الفصل الخامس

اختبار استقصاءات «الدين» و«السلطة» و«السياسة»

الانتحاريون وسلطة التضحية في الشرق الأوسط
(٢١) بَغَضْتُ، كَرِهْتُ أَعْيَادَكُمْ، وَلَسْتُ أَلْتَذُّ بِاعْتِكَافَاتِكُمْ.
(٢٢) إِنِّي إِذَا قَدَّمْتُمْ لِي محْرَقَاتِكُمْ وَتَقْدِمَاتِكُمْ لا أَرْتَضِي، وَذَبَائِحَ السَّلامَةِ مِنْ مُسَمَّنَاتِكُمْ لا أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا (عاموس، ٥: ٢١-٢٢).
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (القرآن: سورة النساء: الآية ٢٩).
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (القرآن: سورة النساء: الآية ٧٤).

(١) هل التفجيرات «الانتحارية» عمل ديني؟

بعد الاستقصاء الصارم لمفاهيم «الدين» و«السلطة» و«السياسة» في الفصول السابقة، سيرغب القراء — ولهم الحق — في أن يتأكدوا إن كنتُ قدمتُ أي شيء لتعزيز فهمنا للواقع العملي للدين والسلطة والسياسة؛ هل يمكن مثلًا لهذه الطرق الجديدة «لرؤية» الدين والسلطة والسياسة، إن وُضعت محل الاختبار، أن تساعد على الفهم الأفضل عندما «ننظر» لشيء مُحيِّر فعلًا كالتفجيرات «الانتحارية» في الشرق الأوسط؟ سيكون بيان إمكان ما سبق موضوع هذا الفصل. في الواقع، هذه الظاهرة أثارت جهدًا استراتيجيًّا أكبر لدراسة إن كانت التفجيرات «الانتحارية» في الشرق الأوسط المسلم تسعى لما هو أكبر من استعراض القوة وخلق قوة «سياسية» مباشرة، بل تكشف أيضًا عما يمكن تسميته بالبعد «الديني». وبصفة خاصة، أُومِن بأن ما عرفناه من خلال استقصاء المفاهيم المحورية مثل «الدين» و«السلطة» و«السياسة» يمكن أن يُثري تفكيرنا وفهمنا للتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط على نحو أكبر بكثيرٍ من ذي قبل. من المؤكد أنه توجد تأويلات أخرى للدين والسلطة والسياسة قد تختلف عن تأويلاتي. وقد تطرح الاستقصاءات الأخرى تساؤلات مختلفة. ومن الممكن أن تثري فهمنا للظواهر الدينية السياسية العصية في أغلب الأحيان؛ كالتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط بأساليبها الخاصة. فليكن، لكن في هذا الفصل أودُّ أن أبيِّن كيف يمكن لاستقصائي المسميات الرئيسية؛ كالدين والسلطة والسياسة، أن يثري فهمنا لهذه الظاهرة المعاصرة المؤلمة التي تبدو دينية وسياسية الطابع في الوقت ذاته.

فلنأخذ «الدين» بدايةً. كيف يمكن للبعد الديني للتفجيرات الانتحارية أن يُؤَوَّل أو يُعرَّف؟ وإن كان «للدين» دور هنا، فكيف يمكننا أن نميزه؟ هل التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط ذات صفة «دينية» بالمعنى الشائع أو العام للمفهوم؟ نعم، يُستحضَر الإسلام في حالات، لكن هل كان بات روبرتسون محقًّا في أن استحضار الإسلام يخفي وراءه حقًّا شيئًا غير ديني؟ هل من الممكن أن يكون السياسيون أو غيرهم من الأشخاص المعدومي الضمير مجرد أناس يستغلون الإسلام لغير الأهداف «الدينية»؟ هل يمكن إذن أن يُستخدم الإسلام «كأداة» أو ذريعة سهلة لتبرير شيء يختلف تمامًا عن دين الإسلام؟ وعلاوة على ذلك، بالنسبة للذين يقولون إن التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط ذات طابع ديني، هل يحددون أيضًا إن كانت بالضرورة جيدة أم سيئة؟ كيف يمكن لذلك أن يتَّسق مع فكرة أن الدين مسألة اعتناق بعض المعتقدات؛ كالإيمان بوجود الرب وأوامر الرب السامية؟ كيف يمكن للدين في التفجيرات الانتحارية — إن جاز التعبير — أن يكون شيئًا داخليًّا وخاصًّا في جوهره، بينما من الواضح جدًّا أن التفجيرات الانتحارية عمل عام؟ وكيف يمكن أن تكون «دينية» بالنظر إلى أنها لا تبتعد كثيرًا عن الحياة العامة والسياسة؟ هل «السلطة» مجال موحد للهيمنة البشرية هنا، أم أن «السلطة» في التفجيرات الانتحارية تكمن في عقدة من المُكوِّنات المختلفة في ذاتها؟ هل «سلطة» التفجيرات الانتحارية لا تتعدى إذن «سلطة» القوة السياسية الصريحة والقوة القسرية؟ أم أن الحقائق تتطلب منا أن نعيد النظر في تحيزاتنا، ونُفسح المجال لمفهوم «السلطة» بمعنى السلطة الشرعية؛ أي السلطة باعتبارها نوعًا من القوة الاجتماعية أو «الدينية»؟ وإذا أمكننا ذلك، فهل يمكن أن نرى الدين يستعرض «السلطة» بهذا المعنى حتى في المجال السياسي؟ وأخيرًا فيما يتعلق بمفهوم «السياسة»، توجد من ناحيةٍ النظرةُ الأقدمُ الراسخة والضيقة إلى «السياسة» باعتبارها ترتبط بالدولة و«السياسة الحزبية» فيها، ومن الناحية الأخرى يوجد الحديث المترسخ مؤخرًا والأوسع نطاقًا عن «السياسة» الذي يرتبط بميشيل فوكو، والذي يتجاهل الدولة ويرى «السياسة» سمة سائدة ومنتشرة من سمات الحياة الإنسانية.

عبر صفحات هذا الكتاب، أظن أنني وضعت أسلوبًا جديدًا للحديث عن «السلطة» و«السياسة» يستلزم بالضرورة أن نفكر في «الدين» بالتوازي معهما وليس تحت مظلتهما. لقد كنت أحاول أن أُمكِّن الناس من تعميق فهمهم للحياة الإنسانية من خلال رؤية البعد الديني في الأحداث الحالية (والسابقة) المرتبطة بالسياسة والسلطة، وكان هذا جزءًا من الاستراتيجية النظرية التي اتبعتها منذ البداية. وقد خصصت هذا الفصل لاختبار إن كان تمييز السمة «الدينية» فيما يسمى التفجيرات الانتحارية سيساعدنا على الوصول إلى هذا الفهم الأعم. اسمحوا لي إذن أن أبدأ بأكثر الأسئلة وضوحًا حول التفجيرات الانتحارية، بأي وجه نفهم — إن أمكن أصلًا أن نفهم — وصف التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط بأنها ظاهرة «دينية»؟

(٢) التركيز الشديد على الدين في التفجيرات «الانتحارية»: «الفاشية الإسلامية»

لا يتطلب الأمر أي جدال لإقناع معظم الناس بأن التفجيرات الانتحارية التي شهدناها مؤخرًا في الشرق الأوسط المسلم كانت أعمالًا سياسية؛ تجسيدًا للقوة القسرية. ومعظم الناس يظنون أنه لا ضرورة لإثبات أنها تحتوي على عنصر ديني جوهري، رغم أن الذين يظنون أن الدين «خير» ربما يترددون في ذلك (أبلبي ٢٠٠٢، كيلساي ٢٠٠٢). يوجد نوع من «التفكير البديهي» الذي يقول إن الإسلام «دين»، وإن معظم الانتحاريين — إن لم يكن كلهم — مسلمون، وإن هناك شيء ذو صبغة إسلامية خاصة في التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. كما يُعتقد على نطاق واسع أن الانتحاريين تحرِّكهم أو تُوجِّههم المعتقدات الإسلامية أو الأوامر الواردة في القرآن لمحاربة القهر وتحرير الشعوب المسلمة. واتساقًا مع هذا الرأي، يعلن المقاتلون بمنتهى الوضوح في منشوراتهم، سواء في الصحافة أو في الوسائل المرئية، أنهم قاتلوا من أجل الإسلام وبالإسلام، فالانتحاريون يتصورون أنهم يعيدون إنتاج النماذج المقدسة لأبطالهم الدينيين وغيرهم من خلال الاقتداء بأبطالهم؛ مثل: الحسين، وعلي، والنبي محمد، وغيرهم.

هل يمكن أن تكون طبيعة الانتحاريين على هذا النحو في سياق معتقداتهم الإسلامية الخاصة؟ إنهم يذكروننا في تمسكهم بالقدوة الدينية بالذين يضعون ملصقات «ما الذي قد يفعله يسوع؟» على سياراتهم، وهو الأخير في سلسلة طويلة من التقاليد التي تُعرِّف المُثُل المسيحية «بتقليد المسيح»، لكن هذا الشعار بالطبع يثير سؤالًا حول ماهية المسيح المقصود. هل هو يسوع الوديع والمتسامح «كالطفل الصغير»، أم يسوع الذي أتى في سِفْر الرؤيا الدموي؟ ولا يختلف الأمر لدى المسلمين فيما يخص أبطالهم؛ لذا ربما يذكِّرنا الانتحاريون بأوضاعنا نحن الأمريكية المحلية المألوفة في المظاهرات المتطرفة ضد عيادات الإجهاض، فالتحذير الإنجيلي الوارد في الوصية الخامسة من القتل يوجه محاولات الجماعات «المدافعة عن الحياة» نحو إنقاذ حياة الأجنة من خلال منع الإجهاض، لكن في كثير من الأحيان لا ترى نفس الجماعات «المدافعة عن الحياة» أي تناقض في قتل الأطباء البالغين الذين يُجرون تلك العملية. وبالتوازي، يرى الانتحاريون أنفسهم يؤكدون قيم الكرامة التي تنشرها تعاليم دينية معينة، حتى وإن كانت «هجماتهم الانتحارية» تنتهي بقتل الأبرياء. وفي صورة أقل تطرفًا بكثير — فضلًا عن أنها تخلو من العنف — فإن الذين يتبعون الخاتمة الإنجيلية «أطلق شعبي!» لا يعلنون الحرب التي ألهمتها المسيحية فحسب، بل هي حرب في سبيل رؤية مسيحية للمجتمع العادل. إذن ليس من المستغرب كثيرًا أن تثير محاولة التفكير في التفجيرات الانتحارية — بعيدًا عن الاستنكار الأخلاقي أو الإشادة غير النقدية — مثل هذا الألم الشديد. فما أقصده هو أنه مهما كانت الحقيقة، فإن معظم الناس يرون التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط وعليها ختم الإسلام والدين.

إلا أننا في الغرب أفرطنا في الاهتمام (وللمفارقة فرَّطنا أيضًا كما سنرى) بالعلاقة بين التفجيرات الانتحارية والدين — الإسلام على وجه التحديد — وأنا على يقين من أن القرَّاء سيدركون الإسلاموفوبيا التي يمكن بمنتهى السهولة أن تُصيب عدواها الخطاب العام حول التفجيرات الانتحارية بالشرق الأوسط، فكلُّ ما في التفجيرات الانتحارية تُلقى مسئوليته على الإسلام. وكما يقول عالِم السياسة بجامعة شيكاجو روبرت بيب في صفحة الرأي بصحيفة نيويورك تايمز في سبتمبر ٢٠٠٣:

لقد كانت الهجمات الإرهابية الانتحارية في تزايد حول العالم طوال عقدين، لكنَّ هناك التباسًا كبيرًا حول السبب في ذلك؛ فبالنظر إلى أن العديد من تلك الهجمات — بما في ذلك بالطبع هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ — تتكرر على يد إرهابيين مسلمين لهم دوافع دينية، فقد يبدو واضحًا أن الأصولية الإسلامية هي القضية المحورية (بيب ٢٠٠٣).

من ثَم نجد أيضًا مصطلحًا خاصًّا مثل «الإسلاموفوبيا» يدور في دائرة واسعة ليوضح هذه الحقيقة عن المنطق الإسلامي للهجمات الانتحارية. وشجَّع هذا الخطابَ النقادُ الثقافيون اليمينيون مثل ديفيد هورويتز وكريستوفر هيتشنز وغيرهما ممن يتوقون لإدانة ما يعتبرونها اتجاهات مناهضة للحداثة أو فاشية بين المسلمين في الشرق الأوسط، فهم يأملون أن يلصقوا بالانتحاريين الوصف البغيض «الفاشيين الإسلاميين»؛ ليؤكدوا إيمانهم بأن السبب الجذري للعنف السياسي المتطرف من هذا النوع هو الإسلام بوصفه دينًا.

لكن بفعل ذلك، يرغب هيتشنز ورفاقه فيما هو أكثر من إدانة جماعة من المتطرفين داخل المجتمع المسلم؛ إذ يسعى هيتشنز بالتحديد إلى أن يَصِم التعاليم الدينية الإسلامية كلها — والدين بصفة عامة كما رأينا من قبلُ — بوصمة العنف والتعصب التي لا تُمحى (هيتشنز ٢٠٠٧). أما فيما يخص الإسلام، فقد يدعم هيتشنز أحيانًا هذه الاتهامات باقتباسات من القرآن يؤمر فيها بالعُنف. وتكفي هذه المقتطفات لتُثبت له أن الفاشيين الإسلاميين متدينون بشدة، بل — على النطاق الأوسع — إن الإسلام بصفة عامة دين شرير متعطش للدم في جوهره وفي جذوره. ولحسن حظ هيتشنز أن الخطاب الذي تقشعر له الأبدان الصادر عن تنظيم القاعدة، الذي يُمجد الفداء والانتحار والموت، يوفر كلَّ الأدلة الداعمة الضرورية لحسم قضية إدانة الإسلام، سواء بصورة ضمنية أو لا؛ لذا يقول هيتشنز إن مساواة الإسلام بالفاشية منطقية جدًّا:

ليس من المصادفة بكل تأكيد أن كلًّا من الإسلام والفاشية يؤكد على الأساليب الانتحارية والتضحيات، فضلًا عن أن كليهما يُفضل دمار مجتمعاتهما عن التوصل لتسوية مع الكفار أو أي تخفيف لحدة الالتزام العقائدي المطلق (هيتشنز ٢٠٠٧).

ومن الناحية المنطقية — بالنسبة ﻟ هيتشنز — بما أن الانتحاريين في الشرق الأوسط مسلمون، وحيث إن الإسلام دين عنيف بالأساس، فإن دين الإسلام يُفسِّر لماذا ينفذ الانتحاريون هجماتهم. انتهى الأمر.

