الفصل السادس

فصل في حياة القاهرة المعاصرة

(١) المشكلات العامة للمدينة١

لقد نمت مدينة القاهرة خلال السنوات الخمسين الماضية بسرعة كبيرة؛ مما أدى إلى أن تصبح مشكلات المدينة أكبر من الحلول المقدمة من هنا وهناك، وأعتقد أن هناك إجماعًا على أن أيَّ حل جذري لمشكلة مدينة القاهرة لن يتم إلا إذا اتخذت خطوات لتنفيذ خطة شاملة ذات جرأة غير معهودة.

إن القاهرة — كغيرها من مدن العالم الكبرى — تعاني من مشكلات مختلفة معقدة ومركبة، وبرغم أهمية الإفادة من الحلول والتجارب التي تتخذ في مدينة أو أخرى فإنه لا يفيد إطلاقًا حل مشكلة معينة في مدينة ما تطبيقه بكامله على مدينة أخرى تعاني المشكلة ذاتها؛ لاختلاف الأبعاد الحضارية في كلتا المدينتين مهما كانتا في دائرة قومية واحدة، ومن ثم فإنه يلزم لكل مدينة دراسة خاصة وعميقة للتعرف على جميع خصائصها المادية والمعنوية على المستويين الأفقي (المكان)، والرأسي (الزمان). كما أنه يفيد أيضًا أن نتعرف على مكان المدينة المعنية بين المجموعات التي تنقسم إليها مدن العالم؛ لأن تصنيفها يعطي الباحث ملخصًا سريعًا لخلفية المدينة الحضارية والاقتصادية، ومن ثم تتضح مؤشرات النمو والركود للمدينة.

القاهرة بين مدن العالم

تنقسم مدن العالم المعاصرة بصفة عامة من حيث المشكلات المترتبة على المكان، والتاريخ، والوظيفة الاقتصادية والسياسية، والمقومات الحضارية العامة إلى مجموعتين رئيسيتين:
  • (١)
    مدن العالم المتقدم: عبارة عن الحزام الشمالي للمدن الذي يمتد من شواطئ الأطلنطي الشمالية في أوروبا وأمريكا، وعبر الاتحاد السوفيتي إلى اليابان، ومنها إلى مدن الشاطئ الغربي لأمريكا الشمالية. وهذه في مجموعها تتميز بالحداثة النسبية عدا أوروبا الجنوبية والغربية، وبقوام العصر الصناعي حضاريًّا واقتصاديًّا.
  • (٢)
    مدن العالم النامي: ما زالت فيها كل صراعات الريف والمدينة حضاريًّا واقتصاديًّا، وتنقسم إلى حزامين:
    • (أ)

      الحزام الأوسط الممتد من البحر المتوسط في شمال أفريقيا وأطراف أوروبا الجنوبية إلى الشرق الأوسط والهند ووسط آسيا والصين وإندونيسيا.

    • (ب)

      الحزام الجنوبي ويمتد في بقية أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا.

والاختلاف الجوهري بين الحزامين الأوسط والجنوبي راجع إلى أسباب كثيرة على رأسها العمق الزمني لمدن الحزام الأوسط مقارنًا بالحداثة في مدن الحزام الجنوبي.

وفوق هذا فإن الحزام الأوسط بمكانه الجغرافي كان مركزًا لكافة الحضارات القديمة من مصر إلى الصين، ومنه انتقلت موجات حضارية إلى النطاقين الشمالي والجنوبي طوال تاريخ الإنسانية، وإليه انتقلت الموجة الحضارية الصناعية الحديثة من الحزام الشمالي، فأثارت فيه تلك الاضطرابات العنيفة الاقتصادية والمُدُنية الحالية.

وإذا صح هذا عامة على الحزام الأوسط، فإنه شديد الانطباق على الشرق الأوسط، الذي هو منتصف العقد في الحزام الأوسط، ومصدر الحضارات والديانات، وملتقى تيارات العالم القديمة والحديثة على السواء. وأهم ما يتميز به الشرق الأوسط هو النمط الواحي في الاستقرار، سواء كان ذلك في صورة الواحة المعروفة من وسط آسيا إلى الجزيرة العربية والصحراء الكبرى، أو في صورة عقود متصلة من الواحات على ضفاف الأنهار القصيرة والطويلة، وعلى رأسها النيل ودجلة والفرات وسرداريا وأموداريا — سيحون وجيحون — في صحاري آسيا الوسطى، ولندرة الأرض المنتجة في مثل هذه الظروف الواحية؛ فإن مواقع المدن كادت أن تثبت في أماكنها دون تغيير إلا في حالات شاذة. وقد ساعد ثبات الموقع على تعقد تاريخ المدينة في الشرق الأوسط؛ لطول أعمارها، ولتداخل أنماط المعمار والخطط العمرانية تداخلًا يماثل التعايش والتكيف الذي حدث في حضارة هذا الإقليم حينما استوعبت وهضمت جوانب حضارية وافدة، وأبقت على كثير من جوانب الحضارة السالفة في مُركَّب شديد التمازج.

ثنائية القاهرة

وتمثل القاهرة كل هذه الخلفية التاريخية والمكانية للمدن في الشرق الأوسط خير تمثيل، وهي إلى جانب تاريخها الطويل تعكس التطورات التي أدت إليها استقبالات عصر النهضة المصرية خلال القرن التاسع عشر، ومضمون الحضارة الصناعية خلال القرن العشرين. وقد أدت التغيرات السياسية والاقتصادية في مصر خلال الفترة من أواسط القرن اﻟ ١٩ إلى اليوم إلى نمو سريع ومستمر لقاهرة الحضارة الصناعية في إطار لم يتجاوز التجاور المكاني للقاهرة القديمة خلال الأعوام المائة الماضية؛ لهذا كانت ثنائية القاهرة واضحة، يرمز إليها وجود السوق القديمة: بازارات خان الخليلي، ومحلات التربيعة، والموسكي … إلخ، والسوق الحديثة: وسط البلد بمفهوم القاهري.

القاهرة القديمة

وبرغم التجاور المكاني فإن كل شيء في القاهرة القديمة والحديثة مختلف تمامًا؛ فخطة شوارع المدينة القديمة لا تخضع لتصنيفٍ؛ الطرق والحارات المتعرجة الضيقة المسقوفة في أحيان كثيرة تعبر عن تكيف أمثل لنهار قائظ معظم أيام السنة، معمار سكني قديم خطته الأساسية الانفتاح على الحوش الداخلي والانغلاق عن العالم الخارجي بأسوار وبوابات تعبيرًا عن نمط العائلة القديم الذي يسيطر فيه الرجال على عالم المرأة، أو «الأرباع» الضخمة التي تأوي عددًا كبيرًا من الأسر كادت أن تصبح عشائر مستقلة يربط أعضاءها التصاهر والتزاوج، وتنغلق بأسرارها عن العالم الخارجي. تقسيم مهنيٌّ لأحياء المدينة يجعل منها عوالم ميكروكوزمولوجية منفصلة عن بعضها نفسيًّا وسلوكيًّا وفنيًّا مستندة في ذلك إلى أسس نشاط اقتصادي، وممارسات حرفية مختلفة بين الحي والآخر. مركز استقطاب كبير لهذه المدينة كلها يمثله الجامع الأزهر كرمز للدين الذي يجمع الناس بصلاحياته الاجتماعية الواسعة في مواجهة القلعة كمركز للحكم.

القاهرة الحديثة

أما القاهرة الحديثة، فقد تميزت بشوارع مستقيمة، وعمائر عالية، وأسواق مفتوحة، وشقق تأوي إليها أسر نووية لم يعد فيها محل للعائلة الممتدة التقليدية، ولم تعد الأحواش متنفساتِ المدينة الداخلية، بل ظهرت الحدائق كضرورة بديلة للحوش، وبذلك انهارت الانغلاقية والحمية العصبية للحارات والأحياء، وظهرت محلها روابط اجتماعية أخرى مبنية على الاختيار الحر للأفراد بدلًا من الروابط التي كانت مفروضة بحكم علاقات الدم والنسب والمهنة والجوار.

ولم تعد هناك أحياء ذات نشاطات اقتصادية موحدة يسكن داخلها غنيها وفقيرها جنبًا إلى جنب، بل أحياء جديدة للقاهرة الجديدة صنفت الناس تصنيفًا آليًّا على أساس قدراتهم المالية. فأصبحت هناك أحياء الفقراء والطبقة الوسطى والأغنياء، ولكل منها سمات أشد اختلافًا في كل مظاهر الحياة المادية واللامادية مما كان في أحياء المدينة القديمة، وأصبح الاستدلال على مهنة الشخص من محل سكنه أمرًا صعبًا عكس ما كان في القاهرة القديمة، بينما أصبح الاستدلال على مستوى الشخص المادي من عنوان سكنه أمرًا سهلًا في القاهرة الحديثة.٢

وحلَّت تنظيمات أخرى محل ما كان سائدًا من طوائف المهن؛ نقابات للعمال والفئات العاملة، ونوادٍ لطوائف العمل وطبقات الناس، وبعدت طبقات الناس عن بعضها البعض باختلاف مصالحها، وبعد الناس مكانيًّا وواقعيًّا من تأثيرات الاستقطاب الكبرى للأزهر بحلول الكثير من التنظيمات الاجتماعية الاقتصادية المنبعثة من حضارة العصر الصناعي، وبعد الحكم عن القلعة والقصور إلى التنظيمات السياسية والاقتصادية الحديثة المعبرة أيضًا عن ضرورات وملزمات العصر الصناعي.

غزو القاهرة القديمة

وقد ظلت ثنائية القاهرة واضحةً إلى حوالي نصف قرن مضى، وما تزال الثنائية ظاهرة في عدد من الأشكال. لكن الكثير من التغير قد طرأ على القاهرة القديمة نتيجة الغزو الحضاري الاجتماعي الاقتصادي من جانب القاهرة الحديثة. وفي الحقيقة لم تعد القاهرة القديمة تحتفظ من قدمها إلا بالشكل المادي: الطرق المتعرجة، والبيوت المتهالكة، وبعض الحرفية القديمة، إلى جانب آثارها الإسلامية الرائعة. هجرها أغنياؤها، ولم تدخلها الخدمات الحديثة إلا بأقل القليل، وبعبارة قصيرة: لم تصمد القاهرة القديمة للغزو، برغم محاولات الإحياء لمساجد أثرية وبيوت تاريخية، وسقطت إلى مجرد حي فقير من أحياء القاهرة الحديثة؛ نتيجة عدم التعادل في القوى الاقتصادية الاجتماعية بين القديم الحرفي العائلي السمة والحديث الآلي الأسري السمة. بل إن القاهرة الحديثة قد نجحت في تغيير وظيفة المدينة القيمة؛ فحولت جزءًا من المدينة القديمة لتجارة الجملة كخلفية تخدم أسواق القاهرة الجديدة.

طرق غزو القاهرة القديمة

وقد كانت أهم وسائل غزو القاهرة القديمة رأس الحربة التي شقَّت القاهرة القديمة شطرين؛ إنشاء شارع الأزهر بعد سنة ١٩٢٠ بعرض ٢٠ مترًا — بدايات لم تتم في عصر محمد علي — وقد أثار إنشاء هذا الشارع وشارع الجيش الحالي اعتراضات كثيرة آنذاك؛ لكثرة التعويضات التي بلغت ٣٠٠ ألف جنيه! وبدخول المواصلات الحديثة إلى شارع الأزهر أصبح هو المحور الأول بعد أن كان شارع الموسكي وامتداده في شارع السكة الجديدة — التي أنشأهما محمد علي بعد سنة ١٨١٥ بعرض أربعة أمتار — هو المحور الأساسي لنحو قرن من الزمان للدخول من العتبة إلى منطقة الأزهر-الجمالية. وأصبح شارع الأزهر مركزًا لتجارة الجملة، وتنافست المحال الكبيرة للحصول على واجهة تطل على هذا العالم الجديد، ولكن الحاجة المكانية الملحة أبقت على الموسكي والسكة الجديدة كشارع أعمال من الدرجة الثانية لفترة، والآن هو من أغلى شوارع القاهرة قيمة عقارية أو إجارية؛ لأنه سوق لا يُشق له غبار للسلع المتوسطة القيمة التي لا غنى عنها لغالبية سكان القاهرة من الفقراء ومتوسطي الحال.

كذلك كان لإنشاء شارع الجيش الحالي — سابقًا الأمير فاروق من العتبة إلى الحسينية — أثر كبير في تقطيع أوصال القاهرة القديمة في قسمها الشمالي؛ فصل باب البحر والفجالة والظاهر والرويعي عن الموسكي ودرب البرابرة وباب الشعرية والبيومي والحسينية. كما أدى إلى تدهور شارع الخليج — ردم سنة ١٨٩٩ — الذي كان يلتوي داخل المدينة القديمة، ولم تعد له أهميته في شبكة شرايين القاهرة الحديثة إلا بعد أن استقام هو الآخر — قدر المستطاع — والتحم بعدد من الشوارع الضيقة الموازية: درب الجماميز، شوارع الحبانية، وجامع البنات، وبين الصورين، وباب الشعرية، وشارع الشعراوي البراني … إلخ، تحت مسمَّى شارع الخليج الذي أعيد تسميته شارع بورسعيد، وأصبح محورًا مهمًّا يربط غمرة والسيدة زينب.

وكان شق شارع القلعة؛ «محمد علي» قد سبق ذلك بكثير — بدايات الطريق منذ عهد محمد علي، وتم في عهد إسماعيل — وقد أدى إلى تقطيع المدينة القديمة في الجنوب، فاصلًا بين السيدة وطولون والحلمية وعابدين وأرض شريف في جانب، وباب الوزير وسوق السلاح والخيامية وتحت الربع وسكة المناصرة في جانب آخر. لكن شارع محمد علي لم يؤد إلى النتيجة التي انتهى إليها شارع الجيش؛ ذلك أن شارع القلعة — بعد أن نزل الحكم من القلعة إلى قصور القاهرة الجديدة في عابدين والقبة — أصبح شارعًا لا يقود إلى مكان ذي أهمية في الحياة السياسية اليومية، وفضلًا عن ذلك فهو يقود إلى طريق مسدود بواسطة بروز جبل المقطم في هذا الهامش الجنوبي من القاهرة، وإلى المقابر الشاسعة في الإمام الشافعي، وإلى محاجر وتلال عين الصيرة ومصر القديمة. أما طريق الجيش؛ فقد كان يقود القاهرة إلى جبهة توسع عمراني هائلة شمالًا بشرق العباسية وحدائق القبة ومصر الجديدة، وهذا هو اتجاه التوسع العمراني الذي تحابيه مجموعة الظروف الطبيعية والبشرية في إقليم القاهرة.

القاهرة اليوم

هكذا ارتبط مصير القاهرة القديمة بالتغير الاقتصادي الاجتماعي الذي دخلته مصر منذ الربع الثاني من هذا القرن، وفي خلال السنوات الخمسين الماضية انطلقت القاهرة الجديدة انطلاقة هائلة عبر كل العوائق الطبيعية والبشرية كما يظهر من النقاط التالية:
  • (١)

    كانت وسيلة هذا الانطلاق الطرق المستقيمة الطويلة والكباري، وأقدم هذه الطرق المستقيمة شارع شبرا — شق سنة ١٨١٥ ليصل إلى قصر محمد علي. وكونت شوارع القلعة والأزهر والجيش والتحرير وقصر العيني وبولاق — ٢٦ يوليو — الشبكة الهيكلية لنمو القاهرة صوب حقول الشمال إلى شبرا الخيمة ومسطرد والمطرية، وصوب رمال الشرق إلى العباسية ومصر الجديدة ومدينة نصر، وصوب الجنوب عبر الشريط الزراعي الضيق إلى المعادي وحلوان والتبين، وصوب الغرب عبر النيل إلى الجيزة والهرم وبولاق الدكرور وإمبابة.

  • (٢)
    عدم وجود مخططات رئيسية Master Plan نافذة المفعول؛ لتجديد الأحياء القديمة مع تجديد وتوسيع شبكة الطرق والبنية الأساسية في هذه الأحياء؛ مما يؤدي إلى بقاء الخدمات القديمة على حالها مع بعض التحسين، أي دون وجود حقيقي لما يقابل النمو العمراني الجديد ذا الوحدات والطوابق السكنية الأكثر، والمحملة على بنية تحتية كانت مخصصة في الأصل لعدد من السكان ربما هو ربع العدد الحالي،٣ ومن هنا النقص الواضح في تغذية هذه الأحياء بالمياه والصرف الصحي بصفة خاصة، وهي أشياء كالمتفجرات الموقوتة داخل القاهرة. وأخطر الأشياء هو النقص الشديد في أعداد المدارس ومساحاتها وتجهيزاتها؛ لأنها هي الأخرى بنيت كَمًّا وقدرة استيعابية بالتناسب مع عدد سكان فات زمانه بنصف قرن دون مبالغة. وبإيجاز، تناست سلطات البلدية المسئولة والمخططون مبدأ تجديد أحياء داخل القاهرة Urban Renewal لما فيه من صعوبات فيزيقية وكثافة سكانية، واستسهل الجميع إنشاء أحياء ومدن جديدة مخططة مركزيًّا في أماكن فارغة بدلًا من إعادة تخطيط الأحياء الفقيرة الداخلية، فزادت سوءًا سكنًا وسكانًا وفقرًا.
  • (٣)

    صحيح أن هناك اتجاهات حديثة لاستخدام نظم المعلومات الجغرافية لشبكة المياه والصرف الصحي، وأن هناك مساعيَ من جانب شركات توزيع الكهرباء لحسن الإمداد والتوزيع، إلا أن معظم هذه الجهود تدور في المناطق الجديدة والغنية من القاهرة؛ حيث تساعد الطرق الواسعة على مثل هذه الأعمال، بينما الأحياء المكدسة سكانًا محرومة من هذه الأعمال الحديثة إلا عند توسعة شارع أو شق محور حركة جديد داخل الأحياء الفقيرة.

  • (٤)

    فما بالنا بالأحياء التي التصقت بحوافِّ القاهرة، والتي درجنا أن نسميها بالعزب والعشوائيات، وحول القاهرة وحدها ٧٩ من هذه الطفيليات العمرانية في الجيزة ٣٢ وفي القليوبية ٦٩ معظمها بين شبرا الخيمة والمرج، والكثير من هذه الطفيليات تكاد لا تتحصل على شيء من البنية التحتية الأساسية، ومن هنا الكوارث الناجمة عن ارتفاع منسوب المياه الجوفية، وارتفاع عدد الأمراض الناجمة عن سوء الحالة الصحية في البيوت والحارات والمسارب بين أشكال من بيوت وعشش يسكنها نحو عدة ملايين من الناس هم من الفقراء وسكان الطفيليات العشوائية. هؤلاء ليس لذويهم أعمال حقيقية، ومن ثم الفقر المدقع الذي يساعد على تدهور كل شيء من الغذاء إلى الأخلاق؛ فيصبح بعضهم نهبًا لكل أشكال التطرف السلوكي من إجرام إلى انتظام في جماعات هدامة.

