الفصل السادس

التعصُّب

اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ.

•••

لفظٌ شغل مناطق النَّاس خصوصًا في البلاد المشرقية، تلوكُهُ الألسنُ وترمي به الأفواهُ في المحافل والمجامع، حتى صار تكأة١ للمتكلمين، يلجأ إليه العَيِيُّ٢ في تهتهته،٣ والذملقاني٤ في تفيهقه،٥ أخذ هذا اللفظ بمواقع التعبير، فقلما تكون عبارةٌ إلا وهو فاتحُها أو حشوها أو خاتمها، يعدون مسماه علة لكل بلاء، ومنبعًا لكل عناء، ويزعمونه حجابًا كثيفًا وسدًّا بين المتصفين به وبين الفوز والنجاح، ويجعلونه عنوانًا على النقص وعلمًا للرذائل، والمتسربلون بسرابيل الإفرنج الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط لا يميزن بين حق وباطل، هم أحرصُ النَّاس على التشدُّق بهذا البدع الجديد، فتراهم في بيان مفاسد التعصب يهزون الرءوس ويعبثون باللحى ويبرمون السبال، وإذا رموا به شخصًا للحطِّ من شأنه أردفوه للتوضيح بلفظ أفرنجي «فناتيك»:٦ فإن عهدوا بشخص نوعًا من المخالفة لمشربهم عَدُّوهُ متعصبًا، وهمزوا به وغمزوا ولمزوا، وإذا رأوه عبسوا وبسروا، وشمخوا بأنوفهم كبرًا وولوه دبرًا، ونادوا عليه بالويل والثبور. ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ، وماذا اتصل بعقولهم من معناه حتى خالوه مبدأ لكل شناعة، ومصدرًا لكل نقيصة، وهل لهم وقوفٌ على شيء من حقيقته؟

التعصب قيام بالعصبية، والعصبية من المصادر النسبية، نسبة إلى العصبة، وهي قوم الرجل الذين يُعزِّزون قوته، ويدفعون عنه الضيم والعداء، فالتعصُّب وصفٌ للنفس الإنسانية، تصدر عنه نهضةٌ لحماية من يتصل بها والذود عن حقه، ووجوه الاتصال تابعةٌ لأحكام النَّفس في معلوماتها ومعارفها.

هذا الوصف هو الذي شكل الله به الشعوب، وأقام بناء الأمم، وهو عقد الربط في كل أمة، بل هو المزاج الصحيح يُوَحِّدُ المتفرق منها تحت اسمٍ واحد، أو ينشئها بتقدير الله خلقًا واحدًا، كبدن تَأَلَّفَ من أجزاء وعناصر، تدبره روحٌ واحدة، فتكون كشخص يمتاز في أطواره وشئونه وسعادته وشقائه عن سائر الأشخاص.

وهذه الوحدة هي مبعث المباراة بين أمة وأمة، وقبيلٍ وقبيل، ومباهاة كل من الأمتين المتقابلتين بما يتوفر لها من أسباب الرفاهة وهناء العيش، وما تجمعه قواها من وسائل العِزَّة والمنعة، وسُمُوِّ المقام ونفاذ الكلمة، والتنافس بين الأُمم كالتنافس بين الأشخاص، أعظمُ باعث على بلوغ أقصى درجات الكمال في جميع لوازم الحياة بقدر ما تسعه الطاقة.

التعصب روحٌ كلي مهبطه هيئة الأمة وصورتها، وسائر أرواح الأفراد حواسه ومشاعره، فإذا أَلَمَّ بأحد المشاعر ما لا يلائمه من أجنبيٍّ عنه انفعل الروح الكلي، وجاشتْ طبيعته لدفعه، فهو لهذا مثار الحمية العامة، ومسعر النعرة الجنسية، هذا هو الذي يرفع نفوس آحاد الأمة عن معاطاة الدنايا وارتكاب الخيانات فيما يعود على الأمة بضرر، أو يئول إلى سوء عاقبة، وإن استقامة الطباع ورسوخ الفضيلة في أمة تكون على حسب درجة التعصب فيها والالتحام بين آحادها، يكون كل منهم بمنزلة عضو سليم من بدن حي، لا يجد الرأس بارتفاعه غنًى عن القدم، ولا يرى القدمان في تطرُّفهما انحطاطًا في رتبة الوجود، وإنما كلٌّ يؤدي وظائفه لحفظ البدن وبقائه.