(٣) الموت في سبيل تجاهل الدين في التفجيرات «الانتحارية»: روبرت إيه بيب

أو هكذا قد يظن المرء؛ فقد اشتُهر بإعادة فتح النقاش ضد التفسير الديني للهجمات الانتحارية عالِمُ السياسة بجامعة شيكاجو روبرت بيب؛ فقد لقي كتابه «الموت في سبيل الفوز» حفاوة في أوساط العلوم الاجتماعية، وتتردد أفكاره في مقالات الرأي في وسائل الإعلام الكبيرة كصحيفة نيويورك تايمز (بيب ٢٠٠٣). فبينما لا يعارض بيب صراحة هؤلاء الذين ينسبون التفجيرات الانتحارية مباشرةً «للإسلاموفوبيا»، فإنه يحاول تبرئة الدين — سواء الإسلام أو غيره — من أي نوع من المسئولية عن التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. «توضح البيانات عدم وجود رابط كبير بين الهجمات الإرهابية الانتحارية والأصولية الإسلامية، أو أي دين في واقع الأمر …» (بيب ٢٠٠٣)، ودعمًا لهذا الاستنتاج، يجمع بيب قدرًا كبيرًا من الإحصاءات التي يستنبط منها أن الدين «نادرًا ما يكون أصل (التفجيرات الانتحارية)»؛ ففي أسوأ الأحوال «غالبًا ما يُستخدم الدين أداةً في يد المنظمات الإرهابية للتجنيد وفي غيره من الجهود التي تسعى لتحقيق هدف استراتيجي أشمل» (بيب ٢٠٠٥، ٣٨). في بعض الأحيان، يبدو بيب كما لو كان يخاطب الذين «يبالغون في الاهتمام بالدين»؛ ومن ثم الذين يسعون لإلقاء لوم التفجيرات الانتحارية على «الإسلاموفوبيا»؛ إذ يقول بيب إن «الرابط المفترض بين التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط والأصولية الإسلامية افتراض مضلِّل» (بيب ٢٠٠٥، ٣٨)؛ لذا فإن كتاب بيب يهمنا لأنه يُمثل الرأي المناقض لأمثال مَن هم على شاكلة هيتشنز بقوله إن الدين — سواء الإسلام أو غيره — لا مكان له إطلاقًا في تفسير ظاهرة مُعترف بطبيعتها السياسية كالتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. لكن بيب، في رأيي، فرَّط في الاهتمام بدور الدين في الشئون السياسية حتى وإن أفرط فيه هيتشنز وأمثاله.

وحتى نكون منصفين تمامًا مع بيب، علينا أن نتناوله على عدة مستويات، لا سيما استخدامه للمنهج الإحصائي، لكن بينما لا أُقلل من شأن الأساليب الكمية، فإنني لا يمكنني الاعتماد عليها هنا. فعلى أي حال، لا يتجاوز الهدف الرئيسي من ذكر بيب في المناقشة تقديم مثال على شخص «يُفرِّط» — برأيي — في النظر إلى الدين في تفسيره للتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، فبيب يناقض نفسه في الواقع، وخلال ذلك يدعم حججي المؤيدة لفكرة أن الدين يلعب دورًا خطيرًا في التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. وفيما يخص هذا الربط، توجد على الأقل مشكلة واحدة كبيرة فيما أنجزه بيب؛ فبينما قد يكون من الجيد إنقاذ الإسلام من براثن أتباع هاريس وهيتشنز، فإنني أومن بأن ذلك سيكون على حساب فهمنا بدرجة كبيرة، فبإنكار أن الدين له أي دور مهم في التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، يُسطِّح بيب الظاهرة التي يتناولها. إن قوة أسانيدي في كل ما مضى تكمن في أننا إن نظرنا نظرة أعمق إلى «الدين» و«السلطة» و«السياسة»، واستقصينا تلك المفاهيم، فسيمكننا أن ندرك أشياء جديدة عما يحدث في العالم. فبيب لا ينظر بعمق إلى أيٍّ من تلك المفاهيم على الإطلاق؛ ففي قوله إن الدين ليس «سببًا جذريًّا» — على سبيل المثال — يبدو أنه يتفادى احتمالية أن يكون الإسلام سببًا من نوع آخر. فماذا يمنع «الدين» من أن يكون «سببًا» مهمًّا دون أن يكون «سببًّا جذريًّا»؟ فما هو — كما أرجو الإيضاح — «السبب الجذري»؟ كذلك من الغريب أن يتمكن عالم اجتماع من تناول الدين من هذا المدخل غير الاجتماعي. لماذا يكرر بيب كل أخطاء «مذهب الإدراكية» الذي يهاجمه طلال أسد (وأنا) عن حق؟ (أسد ١٩٩٣، الفصل الأول) لماذا يختزل بيب إذن مفهوم الدين في مجرد «المعتقد»؟ لماذا إذن يكتفي بتناول ظاهرة إدراكية مثل «الأصولية» و«التشبع الديني» في تصوره لدور الإسلام في التفجيرات الانتحارية، كما لا يذكر إلا المعتقدات والمذاهب؟ (بيب ٢٠٠٣، ٢٠٠٥، ١٦) لماذا — باختصار — يتأثر تصور بيب عن الدين بالأفكار الشائعة والقوالب الفكرية التقليدية؟ أين حقيقة الدين الاجتماعية الثقافية الموجودة حولنا؟ أين الحياة العاطفية، والممارسات التقليدية اليومية، والمناسبات الشعائرية الخاصة، والأثر الخفي في الزمان والمكان لإيقاعات تقويم ديني؛ تهذيب الجسد بالولائم وبالصوم، بالكشف والتغطية وغيرهما؟ أين الحياة الأخلاقية التي تشمل البغض والحب، السرقة والعطاء، التضحية والمصلحة الشخصية؟ كل هذا سيضيع هباءً وسط كمِّ الإحصاءات التي تُشكِّل جزءًا كبيرًا من جهود بيب، لكنني أومن بأن هذا هو مكمن الدين، في «الممارسات المادية» و«شبكات الروابط العاطفية» التي يتحدث عنها طلال أسد (أسد ١٩٩٦، ١–١٥، ٢٠٠٥، ١٢)؛ فمنها — كما أبين في هذا الفصل — يمكننا أن نبدأ في رؤية دور الدين في التفجيرات الانتحارية.

وبالمصادفة، كلما قرأنا لِبيب اتَّضح لنا كيف أَوصله تجنُّبه لهذه الأبعاد المادية والاجتماعية والثقافية للدين إلى حالة من الالتباس عن علاقة الدين بالتفجيرات الانتحارية. ومع ترويج بيب لانعدام صلة الدين بتفسير التفجيرات الانتحارية، يتحدث في مواضع أخرى عن «الدعم الكبير وسط المجتمعات الوطنية» الذي ينعم به الانتحاريون (بيب ٢٠٠٥، ٢٢). فهل من المفاجئ أن يأتي هذا «الدعم» من الانتماءات الدينية؟ وإن صح ذلك، أليس الانتماء إلى هذه الجماعات بطريقة ما أو بأخرى «سببًا» وراء التفجيرات الانتحارية، من خلال وضع سياق دلالي مثلًا تتخذ مثل هذه الأفعال في ضوئه سلطة شرعية؟ بالمثل، حتى إن استبعد بيب دور الدين من تفسيره للتفجيرات الانتحارية، فإنه يقول أيضًا إنه إن اختلف دين أصحاب الأرض عن المحتل، فإن «احتمال» وقوع «التفجيرات الانتحارية» يزيد (بيب ٢٠٠٥، ٢٢)، لكن يجب علينا أن نسأل بيب عن السبب في ذلك، إلا إن كان الدين له تأثير مادي — سببي — ما؛ لذا يجب علينا أن نسأل بيب في النهاية علام يستقر؟ هل الدين عامل مهم في تفسير التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط أم لا؟ وأي جانب من بيب يجب علينا تصديقه؟ وفي النهاية، إن كان الدين عاملًا يدخل في تفسير التفجيرات الانتحارية، فبأي صورة يكون دوره على وجه الدقة؟

(٤) لا دور للدين في التفجيرات «الانتحارية»: طلال أسد

ونتيجة لتفرُّد رأي بيب، يجب علينا أن ننظر إلى مفكِّر آخر يصر على استبعاد الدين من تفسير التفجيرات الانتحارية؛ وهو طلال أسد، فبإنكاره احتمال تدخل الدين في التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، يستبعد أن يكون الدين عاملًا يدخل في تفسير التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط وفهمها. وعلى عكس بيب — الذي يقبل من حيث المبدأ، على الأقل، احتمال أن يكون الدين دافعًا للناس نحو تنفيذ الهجمات الانتحارية لأسباب دينية — ينكر أسد تلك الاحتمالية — على الأقل — في السياق الذي يخصُّنا هنا؛ وهو الشرق الأوسط أو إسرائيل/فلسطين. ويأتي رفض أسد من «زاويتي» هجوم اثنتين.

بوجه عام، يسعى أسد بدايةً إلى تفريغ المسئولية الأخلاقية والتدخل الأخلاقي من عالم التفجيرات الانتحارية شرق الأوسطي؛ ومن ثم يقول أسد إن علينا فيما يخص الشرق الأوسط أن ننظر للانتحاريين باعتبارهم نتيجة للواقع على الأرض؛ إذ يرى أسد — بعد إجراء التعديلات اللازمة — أن الانتحاري ربما يودُّ أن يقول شيئًا من قبيل أن «الإسرائيليين اضطروني لفعل هذا»؛ لذا فمن الخطأ أن نعتبر أن الانتحاريين «اختاروا أن يبرروا عنفهم في سياق عرف ديني محضٍ» (أسد ٢٠٠٧، ٤٥)، فهم غير مسئولين عما يحدث؛ حيث إنهم بالأساس مجرد مقاومين لشرٍّ موجود بالفعل. وبما أنهم ضحايا تدخُّل الآخرين، فإن وضعًا غير محتمل هو الذي يحركهم نحو إنهاء حياتهم (أسد ٢٠٠٧، ٤٥)؛ فهم يرون أنهم — من هذا المنطلق — «يُقتلون على يد قوة خارجية» (أسد ٢٠٠٧، ٥٠)، وأرواح «حلت بها كارثة» (أسد ٢٠٠٧، ٤٩). قد يبدو أنهم فاعلون مسئولون، لكنهم في الحقيقة لم يمارسوا إلا «فعلًا عشوائيًّا عندما انغلق طريق السياسة أمامهم» (أسد ٢٠٠٧، ٤٧)، فإذا نسبنا إليهم حرية الاختيار أو حس المسئولية الأخلاقية، فسيكون ذلك خطأ في تفسير موقفهم، فهم ليسوا فاعلين لأنهم لا يملكون حرية الاختيار، فهم بالأساس ضحايا عاجزون تقف وراء فعلهم الظاهر أسباب في إطار القهر الخارجي الذي يعانون منه.

بعد ادعاء أسد أن الانتحاريين في الشرق الأوسط ليسوا فاعلين حقيقيين، يُعرب بعد ذلك عن شعوره بأنه لا يمكن فهمهم في ضوء وجود دافع من نوع ما، خاصة إن كان دافعًا إسلاميًّا؛ ومن ثم دينيًّا (سيئ السمعة حتمًا)، فتحميل الإسلام مسئولية التفجيرات الانتحارية — كما يفعل هيتشنز مثلًا بكل حماس — لا يعني التغاضي عن الظلم الذي أنتج منفذي الهجمات الانتحارية فحسب، بل الانغماس كذلك في الإسلاموفوبيا المألوفة بشدة الآن. «قطعًا ليس من المصادفة أن كلًّا من» الإسلام والفاشية «يؤكدان على الأساليب الانتحارية»، كما يحذرنا هيتشنز. لكن في رأي أسد، فإن مثل هذا الاتهام عن جهل يخطئ في تحديد المسئولية الأخلاقية وغير الأخلاقية عن التفجيرات الانتحارية في إسرائيل/فلسطين على سبيل المثال. إن هذا الأمر يَعدِل تحديد متهم إضافة إلى المصادر الدينية التي تغذي إجراميته (أسد ٢٠٠٧، ٤٥)، فحتى إن تمكنَّا من تحديد ما يدور في ذهن الانتحاري، وحتى إن وجدنا فيه دافعًا دينيًّا ما، فلن يكون هذا ذا صلة سببية بالتفجيرات الانتحارية. ولهذا السبب، يقول أسد إن أي محاولة لإيجاد أسباب دينية للتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط ستفشل حتمًا؛ إذ توجد «قصة أشمل» يجب أن نستكشفها، وهذه «القصة لا تبدأ بمحاولة تفسير فعل ديني» كما يقول أسد (أسد ٢٠٠٧، ٤٦)، بل تبدأ (وتنتهي على الأرجح) بحكاية تركز على فكرة الضحية.

وفي ضوء ما نعرفه الآن عن الذين «يبالغون في الاهتمام بالدين»، باعتباره عاملًا يدخل في التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، وكذلك الذين «يتجاهلونه»، ماذا أطرح في المقابل؟ استكمالًا لما ذكرته بالفعل في الفصول السابقة، ليس جديدًا أنني أرى مشكلات كبيرة في كلا الرأيين حول علاقة الدين بعمل سياسي هو التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. وردًّا على هيتشنز ورفاقه، سأُبين أنه بالغ كثيرًا في تحميل الإسلام المسئولية عن التفجيرات الانتحارية، فبينما من الممكن وجود علاقة ما بين الاثنين، فإن طبيعة تلك العلاقة تختلف عما يظنه هيتشنز. وهنا سأستعين بالمفهوم المجدد للدين الذي عرضته في الفصل الثاني لأبين كيف قد يكون للإسلام دور بتوفيره سياقًا ذا معنًى للتفجيرات الانتحارية. فإن كان الإسلام — أو الدين بصفة عامة — يشترك في المسئولية، فإن هيتشنز على ما يبدو لم يفهم حقيقة ذلك؛ إذ يتصور هيتشنز أن الإسلام يملي على نحو مؤثر المسار الذي ينبغي للانتحاري أن يتبعه من بين قائمة من المعتقدات أو الآيات القرآنية. صحيح أن عناصر الثقافة الإسلامية تساعد على استيعاب الكيفية والأسباب وراء تنفيذ الانتحاريين لهجماتهم، لكنَّ ذلك يختلف تمامًا عن الاستشهاد بمجموعة من الأوامر لفعل ذلك. فهل يمكن أن نُحمِّل البابا مسئولية التفجير الذي نفَّذه الإرهابي المسيحي الملتزم تيموثي ماكفي في أوكلاهوما؟ إلا أننا يمكن أن نفهم جزءًا من نظرة ماكفي للعالم — ومن ثم دوافعه — من خلال معنًى استمده من أحد خيوط العقيدة المسيحية. وما يُقال عن ماكفي ينطبق على منظمة كو كلوكس كلان، بل ينطبق ذلك — في هذا السياق — بصورة أكبر على الحملات الصليبية التي وجهت أعمالها أوامر دينية صريحة! فالباحث في القرون الوسطى جان فلوري كسر تقليد التسمية الملطَّفة للحملات الصليبية باعتبارها «رحلات حج»، أو حتى «رحلات حج مسلحة»، وقال إنها كانت «حروبًا مقدسة»؛ أي إنها تقابل الجهاد! (فلوري ٢٠٠١) وهنا يطمس التصور النشط لفكرة المحارب الشهيد أي اختلاف محتمل بين المسيحية والإسلام فيما يخص الدور النشط للشهداء (كاودري ١٩٨٥، ٤٦–٥٦، ٤٦، فلوري ١٩٩١، ١٢١–٣٩). ويقدم كتاب جوبرت النوجنتي بعنوان «أعمال الرب بأيدي الفرنجة» (١١٠٨) النص:

لن تشهد أي أرض جنودًا بهذا النبل يحاربون معًا، وإن شئتَ ذكرتُ لك قصة كل مملكة، وتحدثتُ عن المعارك التي وقعت في كل مكان، لكن ليس فيها ما يضاهي نبل هؤلاء الرجال ولا قوتهم؛ فقد تركوا أوطانهم، وهجروا زوجاتهم، وزهدوا في أطفالهم، فكان البقاء في منازلهم عقابًا لهم؛ فبداخل كل فارس تشتعل الرغبة في الشهادة (نوجنت ١٩٩٧، ٥٠-٥١).