  • (٥)

    ومما يزيد من إشكالية الموضوع؛ التركيز الذي لا مبرر له على اختطاط أحياء عمرانية جديدة ضمن دائرة القاهرة الكبرى. في البداية كانت هناك المدن التوابع التي أنشئ بعضها قريبًا من القاهرة الكبرى، وخاصة مدينتي مايو وأكتوبر، بينما كانت مدينة رمضان على بعد مقبول، ولكن المسافة بين مصر الجديدة ورمضان سرعان ما أغرت مخططي وزارة التعمير، قبل الأفراد، بإنشاء سلسلة من المدن بدأت بالحرفيين والسلام، وانتهت بالعبور وهايكستب والشروق، مستخدمين في ذلك وجود أوتوستراد الإسماعيلية كبنية محورية، فاستهلكوه! والغرض الأساسي من إنشاء مدن التوابع لم يتحقق. فما زالت أرتال السيارات تنقل العاملين من أحياء القاهرة والجيزة إلى رمضان وأكتوبر صباح مساء، وانحرف التوجه من تخفيف الضغط السكاني في القاهرة الكبرى إلى السكن الفاخر الموسر في أحياء أسماؤها ذات رنين الرفاهية، مثل: «ماي فير» و«بفرلي هيلز» و«الأشجار» … إلخ.

  • (٦)

    قضى إنشاء محور صلاح سالم على آخر مواقع الحفاظ على القديم التي كانت تنزوي في أحياء باب الوزير والتبانة والباطنية والدراسة والعطوف والجمالية تحت تلال الدراسة، وفي ظلال حمايتها. كما انكشفت مقابر المماليك بين برقوق وقايتباي.

  • (٧)

    نجا طريق صلاح سالم من الابتلاع بواسطة العمران على جانبيه بفضل وجود الجبانة المملوكية ومعسكرات ونوادٍ عسكرية في شرقه، وانتشار معسكرات للشرطة والجيش بين العباسية والقلعة على الجانب الغربي، مع ارتفاع مناسيب الأرض لسابق وجود تلال وأكوام قديمة في هذه المناطق استُغلت بعضُها في إقامة دار الإفتاء ومبنى مشيخة الأزهر.

  • (٨)

    كان إنشاء أوتوستراد مدينة نصر-حلوان بمثابة التفاف من الشرق حول هذه الجبانات المملوكية فوقعت بين فكي كماشة الأتوستراد وصلاح سالم، ومن ثم اخترقتها طرق حديثة للسيارات سوف تهدد المباني المعمارية الرائعة للمساجد والمدارس والآثار المملوكية بالتدمير البطيء نتيجة لمؤثرات ثلاثة، هي: عادم السيارات، والاهتزازات الأرضية الناجمة عن مرور اللوريات والشاحنات الثقيلة، وسكن عشوائي داخل هذه المنطقة الأثرية مع إنشاء ورش إصلاح ودهان السيارات، وما يؤدي إليه من تسرب ماء باطني تحت أساسات المباني، وإلى أبخرة لحام الأوكسجين وطلاء الدوكو المشبع بالمتطايرات من المواد الكيميائية، ولكن بعد تكثيف البناء شرقي الأوتوستراد تحول الطريق الدائري في صلاح سالم والأوتوستراد إلى ممرات للحركة الكثيفة البطيئة داخل المدينة.

  • (٩)

    ثم جاء الطريق الدائري الذي أصبح يعمل كالمغناطيس في جذب مزيد من اختطاط أحياء جديدة، خاصة في الجزء القاهري منه، بينما الجزء الآخر في الجيزة لا يزال تائهًا بين القرى التي فقدت معنى ووظيفة الريف وبين الألسنة العمرانية الحديثة للمهندسين والصحفيين وفيصل والهرم. والمفروض أن القليل جدًّا من أبنية خدمات الطريق كمحطات البنزين واستراحات صغيرة، هي التي تقترب من أي طريق حلقي؛ لكي يبقى طريقًا حرًّا للحركة السريعة حول المدينة مع تعدد المداخل والمخارج من وإلى محاور رئيسية في شبكة طرق المدينة. لكننا نهدم الأساس الذي بُني من أجله الطريق الدائري بإنشاء مجموعة أحياء جديدة، سميت: القاهرة الجديدة، قيل: إنها سوف تتسع لمليونين أو لأربعة ملايين من الناس أو أكثر، تمتد من الهجانة إلى التجمع الأول والخامس والثالث والقطامية والأمل والمعادي الجديدة … أسماء كثيرة وطموحات غير صحيحة لا في الموقع أو المحتوى والهدف. فأين إذن الطريق الحلقي إذا أضفنا إلى ذلك النمو العمراني على الأرض الزراعية من شبرا الخيمة وميت نما إلى السلام وبركة الحاج والمرج والقلج شمال وجنوب الطريق الدائري مباشرة؟

  • (١٠)

    استغرق تحول طريق صلاح سالم إلى طريق داخلي نحو ربع قرن. أما الطريق الدائري الجديد، فإنه سيتحول في زمن أقل من ذلك بكثير إلى طريق داخلي. ذلك أن مقدمات التحول بدأت فعلًا في شمال وشرق القاهرة، وقد يترتب على ذلك أن مطار القاهرة الدولي سوف يصبح داخل دائرة عمران القاهرة بإحاطته من الشمال والشرق فضلًا عن إحاطته الحالية من الغرب والجنوب. فهل يتحول هو الآخر إلى مصير مطار ألماظة، ونبحث عن موقع مطار آخر على بعد ٤٠–٥٠ كيلو متر من القاهرة؟

هذا النمو الضخم المتسارع قد فجَّرته عدة عوامل، على رأسها المركزية المطلقة التي تمارسها القاهرة على كل أشكال الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في مصر. أصدق تعبير عن تلك المركزية المسيطرة هو استحواذ القاهرة على أكبر قدر من الهجرة الداخلية،٤ وقد نقل المهاجرون عددًا من الأشكال الحضارية إلى أحياء تكاد أن تقتصر على مهاجرين من إقليم معين أو محافظة معينة، وبذلك أخذت مناطق كثيرة من القاهرة «تتريَّف»؛ أي تُظهر في مساكنها ومحلاتها التجارية وملابس وتصرفات سكانها اليومية سماتِ حياة القرية الريفية داخل المدينة.

ونتيجةً لهذا أصبحت القاهرة منطقة اختلاط، وتضارب في المفهومات وبعض الممارسات الاجتماعية، وربما بعض الممارسات اللغوية نتيجة للتركيب الحضاري للسكان، وهناك عوامل كثيرة اجتماعية واقتصادية تسعى إلى تسوية الفروق بين هذه التراكيب المدينية في القاهرة، ويقوم شيوخ التعليم الحديث في القاهرة بالدور الأول في هذه التسوية، إلا أن ذلك سوف يأخذ وقتًا قبل أن يصبح الكل مواطنين للمدينة جيلًا واحدًا على الأقل، ويتطلب هذا تحديد تيار الهجرة إلى القاهرة إلى حدود ضيقة وبوسائل متعددة كما سنوضح فيما بعد.

مشكلة القاهرة الكبرى

هذا باختصار شديد ما حدث خلال هذا القرن؛ لكي تصبح القاهرة حقيقةً شديدةَ البروز فوق خريطة مصر. فقد امتد مجمع المدينة الكبير امتدادًا شاسعًا بالنسبة لمساحة المجال العمراني الضيق في مصر، ولم يعد لهذه المدينة نظير — من قريب أو بعيد — في مصر والشرق الأوسط وأفريقيا، ليس فقط من حيث المساحة، ولكن من حيث محتواها المكتظ بملايين الناس ومئات المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتموينية والتعليمية والصحية، وعشرات الآلاف من المشكلات اليومية، على رأسها آلام الانتقال اليومي في الشوارع الأساسية من حيث الاختناق وفوضى المرور؛ لأسباب عدم التوازن بين الشوارع ومتطلبات الحركة الحالية،٥ وعدم إيجاد ساحات انتظار للسيارات في المجاورات السكنية، أو حول محلات السوبر ماركت و«المول»، وعدم تنفيذ جراجات لكل عمارة رغم النص عليه في تراخيص البناء، أو تحويل الجراجات إلى محلات ومخازن رغم أنف القانون، وكلها تعبير عن أنانية متفاقمة، وتسيب، وعدم الالتزام بالقوانين. هذا فضلًا عن قصور معظم الناس عن الاستخدام الأمثل للسيارات الخصوصية أو العامة؛ مما يسبب مزيدًا من عدم انضباط الشارع القاهري.

وفي مقابل هذه المشكلات الكثيرة لم تقدم الدولة والجهاز الإداري المختص بالقاهرة ما يجب أن يتم من خلال خطة متكاملة تخدم مستويات زمنية متصاعدة. بل كانت الحلول غالبًا وقتية وجزئية دون مساس بالجوهر أو إحاطة بالشمول، وكان إنشاء لجنة القاهرة الكبرى في الستينيات — التي ورثتها وزارة التعمير والإسكان، ثم أضيف إليها عبارة: «المجتمعات العمرانية الجديدة» كوصف طنان — عملًا جيدًا من الناحية النظرية، ولكن أعمال هذه اللجنة ووزارة الإسكان فيما بعد، من حيث التفكير في إنشاء مدن جديدة وتنفيذها في صورة حلقة حول القاهرة بغرض استيعاب الزيادة المستمرة في سكان ونشاط القاهرة، لا تشكل الحل الأمثل لمشكلة القاهرة.

ذلك أنه في الواقع — وبغض النظر عن الصعوبات التي تواجه إنشاء حلقة المدن الإضافية في مواقع صحراوية تحتاج إلى إمدادات مياه في الوقت الذي نعاني فيه من محدودية موارد مياه النيل، الذي لا يستطيع أن يعطي إلى ما لا نهاية — فإن النتيجة النهائية هي خلق مشكلة قاهرة أكبر من الكبرى، وأعقد من الحالية. فطبيعة العمران المديني أن يزحف تجاه بعضه طالما كانت المسافات الفاصلة غير كبيرة مع استمرار تأثير عوامل النمو، ومن ثَمَّ يزحف العمران من القاهرة صوب المدن الإضافية القريبة، والعكس صحيح باعتبار أن المدن الإضافية سوف تنظر دائمًا صوب القاهرة بما فيها من مراكز القوة والجذب، وتعطي ظهرها لجبهات التوسع التي يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن المجال المغناطيسي للقاهرة.

النمو الانفجاري للمدن

ليست كل المدن متساوية في درجة النمو لسبب أو آخر، كما أن درجات نموها ليست ثابتة على المقياس الزمني، ومن أهم أسباب ذلك:
  • (١)

    موقع وموضع مدينة ملائم في الماضي وغير ملائم في الحاضر، مستجيب أو غير مستجيب لتطورات الحضارة، والمبتكرات الآلية، وشبكة المواصلات.

  • (٢)

    أنشطة اقتصادية نامية أو خامدة أو كامنة تتفجَّر مع تغيرات جذرية في تكنولوجية الإنتاج ونظريته، واستعداد الناس للتكيف مع الجديد من المستحدثات.

  • (٣)

    نمو أو سقوط الوظيفة الأساسية للمدينة لتغيرات جذرية في الوضع العام السياسي والإداري والإستراتيجي والاقتصادي والثقافي للمدينة. فقد فقدت إسطنبول الوظيفة السياسية في تركيا الحديثة مقابل نمو أنقرة العاصمة السياسية، لكن انتقال العاصمة لم تكن له آثار سلبية على إسطنبول بحكم موقعها وتاريخها الأطول من القاهرة.

  • (٤)

    وهناك عوامل أخرى تشترك معًا بدرجات متفاوتة، تبرز بعضها أحيانًا من لا شيء، مثل مدن البترول والتعدين عامة. ومجموع هذه العوامل تحدث على مر الزمن التغيرات التي تطرأ على المدن في نموها أو ثباتها أو تدهورها، أو عودتها إلى مقدمة الحياة في الإقليم مرة أخرى في صورة يشارك في تكوينها نظريتا دورة الحياة وعدم فناء المادة، وقد مرت القاهرة بهذه المراحل وعادت إلى رأس الحياة المصرية مراتٍ عدةً أبرزها العودة في العهد المملوكي بعد الركود الفاطمي، والعودة في العصر الحديث بعد الركود العثماني.

وحينما تتفق الظروف التي تدعو مدينة إلى النمو؛ فإن المدينة تظل تنمو إلى أن تصل إلى أقرب تلاؤم مع الظروف السائدة، فإذا لم تتغير ظروف ودوافع النمو فإن نمو المدينة يكاد أن يتوقف، بل ويصبح للمدينة مجال سلبي يؤدي بصفة عامة إلى طرد الفائض من النمو الطبيعي للسكان إلى أماكن الجذب الأخرى. لكن هذه الحالة المثالية قلما كان لها نظير في الواقع إلا لفترات زمنية محدودة؛ فالمدينة إما أن تنمو أو تنكمش، ذلك لأن دوافع النمو المديني عبارة عن «مُرَكب حيٍّ» صفته الأساسية دينامية حركة دائمة نتيجة للتغير الدائم في ترتيب مواضع العوامل والدوافع، كمًّا ونوعًا، داخل هذا التركيب الحي، ومن ثمَّ فإن المدن في حركة مستمرة.

وحينما تزداد كثافة عوامل النمو في مدينة ما فإن نمو المدينة يظل سائرًا دون توقف إلى أن تبلغ المدينة حجمًا معينًا ليس له قياس فعليٌّ بالمعنى المادي أو الرقمي؛ لأن لكل مدينة مقياسها الخاص ارتباطًا بظروفها الحضارية والتكنولوجية. حينما يتم ذلك نجد تغيرًا كيفيًّا يطرأ على المدينة، فبدلًا من أن تعتمد المدينة في نموها على مجموعة العوامل والدوافع والظروف المستمدة من المكان والمستوى الحضاري والتكنولوجي والخلفية التاريخية، يصبح للمدينة قوانينها الخاصة التي تفرضها على مجموعة عوامل النمو السابقة، وبعبارة أخرى: تنعكس الصورة نظريًّا، ويصبح للمدينة تأثير على مؤثرات نموها.

تبني المدينة لنفسها «رُوحًا»، أو تصطنع لنفسها «قلبًا» يحولها إلى «كينونة» ذاتية القوانين، ويصبح لهذه الكينونة نهم شديد للتوسع، واجتذاب المزيد من البشر بصورة طاغية تؤثر بوعي وبلا وعي على الاختيار «الإداري» للمخططين والمستثمرين وجميع الأعمال والوظائف التي تمارسها المدن، ويصبح الجميع أسرى لهذه الطاقة الذاتية للمدينة لا يستطيعون الخلاص من سطوة تأثيرها، ولا يفكرون إلا من خلال ما تفرضه المدينة الطاغية من مشكلات تدعوهم إلى إصلاحات وحلول جزئية ووقتية.

وفي الغالب لا يتاح لكل مدن الدولة أو مدن إقليم من أقاليم الدول ذات المساحة الواسعة مثل هذا «الطاغوت»، إنما يحدث غالبًا لمدينة واحدة تستقطب النمو وتؤدي إلى إيقاف أو بطء النمو في المدن الأخرى بحيث تصبح قزمية النمو إلى جوار المدينة العملاقة.

ولسنا نعرف على وجه التحديد إلى أين يقود النمو الذاتي لمثل هذه المدن المتسلطة، وأغلب الظن أنه يقود إلى «انفجار» — إذا شئنا المبالغة — يهدد المدينة بالتراجع نتيجة للخلل الذي يحدث كمًّا وكيفًا في حجم المدينة مكانيًّا وسكانًا ونشاطًا، وهي التي تزيد من المصاعب في مستوى أداء وظائف المدينة، وفي تركيب المدينة اجتماعيًّا وصحيًّا وأمنيًّا وإدارةً يترتب عليها تناقضات كبيرة بين الترف والفقر في أحياء المدينة، وإلى مزيد من البيروقراطية والمركزية، وتدخل السلطة؛ لتحجيم الخلل ولو جزئيًّا.

ولا توجد لدينا أمثلة عن مثل هذا الانفجار لمدن حديثة، وإن كان أقربها إلى هذه المرحلة طوكيو ونيويورك، التي تسمى في المصطلح العلمي Megapolis، ولعل روما الرومانية وبغداد الإسلامية من الأمثلة على انفجار المدن العملاقة في الماضي المؤرخ، وساعد على انفجارها مركزيتها المطلقة للعالم المعروف آنذاك، ورخاؤها وترفها الخيالي وتعفن تركيب قياداتها، وعوامل أخرى خارجية عسكرية ودينية، وعلى رأسها تحركات شعوب الترك والمغول، وهجراتهم من وسط آسيا؛ فاكتسحوا أوروبا والصين والعالم الإسلامي.

وليس من الضروري أن تبلغ المدن حدودًا موحدة تدخل بعدها مرحلة الانفجار، ذلك أن هناك ارتباطًا كبيرًا بين المدينة الواحدة وخلفيتها الحضارية والتكنيكية يجعل لمرحلة الانفجار في كل مدينة مقياسًا خاصًّا بها. فما يصدق على طوكيو لا يصدق على القاهرة. ومن أهم المقاييس التي يمكن أن تؤخذ مؤشرًا على ذلك أن يصبح الوفاء بخدمات المدينة الأساسية أمرًا بالغ الصعوبة؛ مثلًا مشكلة إمداد المدينة بالمياه، أو مشكلة الانتقال داخل المدينة، وكلتاهما من المشكلات التي تواجه كثيرًا من مدن العالم الكبرى في الوقت الحاضر. وقد استطاعت طوكيو أن تجد حلولًا لمشكلة المياه حتى قارب سكانها عشرة ملايين، ثم أصبحت بعد ذلك مشكلة خطيرة بعد أن تعدت المدينة ١٢ مليونًا. فهل نتوقع أن تصمد القاهرة لمشكلة المياه بعد ملايينها السبعة — القاهرة الكبرى نحو أحد عشر مليونًا — أو الإسكندرية بعد أن أشرف سكانها على أربعة ملايين؟

لم يعد هناك مجال للكلام عن جزئيات المشكلة، والمهم الآن هو السيطرة على نهم المدن الكبرى سيطرة حقيقية، وبدون شك هناك إمكانات كثيرة للسيطرة؛ مثلًا يقال: إيجاد تشريعات تمنع أو تحد من الهجرة للقاهرة، لكن ذلك في الحقيقة صعب المنال، وربما يحولنا إلى دولة بوليسية تمنع حرية الأفراد في التنقل داخل وطنهم. وربما كان الإجراء الأجدى ألا تشجع السلطات إقامة منشآت عمالة جديدة بالقاهرة كمرحلة أولى، ثم تمنع ذلك لفترة زمنية طويلة — عقدين أو ثلاثة عقود — حتى يعتاد رأس المال على استثمارات في ريف مصر؛ فيحل إشكالية الزيادة السكانية الريفية العاطلة.

لكن هناك دائمًا تجاوزات عن التشريعات تحدث بضغوط المصالح التي لا تقاوم، وتبدأ التجاوزات تتسع لتصبح قوانين غير معلنة، وينتهي الأمر إلى تغيرات جديدة في التشريعات السابقة لصالح ضغوط المصالح، ولهذا نجد للتشريعات ملاحق في أزمان مختلفة تواكب «المتغيرات الضاغطة» وتتصالح معًا!

(٢) القاهرة تحت الحصار

في مصر كان النمو العمراني منذ نصف قرن يسير في خطوط ملتزمة بلوائح البلدية قدر الإمكان، ولكن مع تزايد السكان رأى المختصون إمكان تطبيق فكرة المدن التوابع حول القاهرة كما أسلفنا. لكن ما نُفِّذ في لندن أو استكهولم، على سبيل المثال، يختلف جوهريًّا عن القاهرة في:
  • أولًا: أن النمو السكاني في العالم الأوروبي الغربي يكاد يقترب من الصفر، بينما نمو سكان مصر هو ٢٪ سنويًّا — بمعنى أننا ننمو بمقدار أربع إلى خمس مرات قدر تلك الدول.
  • وثانيًا: البيئة الطبيعية في غرب أوروبا مختلفة في أنها ليست بيئة جافة تفتقر للماء كحال مصر، ومن ثم تحتاج إلى مواصفات خاصة.
  • ثالثًا: أن الأوروبيين يلتزمون بالقانون واللوائح التي تنطبق على الجميع دون استثناء، بينما الالتزام بالقانون في مصر ضعيف في أكثر الحالات، وترتب على ذلك أن حواجز الأمان الفاصلة بين المدينة الأم والمدن التوابع ظلت قائمة للحفاظ على البيئة والاستمتاع بها في أوروبا.

