الفصل الثالث

القاهرة والزمان

دينامية القاهرة في أزمان مختلفة

(١) التاريخ السكني والسياسي لإقليم القاهرة

توضح الخريطة (١-٢) أن منطقة القاهرة الكبرى كانت ملائمة للسكن البشري منذ عصور ما قبل التاريخ، ولكن هذه المستوطنات كانت تعتلي سطوح الهضاب، ولا يغشى الناس الوادي أسفلها إلا للصيد والسماكة، فلم تكن الزراعة معروفة بعد،١ وحين مارس السكان الزراعة في أشكالها الأولى في العصر النيوليتي (الحجري الحديث) فإن ذلك لم يحدث نقلة اقتصادية عمرانية مفاجئة، بل تدرج الناس في ممارستها جنبًا إلى الصيد الذي ألفوه لزمن طويل. وحين تعلم المصريون تقنية الزراعة بالتفاعل مع معطيات البيئة النهرية والممطرة معًا، كان الجفاف يزحف تدريجيًّا على مصر، مما اضطر الناس إلى التقدم بمستوطناتهم قريبًا من ماء النهر، تاركين سطوح الهضاب للجفاف والإجداب. وبدأ المصريون يتفاعلون بالتجربة مع هيدرولوجية النيل بين الفيضان والنقصان، وابتكروا نظام ريِّ الحياض الذي استمر على الأقل ستة آلاف سنة إلى أن قُضي عليه تدريجيًّا في قرن من نظام الريِّ الدائم بدايةً من القناطر الخيرية إلى السد العالي. ومع ري الحياض ثبتت أماكن القرى والمحلات السكنية المصرية آلاف السنين؛ وذلك لأن القرى يجب أن تقوم فوق منسوب الفيضان، واستمرار سكنها على مر الزمن جعلها تعلو كجزر صغيرة وسط أحواض الزراعة لتكوم البناء فوق أكوام البيوت الهالكة جيلًا بعد جيل، خاصة وأن مادة البناء كانت من اللبن وجالوص الطين مع التبن وهي مادة من البيئة وإليها ترجع، ومن ثم فإن غالبية أواسط القرى مرتفعة بصورة محسوسة عن أطرافها الأحدث، ولم ترتفع القرى كثيرًا عن محيطها من الأراضي التي كانت بدورها ترتفع بما يرسبه الفيضان من طمي؛ لهذا فإن القرى المصرية مجال ممتاز للبحث الأثري.
على أية حال فإن استمرار تقدم الزراعة والسكان المستقرين والغنى والثروة بأقدار مختلفة في نواحي الوادي والدلتا — أدى إلى نشأة نظام سياسي محلي، سرعان ما أصبح إقليميًّا بجهود أفراد ذوي قدرة تنظيمية أعلى إلى أن وصلنا إلى مصر المتحدة سياسيًّا من خلال مجهودات الملك نارمر أو مينا أول فرعون معروف لأول أسرة حاكمة لكل مصر، وكان ذلك نحو ٣٢٠٠ق.م. وقدر كارل بوتزر٢ أن سكان مصر في ذلك الوقت كانوا بين مائة ومائتي ألف، وقد يبدو هذا رقمًا شديد التواضع، لكنه في الحقيقة رقم كبير وضخم باعتبار شكل الظروف الحياتية الصعبة في هذا الزمن السحيق، والذي يهمنا من كل هذا أن عاصمة مصر الموحدة كانت في مدينة «منف» أو ممفيس كما عرفها الإغريق القدماء، ومن ثم فإن إقليم القاهرة الكبرى كان يضم أول عاصمة لمصر استمرت نحو ألف عام من الزمان.٣٤ ثم تجولت العاصمة شمالًا وجنوبًا في أنحاء مصر حسب مقتضيات الظروف السياسية والعسكرية والدينية لمدة نحو ٢٨٠٠ سنة، ثم عادت مرة أخرى ببناء الفسطاط في مصر الإسلامية منذ نحو ١٤ قرنًا من الزمان.
ولم تكن «منف» هي المدينة الوحيدة الضاربة في التاريخ في منطقة القاهرة؛ بل كان إلى الشمال منها مدينة «أون» الجامعة الدينية العلمية لمصر عدة آلاف من السنين،٥ والتي عرفها الإغريق باسم «هليوبوليس» أي مدينة الشمس؛ حيث ظل الإله رع-أتوم مسيطرًا على الفكر الديني باعتباره إله الشمس طوال الدولتين القديمة والوسطى، وكان كاهن أون الأكبر يسمى: «رئيس أسرار الشمس»؛ نظرًا لقوة العلوم الفلكية في هذه الجامعة التي استمرت في العطاء الديني والفكري والعلمي منذ ما قبل توحيد مصر السياسي إلى العصر البطلمي. وقد زارها المؤرخ الإغريقي الكبير هيرودوت في القرن الرابع قبل الميلاد، وأشاد بحكمة وعلوم هذه المدرسة،٦ وبذلك عاشت كمدينة علم ودين أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وقد ذكرها المقريزي وقص عنها ما يفيد أن كهنتها امتحنوا فيثاغورس الإغريقي امتحانًا دقيقًا قبل السماح له بالاطلاع على علومهم.٧
وأخيرًا كانت هناك في إقليم القاهرة مدينة ثالثة: «حر أون» التي حُرِّفت إلى حلوان في النصوص العربية؛ للتشابه مع حلوان الواقعة في العراق العباسي، وتعني «حر أون» في المصرية القديمة: «أون العليا»، وكانت عاصمة لإحدى الوحدات السياسية المصرية قبل توحيد مصر وإنشاء «منف» عاصمة لكل مصر، فطغت على أون العليا؛ لقربها الشديد منها عبر النيل.٨

والخلاصة أن منطقة القاهرة الكبرى الحالية ظلت باستمرار مكانًا متميزًا لنشأة مدن ذات شأن في حياة مصر منذ أقدم العصور، وهو أمر يؤكد مدى أهمية مجال العلاقات المكانية لإقليم القاهرة في التاريخ الطويل المجيد لمصر.

(٢) العواصم التوابع: الفسطاط والعسكر

وضع عمرو بن العاص نواة العاصمة المصرية على مقربة شديدة من حصن بابليون الذي كان مقرًّا للحكم الإداري الروماني داخل مصر، وخاضعًا للإسكندرية العاصمة السياسية الرومانية والعاصمة الثقافية للعالم المعروف آنذاك.

(٢-١) الفكر الإستراتيجي لعمر بن الخطاب، وموقع الفسطاط

الواقع أن عَمرًا كانت تراوده أفكار اتخاذ مدينة الإسكندرية — فخمة البناء — عاصمة للقوة الإسلامية في مصر. لكن كل الكتابات تشير إلى أن الخليفة عمر رفض — كخطة إستراتيجية — أن يفصل بين عواصم الولايات الإسلامية ومركز الخلافة أي عائق مائي؛ لهذا لم تتخذ مدائن كسرى أو الإسكندرية حواضر للعراق أو مصر، برغم أن العوائق المائية المشار إليها هي مجرد نهرَيْ الفرات والنيل، ولا شك في أن الخليفة عمر كان يخشى على العرب من البحر باعتبارهم أهل بر،٩ وأن هذه الخشية أدت إلى تأخر إنشاء البحرية العربية في مواجهة الرومان إلى فترة الخلافة الأموية، إلا أن عمر — بفكر تكتيكي ثاقب — كان يرى أن الإسكندرية مهددة بحرًا بالأسطول الروماني، وهو ما لم يكن للعرب أمامه حيلة في ذلك الوقت، وقد حدث ما توقعه مرات، ومن ذات المنطلق خاف عمر تجدد القوة الفارسية، ومن ثم كانت الكوفة والبصرة والفسطاط عواصم تقع على أطراف الصحراء الممتدة إلى الجزيرة العربية. على أي الحالات كان ما كان، واتخذ عمرو الفسطاط قاعدة إسلامية لمصر.

(٢-٢) مدلولات الفسطاط وبابليون

وقد ثار جدل مردوده قليل حول معنى كلمة «الفسطاط»؛ هل هي خيمة كاسم مطلق للخيم أم هي اسم خاص بخيمة القائد؟ وهل هي فارسية أو لاتينية؛ لأنها لم تكن واردة كاسم بديل للخيمة أو بيت الشَّعر المعروف لدى العرب؟ ويربط بعض المستشرقين بين الفسطاط وبين المصطلح اللاتيني Fossatum بمعنى مكان محصن أو قلعة أو معسكر حربي محصن، وربما كان ذلك أقرب إلى الصحة، فخيمة عمرو كانت وسط معسكر العرب أثناء حصار قلعة بابلون.
وكذلك يثير اسم «بابلون» أو بابليون موضوعًا للمناقشة، ولكن أغلب الكتاب يعيدون أصوله إلى فترة الحكم الفارسي القصيرة لمصر أثناء العصر الروماني، كاسم مستعار لبابل التاريخية فيما بين النهرين.١٠ ولذلك فقد ورد الاسم على أنه بابل المصرية، أو اختصارًا: بابلون.
وقد أسماه العرب «قصر الشمع» وهي تسمية ليست من فراغ. فكلمة قصر يطلقها العرب على البناء الكبير العالي أو مجموعة الأبنية المحصنة.١١ أما كلمة الشمع فهي تحريف للكلمة القبطية المصرية القديمة «شمي» أو «كمي»١٢ بمعنى الأرض السوداء؛ أي مصر ذات التربة السوداء تميزًا لها عن مصر الصحاري ذات التربة الحمراء والصفراء. فقصر الشمع إذن هو: «قصر مصر» أو «قلعة مصر».
لكن المقريزي يثير قضية أخرى بناء على ما ورد عند القضاعي من أن حصن «باب اليونه» أقامه الفرس على مرتفع الرصد — جبل الشرف عند المقريزي — وهو إلى الجنوب من قصر الشمع خارج الفسطاط، وأن الرومان حينما استعادوا مصر من الفرس أكملوا بناء الحصن، وصار معروفًا باسم: بابليون،١٣ وهو الذي فتحه عمرو بن العاص، ولا تزال بعض آثار هذا الحصن باقية على الرصد في منطقة كوم غراب الحالية أو منطقة إسطبل عنتر إلى الجنوب من كوم غراب (انظر خريطة ٣-١). أما قصر الشمع: فهو مجموعة الكنائس القبطية داخل الفسطاط الحالية، مسورة ومحصنة بأبراج بقاياها قائمة للآن، بنيت عليها كنائس، مثل: الكنيسة المعلقة ومار جرجس، وتؤيد الخريطة هذا الرأي، وهو ما نميل إليه؛ لأن الحصون غالبًا ما تقام على مرتفع من الأرض لتصبح أكثر منعة وأكثر إشرافًا على ما جاورها من الأرض، وعلى أية حال فهو موضوع جدير بالمزيد من الدرس.

كان النيل يحف بجدران حصن بابلون الغربية قبل أن يتراجع غربًا مسافة قدرها محمد رمزي بنصف

fig31
شكل ٣-١: منطقة الفسطاط – إسطبل عنتر في العشرينيات من القرن ٢٠.
كيلومتر،١٤ وذلك كجزء من تراجع نهر النيل غربًا خلال العصور الوسطى كما توضحه الخريطة (٣-٣)، وكذلك كان جامع عمرو على ضفة النيل شمال قصر الشمع. وقد بنى عمرو بيته إلى الشرق من الجامع، وتحلقت حوله بيوت وخطط القبائل والمجموعات غير العربية التي قدمت مع الجيش العربي بقيادة عمرو، أو التعزيزات الكبيرة التي أرسلها الخليفة عمر لمساندة جيش عمرو، وظلت المدينة تنمو وتزدهر قرنًا من الزمان (٦٤٣–٧٤٥م). قبل أن ينتقل الحكم إلى مدينة العسكر إلى الشمال قليلًا منها، ولكن ذلك لم يمنع استمرار نمو الفسطاط كعاصمة سكانية وقصبة تجارية لمصر حتى القرن الثاني عشر.

(٢-٣) كم كانت مساحة مدينة الفسطاط؟

قياسًا على اجتهادات الباحث الأثري علي بهجت لمدينة الفسطاط (١٩١٤) فإن المدينة كانت تمتد ٩٦٠ مترًا في محور غربي شرقي يبدأ من السور الغربي لجامع عمرو على ضفة النهر إلى سور صلاح الدين. بينما كان امتدادها نحو ١٣٠٠ متر على محور شمالي شرقي-جنوبي غربي (خريطة ٣-٢)، وحيث إنها كانت تتخذ شكلًا بيضاويًّا فإنه من الصعب تحديد المساحة، فإنه قد لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا: إنها كانت في حدود كيلومتر مربع واحد، وهي مساحة ذات قدر بالقياس إلى ذلك الزمان. والسؤال هو: هل هذه أبعاد المدينة إبان ازدهارها؟ أم هي أبعاد لما تبقى من آثار المدينة بعد النكبات التي مرت بها الفسطاط، وكان آخرها تعمُّد إحراقها بأمر «شاور»، وزير آخر الخلفاء الفاطميين؛ تجنبًا لسقوطها في أيدي الصليبين؟ والأرجح أنها لبقايا المدينة؛ فنحن نعرف أن المدينة — بما فيها قصر الشمع — أصبحت بعيدة عن النهر بعد أن غير النيل مجراه، وأن الأرض التي خلفها طرح النهر غربي جامع عمرو وقصر الشمع أصبحت مأهولة بالدور السكنية والأسواق في فترة سابقة على حريق الفسطاط.١٥
fig32
شكل ٣-٢: المخطط الأثري للفسطاط (محاولة الأثري علي بهجت لتحديد الفسطاط).
جامع عمرو كان غالبًا هو نقطة البدء في إنشاء مدينة الفسطاط، ثم صار مركز المدينة الديني والثقافي والسياسي مقابل المركز التجاري وميناء المدينة. في البداية كانت مساحة الجامع لا تتجاوز ٢٩ × ١٧ مترًا، وأرضه يغطيها الحصى، وكان سقفه منخفضًا مصنوعًا من الجريد، ومحمولًا على دعامات من جذوع النخيل، ولم يكن له صحن أو مئذنة أو محراب، وبعد ٤٠٠ سنة زاره الرحالة الفارسي ناصري خسرو، ووصفه بأنه قائم على ٤٠٠ عمود من الرخام، وكان جدار القبلة مكسوًّا بالرخام كتبت عليه آيات من القرآن، وفي ليالي المناسبات الدينية كان يغطى بطبقات من الحصر، ويقاد ٧٠٠ قنديل — الليالي العادية ١٠٠ قنديل — وكان مركز اجتماع أهل المدينة، ويتلقى فيه العلم مئات من الطلبة وكثير من الكتاب الذين يحررون الرسائل والصكوك.١٦

شتان بين البداية والتطور، وقد هدم الجامع وأعيد بناؤه عدة مرات، وزادت مساحته كل مرة حتى بلغت أبعاده ١١٢ × ١٢٠ مترًا في عهد الخليفة المأمون، وما تطور إليه هذا المسجد الجامع إنما هو مؤشر لحالة المدينة بين بدايات صغيرة إلى عاصمة حقيقية للحياة في مصر قرابة نيف وأربعة قرون.

(٢-٤) إعمار الفسطاط وخطتها

بدأ الإعمار بسيطًا ببيت عمرو شرقي الجامع، وبيت مجاور لابن عمرو، وقربهما بيت الزبير بن العوام، ثم خطة أو حي لأهل الراية — يبدو بمعنى القواد — جنوب الجامع، وحي لأبناء ساحل المهرة من جنوب الجزيرة العربية جنوب شرقي أهل الراية، وبالتالي كان إلى الشمال والشرق من قصر الشمع، ثم أبناء قبيلة — أو: تجمع — تُجيب شرقي قصر الشمع، وأخيرًا مجموعة «وعلان» جنوب القصر ومجموعة لخم شمال شرق الجامع في اتجاه ما نعرفه الآن بدير النحاس وفم الخليج، وإلى الشمال منهم مجموعات لُقِّبت بالحمراء، وهي غير عربية وبعضها من الفرس والبعض من سكان إقليم برقة في شرق ليبيا الحالية، والذين كان يغلب اللون المحمر على ملابسهم، ومنها غلب اسم الحمراء. وقد استقرت هذه المجموعات في الحمراء الوسطى والقصوى في خط متفرق بطول الخليج المصري فيما يعرف الآن بمنطقة السد وفم الخليج. كما سكنت مجموعات من هؤلاء أيضًا على البر الغربي للنيل في منطقة الجيزة.