على نحو مشابه، في الحالة المقابلة التي «يتجاهل» بيب فيها دور الإسلام والدين، فإن تلك العناصر الثقافية بالتحديد هي التي تشترك في صناعة المعنى الذي ينبغي فهمه لنرى كيف يدخل الدين الإسلامي ضمن أسباب التفجيرات الانتحارية. أما أسد — أخيرًا — فسأحاول أن أُعيد طرح معنًى مناسب للفاعلية — وخاصة فاعلية الدين — في إنتاج التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. لا يعني هذا إطلاقًا أن أنكر على أسد منطقه القوي في أن التفجيرات الانتحارية في إسرائيل/فلسطين تندرج في سياق صراع مقاومة، لكنه — كما سأوضح — يُوسِّع السياق لأبعد مما يتصوَّر أسد. وأسعى لرؤية الانتحاريين كما يرون أنفسهم؛ باعتبارهم هدية وفداءً واستشهادًا سياسيًّا دينيًّا يُقدَّم تحت مظلة ثقافة إسلامية دينية. باختصار، يوجد ما يُطلق عليه الإسلام الجهادي أو المتطرف، فهي ظاهرة إسلامية تمامًا، رغم أنها تنتمي لإسلام محل نزاع بقدر ما هي ظاهرة محل نزاع، لكن لا يعني أيٌّ من ذلك أن الجهاديين يتحدثون بلسان أغلبية المجتمع الإسلامي أو حتى جزء ملموس منه، فهي مسألة تجريبية لا يمكن تناولها إلا عن طريق الأبحاث الاجتماعية.

(٥) كيف يسهِّل الدين تفسيرَ التفجيرات الانتحارية؟

وعليه، فسأبين كيف أن فهم التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط يستلزم استحالة استبعاد «الدين» من تحليلنا من دون خسارة فادحة على مستوى فهمنا، كما يستلزم ذلك أن أُعرِّف «الدين» على نحو معين ينسجم — جزئيًّا — مع أهدافي النظرية، وهي محاولة فهم التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط؛ لذا فأنا لا أتقيد بالتعريفات الشائعة أو اليومية «للدين»، ولا بالقوالب الفكرية الشائعة الستة عن طبيعة الدين، من أجل طرح تصور لدور الدين في التفجيرات الانتحارية في إسرائيل/فلسطين. هذا إذن موضع اتخاذ قرارات نظرية؛ موضع أخاطر فيه بطرح تعريف للدين يُعد بارزًا في الموقف الحاضر؛ إذ أرى أن الدين يجب أن يُنظر إليه باعتباره عاملًا مؤثرًا في كثير من شئون العالم، وأرى أن التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط تدخل فيها؛ لذا فهذا موضع على المرء أن يتساءل فيه عن معنى «الدين» في القضية محل النقاش، هذا موضع ربما لا تصلح فيه التصورات التقليدية للدين والسياسة، هذا موضع لا يصح فيه افتراض الأفكار التقليدية عن الخير أو الشر الحتمي في الدين، بل يجب أن تكون محل جدل شديد، هذا موضع تتوارى فيه الفكرة التقليدية للدين باعتباره المعتقد أمام مفهوم للدين تحتل فيه الممارسة والتجسيد والعاطفة وما شابه نفس القدر من الأهمية — إن لم تكن أهم — من المعتقد، بما في ذلك الإيمان بالرب. وهنا أيضًا الموضع الذي توصلت فيه لاستحالة الحكم بأن السياسة «تستخدم» الدين أو أن الدين «يستخدم» السياسة، بل لا «يستخدم» أيٌّ منهما الآخر، فالدين والسياسة ما هما إلا مضطلعان بما يُتوقع منهما، في ضوء فَهْمٍ أكثر حكمةٍ لكليهما؛ فهذا موضع يمكن فيه للدين أن يكون عامًّا ومشاركًا في لعبة السلطة السياسية؛ حيث لا تتفق الافتراضات التقليدية الشائعة عن الدين بأنه تلك الحقيقة التي توصف ﺑ «الروحانية» والداخلية دائمًا مع الحقائق، فهذا إذن موضع يؤدي فيه استبعاد الدين من المعادلة وعدم النظر إليه إلا في ضوء القوالب الفكرية التقليدية إلى تسطيح فهمنا للتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط.

وأخيرًا هذا موضع تبين لنا فيه استقصاءات «السلطة» و«السياسة»، التي أجريتها في الفصلين الثالث والرابع، إلى أي درجة ينبغي لنا أن نتوخى الحذر عندما نطلق افتراضات عن معاني هاتين الكلمتين فيما يتعلق ﺑ «الدين». فهل يُحدِث الانتحاري مثلًا تأثيره من خلال السلطة الشرعية أم القسرية أم كلتيهما؟ وهل الانتحاريون بامتلاكهم سلطة شرعية معينة هم أشخاص يحققون أو يمكنهم تحقيق أهدافهم من خلال استحواذهم على برنامج ديني أخلاقي يفرض بدوره على الآخرين أن يتصرفوا على نحو معين؟ أم إنهم — بتشجيعٍ ممَّا لديهم من قوة قسرية — يصلون في الأغلب إلى أهدافهم من خلال الممارسة الصريحة للسلطة السياسية التي تصل إلى حد العنف الفعلي، وليس بالصورة المجازية في تعبير «العنف المؤسسي»؟ هل من الأفضل كذلك فهم سلطة الانتحاري في ضوء فكرة فوكو التي تقول إن القوة تنتشر وتعُمُّ العالم البشري؛ أي إنها «تمتد بامتداد الكيان الاجتماعي»؟ (فوكو ١٩٧٧ج، ١٣٤–١٤٥، ١٤١) أم من الأفضل فهم «سلطة» الحدود البشرية باعتبارها تركز على الدولة، بما في ذلك الأمة بوصفها «مجتمعًا مُتخيلًا» ودولة قومية في النهاية؟ وهل عندئذٍ تصبح فكرة فوكو عن السلطة بوصفها «طاقة ديناميكية تنتشر خلال النظام الاجتماعي» الأداة المثلى لسبر أغوار لغز التفجيرات الانتحارية؟ (تشيدستر ١٩٨٨، ٨) أم إن الإشارة إلى الدولة والأمة — بعكس ما يرغب فوكو وكما سأُبيِّن — يجب أن تدخل ضمن حديثنا عن السلطة بالمعنى القسري؛ أي سياسة السلطة؟ بالمثل، وفيما يخص تداعيات استقصاء «السياسة» في حالات مثل التفجيرات الانتحارية، أومن بأننا نستطيع أن نفعل ذلك بالصورة المثلى مع مفاهيم الدين والسياسة الثرية التي أنتجتها استقصاءاتنا في الفصول السابقة.

(٦) التفجيرات الانتحارية «كارثة»، لكنها أيضًا «انتصار» ﻟ «خلود العلمانية»

اسمحوا لي أن أبدأ برد مفصَّل على حجج الإقصائيين في البداية. من أهم أسباب وضع الدين في الاعتبار عندما نحاول فهم الانتحاريين — على الأقل «الدين» بالمعنى اليومي، بما في ذلك الإسلام — هي كلمات الإقصائيين أنفسهم. سيتضح سريعًا أن تلك الكلمات لا هي تدعم تصور أسد عن اللامسئولية والوقوف موقف الضحية، ولا هي تُسهِّل على بيب التخلص من الدين تمامًا. ما هي إذن طبيعة الرؤية الإيجابية للفاعلية والمسئولية التي توجِّه التفجيرات الانتحارية التي تعود للظهور الآن خلف قناع ديني في سياق الحديث عن الفداء والهدية والخلود والانتصار على الموت؟

مع وضع قضية الفاعلية على رأس الاعتبارات، لنبدأ استكشاف كُنه التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، فإن كان الانتحاريون فاعلين، وليسوا مجرد ضحايا للكارثة لا دور لهم، كما يُصوِّرهم أسد، فما الذي يمكن أن يكون المرشح الأول لفهم فاعليتهم؟ ليس بجديد أننا إن نظرنا لما يقوله الانتحاريون أنفسهم فسيتصدر «الجهاد» القائمة حتمًا. إن اعتبار الانتحاريين أنفسهم مجاهدين مقاتلين يطغى بكل تأكيد على الرأي القائل إن «الانتحاريين» ينبغي — بطبيعة الحال — تسميتهم «منتحرين»، فقتل النفس شيء، لكنَّ قتلَ النفس باعتباره سلاحًا في صراعٍ شيءٌ مختلف تمامًا. وفي السياق الإسلامي — فيما سوى الصراع — وحتى مع وجود النية الدينية الواعية، فإن مجرد قتل النفس لا يضمن أبدًا مكانًا لصاحبه في الجنة. إن وجود الصراع في سبيل العدل والدفاع عن الإسلام هو ما يمنع — للوهلة الأولى على الأقل — الإدانة الصريحة الكاملة للتفجيرات الانتحارية.

فماذا يدخل — على الأقل — ضمن رؤية ما تعنيه «التفجيرات الانتحارية» في إسرائيل/فلسطين للمنفذين أنفسهم؟ ولإعطاء إجابة مباشرة، يمكن القول دون تحفُّظٍ إنه بغضِّ النظر عن أي احتمالات أخرى، فإن هذه الهجمات تهدف حتمًا لقتل اليهود والإسرائيليين والمتعاونين معهم من الفلسطينيين، وما يتجاوز بمراحل إنهاء الاحتلال؛ إبادة إسرائيل نفسها. فالانتحاريون يهدفون لاستعراض القوة القسرية بعنف (من اللافت أنهم لا يأبهون بأي حملة منسقة للمقاومة السلمية)، فإعلانات حماس وغيرها من المنظمات المنفذة لتلك الهجمات أوضحت ذلك بشدة؛ إذ تركز حماس مثلًا على المعاناة التي تسببها للعدو على يد «الانتحاريين» بدلًا من التركيز على «ما تعانيه هي نفسها». وفي أذهان الانتحاريين أنفسهم، هم لا يكتفون بتحملهم المسئولية فحسب، بل ويؤكدون عليها بقوة؛ فميثاق حماس — على سبيل المثال — يقول الكثير عن إبادة إسرائيل وعن الجهاد (إزرائيلي ١٩٩٧، ٩٦–١١٢، ٩٦). كذلك يسعى حزب الله لتبرير موت «الانتحاريين» بالمعاناة التي نزلت بعدد المصابين الذين سقطوا من صفوف العدو (إزرائيلي ٢٠٠٢، ٢٣–٤٠، ٢٣). هذه الأمثلة، كما يوجهها خطاب الجهاد النشط، ينبغي أن تدفع إلى الحذر من الحديث السطحي عن المفاهيم الأخرى في التفجيرات الانتحارية كتلك (الخاصة بطلال أسد في الواقع كما سنرى) التي تجرِّد الانتحاريين من الفاعلية والمسئولية عن أعمالهم. فهم أنفسهم يعلنون بأعلى صوت أن التفجيرات الانتحارية أعمال شجاعة بطولية استشهادية. كذلك ينبغي أن تدفع مكانةُ الجهاد هؤلاء الذين يرون التفجيرات الانتحارية (كما أنظر إليها أنا أيضًا) في ضوء السلطة الشرعية بدلًا من السلطة القسرية الصريحة إلى إعادة النظر. وبهذه الصورة، يُمثِّل عنصر الجهاد في التفجيرات الانتحارية مثالًا جيدًا على ما لاحظ برايان إس تيرنر وفريدريك فولبي أنه بمنزلة «الإسراف في منظومات السلطة الشرعية العشوائية التي تسعى بالقوة لفرض آرائها باعتبارها تتمتع بسلطة شرعية» (فولبي وتيرنر ٢٠٠٧، ١–١٩، ١١). وسأبين أن التفجيرات الانتحارية كان يجب بناءً على ذلك أن يُنظر إليها باعتبارها تجسد السلطة الشرعية من ناحية كونها فداءً، فالتضحيات — بعكس الجهاد — لا تُوجَّه في العادة مصالح بعضها ضد بعض، بل هي نوع معين من «الهدايا» تُقدَّم للآخرين أو باسمهم. إن الانتحاريين يكتسبون سلطتهم الشرعية باعتبارهم مقدِّمي «عطايا» قيمة. هذه هي الطريقة التي يصيرون بها «أبطالًا» للمقاومة الفلسطينية.

من المؤكد أن الجهاد في إسرائيل/فلسطين — في عقلية الانتحاريين — كما يزعم أسد هو فعل يتم ضمن سياق رد الفعل على الواقع العسكري لإسرائيل، لكن هذا لا يحسم المسألة كثيرًا؛ حيث إنه لا يوجد حَكَمٌ ليعلن مَن «البادئ»، ويحدد بموضوعية لمن ردُّ الفعل؛ هل كانت أولى الحملات الصليبية «عدوانًا» (والصليبيون «فاعلون» أخلاقيون من ثم) أم أنها لم تكن سوى رد فعل على غزو المسلمين واحتلالهم لأراضٍ مسيحية في السابق؟ من الشائع في الصراعات أن كل طرف يلقي باللوم على الآخر «لإشعال فتيله». ألا يرى الإسرائيليون في المعتاد أن العمليات العسكرية الإسرائيلية هي رد فعل على الهجمات الصاروخية، أو على التهديد العسكري الشامل الناتج عن تطويقهم من أعداد كبيرة من العرب المعادين؟ إن مجرد الحديث عن الشكاوى لا يحسم أي شيء؛ فأمام كل شكوى فلسطينية بالتأكيد — سواء أكانت مدعمة بالأدلة أم لم تكن — هناك شكوى إسرائيلية تقابلها.

نعم، إن الإهانة المفهومة نتيجة الاحتلال العسكري والتوسع في المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي العربية يمكنها مع ذلك أن تثير «الغضب» (أسد ٢٠٠٧، ٤٧)، وقد يُفكر المقاتلون كذلك — وهو ما لن يراه أمثال أسد خطأً بالطبع — في أنه في ضوء معاناتهم «الظلم»، فإن «الفعل العشوائي» في صورة العنف هو البديل الوحيد الباقي أمامهم (أسد ٢٠٠٧، ٤٧). دَعْ عنك للحظة أن أعمال العنف الفلسطينية تلك لا تنفع إلا الاحتلال، كما قال بعض الفلسطينيين أنفسهم. فالمقصود هنا أنه لا جديد في محاولة أسد إعادة بناء السياق العاطفي الذي يغذِّي المقاومة الفلسطينية، حتى وإن تصوَّر أسد العكس. فأي طرفٍ في صراعٍ سيبرر أعماله بزعمه أنه يدافع عن نفسه، لكن المهم هو أن تلك المزاعم ترافقها مبرراتها الدينية، التي يستبعدها أسد بسهولة، رغم أنه ينتقد الآخرين بسبب تجاهلهم «وجهة نظر السكان المحليين» (أسد ٢٠٠٧، ٤٤). فإن كنا مُصرِّين على جعل وجهات النظر المُعلَنة للانتحاريين جزءًا من فهمنا لأفعالهم، فلا يمكننا إذن أن نختار منها ما يدعم أهدافنا السياسية، كما يفعل أسد بوضوح، فعلينا أن نواجَه بالحقيقة المعقدة؛ وهي أن التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط مسألة مُركبة لا يرقى إليها شكٌّ تدخل فيها عوامل عدة، وتجمع بين الدين والسياسة.

لذا، إن تمكَّنا من تجاوز تلك المحاولات اليائسة لإلقاء المسئولية الأخلاقية على الطرف الآخر، فسيكون علينا في النهاية أن نستعيد معنًى سليمًا للفاعلية والمسئولية، وتطبيقهما على الانتحاريين. لا يعنى هذا تحميل الانتحاريين المسئولية بالنسبة غير الواقعية ١٠٠٪ أكثر مما هو عليه الحال مع أي فعلٍ لأيِّ شخصٍ في الواقع، لكن علينا أن نعود إلى المعنى السليم للفاعلية أمام إصرار أسد على نزعها — وخاصة الفاعلية الدينية — من عالم الانتحاريين، فإهمال أيٍّ من صور الفاعلية في أذهان الانتحاريين يعني — على الأقل — إهمال «النظر في المفاهيم التي يستخدمها أصحاب الشأن بالفعل» (أسد ٢٠٠٧، ٤٤).