وكلما ضعفت قوة الربط بين أفراد الأمة بضعف التعصب فيهم؛ استرخت الأعصاب، ورثت الأطناب، ورقت الأوتار، وتداعى بناءُ الأُمَّة إلى الانحلال كما يتداعى بناءُ البنية البدنية إلى الفناء، بعد هذا يموتُ الروح الكليُّ، وتبطل هيئة الأمة وإن بقيت آحادها، فما هي إلا كالأجزاء المتناثرة، إما أن تتصل بأبدان أخرى — بحكم ضرورة الكون — وإما أن تبقى في قبضة الموت إلى أن ينفخ فيها روح النشأة الأخرى.

سنة الله في خلقه، إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل، وغفل بعضهم عن بعض، وأعقب الغفلة تَقطُّع في الروابط، وتبعه تقاطع وتدابر، فيتسع للأجانب والعناصر الغريبة مجالُ التداخُل فيهم، ولن تقوم لهم قائمةٌ من بعد حتى يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصُّب في نشأة ثانية.

نعم، إن التعصب وصف كسائر الأوصاف، له حد اعتدال وطرفا إفراط وتفريط، واعتداله هو الكمال الذي بيَّنا مزاياه، والتفريط فيه هو النقص الذي أشرنا لرزاياه، والإفراط فيه مذمة تبعث على الجور والاعتداء؛ فالمفرط في تعصبه يدافع عن الملتحم به بحق وبغير حق، ويرى عصبته منفردة باستحقاق الكرامة، وينظر إلى الأجنبي عنه كما ينظر إلى الهمل، لا يعترف به بحق، ولا يرعى له ذمة، فيخرج بذلك عن جادة العدل، فتنقلبُ منفعة التعصب إلى مضرة ويذهب بهاء الأمة، بل يتقوَّض مجدُها، فإن العدل قوام الاجتماع الإنساني، وبه حياةُ الأُمم، وكل قوة لا تخضع للعدل فمصيرُها إلى الزوال، وهذا الحد من الإفراط في التعصب هو الممقوتُ على لسان الشارع في قوله: «ليس منا من دعا إلى عصبية.»

التعصب كما يُطلق ويراد منه النعرة على الجنس، ومرجعها رابطة النسب والاجتماع في منبت واحد. كذلك توسع أهل العرف فيه، فأطلقوه على قيام الملتحمين بصلة الدين لمناصرة بعضهم بعضًا، والمتنطعون من مقلدة الإفرنج يخصون هذا النوع منه بالمقت، ويرمونه بالتعس، ولا نخال مذهبهم هذا مذهب العقل، فإن لُحمة يصير بها المتفرقون إلى وحدة تنبعث عنها قوة لدفع الغائلات وكسب الكمالات؛ لا يختلف شأنها إذا كان مرجعها الدين أو النسب، وقد كان من تقدير العزيز العليم وجود الرابطتين في أقوام مختلفة من البشر، وعن كل منهما صدرت في العالم آثار جليلة يفتخر بها الكون الإنساني، وليس يوجد عند العقل أدنى فرق بين مدافعة القريب عن قريبه ومعاونته على حاجات معيشته، وبين ما يصدر من ذلك عن المتلاحمين بصلة المعتقد ورابطة المشرب.