أما في العالم الثالث: فإن المدن الحلقية — أقيمت فيها أنشطة خاصة أو لم تقم — تدير وجهها نحو المدينة الأم، بدلًا من الاحتفاظ بمدن الحلقة كل داخل إقليمه. نجد الرغبة تتولد في النمو تجاه المدينة الكبيرة بحكم اعتياد الحركة اليومية للعمالة في هذه المدن، والأغلب أن تستجيب الأجهزة الإدارية والوزارية لهذه التوجهات، وهذه الاستجابة قد تكون بوعي وإدراك لتنفيذ غرض معين؛ كالاستفادة من المسافات الحاجزة في إقامة مشروعات محددة، مثل: إقامة أسواق الجملة في العبور و٦ أكتوبر. ويؤدي وجود الطريق والماء والكهرباء إلى ضغوط للحصول على أراضٍ لإشباع المتطلبات العديدة لأية تنمية عمرانية أو إنتاجية، والأغلب أن عنصر المضاربة على الأرض من جانب الإدارة الحكومية أو المستثمرين يكون له الريادة على بقية العناصر؛ مما يؤدي إلى افتعال أسعار عالية لأرض لم يكن لها قيمة بصورة عامة، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الناتج المحلي العام بضع سنوات، ثم يهبط إلى قيمته الحقيقية محولًا الكثير من المدخرات التي دفعت في شراء هذه الأراضي إلى قبضة رمال!

وقد فعلنا نحن ذلك حول القاهرة بصورة مبالغ فيها، وحول الإسكندرية بصورة أقل؛ فإن إنشاء العاشر من رمضان كان عملًا جيدًا في حد ذاته كمدينة صناعية وسكنية متكاملة في مخططها الأصلي، ونجح المُخَططُ بدرجة حسنة في إقامة المصانع، وبالرغم من التساؤلات حول ماهية القيمة الفعلية، وديمومة المنشآت الصناعية في ظل التسهيلات التي تمنحها الدولة، فإن الصناعة قد أرست جذورًا في العاشر. أما الشق الثاني من المُخَطط — وهو إقامة سكن دائم لغالبية العاملين في المصانع؛ فما زال دون التحقيق بنسبة كبيرة، فمعظم المقيمين أو أصحاب الوحدات السكنية لا يرتبطون بصناعات العاشر. ويحتاج الأمر إلى دراسة جادة، ومكاشفة صريحة؛ لتبين من هم سكان العاشر من رمضان: هل منهم نسبة من العازفين عن حياة المدن الكبيرة وخاصة من أصحاب المعاشات، أو مستثمرين ورجال أعمال يقضون عطلة نهاية الأسبوع، أو يقيمون مآدب لعقد صفقات العمل؟ أم أخيرًا هم فعلًا من العاملين في إدارة وصناعة العاشر؟ وتبقي الحقيقة أن الجانب الأكبر من العاملين في العاشر — وكذا ٦ أكتوبر — يقيمون في القاهرة الكبرى، ويقومون برحلة العمل اليومية صباحًا ومساء عبر طريق الإسماعيلية الصحراوي وطريق الهرم وفيصل. فهذا أمر لا ينكره كل ذي عينين حتى لو كان قلبه مغلقًا عن المعنى وراء هذا الهول من الازدحام كأنه الحشر مكررًا!

ومع تحفظات معروفة عن الطبيعة الجيوفيزيقية لموضع مدينة ١٥ مايو، فإنها الوحيدة من مدن الحلقة التي تقع في مواجهة المجمعات الصناعية في إقليم حلوان، وبالتالي فإنها مارست وظيفتها السكنية المؤهلة لها بطريقة جيدة. أما مدن الحلقة الأخرى فلم تؤد إلى تخفيف عبء السكان والضغط على المرافق والخدمات في القاهرة، ولم تعط الفرصة لتفريغ القاهرة من المساكن المتهالكة؛ ولهذا فإن إعادة بناء القاهرة بتنمية أحزمتها الفقيرة لم تتم، وأصبحت القاهرة متحفًا اجتماعيًّا شديد التفاوت يتجاذبه قطبي الفقر المدقع والغنى الفاحش متمثلًا في أحياء متجاورة كالزمالك والمهندسين إلى جوار إمبابة أو الدقي وبولاق الدكرور أو جاردن سيتي والسيدة زينب ودار السلام والمعادي … إلخ. ويتسلل داخلها وخارجها السكن العشوائي كالنبات المتسلق فوق الأسطح أحيانًا، وكالخلايا السرطانية في الهوامش أكثر الأحيان.

ولا يقتصر عدم وفاء مدن الحلقة على هذه الجوانب السلبية التي قوَّضت أسس الفكر الذي من أجله صُمِّمت وأنشئت، وهو الإسهام في حل مشكلات الإسكان، بل إن تراخي الإدارة المحلية — لأسباب غير معروفة تمامًا — عن منع الناس من الإنشاء والتعمير على جانبي الطرق السريعة قد أدى إلى اختناق هذه الطرق. فالأملاك على واجهات الطرق تغري بالإنشاءات غير المسموح بها لارتفاع قيمة الأرض بالدرجة التي تدعو للمخاطرة بالمخلفات، ومع شيء من النفوذ والقوة تكتسب المخالفات صفة الأمر الواقع، وتصبح بذلك مصدرًا للقياس يقتدى به، وبذلك يتقلص حرم الطريق السريع من ٥٠٠ متر إلى ٥٠ مترًا — وفي أحيان إلى أقل من ذلك! وربما كان من بين أسباب الإغراء أن الإدارات الحكومية تُقَوِّم الأراضي بأسعار عالية؛ مما يؤدي إلى قيام المستثمرين بإنشاءات مخالفة، من حيث تجاوز حرم الطريق أو الارتفاعات؛ لتعويض ما قدَّروه مسبقًا من الربح.

والأشد خطرًا أن ترى الحكومة في المسافات الفارغة التي تخدمها الطرق السريعة مجالات للإنشاءات الضخمة مثل إدارة التجنيد في الهايكستب ومدينة الهايكستب السكنية، وسوق العبور على طول طريق الإسماعيلية، ولم تكتف بذلك؛ بل زايدت الأجهزة الإعمارية على نفسها بملء الفراغات حول الطرق المحيطة بمدينة العبور بتخصيصات للصناعة، ثم استدارت فأعلنت مزايا كثيرة لبيع غرود الخانكة والصحاري شرقها على طريقي الإسماعيلية والسويس في صورة تجمعات مدن الشروق وبدر. إلى جانب مشروعات التجمع الخامس، وعلى طول الطريق الدائري الجديد من المعادي إلى القطامية والهجانة؛ بل إننا نرى الآن غابات من مباني الطوب الأحمر، غاية في القبح، بدأت تغزو جانبي الطريق الدائري في القطاعات التي اكتملت من مدينة السلام إلى ميت نما، وتحاصر القاهرةَ من الشمال في جبهة عريضة من مناطق الفقر، ومناطق الصناعة في شبرا الخيمة ومسطرد والمرج وكفر الشرفا … إلخ. والنتيجة أن الالتحام واقع لا محالة بين واجهات القاهرة الشرقية والشمالية: «المعادي – البساتين – منشأة ناصر – مدينة نصر – مصر الجديدة – النزهة – المطرية وعين شمس – عزبة النخل وشبرا الخيمة»، وبين جبهات الحصار في مواقع المدن الجديدة في: «القطامية والهجانة والقاهرة الجديدة وبدر والشروق والعبور والسلام والعاشر من رمضان»، كل ذلك في صورة تجمع مدن أُخْطُبوطيِّ الأذرع هائل المساحة قد يكون نحيف السكان في مناطق الأغنياء وكثيف السكان في أخرى، تتزاحم فيه الطباقية الاجتماعية والبنية الوظيفية، وتتخلل فيه الإدارة والانضباط. أردنا حل مشكلة القاهرة فأنتجنا قاهرة أضخم حجمًا وسكانًا ومشكلات أعتى وأعصى على الحل بالقياس إلى القاهرة الأصلية!

هل يمكن فك الحصار؟ هذا سؤال صعب له إجابة واحدة تنصرف على ما تم وما لم يتم، وما هو مخطط للمستقبل. ونقطة البدء ببساطة هي أن أي مدينة جديدة نخطط لها يجب أن تنطلق من فرضية أن المدينة تتمركز حول نفسها؛ أي إلى داخلها، وليس إلى المدينة الأم إلا في أضيق الحدود المعروفة عن تراتب مكانة المدن من حيث العدد والقوة الاقتصادية. صحيح إذن أن هناك تراتب المدن، عبرت عنها نظريات الحضرية بأكثر من شكل وأكثر من بنية٦ بحيث تعتمد المدن الأصغر على مدينة أكبر في بعض الوظائف والخدمات. لكن تبقى للمدينة الصغيرة وظيفة هي مبرر قيامها — سواء كان هذا المبرر إنتاجيًّا أو خدميًّا أو ترفيهيًّا. باختصار أن تكون المدينة المنشأة ذات كينونة مستقلة في بنيتها الفيزيقية والسكانية بحيث تقل الحركة اليومية إلى الحد الذي لا تشكل فيه عبئًا على الطرق، سواء كان ذلك انتقال العمالة اليومية أو الانتقال السلعي اليومي وحركة التلاميذ والمرضى إلى منشآت مركزية في المدن الكبرى، كل ذلك بقدر مدروس ومحسوب على إسقاطات زمنية معقولة.

وهناك نقطة بداية أخرى ذات قدر كبير من الأهمية. تلك هي أن العادة جرت إلى الفترة المعاصرة على أن يدور تحليل وتصنيف المدن حول «عظم» المدينة دون «الأنسجة والعضلات المحركة». فالدارج أن مُخطَّط أي مشروع حضري يُركب على المسح الطبيعي للمكان بصورته القائمة دون حساب مدخلات التغير الذي يطرأ على البيئة فجأة، كالأمطار السيلية في الوديان الجافة لعشرات السنين. ثم يضاف شكل المدينة ومحاور حركتها بناء على الوظيفة المقترحة. كل ذلك ضمن أطر وقيم معروفة لدى المخططين هي أشبه بجداول اللوغارتمات أو «استامبة» كليشيه المجاورات السكنية كأننا في أمريكا أو أوروبا! وفعلًا يمكن الحصول على مخطط متميز دون الإشارة إلى المجتمع إلا في صورة عددية وإطار دخل الأفراد.

ولكن ليس هذا هو كل المطلوب؛ فالإنسان، محرك النشاط ومصدر الوظائف، هو نفسه مستهلك نواتج التفاعل بين أنشطته وحركته في المدينة، سواء كانت تلك الحركة للعمل أو استهلاك الخدمات الأساسية وخدمات الترفيه والثقافة. والإنسان ليس نمطي السلوك والطبائع، ولا يتحرك ضمن قوالب سلوكية موحدة. باختصار هناك بعد ثقافي يحيل المجموع إلى فرادى، والمجتمع إلى مجموعات متعددة، وليس الغرض أن يدرس المخططون الأبعاد الثقافية للمجتمع الذي يمكن أن يحيل «الماكيت» إلى لوحة حية. إنما الغرض أن نترك مساحة ما لروح المبادأة والإبداع في كل حي من أحياء المدينة، يقوم المجتمع من خلالها بإعطاء «الحي» الصبغة واللون الذي يحس من خلاله بوجوده وتوحده مع مسكنه ومدينته؛ أي يصبح منتميًا إلى المكان الجديد.

فالممارسة الحالية والتي تكررت كثيرًا تجعل المقيم الجديد يعيش في قالب غريب عن اعتياداته وسلوكياته، بل غريب أيضًا عن خصوصياته، وربما أيضًا عن تسانده الاجتماعي الذي درج عليه في بيئته السابقة. إنه يحس داخل بنايات «علب الكبريت» أنه محاصر في لوح كالحٍ نمطي لعمائر الواحدة تلو الأخرى وشوارع الواحد وراء الآخر. أين الدكاكين الصغيرة وعلاقة الجيرة والمقاهي الشعبية التي يجد فيها المكدود راحته، ويعلم فيها الأخبار، ويصبح من خلالها ممارسًا للحياة الاجتماعية؟ لهذا نجد الناس يحولون بعض الشرفات إلى أعشاش للطيور الداجنة أو أجزاء من المساحات الخضراء بين العمائر إلى ملاعب أو مشرب للشاي ومنتدًى للاجتماع المحلي، وأين مجال حركة النساء في هذا الخضم؟ هذه كلها مساحات مطلوب من المخططين أن يتركوها لإبداع المجتمع، ووضع لمساته الحياتية الخاصة. فتتحول القوالب إلى مدينة أو حيٍّ له شخصيته.

أما الممارسة الحالية التي تقسم المدن إلى مناطق لمستثمرين، كلٌّ يعطي شكلًا لحيٍّ قد يكون في أجواء ومناخات غير مصرية كالحدائق وأحواض السباحة المشتركة التي تعطي الانطباع كأننا في أمريكا أو أوروبا ذات المناخ المعتدل لممارسة حياة خارج البيت، مع أن خارج البيت عندنا لا يشغل سوى ربع السنة مجزَّأً بين أيام شتاء دافئة وربيع غير خماسيني وخريف غير قائظ، والأرباع الثلاثة غالبها حر هجير ووهج يدفع الناس إلى داخل البيوت وإلى ملاذ التكييف للقادرين. هذا فضلًا عن أن هذه المخططات تكاد أن تلغي الخصوصية حتى بين المثقفين والأغنياء؛ لأن الخصوصية ما زالت سمة مجتمع له جذور ضاربة في التاريخ.

وبإيجاز فإن المدينة هي التقاء المجتمع البشري بالتركيب المادي للأبنية والطرقات؛ مما يجعل المدينة كائنًا حيًّا، ينمو ويمرض، ويحتاج إلى توازن مع البيئة، وإلى انضباط كي لا يفرط أو ينفرط.

ماذا يمكن أن نفعل الآن؟ إن ما تم إنشاؤه لا يمكن تعديله، ولكن ما هو مخطط أو ما بيع من مخططات وتخصيصات ففي الإمكان إيقافه وتعديل مواقعه إلى أماكن أخرى أحوج إلى التنمية من منطقة القاهرة. كأن تختار مواقع أخرى بعيدًا عن نطاق جذب العاصمة، في الصعيد شرق النيل كمثال، أو شرق قناة السويس على ضفة سيناء كمثال آخر؛ ففي شرق الصعيد من الأرض ما يتسع للتنمية الزراعية والسكن والمدن الصناعية والحرفية المتوسطة والصغيرة. فقد آن الأوان أن نكف عن الطموح غير القادر بإنشاء مدن نصف مليونية كما هو الواضح من دعاوي إنشاء مدن الحلقة حول القاهرة، وفي شرق القناة آن أوان تعظيم الاستفادة من هذا المجرى المائي المدهش الذي يربط المكان العربي والشرق أوسطي والأسيوي بالاتفاق على إقامة «عزب» صناعية متعددة تتوطن فيها صناعات مصرية بتكنولوجيا ومشاركة جدية أورو-أمريكية-أسيوية في هذا المكان المتميز من العالم القديم، وهو ما يحدث الآن في مشروع تنمية شمال غرب خليج السويس وميناء السخنة، وفي هذا المجال وغيره، مثل إقليم بحيرة النوبة-ناصر، يمكن الاستفادة من التعاقدات والأموال التي دفعها المستثمرون — والمضاربون — في أراضي المدن والضواحي المعلنة: «بدر وتجمعات عديدة من الشروق، وربوة أكتوبر، والتجمع الخامس» في المشروعات التي يمكن أن تقام، على أن يكون ذلك أمر طوعي من جانب المستثمرين. وعلى هذا النحو من الاجتهاد يمكن أن يفتح الباب لاجتهادات ومشروعات أخرى تسعى لتخفيف الحصار عن القاهرة، وتعيد لمصر توازن سكانيٍّ وسكنيٍّ واقتصاديٍّ فقدته منذ فترة نتيجة تخلخل الرؤية المتكاملة لمشكلات مصر الخالدة على مسرى التاريخ.

غزو المطار

مطار القاهرة مهدد بغزو العمران حوله من كل جانب. ففي الثمانينيات زحف العمران بهدوء على طريق المطار أمام الكلية الحربية، وبلغ هذا الزحف قمته بإنشاء مستوطنة تعرف بمساكن شيراتون، وبرغم أننا قد نلاحظ أثر التلوث السمعيِّ الذي تحدثه الطائرات على ساكني الشيراتون في أسماع وأبدان أبنائهم في المستقبل، إلا أننا سنركز في هذه العجالة على اختناق المطار بتأثير النمو السكني للقاهرة، وهذه المساكن ما فتئت تنمو، وآخر فصل في هذا النمو هو مشروع حي الملتقى العربي، وبذلك يكون المطار قد طوقته المباني من الجنوب والجنوب الشرقي، وفي غرب المطار بدأت العمائر السكنية تنمو مباشرة على طول طريق السندباد في منطقة النزهة الجديدة — وبعضها يبنى خارج خط التنظيم، بحيث إن ردودها من الشرفات تغطي منطقة رصيف الشارع، وبعضها وصل إلى خمس طوابق أو أكثر.

فهل يتم البناء بعيدًا عن أعين المسئولين — علمًا بأن هذا الطريق يمر فيه آلاف الناس يوميًّا، بما في ذلك بعض المسئولين عن إسكان محافظة القاهرة! وبهذا فإن مسار الطيران إلى المدرج الشمالي للمطار أصبح وكأنه يسير في نفق بين عمائر الشيراتون والسندباد، وتحاصر مدينة نصر مدخل المدرج الشرقي للمطار، وهو الأكثر استخدامًا. وتهدد أبراج مدينة نصر الملاحة الجوية في هذا الاتجاه، ولا توجد فوق هذه الأبراج الأنوار التحذيرية المتعارف عليها عالميًّا برغم أن ذلك يهدد المئات من ركاب الطائرات من وإلى عزيزتنا القاهرة. ومن زمن ليس بعيدًا كانت الأنوار التحذيرية مثبتةً فوق بعض عمارات مصر الجديدة، لكن الإهمال أدى إلى اختفاء معظم هذه الأنوار! ولا يوجد ما يمنع من الإصرار الآن على وضع هذه الأنوار بدلًا من انتظار ما لا يحمد عقباه. وقد ظهر مشروع «القاهرة الجديدة» والذي — إذا تم — سيكتمل غزو المطار من الشرق والشمال بامتداد التجمعات الأولى والخامسة والهجانة وبدر والشروق والعبور والسلام، والتحام كل هذه الكتلة بكتلة مدينة نصر ومصر الجديدة والمرج وكفر الشرفا، حيث بدأت عمائر من الطوب الأحمر والإسمنت تخجل العين من النظر إليها مرتين، تحدق بالطريق الدائري الجديد الذي أنفقت الدولة على تشييده الملايين من الجنيهات؛ لتيسير الحركة حول القاهرة. فإذا لم يراع البعد بقدر ٥٠ إلى ١٠٠ متر عن الطريق الدائري فسيكون مآله هو ذات المصير الذي لقيه طريق صلاح سالم مع الفارق أن الضغوط السكانية على الأرض الزراعية في شمال القاهرة أقوى من ضغوط سكان المقابر في الغفير والقرافة الشرقية وباب الوزير!