والغريب أن أسدًا قدَّم واحدة ربما من أفضل الحُجج التي تدحض إنكاره هو لدور الدين في التفجيرات الانتحارية؛ ففي مرحلة معينة من حُجته، يعترف أسدٌ نفسه بأن الانتحاريين يرون أنفسهم سلبيًّا على أن «الكارثة حلَّت بهم»، وكذلك يرون أنفسهم فاعلين كما يبدو للعالم كله في السياق الديني. فمثل هذه الميتة «تمثل انتصارًا» (أسد ٢٠٠٧، ٤٩)، وهو انتصار يؤدي إلى «خلود العلمانية» (أسد ٢٠٠٧، ٤٧، ٤٩)، وإذا كان هذا هو الواقع، أفليس علينا أن نسعى لاستيضاح الرؤية تجاه هذا «الانتصار»؟ ما هو المضمون والأساليب الإيجابية التي تدعم هذا الانتصار؟ هل يوجد إقليم مثلًا يتمتع ﺑ «الانتصار»؟ هل يوجد كيان سياسي يتجسد فيه «الانتصار»؟ وكذلك أين يعيش هؤلاء الذين حققوا «خلودهم» المزعوم؟ بالنظر إلى أن هذا الخطاب عن الفاعلية الدينية يتعارض على نحو صريح مع سردية الضحية العلمانية التي يقدِّمها أسد، فإن كل شيء يدفعنا لئلَّا ننتظر أي أجوبة على تلك الأسئلة منه.

وأمام عدم تماسك رؤية طلال أسد، فأنا مضطر لاتباع الخيط الذي يقدمه الانتحاريون أنفسهم في حديثهم عن «الانتصار» و«الخلود»؛ ففكرتي الرئيسية تتمثل في أن جزءًا آخر من الدوافع المحركة للتفجيرات الانتحارية يكمن في اعتبار الانتحاريين أنفسهم هدايا للأمة؛ أي أضاحي دينية. مرة أخرى، لا يعني هذا إنكار القوى الخارجية التي تؤثر في الانتحاريين، وأنهم «يُحركهم وضع غير محتمل» (أسد ٢٠٠٧، ٤٥). ورغم محاولة أسد أن يصبغ الانتحاريين بصبغة من السلبية — باعتبارهم أرواحًا «حلت بها كارثة» (أسد ٢٠٠٧، ٤٩)، فإنني لا أظن أن كلمات الانتحاريين ستؤيد صورة الضحية البائسة عندما يُقال الكثير عن كونهم هدايا وأضاحيَ (ومجاهدين بالطبع). إن الاستخدام التقليدي للفظة العربية «هدية» تربطها بأكثر الكلمات التي تعبر عن الفداء شيوعًا: «الأضحى» و«القربان». فكلمة هدية/هَدْي من الناحية الدلالية تعني أيضًا الفداء والذبيحة، وإن لم يكن هذا الاستخدام شائعًا لا شك بسبب هيمنة الألفاظ الأخرى؛ أي الأضاحي والقرابين. مع ذلك، ورغم عدم الشيوع، فإن العلاقة القوية بين لفظة هدية ولفظة أضحية/قربان تتيح لنا الربط بين كلٍّ من الهدية والأضحية (علي ٢٠٠٨، تعليقات شخصية).

(٧) التفجير الانتحاري = جهاد + فداء

أمام أولئك الذين يعتبرون الجهاد — سواءً أكان فعلًا أم رد فعل — الإطار الوحيد لرؤية التفجيرات الانتحارية، علينا أن نسجل حقائق مناقضة؛ إذ تظهر أُطُر أخرى بارزة من كلمات الانتحاريين أنفسهم، فهم يرون أنهم يؤدون أدوارًا دينية مزدوجة، فهم محاربون مقدسون يؤدون الجهاد، لكنهم أيضًا شهداء وأضاحٍ. هنا لا أتحدث عن الفداء باعتباره نوعًا من السلوك الأخلاقي أو الحالة الذهنية كما يفترض عادة الغرب الليبرالي ذو الفكر الديني. تذكَّر في استقصائنا لمفهوم «الدين» كيف تشكك المفكرون البروتستانت الليبراليون في انتساب بعض أشكال الدين المادية — كالفداء — إليه فعلًا؛ إذ وصف أحد علماء اللاهوت المشهورين في أواخر القرن التاسع عشر الفداء بأنه مثال على «المادية الدينية». ومن هذا المنطلق، أي دين مزعوم يعطي مكانة محورية للالتزام الشعائري والممارسات هو دين «يشوبه شيء من الخرافة دائمًا»؛ بمعنى أنه ليس دينًا حقيقيًّا على الإطلاق (ريفيل ١٨٧٤، ١٣٨–١٥٦، ١٥١). كان هذا الرفض للجانب المادي من الدين بالتبعية محاولة لتحويله إلى الروحانية؛ إذ رأى هؤلاء اللاهوتيون البروتستانت الليبراليون أنه لكي ننظر إلى الفداء، علينا أن نتناوله «من زاوية أخلاقية ودينية أسمى» (ريفيل ١٨٧٤، ١٣٨–١٥٦، ١٥٤)؛ باعتباره «اشتياق المؤمن للاتحاد الأبدي مع» الرب (تييل ١٨٩٨، ١٤٩). لكن وعلى النقيض، فداء الانتحاريين مادي تمامًا — وإنْ بشكل بشع — لدرجة أنه يعطي صورة دموية صادمة. وفي الفترة الأخيرة، أعرب أحد الانتحاريين عن سعادته باحتمال أن تتناثر أشلاؤه عند الانفجار على نطاق واسع من أرض العدو، وأن يتعلق بعضها بأجساد الأعداء (لورنس ٢٠٠٥). لذا، وفي تغطية لآراء السيدات المحتمل تحولهن لانتحاريات بعد ١١ سبتمبر، كتبت ساندرا جوردان في مجلة نيو ستيتسمان اللندنية كيف ترى الانتحاريات أنفسهن من زاويتي الجهاد والتضحية معًا:

تقول ريهام: «نعرف ما تحتاجه فلسطين منا؛ الجهاد. لو كان أسامة اختار شيئًا خلاف ذلك، لكان عاش لنفسه وخذل فلسطين. ينبغي للجميع أن يختاروا الفداء حتى نستعيد حقوقنا، فالإسرائيليون يحتلون أرضنا، وعلينا أن ننهي هذا الوضع، والجهاد هو السبيل الوحيد» (جوردان ٢٠٠٢).

بالمثل، إن أخذنا كلمات أسامة بن لادن على محمل الصدق، فإن الخاطفين في هجمات ١١ سبتمبر كانوا «فداءً» بقدر ما كانوا «شهداء»، قال أسامة بن لادن: «لقد وُفِّي إخواننا التسعة عشر أجرهم بهذا الانتصار الذي نحتفل به اليوم.» وفي موضع آخر يشيد ابن لادن ﺑ «هاني حنجور … من أهل الطائف، مدمِّر مركز الدفاع الأمريكي (البنتاجون). صفاء ظاهر، وفداء باهر. نحسبه، والله حسيبه» (ابن لادن ٢٠٠١). إذن بما أن الانتحاريين انعكاس للفاعلية، فإنهم يرون أن أفعالهم تجمع بين الجهاد والفداء. ومما يزيد الأمور تعقيدًا إدخال الاستشهاد في المسألة أيضًا. فإن كان من الممكن — ومن الواجب — فصل هذه المفاهيم الثلاثة بعضها عن بعض من أجل التبسيط، يظل التداخل المعقد فيما بينها حقيقة لا يمكن إنكارها كذلك.

الشيء الذي يتضح مما سبق وغيره من التأكيدات على المكانة المحورية للفداء في النظرة المسلمة أو الإسلامية المتشددة فيما يخص التفجيرات الانتحارية، أن مثل هذه العمليات في فكر حماس والقاعدة وغيرهما يطلق عليها كذلك «هجمات فدائية»، أو «عمليات استشهادية»، أو ما شابه. ومن هذا المنطلق، يتضح أن مصطلح «التفجيرات الانتحارية» يتضمن انتقاصًا أو تحقيرًا لا يفيد إطلاقًا. فعلى الأقل، وبينما لا أنسى أن «الجهاد» يظل حاضرًا بقوة، سأحاول أن أبيِّن تعدد أوجه الخطاب عن «الانتحاريين». فالمفاهيم الدينية «كالفداء» تدخل ضمن «العناصر» المكونة للصورة الكلية؛ لذا فإن مقصدي هو أنه حتى إن وضعنا الجهاد في مكانه الصحيح ضمن الوضع المفاهيمي الذي يميز «التفجيرات الانتحارية»، من أجل الفهم التام حتى لبعض النواحي الجهادية المتعلقة ﺑ «التفجيرات الانتحارية»، فعلينا أن نتبنى رؤية عن الإسلام تردد دائمًا أن الانتحاريين ينتسبون للدين؛ بمعنى أنهم فداء. يتعين علينا أن نولي اهتمامًا أكبر بالفروق الدقيقة والمواصفات والتناقضات الداخلية في التفسيرات التقليدية ﻟ «التفجيرات الانتحارية» كما قد يوحي مفهوم الجهاد البحت؛ فالجهاد — كما أظن — ما هو إلا جزء من حكاية «الانتحاريين»، وجزء من ارتباط دوافعهم بالدين بقدر ارتباطها بالسياسة.

لذا، فأنا أومن بأن مثل هذا الأسلوب يعطينا الإذْن بالغوص في أعماق إطار مرجعي أكثر ارتباطًا بالإسلام من أجل فهم دوافع مَن يُطلق عليهم لفظ انتحاريين. وهذا الإطار المرجعي ﻟ «التفجيرات الانتحارية»، في رأيي، لا يقتصر على الجهاد، بل هو الفداء؛ إذ تكمن الصبغة الإسلامية للتفجيرات الانتحارية في مستويات أعمق مما تصادفه عين الملاحظة اليومية؛ ففي إسرائيل/فلسطين بينما تدخل ضمن دوافع هذه العمليات الانتحارية مهاجمة الآخرين صراحةً في سبيل الجهاد، يدخل ضمنها في الوقت ذاته دافع آخر هو إنشاء كيان سياسي فلسطيني، من خلال تقديم قربان إلى الله وفداء للأمة؛ إذ يسعى «الانتحاريون» إلى قتل اليهود، لكنهم بصفتهم فواعل، فهم جزء من أُسرهم ومجتمعاتهم، ويعيشون في عالم يحيط به كائن أسمى له هدف سياسي مستقل يتجاوز قتل اليهود أو غيرهم من الأعداء المباشرين، فدلالة الأفعال التي ينفذها «الانتحاريون» تتفرع جزئيًّا من شبكة تجمع بين العلاقات الإنسانية والروحانية التي يرون أنهم يعيشون فيها هم أنفسهم في الحاضر، وكما يتصورون حياة عائلاتهم الممتدة وشعوبهم في المستقبل؛ إذ تتجاوز دوافع «الانتحاريين» الجهاد، وكذلك الانتحار، فمن بين تلك الدوافع — كما سأوضِّح — التضحية؛ لذا وفي مقطع مُصوَّر عُرض على قناة الجزيرة في عام ٢٠٠١، سخر ابن لادن من نفاق الولايات المتحدة عندما واجهت هجمات ١١ سبتمبر، مؤكدًا في ذلك الموضع على أن الخاطفين كانوا مجرد «تسعة عشر طالبًا فيما بعد المرحلة الثانوية» قدموا الفداء الأكبر؛ وهو حياتهم:

أمة من ١٢٠٠ مليون مسلم تُنحر من مشرق الأرض إلى مغربها في كل يوم، في فلسطين، وفي العراق، وفي الصومال، وفي جنوب السودان، وفي كشمير، وفي الفلبين، وفي البوسنة والشيشان، وفي آسام لا نسمع لهم صوتًا، فإذا ما قامت الضحية، إذا ما قام المظلوم يقدِّم نفسه من أجل دينه، ارتفعت أصوات هؤلاء! ١٢٠٠ مليون مسلم يُنحَرون لا حسَّ لهم، فإذا قام رجل ليذود عن هؤلاء، قام أولئك يرددون ما يشتهي الطغاة (لورنس ٢٠٠٥، ١٥٣).

وفي نفس الخطاب، يؤكد ابن لادن مرة أخرى على أن هجمات ١١ سبتمبر — وهي ضرب من ضروب الجهاد — كانت كذلك هدية فدائية تمامًا قُدِّمت في سبيل الإسلام: «هؤلاء هم منفذو هجمات ١١ سبتمبر الذين تركوا الدنيا ونعيمها من أجل لا إله إلا الله» (لورنس ٢٠٠٥، ١٥٤).

إن خطاب التضحية غالب لدرجة أن «ماكس» المنشق عن القاعدة تحدث هو نفسه عن الإخلاص لأسامة بن لادن من جانب الفداء؛ ففي معرض إشارته لأصحاب أسامة بن لادن يقول:

أتعلم؟ أراد كلٌّ منهم أن يفدي أسامة بن لادن، فهم يريدون أن يبذلوا أموالهم وكل ما لديهم ليضحوا بأنفسهم من أجل ابن لادن، وإن طلب ابن لادن من أيهم أن يفعل أي شيء؛ أن يقتل نفسه، فلن يرفض. هناك الآلاف الذين يرغبون بالتضحية من أجل ابن لادن (ماكس).

كلمات الانتحاريين ومن هم على صلة بهم تبين لنا أنه ليس من الصعب معرفة الدوافع التي تحركهم لمجرد أن «الفاعل يموت في الهجوم»، فهي دوافع «يمكن معرفتها» بقدر ما يمكن معرفة دوافع الكثيرين في الانتحار العادي، حتى وإن قلت إن تلك الهجمات هي شيء يختلف تمامًا عن الانتحار العادي (أسد ٢٠٠٧، ٤٥). أمر ثانٍ، إن اتبعنا القاعدة المنطقية تمامًا التي تقول إنه «للحديث عن الجوانب الذاتية في الدين، علينا أن ندرس مفاهيم الأفراد ذوي الصلة»، سنجد أن كلًّا من «الجهاد» و«الفداء» له دور واضح في التفجيرات الانتحارية (أسد ٢٠٠٧، ٤٤)، فينبغي على الأقل أن نفصِّل هذين الجانبين عند التفكير في التفجيرات الانتحارية.