فتعصبُ المشتركين في الدين المتوافقِين في أُصول العقائد — بعضهم لبعض — إذا وقف عند الاعتدال ولم يدفع إلى جور في المعاملة، ولا انتهاك لحرمة المخالف لهم أو نقض لذمته؛ فهو فضيلة من أجَلِّ الفضائل الإنسانية، وأوفرها نفعًا وأجزلها فائدةً، بل هو أقدسُ رابطة وأعلاها، إذا استحكمت صعدت بذوي المكنة فيها إلى أوج السيادة وذروة المجد، خصوصًا إن كانوا من قبيلٍ قَوِيَ فيهم سلطانُ الدين، واشتدت سطوته على الأهواء الجنسية حتى أشرف بها على الزوال كما في أهل الديانة الإِسلامية — على ما أشرنا إليه في العدد الثاني من جريدتنا.

ولا يؤخَذ علينا في القول بأنه من أقدس الروابط؛ فإنه كما يطمس رسوم الاختلاف بين أشخاص وآحاد متعددة، ويصل ما بينهم في المقاصد والعزائم والأعمال، وكذلك يمحو أثر المنابذة والمنافرة بين القبائل والعشائر، بل الأجناس المتخالفة في المنابت واللغات والعادات، بل المتباعدة في الصور والأشكال، ويحول أهواءها المتضاربة إلى قصد واحد، وهو: تأصيلُ المجد وتأييدُ الشرف وتخليد الذكر تحت الاسم الجامع لهم، هذا الأثر الجليل عهد لقوة التعصب الديني، وشهد عليه التاريخ بعدما أرشد إليه العقل الصحيح، وما كانت رابطة الجنس لِتقوى على شيء منه.

ثغثغ جماعةٌ من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني، وزعموا أن حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم، وتضافرهم لدفع ما يلم بدينهم من غاشية الوهن والضعف، هو الذي يصدُّهم عن السير إلى كمال المدنية، ويحجبهم عن نُور العلم والمعرفة، ويرمي بهم في ظُلمات الجهل، ويحملهم على الجور والظلم والعدوان على مَن يُخالفهم في دينهم، ومن رأي أولئك المثغثغين أن لا سبيل لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبية الدينية ومحو أثرها، وتخليص العقول من سُلطة العقائد، وكثيرًا ما يرجفون بأهل الدين الإِسلامي، ويخوضون في نسبة مذامِّ التعصب إليهم.

كذب الخراصون، إن الدين أولُ معلم وأرشدُ أُستاذٍ وأَهْدَى قائدٍ للأنفُس إلى اكتساب العلوم والتوسُّع في المعارف، وأرحمُ مؤدِّب وأبصرُ مروِّض بطبع الأرواح على الآداب الحسنة والخلائقِ الكريمة، ويقيمها على جادة العدل، وينبِّه فيها حاسَّةَ الشفقة والرحمة، خصوصًا دين الإِسلام؛ فهو الذي رفع أُمَّة كانت من أعرق الأُمم في التوحُّش والقسوة والخشونة، وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة والمدنية في أقرب مدة، وهي الأمة العربية.

قد يطرأ على التعصب الديني من التغالي والإفراط مثل ما يعرض على التعصب الجنسي فيفضي إلى ظلم وجور، ربما يؤدي إلى قيام أهل الدين بإبادة مخالفيهم ومَحْق وجودهم، كما قامت الأُمم الغربية واندفعتْ على بلاد الشرق لمحض الفتك والإبادة لا للفتح ولا للدعوة إلى الدين في الحرب الهائلة المعروفة بحرب الصليب، وكما فعل الإسبانيوليون بمسلمي الأندلس، وكما وقع قبل هذا وذاك في بداية ما حصلت الشوكة للدين المسيحي، أن صاحب السلطان من المسيحيين جمع اليهود في القدس وأحرقهم، إلا أن هذا العارض لمخالفته لأُصول الدين قَلَّمَا تمتد له مدة، ثم يرجع أربابُ الدين إلى أُصوله القائمة على قواعد السلم والرحمة والعدل.