هل نعلن عن مناقصة عالمية لإنشاء مطار جديد مثلًا في منتصف المسافة بين القاهرة والسويس، وما أدرانا ألَّا تلاحقه أيضًا مشروعات مدن جديدة، فالطرق الممتازة لها جاذبية خاصة للعمران غير المنضبط، وعلى الدولة أن تتكلف مليارات الجنيهات لبناء المطار الجديد وتجهيزاته المتعددة، وخاصة التجهيزات الإلكترونية والرادارية، ويعلم العارفون بأمور الطيران أن هذا العبء المالي هو بالقطع فوق طاقة مصر كثيرًا، وأنه إن وجدت هذه الأموال، فالأجدى استثمارها في قطاعات إنتاجية تعطي مردودًا لمصر بدلًا من إنفاقها على إصلاح ما يفسده نمو القاهرة الجديدة. فهل نحن على استعداد لتقبل سقوط المطار من أجل زيادة مشكلات القاهرة أضعافًا مضاعفة يجعل ضبطها وإدارتها هي الصعوبة بعينها؟ أليس من الأجدى تنشيط السكن في مدن قائمة في شمال شرق القاهرة كالعاشر من رمضان؟

إنقاذ القاهرة٧

أصدر مجلس الوزراء في ٥/ ١١/ ١٩٩٥ قرارًا بتأجيل مشروع مدينة «القاهرة الجديدة» ووقف بيع الأراضي الصحراوية المملوكة للدولة، وردِّ المقدَّم الذي تم تحصيله من المشترين — إذا كان ذلك واردًا في العقود — وكذلك إنشاء لجنة من عدد من الوزراء: الدفاع، النقل، قطاع الأعمال، الإسكان، والمجتمعات العمرانية الجديدة، بالإضافة إلى محافظة القاهرة والجيزة؛ «لدراسة مشكلة المجتمعات العمرانية الجديدة حول القاهرة الكبرى في ضوء عدم قدرة المدينة على استيعاب المزيد من السكان … وتقديم الخدمات اللازمة لهم، وترجمة توجيهات رئيس الجمهورية إلى مشروعات عملية.»

وهذا القرار الشجاع — الذي لم ينفذ لتغير الوزارة — إنما يعبر عن إدراك المسئولين لخطورة الموقف العمراني في القاهرة، ويحتاج من المصريين، مسئولين ومفكرين، إلى وقفة تأمل عميقة عمَّا يراد بالقاهرة: تركيز المزيد من المصريين في قاهرة أصبحت عاجزة عن مداواة مشكلاتها الحالية. التوجه الأساسي في إنشاء المدن التوابع التي تتحلَّق حول مدينة كبيرة. أن تنظر المدينة الجديدة إلى داخلها، وليس إلى المدينة المجاورة؛ بحيث لا تتحول إلى مدن «منامة» ينطلق منها كل صباح آلاف الناس إلى عملهم بالمدينة الكبيرة، متكدسين كأسراب الجراد فوق الطرق التي تبنيها الدولة بشق الجيوب.

وفي الغرب يُحدَّد عدد سكاني يتراوح بين عشرين وخمسين ألفًا للمدينة الجديدة؛ كي يسهل حل إشكالياتها المتوقعة وغير المتوقعة، ولكننا في مصر نتصدى لإنشاء مدن لنصف مليون أو تزيد! كأننا أقدر على مواجهة المشكلات، وأقدر على منع الخارجين على لوائح العمران ارتفاعًا وطولًا وعرضًا! فأين نصف المليون في مدن رمضان وأكتوبر والسادات برغم مرور نحو ٣٠ سنة على إنشائها؟٨

المطلوب إرساء قواعد تنظيمية للتخطيط الشامل في صورة لجنة دائمة مكونة من أشخاص متعددي الاختصاص حتى لا يستأثر رأي واحد بقرار قد يكون في النهاية غرمًا على المصلحة العامة. فقد آن أوان الموضوعية الهادئة حتى لا نكلف مصر اليوم وغدًا خساراتٍ فادحة ومدنًا نجاحها في «فض الاشتباك» السكاني في القاهرة غير ناجحة. فنحن دولة مواردها محدودة، ولا نستطيع أن نهدرها في إضافة تعاسة عمرانية إلى تعاسة القاهرة المعاصرة.

(٣) الحركة المرورية في القاهرة الكبرى

يُكوِّن النقل والانتقال داخل المدن نوعًا خاصًّا من المشكلات يختلف عن النقل في الطرق التي تربط المدن وأنواع المحلات السكنية الأخرى بعضها بالبعض، وهناك أسباب عديدة لهذا التمييز على رأسها أن طرق المدينة تخدم كتلة سكانية وسكنية كثيفة في:
  • (أ)

    علاقات المدينة الوظيفية الداخلية متعددة الأشكال، وهذه تمثل الحركة الذاتية للمدينة.

  • (ب)

    علاقات المدينة ودورها داخل إقليم تسيطر عليه المدينة، وتستقطب من خلاله أشكال العلاقات التجارية والإدارية والثقافية والتموينية؛ لإشباع احتياج الغذاء اليومي لكتلة السكان، وهذه تمثل الحركة الخارجية للمدينة.

وفي الحالتين تتعاظم حركة النقل والمرور الذاتية والخارجية كلما كبرت المدينة إلى أن نصل إلى العواصم القومية التي تمثل ذروة الكثافة المرورية بحكم وظائفها السياسية والاقتصادية، وكل أشكال الخدمات الصحية والتعليمية والمعلوماتية والترفيهية؛ وهو مما يزيد استقطابها لحركة النقل السلعي، وانتقال الناس ليس فقط من داخل إقليمها بل على أبعاد الدولة.

وينطبق هذا المعيار على كل دول العالم، لكنه يصبح أشد تركيزًا في الدول النامية مركزية الحكم والإدارة حيث تكون الإدارة المحلية للأقاليم باهتة، قليلة الصلاحيات الفعلية.

ومصر من هذا النوع، ولكن ظروفها الجغرافية والتاريخية تَزيد تسلط العاصمة على مدار مئات السنين، فالمعمور المصري القابل للإنتاج والسكن محكوم جغرافيًّا وجيولوجيًّا ومناخيًّا بمساحة ضيقة ملتصقة بمورد المياه داخل غلاف صحراوي قاحل منذ عدة آلاف السنين. ومركزية الموقع للعاصمة أمر صعب تجاوزه إلا في حالات الضرورة السياسية القصوى كطيبة «تقهقر قوة مصر»، أو تانيس «صان الحجر – نمو الإمبراطورية المصرية إلى بلاد الشام»، أو الإسكندرية «علاقات مصر المتوسطية خلال العصر الإغريقي الروماني».

وعلى هذا فإن القاهرة كنموذج للحركة والنقل داخل المدن في مصر تأخذ شكلًا حادًّا، وتتطلب المزيد من العناية برسم مخطط عام مرن Master plan لا ترهقه المدن الجديدة التي تُلقي عليها أعباء مرورية فوق طاقتها الاستيعابية الفيزيقية والبشرية.

وفي القاهرة مجموعة كبيرة من مكونات الحركة والانتقال، سنكتفي منها بالمسببات الأساسية كمعايير لقياس الحركة، هي: القوة العاملة التي تتحرك وظائفيًّا، وعناصر جذب الحركة، اتجاه تيارات الحركة؛ شرايين وشوارع القاهرة التي تتعامل مع كتلة الحركة العامة.

(٣-١) قوة العمل في القاهرة الكبرى

عدد السكان بالآلاف للفئة العمرية ١٥–٦٠ سنة (تعداد ١٩٩٦).
العدد بالآلاف المنطقة الأقسام
٦٢٥٠ المجموع
١٢٠٥ الشمال الشرابية – شبرا – روض الفرج – الساحل – الزاوية الحمراء – شبرا الخيمة
١١٩٧ شمال شرقي حدائق القبة – الزيتون – المطرية – عين شمس – المرج
٦٢٢ الشرق السلام – النزهة – مصر الجديدة – مدينة نصر ١ و٢ – منشأة ناصر
٤٨٦ الوسط الزمالك – قصر النيل – بولاق – الأزبكية – الموسكي – عابدين الجمالية – الدرب الأحمر – باب الشعرية – الظاهر – الوايلي
٣٧٤ جنوب وسط السيدة زينب – الخليفة – مصر القديمة
٨٧٦ الجنوب البساتين – المعادي – طرة – حلوان – ١٥ مايو – التبين
١٥٠٠ الغرب إمبابة – العجوزة – الدقي – بولاق الدكرور – الجيزة – العمرانية – الهرم

العاملون الذين تناولهم تعداد ١٩٩٦ هم ١٨٢٢٠٠٠ في محافظة القاهرة، ونحو ٦٦٠ ألفًا في محافظة الجيزة — نسبة ٤٥٪ من قوة العمل في الجيزة — ونحو ٣٠٠ ألف في شبرا الخيمة، ويكون المجموع قرابة مليونين وثلاثة أرباع المليون عامل في القاهرة الكبرى، منهم نحو ثلثي مليون من النساء.

وبافتراض أن ٤٠٪ من العاملين يتحركون في دوائر عمل قريبة من سكنهم — نحو مليون ومائة ألف عامل — يصبح المتنقلون نحو مليون و٦٠٠ ألف عامل يتحركون في القاهرة بعيدًا عن مساكنهم، نحو ٥٠٠٠٠٠ عامل على الأقل حركة يومية إلى ومن القاهرة الكبرى.

فالمحصلة النهائية أن نحو مليونين ومائة ألف يتحركون يوميًّا في شوارع القاهرة.

وربما يعطينا الجدول التالي شكل الحركة واتجاهاتها في التسعينيات من القرن العشرين.

جدول : تورزيع احتمالات الحركة اليومية على المناطق الجغرافية للقاهرة الكبرى «الأعداد بالآلاف».
المنطقة عاملون ذكور عاملون يتحركون عاملات إناث عاملات يتحركن جملة العاملين جملة المتحركين
المجموع ١٨٥٠ ١١٣٣ ٦٥٠ ٣٩٠ ٢٤٦٨ ١٥٢٣
الشمال ٣٧٥ ٢٢٥ ١٢٧ ٧٦ ٥٠٢ ٣٠١
شمال شرق ٣١٢ ١٨٨ ١٢٦ ٧٥ ٤٣٨ ٢٦٣
الشرق ١٦٥ ١٣٨ ٦٦ ٤٠ ٢٣٠ ١٧٨
الوسط ١٥٦ ٧٥ ٥١ ٣٠ ١٧٦ ١٠٥
جنوب وسط ٩٧ ٥٨ ٤٠ ٢٥ ١٣٧ ٨٣
الجنوب ٢٣٠ ١٤٠ ٩٥ ٥٧ ٣٢٥ ١٩٧
الغرب ٥١٥ ٣٠٩ ١٤٥ ٨٧ ٦٦٠ ٣٩٦

ويضاف إلى المجموع الذي ينتقل للعمل نحو نصف مليون يأتون من خارج القاهرة الكبرى يوميًّا؛ وبالتالي يصبح المتنقلون في شوارع القاهرة قرابة مليونين ومائة ألف شخص يوميًّا.

ولا شك في أن مجالات الحركة تختلف من منطقة لأخرى. فغالبية الحركة اليومية في منطقة الجنوب تكاد تتركز في المنطقة، ونسبة قليلة قد لا تتجاوز الربع تأتي من خارج المنطقة. وفي أقسام الشمال تتجه الحركة اتجاهين مختلفين؛ أحدهما: إلى الشمال نحو الساحل وشبرا الخيمة، والثاني: نحو وسط البلد. وفي الغرب تتجه أكثر من نصف حركة إلى وسط البلد أو إلى مناطق العمل ذات النفوذ في منطقة الشرق وخاصة مصر الجديدة ومدينة نصر. وهناك تبادلية واضحة في الحركة بين الشرق والوسط، أما الشمال الشرقي: فيرسل حركة متشعبة كثيفة إلى الشرق وإلى الوسط معًا.

fig67
شكل ٦-١: شبكة الطرق الرئيسية في القاهرة الكبرى.

وحيث إن الوسط والشرق مراكز جذب للحركة من الشمال الشرقي والشمال، فإن هناك محاور اختناق تتمثل في شارع جسر السويس والخليفة المأمون وأوتوستراد النصر، التي تلتقي كلها في شارعي رمسيس والعباسية وكوبري ٦ أكتوبر وشارع الأزهر بوجه خاص. هذا في شرق القاهرة، وفي الشمال اختناقات شارعي كورنيش النيل وشبرا ونفق شبرا في اتجاه ميدان رمسيس وشارع الجلاء من ناحية، وشبرا المظلات وشبرا الخيمة وقليوب من ناحية ثانية، وشوارع وسط البلد كلها تموج بحركة بطيئة في كل الاتجاهات.

نقلًا بتعديل وإضافة عن Celam Barge “Accessibilite et urbanite: l’exemple du Caire” contemporain, letter d’information 44, Avril 1996.

(٣-٢) عناصر جذب الحركة في القاهرة

مجالات الجذب الآتية هي وراء الشكل العام لحركة سكان القاهرة اليومية:
  • (١)

    الإدارات الحكومية والشركات في لاظ أوغلي وقصر العيني وباب اللوق وميدان التحرير وشارع الجلاء وماسبيرو وباب الخلق وعابدين + وزارات العباسية ومدينة نصر وإمبابة.

  • (٢)

    تجارة الجملة في الأزهر والجمالية والنحاسين وتحت الربع والدرب الأحمر وأسواق العتبة ودرب البرابرة والخازندار والمناصرة وشارع الجمهورية وأسواق السبتية وبولاق + سوق العبور.

  • (٣)

    تجارة التجزئة في الموسكي والسكة الجديدة والصاغة وخان الخليلي والغورية وباب الشعرية وأسواق وسط البلد من الأزبكية إلى الإسعاف والتوفيقية إلى باب اللوق + أسواق روكسي وميدان الجامع والعقاد ومصطفى النحاس في الشرق والدقي والمهندسين وفيصل في الغرب والمعادي في الجنوب.

  • (٤)

    محطات ومواقف وسائل النقل الأساسية، وعلى رأسها باب الحديد والتحرير والجيزة ومطار القاهرة، ومجموعة مواقف النقل العام داخل القاهرة، ومجموعة مواقف النقل إلى خارج القاهرة الكبرى، ومشروع محطة الترجمان في قلب القاهرة الذي تتبناه الآن وزارة النقل، ولنا عليه تحفظات كثيرة.

  • (٥)

    الخدمات الطبية والعيادات في وسط البلد، وهجرة بعضها إلى الأطراف، وخاصة المعادي ومدينة نصر ومصر الجديدة والدقي. المستشفيات الكبرى الآن هي في الأطراف أيضًا.

  • (٦)

    الخدمات التعليمية منتشرة دون تركيز باستثناء المدارس الخاصة للغات التي هاجرت إلى مدينة نصر وطريق الإسماعيلية، وإلى الغرب في الدقي ومنطقة الهرم و٦ أكتوبر.

  • (٧)

    خدمات التعليم الجامعي شديدة التركيز، وتجذب يوميًّا عشرات الآلاف، وكانت الجامعات في الأصل في الأطراف مثل عين شمس والقاهرة، لكنها غرقت في خضم المدينة المتنامية في كل الاتجاهات. الجامعات الخاصة هربت إلى مدينة ٦ أكتوبر وأتوستراد الإسماعيلية امتلأ بالمعاهد العليا المتخصصة، والجامعة الأمريكية بسبيل الهروب إلى القاهرة الجديدة.

  • (٨)

    محلات الأغذية الجاهزة ومقاهي الفنادق ودور السينما والمسرح والأسواق الجديدة التي تتجمع فيما يعرف باسم «المول»، تمثل مناطق جذب حركة غالبًا في المساء، وهذه تظهر على كورنيش النيل ووسط البلد ومناطق من الأحياء الجديدة في مدينة نصر والمهندسين وشارع الهرم كنماذج لتكاثف الحركة الليلية في القاهرة.

  • (٩)

    المعسكرات، وخاصة بين العباسية ومدينة نصر، وامتدادها إلى الطريق الدائري، تجذب حركة يومية كثيفة داخل القطاع الشمالي الشرقي من القاهرة.

(٣-٣) تيارات الحركة

شرايين وشوارع القاهرة التي تتعامل مع كتلة الحركة العامة

الحركة النهارية هي أكثف أنواع الحركة؛ لأنها غالبًا ما تشمل الحركة من خارج القاهرة بالإضافة إلى حركة سكان القاهرة أنفسهم. فإذا كان هناك مليونان من القاهريين في حركة العمل أو أي نشاط آخر، فإن نصف مليون آخرين يجيئون ويرحلون عن القاهرة في النهار، ويتزاحمون في مواقف نهايات وسائل النقل العامة بالإضافة إلى سيارات بعضهم التي تتراكم في مخارج ومداخل القاهرة بكم هائل من الحركة يصعب فك اشتباكه. ويزيد الموضوع أزمةً انتقال آلاف العاملين في مصانع وإدارات ١٠ رمضان و٦ أكتوبر وحلوان ممن يسكنون القاهرة ويفضلونها لأسباب معروفة على رأسها ندرة الخدمات في المدن الجديدة أو ضواحي القاهرة.

ولا شك في أن الطرق الآتية التي تحفُّ بالقاهرة أو تخترقها هي مجالات لحركة كثيفة يومية:
  • أوتوستراد الإسماعيلية من وإلى ١٠ رمضان ومجموعة من المصانع والمدن غير المكتملة مثل الهايكستب والعبور والشروق + سوق العبور ومدينة السلام وشرق الدلتا. وتتفرع أو تنصب هذه الحركة من وإلى طرق أوتوستراد النصر والعروبة – صلاح سالم والحجاز وجسر السويس.

  • طريق الإسكندرية الزراعي الذي يجلب الحركة من القليوبية والغربية، ويرفده طريق القناطر إلى المنوفية، وتقودها إلى شبرا ووسط البلد بطريقين متوازيين، هما شارع شبرا وكورنيش النيل.

  • أوتوستراد النصر من المطار إلى حلوان الذي يجر معه حركة شرق القاهرة من مصر الجديدة ومدينة نصر إلى الأزهر، ووسط البلد، وإلى المنشآت الصناعية في دار السلام وطرة وحلوان.

  • طريق العروبة-صلاح سالم يوازي الطريق السابق من المطار إلى الأزهر ومصر القديمة وطرة وحلوان بطريق الكورنيش، ويرفده طريق الروضة إلى الجيزة.

  • طريق مسطرد – السواح – شارع الخليج – شارع بورسعيد الذي ينتهي إلى المنطقة التجارية بين باب الخلق وباب الشعرية، ويتقاطع معه شارع الأزهر إلى العتبة والأوبرا ووسط البلد.