وفي وقت ازدهار المدينة كان البناء مستمرًّا دون خطة واضحة، بل إنها ربما كانت في صورة خطتين؛ الأولى: شبه مستطيلة متبعة في ذلك ضفة النهر وأسوار قصر الشمع وجامع عمرو، ومخطط شوارعها أقرب إلى الاستقامة طولًا وعرضًا. والثانية: شبه مستديرة في القسم الشرقي مخطط دروبها شديد الالتواءات والانحناءات. وكان للدروب والحارات أسماء، نذكر منها على سبيل المثال: حارة التجيب ودرب السلسة وزقاق المهرة وزقاق بني العوام، وبعضها بأسماء طوائف أو السلع المميزة للسوق؛ كسويقة اليهود وسويقة العراقيين وزقاق البواقيل — ربما البقول — ودرب الزعفرانة. وحينما كثر السكان والثروة التجارية كانت هناك أسواق غالبها قريب من الميناء كالقطانين والسراجين والدقاقين والقفطانية والفطايريين وسوق الغنم وزقاق الرفائيين والمراوحيين والرزازين والوراقين. وذكر البكري قيساريات (= أسواق) أخرى، منها: قيساريات العسل والحبال والكباش وقيسارية عبد العزيز — ابن مروان — وهشام — ابن عبد الملك — ويباع فيهما البُر (= الحبوب).١٧
وكلها تشير إلى تنوع وازدهار كبيرين أدَّيَا إلى وصف كثير من الرحالة الفسطاطَ بأنها مدينة كبيرة موسرة. فالبيوت أصبحت مبنية بالطوب الأحمر، وأرضياتها من بلاطات الحجر الجيري وأنابيب فخارية لجري الماء داخل البيوت من خزانات تملأ بواسطة السقايين،١٨ وكانت مجاري مياه الصرف مبلطة أو منقورة في الصخر، ولكثرة السكان تطور المعمار من بيت الدور الواحد إلى بيوت متعددة الطوابق يسكنها عدد كبير من الناس ربما من ذوي القربى أو ممن يستأجرون المساكن في العمائر. ولعل هذا يقربنا من نمط شاع في القاهرة بعد ذلك باسم «الربع» — بفتح الراء وجمعها: أرباع — حيث يستأجر الناس قدر حاجتهم من غرف أو شقق في بناء كبير المساحة متعدد الطوابق، وربما نقلنا وصفًا للفسطاط من بعض المصادر العربية لمزيد من الإيضاح لأهمية المدينة.
كتب ابن حوقل في صورة الأرض (القرن العاشر): «… [مصر] مدينتها العظمى تسمى: الفسطاط، وهي على شمال النيل، وهي مدينة حسنة ينقسم لديها النيل قسمين، فَيُعَدَّي من الفسطاط إلى عدوة أولى … تعرف بالجزيرة، ويعبر إليها بجسر فيه نحو ثلاثين سفينة، ويعبر من هذه الجزيرة على جسر آخر إلى القسم الثاني … تعرف بالجيزة. والفسطاط مدينة كبيرة نحو ثلث بغداد، ومقدارها نحو فرسخ على غاية العمارة والخصب والطيبة واللذة، ذات رحاب في محالها وأسواق عظام ومتاجر فخام، وممالك جسام إلى ظاهر أنيق وهواء رقيق وبساتين نضرة ومتنزهات على مر الأيام خضرة … والدار تكون بها طبقات سبعًا وستًّا وخمس طبقات، وربما سكن في الدار المائتان من الناس.»١٩
ووصف ناصري خسرو القاهرة والفسطاط — بعد ثلاثة أرباع قرن من إنشاء القاهرة الفاطمية — فقال: «الفسطاط تظهر من بُعدٍ كالجبل، وفيها منازل من سبع طبقات فأكثر، وسبعة جوامع كبار، ولو وصفت ما فيها من آثار السعادة والثروة لكذبني الفرس … وأُخبِرتُ أن في القاهرة كما في مصر — يقصد: الفسطاط — عشرين ألف منزل ملك السلطان، وجميعها مؤجرة، والأجرة تقبض شهريًّا، والتأجير والإخلاء من غير جبر ولا إكراه.»٢٠
والخلاصة أن ما ذهب إليه ناصري خسرو من أعداد كبيرة لبعض مظاهر خدمات المدينة في كل من الفسطاط والقاهرة، كوجود ٥٢ ألف جمل عاملة في نقل قرب الماء للأهالي، وخمسين ألف حمار للإيجار لمن يريد الانتقال من مكان إلى آخر،٢١ إنما يدل على حجم سكاني ونشاط اقتصادي كبيرين، وذلك علمًا — مرة أخرى للتأكيد — أن ناصري مكث في القاهرة سنتين (١٠٤٧-١٠٤٨م) أي إنه عايش المدينة معايشة تامة، ولم يكن رحالًا تستحثه سرعة الحركة والانتقال. كما يجب ذكر أن فترة وجوده عاصرت المراحل الأولى من نمو مدينة القاهرة الفاطمية؛ إذ كان عمرها ثلاثة أرباع قرن، بينما كان عمر الفسطاط قد أربى على ثلاثة قرون، والغرض من هذه المداخلة أن الفسطاط كانت في زمن ناصري خسرو مدينة مكتملة النمو والسكان والنشاط الاقتصادي مقابل القاهرة حديثة النشأة تسودها الوظيفة السياسية، ذات مبانٍ وقصور وبساتين واسعة، يسكنها مجموعة محددة من السكان غالبهم يعملون في الإدارة والجيش، وكل هذا يشير إلى أن الأرقام التي أوردها ناصري خسرو كانت تنصب على الفسطاط بنسبة أكبر من تلك الخاصة بالقاهرة.
fig33
شكل ٣-٣: خريطة الفسطاط من القرن الثامن إلى الحادي عشر (بتعديل عن كليرجيه، شكل ٢-١٣).

(٢-٥) خط القرافة

برغم أن القرافة هي مدينة الأموات، وبذلك فهي عكس الإعمار، إلا أن قرافة الفسطاط، كانت إعمارًا لبطن من قبيلة المعافير تسمى: «قرافة»، لكنها فيما بعد أصبحت مقبرة لأهل الفسطاط تميزت بأنها نوع من التعمير له حيز كبير، وفي ذلك كتب ابن بطوطة: «… وهم يبنون بالقرافة القباب الحسنة، ويجعلون عليها الحيطان فتكون كالدور، ويبنون بها البيوت … ومنهم من يبني الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة، ويخرجون كل ليلة جمعة إلى المبيت بأولادهم ونسائهم.»٢٢ والحقيقة أن جبانات القاهرة مليئة بالجوامع والأبنية الدينية الكبيرة، مثل جوامع: السيدة نفيسة والإمام الشافعي والإمام الليثي وعمر بن الفارض وحوش الباشا — مدافن الأسرة العلوية — في جبانة القاهرة الجنوبية المعروفة الآن باسم الإمام، وجوامع وخانقاوات وأسبلة ومدارس سلاطين المماليك في الجبانة الشرقية، مثل: إينال وبرقوق وقايتباي ومدفن الخديو توفيق. فالقرافة إذن هي نوع من التعمير تمارس فيه عادات وطقوس تكاد أن تختص به القاهرة، وأصبح له مخططات تنظيم ومرافق وبنًى أساسية؛ لأن اتساع الجبانة الجنوبية — الإمام — قد ضمَّت قرى وعزب كالبساتين ومحمد فهمي وجبريل أبو صوان وأبو نافع، أو أصبحت محاصرة بالعمران الحديث بين الأزهر ومدينة نصر ومنشأة ناصر، كما هو حال الجبانة الشرقية.

(٢-٦) النيل والخليج والفسطاط

ولا شك في أن ما يزيد المفاضلة أن الفسطاط كانت الميناء الذي يجمع تجارات بلاد البحر المتوسط والدلتا والصعيد والسودان بواسطة النيل، ويجمع تجارة البحر الأحمر والبحر العربي بواسطة الخليج.٢٣ وفي ذلك ذكر ابن بطوطة (١٣٢٥م): «… أن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفًا للسلطان والرعية تمر صاعدة إلى الصعيد ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخير.»٢٤ مثل هذا النشاط التجاري عبر عنه ناصري خسرو أيضًا بازدحام ميناء الفسطاط، وامتداد طويلًا مع صف من الدكاكين والوكالات التجارية العاملة في تجارة الجملة، وكان هناك مكتب للجمارك؛ فالمستورد من السلع لا يدفع عنه إلا القليل؛ لأنه سبق معاملتها جمركيًّا في المواني، بينما تُفرض المكوس على السلع الواردة من ريف مصر وصعيدها وبخاصة الحبوب.

ولا شك في أن ميناء المقس كان منافسًا حقيقيًّا لميناء الفسطاط حينما زار ابن بطوطة القاهرة في عز ازدهار سلطنة المماليك.

وربما ترتب على حفر الخليج الناصري٢٥ زيادة جريان الماء في الخليج بصفة عامة قريبًا من العمران في القاهرة وضواحيها الشمالية والغربية؛ فإن عدد السقائين قد أصبح أقل عما كان عليه فترة زيارة ناصري خسرو للقاهرة الفاطمية، ولكننا لا نفهم سبب انكماش عدد حمير الركائب الأجرة إلا إذا كان القاهريون من الثراء بحيث أصبح للأسر الموسرة ركائب خاصة، وبالمناسبة فإن الخيول قد شاعت كوسيلة انتقال للفرسان المماليك، وربما ترتب على ذلك انتشار نمط عربة الكارو التي تجرها الخيول غير مميزة النسب أو الخيول كبيرة العمر كوسيلة لنقل البضائع بديلًا للجمال ونقل النساء بديلًا للحمير، ومن هنا كان الثراء الكبير الذي أثار دهشة الرحالة الذين زاروا القاهرة عربًا كانوا أو عجمًا أو أوروبيين.
صحيح أن الخليج كان يتأرجح بين العناية والإهمال المقصود، غير أنه منذ البداية العربية كان ضرورة حتمية لنقل الغذاء والمؤن من مصر إلى المدينة المنورة قاعدة الحكم العربي الأولى، وفي ذلك كتب الأثري علي بهجت:٢٦

أمر عمر — رضي الله عنه — عمرو بن العاص بحفره، فساقه من النيل إلى بحر القلزم فلم يأت عليه الحول حتى سارت عليه السفن، وحمل فيه ما أراد من الطعام إلى مكة والمدينة … فسُمي خليج أمير المؤمنين … وجاء في «المقريزي» أن السبب في حفر خليج القاهرة أن أهالي المدينة أصابهم جَهد شديد في خلافة عمر، فكتب إلى عمرو: أما بعد؛ فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك، أَنْ أَهلك أنا ومن معي. فكتب إليه عمرو: أما بعد؛ فيا لبيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بعيرًا أولها بالمدينة وآخرها بمصر عليه الطعام. بعد ذلك كتب إليه عمر أن احفر خليجًا من نيل مصر حتى يسيل في البحر؛ فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله على الظهر يبعد ولا نبلغ به ما نريد … تباطأ عمرو … [فتوعده عمر] فعرف عمرو أنه الجد من عمر — رضي الله عنه — ففعل.

الملاحظ من هذا النص عدة أمور تشهد بالحنكة السياسية للخليفة عمر بن الخطاب؛ أولها: المفاضلة بين النقل بالإبل والبحر، فالسفينة، على صغرها آنذاك، أكثر حمولة من عدد كبير من الإبل، كما أنها أسرع إذا صادفتها الرياح المساعدة. والأمر الثاني: رغبة الخليفة في إنشاء نظام اقتصادي داخل الدولة الجديدة يتم بمقتضاه انتقال الغذاء والأموال من الولايات المنتجة إلى مركز الحكم في المدينة المنورة والولايات المجدبة، ويرتبط بذلك تكرر حدوث المجاعة أو ما يشبهها في الحجاز، وأقرب العون هو من مصر، وقد ظلت مصر كذلك قرونًا طوالًا بالنسبة للحجاز.

(٢-٧) الفسطاط والبيئة

لم يكن كل من كتبوا عن الفسطاط من المادحين؛ بل كانت هناك بعض الملاحظات القادحة المليئة بالكثير من التحامل كما ذكر المقريزي. لكننا نرى أن جانبًا من إظهار مساوئ مدينة هو عمل موضوعي إذا لم يكن وراءه مقاصد شخصية، أو تحدوه رغبة انتقام لتصادف معاملة أو حادث سيئ.

ومن أحسن الكتابات الناقدة ما كتبه الطبيب ابن رضوان٢٧ عن مساوئ موقع الفسطاط. ويحتاج الأمر إلى ذكر شبه كامل للنص نقلًا عن «خطط» علي مبارك.

قال ابن رضوان: «… [الفسطاط الجبل] المقطم في شرقيها وبينها وبينه المقابر، … [و] الجبل في شرقيه يعوق ريح الصبا عنه، وأعظم أجزاء الفسطاط في غور، فإنه يعلوه من الشرق المقطم وكذا من الجنوب الشرقي، ومن الشمال المكان المعروف بالموقف والعسكر وجامع ابن طولون … المواضع المتسفلة أسخن من المواضع المرتفعة وأردأ هواءً لاحتقان البخار فيها … وأزقة الفسطاط وشوارعها ضيقة وأبنيتها عالية … ومن شأن أهل الفسطاط أن يرموا ما مات في دورهم من السنانير والكلاب ونحوها من الحيوانات التي تخالطهم في شوارعهم وأزقتهم، فتتعفن ويخالط عفونتها الهواء، ومن شأنهم أيضًا أن يرموا في النيل الذي يشربون منه فضول الحيوانات وجيفها، وتصب فيه خرارات كنفهم، وربما انقطع جري الماء فيشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء. وفي خلال الفسطاط مستوقدات عظيمة يصعد منها في الهواء دخان مفرط، وهي أيضًا كثيرة البخار؛ لسخونة أرضها حتى إنك تجد بها الهواء في أيام الصيف كدرًا … يعلوها في العشيات بخار كدر أسود لا سيما عند سكون الرياح.»

ولا شك في وجود جانب كبير من الصحة في كلام ابن رضوان. لكننا نرى أنه بالغ في تأثير كتلة جبل المقطم شرقي الفسطاط وجنوبها، ففي الجنوب كتلة تلِّيَّة منخفضة نسبيًّا تسمى الرصد قد لا تعلو إلى أكثر من ٤٠–٤٥ مترًا، وقد ذكرها المقريزي على أنها: «… شرف — بمعنى: جرف مشرف — يطل من غربيه على راشدة، ومن قبليه على بركة الحبش، فيحسبه من رآه من جهة راشدة جبلًا وهو من شرقيه سهل يتوصل إليه من القرافة بغير ارتقاء ولا صعود … وكان يقال له قديمًا: الجرف، ثم عرف بالرصد؛ [لأن ابن بدر الجمالي] أقام فوقه كرة لرصد الكواكب.»٢٨

ولعل وجود المدافن — القرافة — إلى الشرق من الفسطاط سبب في صدور بعض الروائح غير المحببة، والواضح أن ارتفاع مباني المدينة خمسة إلى سبعة طوابق مع وجود طرق وأزقة ضيقة ملتوية المسارات؛ سبب حقيقيٌّ في ركود الهواء أو قلة الريح، وهو سبب من صنع الإنسان في هذا المجال الضيق للمدينة، وبخاصة لكثرة المستوقدات التي ترسل دخانًا أسود بسبب نوع الوقود المستخدم، وغالبه حطب ونباتات. وبالإضافة إلى ذلك فإن تغير منسوب النيل بين الفيضان والنقصان يؤدي إلى تكوين مياهٍ آسنة في فترة التحاريق تجعلها موطنًا لأسراب كبيرة من الناموس والهاموش وغيرهما من الحشرات الطيارة والصراصير والجرذان … إلخ. ولهذا فإن الفسطاط كانت معرضة للأمراض المتوطنة، وللأوبئة التي يتكرر حدوثها، وتكثر ضحاياها، وتكثر معها هجرة الناس منها كما حدث حين تركها الوالي عبد العزيز بن مروان (٦٨٩م)، وسكن حلوان هربًا من الطاعون. وبذلك تتكون بيئة غير صحية تتضاعف بممارسات السكان في إلقاء المخلفات وماء الصرف في النهر الراكد. ولكن — للعلم — فإن النيل شأنه شأن أنهار كثيرة، ينظف نفسه سنويًّا بما يأتيه من مياه الفيضان سواء كان عاليًا أو عاديًّا، وبعبارة موجزة: فإن بيئة الفسطاط كانت سيئة باشتراك بعض عوامل طبيعية والكثير من العوامل البشرية. وعلى هذا فإن ملاحظات ابن رضوان في جملتها تجعله من أوائل أنصار البيئة بمفهومنا الحالي، وتجعلنا ننظر إليه من هذا المنظور المتميز. وقد أبدى عبد اللطيف البَغدادي ملاحظات مماثلة عن سوء موقع الفسطاط، وذلك أثناء عهد صلاح الدين الأيوبي؛ أي بعد فترة من كتابات ابن رضوان التي ربما كان البغدادي قد تأثر بها، فقد كانت الفسطاط في ذلك العهد بسبيلها إلى الفناء.

وبرغم هذه المضار البيئية، فإن ذلك لم يمنع من مظاهر الثراء والعز والنشاط الاقتصادي الواسع الذي كانت تنعم به مصر الفسطاط.

(٢-٨) العسكر

الأغلب أن كثافة السكن كانت سببًا في زحف عمران المدينة إلى المناطق الأعلى بعيدًا عن النهر، كما حدث في اختيار الولاة العباسيين الحمراء القصوى — ربما منطقة البغالة الحالية على حافة تلال زينهم — مكانًا لبناء عاصمة سياسية لهم باسم «العسكر» نحو سنة ٧٥٠ ميلادية، ولأن «العسكر» أزيلت بعد ذلك بالإهمال أو التعمد خلال أواخر العصر الفاطمي، فإنه لا يمكننا أن نتعرف على خطة هذه المدينة على وجه اليقين، وإن كان الأغلب أنها بنيت على مخطط شبكي على نحو ما نراه الآن في مخطط حي البغالة إلى الجنوب من مسجد السيدة زينب.

(٣) العواصم المستقلة: القطائع والقاهرة

(٣-١) القطائع

حينما استقل أحمد بن طولون بولاية مصر عن العباسيين اتجه إلى قلعة الكبش شمال شرقي العسكر وتحت السفوح في مكان القلعة الحالية؛ ليبني فيها مقرًّا لمدينته الجديدة، وكان ذلك بعد نحو قرن من تاريخ بناء العسكر.

وعلى أية حال فإن انتقال مدن الحكم لم يؤثر على الفسطاط؛ بل إن عمرانها امتد ليلتحم تدريجيًّا مع العسكر والقطائع، وربما كان هناك سور يلف بهم وأبراج دفاعية خاصة في موقع القاهرة الفاطمية حيث كان المكان يسمى: القلعة أو الطابية للدفاع عن المدينة الكبيرة من جهة الشمال.