بعد تناول «الجهاد» بصفته تجسيدًا للسلطة بالمعنى القسري، أزعم أن دلالة الخطاب الديني أو خطاب الفداء في التفجيرات الانتحارية تكمن في تجسيد جانب مغاير تمامًا من السلطة؛ وهو السلطة الشرعية. إن اقتراح دومو بالحديث عن «السلطة» دونما تمييز ما هو إلا تكرار لعبارة أورويل عن «العادات السيئة» في التفكير من خلال الحديث «بطريقة سيئة»، فالفداء ليس قتل العدو؛ إذ ليس فيه أي سلطة قسرية على العدو. في الواقع، وفي بعض الحالات، تكون السلطة القسرية المتعلقة بتقديم النفس قربانًا في التفجيرات الانتحارية كعمل جهادي أمرًا مرهونًا — من وجه معين — بالتضحية بالنفس، فحتى الانتحاريون الذين يفشلون في قتل أي شخص سوى أنفسهم لا يزالون يتمتعون بسلطة شرعية مثل الذين ينجحون في استعراض السلطة القسرية الجهادية من خلال قتل العدو. وتلك هي السمة التي أسعى لدراستها، وحتى إذا فشل هجوم في بعض الأحيان، فإن الانتحاري يُفجِّر نفسه على أي حال، علينا إذن افتراض أنه من أهم الأشياء التي يحملها بعض الانتحاريين في أذهانهم نية الفداء؛ الرغبة في التخلِّي عن الحياة في سبيل الهدف المنشود — أي التضحية — حتى وإن لم توجد منفعة مادية يحققها الهجوم. والأمر الأكثر وضوحًا هو أن التفجيرات الانتحارية بصفتها فداءً أكدت على التضحية بالنفس؛ ومن ثَمَّ فإنها تتعلق بقتل المرء نفسه؛ لذا فإن مفهوم «الانتحاري» يحظى برواج، لكنه مضلل، بل على النقيض كما سنرى، فإن التفجيرات الانتحارية بصفتها فداءً هي تجسيد لسلطة شرعية لا علاقة لها بمحاربة العدو أو حتى قتله؛ فهي فعل يجسد سلطة شرعية تخلق شيئًا ما بتقديسه، هي سلطة شرعية ترسخ مجتمعًا ما وتعتمد كليًّا على تقبُّله لها. ولدعم ما قد يكون تأويلًا مزعجًا، بل وربما يراه البعض مهينًا من الناحية الأخلاقية للتفجيرات الانتحارية، ينبغي لي أن أقول بعض الكلمات عن الانتحار وعلاقته بالفداء.

(٨) فداء أم انتحار؟

عندما تُذكر كلمات مثل «الفداء» أو «الانتحار» في أي محادثة، يتضح أنها ليست أسماء محايدة، بل كلمات قيمية «مُحمَّلة» بمعانٍ ودلالات معينة، فوصف الموت ﺑ «الانتحار» لا يتوقف عند وصف كيفية موت الشخص، بل يُحمِّل الكلمة بدلالات حكم أخلاقي أو اجتماعي. وبنفس الطريقة، فإن الإشارة إلى الموت بأنه «فداء» أو «استشهاد» ترتقي به إلى مراتب السمو الديني، فالموت فداءً يُفترض أنه موت شخص شريف يسمو فوق مستوى الحسابات الدنيوية الفردية لتحليل التكلفة والعائد، الفداء يُفترض أنه متعلق بما يسُمى الخير «الأسمى»، سواء للأمة، أو لأي مرجعية سامية أو عابرة للحدود؛ كالدين. ومن هذا المنطلق، يستحوذ الفداء على سلطة شرعية معينة؛ على نفوذ أخلاقي يؤثِّر في استجابة الآخرين تجاهه، فاستجابة الأمة لموت جنودها «فداءً» يكون في الغالب بتجديد المساعي التي ماتوا في سبيلها؛ فالفداء يمكن أن يُنظر إليه باعتباره قاعدة للسلطة الشرعية يتأتى من خلالها ممارسة النفوذ. وهذا — كما سنرى — يفصلها عن الطريقة التي تحقق بها السلطة القسرية للجهاد أهدافها؛ ففداء المتظاهرين السلميين بأنفسهم في الهند وقت غاندي أو مع مارتن لوثر كينج الابن من خلال تعريض أجسادهم لضربات القامعين قد يبدو حُمقًا من وجهة نظر السلطة المطلقة؛ السلطة القسرية، لكن نموذجهم نتج عنه ضغط وسلطة شرعية أخلاقية حاسمة فيما يتعلق بكلتا القضيتين.

تؤثر هذه الفكرة في التناول التقليدي للفداء والانتحار على يد عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم؛ إذ حار في كيفية استيعاب ما سماه «الانتحار الإيثاري»؛ وهي الحالات التي يتخلى فيها الأفراد عن حياتهم من أجل الآخرين كما في الحرب مثلًا؛ حيث يموت الجنود في سبيل إنقاذ رفاقهم. وظهرت الإشكاليات في عمل دوركايم؛ لأنه عجز عن إعطاء تفسير — بأرقام دقيقة وفي ضوء المنفعة — للسبب في أن تدمير الذات لم يؤدِّ إلى دمار المجتمع ذاته كذلك. فمن الناحية المادية، كيف يمكن للفرد أن «يضيف» للكل الاجتماعي — إن جاز التعبير — من خلال «حذف» أفراده الداخلين في تركيبه؛ و«حذفهم» طوعًا؟ بل إن بعض أفعال تدمير الذات مثل «الانتحار الإيثاري» أدَّى إلى ازدهار اجتماعي، فهل كان هناك خطأ في التسمية من الأساس بوصف هذه الأفعال «بالانتحار»، بما أن ذلك يعني ضمنيًّا صلتها بحالات الموت الانتحارية التي لم تخدم الازدهار الاجتماعي مطلقًا؟ أليس من الأفضل أن نطلق عليها اسمًا آخر؛ اسمًا يبين أن هذه الموتات «الانتحارية» الإيثارية كانت جزءًا من نوع آخر من العلاقة السببية غير المادية؟ لقد كاد طموح دوركايم على وجه الدقة أن يُثبت العلاقة السببية الاجتماعية أو الفكرية أو الأخلاقية، لكن أشكال السببية تلك كانت «طبيعية» مع ذلك كالسببية المادية (بيكرنج ١٩٨٤، ٢١٠). لم يكن دوركايم يتحدث عن المعجزات أو القوى الخارقة للطبيعة كالبركة، بل كانت القوى الاجتماعية تأخذ مجراها على «مستوًى» آخر لتعكس جانبًا مختلفًا من الواقع عن المادة البحتة (بيكرنج ١٩٨٤، ٢٧٨).

خلال استكشاف دوركايم للمسببات الاجتماعية، قال إن لها جانبين؛ جانبًا سلبيًّا بصفتها «قيودًا اجتماعية»، وآخر إيجابيًّا بصفتها «قوًى مُحركة». وكان «المعنى النموذجي» ﻟ «القيود» هو «ممارسة السلطة — بدعمٍ من العقوبات — لحمل الأفراد على الالتزام بالقواعد». وهذا ما كنت أُطلق عليه — سيرًا على خُطى دومو — السلطة الشرعية؛ فالسلطة الشرعية للسيطرة الاجتماعية هي ما نتعرض له جميعًا ونَعرفه بأنه «سلطة» — أي السلطة الشرعية — الرأي الجماعي، والضغط الاجتماعي، والالتزام، والحكمة التقليدية، والمعتقدات الراسخة، والتحولات «البديهية»، والأنماط، والصيحات الجديدة … إلخ. أما على الجانب الإيجابي — عند دوركايم — فيمكن «للقوى» الاجتماعية أيضًا أن تكون دافعًا ملهمًا ومُحرِّكًا للفعل؛ أي «العوامل السببية بما فيها الناس» من بين أشياء أخرى، نحو «كسر القواعد» (لوكس ١٩٧٢، ١٣). وسنسترجع مرة أخرى أن دوركايم ساوى تلك «القوى المحركة» بوجود الدين، فهو الفاعل الأساسي في «السلطة الشرعية»؛ ومن ثَمَّ «يُنتج قوة اجتماعية» تثير «النشاط والتغيير» الاجتماعيين (بيكرنج ١٩٨٤، ٢١٤).

إن الرابطة التي تجمع السلطة الشرعية والسببية الاجتماعية والقوى المُحركة والدين تبدو هي السبب عينه الذي دفع دوركايم إلى أن يُفضل النظر إلى حالات «الانتحار الإيثاري» باعتبارها «فداءً»؛ إذ لم تكن سوى حالات «انتحار» بالمعنى الظاهري لقتل النفس. أما في جميع الجوانب الأخرى، فقد استدعت تسميتها باسم يعكس دورها المحسوس في الازدهار الاجتماعي. لكن دوركايم لم يحرز تقدمًا كبيرًا — إن وُجد تقدمٌ من الأساس — في إدراك كيف يمكن ﻟ «حذف» أحد أفراد المجتمع أن «يُضيف» إليه. وتُركت هذه المهمة لأحد أكثر زملائه الموهوبين، ويدعى موريس هالبواك. ففي كتابه «أسباب الانتحار» (١٩٣٠)، أعاد هالبواك طرح السؤال حول علاقة الانتحار بالفداء؛ إذ قال إن اعتبار شيء ما «فداءً» بدلًا من «انتحار» يعتمد على وجهة نظر المجتمع المرجعي الذي وُجدت فيه هذه الكلمة أو تلك، فإن «المجتمع يزعم أن الفداء عمله الخاص» الذي يتم «تحت مظلته؛ حيث تلتقي كل القوى الروحية» كما يقول هالبواك، فالمجتمع إذن «يشرف» على الفداء؛ فهو «ينظمه» و«يتحمل مسئوليته». وعلى النقيض، «يُنكر» المجتمع الانتحار. إنني ألمِّح إلى أن هالبواك شعر بأن المجتمعات قررت اعتبار بعض حالات قتل النفس «تضحياتٍ» لا «انتحارًا»؛ لأنها تشعر بأن تلك «التضحيات» تجسد «سلطتها» الشرعية؛ أي القوى الإيجابية المولدة للقدرة والسلطة والإلهام والطاقة، وهي ذاتها تلك القوى التي تعزِّز بنية المجتمع أو تدعم بقاءه. لذا، يمكن أن يُشكل «حذف» أحد أفراد المجتمع بقَتْلِه نفسَه «إضافة» لازدهار ذلك المجتمع؛ لأن الموت الذي يُنظر إليه على أنه «تضحية» يمكن أن يضفي شرعية، أو يلهم أو يحفز أو — الأخطر — يضع على الآخرين التزامًا ببذل المزيد من الجهود في سبيل ازدهار ذلك المجتمع.

في إسرائيل/فلسطين، يؤكد الكاتب الإسرائيلي أفيشاي مارجاليت فكرة هالبواك؛ إذ يشير مارجاليت إلى أنه بينما تُمثل السلطة القسرية دافعًا للانتحاريين — من خلال الثأر الذي تميزه الرغبة العارمة في «الانتقام الدرامي» — يدخل بعدٌ آخر في المعادلة، فأعمال التفجيرات الانتحارية تلك هي سلوكيات اجتماعية بالنسبة لهالبواك؛ إذ إن نجاحها يعتمد على الإقرار المجتمعي والتمجيد الشعائري اللاحق من قِبل المجتمع الذي ينتمي إليه الانتحاري. ويكتسب الانتحاريون مكانةً اجتماعية تصل بهم لدرجة معرفة الجميع لأسمائهم، وخاصة «الأطفال الصغار»، فالانتحاريون تربوا على عالم الأبطال الذي يسمو عن دونية الحياة اليومية؛ ليحققوا ما أشار إليه أسد ﺑ «الخلود العلماني» (أسد ٢٠٠٧، ٤٧، ٤٩). ومن هذا المنطلق الديني الأخلاقي السامي، فإنهم يلهمون ويحفزون المجتمع على الازدهار، ويقول غيره من متابعي التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط إن هذه التفجيرات تتم في سبيل الهدف المعلن؛ وهو «الإضافة» للكل الاجتماعي، أو بالتعبير الإسلامي: من أجل «إنقاذ الأمة الإسلامية بالكامل» (مارجاليت ٢٠٠٣، ٣٦–٣٩، ٣٨). وهنا تتنبأ نظرية هالبواك بأن المجتمع الفلسطيني «يزعم أن الفداء عمله الخاص»، وهو شيء ينبغي الاعتزاز به «تحت مظلة المجتمع»؛ وهو من ثم شيء يمنحه المجتمع الفلسطيني سلطة شرعية بما أنه «يتحمل مسئوليته». فأعمال قتل النفس على يد الانتحاريين في الشرق الأوسط — التي تُعد «تضحيات» بنظر مجتمعاتهم التي ينتمون إليها — يغمرها اقتناع بأنها «تضيف» فعلًا للازدهار الاجتماعي، حتى وإن كانت بالحسابات المادية «تحذف» أفرادًا من المجتمع. فرغم أن الفلسطينيين الذين يعتنقون موتهم «تحت مظلة المجتمع» ربما يشعرون بأنه «كارثة»، يمكننا أن نفهم لماذا يعتبرون ذلك الموت «انتصارًا» بسبب الحراك الذي يبثه في المجتمع (أسد ٢٠٠٧، ٤٩).

(٩) لكن هل يعتبر أيٌّ من المسلمين الانتحاريين «أضاحي» حقًّا؟

قبل أن أتعمق في قراءتي الدينية للتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، يتعين عليَّ أن أتناول باختصار نقدًا لأي قراءة دينية — وإسلامية بدرجة أقل — للتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. وعلينا هنا أن نعود لطلال أسد، الذي يدَّعي أنه لا يوجد من المعايير التي يستمدها المرء من «التعاليم الإسلامية» (والتي يستخلصها أسد على نحو عجيب) ما يبرر اعتبار الانتحاريين «أضاحي» (أسد ٢٠٠٧، ٤٣-٤٤).

لسوء حظ أسد، تقول الأصوات السلطوية المسلمة في عالم اليوم خلاف ذلك، فالكلمات الشائعة للفداء بين المسلمين في الشرق الأوسط هي «القربان» و«الأضحية». في الواقع، تُستخدم الكلمتان كمترادفين على يد المسلمين في الشرق الأوسط. وكلمة «أضحية» أكثر شيوعًا إلى حدٍّ ما من كلمة «قربان». ويعود أصل «أضحية» إلى كلمة «ضحَّى» التي تعني «بَذَل» و«قدَّم» وغير ذلك. إذن تحمل كلمة «أضحية» معنى تجسيد طاعة الله في صورة مادية ملموسة تراها عين الله. وفي سياق الحديث عن الانتحاريين بوصفهم «أضاحي» بالمعنى الذي يخص كلمة «أضحية»، يمكن تطبيق الكلمة على بذل النفس — تخلي الإنسان عن حياته — بجانب المفهوم الأكثر اعتدالًا للتضحية؛ وهو بذل الإنسان لماله على سبيل المثال. إذن من بين الزوايا التي ينظر بها الانتحاريون لأنفسهم هو اعتبار قتلهم لأنفسهم حالات «أضاحي». (علي ٢٠٠٨، ملاحظات شخصية).

إن كلمة «أضحية» تشير إلى الذبح ضمن شعائر الحج لإحياء ذكرى قصة إبراهيم وإسماعيل/إسحاق، وأيضًا إلى الذبيحة التي تُنحر احتفالًا بعيد الأضحى للذين لا يشاركون في الحج نفسه. وكلمة «أضحية» قريبة لها من كلمة «هدية». الهدف من هذه الجولة القصيرة لعلم أصول الكلمات العربية هو بيان كيف تربط شبكة دقيقة من الأفكار المترابطة بين الألفاظ العديدة ﻟ «الفداء» — أضحى وقربان وأضحية — وبين مفهوم «الهدية». وستتضح أهمية هذا الربط بين الهدية والفداء ونحن نختتم هذا الفصل، من خلال بيان كيف يعتبر الانتحاريون أنفسهم أضاحي وهدايا من منظور إسلامي. وبهذا القول أؤكد أن الفكرة الرئيسية لهذا الفصل هي أن التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط هي مزيج من السياسة والدين كليهما، بمعنى أنها تجسيد لكلٍّ من السلطتين القسرية والشرعية. وليس الرد على أسد بأكثر ضرورة من اقتباس بعض ما يرد حول التفجيرات الانتحارية في الإعلام المسلم.