والملاحظ أن هذه الشرايين طولية؛ أي إن معظمها يتجه في محاور شمالية جنوبية، وكان المفروض أن تكتمل الشبكة بطرق عرضية ذات محاور شرقية غربية؛ لكي تكون الحركة متعددة الاتجاهات. لكن القاهرة تنقصها هذه المحاور العرضية؛ مما يسبب اختناقات المرور المعروفة في الأماكن القليلة التي توجد فيها الطرق العرضية. هناك شبكات طرق في أحياء محددة مثل وسط البلد، مثلًا: شوارع عدلي وثروت وقصر النيل تُكوِّن شبكةً محدودةً مع شوارع الجمهورية ومحمد فريد – عماد الدين وشريف وطلعت حرب. لكنها تقف عند الأوبرا من ناحية وطلعت حرب من ناحية أخرى فهي تصطدم بالكتل العمرانية القديمة فيما وراء الأوبرا وطلعت حرب، ويرجع ذلك إلى أن تخطيط القاهرة وامتداداتها قد تم في عصور ومراحل متعددة لكل منها مخطط نابع من عصره، ويقف عند حدود إعمار منطقة معينة، ومثل هذا نجده في منطقة التوفيقية. بينما كان تخطيط مدينة نصر عبارة عن شبكة مفتوحة من الطرق المتقاطعة تسمح بأي امتداد في الاتجاهات التي لا تكتنفها عوائق التضاريس أو المعسكرات.

وأكثر الطرق العرضية أهمية هو طريق الأزهر – العتبة – الأوبرا – ٢٦ يوليو. فهو يخترق القاهرة من الدرَّاسة إلى إمبابة والمهندسين، بل ويقود إلى الطريق الصحراوي و٦ أكتوبر في امتداده الجديد، وهو بذلك العصب الحقيقي للقاهرة؛ لأنه أيضًا يربط مناطق أسواق الجملة في الأزهر والعتبة والجمهورية وبولاق وأسواق التجزئة في وسط البلد، ومن ثم فإن مشكلات المرور فيه ضخمة ومستفحلة على طوله، وبخاصة عند الالتقاء بطرق طولية في منطقة بين الصورين والعتبة والأوبرا والجمهورية وعماد الدين والتوفيقية والإسعاف وكورنيش بولاق والزمالك وسفنكس ولبنان، وقد يحل نفق الأزهر المشكلة جزئيًّا في القطاع الشرقي من هذا المحور، لكنه سيزيدها سوءًا عند الأوبرا وما بعدها غربًا إلى وسط البلد. كما زادت أعباؤه أضعافًا مضاعفة بإنشاء محور ٢٦ يوليو عبر الوادي الزراعي إلى الطريق الصحراوي في اتجاه مدينة ٦ أكتوبر وضواحيها، واتجاه الإسكندرية.

أطول المحاور العرضية في شمال القاهرة هو شارع أبو بكر الصديق من ألماظة إلى ترعة الإسماعيلية وشبرا المظلات. لكن تنميته ما زالت ضعيفة للغاية برغم أهميته التي تتضح عند تقاطعاته مع الحجاز عند المحكمة وسليم الأول في حلمية الزيتون، ثم يتوه في مخططات المطرية وعشوائياتها إلى أن يصل ترعة الإسماعيلية في نقطتين: السواح ومسطرد، وهناك محور عرضي ثالث يمثله شارع التحرير من عابدين إلى الدقي، ومن ثم إلى بولاق الدكرور، وإشكاليات المرور في هذا المحور حادة في باب اللوق والتحرير والجزيرة بين كوبرَيْ قصر النيل والجلاء، والاهتمام به سيقلل التشابك المروري في الدقي وقصر النيل بصفة عامة. وأخيرًا، فإن المحور العرضي الرابع هو ذلك الممتد بطول شارعي الأهرام وفيصل إلى ميدان الجيزة ومن ثم إلى الروضة ومصر القديمة حيث يلتحق بطريق صلاح سالم، ويرتبط بكورنيش النيل إلى المعادي وحلوان، ولأهميته فإن اختناقاته متعددة، وخاصة من ميدان الجيزة عبر الروضة إلى كوبري الملك الصالح ونفق صلاح سالم.

نتيجة لهذا النقص الشديد في الطرق العرضية لشبكة طرق القاهرة فإن المساعي التي قامت بها الدولة مشكورة تتمثل في إنجاز كوبري أكتوبر العلوي، وكوبري الزمالك العلوي، وكوبري المنيب الذي هو جزء من الطريق الدائري الخارجي حول القاهرة الكبرى، لكنه لم يعد خارجيًّا الآن للسماح بالنمو العشوائي أو النمو المخطط حوله، مثل ما نراه في مخطط القاهرة الجديدة والنمو العشوائي من المرج إلى ميت نما، وهو ما دعا إلى رسم طريق خارجي جديد على بعد كبير لخدمة إدخال القاهرة الجديدة والنمو العمراني في قليوب والقناطر الخيرية وما وراء إمبابة شمالًا وغربًا، ونمو بولاق الدكرور وصفط اللبن وغيرها من النوايات العمرانية القديمة/الجديدة في مركز الجيزة على حساب الأرض الزراعية. فإلى متى ننشئ طرقًا دائرية ثم نهدمها؟

كوبري ٦ أكتوبر العلوي هو شريان عرضي مهم يمتد من جنوب مدينة نصر إلى الدقي، وفي جزء كبير منه هو طريق علوي متكامل مع شارع رمسيس والجلاء، وقد أزاح عن كاهل شارع رمسيس بين باب الحديد وغمرة عبئًا مروريًّا كبيرًا. أما شارع الجلاء فهو مشكلة المشكلات حقًا؛ لأنه يعترض معبر شبرا في اتجاه شمال القاهرة ومعبر الإسعاف في اتجاه بولاق والزمالك، والكوبري بعد ذلك لا يخدم العباسية المزدحمة أضعاف طاقتها بالمرور السطحي إلى الوزارات الجديدة وجامعة عين شمس ومعسكرات عديدة بطول شارع الخليفة المأمون، الذي يقود إلى مصر الجديدة والنزهة وجسر السويس إلى الزيتون والمطرية وعين شمس … إلخ؛ أي إلى الكتلة السكانية الضخمة في شمال شرق القاهرة، والتي يبلغ عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين وربع المليون، أو ما يساوي نحو ٤٧٪ من سكان القاهرة — وليس القاهرة الكبرى.

أما كوبري الزمالك، فهو من الضيق بحيث لا يتسع لحركة كثيفة واردة عليه، وخاصة بعد امتداد محور ٢٦ يوليو إلى مدينة ٦ أكتوبر وطريق الإسكندرية الصحراوي، أو الحركة المتوقعة إذا ما امتد إليه كوبري علوي يربطه بكوبري ٦ أكتوبر، ولهذا بدأت الأجهزة المسئولة في توسيع مسار الكوبري في قطاعه العابر للنيل، أما قطاعه في الزمالك؛ فهو من الضيق بحيث قد يمس الكوبري العمارات على جانبيه في حالة توسيعه هو أيضًا.

وقد يحل كوبري المنيب جزءًا من الضغط الحالي في الروضة، لكنه لن يحل مشكلة المرور من مصر القديمة وصلاح سالم إلى الجيزة وأوائل الهرم وفيصل، واحتياجات الحركة من وإلى الروضة، وهي حركة كثيفة بحكم كثافة السكان في المنيل والروضة.

(٣-٤) مقترحات وتوصيات

مشكلات المرور في القاهرة كثيرة، ويجب التفكير الجِدِّيُّ في بعض المقترحات الآتية:
  • (١)

    التوسع في تحسين الطرق العرضية من أجل تكامل شبكة الطرق، وتقليل الضغوط على العدد القليل من نقاط التقاطعات الحالية. هناك طرق يمكن تنميتها بالوسائل المعروفة سواء كانت تحسين الخدمة المرورية بالإشارات واللوحات الإرشادية وشرطة المرور، أو بتوسيع بعض الشوارع القائمة فعلًا كما يأتي.

  • (٢)

    شارع «أبو بكر الصديق» في شمال القاهرة: تحسين المرور والإرشادات المرورية؛ ليخدم الانتقال من مصر الجديدة إلى شبرا المظلات، وخدمة تقاطعاته مع شوارع الحجاز وسليم الأول وميدان المطرية والسواح وتحت نفق السكة الحديد، مع تحسين اتصاله مع شارع العروبة؛ ليصل إلى المطار، ويشكل بذلك محورًا سهلًا بين شبرا والمطار.

  • (٣)

    ربط أوتوستراد النصر في أكثر من موضع مع صلاح سالم، وخاصة شمال مقابر الغفير للوصول إلى شاع العباسية ومن ثم رمسيس، وكذلك الربط عند منطقة مقابر باب الوزير؛ لتسهيل الانتقال إلى شارع ونفق الأزهر، ومن ثم إلى وسط البلد.

  • (٤)

    إنشاء محور عرضي مهم بين صلاح سالم وباب الحديد، وذلك بتوسيع الطريق الحالي من صلاح سالم إلى شارع الجيش وبورسعيد الممتد محاذيًا لسور القاهرة الفاطمية الشمالي — سكة قايتباي، وشارع البغالة — مع إنشاء ساحات لانتظار السيارات أمام بوابتي النصر والفتوح؛ وذلك لخدمة الحركة إلى قلب القاهرة القديمة في النحاسين والجمالية، مع مد هذا المحور إلى باب الحديد بطريق كامل صدقي لخدمة منطقة الفجالة التجارية؛ فنكون بذلك قد فتحنا طريقًا عرضيًّا من باب الحديد إلى أوتوستراد النصر عبر مناطق عديدة مهمة في شمال الجمالية وشمال باب الشعرية وجنوب الظاهر إلى الفجالة.

  • (٥)

    تحسين شارع الأزهر بعد إزالة السور الأوسط — وربما الكوبري العلوي — بحيث تقام جراجات متعددة في الدرَّاسة وقرب التقائه بشارع بورسعيد؛ لخدمة الأعمال في الصاغة وخان الخليلي والتربيعة والغورية وجوامع الأزهر والحسين والغوري وقلاوون … إلخ، وتنمية الحركة السياحية والترفيهية في هذه المنطقة المجيدة ذات الشهرة العالمية بخاناتها المتعددة وبيوتها السكنية القديمة ومسارحها التجريبية ومعارضها الفنية. كما أن تحسين هذا الشارع يخدم أسواقًا متخصصة حول العتبة والموسكي وبين الصورين ودرب البرابرة … إلخ.

  • (٦)

    تحسين شارع تحت الربع ومحاولة تحسين امتداده جنوب الجامع الأزهر أو عند الباب المحروق إلى صلاح سالم، ومن ثم نخلق محورًا مهمًّا موازيًا لمحور الأزهر، ويمتد جنوب القاهرة الفاطمية إلى باب الخلق وحسن الأكبر، ومن ثم باب اللوق ليرفد محور شارع التحرير شمال قصر عابدين إلى الدقي؛ أي من شرق القاهرة عند الأوتوستراد وصلاح سالم إلى الجيزة عند بولاق الدكرور. ويُمكِّننا هذا الطريق من تنمية منطقة الدرب الأحمر بآثارها الإسلامية ومشغولاتها اليدوية، وخاصة الخيامية وقصبة رضوان وغيرهما.

    fig68
    شكل ٦-٢: تنمية محاور عرضية في وسط القاهرة.
  • (٧)

    ميدان باب الخلق يمثل دائرة انطلاق على جانب كبير من الأهمية في سيولة الحركة من العتبة إلى القلعة وصلاح سالم والإمام الشافعي، والسيدة زينب، ومن ثم إلى جنوب شارع قصر العيني، خاصة بعد توسيع شارع السد، وهو بذلك يخدم الحركة إلى منطقة الوزارات في لاظ أوغلي ونوبار في الجنوب، ويمتد شمالًا إلى العتبة وما بعدها.

  • (٨)

    تحسين الطرق من البساتين إلى دار السلام، ومن ثم إلى كورنيش النيل شمال المعادي، وربطه بشارع آخر عند مجموعة كنائس قصر الشمع وجامع عمرو؛ لتحسين حركة السياحة والتنمية العمرانية معًا مع الاحتفاظ بمنطقة آثار الفسطاط محميةً أثريةً لمزيد من إجراء البحوث والحفائر للتعرف على جانب مهم من تاريخ القاهرة.

خلاصة

الكباري العلوية والأنفاق عملية مكلفة غير ودودة بالبيئة؛ ولهذا فإن أهم التوصيات: عدم الالتجاء إلى أيٍّ منهما إلا عند الضرورة القصوى، والملاحظ أن بعض الكباري العلوية، مثل كباري ميدان الجيزة تسهل الحركة في قطاع صغير، ثم تلقي بها في خانق شديد الضيق في جزيرة الروضة أو شارع مراد، فهي حل جزئي يترتب عليه ضرر مضاعف! وقد حدث هذا أيضًا عند افتتاح محور ٢٦ يوليو أن تكدست السيارات في ميدان لبنان؛ مما اضطر إلى شق طريق في قرية ميت عقبة — مع كمٍّ من التعويضات — ولم يعد أمام هذا المحور من سبيل إلى وسط البلد إلا بالتفكير في عمل كوبري علوي يربط كوبري الزمالك بكوبري أكتوبر، وهو ما يحدث الآن في توسعة الكوبري بإضافة حارات مرور جديدة على جانبيه، ومثل ذلك أيضًا ما نتوقعه في العتبة والأوبرا حين يبدأ استخدام نفق الأزهر الذي سوف يلقي بأكداس من السيارات في بحيرة مرور شبه مغلقة؛ لأنها مكدسة هي الأخرى في شوارع وسط البلد.

ما سبق ليس إلا نماذج من مشكلات المرور في القاهرة. فإذا كنا نقف أمامها طويلًا بحثًا عن وسائل وطرق لتخطي هذه العقبات، فما بالنا حين تُلقَى على القاهرة أعباء مرور وخدمات أكثر نابعة من مدن وأحياء تبنى لصيقة بالقاهرة، فتضاعف من همومها. ومثل هذه المدن والأحياء، فضلًا عن تكلفتها الاستثمارية العالية، وتجميد مدخرات الناس في فيلات وشقق، فإنها تصبح جاذبة لمزيد من الهجرة السكانية من الأقاليم إلى القاهرة في الوقت الذي تتطلب فيه النظرة الموضوعية محاولة إيجاد صيغ حياتية تساعد على انتشار الناس على مسطح مصر بصورة أحسن مما هي عليه الأوضاع الراهنة بدلًا من التركيز المرهق في حيز ضيق، والتكديس المخيف في مدينة القاهرة وحدها. فقد كانت القاهرة الكبرى تساوي ١٨٫٩٪ من مجموع سكان مصر عام ١٩٤٧ وأصبحت بعد نصف قرن تستحوذ وحدها على نحو ربع سكان البلاد؛ أي من ٣٫٦ مليون إلى نحو ١٥ مليون من البشر.

فأي انفجار نتوقع في السنوات العشر القادمة؟ وهل هذا هو ما سنورثه لمن بعدنا؟

(٤) نماذج لمشكلات مرورية شديدة الصعوبة

(٤-١) شارع الجلاء ومحطة الترجمان المركزية

يسترعي انتباه كل الذين يمرون في شارع الجلاء كم هو ازدحام الشارع إلى درجة الاختناق والانسداد الكامل، ويحاول الناس قدر جهدهم تجنب السير فيه؛ لأنه على قصره النسبي مكدس بكل وسائل الحركة من الباصات الضخمة إلى الميني والميكروباص، إلى سيارات الملاكي والنقل الخفيف والثقيل والموتوسيكلات وسيارات الشرطة والإسعاف تطلق «سارينتها» دون جدوى؛ فالكل يسير قليلًا … ويتوقف طويلًا.

هذا التكدس سببه واضح: فهو الشارع الوحيد الذي تنصرف فيه الحركة جنوبًا من باب الحديد إلى التحرير مقابل شارع رمسيس الذي يقود الحركة في الاتجاه المعاكس؛ أي من التحرير إلى باب الحديد، وبطبيعة الحال هذا إجراء مروري سليم. إذن لماذا التكدس في الشارعين؟

شارعي رمسيس والجلاء هما بمثابة شارع «داير الناحية» الذي نعرفه في القرى؛ أي الشارع الذي يحيط بكتلة القرية السكنية من الخارج، ومنه وإليه تنصرف الدروب داخل القرية، وشارع رمسيس هو داير الناحية بالنسبة لوسط البلد تنصرف إليه كل شوارعها من عماد الدين وأحمد عرابي و٢٦ يوليو وثروت وغيرها، فضلًا عن امتداد الحركة الضخمة من وإلى شبرا عبر التوفيقية وعماد الدين، ومن ثم وسط البلد، وتخرج من رمسيس حركة إلى بولاق عبر الإسعاف، ووصلتان صغيرتان إلى شارع الجلاء عند معهد الموسيقى العربية وأمام التوفيقية.

أما شارع الجلاء فهو داير ناحية آخر، ولكن لمنطقة شديدة التباين التاريخي والسكني والمستوى الحياتي ونوع الوظائف، بين عشش الشيخ علي والترجمان وورش السبتية والسكن الشعبي في بولاق والقللي وغيرهما، وبين البنايات الفارهة الفارعة الحديثة؛ مركز التجارة العالمي وأبنية البنوك وفندق كونراد ودار الكتب وبرجي وزارة الخارجية والإعلام وهيلتون رمسيس على واجهة النيل، وأبراج المؤسستين الصحفيتين الأهرام والأخبار على شارع الجلاء. ويستقبل شارع الجلاء كل حركة باب الحديد وشبرا وبولاق، ولا يكاد ينصرف منه إلا القليل إلى السبتية وبولاق. فهو أشبه بأنبوب، أو إن شئنا وبلغة العصر أشبه بنفق المترو الذي يجري تحته وكوبري أكتوبر الذي يجري فوقه، وهو بالتعبير الجغرافي أشبه بنهر تصب فيه روافد كثيرة فيطفو فوق ضفافه بصفة دائمة.

figure
شكل : شارع الجلاء ومحطة الترجمان.

لماذا يتجشم الناس مخاطر إضاعة الوقت في شارع الجلاء؟ رواد هذا الشارع في غالبيتهم العظمى مضطرون لذلك؛ لأن الشارع يكاد أن يكون حكرًا على أبنية عامة للناس فيها مصالح متعددة. ففي البداية عمارة تشمل مكاتب الشهر العقاري لشمال القاهرة وعدة محاكم متخصصة، ثم يأتي قسم شرطة الأزبكية المحاصر تمامًا من جهاته المختلفة؛ مما يعوق الحركة السريعة المطلوبة من الشرطة. ثم مستشفى السكة الحديد والبنك الصناعي ومجمع محاكم شمال القاهرة، وأبراج مؤسسة الأهرام، وغير بعيد عنها مؤسسة أخبار اليوم، ثم مستشفى الولادة، ثم معهد ليوناردو دافنشي، وعدة أبنية حكومية، وبيوت فقيرة إلى أن نصل إلى هيلتون رمسيس وميدان الشهيد عبد المنعم رياض، وكل هذه الأبنية على الجانب الغربي من الشارع، أما الجانب الشرقي: فتطل عليه الواجهات الخلفية لأبنية عامة ضخمة على شارع رمسيس مثل: مصلحة الكيمياء، وسنترال رمسيس الضخم، وجمعية الإسعاف، ونقابة المهندسين، وغيرها كثير.

كم من الناس لهم مصالح يومية أو أسبوعية في هذه الأبنية العامة؟ وكم من الموظفين العاملين في هذه المؤسسات مضطرون للحركة اليومية صباحًا ومساء. لماذا كل هذا التكدس الذي يفوق تكدس وزارات لاظ أوغلي.

حتى أوائل الخمسينيات كان شارع الجلاء مليء بالمساحات الفارغة، ضعيف الحركة بالقياس إلى شارع رمسيس الموازي له، وكانت أكثر أماكنه الممتلئة بالنشاط هي تلك عند تقاطعه مع شارع فؤاد — ٢٦ يوليو — المؤدي بواسطة الترام من العتبة إلى بولاق والزمالك وإمبابة، وكذلك كان التقاطع مع نفق شبرا. بهذا استغلت ناصيتي التقاطعين في بناء مستشفى فؤاد — للولادة — ومعهد دافنشي، ثم مستشفى السكة الحديد، وحين أرادت جريدتي الأخبار والأهرام أن تتوسعا بنت كل منهما إنشاءاتها الكبيرة في متسع من الأراضي الفضاء.

