشارة إلى الإيمان بأي ربٍّ باعتباره شيئًا «مُنزلًا من السماء» أو شيئًا مجردًا؛ إذ لم يكن تعريف دوركايم «للدين» بعيدًا عن الإيمان بالرب قرارًا عشوائيًّا من جانبه، بل تدخلت أهدافه واستراتيجياته تدخلًا عميقًا في الأمر. فلم يكن من المصادفة أن دوركايم كان يكافح في سبيل ترسيخ منظور اجتماعي للدين في مكان وزمان سادت فيهما التعريفات اللاهوتية. ويكمن جزء من أهداف دوركايم من تعريف «الدين» دون الإشارة للإيمان بالرب في سعيه للإطاحة بعلماء اللاهوت البروتستانت الليبراليين الذين هيمنوا على دراسة الدين في عصره (سترينسكي ٢٠٠٣ب)، وهؤلاء بالطبع هم نفس النوع من المسيحيين الذين كانوا سيحكمون على بوذية تيرافادا بأنها ليست «دينًا».

كان من ضمن استراتيجية دوركايم تقويض القوة المهيمنة لتعريف بعض الكلمات — مثل «الدين» — التي ساعدت علماء اللاهوت على الاحتفاظ بتفوقهم في دراسة الدين. وبوصف دوركايم رجلًا سعى في سبيل الدراسة «العلمية» وعارض المذاهب اللاهوتية تجاه الدين، كان على قناعة بأن ذلك يعني أن المصطلحات الرئيسية في دراسة الدين ينبغي أن تكون «محايدة» من ناحية السمة المذهبية. وشعر دوركايم بأن علماء اللاهوت في تعريفهم «الدين» بأنه الإيمان بالرب قد انتهكوا هذه الحيادية «العلمية»؛ وذلك لصالح الإيمان بالرب الذي يقع في جوهر النظرة اللاهوتية لخصومه وهم علماء اللاهوت. ولتحقيق تلك الغاية الاستراتيجية عرَّف دوركايم الدين تعريفًا مختلفًا؛ فقد عَرَّفه تعريفًا يسلب فكرة الإيمان بالرب هيمنتها السائدة، فتعريف «الدين» الأكثر شمولًا عند دوركايم كان عن طريق جعل العنصر الجوهري فيه هو فكرة «القدسية». وبخطوة واحدة، أتاح هذا لدوركايم أن يُدْخِل في نطاق تعريفه «للدين» ما هو على شاكلة المسيحية، بل وما هو إلحادي أيضًا، مثل بوذية تيرافادا التي عرَّفها علماء اللاهوت البروتستانت الليبراليون وإخوانهم التبشيريون تعريفًا مختلفًا.

ما عليَّ أن أُبيِّنه الآن هو السمة الاستراتيجية النظرية الإبداعية لما فعله دوركايم عندما قرر أن يعتبر بوذية تيرافادا «دينًا»، فالمسألة ليست أن دوركايم نظر فيما حوله ولاحظ أن بعض الأشياء — بوذية تيرافادا مثلًا — صُنفت أنها تمثل «دينًا»، لكنها استُبعدت من قائمة «الأديان» على نحو مبهم. ليس هذا ما حدث، بل صنَّف دوركايم نفسه بوذية تيرافادا باعتبارها دينًا — كما كانت — من أجل تحقيق استراتيجياته النظرية الخاصة، فقد أعلن أنها عضو «ذو موقف قوي» ضمن فئة «الدين»؛ لأن القيام بذلك يخدم الأهداف الكبرى التي رغب في تحقيقها وهو ينظر في أمر المجتمع الإنساني بأسره. لقد خاطر دوركايم بقبوله «المسئولية».