ورغم أنني لن أتوغل مثل أسد كي أستخلص جوهر الإسلام، فثمة طريقة تقريبية جاهزة للحديث عن نوع من الإجماع بين المسلمين حول التضحية، وحول التضحية الإنسانية بالتأكيد. إن القصة التقليدية التي حاول فيها إبراهيم التضحية بإسماعيل/إسحاق موجودة بالفعل، وشاعت لمدة طويلة. ونتيجة لأن هذه القصة تستعصي على التأويلات اليسيرة أحادية المعنى كما سنرى، يصبح من المحير لماذا يبدي أسدٌ مثلًا كل تلك الثقة بعلمه بما تتضمنه تلك القصة عن التضحية. من بين الكلمات الشائعة للتضحية هي كلمة أضحى. وكلمة «أضحى» هي اسم العيد الكبير «عيد الأضحى»؛ احتفالًا بفداء إسماعيل مِن ذبحه على يد إبراهيم. لذا، يخاطب الشيخ ياسين — مؤسس حركة حماس — المسلمين قائلًا: «تذكروا أن عيدنا ليس عيد نصر، بل عيد أضحى» (ياسين). وهنا يشير ياسين بالطبع إلى عيد الأضحى الذي يُحتفل به في نهاية الحج.

ترشدنا إذن جذور المفاهيم الإسلامية عن الفداء باعتباره «الأضحى» إلى سياقات شعائرية مرتبطة بالنصوص المقدسة تتصل في النهاية بإبراهيم ومحاولته التضحية بإسماعيل/إسحاق. ومع وجود إبراهيم نموذجًا يقتدي به المسلمون في استعدادهم لبذل أنفسهم في سبيل الله، ويمارسون العطاء الخيري المنتظم المعروف باسم «الزكاة»، التي تُعد أحد الأركان الخمسة للإسلام، وكذلك ينظر المسلمون إلى التضحية المدنية بنفس نظرتهم للتضحية الشعائرية؛ فهم يفكرون في التضحيات المدنية الخاصة، كما في المعركة أو في الجهاد، بتفكيرهم في «الأضحى» أو ذبح إسماعيل/إسحاق؛ لذا يزعم بعض المفسرين أن كلًّا من الأب والابن يطيعان الأمر بذبح إسماعيل على محمل حرفي وجِدِّي:

قد يرى الناس أنفسهم أفرادًا منفصلين، وأنهم مستقلون، وأنهم لا يتحملون مسئولية أحد، وأن أحكام الشريعة لا تنطبق عليهم، ولا يأبهون بما تواجهه الأمة الإسلامية، فهم يقولون إن الإسلام لا ينبغي أن يُطبق على الأفراد إلا في بيوتهم، ولا ينبغي أن يتدخل في شئون الحياة.

هل كان إبراهيم يتبنى فكرة أنه مستقل؛ أنه «فرد» ليس عليه أن يتلقى أوامر من أحد؟ هل كان أنانيًّا؟ هل قدَّم إسماعيل مصلحته الخاصة على ما أمر به الله؟ هل عصى إبراهيم (عليه السلام) أمر الله بذبح ابنه على أساس أنه كان فردًا واحدًا، وأن ذلك كان ضد مصلحته؟ (مجهول ١٩٩٨).

ويؤكد مُفسر آخر على مكانة مثال التضحية في قصة إبراهيم وإسماعيل/إسحاق في النظرة إلى الجهاد، فواجب المسلمين هو فهم «دلالة العيد»:

هذه هي علامات إسماعيلنا؛ فلنبحث عنها في أنفسنا ونذبحها لنتقرب إلى الله — سبحانه وتعالى — لنُبعد السيف الحقيقي عن رقاب المسلمين المضطهدين من البوسنة إلى كشمير، من الصومال إلى فلسطين؛ لنثور على جبننا الذي طغى علينا. تذكروا أن عيدنا ليس عيد نصر، بل هو عيد أضحى (مجهول، دون تاريخ).

لكن التفكير في التضحية المدنية من منطلق قصة مستمدة من نص مقدس دائمًا ما يواجه مشكلات في التفسير. وليست قصة ذبح إبراهيم لإسماعيل/إسحاق باستثناء. وأكثر مَن يقترب من الروح المعتدلة للتفسير التقليدي لقصة إبراهيم أولئك الذين قد نسميهم الإنسانويين المسلمين المعاصرين. يسعى هؤلاء الإنسانويون المسلمون — ربما ردًّا على نظرة حماس وغيرها المتطرفة للتضحية — لإعادة التوازن بخصوص التضحية من أجل المجتمع في مقابل التبجيل العميق للحياة الإنسانية الفردية:

كيف يُبنى الحائط؟ كيف «تجتمع» اللبنات المفردة لتصير حائطًا صلبًا ومنيعًا؟ فكما يتكون الجدار من لبنات كثيرة، يجب أن تُبنى مجتمعاتنا على قوة أفرادها الذين أنت من بينهم …

عندما ننظر إلى الجدار من بعيد، قد لا يمكن تمييز لبناته نتيجة انتظامها، لكنها مثل البشر، لكلٍّ منهم خصوصيته الفردية، وليس على أي فرد أن يُضحي بذلك … (مجهول، دون تاريخ).

يؤكد الإنسانويون على احترامهم للفرد من خلال حيلة تفسيرية بارعة إن لم تكن ملتوية كما سنرى. وهنا يستندون إلى كلمات القرآن ليُبيِّنوا كيف أن النص ذاته يقدِّم حجة لكلٍّ من إبراهيم وربه لتفادي مسئولية الذبح المنتظر لإسماعيل؛ إذ تكمن الفكرة في الإشارة إلى أن القرآن ذكر حرفيًّا أن إبراهيم جاءته فكرة ذبح إسماعيل في المنام: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. وفي نظر الإنسانويين، يوفر هذا لإبراهيم «مخرجًا» بما أن الله لم يأمره بذبح إسماعيل في الواقع. فلم يكن هناك أي احتمال لأن تُفهم الرؤيا على أنها أمرٌ جاد وصريح. وبينما يصطحب إبراهيم إسماعيل إلى الجبل، يُنفى عن الله أنه أمر بذبح إسماعيل استنادًا لفكرة الرؤيا. «لم أفعل شيئًا كهذا أيها الكهل. لقد كان مجرد حلم!» وهذا يحمي الاعتقاد بأن الله يحفظ قدسية كل كائن حي، وإن ظللنا نتساءل عما دفع إبراهيم للتهيؤ للذبح، إلا أن تلك الحيلة تحقق هدف الإنسانويين المسلمين في إيجاد مخرج مما يبدو أمرًا مباشرًا بنحر إنسان.

ويتبنى مقال آخر بعنوان لا لبس فيه: «الرب لم يأمر إبراهيم بذبح ابنه» نفس النهج، في مواجهة النظرة المتشددة كما يُتصور؛ لذا يشرح كاتبه قائلًا: «إن علماء المسلمين التقليديين طالما علَّموا المسلمين أن الرب أوحى لإبراهيم بأن يُضحي بابنه إسماعيل بذبحه بسكين. وهذا مخالف تمامًا لما يقوله القرآن.» ومن بين الحجج التي سيقت — اللافت أنها كلها مبنية على اقتباسات حرفية من القرآن — ما يلي:

لم يأمر القرآن إبراهيم قط بقتل ابنه أو التضحية به، بل يعلمنا القرآن أن إبراهيم رأى في منامه أنه يذبح ابنه، وصدَّق إبراهيم الرؤيا واعتقد أنها من الرب (لم يذكر القرآن أن الرؤيا كانت من الرب)، فاختيار الألفاظ في القرآن دقيق؛ إذ لم تُذكر كلمة مصادفة أو عبثًا، فكل كلمة وتعبير اختاره الرب عن قصد.

واستكمالًا لهذا الاستدلال، يقول نفس المقال إن عدم ذكر القرآن مسألة أن الرب كلَّف إبراهيم بمثل هذا التكليف يتماشى مع القول إن «الإسلام لم يدافع قط عن التضحية بالإنسان.» ولهذا السبب، «لم يكن الرب ليناقض نفسه، ويأمر إبراهيم بارتكاب ما حرَّمه حتى وإن كان ذلك اختبارًا.» وفي مزيد من الإنكار لما تتضمنه كلمات الذين يتهمون الإسلام بالقول إن إبراهيم أمره الله بأن يضحي بابنه إسماعيل/إسحاق، يخبرنا المقال بأن «الرب لم يذكر في أي موضع في القرآن أنه هو من أمر إبراهيم بذبح ابنه.» ويستكمل المقال معارضته لهذا الرأي بقوله: «لم يذكر الرب في أي موضع من القرآن أنه أنزل تلك الرؤيا على إبراهيم» (مجهول، دون تاريخ).

وفي ضوء رفض أسد لأن يرى أي وجود للدين في سياسة التفجيرات الانتحارية، نذكِّر القراء إذن بظهور الانحرافات القتالية المعاصرة عن قصة إبراهيم التقليدية، فأولئك المسلمون بالتحديد هم من يرعون التفجيرات الانتحارية، وذلك من خلال السلطة الشرعية المستمدة من النماذج والسوابق الدينية والنصوص المقدسة وغيرها؛ لذا صارت المنافسة على السلطة في الإسلام نفسه محتدمة، وتتطلب أقوى وسائل التأكيد عليها. يبين برايان تيرنر وفريدريك فولبي كيف تميل هذه التوترات في عالم السلطة الشرعية الإسلامية المتغير والتنافسي إلى أن تظهر في صورة أعمال عنف عامة، «لكن هذا الخطاب — وخاصة الخطاب حول الدين وسلطته الشرعية التي لا مفر منها على الحياة البشرية — لا يصدر من فراغ؛ ففي النهاية ينبغي إعادة تجسيد هذا الخطاب، واستعراض السلطة الشرعية على الساحة العامة (من خلال العنف باعتباره الطريقة الأكثر جلاءً).» وليس هذا لأن المسلمين أو الإسلام (بطبيعته التاريخية) يميل للعنف، بل لأن هياكل السلطة الشرعية الجامعة لم تعد تحتضن عددًا كافيًا من المسلمين لضمان التوازن ضمن نطاق شامل للأفكار والأفعال الإنسانية:

إن المنافسة على ادعاء الشرعية والسلطة تزيد من ادعاءات السيادة، فلإثبات إيماني في مقابل ادعاءاتك، يتعين عليَّ أن أزيد من حدة المواجهة، و… أن أبيِّن أن تفسيري للشريعة أكثر إقناعًا وأدق وأشمل (فولبي وتيرنر ٢٠٠٧، ١–١٩، ١١).

لذا، حتى إذا تهرب بعض هؤلاء الرعاة للتفجيرات الانتحارية من نموذج إبراهيم نتيجة للَّبس النصي في محاولة ذبح إسماعيل، فإن التراخيص الدينية لا تُترك، فهي تتغير فقط حسب المعايير الجديدة التي تضعها الجماعات المختلفة. و«ما نحصل عليه» في حالة وجود تفسيرات جديدة «ليس تخصيصًا صريحًا للمعرفة والسلطة الشرعية»، كما يزعم برايان إس تيرنر وفريدريك فولبي، «بل مضاعفة للسلطات الشرعية على النص المقدس ضمن ما يظل نظامًا جمعيًّا عالميًّا ثنائيًّا» (فولبي وتيرنر ٢٠٠٧، ١–١٩، ١٢)، ويكون لمثل هذه «المضاعفة» تأثيرٌ في قراءاتنا لقصة إبراهيم؛ لذا إن كان إبراهيم نموذجًا ملتبسًا ومحل خلاف، أو إن لم يكن مُتَّسقًا مع الحاجة الماسة للمطالبة بقدر كافٍ من السلطة الشرعية تمكِّن الفرد من فعل ما يريد، فهل من الممكن أن يفي بذلك الغرض الانتقال إلى دليل نقلي يضم النبي محمد؟ هل يمكن أن توفر النصوص المقدسة التي تتحدث عن النبي شرعية أقوى للتفجيرات الانتحارية؟

وسواء أكانت الاستعانة بمحمد توفِّر هذا النوع الأقوى من الشرعية أم لا، يؤمن المسلحون بأنه يمكن الاستعاضة بهياكل المرجعيات الجديدة عن تلك القديمة؛ فهي تُقدم النبي باعتباره القدوة الأولى للتضحية بالنفس والفداء اللذين يرتبطان بالجهاد. كما أشار العالم المسلم المقاتل مالك بن أنس في «أحاديث الجامع الصغير» الوارد في «قراءة في فقه الشهادة» إلى:

الحديث المعروف الذي تعهد فيه النبي بالموت في سبيل الله، وأن يعود إلى الحياة ثم يموت في سبيله من جديد. وهذا يعني أنه لم يكن هناك هدف في حياة النبي ذاتها أسمى من الموت في سبيل الله، وتكرار ذلك (إزرائيلي ٢٠٠٢، ٢٣–٤٠، ٤).

إذن تصير التضحية بالنفس جزءًا لا يتجزأ من المواقف التي يدخل فيها الجهاد، برغم معارضة أسد لوصف الانتحاريين بهذا الوصف. كما طُرح هذا النوع من الجهاد بذبح النفس باعتباره «السلوك المثالي لكل المسلمين الذين يسعون إلى القتال على أعلى مستويات المخاطرة» (إزرائيلي ٢٠٠٢، ٢٣–٤٠، ٤).

من هذه المناورات التفسيرية وحدها، يمكننا أن نخلُص إلى أن هناك مسلمين قد يكون من المنطقي أن نسميهم «جهاديين متشددين» وأمثالهم. وأيًّا يكن المصطلح الدقيق المستخدم في تسميتهم، يمثل هؤلاء المسلمون على الأقل «نموذجًا إسلاميًّا» يعتبر التفجيرات الانتحارية فداء؛ لذا برغم ما يريدنا أمثال أسد أن نؤمن به، هناك — على الأقل في الواجهة — مسلمون يؤمنون بالتفجيرات الانتحارية، وذبح النفس، ويدركون أفعالهم ويجيزونها عن وعي في إطار نهج معين في فهم الدين الإسلامي. وفي الوقت الذي يعرفون فيه موقعهم من الصراع مع الآخرين، لا يرون أنفسهم نتاجًا لتلك الظروف، بل يرون أنهم يجسدون السلطة القسرية للجهاد، والسلطة الشرعية للتضحية في سبيل نوع من الغاية الإيجابية، سواء أكانت الأمة أم كما سأبين بعد قليل الدولة القومية، أم «المجتمع المُتَصَوَّر» في فلسطين.

(١٠) التضحية تصنع السلطة الشرعية

أظن أنني أقنعت القراء بأنه فيما يخص الانتحاريين في الشرق الأوسط، «يقلل» بعض المفكرين بشدة من أهمية الدين كأسد وبيب، بينما «يبالغ» هيتشنز وهورويتز في الأهمية التي ينسبانها إليه. أما أنا فقلت إن جزءًا كبيرًا من «السلطة» في التفجيرات الانتحارية يأتي من انتسابها للدين، لكن ليس بالطريقة التي يراها أيٌّ من الفريقين، فالقضية هي معرفة كيف وأين يكون للدين صلة بالتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. وأقول إن الدين — بما في ذلك الإسلام — له دور في التفجيرات الانتحارية، لكن ذلك يكون في الغالب بسبب أن أديانًا كالإسلام وغيره تخلق عوالم اجتماعية من المعاني والعلاقات، والصلات العاطفية، والطبيعة الثقافية المميزة لدور كلٍّ من الجنسين؛ وهي باختصار عين الأشياء المكونة للهوية والسلطة الشرعية. يصف بروس لينكولن ببراعة حال تلك «السلطة الشرعية»:

في النهاية، أريد أن أشير إلى أن السلطة الشرعية المستطردة ليست كيانًا بذاتها، بل هي أثر … وأرى أن هذا الأثر هو نتيجة لحالة يجتمع فيها المتحدث المناسب، والخطاب والإلقاء المناسبان، والإخراج المناسب، والزمان والمكان المناسبان، والجمهور الذي تضع توقعاته التاريخية والثقافية معايير ما يُعتبر «مناسبًا» في كل هذه الجوانب (لينكولن ١٩٩٤، ١٠-١١).