سبب هذا التكدس بالنسبة لشارعي الجلاء ورمسيس أن كلًّا منهما كان مسارًا لترعتين متجاورتين تأخذان من النيل شمال كنيسة كل القديسين محل ميدان عبد المنعم رياض حاليًّا، وقد ردمتا في آخر القرن الماضي غالبًا مع ردم مسار الخليج المصري من فم الخليج حتى غمرة عام ١٨٩٩؛ ترعة الإسماعيلية بعد ردمها وإنشاء مأخذها الحالي شمال شبرا أصبحت مسارًا لشارع عباس؛ «الملكة نازلي ثم رمسيس حاليًّا». أما الترعة البولاقية: فقد استخدمت أرضها بعد ردمها لمد خط حديدي من باب الحديد إلى ثكنات الجيش الإنجليزي في قصر النيل، وظل الخط الحديدي قائمًا إلى نحو نهاية الأربعينيات، وكان الطريق المجاور للخط يسمى شارع فم الترعة البولاقية حتى تقاطعه مع ٢٦ يوليو، ومن ثم كان شارع الترعة البولاقية موازيًا لشارع آخر باسم سيدي المدبولي الذي كان يبدأ من باب الحديد ويتصل بشارع الترعة خلف السنترال. وبعد فترة من جلاء الإنجليز عن الثكنات عام ١٩٤٧ ضم شارعي سيدي المدبولي وفم الترعة، وأصبح الطريق المستقيم الجديد هو شارع الجلاء الحالي، وعلى طول شارع رمسيس بنت الدولة مبانيَ حديثةً كحمام وزارة المعارف ومصلحة الكيمياء وجمعية الإسعاف ومعهد الموسيقى وسنترال تليفونات القاهرة وسجن الأجانب؛ وبذلك ظل شارع الجلاء شارعًا خلفيًّا لفترة طويلة، ومع تحويل خط مترو مصر الجديدة من عماد الدين إلى الجلاء بدأت حركة نشطة للبناء والتعمير في شارع الجلاء؛ فصار شديد الازدحام للدرجة التي رفع معها خط المترو إلى كوبري الليمون كحل لأزمة شارع الجلاء، ولكن بدون نتائج حاسمة.

وللآن ليس واضحًا ماذا يمكن عمله للتخفيف عن هذا الشارع المحوري. هل يعود المرور إلى اتجاهين في الجلاء ورمسيس؛ بحيث يخفف الضغط عليهما فلا يضطر العابر للجلاء دون مصلحة فيه أن يسلكه مرغمًا، ويتحول عنه إلى رمسيس في اتجاه التحرير، وكذلك يسلكه القادم من التحرير إذا كان صاحب مصلحة في شارع الجلاء بدلًا من التزاحم والعنت في شارع رمسيس؟ ربما يتم التثبت من جدوى هذا المقترح بواسطة متخصصي المرور بناء على دراسة واقع سيولة الحركة بأجهزة العد الآلي التي تقام في الشوارع، واستبيان يُطرح على المستفيدين من الحركة في الشارعين. أو هل يوجد أيُّ اقتراح آخر يخفف آلام الحركة؟

أما مشروع محطة الترجمان المركزية للنقل البري والمطروح الآن للتنفيذ بعد الدراسة؛ فإنه لا شك مشروع هندسي جيد أو ممتاز، ولكن على الورق. غير الجيد فيه موقعه السيئ غير المناسب لحركة مركزية، وقد يسبب كارثة مرور فوق الكارثة المرورية الحالية في وسط البلد. فالترجمان تقع وسط ما ذكرناه من مناطق شعبية كثيفة داخل إطار من الأبنية الإدارية والحكومية والتجارية والفندقية، ولكل من هذه الأبنية وظائف لها متطلباتها من حيث انسياب وسيولة حركة المرور إليها، ويحد هذه المنطقة من الشرق شارع الجلاء، ومن الجنوب شارع ٢٦ يوليو، ومن الغرب كورنيش النيل، ومن الشمال خط حديد الصعيد وشوارع السبتية المكتظة. كلها إذن شوارع مكدسة بلغت الحركة فيها أضعاف طاقتها المرورية مهما بلغ تنظيم المرور فيها مبلغه. فكيف يمكن للسيارات والأتوبيسات السياحية وأتوبيسات الأقاليم اختراق هذه الشوارع إلى محطة الترجمان؟ هل ستحفر أنفاق تحت النيل وشبرا وباب الحديد والتحرير؛ لكي تصل السيارات إلى المحطة؟

كيف يمكننا أن نوفق بين خطتين متعارضتين؛ أولاهما: إبعاد محطات النقل الإقليمي من أحمد حلمي — الذي هو في موقع أفضل من الترجمان — إلى عبود وشبرا الخيمة من أجل تخفيف العبء المروري عند باب الحديد، والخطة الثانية: تركيز المحطات الإقليمية في واحدة هي الترجمان الذي يقع داخل أعتى الأماكن ازدحامًا فتزيد السوء سوءًا؟! أليس لدينا منهاج واحد ثابت لمدة عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن حتى تستقر الأمور، ونرى ما تسفر عنه خطة أو توجه من اعتياد الناس للحركة، على ألا نحيد عن الخطة خلال تلك الفترة لمجرد تغير المسئولين؟ أليس الهدف حركة مرورية أرحم من الانسدادات الحالية من أجل قاهرة أحسن؟ وهنا أعيد التذكير أن المدينة التي تتعقد فيها حركة المرور هي مدينة مريضة تحتاج حلًّا.

(٤-٢) لاظ أوغلي الجديد في ميدان العباسية

لاظ أوغلي هو الميدان الذي أعطى اسمه لحي الإدارة والحكم في مصر خلال نحو قرن من الزمان. كانت تلتف حوله وقربه رئاسة الوزراء ووزارات المالية والحقانية والداخلية والصحة العامة ومجلسا النواب والشيوخ، وليس بعيدًا عنه وزارت المعارف العمومية والحربية والمواصلات والأشغال العامة والشئون الاجتماعية، والكثير من الأبنية الحكومية التابعة لوزارات الداخلية والمالية والصحة كمصلحة تحقيق الشخصية ومصلحة الأملاك الأميرية وخزانة الدولة ومصلحة الطبيعيات — الأرصاد ومياه النيل — في شارع منصور ومصلحة الطب الشرعي ومصلحة الضرائب وغير ذلك مما لا تعيه الذاكرة، وفي الحي ذاته كانت هناك أبنية عامة معظمها علمي؛ كالجمعية الملكية الجغرافية والمعهد العلمي المصري والجامعة الأمريكية التي كانت أصلًا مقرًّا للجامعة الأهلية المصرية قبل أن تصبح جامعة فؤاد الأول، وتنتقل إلى متسع من الأرض في الأورمان، وأبنية أخرى أبرزها: ضريح سعد، وقصر الأميرة شويكار الذي أصبح مقرًّا لمجلس الوزراء حتى الآن، ومتحف الشمع الذي يشغل مكانه الآن مركز دعم اتخاذ القرار.

وبطبيعة الحال كانت حركة المشاة هي الغالبة؛ لكثرة وسائل النقل العامة من ترام وأوتوبيس وعربات الحنطور والقليل من التاكسي. وكانت الشوارع ظليلة بأشجار على الجانبين رعايتها من قبل مصلحة التنظيم مستمرة من أجل راحة المشاة، ومن ثم لم يكن هناك ازدحام وتكدس مروري وما والاه من تلوث معروف الآن، فكل موظف أو طالب خدمة حكومية كان يأتي راجلًا أو راكبًا وسيلة نقل، ثم يتجه إلى الوزارة المعنية ويغيب داخلها؛ لهذا لم تكن هناك حاجة إلى مواقف للسيارات. أما الآن فالأمر قد اختلف وشوارع هذا الحي الذي يحكم إدارة مصر قد اكتظت بالسيارات على جانبيه عدا أمام مجلسي الوزراء والشعب. وأصبحت المعاناة مريرة لكل من يذهب ليقضي مصلحته من مبنًى حكومي. فالترام قد اختفى بعد أن كان وسيلة نقل تحمل أعدادًا من الناس أكبر من الأتوبيسات التي زادت أعدادها لكنها تزيد حركة المرور ارتباكًا بضخامتها، فضلًا عن الميكروباصات التي تتداخل بشكل مزرٍ في حركة المرور لرعونة السائقين.

ونتيجةً للنمو السكاني الكبير ونمو احتياجات الحكم من إدارات ومصالح جديدة وخلق وزارات جديدة؛ فقد بدأت هجرة لأجهزة حكومية من حيِّ لاظ أوغلي التقليدي نتيجة لتشبعه القاتل بالأبنية المضافة إلى الأبنية الأنيقة السابقة، واتجهت الهجرة الحكومية إلى عدة اتجاهات؛ أبرزها الاتجاه إلى الدقي، وإمبابة غرب النيل، والاتجاه إلى العباسية ومدينة نصر في شرق القاهرة التقليدية.

لكن القاهرة نمت شرق العباسية وعبر طريق صلاح سالم إلى مدينة نصر، وما تزال تنمو عبر طريق النصر في اتجاه الطريق الدائري؛ لتخنقه في اتجاه ما يسمى الآن باسم القاهرة الجديدة: التجمعات الثالث والخامس والقطامية … إلخ. الحصيلة النهائية لهذا النمو السرطاني غير الواعي بمشكلات القاهرة — برغم أنه مخطط من قبل وزارة التعمير — أن العباسية لم تعد في شرق القاهرة، بل في وسط القاهرة. تمامًا كان حي لاظ أوغلي في وسط قاهرة أوائل القرن العشرين، وبذلك استحقت العباسية أن تسمى الآن لاظ أوغلي الجديد مع فارق الزمن وكثرة الناس والسيارات. في العباسية الآن وزارة الكهرباء ومصالحها العديدة، مثل: مصلحة كهرباء الريف، والكثير من الأبنية التابعة لوزارة العدل، مثل: مجمع محاكم شمال القاهرة، وأبنية لوزارة الداخلية عديدة، مثل: معهد الشرطة … وغير ذلك، وكلها مجمعات ضخمة مكونة من أبراج عديدة تصل إلى نحو عشرة أدوار ارتفاعًا، تحتجز وراءها مدرسة سانت فاتيما وتحاصرها. ومقابل هذه الأبنية العملاقة مبنى كلية الشرطة التي يقال: إن النية متجهة إلى نقل وزارة الداخلية إليه بعد أن تنتقل الكلية إلى مبنى ضخم عبر الطريق الدائري، وأبراج مصر للسياحة … إلخ. هناك كوبري علوي قصير يمر في هذا الشارع المختنق بالحركة التي تنصب من وإلى مدينة نصر والأوتوستراد في اتجاه وسط البلد عبر شارع رمسيس وشارع العباسية والجيش وشارع الخليفة المأمون، وكوبري ٦ أكتوبر العلوي يمر وراء المحاكم ووزارة الكهرباء، ووراءه جامعة عين شمس التي اختنقت بمرور الكباري والجسور وخطوط المترو ومترو الأنفاق، ويخترق الحرم الجامعي طريق الخليفة المأمون المكتظ بالحركة، وبذلك أصبحت جامعة عين شمس حبيسة موقع محاصر مخترق. الخلاصة أن المنطقة ككلٍّ هي من بين المناطق الأصعب في الحركة بالقاهرة، وما أكثرَها!

بعد هذا الوصف العام الذي يعرفه كلُّ قاهري يفكر في العبور من الشرق إلى الغرب أو العكس، ويعمل له ألف حساب كأنه مقبل على اجتياز حقل ألغام يسير فيه بسرعة هي غالبًا أقل من سرعة المشاة، نأتي إلى تحليل دور المخطط الحكومي في صنع هذه العقبة الكئود.

لقد بنيت هذه الأبراج الحكومية على نفس النمط الذي تأسست عليه مباني لاظ أوغلي القديمة، كأن الزمن لا يتحرك! فلم يعد للمشاة دور في الحركة كما كان الأمر في مطلع القر؛ بل تعتمد الحركة الآن على السيارات من كل صنف. أين تقف هذه السيارات الخاصة بالموظفين والعملاء من الشعب؟ لم يبن المخطط جراحات تحت وحول المبني، وعلى الموظفين والأفراد الساعين لقضاء مصالحهم أن يتقاتلوا من أجل مكان يضعون فيه سياراتهم، وهو أمر بعيد المنال! أي قوة من رجال شرطة المرور غير قادرة على تنظيم الحركة، وأصبح الأمر كله متروكًا لمن نسميهم «المنادين» ينظمون انتظار السيارات تحت الكوبري وعلى جانبي الطريق صفوفًا متعددة حتى ضاق بهم نهر الطريق، وأسهم بذلك في المزيد من بطء حركة السير.

إذا كانت القوانين تنص على تخصيص جراجات تحت العمارات، فإن الأبنية الحكومية هي أول من يخالف القانون، ولهذا فلا عتب على ملاك العمارات أو المباني التي تحف بها حديقة صغيرة أن يحولوا الجراجات والمساحات الشجرية إلى محلات وبوتيكات، تاركين مهمة ركن السيارات إلى جوانب الشوارع وأرصفتها، وهذا ما يعطي القاهرة ظاهرة فريدة، لكنها معيبة، بين المدن الكبيرة في العالم.

فما بالنا لو انتقلت وزارة الداخلية إلى مبني كلية الشرطة الحالي؟ صحيح أن هناك مكانًا واسعًا الآن أمام الكلية، لكن البعض من المخططين والمهندسين ينصحون دائمًا باستخدام كل الفراغات لبناء ملحق جديد وملحق بالملحق … إلخ. انظر إلى مبني وزارة الداخلية الحالي. لم أدخله منذ أكثر من ربع قرن، لكن يستبين للناظر من الخارج أن كل فراغ قد بنيت فيه ملاحق حتى أصبح غابة من الأبنية ضاعت إلى الأبد متنفساتها الطبيعية من الهواء والنسيم صيفًا وأشعة الشمس الدافئة شتاء، وحل محل الطبيعة النظيفة ما تنفثه أجهزة التكييف من غازات ضارة وما تصدره من ضجيج يلوث السمع. فما بالنا بالعاملين داخل هذه المباني المهمة: هل هم يعملون في وزارة أم ماذا؟! وما بالنا حين تنتقل وزارة المالية ومصلحة الجمارك إلى أبراجها العديدة في امتداد شارع رمسيس شرق العباسية؟ ماذا سيكون حجم الحركة في هذه المنطقة بين عشرات الآلاف من طلبة جامعة عين شمس، ومؤسسات الجيش، وموظفي الوزارات والعملاء المترددين عليها؛ لقضاء حاجاتهم من هذه الوزارات المركزية المحتوى والمضمون؟

قبل أن نقول: إن الأمر يحتاج إلى تخطيط جديد للمرور، علينا أن نطالب الوزارات والمصالح الحكومية أن تخصص أماكن لانتظار السيارات؛ فليس بمستساغ أن تبني الأجهزة الحكومية ما شاءت، ثم تلقي بالكرة في ملعب إدارات المرور التي ليس لديها حلول سحرية لعلاج ما أفسده الآخرون!

إذا أردنا تعداد المناطق العقدية في حركة المرور — أو ما يسمى اختناقات عنق الزجاجة — في القاهرة فهي كثيرة، وأسبابها متعددة أيضًا، لكن ليس أحدها بسبب سوء التخطيط الحكومي مثل لاظ أوغلي الجديدة والقديمة على حد سواء. الوزراء لا يشعرون بالمعاناة؛ لأنهم ينتقلون في طرق فتحتها لهم سيارات وموتوسيكلات المرور من أجل العبور السريع، وغالبًا ما يضيف مرور مسئول أو ضيف كبير إلى مشكلة بطء المرور؛ لأن الطرق تقفل قبيل مرور سياراتهم بعدة دقائق هي في الواقع كافية لتراكم انتظار أرتال من السيارات.

(٤-٣) هل يمكن إنقاذ أوتوستراد الإسماعيلية؟٩

تتسم القاهرة بمداخل ومخارج تتزاحم عليها الورش والمصانع والمخازن وأنواع رديئة من السكن المصاحب؛ ويترتب على ذلك أن الطرق الممتازة التي تربط القاهرة بأجزاء مصر تنتهي فجأة إلى متاهة من اختناقات المرور! فهنا تتزاحم شتى أشكال ووسائل النقل من عربات الحيوان إلى السيارات الخاصة إلى الشاحنات بأحجام ومقطورات مختلفة إلى الأتوبيسات والميكروباصات.

وسواء كان الطريق أوتوسترادًا أو طرقًا من درجات أقل؛ فإن للطرق في العالم جاذبية فتافيت السكر للنمل، أو جاذبية قضيب المغناطيس لكل أشكال المباني؛ ما كان منها للسكن أو أية مشروعات تجارية أو صناعية أو خدمية أو إدارية أو أمنية، وكل ما يتفتق عنه الفكر البشري من أبنية ذات وظائف تلبي احتياجات الإنسان التي لا تنضب.

وفي بلاد العالم بما فيها نحن، قوانين ولوائح وضوابط لكبح هذه الجاذبية القوية، وتيسير انسيابها في اتجاهات محددة. كأن توضع حدود لاقتراب المباني من حرم الطريق، أو أن يحدد شكل الطريق ومواصفاته المناسبة لوظائف الأحياء أو المدن أو القرى التي يخدمها.

ومثل هذه التشريعات والقوانين هي أشد صرامة بالنسبة للأوتوسترادات بحيث يصبح الطريق أشبه بالطريق الحديدي؛ فله حرم عريض، ولا تبنى عليه مباشرة أية منشآت عمرانية أو صناعية أو تجارية أو إدارية إلا على مسافة تتجاوز نصف الكيلو متر أو أكثر، وذلك من أجل المحافظة على وظيفتي السرعة والأمان المروري، وهما الهدف من إنشاء مثل هذه الطرق السريعة، وإلا كأننا ننفق الأموال الطائلة؛ لنهدرها بعد قليل نتيجة التراخي في تنفيذ القوانين!