ولأن القطائع كانت أول عاصمة مصرية مستقلة عن الخلافة العباسية، وغالب الضرائب٢٩ كانت تصرف فيها لتحسين أحوال الدولة الطولونية، فقد اتسمت القطائع بالثراء الفاحش المتمثل في قصر أحمد بن طولون، وبالذات قصر ابنه خمارويه، وضخامة جامعه الكبير الذي وصل إلينا تقريبًا على معماره القديم، وحفر قناطر — قناة — ابن طولون تجلب الماء من بركة الحبش إلى القطائع؛ حيث إن المدينة كانت تقع على مبعدة واضحة من النيل ومسار الخليج، ولأن القطائع كانت أيضًا على مناسيب أرضية مرتفعة — الكبش ويشكر — فلا بد أن نتصور أن مياه بركة الحبش كانت ترفع بوسائل ذلك العصر — غالبًا سَواقٍ — إلى تلك القناة.

ولا بد أن الثراء لم يقتصر على القطائع، بل امتد ليشمل بدرجات مختلفة سكان الفسطاط والعسكر، وزادت بذلك فنون العمارة، وفنون هيدروليكية المياه في صنع النوافير وري البساتين وصناعات الأخشاب، وفنون الحفر على الخشب والخزف والمنسوجات، وصناعة السلاح للجيش الطولوني الكبير، والمشغولات المعدنية، وصك العملات المعدنية، وصياغة الذهب والأحجار الكريمة التي هي دائمًا من متطلبات حياة الترف والثروة والازدهار. ومعظم هذه الصناعات كانت في الفسطاط والعسكر، وفي هذه الفترة أنشئ أول «مارستان» — مستشفى — بمصر الإسلامية على نحو ما كان في بغداد. وبطبيعة الحال تطور الطب والتمريض تطورًا حسنًا، واختصارًا كان الرخاء يعم مصر خلال الحم الطولوني القصير (٨٦٨–٩٠٥م).

وقد استمر الرخاء طوال عصر الإخشيد وكافور الذي زادت فيه البساتين، وبخاصة بستان الإخشيد الذي عرف فيما بعد باسم: كافور، الوصي على أبناء الإخشيد والحاكم الفعلي، وهو الذي كان يقع شرقي الخليج جنوب ما نعرفه الآن باسم باب الشعرية الحالية،٣٠ والذي ضم بعد ذلك إلى مجموعة القصور كبستان للقصر الغربي الصغير للخلفاء الفاطميين.

(٣-٢) القاهرة الفاطمية والمملوكية

ما سبق أن ذكرناه عن الفسطاط والعسكر والقطائع قد اندثر، ولم يبق من شواهد عليه سوى جملة آثار على رأسها الخليج وجامع عمرو وجامع ابن طولون، وحتى هذه الآثار نالت منها يد الزمن بين الدمار وإعادة البناء في عصور لاحقة. أما ما تزهو به القاهرة الآن كعاصمة مصرية إسلامية فإنما يعود أساسًا إلى بناة القاهرة من فاطميين وأيوبيين ومماليك.

والكتابات عن القاهرة خلال عصور الفاطميين والأيوبيين والمماليك كثيرة، ولا يسعنا إلا أن نحيل القارئ الراغب في الاستزادة إلى عشرات من هذه الكتابات ألفها عرب وفرس وترك، وعدد آخر من الأوروبيين في شتى فنون الكتابة في تاريخ حياة المدينة: تجارة واقتصاد وثراء بالغ، ومسح الأراضي الزراعية، وتحديد أنواع الضرائب والتعسف في جمعها واقتران الضرائب بوفاء فيضان النيل، وتاريخ ثورات الفلاحين على أشكال من الضرائب وطريقة جمعها، والفتن الطائفية، والتاريخ العسكري المصري في صد الصليبيين والمغول، أو تقلب ولاء العسكر من زنج وترك وأكراد ومغاربة وعرب وشركس بين سلطان وآخر يسعى للسلطنة، ومعارك المماليك فيما بينهم لأسباب اجتماعية وأحقاد شخصية … إلخ.

(٣-٣) بناة القاهرة

جوهر الصقلي

قائد الجيش الفاطمي الذي فتح مصر قادمًا من الغرب، وربما كان هذا هو الحدث الوحيد في تاريخ مصر أن يأتيها الغزو من الغرب. فكل الغزوات السابقة كانت عبر سيناء من الشرق، والقليل منها عبر البحر المتوسط وبخاصة الرومان.٣١
لم يكن اختيار جوهر لمكان العاصمة الجديدة لمصر الفاطمية من فراغ، وربما وجدنا أسبابًا عديدة عند تحليل أفضليات الاختيارات لمكان المدينة الجديدة. وبعض الاختيارات هي على النحو الآتي، عارفين من البداية أن أيًّا منها لم يكن وحده سببًا مباشرًا بل مجموعة من الأسباب مجتمعة شكَّلت دوافع اختيار أنسب المواقع بالنسبة إلى ظروف ذلك العصر في الحركة والاتصال والإستراتيجية والتحكم الإقليمي.
  • (١)

    الرغبة في ابتعاد العاصمة الجديدة عن زحمة الفسطاط.

  • (٢)

    أن يبعد العاصمة بمذهبها الشيعي عن غالبية أتباع المذهب السني في الفسطاط.

  • (٣)

    الوادي جنوب الفسطاط ضيق تكتنفه تلال من جبال طرة إلى الجيوشي والمقطم؛ مما يصعِّب الاتصال بالطريق المنفتح على الشمال، لكن لها ميزة الإشراف على النيل وضمان مصدر مياه مباشر. كما أنه إلى جنوب الفسطاط مباشرة كانت توجد بركة الحبش التي تمتلئ بالمياه على مسطح كبير إذا كان الفيضان عاليًا، وهو في حد ذاته مانع للحركة البرية من مثل هذا الموقع الجنوبي إلى الشمال فترة من السنة.

  • (٤)

    المنطقة شمالي القطائع كانت سهلًا رمليًّا بين مسار الخليج المصري وتلال نهايات المقطم والجبل الأحمر؛ مما يسهِّل بناء المدينة دون عناء.

  • (٥)

    وقد كانت هذه المنطقة معمورة بعض الشيء؛ ففيها دير العظام القديم — محله جامع الأقمر الفاطمي — وقلعة صغيرة أو حصن يحمي الطريق المؤدي من بلبيس والحوف الشرقي إلى القطائع والفسطاط، فضلًا عن وجود عدة بساتين عامرة أشهرها بستان كافور الذي سبق ذكره. ولا شك في أن وجود الخليج هنا كان عاملًا حاسمًا في أفضلية المكان باعتباره مصدرًا دائمًا للمياه.

  • (٦)

    وأخيرًا، لأن سابق انتقال العواصم من الفسطاط شمالًا إلى العسكر والقطائع كانت كأنها خطة مرسومة، أصبحت تقليدًا متبعًا في إنشاء عواصم جديدة في اتجاه الشمال، فاتبعها جوهر.

ولا ندري هل دارت كل هذه الأسباب في ذهن جوهر، أم أن بعض هذه الدوافع تحليل محض من تحليلات العلم الحديث لم تطف بمخيلة جوهر، إلا أن المؤكد أن الأسباب ١ و٢ و٥ و٦ كانت دوافع عند جوهر القائد عن أهمية مواقع المدن.

حين شرع جوهر في بناء المدينة (٩٦٩م)، بدأ بسور من اللبن أبعاده نحو ١٢٠٠ متر من الشمال للجنوب، ونحو ١٠٠٠–١١٠٠ متر من الشرق للغرب. وربما ما دعاه لذلك أن العواصم السابقة لم تكن مسورة، وبالتالي يصعب الدفاع عنها، وهذه هي عقلية القائد العسكري في العصور الوسطى. وسبب آخر: هو أن جوهر أراد أن تكون العاصمة قاصرة على الخلفاء الفاطميين وأتباعهم من المعاونين والجنود في عزلة عن السكان؛ أي أن تكون مقرًّا ملكيًّا للحكم، وقد يكون دليل ذلك أن القصر الشرقيَّ الذي اختطه جوهر كان يشغل مساحة تساوي عُشر مساحة المدينة، وحينما بُني القصر الغربي، وأُضيف إليه بستان كافور كانت المساحة الكلية للمنطقة الملكية نحو ثُلث المدينة، وكان باقي المدينة يشغله الجامع الأزهر وساحة العيد شمال شرقي القصر بينه وبين مبنى الوزارة — الذي بُني بعد عصر جوهر — وساحة قصر الشوك إلى الجنوب الشرقي بينه وبين الجامع الأزهر.

واختطَّ جوهر أحياء وحارات لسكن أبناء قبائل كتامة والبرقية وزويلة، وكلها تشير إلى مجموعات من شمال أفريقيا قدمت في جيش جوهر، ثم مع المعز لتصبح سندًا للدولة الجديدة.

figure
شكل : بنية القاهرة الفاطمية (عن كليرجيه شكل ٢-١٤).
وأقيم خُطان للجنود شمال سور القاهرة عرفا باسم الوزيرية والريحانية — بين السيارج الآن — ويبدو أن الفراغ من إنشاء المدينة كان بعد ثلاث سنوات من البدء فيها.٣٢
خطة القاهرة ارتكزت على القصر كمركزٍ، عكس الخطط السابقة التي كانت ترتكز على الجامع؛ ولهذا فإن الجامع الأزهر لم يكن يحتل الصدارة، بل كان في مكان أقرب إلى الجنوب الشرقي من المدينة. وقد أنشأ جوهر أبوابًا في كل أسوار المدينة، لكن أهمها كان بابي النصر والفتوح في السور الشمالي وبابي القوس وزويلة٣٣ على السور الجنوبي؛ لأنهما كانا يمثلان طرفي محور الحركة الرئيسي للمدينة: الشمالي إلى بلبيس والشام، والجنوبي إلى القطائع والفسطاط. وكان هذا الطريق المحوري — الشارع الأعظم، وهو الآن شارع المعز — يحف بالواجهة الغربية للقصر الشرقي حيث ساحة الجند. وأصبحت الساحة تعرف باسم: «بين القصرين» بعد أن أنشأ العزيز، الخليفة الفاطمي الثاني، القصر الغربي الصغير، وعلى هذا يمكن أن نتصور أن الخطة الأولى للقاهرة كانت شبكية معدلة بواسطة كتلة القصرين.

ولكي تكتمل المدينة الملكية أنشأ جوهر مقبرة الزعفران إلى الجنوب الغربي من القصر الشرقي، وفيها دُفن الخلفاء الفاطميون قبل أن يزيلها الأمير جهاركس الخليلي، ويبني محلها وكالته والخان ومجموعة أبنية تجارية باقية للآن باسم خان الخليلي، ونقل رفات الخلفاء إلى مقابر مجهولة في تلال البرقية — الدرَّاسة الشمالية.

لم يعمر المعز طويلًا في القاهرة؛ إذ تُوفيَ بعد وصوله بأربع سنوات. وفي فترة حكم خلفائه؛ العزيز (٩٧٦–٩٩٥)، والحاكم (٩٩٥–١٠١٩) بلغت القاهرة أوج عزها وثرائها. ومع هذا الثراء بدأ الوهن يدب في الدولة؛ نتيجة المجاعات والصراع بين القيادات المختلفة الأصول من مغاربية وتركية وسودانية وعربية، وبداية الوهن تعود إلى فترة حكم الخليفة الظاهر، واستشرت أيام الخليفة المستنصر (١٠٣٦–١١٠٢).

وفي أواخر الفترة الزاهرة زار القاهرة الرحالة الفارسي ناصري خسرو الذي أقام بها أكثر من عامين (١٠٤٧-١٠٤٨) وتشيع للفاطميين، ومن ثم يجب أن تُقرأ كتاباته على هذا الضوء. وقبل ناصري خسرو كانت رحلات وكتابات عدد من مشاهير الجغرافيين العرب، مثل: ابن حوقل الذي قيل عنه: إنه كان ميالًا للمذهب الفاطمي،٣٤ والمقدسي الذي زار القاهرة زمن العزيز بالله، وابن سليم الأسواني٣٥ الذي كان ضمن بعثة سياسية أرسلها جوهر إلى ملك النوبة (٩٧٥)؛ ومن ثم غلب عليه اسم الأسواني، وابن زولاق (توفي ٩٩٧) وله كتاب في الخطط، والمهلبي الذي ألف «المسالك والممالك» ولكن غلب عليه اسم «العزيزية»؛ ربما لأنه أهداه إلى الخليفة العزيز، وكتب القضاعي (توفي ١٠٦٢) كتابًا باسم «المختار في ذكر الخطط والآثار»، والبكري (توفي ١٠٩٤) «المسالك والممالك» الذي فرغ منه عام ١٠٦٤م.

الحاكم بأمر الله

كثر الكلام عن تدين الحاكم بأمر الله للدرجة التي خلع عليه بعض متشيعيه فيما بعد كثيرًا من الصفات الميتافيزيقية، وغير ذلك من أمور لسنا على قدر من العلم بشأنها. كذلك كثر الكلام عن إصداره أوامر غريبة كعدم أكل الملوخية، وتحديد حركة النساء، وكثرة خروجه ليلًا إلى أماكن مجهولة؛ مما دعا البعض إلى اتهامه بخلل عقلي، ولو صح ذلك ما قام بتجديد «دار العلم» تجاه جامع الأقمر، وإباحتها للناس، وتزويدها بالكتب والورق والحبر؛ لتسهيل النسخ لمن يريد. وأغلب الظن أن دعوى الجنون جاءت بتحريض للخلاص منه.

على أي الحالات، فالذي يهمنا هنا أن الحاكم كان من بناة القاهرة؛ ففي عهده توسعت المساكن شمال باب الفتوح إلى خط الحسينية بعد أن أكمل جامع الخطبة الكبير الذي بدأه العزيز، وسمي باسم الحاكم، وقيل في ذلك: إنه أراد محاكاة الجامع الأزهر، أو التفوق عليه؛ لضخامته الممتدة بين بابي النصر والفتوح، وأقام مخازن كثيرة للوقود والحطب شمال السور، فظن الناس أنه إنما يستعدُّ لحرق القاهرة. ولم يقتصر على اتجاهه شمالًا، بل اتجه إلى المقس غربًا، وأقام مسجدًا كبيرًا به — أولاد عنان الذي اعتنى به الرئيس السادات، وأعاد بناءه، وأصبحت مئذنته من أطول مآذن القاهرة — وجدد باب البحر في هذه المنطقة، واعتنى بدار صناعة السفن التي بدأها أبوه فصارت منافسة لسابقتها في الروضة. وكذلك فتح بابا في سور القاهرة الجنوبي؛ مما أدى بدوره إلى إنشاء خُط اليانسية والهلالية، وكان كل ذلك إيذانًا بالعمران شمال وشمال غرب القاهرة وجنوبها، وهي الاتجاهات التي تواصل عليها امتداد القاهرة في العصور اللاحقة منذ الأيوبي إلى العثماني. وفي الفسطاط بنى جامع راشدة وفي الروضة جامعًا آخر.

وإلى جانب ذلك ربما كان من أهم منجزات الحاكم: إقامة سد وأكوام من الأتربة والرمال ومخلفات البناء شرق سور القاهرة عند خُط البرقية؛ وذلك لحماية المدينة من السيول التي كانت تنحدر إليها من تلال الدراسة والجبل الأحمر في بعض السنوات فتغرق أجزاء من المدينة، وهي التلال التي كانت فوقها طواحين الهواء كما جاء في خريطة الحملة الفرنسية، ومحلها الآن بعض مباني الشرطة ومدينة البعوث الأزهرية ودار الإفتاء ومبني مشيخة الأزهر، بحذاء الجانب الغربي من طريق صلاح سالم. ولا شك في أن هذا السد الذي أقامه الحاكم قد أزاح عن القاهرة غوائل السيول، ولولاه لكان كثير من مباني القاهرة الأثرية قد زالت.

بدر الجمالي

عندما اضطربت الأمور وزادت الفتن بين طوائف الجند في عهد الخليفة المستنصر — وكانت مقدماتها قد بدأت في عهد الخليفة الظاهر في صورة الترف واللهو والتحاسد والأطماع — اضطر إلى الاستنجاد بأحد قواده لتهدئة الموقف وإعادة الأمن، وكان ذلك هو بدر الجمالي نائب الخليفة في عكا. نجح بدر الجمالي في مهمته بالقضاء على سلطة الترك والسودان والعربان.

وبدأ في فترة وزارة بدر الجمالي (١٠٧٤) ووزارة خلفه وابنه الأفضل شاهنشاه (١٠٩٤) عصر من تنمية القاهرة، ونظرًا لأن سور جوهر قد فقد معناه بعد نمو المدينة خارجه، فقد بنى بدر الجمالي سورًا حجريًّا للقاهرة يضم الأحياء المستجدة، وسميت الأجزاء الجديدة: «بين السورين»٣٦ وبطبيعة الحال أعاد بناء أبواب القاهرة على الشكل الذي نعرفه الآن. كما بنى مسجد الجيوشي بالمقطم، ونتيجة لجهوده أطلق اسمه على حي الجمالية الحالي، وكانت الفسطاط قد تعرضت لمجاعة وأوبئة سميت بالشدة العظمى، واستمرت نحو سبع سنوات، فهجرها معظم السكان في اتجاه القاهرة. حاول بدر الجمالي إعادة توطين الناس فشجعهم على إعادة البناء مستخدمين في ذلك أحجار البناء في مدينتي العسكر والقطائع سواء كان ذلك بالبناء في الفسطاط أو القاهرة. وقد ترك الناس أماكن الفسطاط الداخلية، وبنوا قريبًا من النيل في شرائح صغيرة مستفيدين من الأرض التي يهجرها النهر، بينما استفادوا من الأماكن الشاغرة داخل مدينة القاهرة وقربها في إعادة العمران بعد أن كادت القاهرة أن تفقد صفتها الملكية.