ويكمن الجانب الديني للتفجيرات الانتحارية في مثل هذا المزيج «المناسب»، فهذه هي الصفات التي تُكسب الفعل سلطته الشرعية بوضعه في مكانة متميزة وسط المنظومة التي تحكم الفضاء الديني والاجتماعي والثقافي والعاطفي. وهنا لا تكمن «سلطة» الانتحاريين في العنف المدمر لهجماتهم؛ في السلطة القسرية لجهودهم العسكرية وحدها باعتبارهم جهاديين وحسب، بل تكمن في تحولهم إلى «أبطال»، حيث إن «سلطة» الانتحاريين في الشرق الأوسط تنبع من سلطتهم الشرعية الخاصة؛ حيث إن تضحياتهم يُنظر إليها من منظور إسلامي معين وإن كان متطرفًا. إن «السلطة» الدينية للتفجيرات الانتحارية — باعتبارها أعمالًا فدائية — تكمن في قدرتها على صناعة «الأبطال»؛ على إطلاق القوى المحركة التي تلهم الازدهار الاجتماعي، وتؤكد الهوية أو تصنعها، والتي ترسخ الطبيعة الثقافية المميزة لدور كلٍّ من الجنسين، وتتداخل في شبكات الاتصال العاطفي. ولا يزال للمعتقدات والعقائد وباقي مجموعة العناصر الإدراكية التي يُعرف بها الدين في العادة وجودٌ بدرجة ما. لكن — كما سأوضح — يوجد الكثير والكثير مما يساعدنا على الفهم النقدي للتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، ويتجاوز الإشارة إلى قائمة من العقائد التي يُظن أنها على حق. زدْ على ذلك أنني أثق الآن بأن القراء سيرون أن الدين يمكن أن يدخل في السياسة بعدة طرق يواريها عادة التركيز على المفاهيم التقليدية للدين التي تعتبره مجموعة من المعتقدات، أو أنه «جيد»، أو أنه منعزل عن المجال العام وعالم السياسة متألق في عالم «الروح» القائم بذاته. إن أعمال «التضحية» هي التي يظهر فيها معنى «الدين» الذي «استقصيته» على حقيقته.

(١١) كيف ولماذا تؤدي التضحية دورها؟

السلطة الشرعية للتقديس

هناك فرق بين الادعاء بأن التضحية في التفجيرات الانتحارية تجسيد مادي للسلطة الشرعية، وبين توضيح الكيفية والأسباب التي تجعل قتل النفس مؤثرًا بهذه الصورة. يوجد على الأقل سببان وراء تجسيد التفجيرات الانتحارية للسلطة الشرعية؛ سببان وراء قدرة الانتحاريين على أن «يضيفوا» للمجتمع في الوقت الذي «يحذفون» فيه أنفسهم حرفيًّا منه. ومن خلال الحديث عن «الإضافة عن طريق الحذف» أقول إن التضحية تُخلِّف آثارًا معينة على المجتمع؛ فهي تُجيز التصورات عن المجتمع المثالي، وتُحفز المجتمع على تحقيق الازدهار، وتلهمه مقاومة الفناء، وتنسج شبكات الالتزام التي تقوي لُحمة المجتمع، لكن كيف يتم مثل هذا العمل؟ أرى أن هناك آليتين لذلك: التقديس وتبادل الهدايا.

أولًا: التقديس. تُحدث التضحية sacrifice، أثرها لأن الانتحاريين ببذلهم لأنفسهم يصيرون مقدسين وسط مجتمعاتهم. ويحمل الأصل اللاتيني للكلمة، sacri-ficium، نفس الدلالة. والمعنى الذي تحمله الكلمة الإنجليزية sacrifice هو «يجعله مقدسًا». فمن الجوهري في هذا البذل أنه ليس بالطبع مجرد انتحار، وليس جزءًا من خطة نفعية للمبادلة، أو المقايضة، أو الحماية الجهادية للسلطة القسرية. فبذل الانتحاري لحياته يدخل في نطاق التصور السياسي الديني؛ إذ يُنظر للانتحاري على أنه يصعد إلى السماء ليستقبله الله (لورنس ٢٠٠٥). وكما تبين كلمات ريهام — الانتحارية المحتملة — فإن الانتحاري يرى أيضًا أنه بموته يهب حياته لمجتمع غير موجود، ومن ثم «مجتمع مُتَصَوَّر» بالمعنى الذي قصده بينيدكت أندرسون. تقول ريهام: «نعلم ما تحتاجه فلسطين منا» (أندرسون ١٩٩١، جوردان ٢٠٠٢)، فالانتحاريون — بوصفهم «مقدسين» — يرقون ككلِّ الأبطال إلى مكانة اجتماعية رفيعة؛ ومن ثم يجسدون مجموعة من القيم بالنسبة لمجتمعاتهم، فالمجتمع الذي ماتوا من أجله — للمفارقة — لم يُضَحِّ بهم إطلاقًا، بل يحفظهم أو «يحتضنهم» بتعبير هالبواك. وباعتبارهم مقدسين، يتحولون إلى رموز بارزة للقيم التي يقدرها المجتمع ويعتبرها قيمًا جوهرية؛ لأنهم كما يشير موريس جودليير ليسوا جزءًا من النظام الطبيعي للمبادلة والمقايضة النفعية (جودليير ١٩٩٩، ٣٢)، بل هم الأشخاص الذين يجب على المجتمع أن «يصونهم ويحفظهم ويزيدهم» (جودليير ١٩٩٩، ٣٥)، فالتضحية تؤدي دورها بالطريقة الأولى لأن القوى التي تتحرر بتجسيد المقدس ترشد الناس نحو قيم راسخة. ويسمو الانتحاريون في إسرائيل/فلسطين عن دنس الحالة البشرية التقليدية، فالذين يضحون بأنفسهم من أجل المجتمع يَسمون في أعينه إلى المرتبة الدينية المرموقة ﻟ «الشهيد». يشير رافائيل إزرائيلي إلى أن المقاطع المرئية السيئة السمعة التي يجري إنتاجها للتفجيرات يُقصد منها أن توفِّر التعليم والقدوة لمزيد من الانتحاريين؛ فهي تختلف اختلافًا كبيرًا عن الانتحار العادي الذي يتضمن يأسًا أو شفقة على الذات (إزرائيلي ١٩٩٧، ٩٦–١١٢، ١٠٥). ويبين ابن لادن في تمجيده لأحد الخاطفين في هجوم ١١ سبتمبر كيف يمتزج خطاب التضحية بالنفس وتخلي الفرد تمامًا عن حياته مع مفهوم الشهيد: «صفاء ظاهر وفداء باهر. نحسبه، والله حسيبه» (ابن لادن ٢٠٠١).
بالتبعية، فإن ما يتصل ﺑ «الضحية» المقدسة نفسها يصير مقدسًا هو الآخر؛ لذا فإن التضحية ذاتها لا تقدِّم الدين إلينا في صورة مجسدة وحسب، بل إن ترسيخ تلك التضحية ﻟ «قِسم» أو نطاق معين للتضحية يضيف إلى السمات المجسدة لها. فمكانة التضحية تصير في ذاتها مكانة مقدسة، مكانة تحرسها الحرمات وتخرج عن الفضاء التقليدي. وكما تشير كلمة sacrifice، في حين يُمثل الذبح هدية، فإنه يعني في ذات الوقت خلع صفة القداسة على شخص ما. كذلك من خلال التضحية في سبيل فلسطين، «يصنع» المرء وحده من الانتحاري رجلًا مقدسًا في نظر الفلسطينيين الوطنيين. وفي الوقت ذاته، تجعل التضحية هناك من فلسطين أرضًا «مقدسة»، بما أنها موضع حدث من شأنه أن يخلع قدسية على شخص ما عن طريق التضحية في سبيل فلسطين؛ ومن ثم يتم التأكيد على قدسية المكان بحدوده الوطنية من خلال تحويل أرضه إلى ساحة للتضحية؛ كما هو حال مركز التجارة العالمي الذي يُعتبر موقعه بصفة عامة موقعًا مقدسًا إن نظرنا إلى الذكرى الدائمة لبطولة رجال الإطفاء والشرطة الذين قضوا في أثناء انهيار البرجين. وفي هذا الصدد، فإن تحوُّل مركز التجارة العالمي وموقعه من موقع للتجارة دنيوي في جوهره إلى موقع مقدس للذكرى والحزن إنجاز فريد. لاحظْ كذلك أنه لم يرتبط أي من هذه القدسية بالبنتاجون الذي راحت فيه أرواح الكثيرين، لكن لم يُعلن عن أي أعمال تضحية من قِبل المنقذين أو لم تتم أصلًا. وربما من المصادفة أن هذه الانتفاضة الأخيرة تحمل اسم انتفاضة الأقصى، في إشارة إلى المسجد الموجود في الموقع الذي تبلغ مساحته ٦٦ أكرا؛ المعروف لدى المسلمين بالحرم الشريف، ولدى اليهود ﺑ «حار حابييت» أو جبل المعبد، وكلا المكانين يُعد منطقة مقدسة، وإن كانت محل نزاع. أضف إلى ذلك أن مركز التجارة العالمي كان بالتأكيد من أقل المباني المفضَّلة في مدينة نيويورك، فمقارنة باللمعان الزجاجي لمباني كرايسلر أو إمباير ستيت، فإن مركز التجارة العالمي كان لوحًا أسود مختالًا كبير الحجم يجسد القوة المطلقة في سماء مانهاتن. أما تخليد المبنى في الذاكرة والترحُّم عليه بوسائل مختلفة باعتباره تجسيدًا للآمال، والأحلام البشرية، فينافس قيامة لِعازر من القبر، أو تحول الماء إلى نبيذ في عرس قانا الجليل (سترينسكي ٢٠٠٢، الموقع الإلكتروني).

وسواء كانت هذه الانتفاضة ادعاءً أم لا، فهي على الأقل في أعين بعض الفلسطينيين — أو على الأقل لدى عدد ليس بقليل منهم — قد قامت ردًّا على استفزاز زيارة/تعدي شارون على الحرم الشريف. يخبرني الرواة من إسرائيل أن الإسرائيليين يمحون فورًا أي دليل على أن مواقع التضحية/الهجمات الانتحارية الفلسطينية كانت كذلك يومًا ما، فهذه الأماكن تظل — كما كانت — تذكارات سيئة؛ أماكن للنسيان العمدي، من خلال عودتها السريعة إلى استخداماتها الدنيوية المعتادة. قارن هذه الأماكن بنظيرتها غير المعروفة — وربما تتعذر معرفتها — التي خسر فيها اليهود حياتهم لصالح آخرين مثلما يتجسد في النصب التذكاري لانتفاضة حي اليهود في وارسو. فالحدث يُحتضن هناك بكل فخر، بجانب الحزن العميق بالطبع (مجهول، دون تاريخ). وقارن مرة أخرى الانتفاضة بالصعوبات التي تواجه الصورة المعاصرة لمعسكرات الموت. وبعد كل هذه السنوات الطويلة، لا تزال تلك المعسكرات بانتظار النظر إليها في إطار التصنيف المناسب الوارد هنا. فهل يُنظر إليها باعتبارها متاحف أم نصبًا تذكاريًّا (ولماذا بالضبط؟) أم مقابر؟ (فيبر ١٩٩٢) وإن كان هذا هو الحال لدى اليهود؛ ففي حال وجود دولة فلسطينية مستقبلًا، يمكننا أن نتصور أن أماكن التضحية/الهجمات الانتحارية ذاتها ستصبح معالم تذكارية تخلِّد الانتحاريين الذين قدَّموا تضحياتهم على ما سيصبح لدى الفلسطينيين أرضًا مقدسة.

أما فيما يتجاوز نطاق المجال المقدس الذي تصنعه التضحية، فإن الذين يمارسون هذه الشعيرة لهم نصيب في القدسية التي جاءت نتيجة للعمل الفدائي، فمقتنيات «الانتحاريين» الهزيلة تُجمَع وتحظى بقدسية باعتبارها «قطعًا أثرية». وتؤلَّف الأغاني عن الانتحاريين وعن أعمالهم، وتُغنى في الشوارع، وتصير صورهم «محل إعجاب أقرب إلى العبادة»، وتفوز عائلات الانتحاريين — في ظل عدوى القدسية — «بتقدير في أعين الجمهور»؛ إذ يُنظر لهم «بإجلال وإعجاب» (إزرائيلي ١٩٩٧، ٩٦–١١٢، ١٠٥-١٠٦).

(١٢) كيف ولماذا تؤدي التضحية دورها؟

لا هدايا دون مقابل

أما السبب الثاني وراء الأثر الذي تحدثه التضحية فهو أكثر تعقيدًا. لماذا — قبل كل شيء — ينفِّذ الانتحاريون هجماتهم ويضحون بأنفسهم، بل ويفعلون ذلك مع الإحساس بوجوبه؟ لقد أشرتُ بالفعل إلى أن التفجيرات الانتحارية باعتبارها تضحيات تكون لدى بعض المسلمين بمنزلة هدايا ذات طبيعة خاصة؛ هدايا تُقدم بالتخلي التام وليس بالعطاء المقيد. يقول مؤلف أكثر الكتب تأثيرًا عن الهدية، مارسيل ماوس، إن الهدية على وجه الإطلاق ليست بلا مقابل، رغم ميل الناس للتفكير في نزاهتها وعفويتها، فبرغم الكرم المطلق الذي يُظهره مقدمو الهدايا في العادة، فإن الهدايا تقترن دائمًا بالتزامات؛ التزامات بالعطاء وقبول الهدية ومبادلتها؛ إذ يسود نوع من الخداع المنتظم خلف حرية العطاء الظاهرة، وطبيعتها الفعلية المقيَّدة؛ ففي البداية، يشعر مقدِّم الهدية بالتزامه بالعطاء، كما يشهد أي فرد يقع عليه عبء هجمة الشراء في احتفالات أعياد الميلاد والتزاماته التي لا تنتهي. وبنظرة أبعد من الالتزام بالعطاء، نجد إضافة إلى ذلك الالتزام بتلقي الهدية أو قبولها. وكما تذكرنا أعباء التسوق وقت العطلات، يمكن للالتزام بقبول الهدية أو تلقيها أن يكون عبئًا ثقيلًا. وفوق هذين الالتزامين السابقين يأتي التزام ثالث، ربما أقوى منهما؛ وهو الالتزام بالمبادلة أي العطاء في المقابل.

لذا ومن منطلق الهدية، يشعر الانتحاريون بأنه يتعين عليهم أن يضحوا بأنفسهم؛ فهم يبذلون حياتهم نتيجة التزام؛ ومن ثم يمكن الربط بين مفهومي التضحية والهدية في التعاليم الإسلامية؛ ومن ثم يمكن تأويل محاولة التضحية بإسماعيل بأنها نوع من الهدية (علي ٢٠٠٨، تعليقات شخصية). إضافة إلى ذلك، تعتمد أشكال دعم المجتمع «للانتحاريين» على مجموعة متنوعة من النماذج الدينية المعيارية المحلية. كما يدعم علم اللاهوت الإسلامي فكرة أننا ندين بحياتنا لله، وأنه من الطبيعي من ثم التفكير في التضحية بها في سبيله، ففكرة أن الإنسان لا يملك نفسه، وأنه من ثم ملك لغيره — الله على وجه التحديد — لها جذور راسخة في الإسلام؛ لذا فالفرد بتضحيته بالنفس يقر بأنه ملك لله، وبذلك تصير التضحية مجرد رد الأمانة إلى الله، فهي ما يجب على الفرد أن يفعله؛ لذا يرِدُ في القرآن (سورة البقرة، الآية ١٥٦): إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. إذن فالتضحية ما هي إلا إعادة ما هو حق لله (علي ٢٠٠٨، ملاحظات شخصية). فالانتحاريون ببذلهم حياتهم إذن يُقرُّون بهذا الالتزام.