واستنادًا إلى هذه الرؤية الاستراتيجية الأوسع نطاقًا، قال دوركايم إن فكرة «القدسية» قدمت محتوًى أكثر ثراءً وتماسكًا عن فكرة «الدين» مقارنة بمفهوم الإيمان بالرب. ورأى دوركايم ذلك نتيجة لإيمانه بأنه ليس «بالخبز وحده» تنمو البشرية وتزدهر، إن جاز التعبير، فالناس في حاجة لأشياء لا يمكن أن نصفها سوى بأنها «روحية» — كالأخلاق والإلهام؛ أي الأشياء الموجودة في الأديان التقليدية — بل «والإلحادية» كذلك مثل بوذية تيرافادا، لكن إن كانت هذه الأديان شديدة القدم في اضمحلال — كما رأى دوركايم في عصره — فما الأمل أمام البشرية؟ الإجابة لا أمل، ما لم نستطع أن نجد أو نوجِد أشياء تؤدي نفس الوظائف، أو وظائف مناظِرة لتلك التي كانت تؤديها الأديان القديمة. وفكرة القدسية الجوهرية تلك مكَّنت دوركايم من الحديث عن تطور الأديان بدءًا من الأديان القديمة — كالمسيحية والإسلام — وصولًا إلى ما تنبأ بأنها ستخلفها في المستقبل؛ كالإنسانوية الدينية أو الفردية أو القومية، على سبيل المثال، فالعنصر المشترك بين تلك جميعًا عبر مسار التطور الديني هو القدسية، فهي موجودة — كما رأى دوركايم — في كل ما يُطلَق عليه عامةً اسمُ «الدين». إن الإنسان في الإنسانوية والفردية كائن «مقدس»؛ فأجسامنا وخصوصيتنا وضمائرنا وحرياتنا وحقوقنا لا ينبغي انتهاكها؛ أي هي مقدسة، لا يجوز التعدي عليها. وحتى البوذية — رغم إلحادها — تقدِّس أشياء رئيسية؛ لذا فالبوذية تناظر تمامًا «الديانات» المسيحية والهندوسية من حيث إنها تتضمن منهجًا للرهبنة المنظمة التي تقدس بعض العهود الجوهرية على سبيل المثال. أما فيما دون التقديس، ألا تكشف البوذية عن أي صفات أخرى تخص «الأديان»؛ كالحياة الغنية نسبيًّا بالشعائر مثل الحال مع المسيحية، أو الهندوسية، أو أي شيء قد نعتبره «دينًا»؟ ألا توجه أفرادها — علاوة على ذلك — نحو شيء يناظر هو الآخر ما قد يعتبر «سموًّا» في غيرها مما نسميه «أديانًا»؟ ألا ينبغي أن تشكل كل سمات «الدين» هذه تعريفًا «للدين» بدلًا من الإيمان بالرب؟ فنتيجة هذا التحدي إذن أن التعريف الذي وضعه «دوركايم» ينبع من استراتيجية راسخة في منظوره الكامل للدين.

تسود نفس عملية التعريف المبنية على أغراضنا الاستراتيجية باقي مجالات الثقافة، وليس الدين استثناءً في هذا الصدد. انظر إلى مثال من عالم الفن، فرغم العراقة والوضوح الثقافي لمفاهيم مثل «الفن»، فإن تاريخ الفن في الغرب في القرن العشرين يخبرنا أن التغيرات والثورات في مسمياتنا الأساسية يجب اعتبارها أمرًا شائعًا. وعندما وُضعت «نافورة» مارسيل دوشامب (هي في الحقيقة مبولة مرحاض عمومي) — عام ١٩١٧ — في أحد المعارض الفنية في باريس التي تُعرِّض عالمَ الفن بأسره ومتابعوه للتشهير، هل كان ذلك «فنًّا» أم عملًا مراهقًا يصدم الجمهور المحافظ؟ مع ذلك وبتوضيح نظرة دوشامب عن أن مفهوم «الفن» يمكن — بل وينبغي — تحديه، فقد أثرى دوشامب المفهوم وعززه. لقد كان ذلك إنجازًا غير عادي على المستوى المعرفي وحده، فقد فعل دوشامب عدة أشياء أكثر من مجرد معاندة جمهور «الفن» البرجوازي؛ إذ كان يعلمه شيئًا جديدًا. لقد كان دوشامب — من الناحية العملية — يبين أن مجرد «وضع» أو «تأطير» الأشياء المعتادة، بل وحتى المبتذل والنفعي — الأشياء «الموجودة» أو «الجاهزة» — ضمن سياق معين قد يفرض نوعًا جديدًا من «الفن».