أما أهل الدين الإِسلامي فمنهم طوائف شَطَّتْ في تعصبها في الأجيال الماضية، إلا أنه لم يصل بهم الإفراطُ إلى حد يقصدون فيه الإبادة وإخلاءَ الأرض من مُخالفيهم في دينهم، وما عُهد ذلك في تاريخ المسلمين بعدما تجاوزوا حدود جزيرة العرب، ولنا الدليلُ الأقومُ على ما نقول، وهو وجودُ الملل المختلفة في ديارهم إلى الآن حافظةً لعقائدها وعوائدها من يوم تسلطوا عليها وهم في عنفوان القوة وهي في وهن الضعف، نعم كان للمسلمين ولعٌ بتوسيع الممالك وامتداد الفتوحات، وكانت لهم شدةٌ على مَن يعارضهم في سلطانهم، إلا أنهم كانوا — مع ذلك — يحفظون حُرمة الأديان، ويرعون حق الذمة، ويعرفون لمن يخضع لهم من المِلل المختلفةِ حقَّه، ويدفعون عنه غائلةَ العدوان، ومن العقائد الراسخة في نفوسهم: «أن من رضي بذمتنا فله ما لنا وعليه ما علينا» ولم يعدلوا في معاملتهم لغيرهم عن أمر الله في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، اللهم إلا ما لا تخلو عنه الطبائع البشرية.

ومن نشأة المسلمين إلى اليوم لم يدفعوا أحدًا من مخالفيهم عن التقدُّم إلى ما يستحقه من عُلُوِّ الرتبة وارتفاع المكانة، ولقد سما في دول المسلمين — على اختلافها — إلى المراتب العالية؛ كثيرٌ من أرباب الأديان المختلفة، وكان ذلك في شبيبتها وكمال قُوَّتها، ولم يزل الأمرُ على ما كان، وفي الظن أن الأمم الغربية لم تبلغ هذه الدَّرَجَة من العدل إلى اليوم «فسحقًا لقومٍ يظنون أن المسلمين بتعصُّبِهم يمنعون مخالفيهم من حقوقهم.»

لم يسلك المسلمون من عهد قريب مسلكَ الإلزام بدينهم والإجبارَ على قبوله مع شدة بأسهم في بدايات دولهم، وتغلغلهم في افتتاح الأقطار، واندفاع هِمَمِهِمْ للبسطة في الملك والسلطة، وإنما كانت لهم دعوةٌ يُبَلِّغونها، فإن قبلتْ وإلا استبدلوا بها رسمًا ماليًّا يقوم مقام الخراج عند غيرهم مع رعاية شروطٍ عادلةٍ تُعلم من كتب الفقه الإِسلامي، هذا على خلاف متنصِّرة الرومانيين واليونانيين أيام شوكتهم الأولى، فإنهم ما كانوا يطئون أرضًا إلا ويُلزمون أهلها بخلع أديانهم، والتطوُّق بدين أولئك المسلطين وهو الدين المسيحي؛ كما فعلوا في مصر وسورية، بل وفي البلاد الإفرنجية نفسها.

هذا فصلٌ من الكلام ساق إليه البيانُ وفيه تبصرةٌ لمن يتبصر، وتذكرةٌ لمن يتذكر، ثم أعود بك إلى سابق الحديث فيما كنا بصدده: هل لعاقل لم يصب برزيئة في عقله أن الاعتدال من التعصب الديني نقيصة؟ وهل يوجد فرق بينه وبين التعصب الجنسي إلا بما يكون به التعصب الديني أقدس وأطهر وأعمَّ فائدة؟ لا نخال عاقلًا يرتاب في صحة ما قررناه، فما لأولئك القوم يهذرون بما لا يدرون؟ أي أصل من أصول العقل يستندون إليه في المفاخَرة والمباهاة بالتعصب الجنسي فقط، واعتقاده فضيلة من أشرف الفضائل، ويعبرون عنه بمحبة الوطن، وأي قاعدة من قواعد العمران البشري في التهاون بالتعصب الديني المعتدل وحسبانه نقيصة يجب الترفع عنها؟