لكن بالنسبة لهؤلاء الانتحاريين — أو أي مسلم في هذا الصدد — من المستحيل أن يُفرض أي التزام على الله، فالله هو الله على كل حال، ولا يجوز إلزامه بما تريده المخلوقات؛ لهذا نسمع باستمرار في عبارات الثناء على الانتحاريين على لسان أسامة بن لادن مثلًا توسلات بقبول الانتحاريين في رحمة الله، يقول أسامة بن لادن: «فهؤلاء جاهدوا الكفر الأكبر بأيديهم وأنفسهم، نرجو الله أن يتقبلهم في الشهداء» (لورنس ٢٠٠٥، ١٥٥). يمكن للمرء أن يتساءل مَن الشخص أو ما الشيء الذي يمكن أن يُفرض عليه التزام عن طريق تضحية انتحاري بحياته.

والإجابة عن هذا التساؤل هي أن الانتحاريين يسعون إلى تحميل المجتمع كله بالتزام، بل هو التزام مزدوج! فهم يسعون إلى جعل المجتمع يشعر بأن عليه قبول هديتهم، والأهم أن عليه ردَّ هدية موتهم البطولي بطريقة ما مناسبة. فالتضحية تُحدث أثرها بالوجه الثاني إذن؛ لأن الناس عليهم عبء التصرُّف بطرق معينة نتيجة لوضعهم ضمن شبكة متكاملة من الالتزام المشترك. مرة أخرى، تخبرنا محاورة ساندرا جوردان عام ٢٠٠٢ مع المرأة الفلسطينية والانتحارية المحتملة ريهام بالكثير في هذا الصدد (جوردان ٢٠٠٢)؛ إذ تبين ساندرا جوردان في محاورتها بعنوان «نساء يَمُتْنَ في سبيل الله» كيف تستخدم ريهام لغة دينية سياسية مُركَّبة تجمع بين الجهاد والفداء والشهادة. إلا أن ما أريد التركيز عليه هو نبرة الالتزام الثابتة طوال الحديث، فريهام تذكر صراحة أن التضحية بحياتها باعتبارها انتحارية هي هدية، لكن من اللافت أنها تُقدَّم في ضوء التزام وتُقدَّم لفلسطين. كما أن ريهام على استعداد تام لأن تُقدِّم لفلسطين ما «تحتاجه» قائلة بكل وضوح إن «كل فرد عليه أن يختار التضحية حتى نستعيد حقوقنا.» إذن فمفهومها عن التضحية بصفتها هدية مُفعم بإحساس بالالتزام، كما تبين كلمات «عليه» و«تحتاجه» التي ذكرتها، لكن هناك شيئًا آخر في كلمات ريهام، فهي تصف القتال في سبيل فلسطين — بصفتها انتحارية — بأنه الشيء الذي أرادت دائمًا أن تفعله؛ ففلسطين عندها قيمة لامعة؛ إلهامٌ يجذبها «إلى الأمام» نحو العمل؛ بقدر ما هو إحساس بالالتزام يدفعها «من الخلف» أيضًا. وحتى إن كان الشيء الذي يُسمى «فلسطين» غير موجود إلا في الخيال، فهذا الواقع المثالي يدفعها نحو العمل المكرس؛ تقول ريهام: «نعلم ما تحتاجه فلسطين منا.»

(١٣) ملاحظات ختامية

قصدتُ من مثال التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط أن يكون بمثابة طريقة لسبر أغوار مفاهيم الدين والسلطة والسياسة التي استقصيناها لنرى إلى أين قد تصل بنا. وفي هذا الإطار، أشرتُ إلى أن «الانتحاريين» في الشرق الأوسط رغم أنهم «يَبدون» نماذج للسلطة القسرية، لا يمكن أن «يُنظر» إليهم باعتبارهم تجسيدًا ﻟ «سلطة» سياسية مستقلة مُتصورة، بل في الوقت الذي «يبدون» فيه مجرد نماذج سياسية لقوة السلطة القسرية، فإن التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط تفرض كذلك علينا أن «نراها» عملًا «دينيًّا»؛ أي باعتبارها في أغلب الأحيان أدوات معلنة لسلطة شرعية سامية ومطلقة. بجانب كون التفجيرات الانتحارية من الجهاد — وهو ما له قصة دينية خاصة — ينبغي أن «تُرى» باعتبارها نماذج لسلطة شرعية تضرب بجذورها في تعاليم دينية لها تاريخ طويل، وإن كان محل نزاع؛ فلكي نوفِّي تلك التفجيرات الانتحارية قَدْرها يجب أن ننظر إليها باعتبارها تضحيات شعائرية، وباعتبارها أنواعًا خاصة من الممارسات الشاملة التي تجسد رؤية محددة. ومن هذا المنطلق، فإن تلك التفجيرات ليست مجرد أعمال «سياسية»، ولا هي مستقلة عن «الدين» من عدة نواحٍ. ولا يفرض طابعها الديني أن تعلن استقلاليتها عن «السلطة» و«السياسة»؛ فهذه الأفعال تصنع أبطالًا قديسين قتلة تُبجِّلهم مجتمعاتهم وتقدِّسهم الذاكرة، فهم يضفون القداسة على منطقة معينة باعتبارها ساحة للتضحية، ويوظفون سلطتهم الشرعية الخاصة ويربطونها بالدين بمعناه اليومي، من خلال التعبير عن أنفسهم بعبارات التقاليد الإسلامية وعقيدتها الراسخة، وإن كانت محل خلاف. إن التفجيرات الانتحارية تلك رغم أنها قد تُنفَّذ باعتبارها من الناحية النظرية أفعالًا للسلطة القسرية مستقلة تمامًا فهي ليست كذلك في واقع الأمر؛ ففي الوقت الذي قد لا تتعدى فيه السلطة الشرعية التي تمثلها تلك الأعمال فرض الطاعة والاحترام سياسيًّا، فإن سلطتها الشرعية تتجاوز هذا الحد وتصل للالتزام المطلق والقدسية؛ ففي ظل إخلاص محضٍ لا يمكن التشكيك فيه، لا تقتصر تلك الأفعال على المطالبة بالتفويض الديني — السلطة الشرعية — بل إنها بكينونتها تصنع سلطتها الشرعية الدينية السياسية الخاصة بها كذلك.

تصنع التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط مثل هذه السلطة الشرعية الدينية من خلال إرادة أفرادها، ومن خلال اعتراف المجتمع بأنها أشكال خاصة من الهدايا الفدائية، فهي بكونها هدايا فدائية تضع المجتمع كله والانتحاريين أنفسهم في شبكة من روابط الالتزام المطلق. وتصطبغ هذه الشبكات بصبغة دينية في استحضار المقدسات وإظهارها بقدْر ما ترتبط بمفاهيم سياسية كلاسيكية مثل السيادة وصفة الدولة، فالقدسية والسيادة عند الانتحاريين — كما رأينا في فلسطين — مرتبطتان برباط لا انفصام له. «فالانتصار»، وكذلك تحقيق «الأبدية العلمانية»، التي يتحدث عنها أسد، لا يتحققان إذن إلا بوجود أرض لها وجود محسوس، و«مجتمع مُتخيل» يسعى لنيل صفة الدولة (أسد ٢٠٠٧، ٤٧، ٤٩). لا يمكننا أن نتجاهل هنا ملاحظة العنصر الديني الذي تُضيفه التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط إلى الشئون الإنسانية، ليس باعتباره عقيدة غير دموية أو بصفته مجموعة من المعتقدات، بل باعتباره فعلًا متصلًا عاطفيًّا ومنقوشًا على الجسد يصنع ويُجسد السلطة الشرعية الدينية، حتى وإن حاولت ممارسة السلطة السياسية.

الدين هنا إذن يتفاعل مع السلطة، وهما يرتبطان بجهد مشترك لتنفيذ سياسة ما. وهذه ليست سياسة الحياة اليومية المتعلقة بأنظمة فوكو الخاصة بالعلاقات الشخصية أو الهيمنة غير الحكومية. أيضًا هذه ليست السياسة الموجودة في «كل مكان»، بل السياسة التي تتكتل حول المجتمعات والأنظمة السياسية الإنسانية، كما أن هذه ليست سياسة بالمعنى الحقيقي تنمُّ عن كيان سياسي — دولة — أو على الأقل تَعِدُ بقيام ذلك الكيان. لكن فيما يتصل بهذه «الدولة»، لا يوجد أي ادعاء لأي نوع من «الفصل بين الكنيسة والدولة»، ولا توجد أي مزاعم بوجود سياسة مستقلة أو دين مستقل، بل في حالة التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط نجد واقعًا تجمع بينه وبين وضع الدين والسياسة في العصور الوسطى المسيحية جوانب تفوق تلك التي تجمع بينه وبين مفاهيمنا الواضحة المعاصرة عن الفصل بين الدين والسياسة؛ لذا من الأفضل أن نُنحي جانبًا ما نعتبره من المسلمات والبديهيات عن الدين والسياسة، ونكيِّف تصورنا مع الواقع الذي بين يدينا.

ومن خلال مواجهة تلك الحقائق، وضعتُ استراتيجية تهدف إلى تعريف «الدين» في الحالة التي دُرست في هذا الفصل. ومع أخذ حقائق الوضع في الحسبان، وجدت — أولًا — أنه من غير المعقول استيعاب التفجيرات الانتحارية من دون أي إشارة للإسلام، لكن بأي صورة كان للإسلام دور؟ بالتأكيد ليس بالصورة الحمقاء التي يراها المصابون بالإسلاموفوبيا في الإعلام وزمرتهم. لقد رأينا أن التعاليم الإسلامية لم تُجزِ التفجيرات الانتحارية بأي طريقة مباشرة؛ فالتفسير المجمع عليه لقصة ذبح إسماعيل على يد إبراهيم — مثلًا — لا يُعطي أي رُخصة للتفجيرات الانتحارية؛ فالنهي عن الانتحار في الإسلام يماثل عمليًّا النهي عنه في الأديان الإبراهيمية الأخرى. وعلى الجانب الآخر، لم أتمكن من أن «أرى» الانتحاريين في الشرق الأوسط بمعزل عن التعاليم الخاصة بالإسلام، فاستعمال العبارات الإدراكية والتفسيرية الإسلامية أكسبهم صبغة إسلامية.

وخلال استكشافي لما ذكره الراغبون في هذه الأعمال الانتحارية أنفسهم، ولما يؤمن به المجتمع من حولهم، وللبعد التاريخي لواقعهم، كان من الواضح أن دور «الدين» في التفجيرات الانتحارية لا يمكن أن «يُرى» في إطار تصورنا نحن في الغرب عن الدين؛ أي في إطار القوالب الفكرية الستة التي أوردتها في الفصل الثاني. وأيًّا كان تعريف «الدين» الذي تتضمنه هذه القوالب التقليدية الستة، فهو لا يمكن أن يصمد، فمفهوم «الدين» كان بحاجة لأن يُنقَّح ويُوسَّع ليشمل ما نراه اليوم في الشرق الأوسط، تمامًا كما كان الحال في عهد دوركايم مع «اكتشاف» الغرب المعاصر لبوذية تيرافادا. لقد فرضت التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط طريقة خاصة في استخلاص تعريف «للدين». وقد توصلت إلى أنه لا سبيل إلى إيجاد العناصر المفقودة في هذه الظاهرة أفضل من الاستعانة بمفهوم «للدين» وإن كان مُعدَّلًا. وإن كانت أعمال التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط لا يمكن أن «تُرى» باعتبارها مجرد أعمال مرتبطة ﺑ «السياسة» بمعناها التقليدي. وكل ما لاحظناه عنها أنها محاطة بالتضحية والتقديس والشهادة وخلافه، فلماذا إذن نتردد في وصف هذا الجانب المهمل من التفجيرات الانتحارية بأنه ديني؟ فلننتهك محرمات الوقار الزائف الذي بنيناه حول مفهوم «الدين» كي «نرى» الأمر على حقيقته؛ فالتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط في الحالات التي تناولناها كانت أعمالًا دينية؛ لأنها كانت ممارسة شعائرية للتضحية بالنفس، لا لأنها كانت قضية معتقدات. كما أن التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط كانت قضية دينية، ليس لأنها وظفت عقائد أو إعلانات مذهبية، ولا لأنها جعلت الانسحاب التأملي إلى مخبأ القلب الإنساني علامتها المميزة، فالتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط لم تكن عملًا دينيًّا لأنها «جيدة»، أو لأنها تجنبت استعراضات «السلطة». لقد كانت دينية لأنها كانت عرضًا عامًّا للتفاني والإخلاص، بغض النظر عن مدى بشاعته، بل وحتى «شرِّه»، فالصبغة الدينية للتفجيرات الانتحارية لدى كثير من المسلمين لا تعفيها من إدانتها بوصفها «شرًّا». كما أنه من غير الواضح إن كان الانتحاريون في عملهم الفدائي يُستغلون لأهداف سياسية، حتى وإن كان تقديم أنفسهم هدايا له تداعيات سياسية. فحتى القتل له أصوله، خاصة عندما «يُرى» عملًا للمقاومة والإيثار والتضحية.

كان سيسهل على أي أستاذ في الدراسات الدينية أن يغض الطرف ويرفض أن «يرى» دور الدين في التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. فعلى كل حال، لا يرغب الكثيرون أن يظن الناس أنهم كرسوا حياتهم لدراسة شيء مثل الدين «سمَّم كل شيء»، إن أخذنا كلمات كريستوفر هيتشنز على محمل الجد (هيتشنز ٢٠٠٧، ٣٤٤٥، ٢٧). لكن من خلال قراءة ما كتبه الآخرون ممن يلقون اللوم على الإسلام في كل شر، وممن لا يرون أي دور للإسلام في هذه الظاهرة، لا يسعني أن «أنظر» إلى التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط دون أن أقول إني «أرى» أشياء قد فاتت الآخرين، أو اختاروا هم أن يتجاهلوها، فعيناي تدرَّبتا لسنوات على دراسة أشياء مشكوك في قيمها الأخلاقية؛ كالعنف الديني، والانتحار، ومحارق اليهود، والعنصرية، والهَدْي، والتضحية، ومعاداة السامية، والشعائر والأساطير وغيرها في عالم الأديان. إنني على استعداد لتحمُّل عواقب تبني مقاربة معينة تجاه ظاهرة دينية بغيضة أخرى دون أن يصيبني التردد أمام حقيقة أنه من المنطقي جدًّا أن تُفهم تلك الظاهرة بوصفها ظاهرة «دينية»؛ لذا أعلن استراتيجياتي وأهدافي بصفتها عناصر تُكوِّن مقاربتي لتعريف شيء مثل الدين. ربما كان «الدين» له تعريف آخر تمامًا لو أنني عُدت إلى سريلانكا أتفقد مراكز التأمل الذهني. ولربما برزت أسئلة أخرى، ولربما ظهرت طرق أخرى لتقديم العنصر الديني على الحاجة لإضافة عنصر السلطة الشرعية السامية. لذا يسرني أن أُقر بأهدافي بقدر ما أفهمها، وسأترك للقراء أن يحكموا بما إذا كانت «رؤية» الدين في سياق التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، كما رأيتها أنا، قد أفادتهم أم لا، خاصة في المرة القادمة التي يخرج فيها المتظاهرون في طهران في مسيرات، أو في المرة القادمة التي يقود فيها مارتن لوثر كينج جديدٌ مسيرةً في إحدى المدن الأمريكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