علاوة على ذلك، فقد تجاوزت «النافورة» فكرة الطبيعة الواضحة «للتأطير». وخلال ذلك وضعت تعريفًا جديدًا للفن، لكن على المدى البعيد كان هذا هو ما أراده دوشامب، «فالنافورة» لم تكن «شاذة» — لم تكن عملًا منفردًا — بل كانت مثل «وضع» دوركايم «القدسية» في قلب تعريف «الدين» جزءًا من استراتيجية لإعادة صياغة تصنيفاتنا. فإن اعتُبرت «النافورة» عملًا فنيًّا، فكل شيء يمكن اعتباره كذلك طالما «وُضع» في الإطار المناسب، وإن اعتُبرت بوذية تيرافادا «دينًا»، إذن فكل المنظومات الملحدة المشابهة التي تجسد ما هو مقدس تُعتبر كذلك. كما فتح هذا الباب أمام أتباع دوركايم ليعتبروا الإنسانوية أو الفردية أو القومية أو حتى الفاشية سيئة السمعة «ديانات» أو «اتجاهات دينية» (جنتيله ١٩٩٦، رانولف ١٩٣٩، ١٦–٣٤)؛ لذا كانت عبقرية دوشامب هي أنه لفت الانتباه إلى التعريف التقليدي «للفن» ثم تحداه، فكان دوره هو مواجهة هذا التعريف التقليدي وتحديه بنفس الطريقة التي تحدت بها نظرة دوركايم المختلفة للبوذية التعريف اللاهوتي «للدين». إذن فما ظننَّا أنه لم يكن إلا على هامش الفن — كالتأطير والإخراج وخلافه — تمامًا مثل الذي ظنَّ البعض منا أنه شيء هامشي بالنسبة للدين — كالشعائر وتقديس الأزمنة والأمكنة وغيرها — اتضح أنه في جوهر تعريفهما؛ ففي عالم دوشامب انحرف تعريف «الفن» أو توسَّع بحسب الذوق، وكذلك في عالمنا يمكن لتعريف «الدين» أن يزداد «مرونة»، وأن يُعرَّف الدين على نحو أكثر وعيًا في ضوء استراتيجية نظرية ما.

(١٤) الدين ومحتقروه

إن الرأي الذي أعرضه في هذا الفصل هو أن «الدين» لا يزال الاسم المناسب لعدد من الأهداف أو الاستراتيجيات الحياتية، لكنه اسم يحتاج لقدر كبير من الإصلاح. كذلك فوضع «الدين» والاستراتيجيات «الدينية» في الاعتبار يساعد على إيجاد طريقة مناسبة لفهم العالم؛ لذا قراري بالاحتفاظ بكلمة «الدين» يشير إلى أن هناك ما يمكن أن يقع عليه الاختيار في هذا العالم ليطلق عليه «الدين». وكما أبين في الفصل الختامي عن التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، قد تكون الأهداف الدينية أكثر وضوحًا مما كانت عليه في الماضي القريب. وفي الوقت الذي اعتدنا فيه بسهولة ودون تفكير المساواة بين «الدين» والإيمان أو المعتقد، سأبين أن هناك من الأهداف «الدينية»، سواء في الداخل أو في الخارج، ما هو أكثر من ذلك. وهذه «الأهداف الأخرى» هي السبب في تحوُّل الدين إلى قوة في عالمنا أكبر مما كانت عليه من قبلُ. وتنبع هذه الأهمية المتجددة في الأساس من حقيقة أن الأديان مميزة وسلطوية، وعادة ما تكون صورًا مطلقة للهوية والتنظيم الاجتماعي التي تتضمن «ممارسات ملموسة» تكمن في «شبكات من الارتباط العاطفي» بأهداف علوية أو حالات مجردة (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ٢٠٠٥، ١٢). وعلى هذا، ليس ثمة سبب لاستبعاد الأديان من مهمة تفسير العالم؛ إذ إنها جزء من عالم الحياة اليومية بقدر السياسة أو السلطة. وما علينا سوى إصلاح مفهومنا عن الدين ليصبح مفهومًا مقارنًا أكثر فائدة يعكس الأساليب المتناظرة التي يعيش بها الناس في جميع أنحاء البسيطة مما يمكن وصفها «بالدينية».