وبرغم من فوائد التعمير في القاهرة والفسطاط إلا أن ذلك كان نهاية مؤلمة للعسكر والقطائع، وظلت بقاياهما في صورة أكوام وتلال من بقايا المساكن، وبذلك صارت هناك مساحة كبيرة من الأرض الفضاء بين القاهرة والفسطاط، كأنها شقة حرام بين المدينتين، ولم تنصلح أحوال أرض المدينتين إلا عندما نما فيهما العمران في العصر المملوكي. وإلى الآن لا تزال شوارع هذه المنطقة ذات انحدارات مختلفة كشوارع مراسينا وقدري والصليبة، وكلها تتجه من المنشية وقلعة الكبش إلى السيدة زينب.

(٣-٤) نهاية الفسطاط، وانهيار الدولة الفاطمية

فترة التهدئة في أواخر حكم المستنصر ووزارة بدر الجمالي والأفضل لم تكن سوى فترة إنعاش مؤقت لدولة مريضة من الداخل. ففي خلال السبعين سنة الأخيرة (١١٠٢–١١٧١) توالى على الحكم خلفاء ضعاف، بعضهم صغير العمر والبعض الآخر يقودهم الحسد والطمع والترف، وكلهم كانت أمورهم بأيدي وزراء متناحرين تحدوهم المصالح الشخصية قبل مصالح الدولة. ومن أكبر الأمثلة تحالف الوزير شاور مع الصليبيين ضد غريمه ضرغام، والمراوغات المستمرة من جانبه في تحالف، ونقض التحالف مرات مع الصليبيين ومع أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين أدت في النهاية إلى غزو الصليبيين لشرق الدلتا وحصار القاهرة، وإحراق شاور للفسطاط حتى لا يستولي عليها الصليبيون؛ ضحى بها شاور لأنها كانت مدينة غير مسورة أو محصنة يصعب الدفاع عنها، مقابل أسوار القاهرة الحصينة، وفي النهاية تمكن صلاح الدين من تولي الحكم وإنهاء الخلافة الفاطمية في ١١٧٢م.

والذي يهمنا هنا هو مصير الفسطاط، فقد تجاذبتها في أواخر العصر الفاطمي من الأضرار ما جعلها تفقد مكانتها كمدينة أولى؛ سكانًا ونشاطًا اقتصاديًّا ورعايةً من قبل الدولة، لأن الناس أخذوا يفضلون إقامة أعمالهم التجارية والحرفية داخل القاهرة التي كانت تفقد تدريجيًّا صفتها كعاصمة ملكية، وتتحول إلى مدينة مصر الأولى. ومع تكرار المجاعات والأوبئة وفقدان الأمان نتيجة الصراعات الداخلية كان المزيد من الناجين يتجه إلى القاهرة؛ فيزيد ذلك من فقر الفسطاط. وحين أراد بدر الجمالي إصلاح أحوال الفسطاط بدعوة الناس إلى إعادة التعمير فيها لم يجد استجابة كبيرة. ومع حريق الفسطاط الذي استمر أكثر من خمسين يومًا انتهت في الواقع هذه المدينة التي كانت في يوم ما ذات قدر حاكم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لمصر، فكأن احتضار المدينة قد استوعب نحو قرن من الزمان بين تفريغ للسكان، ثم عودة عمران، ثم أخيرًا اندثار شبه كامل.

ولقد عاد الاهتمام بالفسطاط مرة أخرى على مهل شديدي، وتحت اسم: مصر عتيقة أو ما نعرفها الآن بمصر القديمة. ولكن ذلك التعمير المتمهل اتخذ شريطًا طوليًّا بحذاء النهر وسيالة الروضة كمناطق خلفية للتعمير السريع الذي حدث في الدولة الأيوبية والمملوكة لجزيرة الروضة، وكامتداد بطيء للعمران في منطقة السيدة زينب والناصرية، وبساتين الخشاب وقاسم وغيرهما، كزحف عمراني بعد تراجع مسار النيل إلى الغرب، كما سبق ذكره في الفصل الأول.

(٣-٥) القاهرة منذ صلاح الدين إلى محمد علي

فقدت القاهرة ازدواجيتها، وأصبحت مدينة واحدة بفضل بناء القلعة وبناء سور جديد للقاهرة شمل كل الأحياء من المقس إلى مصر عتيقة، ومن النيل آنذاك إلى القلعة وسور القاهرة الفاطمية الشرقي، وأُوكلت هذه المهمة لقائد صارم هو قره قوش، وأصبح اسمه قرينًا بالأوامر التعسفية.٣٧ وفي داخل هذا الإطار المحصن، ومن خلال الأمان أصبح نمو عمران القاهرة مرتبطًا بالمبادآت الفردية للأغنياء والفقراء بعد أن كانت مدنًا تنشأ بالأمر، سواء في ذلك فسطاط عمرو بن العاص أو قطائع أحمد بن طولون أو قاهرة المعز لدين الله. وبعبارة أخرى: تكاملت شروط نمو المدن حسب حاجة الناس وازدياد أعدادهم وقدراتهم المادية وتجارتهم ووكالاتهم وورشهم وحرفهم الأخرى.

ولسنا نشك في أن بعض الحكام قد وجهوا العمران جهة ما؛ فالناس عادة ما يبنون وراء حكامهم في الأحياء الجديدة. فبناء قلعة صلاح الدين قد ساهم في نمو العمران من جنوب القاهرة في اتجاه القلعة، واهتمام الملك الصالح بالروضة جذب السكان إلى هذه الجزيرة وإلى ضفة النهر المقابلة في فم الخليج ودير النحاس، وإنشاء جامع بيبرس في الظاهر ساهم في امتداد العمران من الحسينية إلى باب البحر فيما عرف باسم أرض الطبَّالة، وتعمير الناصر محمد بن قلاوون لحي الناصرية جاء نتيجة لاهتمامه بإقامة ملاعب الفروسية غرب الناصرية بحذاء النيل فيما نعرفه الآن بالمبتديان والمنيرة، واهتمام السلطان قلاوون بإنشاء جامع ومدرسة وبيمارستان قلاوون على الشارع الأعظم جعله سنة أو قاعدة؛ أن يبني السلاطين مدارس وجوامع متراصة في الشارع الأعظم من باب الفتوح إلى ما بعد باب زويلة، مثل جوامع: الناصر محمد وبرقوق والغوري والمؤيد شيخ.

وقد بنيت كثير من البيوت الواسعة شرقية الطراز داخل القاهرة الفاطمية في أزمان مختلفة، ولكن بعض أمراء المماليك وكبار التجار بنوا لأنفسهم قصورًا حول برك القاهرة، وبخاصة بركة الأزبكية وبركة الفيل نتيجة ازدحام المباني داخل المدينة الأصلية. وحكر بعضهم أراضي تركها النيل فقسمت للبيع كأرض بناء، مثل: باب اللوق والمهراني. وفقدت القاهرة ميناء المقس بتراجع النيل، وحل محله ميناء بولاق بعد أن التحمت جزيرة بولاق بضفة القاهرة، وأصبح حي بولاق مكانًا متميزًا للنشاط التجاري والحرفي والنقل النهري، لكنه لم يلتحم ببنية عمران القاهرة إلا بعد فترة طويلة.

وقد حدثت في الفترة الأيوبية المملوكية أحداث سياسية ودينية حاسمة في تاريخ وسياسة مصر والشرق الأوسط، هي:
  • (١)

    إنهاء ممالك الصليبيين في فلسطين والشام بقيادة صلاح الدين والكامل والصالح وبيبرس.

  • (٢)

    إيقاف المد المغولي وتحجيمه ثلاث مرات كبيرة بقيادة السلاطين: قطز وبيبرس وقلاوون؛ مما ترتب عليه ركود المغول في الشرق العربي وتحولهم التدريجي للإسلام. ومرة رابعة عند غزو تيمورلنك للشام وتصدى له السلطان برقوق وابنه فرج دون معركة حاسمة لكنها أوقفته دون مصر.

  • (٣)

    تحويل مصر والشام من المذهب الفاطمي الشيعي إلى المذهب السني دون معارضة حقيقية من جانب المصريين. وفي هذا يقول البعض: إن المذهب الفاطمي لم يتمكن من المصريين إلا رسميًّا، وظل أكثرهم على مذهب مالك والشافعي دون أن يعارضوا الفاطمية صراحة؛ وترتب على ذلك انحسار الفاطمية من شمال أفريقيا بعد سقوط مركز خلافتها في القاهرة الذي استمر أكثر قليلًا من قرنين من الزمان، ولكن الكثير من الاحتفاليات الفاطمية ما زال يمارس حتى الآن في المناسبات الدينية.

  • (٤)

    تحول القاهرة إلى مركز الخلافة الإسلامية بعد سقوط بغداد بأيدي المغول. وظلت القاهرة قاعدة الخلافة الإسلامية قرابة ثلاثة قرون (١٢٥٨–١٥١٧) منذ السلطان بيبرس إلى أن انتزعها سليم الأول وحولها إلى إسطنبول.

هذه الأحداث الرئيسية مهَّدت للقاهرة زعامة سياسية وعسكرية وثقافية ودينية في العالم الإسلامي؛ مما جعلها مركزًا تجاريًّا واقتصاديًّا كبيرًا على مستوى العالم ذي الأهمية من الهند إلى أوروبا، فأصبحت قبلة الباحثين والعلماء والرحالة زهاء أربعة قرون.

وفي الفترة الأيوبية المملوكية حظيت القاهرة بكتابات عدد من الجغرافيين البارزين من مصريين ومشارقة ومغاربة. وكان عبد اللطيف البغدادي (١١٦٢–١٢١٩) عاصر القاهرة فترةَ صلاح الدين وخلفائه: العزيز والمنصور والعادل، وكانت القاهرة تمر في فترة تحول عمراني بعد استتباب الأمن، وعايش البغدادي مجاعة كبرى ووباء فتاك (١٢٠٠–١٢٠٢)، ودوَّن ملاحظاته في كتاب مهم باسم: «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر». وبرغم كل تلك الأحداث نجده يقول: «… وأما أبنيتهم ففيها هندسة بارعة وترتيب في الغاية حتى إنهم قلما يتركون مكانًا غفلًا خاليًا من المصلحة. ودورهم أفيح، وغالب سكناهم في الأعالي، ويجعلون منافذ منازلهم تلقاء الشمال والرياح الطيبة، وقلما تجد منزلًا إلا وتجد فيه باذاهنج [شخشيخة على السطوح لها عدة منافذ تفتح وتغلق حسب اتجاه الريح؛ لتمرير الهواء داخل البيت] وأسواقهم وشوارعهم واسعة، وأبنيتهم شاهقة … ويبنون الحجر النحيت والطوب الأحمر وهو الآجر، وشكل طوبهم على نصف طوب العراق، ويحكمون قنوات المراحيض حتى إنه تخرب الدار والقناة قائمة، ويحفرون الكنف إلى المعين فيغبر عليه برهة من الدهر طويلة ولا يفتقر إلى كسح.»٣٨ بوصفه عالمًا مدققًا نجد البغدادي ينتقد بشدة عملية نهب الآثار المصرية، واستلاب أحجارها وأعمدتها؛ لأغراض البناء، وهي ملاحظة تبين عمق الفهم للقيمة الحضارية لآثار الماضي وشواهده. وأخيرًا يعجب البغدادي بصناعة تفريخ الدجاج باسم الترقيد في مصر، ويسمي الحضَّانة «المعمل»، ويذكر بناءها وطريقة التدفئة وما إلى ذلك من سر الصنعة بتفصيل كثير إلى اليوم الثاني والعشرين حين يفقس البيض.
وفي أواخر العصر الأيوبي وأوائل المملوكي نجد كتابات ابن مَمَّاتي (توفي ١٢٠٩) الذي ساعدت وظيفته كرئيس ديوان الجيش والمالية على كتابة «قوانين الدواوين» الذي يبحث فيه نظام الأراضي المصرية ومساحتها وعوائدها الضريبية. ومثل هذا المنحى في الكتابة أمر متكرر عند الكتاب المصريين الذين تسيطر عليهم شئون البلاد أكثر من الرحلة واستجلاء خصائص الأقاليم الأخرى وعادات ناسها، مثل: القلقشندي (توفي ١٤١٨)، وأبو الفدا وهو من نسب الأيوبيين وأمير لمدينة حماة واسمه: إسماعيل بن علي الأيوبي، وعرف أيضًا باسم الملك المؤيد (١٢٧٣–١٣٥٧) وعاصر السلطان الناصر محمد، وشارك في عدة حملات عسكرية في آسيا الصغرى، وساهم في فتح طرابلس. وكذلك زار القاهرة في زمن السلطان الناصر أمير الرحلة الإسلامية ابن بطوطة، وابن دقماق الذي عاصر السلطان برقوق (١٣٨٢–١٣٩٩)، وشيخ الجغرافيين المصريين: هو تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (ولد بالقاهرة ١٣٦٤ وتوفي بها ١٤٤٢) صاحب «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار»، وهو موسوعة قاهرية على نمط كتابات الخطط السابقة، لكنها أشمل وأطول تاريخًا وأدق وصفًا للحياة في العصر المملوكي، وتعتبر خطط علي مبارك استكمالًا جيدًا لوصف القاهرة بيد مصرية أخرى على الرغم من أربعة قرون فارق زمني بينهما. ولا ننسى أن ابن خلدون (توفي ١٤٠١) كان في القاهرة زمن المقريزي.٣٩
وآخر الجغرافيين الإسلاميين العظام الذين ارتحلوا في مصر والقاهرة، هو الحسن ابن الوزان المعروف باسم ليون الإفريقي بعد ست سنوات من سقوط مصر في أيدي الدولة العثمانية. كتب الوزان الكثير من المعلومات نجتزئ منها الإشارات الآتية:٤٠

سكان القاهرة أناس لطفاء ومرحون، وهم لا يبخلون بالكلمات الطيبة، لكنهم لا يصنعون الكثير من الأشياء … ويزاولون التجارة والصناعة غير أنهم لا يخرجون من بلادهم. ص٥٩١.

وتقع وسط النيل وتجاه المدينة القديمة جزيرة تدعى: المقياس … وهذه الجزيرة غاصَّة بالسكان وتحوي قرابة ١٥٠٠ أسرة. ص٥٨٨.

وفي جنوب الضاحية [مصر القديمة] على النيل، يقوم المكس بالنسبة للبضائع القادمة من الصعيد. ص٥٨٧.

وهنا [منطقة القرافة] قبر السيدة نفيسة … بلغت شهرته درجة جعلت كل مسلم يأتي القاهرة … عن طريق البر أو البحر، يقصد هذا الضريح للتشرف به، ويقدم له النذور والهدايا … حتى إن الصدقات تصعد سنويًّا إلى مائة ألف أشرفي،٤١ وتوزع بين الفقراء من نسل الرسول … وعلى إثر دخول الترك … قام الإنكشارية بنهب المزار، ووجدوا فيه خمسمائة ألف أشرفي عدا المصابيح والسلاسل الفضية والسجاد، وقد أعاد [السلطان] سليم القسم الأعظم من هذا الكنز للضريح. ص٥٨٧.

ويتكلم عن أسعار الأقوات بالارتباط بفيضان النيل فيما إذا كان عاليًا (١٥ ذراعًا) أو منخفضًا (أقل من ١٢ ذراعًا) في خلال فترة ارتفاع المياه تكون المحاصيل شحيحة، ويحق للبائع تحديد سعر الخبز في حدودٍ مرعية وإلا وقع تحت طائلة العقاب: «وبعد مضي ثمانين يومًا من بداية الفيضان [أي عندما يثبت حجم الفيضان] يحدد المحتسب سعر الأقوات ولا سيما سعر الخبز. ويقع هذا التسعير مرة واحدة في العام.» (ص٥٩٠). وإذا بلغ مقياس النيل ١٨ ذراعًا فإن الأماكن المسكونة ستتعرض للغرق، ويقوم أشخاص بتحذير الناس: «أيها الناس اتقوا الله! من جبل إلى جبل.» أي الفيضان يعم كل الوادي من الهضبة الشرقية إلى الهضبة الغربية.

«… [القاهرة] مجهزة بما يلزم من الصناع والباعة الذين يقيمون على وجه الخصوص في شارع يذهب من باب النصر حتى باب زويلة، وهنا يقيم أكبر جزء من نبلاء القاهرة، ويوجد في هذا الشارع بضع مدارس مدهشة بأبعادها وبجمال بنائها ورونقها، كما توجد بضع جوامع فسيحة وجميلة.» ص٥٧٩.

ويذكر الوزان، وغيره من قبل، أن سكان القاهرة من هواة الأكل المطبوخ من المطاعم، مثل نظام المطاعم الحالية ونظام «تيك أواي». ففي شارع بين القصرين ٦٠ دكانًا للحم المطبوخ، ومحال عديدة لماء الزهور والحلوى بالسكر أو العسل معروضة بشكل أنيق، ومحال للفواكه المستوردة والزلابية والبيض المقلي والجبن المقلي، وعند جامع الغوري فنادق — وكالات — الأقمشة، وكل فندق يضم عددًا كبيرًا من المحلات للأقمشة المستوردة؛ بعضها لتلك من بعلبك والموصل، وبعضها لأقمشة إيطاليا كالساتان الموشى والمخامل والتفتا والبروكار لم ير هو مثلها في إيطاليا ذاتها، ثم وكالات الأصواف الأوروبية، مثل: جوخ البندقية ومايورقه ووسط إيطاليا.