نعم، إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطةٍ بين المسلمين إنما في الرابطة الدينية، وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية، ولأولئك الإفرنج مطامع في ديار المسلمين وأوطانهم؛ فتوجهتْ عنايتُهم إلى بَثِّ هذه الأفكار الساقطة بين أرباب الديانة الإِسلامية، وزَيَّنُوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة وفصم حبالها، لينقضوا بذلك بناء المِلَّة الإِسلامية ويمزقوها شيعًا وأحزابًا؛ فإنهم علموا — كما علمنا وعلم العقلاء أجمعون — أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم، وتسنى للمفسدين نجاحٌ في بعض الأقطار الإِسلامية، وتبعهم بعض الغفل من المسلمين جهلًا وتقليدًا فساعدوهم على التنفير من العصبية الدينية بعدما فقدوها ولم يستبدلوا بها رابطة الجنس التي يبالغون في تعظيمها واحترامها حمقًا منهم وسفاهة، فمثلهم كمثل من هدم بيته قبل أن يهيئ لنفسه مسكنًا سواه فاضطر للإقامة بالعراء معرضًا لفواعل الجو وما تصول به على حياته.

من هذا ما سلك الإنجليزُ في الهند لَمَّا أحسوا بالعراء بخيال السلطنة يطوف على أفكار المسلمين منهم لقرب عهدها بهم، وفي دينهم ما يبعثهم على الحركة إلى استرداد ما سُلب منهم، وأرشدهم البحث في طبائع الملل إلى أن حياة المسلمين قائمةٌ على الوصلة الدينية، وما دام الاعتقاد المحمدي والعصبة الملية سائدة فيهم فلا تؤمن بعثتهم إلى طلب حقوقهم؛ فاستهووا طائفة ممن يتسمون بسمة الإِسلام، ويلبسون لباس المسلمين، وفي صدورهم غل ونفاق وفي قلوبهم زيغ وزندقة، وهم المعروفون في البلاد الهندية بالنيجرية أي الدَّهْريين، فاتخذهم الإنجليز أعوانًا لهم على فساد عقائد المسلمين، وتوهين علائق التعصب الديني، ليطفئوا بذلك نار حميتهم ويخمدوا ثائرة غيرتهم، ويبددوا جمعهم، ويمزقوا شملهم، وساعدوا تلك الطائفة على إنشاء مدرسة كبيرة في «عليكر» ونشر جريدة لبث هذه الأباطيل بين الهنديين حتى يعم الضعف في العقائد وترث أطناب الصلات بين المسلمين، فيستريح الإنجليز في التسلط عليهم، وتطمئن قلوبهم من جهتهم كما اطمأنتْ من جهة غيرهم، وغر أولئك الغفل المتزندقين أن رجال دولة بريطانيا يظهرون لهم رعاية صورية، ويدنونهم من بعض الوظائف الخسيسة — تعس من يبيع ملته بلقمة وذمته برذال العيش!

هذا أسلوب من السياسة الأوروبية أجادتْ الدول اختبارَه وجنتْ ثماره، فأخذت به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم، فكثيرٌ من تلك الدول نصبت الحبائل في البلاد العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإِسلامية، ولم تعدم صيدًا من الأمراء والمنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة، واستعملتْهم آلة في بلوغ مقاصدها من بلادهم، وليس عجبنا من الدَّهْريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإِسلام أن يميلوا مع هذه الأهواء الباطلة، ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين — مع بقائهم على عقائدهم وثباتهم في إيمانهم — يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني، ويهجرون في رمي المتعصبين بالخشونة، والبعد عن معدات المدنية الحاضرة، ولا يعلم أولئك المسلمون أنهم بهذا يشقون عصاهم، ويفسدون شأنهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو المِلَّة ودفعها إلى أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء.