إن جانبًا كبيرًا من تفكيري المتعلق بخصوصية الدين، والمتعلق — من ثم — بالحاجة لمصطلح على نفس القدر من الخصوصية؛ وهو «الدين»، ينبع من التعاطي مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر. كانت استراتيجيتي الفكرية هي محاولة تفسير أحداث الاختطاف بطريقة مختلفة عن تفسيرات الآخرين. وفي النهاية، أدى هذا الهدف الاستراتيجي لفهم أحداث ١١ سبتمبر إلى تعرُّفي على شيء يستحق تمامًا اسم «الدين». كما أوصلني بعد ذلك إلى تعريف ماهية هذا «الدين» في أحداث ١١ سبتمبر. لذا فكما بيَّن الخاطفون من تنظيم القاعدة أنفسهم في ١١ سبتمبر، ووفقًا لما أوضحته تحليلات بروس لينكولن الأخيرة لهم، تصرَّف هؤلاء الخاطفون على أساس دوافع يصعب تصنيفها بشيء خلاف «الدين»؛ إذ تصرفوا وفقًا لقواعد تختلف كثيرًا عن تلك التي نطبقها في حسابات «الكُلفة والمكسب» التي تسود السياسة أو الاقتصاد (لينكولن ٢٠٠٣)، فما فعلوه «يُفهم» في إطار التأثير السلطوي القوي لتضحيتهم المنكرة للذات التي تتجاوز السياقات الاقتصادية أو السياسية. لقد واجهنا الانتحاريون «بمنطق» «ديني» من الأنسب وصفه بالاستشهاد أو الفداء — ربما أكثر من وصف الجهاد — بصرف النظر عن مدى بشاعة هذا المنطق أو رفضه أخلاقيًّا (سترينسكي ٢٠٠٣أ، ١–٣٤). وبصفتنا مُعظِّمين علمانيين غربيين لكلٍّ من المكسب والقوة، لم نكن على استعداد لفهم إلى أي مدًى كان الخاطفون أدوات لقوة اجتماعية لها سلطة صنعت «منطقها» الديني السياسي الخاص، فببساطة لم يكن لدينا فكرة عن أن انتحاريي القاعدة «بتضحيتهم» (وليس انتحارهم كما سأُبيِّن) كانوا يؤدون عملًا شعائريًّا ودينيًّا له ثقل وسلطة تقليدية كما بَيَّن لينكولن (لينكولن ٢٠٠٣، ٩٣–٩٨). لقد عجزنا عن حساب منطقية ما حاولوا فعله من الناحية الدينية، ويرجع جزء كبير من ذلك إلى أننا تصورنا أن ما يمكن أن نسميه «الدين» لم يكن مهمًّا، فلطالما اعتُبر الدين هو الظاهرة المراد تفسيرها وليس تفسيرًا لظاهرة. ألن يكون من الأسلم علميًّا أن نبحث فيما إذا كان الدين ظاهرة تحتاج لتفسير أم أنه مجرد تفسير يشكل جزءًا من بحثنا النظري وليس نتيجته الحتمية؟ إنني أسعى في هذا الكتاب إلى أن «أدعم الدين» ببيان أن «الدين» اسم مناسب لعامل يفسِّر ما يَحدث فيما يسمى عالم السياسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