وفندق خان الخليلي، حيث يقيم التجار العجم [يقصد الأجانب] يشبه قصر أمير كبير مرتفع متين البنيان، وفي الطابق الأرضي توجد الغرف التي يستقبل فيها التجار زبائنهم لممارسة تجارة السلع ذات القيمة العالية، مثل: التوابل والأحجار الكريمة والأقمشة الهندية. وعلى الناحية الأخرى من الشارع الأعظم أحياء باعة العطور، مثل: المسك والجاوي والورق الصقيل والحجارة الكريمة. وهناك حي تباع فيه منقولات مستعملة لكنها قطع رائعة مثل أقمشة وملابس من أشغال الإبرة واللآلي والبسط والسجاد … إلخ. وكلها تباع بأسعار تبلغ آلاف الدينارات. والصاغة معظمهم يهود أرباحهم عالية، وأكثر أنواع اللحوم رواجًا الجاموس مع الخضر، والجيزة هي سوق ماشية برقة.

وحول السكان كتب الوزان أن بالقاهرة ٣٠٥٠٠ أسرة نحو ٦٥٪ منهم يسكنون المنطقة الشرقية من القلعة إلى الدرب الأحمر والجمالية. فإذا كان متوسط عدد الأسرة ٦ أفراد وأكثر فمعنى ذلك أن سكان القاهرة كانوا ما بين ١٨٠ إلى ٢٠٠ ألف أو أكثر، علمًا أن ذلك كان بعد كارثة سقوط المماليك، وترحيل عدد كبير من الصناع والحرفيين المهرة إلى إسطنبول.

وقد أطلنا قليلًا في وصف حال القاهرة نقلًا عن الوزان، فما بالنا بالقاهرة عندما كانت العاصمة المزدهرة لدولة المماليك حينما كانت أحسن حالًا وثراء قبل ذلك التاريخ؟

جدول : عدد الأسر في القاهرة حسب الحسن بن الوزان.*
المجموع ٣٠٥٠٠ أسرة
القاهرة المسورة ٨٠٠٠ أسرة
باب زويلة حتى جامع السلطان حسن ١٢٠٠٠ أسرة
حي طولون «عدد كبير من الصناع والتجار من البربر»؟
باب اللوق إلى الأزبكية «مواخير وملاعب … إلخ» ٣٠٠٠ أسرة
بولاق «صناع مطاحن تجار: حبوب وزيوت وسكر + ألف سفينة في الميناء» ٤٠٠٠ أسرة
خط القرافة ٢٠٠٠ أسرة
مصر عتيقة «جنوبها ميناء أثر النبي ويسكنها صناع مختلفين»؟
جزيرة المقياس ١٥٠٠ أسرة
ما تبقى من أسر في أحياء لم يذكر عددها.
fig35
شكل ٣-٥: التوزيع المكاني لوظائف القاهرة الرئيسية في القرن ١٨.

ومما لا شك فيه أن الفترة العثمانية الطويلة من ١٥١٧ إلى ١٧٩٧ قد جمَّدت النمو في القاهرة، وأبقت القاهرة على ما كانت عليه من امتداد بعد أن أصبحت ولاية عثمانية، وصحيح أن السلطان سليم انتقص من القاهرة مركز الخلافة ومهرة الصناع، إلا أنه لا يجب أن نبالغ في أثر ذلك على أنه مسبب الركود المصري؛ فالتبعية السياسية لا تعني بالضرورة انتقال النشاط الاقتصادي دفعة واحدة بل تدريجيًّا، وحتى هذا لم يحدث سوى في بداية الحكم العثماني لمصر، وظلت مصر مركزًا تجاريًّا مهمًّا بحكم علاقتها المكانية التي بنيت على مئات السنين. هذا فضلًا عن أن الدولة العثمانية ظلَّت لفترة طويلة دولة حرب؛ فلم تنشئ علاقات ترث مصر بالنسبة لأوروبا، ومن ثم كان احتياجها المستمر لضريبة مصر السنوية إليها، الأمر الذي لا يفيد معه إرباك الاقتصاد المصري؛ لهذا نجد أن الدولة العثمانية كانت تحكم مصر بطريق غير مباشر بواسطة بكوات المماليك المصرية.

لكن أكبر عامل في الركود المصري كان استيلاء البرتغاليين والأوروبيين على تجارة الهند بعد أن كانت شبه حكر على التجارة المصرية، وحيث إن الصراع البحري المصري البرتغالي كان قد بدأ في حكم السلطان الغوري بمعارك غير حاسمة، فإن ذلك كان إيذانًا ببداية عهد جديد تسيطر فيه أوروبا على المحيط الهندي. فلا الأسطول المصري أو المصري العثماني فيما بعد، كان بقادر وحده على الوقوف أمام المد التجاري العسكري الأوروبي، ومع ذلك لا يجب تصور أن تجارة الشرق قد توقفت في مصر تمامًا، بل ظل لها جانب من هذه التجارة، وبخاصة البن والبخور والتوابل، تحتكرها لأسواق الشرق العثماني وأوروبا المطلة على البحر المتوسط كاستمرار للتجارة مع البندقية وجِنوا ومرسيليا فترة من الزمن. هذا فضلًا عن تصدير المنسوجات المصرية المتميزة، مثل: الدميطي في المحلة ودمياط ورشيد ومنفلوط وأسيوط، والقمح والأرز.

ومن هنا كان الركود في مصر والقاهرة على درجات:
  • (١)

    تناقص تجارة المحيط الهندي.

  • (٢)

    الاحتلال العثماني وفقدان المبادآت المصرية.

  • (٣)

    تنازع المماليك على السلطة الداخلية فيما بينهم، فقد كان النظام المملوكي يتجه إلى نهايته.

والخلاصة أنه في مجال بناء القاهرة كانت جهود الأيوبيين منصرفة إلى إنشاء القلاع والحصون والأسوار؛ فقد كانت دولة حرب ضد الصليبيين، ومع ذلك فقد انشغل الأيوبيون أيضًا بتثبيت المذهب السني، ومن ثم كان الاتجاه إلى إنشاء الجوامع والمدارس لتدريس مذاهب السنة الأربعة، وبرغم أن المماليك كانوا دولة حرب في جانب كبير من عصرهم ضد المغول وبقايا الصليبيين، فإننا نجدهم يتنافسون في شتى أنواع العمارة الدينية في صورة المساجد الرائعة، من جامع الظاهر بيبرس إلى قمة الفن المعماري وضخامته؛ متمثلًا في جامع ومدرسة السلطان حسن بن الناصر قلاوون، وإلى جامع قايتباي الذي يقول عنه الثقاة: إنه أقصى ما وصل إليه المعمار الإسلامي التجريدي من فنون.٤٢
fig36
شكل ٣-٦: القاهرة كما ظهرت في الخريطة المشهورة للحملة الفرنسية (١٨٠٠).

وقد أرسى المماليك دعائم القوة الاقتصادية المصرية التي استمرت حتى بعد التبعية العثمانية، ودلائل ذلك تتمثل في الأسواق والخانات والوكالات التجارية التي كانت تغص بها القاهرة في العصرين المملوكي والعثماني. وقد بلغت الصناعات الدقيقة مبلغًا كبيرًا في العصر المملوكي بالذات من صناعات الخزف والزجاج والمشغولات النحاسية والجلود ومنسوجات الحرير الفائقة الجودة. هذا فضلًا عن الصناعات التي تُستهلك منتجاتها في المدينة الكبيرة من صناعات الأغذية والمعادن والمنسوجات القطنية والكتانية … إلخ.

وتميزت الأسواق بتحديد سلعي وتوزيع مكاني؛ فسوق باب الفتوح مختص باللحوم وأنواع الخضراوات، والمرجوشي — أمير الجيوش — يختص بالترزية ورفا الملابس، وبرجوان بالأطعمة الجاهزة والأفران، وسوق الشمع عند جامع الأقمر، ويليه سوق الدجاج، وسوق السلاح قرب القلعة، ومجموعة أسواق تدل عليها أسماؤها، مثل: السروجية والمهاميز والجوخيين والحلاويين والشوائيين والمغربلين … إلخ.

وقد ظلَّت شوارع القاهرة على خطة شوارع المدن القديمة؛ أي دروب وحارات ذات منعطفات والْتواءات وأزقة وعطفات مسدودة مغلقة عند رأسها بالبوابات للحماية والأمان (راجع خريطة ١-١٢ في الفصل الأول)، وكانت أولى محاولات إيجاد طرق مستقيمة في عهد محمد علي حينما أنشأ السكة الجديدة والموسكي كطريق مباشر بين العتبة الزرقاء — الخضراء فيما بعد — وبين الجامع الأزهر والمشهد الحسيني، ثم طريق مباشر من الأزبكية إلى بولاق، وثالث إلى قصر محمد علي في شبرا. ويخترق طريقا بولاق وشبرا مناطق فضاء وحقول زراعية؛ مما كان يسهل عملية شق الطرق دون عناء كبير. وكانت هناك محاولة أخرى لفتح طريق مباشر بين العتبة والقلعة، ولكنه اكتمل في عصر إسماعيل؛ والسبب في هذا التأخير راجع إلى عدة أسباب، على رأسها: قيمة التعويضات التي تدفع لأصحاب البيوت التي تزال، فضلًا عن أن وسائل الحركة ظلت على ما هي عليه من الإنسان والدواب مما لم يقتضِ إنشاء الشوارع المباشرة الواسعة. والخلاصة أن القاهرة نمت تلقائيًّا في أحيان كثيرة، وظلت المنطقة الشرقية من الحسينية إلى القلعة أكثرها ازدحامًا، ثم تقل كثافة المباني غرب مسار الخليج من المقس إلى السيدة زينب.

(٣-٦) مجتمع القاهرة

انقسم مجتمع القاهرة إلى عدة مجموعات بعضها من أصول إثنية مختلفة، وغالبها من أصول مصرية قاهرية وريفية. ولم يكن الترتيب الطبقي بين سكان القاهرة جامدًا أو منغلقًا على نفسه، بل هو مفتوح للاختلاط والتغير على نحو ما يسمى الآن: «الحراك الاجتماعي»؛ أي التحرك من أدنى إلى أعلى أو العكس، أو التحرك الأفقي من فئة لأخرى.

والمجموعات والفئات القاهرية كانت هي: المماليك – العلماء – التجار – الحرفيين – العاملين.

المماليك والجيش

على الرغم من أن معظم المماليك ينتمون إلى شعوب تركية أو شركسية وما إلى ذلك من المجموعات خارج مصر، فإن ذلك لم يمنع وجود مماليك من السمر؛ نتيجة التزاوج بالرقيق الزنجي، أو مماليك من أصل مصري ترقوا في الفنون العسكرية. كما أن تكوين المماليك كقوة عسكرية للسلاطين والأمراء لم يكن قاصرًا عليهم، وإنما كان بمقدرة الأغنياء من التجار أن يُكوِّنوا لأنفسهم مماليك كقوَّة تحميهم من المخاطر. ويثار جدل حول أصول المماليك بوصفهم أرقاء وبعضهم من أصل مسيحيٍّ أرمنيٍّ وسلافيٍّ وبلقانيٍّ. لكنهم بفضل تربيتهم الدينية والعسكرية كثيرًا ما كانوا يُعتقون، ويظهرون مهارات مدهشة في تكوين الدولة وتنظيمها، وحماية العالم الإسلامي من غزوات الصليبيين والمغول، وإرساء قواعد الازدهار التجاري ببناء الأساطيل العسكرية والتجارية التي تجوب البحر المتوسط والأحمر والمحيط الهندي.

ومن حيث المفهوم العام لمعنى مملوك، سواء في هذا مملوك لسلاطين وأمراء أو تجار أغنياء، تجد منهم من يصبحون من العلماء، مثل: ياقوت الحموي والحسن بن الوزان، وبعضهم قواد عظام، مثل: جوهر وبيبرس وقلاوون والغوري، أو منظمين متميزين، مثل: بدر الجمالي وقره قوش. ولكن تنشئتهم العسكرية جعلت غالبيتهم أداة حرب مقومها الفلسفي هو القوة لتحقيق الهدف؛ لهذا كانوا كثيري التنافس والحرب فيما بينهم من أجل الوصول إلى منصب أو وظيفة ذات قدر مالي اجتماعي، أو الوصول إلى السلطنة ذاتها. وفي فترة الحكم العثماني كان التناحر بينهم كبيرًا على منصب شيخ البلد، أو بما يعني: كبير المماليك الذي كانت سطوته أعلى من سطوة «الباشا» ممثل السلطان العثماني في مصر، وسلطاته تكاد ألا تتجاوز أسوار القلعة إلا قليلًا. وقد كانت تلك أواخر زمن قوة المماليك السياسية والعسكرية التي قضى عليها محمد علي بالكثير من الدهاء والسياسة والقسوة. ونحن نرى الآن في «مذبحة القلعة» شيئًا منافيًا للأعراف، لكن هكذا درج المماليك على مثل هذا الشيء من القسوة في تصفية بعضهم البعض، ومن ثم فقد كانت المذبحة جزءًا من خلقيات المماليك لفترة طويلة، فقد عاشوا بالسيف وماتوا به أيضًا، وحكمنا الحالي على المذبحة ينطلق من منظور فلسفي غير منظورهم وفلسفتهم.

وقد كان المماليك أساسًا قوة الفرسان، التي تمثل في الحروب البرية الحالية المدرعات التي تشق الطريق إلى بقية أفراد الجيش؛ ولهذا فقد كانت الجيوش في العصور الوسطى من الفاطميين إلى المماليك والعثمانيين تتكون من المشاة والطوبجية (المدفعية)، وغالبًا ما كان الجيش يتكون من عدة مجموعات إثنية من البربر والسودانيين وغيرهم من الأكراد والترك والبدو … إلخ. وقد حدثت منافسات شديدة في وقت السلم بين هذه المجموعات أدَّت إلى اقتتالهم فيما بينهم، وخاصة في العصر الفاطمي وأوائل فترة حكم صلاح الدين، وآخر هذه التشكيلة من الجنود كانت في أوائل حكم محمد علي بين الأرناءوط والترك والمماليك، انتهت بإقصائهم والقضاء عليهم جميعًا، وتكوين جيش ثابت قوامه الأساسي من المصريين.

وهذا الجيش المكوَّن من أبناء مصر هو الذي صنع أمجاد مصر في الصحراء العربية والمورة والشام والأناضول، ولخطورته كانت واحدة من أهم نصوص اتفاق محمد علي والدولة العثمانية — بتأييد بريطانيا للعثمانيين بصفة خاصة — على تخفيض عدد الجيش المصري إلى حد كبير.

العلماء

ظل للعلماء شأن كبير في حياة مصر منذ قدوم الإمام الشافعي وعدد من آل البيت النبوي الشريف، وحيث إن العلم في ذلك الأوان كان مرتبطًا بالدعوة الإسلامية، وتعليم أصول الدين والمعاملات والقضاء، فقد كان العلماء مرتبطين دائمًا بالجوامع الكبرى: عمرو والأزهر.

وقد لعب العلماء أدوارًا مهمة في حياة القاهرة السياسية، سواء في ذلك علماء الشيعة في العصر الفاطمي، أو علماء مذاهب السنة الأربعة بعد ذلك. فمما لا شك فيه أن مراسيم إعلان السلاطين كانت تصدر عن مجمع علماء الأزهر، وكانت لهم يد طولى في تأييد أو إنزال الولاة العثمانيين، وآخرها كان موقفهم من هؤلاء الباشوات فترةَ الصراع بين محمد علي وبين الوالي، وانتهت بنزول السلطان العثماني على إرادة العلماء بتعيين محمد علي واليًا على مصر.

ولكن أهم ما نعرفه كان موقف العلماء من الحملة الفرنسية التي لم تجد بدًّا من الاعتراف بهم كقوة سياسية دينية؛ فأدخلت بعضهم في المجلس الأعلى للحكم في مصر.

ومن الأسماء التي ترددت كثيرًا في أواخر ق١٨ وأوائل عصر محمد علي في هذا المضمار الشيوخ: المهدي، والشرقاوي، والعطار، والسادات، و«نقيب الأشراف» السيد عمر مكرم الذي وقف مناهضًا لسلطات محمد علي فنفاه إلى دمياط.

وليس العلماء هم رجال الدين فقط، بل كان هناك من العلماء آخرون متفقهين في علوم الدين والدنيا، مثل: ابن خلدون الذي عُيِّن قاضي القضاة فترةَ وجوده في مصر إلى أن توفيَ بها، والجبرتي صاحب الرأي السياسي ابن الشيخ حسن أحد علماء الأزهر.

ولعل قوة العلماء لا ترجع فقط إلى قدرهم العلمي في الأزهر الشريف، بل أيضًا إلى حصولهم على ما كان يعرف باسم: «مسموح المشايخ»؛ أي إعفاء أراضيهم وممتلكاتهم من الضرائب، وهو ما كان يعطيهم قوة مالية استفاد بعضهم منها في الحصول على المزيد من العقارات أو الاشتراك في أعمال تجارية. وبرغم أن هذا «المسموح» للعلماء والمماليك وبعض فئات أخرى كان جزءًا من نظام عام معمول به، فإنه زاد من حمل الضرائب على الفلاحين، وزاد من تفتيت الولاءات في المجتمع المصري بصفة عامة.

التجار

ربما كان كبار تجار القاهرة من أغنى أغنياء المدينة. وهناك بعض أرقام اجتهدَتْ في تحصيلها الأستاذة عفاف لطفي السيد — مارسو٤٣ عن ثروات بعضهم. فعند وفاة قاسم الشرايبي عام ١٧٣٥ ترك ثروة قدرت بنحو ١٢٫٦ مليون باره وأسطولًا من السفن التجارية وعددًا كبيرًا من المحلات والدكاكين والبيوت، وترك محمود محرم بعد نصف قرن ثروة قدرت بنحو ١٥٫٧ مليون باره. هذه الثروات الضخمة ناتج احتكار تجارة البن أو التوابل بالإضافة إلى نصيبهم من عملهم كملتزمين لأراضٍ زراعية واسعة، وقد ترك محمود الشرايبي التزامًا يدر سنويًّا مليون باره.٤٤ والأمر الواقع أن بعض المماليك والعلماء كان لهم نشاط تجاري احتكاري لبعض السلع، وخاصة السلع المنتجة في مصر كالأرز أو منتجات الصعيد كالقمح وغيره.