أوتوسترادات مهدرة

إن إهدار قيمة الطرق السريعة في مصر هو واقع مؤلم، فننظر إلى أوتوسترادات القاهرة الكبرى لنرى كيف أصيبت بكل العلل التي أردنا تجاوزها بإنشاء هذه الطرق. فالأوتوستراد الزراعي اختنق بين شبرا وشبرا الخيمة وقليوب وطوخ اختناقًا بلا صحوة، وأوتوستراد حلوان رحل كنظيره الزراعي تائهًا بين غابات من عماليق الأبراج في المعادي، واختلاط الحابل بالنابل بين المساكن المحشورة وسط المصانع والمخازن والورش في دار تسمى بالسلام أو حدائق حلوان، أو ذلك النمو العشوائي فوق ما خطط له في مدن العمالة في حلوان والتبين ومايو وطرة، وكل ذلك مليء بالمفارقات والعجائب من متلفات أوزون، ومذهبات صحة! وحتى الأتوسترادات الصحراوية أصابتها شيخوخة مبكرة! فإذا كانت هناك حجج ومعاذير لاختناق الطريق الزراعي أو حلوان أنهما يمران بمناطق معمورة من قبل، وأن هذا المعمور نما وانتفخ فوق التشريعات إلى أن استسلمت البلديات والمحافظات، فما هي الحجة بالنسبة لطرق الصحاري؟

الالتزام هو التصرف الحضاري

هناك دعوة أن نكون أناسًا حضاريين، وأن نتصرف بما أضفته علينا مواريثنا الحضارية لآلاف السنين، ولكنها دعوة لم تخرج إلى حيز الممارسة في أشياء كثيرة، وواحد من أدلة التصرف الحضاري هو الالتزام بالقوانين والتنظيمات سواء كان هناك رادع عقابي أو لا يوجد، ونحن ما زلنا بعيدين عن مثل هذا الالتزام، وخاصة بالنسبة لقوانين البناء وخطط التنمية. فطريق الإسكندرية الصحراوي لم يعد صحراويًّا إلا بالكاد؛ الملايين يتحركون عليه، وكل عام يرون من الصحراء جزءًا متناقصًا، وهذا شيء مفرح تنمويًّا، لكن العمران السكني والخدمي المحاذي للطريق قد حوله إلى طريق زراعي آخر في قسمه الشمالي، وسوف يتم الخناق بالنمو المتسارع لمدينة العامرية الصناعية، وربما يحدث اختناق آخر في القسم الأوسط إذا ما تذكر أحد مدينة السادات وأيقظها من خمولها. وفي القسم الجنوبي امتلأ الطريق عند «أبو رواش» وما حولها بالمخازن والورش والمزارع الخاصة أو تلك التي في طور الإنشاء.

أوتوستراد الإسماعيلية

أما هذا الطريق الذي أنشئ في الأصل كطريق استراتيجي من القاهرة إلى منطقة القناة؛ فإنه يتحول الآن إلى مصير كافة الطرق السريعة المصرية. فالمدخل القاهري في طريقه إلى الاختناق السريع نتيجة الورش والمصانع والمدن السكنية المتعددة، وكان بالطريق غابة لعلها كانت حزامًا أخضر فيما مض، لكن المصانع احتوتها، ولم يعد باقيًا سوى بقايا يسيرة حزينة تائهة في غير محيطها، فهل يمكن الحفاظ على البقية الباقية والعناية بها؟ أم أن حاجة الوزارات — أو الهيئات التي تملكها — إلى المال سوف يسلمها إلى مصير محتوم؟! ولحسن الحظ أن الجانب الأيمن من الطريق يسير موازيًا لخط حديد السويس، وبينهما مباني منشآت أمنية قديمة، وهذه الأبنية ذات الحركة المحدودة نسبيًّا قد ساعدت على الحفاظ على قدر من السيولة المرورية على الطريق، والأمل أنه في حالة التفكير في نقل هذه المنشآت ألا تباع الأرض لأغراض البناء السكني كما حدث في حالات مماثلة. بل تتحول أماكنها إلى جنة خضراء للترفيه أو إقامة أندية ومناشط شبابية لاستيعاب حركة الشباب جنبًا إلى جنب مع مدارس تحتاجها هذه المنطقة التي نمت فيها مدن عشوائية أو مخططة، وفوق هذا فهذه المنطقة تقع في حرم مدرج المطار من جهته الغربية تقريبًا، وحرام أن نحيط المطار بالأبنية والمدن كما ذكرنا من قبل.

أحمال فوق أحمال على الطريق

وعلى هذا الطريق أيضًا أنشئ مؤخرًا مبنًى للتجنبد المركزي والسوق المركزية في العبور ومدينة السلام والهايكستب والشروق … إلخ. لكن أكبر هذه المدن، وربما أكثرها احتياجًا للحركة على الطريق هي مدينة العاشر من رمضان؛ تلك المدينة الصناعية التي بدأت الآن مرحلة الانطلاق. إن نمو الصناعة في العاشر يؤدي إلى مزيد من الضغط على الطريق. فهل هناك حسابات لطاقة تحميل الطريق لعجلات تجري بالخامات، وتعود بالسلعة المصنعة في اتجاه القاهرة؟ ويعرف الناس أن هناك حركة أخرى يومية للعمالة التي تسكن القاهرة وبلبيس صوب العاشر، بينما القطاع السكني في العاشر ما زالت نسبة إشغاله دون المتوسط، كما أن جانبًا من السكان المقيمين لا يرتبطون بعمل في مصانع المدينة، ويعرف المختصون أيضًا أنه لا توجد مدينة مخططة من الألف إلى الياء كالعاشر يخترقها الأوتوستراد! ففي شرق الأوتوستراد المصانع، وعلى الجانب الآخر الحي السكني، دون أن تكون هناك أنفاق أو جسور للراكبة والراجلة تؤمن حركتهم، وتضمن للأوتوستراد وظيفته في النقل السريع الآمن. ومؤخرًا وبعد نحو ٢٠ سنة أقام المسئولون كوبريين علويين لتأمين حركة الأتوستراد وتأمين الحركة بين المصانع والمساكن. والنموذج الأمثل لمثل حالة العاشر أن المدينة بقسميها السكني والصناعي تنشأ معًا على جانب واحد من الأوتوستراد، ويفصل القسمين طرق خدمة للحركة الدائبة للمدن.

وفوق هذه الأحمال فإن الأوتوستراد هو محور يتلقى حركة الطرق التي تنصرف إليه من السويس وبلبيس والسلام والإسماعيلية وغيرها؛ مما يشكل أعباءً ثقيلة عليه تتطور مع زيادة عدد ملاك السيارات، ونمو أشكال الأنشطة التجارية والترفيهية في منطقة البحيرات المرة والإسماعيلية وبورسعيد — فضلًا عن تكاثف الحركة إلى سيناء الشمالية، ونمو مصالح ووشائج مطلوبة ومرغوبة — فأين إذن قدرة هذا الطريق الوحيد، برغم فخامته واتساعه، على مواجهة هذه الأحمال دائمة النمو؟

وبالإضافة فقد اجتذب الأوتوستراد عشرات المدارس والمعاهد وجامعة واحدة، وكلها مدارس لغات حديثة تشغل مساحات كبيرة ومصاريفها عالية، وهناك آلاف التلاميذ الذين ينتقلون بالباصات الخاصة التي تديرها المدارس، أو بسيارات ذويهم، وليس من شك في أن هذا هو ما يزيد الحركة على الأوتوستراد أعباءً مضاعفة. صحيح أن هذه المدارس بنيت في بيئة صحية قليلة التلوث الجوي والسمعي،١٠ ولكن ازدحام الطريق غير المحسوب أصلًا، قد جعل المشوار إلى المدرسة من مصر الجديدة وضواحيها مشوارًا مؤرقًا، ويستغرق وقتًا أطول مما خطط له يذهب بحيوية التلاميذ عند وصولهم المدرسة، ولدى عودتهم لبيوتهم!

الخلاصة أنه من اليسير على أهل المعرفة حساب كم من آلاف الأطنان من السلع والخامات والأغذية يتعامل معها سوق الجملة ومصانع العاشر وجملة الصناعات الأصغر على طول طريق جسر السويس، وكم من السيارات تمر حاملة آلاف الناس إلى أعمالهم وبيوتهم بين القاهرة وبلبيس والسلام والعاشر والإسماعيلية. ويبدو أننا في مصر اعتدنا نسبة عالية من الكوليسترول في أوعيتنا الدموية لتضخم مأكولاتنا، والطرق هي شرايين الحياة بالنسبة للاقتصاد والناس، فهل ننقل سمة الكوليسترول العالي إلى طرقنا فنحملها فوق طاقتها بمدن ومشروعات عديدة، وسريعًا ما نفقدها كطرق ربط سريعة!

سوق الجملة

ويتطلب سوق الجملة بالعبور بضعة تعليقات: هو جيد ونظيف ونتمنى أن يظل كذلك بعد طول استخدامه. آفة الشرق إجمالًا هي قلة الصيانة في وقتها، واستخدام الشيء لغير ما خصص له أو أكثر من طاقته التصميمية. لم يحدث هذا داخل أسوار السوق، ولكن الغريب أنه قد نشأت عند بوابة السوق الخلفية سوق موازية في حالة لا تسر من حيث عرض السلع، لكنها أرخص من نفس السلع في الداخل. من يمول هؤلاء التجار؟ قد نظن أن بعض كبار التجار يساندون السوق الخارجية كمنصرف للمواد التي لم تعد طازجة أو مغرية من خضر وفواكه.

والأغرب هو إنشاء محطة سكة حديدية باسم محطة العبور على خط السويس البطيء على مبعدة نحو ثلاثة أرباع الكيلومتر، فهل هي محطة لخدمة العاملين في السوق؟ معروف أن السكك الحديدية لا تستطيع أن تنافس السيارة والباص في المسافات القصيرة للمرونة الفائقة التي يتمتع بها النقل البري مقابل جمود الحركة الحديدية على خط واحد. أما إذا كانت المحطة بغرض نقل سلعي، فهذا أيضًا غير ممكن بالنسبة لسوق يتعامل مع أغذية نباتية وحيوانية وأسماك وغير ذلك من المواد سريعة العطب التي لا تتحمل بطء النقل الحديدي — ناهيك عن أن خط السويس هو خط هامشي لا يرتبط بالشبكة الحديدية الكثيفة إلا بطريق غير مباشر من خلال محطة مصر — أي إنه لا يرتبط مباشرة بخطوط تجري في مناطق إنتاج السلع الغذائية.

مقترحات

  • الاقتراح الأول: هو إنشاء طريق موازٍ لأوتوستراد الإسماعيلية من القاهرة حتى العاشر — على الأقل — وذلك لتحمل نصيبًا من الضغط المتزايد على الطريق. جزء من هذا الطريق المقترح قائم فعلًا ممثلًا في طريق الهايكستب غربي المطار، وهو طريق يمكن تطويره ومده شرق الخط الحديدي. مع وصلات عبره إلى الأوتوستراد.
  • الاقتراح الثاني: هو إعادة استخدام خط حديد السويس الحالي بطريقة أكثر انتظامًا ومرَّات أكثر في اليوم، والأحسن هو كهربة الخط، أو تسيير مترو سريع التقاطر على الأقل حتى العاشر من رمضان، مع ربطه بشبكة مترو القاهرة في محطة المرج، وهذه الوسيلة من النقل الجماعي أكثر أمنًا١١ وأوفر اقتصاديًّا وأوفر في الوقت بالقياس إلى النقل بالميكروباصات، وبالتالي فهو سيرفع عبئًا كبيرًا عن الأوتوستراد.

والخلاصة أنه يجب إصدار تقنين أشد قوة في التنفيذ لمنع المزيد من المنشآت كثيفة الحركة على هذا الطريق. فكفاه ما هو عليه من مشروعات. كذلك تشجيع المستثمرين والمنظمين على الاتجاه إلى الطرف الآخر من الأوتوستراد حول الإسماعيلية وشرق القناة من أجل توزيع عادل نسبيًّا لأماكن العمل على رقعة أبعد من دائرة جذب القاهرة والمدن التي تدور في فلكها نتيجة تخطيط لم يكن مدركًا لظاهرة التزاحم والتمركز المصرية إدراكًا قويًّا، وقد حان الوقت أن يقف المفكرون في الجوانب الاجتماعية من الحياة بقوة جنب المخططين الفيزيقيين من أجل تسهيل انتشار الناس بطريقة محسوبة ومستجيبة على مساحات أكبر من أرض مصر بدلًا من المركزية الراهنة.

(٤-٤) شارع الأزهر والنفق١٢

ليس من قبيل التكرار التطرق إلى مشكلات شارع الأزهر التي يعرفها الجميع، وحل هذه المشكلات لا تأتي بتنفيذ عنصر واحد كبناء كوبري الأزهر فيما مضى، أو إنشاء النفق كما يحدث الآن، لكن الحل يكمن في ضرورة النظر لمنطقة الأزهر بشمولية أرحب من معالجة قضية واحدة. وليس من قبيل التزيد في القول أن شارع الأزهر اسم علم على واحدة من أهم مناطق القاهرة التجارية، ويضم بين جنبات المنطقة ثروة بالمليارات. كما أنه الجزء الشرقيُّ من المحور العرضي الأساسي الذي يخترق القاهرة من الدرَّاسة إلى إمبابة، ويربط أسواق العتبة والموسكي ووسط البلد وشارع الجمهورية وسوق وكالة البلح وأسواق الكورنيش والزمالك الحديثة، ومن ثم تأتي أهمية هذا الشارع والمنطقة التاريخية الاقتصادية التي تتمحور حوله.

وفي خطة توسيع ميدان الأزهر-الحسين ترددت الأفكار الآتية:
  • (١)

    هدم مبنى مشيخة الأزهر القديم لتوسيع الميدان.

  • (٢)

    تحويل المنطقة إلى منطقة مشاة فقط.

  • (٣)

    عمل نفق لانسياب الحركة من الأوبرا والعتبة حتى طريق صلاح سالم.

وهدم مشيخة الأزهر عمل هدَّام فعلًا، صحيح أن هناك بناية جديدة أنشئت للمشيخة إلى جوار دار الإفتاء، لكن لماذا الهدم؟ لقد شاهد غيري كثيرون أن الأجزاء القديمة من المدن الأوروبية — وهي أحدث بكثير من القاهرة الفاطمية المملوكية — يحافظون عليها مهما كان الشارع ضيقًا؛ لأن هذه أبنية تراثية.

وأعتقد، وكثيرون غيري، أن مبنى المشيخة الحالي هو من المعمار الإسلامي الراقي قارب عمره على مائة عام، وربما لا يستطيع صناع زماننا تقليده إلا بتكلفة عالية. لكننا، فيما يبدو، نستسهل الهدم دون تحرِّي الواقع، وأخيرًا صدر قرار عالٍ بمنع هدم هذا المبنى؛ فكفى المؤمنين شر القتال.

الاختناق المروري الحالي في منطقة الأزهر يعود إلى أسباب أخرى غير وجود مبنى المشيخة. أول هذه الأسباب توجد فينا كسائقي سيارات خاصة أو عامة أو نقل، خلاصته: عدم الالتزام بقواعد المرور وآدابه، وتداخل سيارات مستهلكة في مجرى المرور، وهي لن تجد حلًّا إلا بجدية تطبيق القانون والملاحقة بالقوة الجبرية على كل الناس بغض النظر عن قوة الانتماء.

السبب الثاني هو وجود مجموعة من الأبنية المتنافرة معماريًّا وماديًّا وحضاريًّا مع روائع الأبنية التراثية. فالنازل من الدرَّاسة إلى الميدان يجد على يمينه مبانيَ متهالكة متنافرة مع بعضها، زادها تنافرًا وتشويها المحالُّ والدكاكين التي تقيم نشاطًا في مساحات قزمية لا تصلح لشيء مهم. هذه المتهالكات وروَّاد دكاكينها تُضيِّق الخناق على حركة المرور القادمة من صلاح سالم وشارع المنصورية الموازي له والقادم من العباسية الشرقية. لن نخسر كثيرًا بإزالتها، لعل ذلك يؤدي إلى تحسين قيمة العقارات مساحة وبناء، والقادم من العتبة يرى عماراتٍ تغطي على أبنية وكالة الغوري وجامع «أبو الدهب»، فإذا أزيلت هذه العمارات الثلاث غير المنسجمة معماريًّا فإنه سوف ينكشف ميدان فسيح من جامع الغوري إلى الأزهر، به مجموعة أبنية تعود إلى نحو خمسة قرون وأكثر؛ هي تحفة للناظرين ودرس معماريُّ للدارسين وعشاق الفنون الإسلامية الشرقية. هذا فضلًا عن انكشاف منظر الأزهر الشريف بعد عمليات التجديد والصيانة الحالية.

أما مبنى المشيخة الحالي، فيمكن تجديده وتحويله إلى غرض من الأغراض الثقافية؛ كأن يصبح مقرًّا لمكتبة القاهرة الإسلامية، أو أن يصبح متممًا لمكتبة الأزهر، وبعبارة أخرى: يتحول إلى مركز علمي إسلامي.

فإذا نال مبنى المشيخة الحالي بعض الصيانة، وأضيفت مجموعة نافورات صغيرة تتوسط أحواض ورود ورياحين، وأشجار ظل تقي المشاة وهج الصيف وحره، وأزيل السور الحديدي القبيح، فسيكون لدينا ميدان فسيح جدًّا يمتد بين جوامع: الغوري والأزهر والحسين، يجمع روائع المعمار الإسلامي من تواريخ وعصور مختلفة، تبدأ من ألف عام إلى مائة عام، يمكن أن يتفوق على الميادين الكبيرة في مدن إسلامية، مثل: «ميدان شاه» في أصفهان أو ميدان «راجستان» في مدينة سمرقند بجمهورية أزبكستان، والذي يوصف أحيانًا بأنه أنبل ما صنع المعمار البشري من توافق وانسجام، ويجب أن يصاحب هذا تحويل المنطقة للمشاة.

هذا العناء كله ليس فقط من أجل الآثار، بل من أجل نزهة المشتاق إلى أيام زمان. فغير خفيٍّ الجذب الذي يشد الناس إلى سهرات الأجداد على الشاي والشيشة والبليلة والكباب في رمضان وغير رمضان، أبقاها الله مع الدعوة إلى تحسين أساليب استضافة الناس في المقاهي والمطاعم، ونظافة الدروب والسكك والخانات.

ويمكن تحويل المنطقة إلى منطقة مشاة فقط، بتنفيذ أسلوبين مكملين لبعضهما لكي نعطي للتخطيط الجديد عمقًا زمنيًّا مستقبليًّا.
  • الأول: أن تحول المنطقة إلى مشاة بين التاسعة صباحًا والحادية عشرة مساء، مع بعض التغيير في رمضان وفي الصيف وفي الشتاء. على أن يكون التنفيذ صارمًا لشهور وشهور.
  • والثاني: البحث عن طرق بديلة لشارع الأزهر كمحور مرور عرضي في محورين كما سيأتي ذكره بعد قليل، وبذلك نكون قد حفظنا آثار القاهرة من هزات ماكينات حفر الأنفاق التي قد تؤثر على أسس الآثار الرائعة، وعادم السيارات الذي ينخر في الحجارة الأثرية بغازاته وأكاسيده. وفي هذه الحالة أيضًا يمكن تحويل شارع المعز من بوابة المتولي — زويلة — إلى الفتوح لمنطقة مشاة لأعظم شارع أثري مليء بعبق التاريخ من مساجد وأسبلة ومشربيات ومقرنصات غاية في الجمال والأبهة، على أن يسمح بمرور وسائل نقل تقليدية كعربات الحنطور والكارو والترسكلات غير ذات الموتور، وعلى النسق نفسه يمكن تحويل شارع الجمالية من باب النصر إلى الحسين إلى منطقة مشاة في ساعات النهار.

هذه صورة نأمل تنفيذ ما يمكن منها على مراحل؛ لكي نستعيد الماضي المشرف لمصر المحروسة.