والله ما عجبنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين من الأمم الإفرنجية الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين ولا يخجلون من تبشيع التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة، الإفرنج أشدُّ النَّاس في هذا النوع من التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدِّفَاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على نجاح أعمالهم، وإذا عَدَتْ عاديةٌ مما لا يخلو عنه الاجتماعُ البشري على واحدٍ ممن على دينهم ومذاهبهم في ناحية من نواحي الشرق سمعتَ صياحًا وعويلًا وهيعات ونياءات تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمةٌ، وحدثتْ حادثةٌ مهمة، فأجمعوا الأمر وخذوا الأهبة لتدارُك الواقعة والاحتياط من وقوع مثلها، حتى لا تنخدش الجامعة الدينية، وتراهم على اختلافهم في الأجناس وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقُّب كل دولة منهم لعثرة الأخرى حتى توقع بها السوء؛ يتقاربون ويتآلفون ويَتَّحِدُون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين وإن كان في أقصى قاصيةٍ من الأرض، ولو تَقَطَّعَتْ بينه وبينهم الأنسابُ الجنسية.

أما لو فاض طوفانُ الفتن وطَمَّ وجهَ الأرض وغمر البسيطةَ من دماء المخالفين لهم في الدين والمذهب، فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس، بل يتغافلون عنه ويذرونه وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده، ويذهلون عما أُودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والمرحمة الطبيعية، كَأَنَّما يعدون الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية، وليس من نوع الإنسان الذي يزعم الأوروبيون أنهم حُماته وأنصارُه، وليس هذا خاصًّا بالمتدينين منهم، بل الدَّهْريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم الديني، ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم، وليتهم يقفون عند الحق، ولكن كثيرًا ما تجاوزوه، أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب …!

يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية كجلادستون، ثم لا تجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب،٧ بل لا ترى روحه إلا نسخة من روحه (انظر إلى كتب جلادستون وخطبه السابقة).

فيا أيتها الأمة المرحومة، هذه حياتكم فاحفظوها، ودماؤكم فلا تُريقوها، وأرواحكم فلا تزهقوها، وسعادتكم بثمن فلا تبيعوها دون الموت، هذه هي روابطُكم الدينية فلا تغرنَّكم الوساوسُ ولا تستهوينكم الترهات، ولا تدهشكم زخارفُ الباطل، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم، واعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكمُ رابطة اجتمع فيها العربيُّ بالتركي، والفارسيُّ بالهندي، والمصري بالمغربي، وقامتْ لهم مقام الرابطة النسبية حتى إن الرجل منهم لَيأْلمُ لما يصيب أخاه من عاديات الدَّهْر وإن تناءت دياره، وتقاصت أقطاره.

هذه صلةٌ من أَمْتَنِ الصلات، ساقها الله إليكم، وفيها عزتكم ومنعتكم وسلطانكم وسيادتُكم فلا تُوهنوها، ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل؛ فالعدل أساسُ الكون وبه قِوامه، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم، وعليكم أن تتقوا الله وتلزموا أوامره في حفظ الذِّمَمِ، ومعرفة الحقوق لأربابها، وحسن المعاملة وإحكام الألفة في المنافع الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب الأديان المختلفة، فإن مصالحكم لا تقومُ إلا بمصالحهم، كما لا تقومُ مصالحهم إلا بمصالحكم، وعليكم أن لا تجعلوا عصبة الدين وسيلة للعدوان، وذريعة لانتهاك الحقوق؛ فإن دينكم ينهاكم عن ذلك ويوعدكم عليه بأشد العقاب، هذا ولا تجعلوا عصبيتكم قاصرةً على مجرد ميل بعضكم لبعض، بل تضافروا بها على مباراة الأُمم في القوة والمنعة والشوكة والسلطان، ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة والفضائل والكمالات الإنسانية.

اجعلوا عصبيتكم سبيلًا لتوحيد كلمتكم، واجتماع شملكم، وأخْذ كل منكم بيد أخيه ليرفعه من هُوة النقص إلى ذروة الكمال، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.

١  التكأة: ما يُتوكأ عليه.
٢  العيي: من العي وهو العجز عن الكلام.
٣  التهتهة: ضرب من اللكنة.
٤  الذملقاني: السريع الكلام.
٥  التفيهق: التوسُّع والتنطُّع.
٦  معناها: متعصب.
٧  هو داعية الحرب الصليبية وموقد نارها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