وحسب ما جاء في كتاب «وصف مصر» كانت بالقاهرة في آخر القرن ١٨ مؤسسات تجارية تصنف إلى عشر خانات — جمع خان — وهي كما جاء سابقًا: أبنية متسعة مليئة بمحلات تجارية غالبها متخصص في سلع معينة، وكلها مركزة في القاهرة الفاطمية، وكان هناك ٢١٧ وكالة تجارية، ٦٠٪ منها في القاهرة الفاطمية و١٣٪ في بولاق، وبعض هذه الوكالات متخصصة في سلع محددة كالصابون والزيت والمنسوجات والجلود والسلاح، والغالب أنه كان لبعض هذه الوكالات معامل وورش خاصة بها. وكذلك كان هناك ٧١ سوقًا موزعة بتعادلية على أنحاء معمور القاهرة آنذاك. وهذه الأرقام تعطينا صورة عن النشاط التجاري داخل المدينة، وكم كان عدد التجار صغيرهم وكبيرهم، ولكنه لا يعطينا صورة عن كبار التجار الذين يتعاملون في التجارة الخارجية أو تجارة الترانزيت، وبعض هؤلاء كانوا يمتلكون أساطيل تجارية بحرية ونهرية؛ أي إنه كان هناك نوع من التكاملية بين التجارة والنقل والتوزيع معًا، مما ترتب عليه الثراء المدهش لهؤلاء الكبار.

لكن الصورة اختلفت منذ عصر محمد علي، وأصبحت الدولة هي المنظم الأساسي للتجارة الخارجية. لكن بقي للتجار وأصحاب الدكاكين أهميتهم في السوق الداخلي، وبخاصة في أسواق القاهرة الغذائية، واحتياجاتها من الصناعات الحرفية، وربما عدنا إلى تفصيل ذلك في الفصول التالية.

الاقتصاد والسياسة

وربما كان هنا موضع مناقشة اتجاهات التجارة المصرية سواء المعاد تصديرها كتجارة ترانزيت أو المنتجة محليًّا. فقد كان الاتجاه غالبًا إلى أوروبا خلال حكم المماليك، ثم حدث بعض التغير في اتجاه بعض التجارة إلى أقطار الدولة العثمانية، ومع ذلك ظل الاتجاه الأكبر هو إلى أوروبا نتيجة استيراد المماليك للأسلحة الحديثة والسلع الصناعية الأوروبية. وفي البداية كان الميزان التجاري لصالح مصر، ولكنه أخذ في التغير لصالح أوروبا بعد حدوث عدة نكسات على رأسها دخول شركات فرنسية اتفاقيات استيراد البن مباشرة مع اليمن بدلًا من الوسيط المصري. ويضاف إلى ذلك نجاح زراعة البن في بعض مستعمرات فرنسا في البحر الكاريبي. والنكسة الأخرى هي عزوف أوروبي جزئي عن استيراد المنسوجات المصرية بحجة رداءة السلعة، ولكن يجب أن نضيف لذلك انتشار صناعة النسيج الآلية الحديثة في أوروبا، ورخص أسعار المنتج منها بالقياس إلى الصناعة المصرية.

وقد أدت هذه النكسات إلى تقليل أرباح ترانزيت البن، وتدهور عام في الدخل مع زيادة الميزان التجاري لصالح أوروبا، إلى ضائقة مالية حاول المماليك والتجار تعديلها بالاشتطاط والمغالاة في فرض الضرائب التي ثقلت على الفلاحين والحرفيين؛ مما أدى إلى مردود معكوس أدى إلى مزيد من قلة الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي. وهكذا دخلت مصر دائرة مغلقة من التراجع حتى جاءت الحملة الفرنسية التي أدت بدورها إلى تدهور كبير نتيجة ثورات القاهرة ضد الفرنسيين، والدمار الذي أحدثه الفرنسيون لقمع تلك الثورات.

لكن أحد أهم نتائج الحملة الفرنسية أنها أظهرت مدى تخلف النظام المملوكي السياسي، وعدم قدرته على استيعاب التحديث؛ وبذلك وضعت اللبنة الأخيرة في نهاية هذا النظام.

ولا شك أن محمد علي جاء بنظام جديد يتقبل الحداثة والتحديث في الحكم والإدراة والشئون المالية والاقتصاد الزراعي والصناعي والعلاقات الدولية، وإن أبقى على حكم الفرد. ونحن لا نعتقد أن محمد علي جاء بكل هذه التنظيمات من مصادر خارجية وطبقها مرة واحدة، بل كان هناك تطويع لمبادئ الإدارة وتطبيقات تدريجية لها على قدر الظروف الانتقالية في المجتمع المصري مع النظر إلى أشكال التنظيم الأوروبي، والكثير من الاستشارات والتجريب. وقد وقع محمد علي أسير التاريخ، فحاول بسرعة إعادة تطبيق إستراتيجية التاريخ السياسي المصري في الهيمنة على الشرق الأوسط من الشام إلى الحجاز بإضافة عمق في السودان لم يكن موجودًا من قبل في تاريخ مصر الإسلامي؛ لهذا فقد كان محرك تنظيماته الجديدة في كافة الشئون الداخلية متمحورًا حول الجيش القوي الذي أنشأه، ومحاولته الاستفادة من تناقضات المنافسة الفرنسية الإنجليزية على الشرق باستقطاب فرنسا. لكن عصر بناء الإمبراطوريات الشرقية كان قد ولى؛ لهذا توقف مشروع محمد علي السياسي عند مواجهة القوي الأوروبية عامة والإنجليزية خاصة، ولما هبط محرك التطور العسكري المصري هبط معه الكثير من النشاط الصناعي، وبقيت الزراعة ذات التركيب المحصولي المُحدَّث — مشروعات الري الدائم، والمحاصيل الصيفية وعلى رأسها القطن — عماد التركيب الاقتصادي لنحو قرن من الزمان (١٨٤٠–١٩٣٠).

وقد حاول إسماعيل تقليد جدِّه ولكن في الاتجاه الجنوبي؛ بناء إمبراطورية أفريقية في الوقت الذي اشتد فيه تسارع الدول الأوروبية على تقسيم أفريقيا، وكان محركه في ذلك تحسن مصادر الثروة المصرية بصادرات القطن ورسوم عبور قناة السويس، فدخل في مشروعات توسع في القرن الأفريقي (مصوع، زيلع، هرر، بربره) وفي منابع النيل الاستوائية (أوغندا الحالية) لكنها كانت عبئًا ماليًّا، وقصيرة العمر، ونتائجها محسومة لصالح أوروبا.

وآخر المحاولات المصرية أسيرة التاريخ كانت في عهد عبد الناصر الذي حاول استعادة روح القومية العربية في مواجهة إسرائيل والغرب؛ معتمدًا على أيديولوجية ثورية نجحت في المساعدة على تصفية النفوذ البريطاني، لكنها أحدثت صدعًا عربيًّا بين الملكيين والجمهوريين فلم تصادف سوى نجاح عربي محدود.

الحرفيون والنقابات الحرفية

في أواخر القرن ١٨ كان في القاهرة ٧٦ ورشة حرفية وصناعية، نحو ٣٦٪ منها في المنطقة الممتدة غرب الخليج من باب الخلق إلى باب اللوق، ونحو ٣٠٪ منها فيما بين الغورية والسلطان حسن، وبعبارة أخرى: إن الورش كانت خارج القاهرة الفاطمية بصورة عامة في اتجاه الجنوب والغرب.

وكان أصحاب الورش وعمالهم يكوِّنون «نقابات» خاصة بصناعة سلعة معينة كالمزينين والحمامية والإسكافية، والنقيب هو المسئول أمام الجهات الرسمية. وترتيب الصنعة متدرج من نظام الصبيِّ إلى المعلم أو الأسطى، بحيث كان في هذا ضمان للمهارة واستمرار جودة المنتج،٤٥ وبقاياه ما زال حتى الآن ممارس في بعض الحرف وبخاصة الورش الفردية لإصلاح السلع المعدنية والسيارات، وإن كان مقدرًا أن خريجي المدارس الفنية سوف يحلون محل هذا النظام التقليدي تدريجيًّا.

والذي يهمنا في موضوع البنية الاجتماعية أن الكثير من أصحاب الورش والتجار كانوا يسكنون مع عمالهم في حارة أو حي واحد، بحيث إن الروابط المكانية كانت تجمعهم بغض النظر عن الوضع المالي. صحيح أن بيوت أصحاب العمل كانت أكبر وأفخم لكن الشعور بالتساند كان سمة غالبة في حياة القاهرة. وما زال بعض المعلمين يسكنون جوار ورشهم، لكن العمال يأتون من أحياء مختلفة، ولكن غالب الأسطاوات والمعلمين الكبار أصبحوا الآن «رجال أعمال» يقيمون في الأحياء المترفة وصلتهم بالعمال محدودة وغير مباشرة — مجلس الإدارة، وصور شتى من الإعلام — فلم يعد هناك تفاعل جماعي كما كان في الماضي القريب.

الصحة والتعليم

لعلنا نختتم هذه الفترة من حياة مدينة القاهرة بالتأكيد على اهتمام الولاة والحكام ببناء المارستانات والكتاتيب والأسبلة والحمامات، وغير ذلك من احتياجات المدن الكبرى.

المارستانات: من السرد التاريخي نجد أن هذه المستشفيات قد بنيت غالبًا في عصور مصر المستقلة. فلم نعرف للآن أن ولاة مصر في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين قد بنوا مثل هذه المؤسسات الصحية العامة.

وأول من بنى مارستانًا في مصر كان أحمد بن طولون نحو سنة ٨٧٤م؛ أي بعد ست سنوات من توليه حكم مصر، وكان موقعه في مدينة القطائع، ويقول المقريزي: إنه صرف على بنائه ٦٠ ألف دينار، وعمل له حمامين للرجال والنساء، والغالب أن ابن طولون في ذلك قد حاكى مارستان بغداد، وتلاه كافور الإخشيد بمارستان في الفسطاط نحو سنة ٩٥٧م. ولم ينقضِ وقت طويل حتى أنشأ الفاطميون في مدة حكم العزيز بالله «الربع الأخير من القرن العاشر» مارستان القاهرة جنوب القصر الصغير.

وبنى صلاح الدين مارستانًا في القاهرة للمرضى والضعفاء، ويقول المقريزي: إنه استخدم له أطباء وطبائعيين وجراحين ومشرفين وعمالًا وخدمًا، وخصص له ٢٠٠ دينار شهريًّا، كما أمر بفتح المارستان القديم، وخصص له طبيبًا وعاملًا ومشرفًا وعشرين دينارًا شهريًّا؛ بمعنى أنه أصبح بالقاهرة مستشفيان لأول مرة!

وأشهر مارستانات القاهرة: المارستان المنصوري المعروف حتى الآن باسم مستشفى قلاوون، نسبة إلى السلطان المنصور قلاوون (١٢٧٩–١٢٩٠) وكان جزءًا من القصر الصغير، فأقام فيه مدرسته وجامعه ومارستانه. رتَّب المنصور العقاقير والأطباء وسائر ما يحتاجه المرضى، وجعل فيه فراشين من الرجال والنساء، وكانت به قاعات متخصصة؛ واحدة للرمد وأخرى للجراحة وثالثة لأمراض الجهاز الهضمي، وقسم خاص لإقامة النساء، ومطبخ الأطعمة، ومخزن الأدوية والأشربة العلاجية — أجزاخانة — ومكتبة طبية، ومعمل كيميائي، وجوقة موسيقى ومنشدين، ومن يقصون السير التاريخية البطولية وغير ذلك كجزء من العلاج والترفيه، فَيَاللتَّقدمِ في المفاهيم العلاجية في ذلك الوقت المبكر!٤٦

وتلاه مارستان أنشأه المؤيد شيخ (١٤١٣–١٤٢١) قريب من القلعة، وأنشأ عبد الرحمن كتخدا إسبتاليا للنساء في جهة تحت الربع بباب الخلق في القرن ١٨م.

وكذلك أقام المماليك دورًا لرعاية المكفوفين وأخرى للأيتام. وكل هذه المؤسسات تحتاج إلى ميزانية كبيرة كانت تدبر بإنشاء وقفيات أميرية وأهلية للإنفاق عليها. ويذكر العالم «جومار»٤٧ من علماء الحملة الفرنسية أن إعانات المستشفيات ودور المكفوفين والأيتام وطلبة الأزهر قد بلغت ١٥٤ ألف أردب شعير — ربما يقصد حبوب طحين الخبز — وكمية أخرى من الأرز والعسل من الميري عام ١٧٩٨، فضلًا عن مرتبات للدراويش والمعوقين والأرامل يذكرها بالفرنك آنذاك، ولضخامة المبالغ فقد كان هناك عشرة «أفندية» يقومون بحساب المعاشات والنفقات المذكورة باعتبارها مصروفات عامة.

وفي عهد محمد علي دخل ميدانَ الصحة تدريسُ الطب؛ بإنشاء مدرسة للطب تنقلَّت في أماكن مختلفة قبل أن تستقر في قصر العيني، وتلاه بطبيعة الحال منشآت صحية أخرى ظلت تنمو وتتخصص في العهود التالية. ويكتب علي مبارك أن بالقاهرة في ١٨٨٢ خمس مستشفيات على رأسها قصر العيني المجهز ﺑ ١١٥٠ سريرًا، ومستشفى الأمراض العقلية في العباسية، ومستشفى أوروبي في العباسية، وآخر في حي الإسماعيلية، والخامس مستشفى اليهود في حارة اليهود.

وكانت الأجزاخانات — الصيدليات — مرتبطة بالمارستان أو المستشفى، وما زال ببعض المستشفيات أجزاخانة خاصة يسميها علي مبارك: الأجزاخانة الميري، مثل: قصر العيني، ولكن منذ فترة محمد علي انتشر نمط الأجزاخانة الخاصة، وأصبح عددها في ١٨٨٣ أربعة وأربعون أجزاخانة، ١٩ منها في وسط البلد — كلوت بك والعتبة والموسكي — والباقي موزعة على الأحياء الأخرى من المدينة.

الحمامات العامة

الحمامات جزء مهم من الصحة العامة، وضرورة في البلاد الحارة، ويذكر المقريزي أن بالقاهرة ٤٥ حمامًا؛ منها ١٢ في العصر الفاطمي، وستة حمامات في العصر الأيوبي، و٢٢ في عصر المماليك. وقد أحصى جومار مائة حمام عام بالقاهرة وإن كان قد عد ٩١ منهم فقط، موزعة على أحياء القاهرة المختلفة، نقصت إلى ٥٥ حمامًا في أواخر ق١٩؛ وذلك نظرًا لوصول مياه المواسير لبعض الأحياء، وبالتالي وجود الحمامات الخاصة داخل البيوت كنمط جديد سهل التداول. وهذا لا ينفي وجود الحمامات الخاصة داخل البيوت الكبيرة في كل العصور.

وهناك حمامات متخصصة للرجال أو النساء، لكن هناك أيضًا حمامات يتبادل فيها الجنسين أيام أو ساعات العمل، وغالب الحمامات تستخدم البخار، وبها مغطس مياه ساخنة. وتضم بعض الحمامات الفاخرة متخصصين في التدليك وتليين المفاصل، وهو ما يستدعي فترة طويلة يرتاح فيها الزبائن بعد أنواع «المساج» المتعددة في غرف مؤثثة مع تقديم القهوة كشراب منشط، ومثل هذا قريب الشبه بالمؤسسات الصحية الدارجة حاليًّا باسم: «نوادي الصحة». وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الحمامات يؤمُّها الأغنياء فقط، وتستغرق طقوسها بضع ساعات تمامًا كما هو الحال الآن، ولكن غالبية الحمامات الأخرى لا تقدم إلا المغطس، وتدليك سريع يقوم به «المكيساتي» بقفاز — كيس — خشن لإزالة العرق وتفتيح المسام.

الأسبلة والكتاتيب

في القاهرة ذات متوسط الحرارة العالي معظم السنة يحتاج الأمر إلى إقامة أسبلة — جمع سبيل — لتقديم الماء مجانًا للسابلة العطشى، والغالب أنها «سبيل ماء لله»، ومن ثم انتشرت إقامتها بين القادرين من الناس والأمراء. وواجهة السبيل غالبًا يتفنن فيها صانع المشغولات المعدنية، وتعلم البناء، ووراءها في داخل البناء حوض كبير يختزن فيه الماء، وفي آخر القرن ١٨ كان بالقاهرة نحو ٢٤٥ سبيلًا، ٦٤ منها ذات بناء فاخر، ونقص العدد إلى ٢٠٠ سبيل في كتابات علي مبارك؛ أيضًا نتيجة تمديدات المياه الجديدة في الأنابيب.

وفي أغلب الأحيان يوجد كتاب فوق السبيل؛ لتحفيظ القرآن، وتعليم القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب، ويعجب كتَّابُ «وصف مصر» الفرنسيون بطريقة التعليم الجماعي في الكتاتيب واستخدام اللوح والطباشير مقابل منهج التعليم الفردي المتبع في فرنسا وكثرة استخدام الورق. كما أن أجر معلم الكتاب كان على قدر الأسر وليس ثابتًا، مما كان يسمح بديمقراطية التعليم بدون تمييز لأبناء أسر غنية أو فقيرة. وكان في القاهرة آنذاك ٣٤ كتَّابًا فضلًا عن مدارس أولية للمسيحيين لا تبتعد كثيرًا عن منهج التدريس السائد. ولكننا الآن قد بعدنا عن التعليم الجماعي، وربما كان هذا سببًا في الضعف اللغوي الملحوظ، وليس هذا بدعوة إلى نظام الكتاتيب، لكنه آن الأوان أن نقف برهة لتكييف نظام التعليم مع المستحدثات الجديدة، وبخاصة الكمبيوتر، مع المحافظة على سلامة اللغة؛ لأنها الوسيلة الوحيدة للتعلم والتفاهم والتقاضي والأدب، وكل شيء يقع في الحياة بماضيها وحاضرها.

(٣-٧) القاهرة منذ إسماعيل

اختلفت القاهرة أيام الخديو إسماعيل كثيرًا عما سبق من أنماط. صحيح أن مقدمات الاختلاف ترجع إلى عصر محمد علي وإبراهيم ببناء قصور: شبرا والقبة والقصر العالي (قصر الدوبارة)، وأيام عباس حلمي الأول: العباسية، وسعيد: شبرا، ولكن الدفعة الكبرى كانت في عصر إسماعيل، وكانت هناك أسباب كثيرة نذكر من أهمها ما يلي:٤٨
  • (١)

    انتقال إسماعيل من القلعة إلى قصر عابدين، وهو تغير مرتبط بأفكار إسماعيل التحديثية للانتقال من نمط الدولة الشرقية إلى نمط الدولة الغربية، أي خروج الحكم من الحصن المغلق إلى الملأ المفتوح المتفاعل مع المدينة.

  • (٢)
    مع انتقال الحكم إلى عابدين حدثت طفرة عمرانية في القسم الغربي من المدينة بدلًا من التزاحم الكثيف في القسم الشرقي، كما أسلفنا في الفصل الأول من هذا الكتاب.
  • (٣)

    زاد إسماعيل النمو الغربي للقاهرة بتخطيطِ وبناءِ حيٍّ جديد متكامل سمي: الإسماعيلية، وهو وسط البلد الآن، وتلاه توفيق بحي التوفيقية إلى الشمال من الإسماعيلية. وحيث إن الإسماعيلية قد بُنيت على الطراز الغربي، فقد أصبح لدينا في القاهرة طرازان من العمران والمعمار: الشرقي القديم والغربي الحديث، واستمرت هذه الازدواجية فترة طويلة، لكن المعمار الحديث كانت له الغلبة في نهاية المطاف، وذلك لمقتضيات الحياة العصرية.

  • (٤)

    مما لا شك فيه أن تحسن الأحوال المالية المصرية، وبخاصة سوق القطن المصري في العالم الخارجي بعد اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية وتدهور صادراتها القطنية فترة لا بأس بها، قد أعطى إحساسًا ملموسًا بالرخاء العام في مصر، ويضاف إلى ذلك تدرج عائدات مصر من مرور السفن في قناة السويس.

وهذه كلها أسباب أدَّت إلى طفرة كبيرة في تعمير غرب القاهرة من الإسماعيلية والتوفيقية شمالًا إلى حي الدواوين حول لاظ أوغلي وقصور المنيرة جنوبًا في نظام شبكيٍّ واضح المعالم، ونمط حياتيٍّ أخذ في الاختلاف عن النمط التقليدي كما نراه من الشكل التالي:

محلات ودكاكين القاهرة ١٨٨٣ بالقسم

شكل ٣-٧
يتضح من الشكل (٣-٧) أن محلات القاهرة ودكاكينها قد اتخذت طابعًا مكانيًّا مزدوجًا ما زال مستمرًّا حتى اليوم. ففي القاهرة الفاطمية تتركز محلات الأقمشة والمنسوجات في الجمالية والدرب الأحمر والقليل في بولاق؛ ميناء القاهرة القديم، وتزداد أعداد محلات العطارة في الدرب الأحمر وباب الشعرية والجمالية، وبالرغم من انتشار نمط المقاهي في كل الأقسام كضرورة ترويحية لالتقاء الرجال في الأمسيات، مع إجراء بعض أعمال وعقود عمل، فإننا نلاحظ زيادة أعداد المقاهي في الأحياء الغربية من القاهرة، وبخاصة في الأزبكية كنمط غربيٍّ لشرب القهوة وإجراء الأعمال، بينما المقهى في الأحياء الأخرى هو مشرب لكل المشروبات من القهوة إلى التمر هندي والكركديه، وما أشبه ذلك مع وجود الشيشة لتدخين التنباك بأنواعه العجمي والحمي … إلخ. وتزيد الفروق بين شرق وغرب القاهرة بالتركيز الشديد للحانات — الخمارات — في الأزبكية، وندرتها في الأحياء القاهرية الأصيلة، والمزيد من قراءة الشكل سوف يعطي الكثير.
ومنذ ذلك التاريخ والقاهرة تزداد سكانًا؛ لتركيز مغالًى فيه للمنشآت الخدمية والصناعية والتجارية فيها من ناحية، ونتيجة تحولها مرة أخرى إلى مركز ثقافيٍّ وسياسيٍّ عربيٍّ، وبخاصة منذ تحول مصر إلى النظام الجمهوريِّ الرئاسيِّ، وهو ما سبق تفصيله في الفصلين الأول والثاني.

(٣-٨) بنية القاهرة الحالية

وتوضح الخريطة ٣-٨ بنية القاهرة عام ١٩٦٦ حيث نمو القاهرة قد انطلق من معطيات ما بعد عصر إسماعيل؛ ليشكل جوهر القاهرة الحالية.٤٩ والقراءة المتأنية للخريطة تشير إلى واقعٍ ملموس بعد نحو ٣٠ سنة من رسمها، يمكن تلخيصها كالآتي:
  • (١)

    اتجاهات نمو القاهرة ثابتة في كل الاتجاهات التي أشار إليها «بونسيه»، بل زاد تسارعها بإنشاء مجموعة الطرق والأوتوسترادات حول القاهرة؛ الدائري، والطرق المحورية؛ الإسماعيلية والسويس والعين السخنة وحلوان و٦ أكتوبر، وكلها مجالات تغري بتحول الأرض من البيئة الصحراوية والزراعية إلى تعمير عقاري سكني. وزاد الأمر أن وزارة التعمير منذ الثمانينيات اعتمدت بناء مدن جديدة قريبة من القاهرة؛ مما جعلها في الحقيقة امتدادًا للقاهرة على طول محاور الطرق. وفضلًا عن ذلك تراخي الإدارة عن مقاومة ضغوط العمران العشوائي والطفيلي إلى أن استفحلت مشكلاتها بطريقة أفقدت الطرق المحورية والدائرية وظيفتها التي بنيت من أجلها كخطوط حركة لا تعوقها أشكال العمران القاهري الكثيف.

  • (٢)

    مناطق السكن المتدهور التي أشارت إليها الخريطة، هي بعينها نوايات مناطق العشوائيات الحالية في: شبرا الخيمة والساحل والمطرية وعين شمس والشرابية وشرق القاهرة ومصر القديمة.

    fig38
    شكل ٣-٨: بنية القاهرة ١٩٦٦.
    ودار السلام وإمبابة وبولاق الدكرور، وكلها نمت إلى العشوائيات الحالية حول القاهرة كما أسلفنا في الفصل الثاني.
  • (٣)

    ما زال السكن الكثيف في شمال القاهرة المركزية من بولاق وشبرا إلى العباسية وحدائق القبة في مرحلة التخلخل؛ بل إن منطقة بولاق وروض الفرج قد تخلخلت بصورة جذرية، وحلت العمائر والمنشآت التجارية والمالية والفندقية محلها على طول واجهتها النيلية، وعلى محور شارع الجلاء.

  • (٤)

    وأخيرًا فإن عمران القاهرة المركزية في قسمها الشرقي من السيدة زينب والخليفة في الجنوب، إلى الجمالية والفجالة وشبرا في الشمال قد بدأت فيه أعمال إعادة البناء محل البيوت القديمة والآيلة للسقوط، وهي التي يشير إليها «بونسيه» برمز: «تطوير البناء في عقارات موروثة قديمة».

(٣-٩) أعداء القاهرة

خلاصة هذا الفصل أن نمو القاهرة لم يكن يسير مطردًا في كل العصور، بل كانت هناك فترات تراجع أو توقف عن النمو لأسباب كثيرة، بعضها الآتي:
  • (١)

    الأوضاع السياسية بين كونها عاصمة لدولة مستقلة أو إقليم تابع، وأكثر النماذج وضوحًا في النمو والازدهار كان في عصور الدولة الفاطمية ودولة المماليك ومحمد علي وإسماعيل. الدولة الأيوبية كانت فترة مجيدة لكنها كانت دولة حرب امتصت الكثير من عوامل النمو المالية، بينما استقرت دولة الفاطميين والمماليك في الحكم قرونًا طويلة مكَّنت من مواجهة الأزمات بتحسينات وإصلاحات. أما زمن إسماعيل فقد كان القفزة العمرانية لازدهار سابق في عهد جدِّه محمد علي، تم من خلالها إنشاء القاهرة الجديدة مقابل التقليدية، ونمو القاهرة بعد إسماعيل وحتى الآن هو استمرارية بقوة القصور الذاتي، واندفاع الهجرة الريفية إليها دون مواجهة حقيقية لأسبابها الديموجرافية والاقتصادية والإدارية.

  • (٢)

    فقدان الأمن الداخلي كان سببًا في إعاقة نمو القاهرة، ونموذج ذلك الاضطرابات المميتة بين طوائف العسكر من ترك وسودان التي أدت إلى اضمحلال دولة الفاطميين، أو تناحر المماليك في أواخر العصر العثماني، وأخيرًا صراع العسكر المصريين والترك في ثورة عرابي، والتغيير الطبقي الذي أحدثته «ثورة ١٩٥٢» العسكرية.

  • (٣)

    وفي الجوانب الاقتصادية والصحية: كثرة المجاعات وتوطن الأوبئة كانت من بين أسباب مهمة في كبح النمو السكني والسكاني للقاهرة خلال عصور طويلة، وقد تمت سيطرة شبه كاملة على أسباب المجاعة والأمراض، ولكن الجوانب الاقتصادية تتأثر كثيرًا بإنفاقات الدولة على مشروعات عسكرية واقتصادية أكبر من الطاقات المصرية منذ عصر محمد علي؛ مما يؤدي إلى مزيد من الهجرة الداخلية إلى القاهرة فيزيد نموها الكمي سكانًا ومساحة، ويزيد من تكتل السكان المحرومين في أحياء طفيلية عشوائية.

جدول : ثبت تاريخي.
السنة الهجرية السنة الميلادية ملاحظات
١ ٦٢٢ هجرة الرسول إلى المدينة
٢١ ٦٤١ فتح مصر – جامع عمرو ٢٣ﻫ
٢٥ ٦٤٥ الفسطاط ٢٣ﻫ
٣٠ ٦٥٠
٣٥ ٦٥٥ ولاية عمرو الثانية ٣٨–٤٣ﻫ
٦٥ ٦٨٥ عبد العزيز بن مروان ٦٨٥–٧٠٥
٩٥ ٧١٤ مقياس النيل الأول ٩٨–٧١٧
١٢٥ ٧٤٤ ٧٤٢ — إنشاء العسكر ١٢٣ﻫ
٢٤٥ ٨٥٩ ٨٦١ — مقياس النيل الثاني ٢٤٧ﻫ
٢٥٤ ٨٦٨ نهاية عصر الولاة
٢٥٤ ٨٦٨ أحمد بن طولون
٢٦٠ ٨٧٣ القطائع والقصور ٢٥٦ﻫ/٨٧٠
٢٦٥ ٨٧٨ ن ٢٦٢–٢٦٥ / ٨٧٦
٢٧٠ ٨٨٣ خمارويه بن طولون
٢٧٥ ٨٨٨
٢٨٠ ٨٩٣
٢٨٥ ٨٩٨ جيش بن خماوريه ٨٩٥
٢٩٠ ٩٠٢ هارون ٨٩٦
٢٩٢ ٩٠٤ شيبان ونهاية الطولونيين
٢٩٥ ٩٠٧ ولاة عباسيون
٣٠٠ ٩١٢ ثلاثة عشر واليًا ٢٩٥–٣٢٣ﻫ
٣١٠ ٩٢٢
٣٢٠ ٩٣٢
٣٢٣ ٩٣٤ محمد الإخشيد
٣٣٥ ٩٤٦ أنوجور بن الإخشيد
٣٤٩ ٩٦٠ علي بن الإخشيد ن٢٤٦ﻫ
٣٥٦ ٩٦٦ أبو المسك كافور بستان كافور
٣٥٨ ٩٦٨ أحمد بن علي نهاية الإخشيد
٣٥٨ ٩٦٩ جوهر وبداية الفاطميين
٣٦٠ ٩٧٠ المعز لدين الله القاهرة ٩٦٩
٣٦٥ ٩٧٥ العزيز بالله الأزهر ٩٧٠
٣٧٠ ٩٨٠
٣٧٥ ٩٨٥
٣٨٠ ٩٩٠
٣٨٦ ٩٩٦ الحاكم بأمر الله ج. الحاكم ٤٠٢
٣٩٠ ٩٩٩ ج. راشدة ٣٩٣
٤٠٠ ١٠٠٩
٤١٠ ١٠١٩
٤١١ ١٠٢٠ الظاهر
٤٢٠ ١٠٢٩
٤٢٧ ١٠٣٦ المستنصر
٤٣٠ ١٠٣٨
٤٤٠ ١٠٤٨
٤٥٠ ١٠٥٨
٤٦٠ ١٠٦٧ سور بدر الجمالي ٤٧٨ + ج. الجيوشي
٤٨٠ ١٠٨٧ باب زويلة ٤٨٠
٤٨٧ ١٠٩٤ المستعلي
٤٩٥ ١١٠١ الآمر ج. الأقمر ٥١٩
٥٥٥ ١١٦٠ الحافظ إلى العاضد ونهاية الفاطميين
٥٦٥ ١١٦٩ صلاح الدين الأيوبيون
٥٧٥ ١١٧٩ ن ٥٧٣ﻫ / ١١٧٧
٥٨٥ ١١٨٩
٥٨٩ ١١٩٣ العزيز بالله
٥٩٥ ١١٩٨ المنصور
٥٩٦ ١١٩٩ العادل
٦١٥ ١٢١٨ الكامل
٦٢٥ ١٢٢٧ أحياء ج. الإمام الشافعي ٦١٧ﻫ
٦٣٥ ١٢٣٧ العادل ٢
٦٣٧ ١٢٣٩ الصالح قلعة الروضة
٦٤٦ ١٢٤٨ توران شاه – معركة المنصورة
٦٤٨ ١٢٥٠ نهاية الأيوبيين
٦٤٨ ١٢٥٠ أيبك – شجرة الدر بداية المماليك
٦٥٧ ١٢٥٨ معركة عين جالوت – قطز
٦٥٨ ١٢٥٩ بيبرس الأول
٦٦٦ ١٢٦٧
٦٧٦ ١٢٧٧ سلاميش – بركة خان
٦٧٩ ١٢٨٠ المنصور قلاوون إنشاء بيمارستان قلاوون ٦٨٤
٦٨٩ ١٢٩٠ الأشرف بن قلاوون
٦٩٣ ١٢٩٣ الناصر محمد بن قلاوون سلطنة قلاوون (١)
٦٩٦ ١٢٩٦ لاجين أحياء جامع ابن طولون ٦٩٦
٦٩٨ ١٢٩٨ الناصر محمد بن قلاوون قلاوون (٢) ترميم الأزهر
٧٠٨ ١٣٠٨ بيبرس الجاشنكير
٧٠٩ ١٣٠٩ السلطنة الثالثة — الناصر محمد بن قلاوون وحفر الخليج الناصري ٧١٣
٧٤١ ١٣٤١ أبو بكر – كجك – أحمد – إسماعيل … إلخ
٧٤٨ ١٣٤٧ الناصر حسن (١)
٧٥٢ ١٣٥١ صالح بن ناصر
٧٥٥ ١٣٥٤ الناصر حسن (٢) جامع السلطان حسن ٧٥٧ﻫ / ١٢٥٦
٦٧٢ ١٣٦١ أحفاد الناصر محمد
٧٨٧ ١٣٨٢ برقوق – بداية المماليك الشراكسة
٧٩٥ ١٣٩٢
٨٠٢ ١٣٩٩ فرج بن برقوق (١) وبناء خانقاه برقوق ٨٠٢
٨٠٨ ١٤٠٥ عبد العزيز بن برقوق
٨٠٩ ١٤٠٥ ٢ — فرج بن برقوق
٨١٥ ١٤١٢ المؤيد شيخ بيمارستان ٨١٨
٨٢٥ ١٤٢٢ الأشرف برسباي
٨٣٥ ١٤٣١
٨٤٢ ١٤٣٨ الظاهر جقمق
٨٥٧ ١٤٥٣ عثمان جقمق – إينال
٨٦٥ ١٤٦١ أحمد إينال – خوشقدم … إلخ
٨٧٣ ١٤٦٨ الأشرف قايتباي جامع وخانقاه قايتباي ٨٧٩
٩٠٢ ١٤٩٦ محمد – قانصوه – جانبو لاد … إلخ
٩٠٧ ١٥٠١ قانصوه الغوري – جامع ومدرسة ووكالة الغوري
٩١٧ ١٥١١
٩٢٣ ١٥١٧ طومانباي – نهاية المماليك وبداية الحكم العثماني
٩٨٠ ١٥٧٢ سنان باشا
١١٩١ ١٧٧٦ وفاة عبد الرحمن كتخدا
١١٨٢ ١٧٦٩ علي بك يستقل حتى ١٧٧٣
١٢١٣ ١٧٩٨ الفرنسيون حتى ١٨٠١
١٢٢٠ ١٨٠٥ محمد علي حتى ١٨٤٨
١٢٧٩ ١٨٦٣ إسماعيل حتى ١٨٧٩
١٣٧١ ١٩٥٢ نهاية الملكية وبدء الجمهورية
١  تعود مستوطنات العصر الحجري القديم إلى أكثر من ٢٠ ألف سنة، أما مستوطنات النيوليتي عند مصبات الأودية كحضارات مرمدة بني سلامة والعمري والمعادي فهي بدايات الزراعة، وتعود إلى نحو ٥٠٠٠ سنة و٤١٠٠ سنة و٣٥٠٠ سنة قبل الميلاد على التوالي، والأغلب أن السكان مارسوا الزراعة وتربية الحيوان، وعرفوا صناعة صهر النحاس في المعادي.
٢  K.Butzer, “Environment and Archaeology” 1966 (2nd ed. Chicago 1971) in B.Watterson, “The Egyptians”, Blackwell, Oxford 1997, p.42.
٣  استمرت منف عاصمة مصر منذ ٣٢٠٠ إلى ٢١٨٠ق.م، وهي فترة الدولة القديمة التي تميزت ببناء الأهرامات من سقارة إلى الجيزة وما بينهما، وبعدهما شمالًا إلى أبو رواش وجنوبًا إلى اللاهون.
٤  برغم مرور أكثر من ٣٠٠٠ سنة بين نهاية منف كعاصمة وكتابات المقريزي، فإن ذكرى وجودها وبقائها ظلت تتواصل إلى أن كتب عنها المقريزي (جزء ١ من «الخطط» طبعة مكتبة إحياء علوم الدين — لبنان، ص٢٣٦-٢٣٧): «… يروى أن مدينة منف كانت قناطر وجسورًا بتدبير وتقدير؛ حتى إن الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه كيف شاءوا ويرسلونه كيف شاءوا … وأن بعض بني يافث بن نوح عمل آلة تحمل الماء حتى تلقيه إلى أعلى سور مدينة منف، وذلك أنه جعلها درجًا مجوفة كلما وصل الماء إلى درجة امتلأت الأخرى حتى يصعد الماء إلى أعلى السور، ثم ينحط فيدخل جميع بيوت المدينة، ثم يخرج من موضع لخارجها.»
٥  الأغلب أن أون نشأت قبل منف كمركز عبادة إله الشمس رع والنظريات الدينية في الخلق، وإلى هذه المدرسة العلمية يرجع استخدام المصريين للسنة الشمسية بديلًا للسنة القمرية، وتقسيمها إلى ١٢ شهرًا و٥ أيام نسيء.
٦  زار هيرودوت أيضًا مدرسة معبد الإله بتاح، إله منف، حيث كانت هنا أيضًا مدرسة للعلوم والفنون، بحيث كان الكاهن الأكبر في منف يسمى: رئيس الفنون. الاسم المصري القديم لمنف هو «السور الأبيض Inb Hd نسبة إلى سور المدينة الذي رأى هيرودوت أنه بُنيَ فترةَ الملك زوسر؛ لحماية المدينة من فيضان النيل العالي، لأن النيل كان يسير إلى جوار منف في تلك الفترة. أما الاسم المصري القديم لهليوبوليس فهو Iunu غالبًا مرتبطة بالعين، ومن ثم تسميتها الحالية «عين شمس» والتي تيمنت باسمها جامعة عين شمس كأنها تواصل لعطاء الجامعة التاريخية.
٧  «خطط المقريزي» جزء ١ طبعة مكتبة إحياء علوم الدين، الشياح لبنان ص٤٠٠–٤٠٢.
٨  «ملامح ثروة مصر الأثرية والسياحية» نشر المجالس القومية المتخصصة — القاهرة ١٩٩٣، ص٣١٩-٣٢٠.
٩  من المعروف أن جيش عمرو بن العاص كان يتكون في مجمله من عرب اليمن وحضرموت، وهي مجموعات تجيد فنون الملاحة البحرية، إلا أن الذي كان يشغل بال الخليفة عمر هو استمرارية الفتوح الإسلامية غرب وجنوب مصر وليس التوقف، وبقاء أسطول لمنازلة الأسطول الروماني المدرب على ارتياد البحر المتوسط والملاحة فيه، وهو الشيء الذي يجهله عرب الجنوب في ذلك الوقت.
١٠  هل كانت بابل قاعدة الحكم الفارسية في مصر؟ سؤال يحتاج إلى مراجعة تاريخية.
١١  ما زال سكان الواحات المصرية يطلقون اسم «القصر» على القرية الواحية القديمة المحصنة بالسور وأبواب الحارات، ونظرًا لاستمرارية سكن نفس المكان قرونًا متعاقبة أصبحت هذه القرى مرتفعة عن الأرض حولها؛ لكثرة البناء فوق أنقاض البناء السابق، والاسم الذي يطلقه سكان سيوه على القرية القديمة هو «شاليا» أو شالياه بلغة سيوه البربرية الأصل.
١٢  يرى بعض الباحثين الألمان أن «كمي» هي الأصل الذي اشتق منه اسم الكيمياء، بمعنى الفن الأسود في العصور الوسطى. راجع: إرمان ورانكه «مصر والحياة المصرية في العصور القديمة» ترجمة عبد المنعم أبو بكر ومحرم كمال نشر الإدارة الثقافية لوزارة المعارف المصرية — مكتبة النهضة المصرية — بدون تاريخ (ربما في أوائل الخمسينيات) ص٣.
١٣  علي بهجت «قاموس الأمكنة والبقاع التي يرد ذكرها في كتب الفتوح»، شركة طبع الكتب العربية، القاهرة ١٩٠٦ ص٣٢.
١٤  محمد رمزي «الجغرافية التاريخية لمدينة القاهرة» مجلة العلوم السنة التاسعة مجلد ٥ ص٦٤٨ — نقلًا عن كتاب شحاتة عيسى إبراهيم «القاهرة» سلسلة الألف كتاب رقم ١٨٤ طبعة دار الهلال بدون تاريخ (غالبًا في آخر الخمسينيات).
١٥  انظر الخريطة (٣-٢) المنقولة عن S. Denoix, “Decrire Le Caire Fustat-Misr” Institut Francais. وهي نقلًا عن علي بهجت التي رسمها بالاستعانة بما ورد عن الفسطاط في D’Archeologie Orientale du Caire, 1992. كتابات ابن دقماق عن مصر.
١٦  راجع: عبد العال الشامي «مدن مصر وقراها عند ياقوت الحموي» الكويت ١٩٨١ ص٥٢، وكذلك شحاته عيسى إبراهيم، مرجع سابق، ص٢٢-٢٣، عن ناصري خسرو «سفرنامه».
١٧  أبو عبيد البكري «جغرافية مصر من كتاب الممالك والمسالك» تحقيق عبد الله يوسف الغنيم، مكتبة دار العروبة للنشر، الكويت ص٥٦-٥٧، والقيسارية مصطلح شائع على الأسواق في الصعيد حتى اليوم، وربما كان اشتقاقًا عن القيصر أو الحاكم الروماني.
١٨  في وصف ناصري خسرو، وهو من أحسن من كتب بدقة عن مصر الفسطاط ومصر القاهرة يشوبها بعض المغالاة، أنه كان هناك في المدينتين ٥٢ ألف جمل تعمل في نقل قرب الماء للسكان. [فكم كان عدد السقايين؟]
١٩  ابن حوقل (أبو القاسم بن حوقل النصيبي) «صورة الأرض»، دار مكتبة الحياة، بيروت ١٩٧٩ ص١٣٧.
٢٠  علي مبارك «الخطط التوفيقية» جزء ١ ص٤٠، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة ١٩٨٠.
٢١  يذكر ابن بطوطة بعد نحو ثلاثة قرون من ناصري خسرو أن بالقاهرة ١٢ ألف سقاء على الجمال و٣٠ ألف مكاري (يؤجرون حميرهم)، «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» المكتبة التجارية، القاهرة، ١٩٥٨ جزء أول ص١٩.
٢٢  ابن بطوطة، مرجع سابق، ص٢١.
٢٣  لا شك أن الحركة الملاحية في الخليج بين الفسطاط والقلزم — السويس — كانت تتأثر بموسم الفيضان الذي يمتلئ فيه الخليج، وتقل المياه كثيرًا وقت انخفاض النيل. كما أنه كان أيضًا يتأثر بالإطماء وسفي الرمال، مما كان يحتاج معه إلى رعاية مستمرة لم تكن متوافرة في كل العهود؛ فهي رعاية كاملة زمن الاستقرار والازدهار، وإهمال تام وقت الاضطرابات الداخلية والركود الاقتصادي.
٢٤  ابن بطوطة — مرجع سابق، ص١٩.
٢٥  حفر الناصر محمد بن قلاوون خليجًا من منطقة ما قرب باب اللوق أو التحرير الحالية يتصل بمسار الخليج المصري ربما عند العتبة أو الظاهر، ولأن مأخذ هذا الخليج هو من النيل في مساره العريض؛ فقد كان أفضل من مأخذ الخليج المصري في سيالة الروضة، فضلًا عن أنه ربما كان أدنى بقرابة المتر، ولأنه مسار أقصر فقد كان جريان الماء فيه مباشرًا، وأكثر استمرارًا من المأخذ الأول.
٢٦  علي بهجت «قاموس الأمكنة والبقاع التي يرد ذكرها في كتب الفتوح» القاهرة ١٩٠٦ ص١٠٥-١٠٦.
٢٧  لم نستطع التعرف على من هو الطبيب ابن رضوان سوى أنه كان في مصر على الأقل في فترة ما بعد الطولونيين؛ لأنه يذكر جامع ابن طولون، والنص هو عن علي مبارك الجزء الأول ص٣٤. كما ورد ذكر ابن رضوان في كتابات هوفماير في العشرينيات من القرن ٢٠، ونقلها عنه كليرجيه في كتابه الكبير عن القاهرة طبعة القاهرة ١٩٣٤.
٢٨  المقريزي: «الخطط» الجزء الأول ص٢٢١-٢٢٢ طبعة الشياح — لبنان المذكورة سابقًا. كذلك انظر: خريطة ٣-٢.
٢٩  كانت الضرائب — الخراج — في عهد الدولة الطولونية قد بلغ أكثر من أربعة ملايين دينار سنويًّا، وبلغ ما أرسله ابن طولون للخليفة العباسي نحو مليوني دينار في أربع سنوات؛ أي بواقع نصف مليون دينار سنويًّا. الأرقام عن «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي نقلًا عن شحاته عيسى إبراهيم، مرجع سبق ذكره، ص٤٦.
٣٠  تمثل أفراح زواج «قطر الندى» بنت خمارويه للخليفة العباسي شاهدًا على الغنى والبذخ المفرط الذي بلغته مصر فترة الطولونيين. كما يمثل الْتجاء المتنبي، شاعر العربية الكبير، إلى كافور؛ طمعًا في عطايا ضخمة، دليلًا على غنى مصر ووفرتها خلال فترة الإخشيديين.
٣١  الهكسوس والآشوريون والبابليون والفرس والإسكندر وعمرو بن العاص والعثمانيون كلهم جاءوا من الشرق عبر سيناء، بينما جاء الرومان والفاطميون وبعض الصليبيين ونابليون والإنجليز من الغرب، والملاحظة الأساسية أن بعض الغزوات القادمة من الشرق كانت هي الأطول حكمًا، وتركت بصمات أكثر — إيجابية وسلبية معًا — على حضارة ومكونات الشعب المصري، ومعتقداته وديانته من تلك الغزوات التي وفدت من الغرب، ونستثني من ذلك الفاطميين الذين أثروا حضارة القاهرة بعناصر ما زالت قائمة، كما أن الحملة الفرنسية فتحت مصر أمام الحضارة الغربية.
٣٢  جاء المعز إلى الإسكندرية، وركب النيل إلى الجيزة، وعبره على جسر عائم أقامه جوهر عام ٩٧٢م يؤدي إلى شمال جزيرة الروضة؛ وبذلك تجنب المرور في الفسطاط التي كان أهلها قد استعدوا للترحيب به، وقد دخل المعز القاهرة من باب القوس.
٣٣  عند إعادة بناء سور القاهرة بواسطة الوزير بدر الجمالي في أواخر العصر الفاطمي توسعت القاهرة عما كانت عليه، وبُني باب واحد في الجنوب أطلق عليه باب زويلة، وهو مشهور عند العامة باسم: بوابة المتولي.
٣٤  بدأ ابن حوقل رحلته من بغداد ٩٤٢ وعاد إليها نحو ٩٧٥ بعد أن طوَّف بالعالم الإسلامي من الهند إلى الأندلس، ولا بد أنه قد زار في تونس مملكة الفاطميين الأولى. ويرى بعض المستشرقين أنه كان داعية سياسية؛ إما للفاطميين أو العباسيين، وربما كان ابن حوقل قد انفعل بزياراته للعالم الإسلامي، وهاله ألا يكون موحَّدًا سياسيًّا.
٣٥  ربما كانت كتابات ابن سليم الوحيدة التي وصفت جغرافية وشعوب السودان والنوبة ولكنها لم تصل إلينا كاملة، بل أجزاء منها في كتابات مؤلفين لاحقين، والذي يهمنا هنا هو أن جوهر كان يهتم بجمع بيانات عن إقليم السودان لأهميته التجارية لمصر، وبخاصة الدور الذي كان يقوم به النوبيون في تجارة الرقيق الجنوبي. فهل فكر جوهر في بسط النفوذ الفاطمي على الجنوب؟ أم شغله هجوم القرامطة على الشام، واستنفد جهده في الإبقاء على الشام كإقليم له أهميته الإستراتيجية والسياسية بالنسبة لمصر والمذهب الفاطمي، بينما كان الجنوب لا يشكل مثل هذه المخاطر على الدولة الفاطمية؟
٣٦  ما زال هذا الاسم مستخدمًا بتحريف إلى «بين الصورين» في المنطقة الممتدة من باب الشعرية إلى تقاطع شارعي السكة الجديدة وبورسعيد، وهي منطقة تجارة جملة لبعض الأغذية منذ فترة طويلة، لكنها تحولت الآن إلى أسواق لسلع كثيرة منها آلات كهربية وحبال وخراطيم … إلخ.
٣٧  لشدة حزم بهاء الدين قره قوش وأخذه الظالم والمظلوم، تعرض لنقد ساخر كتبه المؤلف المصري ابن مَمَّاتي (توفي ١٢٠٩م) تحت عنوان: «الفاشوش في أحكام قره قوش».
٣٨  نقولا زيادة «الجغرافية والرحلات عند العرب» دار الكتاب اللبناني، بيروت (١٩٦٢؟) ص١٨٣.
٣٩  زار مصر عدد كبير من الجغرافيين ضمن رحلاتهم الواسعة، وبذلك لم تحظ القاهرة بالكثير من ملاحظاتهم المدونة في كتبهم، ويستثنى من ذلك المسعودي في القرن العاشر وياقوت الحموى في القرن الثاني عشر.
٤٠  ليون الأفريقي، «وصف أفريقيا» ترجمه للعربية عن الفرنسية عبد الرحمن حميدة، منشورات جامعة الإمام محمد، الرياض، ١٩٧٩ صفحات متعددة مشار إليها عند كل مقتطف.
٤١  الأشرفي هو الدينار، ويساوي ٣٫٤٧٥ جرامات ذهب.
٤٢  Rice, D. T., “Islamic Art”, Thames & Iludson, Reprint 1989,p. Also Williams, C., “Islamic Monuments in Cairo” American University in Cairo press, 4th. Edition Cairo 1993, p. 246.
٤٣  Afaf al-Sayyid-Marsot, “Egypt in the Reign of Mohammad Ali”. Cambridge University Press, Cambridge, 1984, reprint 1990.p.10. The figures are derived from A.Raymond “Artisans et commercants au Caire au XVIII siecle” Damascus 1973–74.
٤٤  الباره = قرش، هي عملة فضية صغيرة تراوح سعر صرفها إلى الدولار الأمريكي ١٢٫٦ باره عام ١٨٢٠، وارتفعت قيمة الدولار عام ١٨٣٠ إلى ما بين ١٦-١٧ باره، وفي ١٨٤٠ إلى ٢٠ باره. (ص X من المصدر السابق).
٤٥  كل من أراد المَعلَمة أو الأسطاوية عليه الحصول على شهادة معلمية على جودة صنعته، ثم يختبره شيخ الطائفة، ويعلنه معلمًا في صنعته في احتفال يحضره شيوخ طوائف أخرى. وعند المزينين والعاملين في الحمامات العامة والإسكافية تقليد، يسمى: شد الحزام، يعقده ثلاث مرات على الأقل، ويقوم بفك العقد المعلم وشيخ الطائفة وأسطوات أخر، وقد زاد القانون في أواخر ق١٩ شرط موافقة مجلس الصحة على فتح دكان مزين جديد بعد اختباره بواسطة المجلس وشيخ الطائفة؛ ذلك أن المزين في ذلك الوقت كان يقوم ببعض أعمال صحية وعلاجية محدودة وعملية ختان الصبيان. «عن علي مبارك».
٤٦  يرى جومار — أحد أبرز علماء الحملة الفرنسية في كتاب «وصف مصر» الجزء العاشر، الترجمة العربية لزهير ومنى الشايب، دار الشايب القاهرة ١٩٩٢ — أن العناية الطبية في مصر سابقة على تلك في أوروبا بمراحل، ويعتقد جومار أن الملك لويس التاسع قد شهد طرفًا من الطب المصري أثناء أسره في المنصورة، مما أوحى له بعد عودته لفرنسا بضرورة إنشاء مثل هذه المؤسسات الصحية.
٤٧  جومار المصدر السابق ص٢٠٥.
٤٨  انظر في الفصل الأول [والثاني] خرائط ١-٤ و١-٩ و٢-٨ و١-١٢ لتوضيح شكل ومخططات القاهرة منذ عصر إسماعيل.
٤٩  الخريطة نقلًا بتصرف عن مقال E. Poncet, “Notes sur I’Evolution Recent de I’Agglomeration du Caire”, Annales de Geographie. Armand Colin, Paris, LXXIX.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