ويمكن أن تتضح الصورة العامة للموضوع من التدقيق في الخريطة ٦-٢ ومن النقاط الآتية تلخص الموضوع تحت عناوين الموضوعات الرئيسية:
  • أولًا: منطقة ميدان الأزهر:
    • (١) تحويل الجزء من شارع الأزهر الممتد من أمام باب جامعة الأزهر إلى منطقة تبعد نحو ٣٠ مترًا غرب جامع الغوري إلى منطقة مشاة خضراء، مع إزالة السور الحديد في هذا الجزء.
    • (٢) إزالة عدد من البيوت التي تحجب الآثار الإسلامية الرائعة في الميدان، مثل العمارات التي تحجب وكالات الغوري، وكذلك المباني المتهالكة أمام جامع الغوري على الجانب البحري من شارع الأزهر.
    • (٣) تحويل الساحة الضخمة الناتجة «بين جوامع الأزهر والحسين والغوري» إلى ساحة وارفة الظلال كثيرة النافورات الإسلامية دقيقة الصنع.
    • (٤) في التنفيذ النهائي يجب إزالة كوبري الأزهر من شارع الأزهر بأكمله.
    • (٥) إقامة مواقف للسيارات متعددة الطوابق عند بدايات منطقة المشاة من ناحيتي العتبة والدراسة؛ لكي تخدم انتقال الأشخاص والسلع من الاتجاهين.
  • ثانيًا: حول الطرق البديلة لشارع الأزهر:
    • (١) إن شارع الأزهر هو الطريق العرضي الوحيد بين شرق القاهرة ووسطها؛ لهذا فهو بالفعل عنق زجاجة، والفرصة الآن مواتية للتخلص من عنق الزجاجة بفتح طريقين جديدين لا يصبان في نقطة واحدة، هي الأوبرا، كما يفعل شارع وكوبري الأزهر الحالي.
    • (٢) الطريق الأول يسير شمال القاهرة الفاطمية وبحذاء السور القديم. يبدأ من طريق صلاح سالم تقريبًا أمام مجموعة مساجد السلطان برقوق، ويستحسن أن يُمدَّ شرقًا؛ ليتصل بالأوتوستراد في مسار يقع شمال مجموعتي آثار ومساجد السلطان إينال والسلطان برقوق، هذا إذا لم تكن هناك موانع أثرية يهددها فتح الطريق في الجبانة الشرقية. يسير الطريق بين السور الشمالي للقاهرة من ناحية ومقابر بوابة النصر وحي البيومي والحسينية من ناحية أخرى، ثم يلتحم بشارع البغالة الذي يجب أن تُجرى عليه التوسُّعات اللازمة لاحتواء حركة هذا المحور، وفي النهاية يلتقي بشارع الجيش تقريبًا أمام قسم الشرطة. ويستحسن أن يُمدَّ الطريق المحوري هذا بضع عشرات الأمتار ليلتحم بشارع بورسعيد الذي يمكن أن تنساب فيه الحركة شمالًا إلى غمرة وما بعدها، أو جنوبًا إلى باب الشعرية، ومن ثمَّ إلى العتبة في طريق الجيش، أو بين الصورين وباب الخلق في طريق بورسعيد. كما يمكن توسيع بعض الشوارع العرضية جنوب بركة الرطل إلى شارع كامل صدقي — الفجالة — ومن ثم يتكون لدينا محور ممتاز من الأوتوستراد إلى ميدان باب الحديد يساعد في امتصاص حركة شرقية غربية إلى شارع الجمهورية بأسواقه المتخصصة، بديلة لشارعي رمسيس في الشمال والأزهر في الجنوب.
    • (٣) يستحسن عمل كوبري علوي لهذا الطريق المحوري عن تقاطعه مع شارع الجيش، وأن يستمر الكوبري العلوي في شارع بورسعيد جنوبًا؛ ليعبر عنق الزجاجة في باب الشعرية بحيث يكون له مَنزَل عند شارع الجيش إلى العتبة، ومنزَل آخر في بين الصورين؛ ليكمل الطريق في شارع بورسعيد إلى باب الخلق.
    • (٤) أما الطريق المحوري الثاني: فيقع إلى الجنوب من قاهرة المعز، حيث يبدأ من باب الخلق مستخدمًا شارع تحت الربع إلى باب زويلة — المتولي — ثم يستخدم طريق الدرب الأحمر إلى سور القاهرة الشرقيِّ، ويعبر منطقة التلال إلى أن يلتحق بطريق صلاح سالم عند ثنيته الكبيرة أمام جبانة باب الوزير. وهذا المحور يقود من باب الخلق إلى عدة اتجاهات: إلى العتبة بطريق محمد علي، وإلى السيدة زينب وجنوب القاهرة بطريق بورسعيد، وإلى وسط القاهرة بطريق شارع حسن الأكبر إلى ميادين عابدين وباب اللوق والتحرير. وربما احتاج الطريق المحوري الجنوبي تكلفةً أعلى من الشمالي؛ حيث إن الأمر يحتاج إلى نزع ملكيات غالية في شارع تحت الربع. لكنه لن يحتاج إلى كبار علوية؛ لأن ميدان باب الخلق متسع، ويمكن تنظيمه ليستوعب الحركة الجديدة.
الخلاصة: أن هذا المخطط يمكن تنفيذه على مراحل بحيث يستوعب الناسُ اتجاهات التنمية لقلب القاهرة القديمة تدريجيًّا، ويتكيَّفوا معها منذ البدء بإصلاح ميدان الأزهر، وتحويله إلى منطقة مشاة بعض الوقت من النهار كما أسلفنا، خاصة وأن المتوقع معارضة قوية من قبل أصحاب المصالح من التجار الراسخين في شارع الأزهر عشرات السنين.

هل يحل النفق مشكلة المرور في شارع الأزهر؟

ربما كانت الأنفاق وسيلة أكثر تقدمًا من الجسور العلوية، وأقل تشويهًا للمناظر العامة للمدن، ولا شك في أن كوبري الأزهر قبيح بكل المعاني؛ فهو يضيع معالم المعمار الممتاز في ميدان العتبة، ويعبر فوق حديقة الميدان فيمسخها، ويحيل المرور حولها إلى شيء أشبه بالمتاهة، وهو أيضًا يغطي معالم معمارية نادرة في أجزاء من شارع الأزهر، مثل: جامع القاضي زين الدين يحيى (١٤٤٤م) عند تقاطع الأزهر مع شارع بورسعيد، كما يغطي معالم جامع الغوري (١٥٠٣م)، ويكمل السور الحديدي — المقام وسط الشارع — وكوبري المشاة سلسلة القبح المعماري حتى جامعة الأزهر، ويلقي الكوبري حمولته أمام جامع الغوري، ويزدحم الطريق فتضيع معالم المعمار في قصر الغوري ووكالته وجامع «أبو الدهب» (١٧٧٤م) وجامع الأزهر (٩٧٠م)، وكلها تقع تحت طائلة التآكل بما تطلقه آلاف السيارات من عادم ضار بصحة الإنسان والمباني الأثرية معًا، خاصة وأن الكثير من السيارات والشاحنات من القدم بحيث تطلق خلفها سحبًا سوداء لا نجاة منها.

لن نجد شيئًا من هذا حين نشق النفق ونزيل كوبري السيارات والمشاة والسور الأوسط، وهذه إحدى حسنات النفق، ولكن النفق طويل يصل إلى نحو كيلومترين طولًا، فهل جربنا مثل هذه الأنفاق الطويلة للسيارات؟ ويمكن أن نقف طويلًا أمام الملاحظات الآتية عند فكرة النفق:

fig70
شكل ٦-٤: مقترحات تنمية شاملة لمنطقة الأزهر.
  • (١)

    الجوانب التكنولوجية: لا شك في أن حفر الأنفاق في القاهرة أصبح في متناول التقنية المصرية بما اكتسبت من نجاح في حفر أنفاق مترو القاهرة في شبرا وعابدين وتحت النيل، ومن قبل من باب الحديد إلى السيدة زينب. لكن الذي يمر هنا هو قطارات كهربائية عادمها وهدير صوتها محسوب. أما نفق السيارات فسوف تمر فيه عشرات الآلاف من السيارات ينبعث منها عادم غازي سام، خاصة وأنه من الصعب عمليًّا منع السيارات التي تفرز عادمًا أكثر من المقرر من دخول النفق؛ وذلك لقدم الكثير من سيارات القاهرة، ولأن الكثير من ملاك السيارات — أفرادًا أو هيئاتٍ خاصةً وعامةً — لا تقوم بأعمال صيانة السيارات بالدرجة المناسبة.

  • (٢)

    الجوانب البشرية والسلوكية: إن المترو يتحكَّم فيه شيئان: السائق ولوحة المراقبة الإلكترونية، أمَّا السيارات فيقودها عشرات الآلاف من السائقين؛ بمعنى أن سلوكيات حركة المترو منضبطة، بينما سلوكيات سائقي السيارات غير ذلك، وكلنا يشكو من رعونة كثير من السائقين التي تتسبب في حوادث كثيرة في شوارع القاهرة السطحية، فما بالنا داخل أنبوب النفق المغلق؟

  • (٣)

    كثرة استخدام آلات التنبيه في سيارات القاهرة سمة معروفة لدى السائقين لا يردعها رادع حتى الآن، فما بالنا لو تعطلت سيارة داخل النفق؟ لا شك في أن النفق سوف يتحول إلى زئير صوتي يُصمُّ الآذان عند حدوث عرقلة ما نتيجة تعطل سيارة أو بطئها. فهل يؤثر الزئير الناجم عن مئات آلات التنبيه على بنية النفق؟ وماذا عن التلوث السمعي القاتل في مثل هذه الأحوال؟ وتجربتنا في الجسور العلوية الحالية شاهد على ارتباك المرور عندما تتعطل سيارة فوق الكوبري وتحت نور الشمس، فما بالنا عند حدوث ذلك تحت ضوء الأنوار الكهربائية داخل النفق؟

  • (٤)

    مسار النفق يمر تحت أجزاء كثيرة من كتلة سكنية متهالكة البناء، فهل هناك حسابات لإخلاء هذه المساكن، وإسكان شاغليها في أماكن جديدة مناسبة، علمًا بأن الكثير من شاغلي هذه الأبنية عبارة عن ورش ومشاغل حرفية أو مخازن بضاعة، وكلها ضرورية لاستكمال مئات الأعمال التجارية التقليدية لهذا القلب التجاري الحقيقي للقاهرة؟ وهل ستتضرر أسس أبنية تراثية أثناء عمل النفق؟

  • (٥)

    الخلاصة أن حفر النفق ليس عملًا تُيسِّره التكنولوجيا فقط، وليس قرارًا مساره عملٌ هندسيٌّ فقط، بل يجب أن تكون هناك لجنة من المهندسين والأثريين والاقتصاديين والجغرافيين ومخططي المدن والجيولوجيين ومخططي المرور ومنظميه والاجتماعيين والسلوكيين وأصحاب المصالح التجارية؛ لكي يأتي المشروع متكاملًا قدر الإمكان قليل العيوب قليل الاعتراضات. ثم يأتي بعد ذلك القرار التنفيذي، وهكذا يصبح المشروع حضاريًّا بكل معنى هذه الكلمة السائدة الآن دون معنًى حقيقيٍّ.

هذا من ناحية الأمان وسيولة المرور، لكن هناك نقطة أخرى مهمة يجب أن يحسب لها حساب، هي: ما هي كمية السيارات التي تعبر الآن شارع الأزهر في اتجاه الأوبرا بالنسبة لعدد السيارات المتجه إلى شارع الأزهر والطرق المتفرعة عنه؟ بالمشاهدة والتجربة نلاحظ أن النسبة الكبرى هي التي تقصد شارع الأزهر، بينما القلة هي التي تخترق الكوبري إلى الأوبرا، فالشارع شديد الازدحام من الدرَّاسة إلى مطلع الكوبري، ويستمر الازدحام المروري إلى جوار الكوبري والقليل هو الذي يصعد الكوبري، ومثل هذا من الناحية الأخرى، فعلى الكوبري من الأوبرا إلى الغوري أقل من نصف الحركة المرورية التي تخترق العتبة إلى شارع الأزهر.

ذلك أن الناس في حاجة إلى شارع الأزهر بتجارته الواسعة ومخازنه وورشه الحرفية بطول الشارع الذي يكون عصب الحركة إلى اتجاهات كثيرة في شارع المعز والصاغة وخان الخليلي والجمالية شمالًا، والغورية والعطارين والسكرية جنوبًا وعشرات الدروب التي تتفرع عنها. كذلك يحتاج الناس إلى شارع الأزهر للدخول إلى تقاطع شارع بورسعيد الذي يقود إلى أسواق الجملة عند بين الصورين وجامع البنات والسكة الجديدة والموسكي. والقليل يصعد تفريعة الكوبري إلى باب الخلق. وأخيرًا هناك المصب النهائي لشارع الأزهر في العتبة التي تقود إلى مجموعة أسواق أخرى مثل سوق الكهرباء خلف المطافئ، ومنطقة البواكي المؤدية إلى ميدان صيدناوي وشارع كلوت بك وميدان الخازندار، وكلها أسواق متخصصة.

فإذا أغلقنا شارع الأزهر أمام حركة السيارات، وفتحنا نفقًا إلى الأوبرا فإن ذلك الإجراء لا يحل سوى مشكلة العابرين من صلاح سالم إلى الأوبرا وبالعكس فقط، بينما يسلب العمود الفقريَّ للحركة الجارية التي تقدَّر قيمتها بالملايين أو المليارات!

فكيف إذن نحل مشكلة شارع الأزهر؟

  • أولًا: لا توجد حلول جاهزة التنفيذ الفوريِّ. فنحن هنا بصدد تراكمات قلب القاهرة العملاقة لأكثر من ألف عام، ومن الصعب تصور حل هذه التراكمات على مدى عام أو عامين، فالأمر في مثل هذه المواضع ذات القيمة التاريخية والاقتصادية يحتاج إلى مخطط رئيسي نلتزم شعبًا وحكومة بتنفيذه مرحليًّا، وأن يكون من المرونة بحيث يمكن تعديله بناء على أرض الواقع فيما عدا خطوط يجب الالتزام بها على أي الحالات، ومنها على الأخص خطوط التنظيم وارتفاعات المباني.
  • ثانيًا: يمكن أن يكون المخطط الرئيسي محتويًا على العناصر الآتية:
    • (١) يشبع النفق طلب العابرين من صلاح سالم إلى الأوبرا وبالعكس، مع الاهتمام ببعض المحاذير التي سبق ذكرها، وإضافة الوسائل التي تؤمن سلامة المرور كوحدة كهربائية إضافية تعمل عند اللزوم أوتوماتيكيًّا، وكذلك تشغيل محطات التهوية التي بدونها غالبًا ما يحدث اختناق للناس، والاهتمام المشدد بالكثير من أعمال الصيانة بطول النفق.
    • (٢) تحسين الشارع الذي يمتد شمال سور القاهرة القديم، ومدُّه إلى صلاح سالم، وإلى شارع الجيش وبورسعيد، وبذلك نكون قد شكلنا محورًا عرضيًّا يعوض نسبيًّا محور شارع الأزهر، ويصل إلى شارع كامل صدقي ومنطقة الفجالة وباب الحديد، ومن هذا المحور تمتدُّ طرق جنوب السور تصل محلات شارعي الجمالية والمعز الشمالية بالحركة المطلوبة لنقل السلع والناس. وارتباط هذا المحور بشارعي الجيش وبورسعيد سيضمن سيولة حركة إلى العتبة كمركز عصبي للحركة في وسط القاهرة، وإلى العباسية شمالًا.
    • (٣) تخرج من المحور الجنوبي طرق متجهة شمالًا إلى قرب الغورية وقرب جامع الأزهر؛ وذلك لخدمة الحركة التجارية في الجزء الجنوبي من القاهرة الفاطمية. كما تخرج منه طرق تتجه جنوبًا إلى الدرب التبانة وسوق السلاح وإلى الخيامية والسروجية … إلخ في القاهرة المملوكية. ووصول هذا المحور إلى باب الخلق يفتح مجالات الحركة شمالًا في شوارع بورسعيد ومحمد علي إلى أسواق منطقة العتبة، كما أنه يخدم الحركة جنوبًا إلى القلعة، وإلى أحياء الحلمية وطولون والسيدة زينب التي تحتاج إلى تنمية للبنية الأساسية بعد إهمالها، وانصراف الاهتمام إلى المناطق الجديدة حول القاهرة.
    • (٤) إعداد شارع الأزهر تدريجيًّا؛ لكي يصبح جزؤه الأوسط منطقة مشاة كما أسلفنا القول، وذلك بالإزالة التدريجية للعمارات التي تغطي وراءها تراثًا معماريًّا، وكذلك بعض البيوت المتهالكة؛ لكي يحل محلها جراجات متعددة الطوابق. وزيادةً في التأكيد نكرر القول بتحويل ميدان الأزهر بين الغورية والجامع الأزهر وجامع الحسين إلى ساحة كبيرة ترصعها نافورات صغيرة ومظلات ومقاعد وكنبات لراغبي تمتع العين بهذه المنطقة التاريخية الفريدة في المدن الإسلامية.

(٤-٥) النيل طريق طبيعي رائع

يشكل مسار النيل طريقًا طبيعيًّا طويلًا من شبرا الخيمة إلى حلوان، فهل يمكن استخدامه كطريق اتصال مكثف بين أجزاء القاهرة الكبرى. كانت هناك تجربة «الأتوبيس النهري» في الماضي القريب، لكنها لم تكلل بالنجاح لأسباب كثيرة؛ كقلة العائمات وبطئها وإدارتها الحكومية، وتخطيط مسار حركتها المحدود.

الآن، وبعد الحركة الكثيفة في القاهرة الكبرى يمكن إعادة التفكير في نقل الأفراد بواسطة مجموعة من الخطوط الملاحية العرضية بين بر القاهرة والجيزة، ومجموعة مهمة من الخطوط الطولية من الشمال إلى الجنوب تربط شبرا الخيمة وإمبابة بنقاط محددة في وسط بر الجيزة والقاهرة، وتمتد جنوبًا إلى المعادي وحلوان والتيين. صحيح أن النقل النهريَّ بطيء، ولكن الانتقال بالطرق البرية من شبرا الخيمة إلى حلوان هو أيضًا بطيء؛ لكثافة الحركة بطول الكورنيش بدرجة كبيرة، ولعل النقل النهري الموازي للكورنيش سوف يكون عاملًا مساعدًا في تخفيف حركة الانتقال على الطرق البرية. وربما يمتد النقل النهري إلى مواقف الباصات عند القناطر الخيرية، وعند المنيب وساقية مكي التي تأتي بالحركة اليومية للعاملين من وسط الدلتا، ومراكز الجيزة الريفية إلى القاهرة، وبالتالي تتناقص حركة الباصات إلى قلب القاهرة والجيزة.

وبطبيعة الحال يقتضي هذا إجراءاتٍ إداريةً حاسمةً على رأسها التذكرة الموحدة بين أشكال النقل البرية والنهرية في اتجاه واحد؛ أي على سبيل المثال: تذكرة واحدة من منوف بالباص إلى القناطر، ومن ثم بالنهر إلى شبرا أو بولاق أو قصر النيل أو حلوان. محاسبيًّا هذا أمر سهل حتى لو كانت شركات الباص غير شركات النقل النهري، وذلك عن طريق عدِّها أوتوماتيكيًّا عند بوابات الباص والقارب.

على أي الحالات يجب التفكير جديًّا في استخدام هذا الطريق الطبيعي بوسيلة أو أخرى مع التفكير في تجنب تلويث مياه النيل فوق ما هو عليه، وذلك باستخدام طاقة نظيفة في محركات السفن النهرية كالكهرباء والخلايا الضوئية، وترغيبًا يمكن أن تجهز المراكب بمثل تجهيز باصات النقل العام الضوئية، وترغيبًا يمكن أن تجهز المراكب بمثل تجهيز باصات النقل العام المكيفة حتى لا تقبل أكثر من حمولتها، وتتجنب حوادث سقوط الأفراد والأطفال في مياه النهر.

١  بعض ما جاء في هذا الموضوع نقلًا عن مقال للمؤلف باسم «القاهرة: المشكلات العامة للمدينة والعاصمة» مجلة الطليعة التي كانت تصدر عن الأهرام ١٩٧٢.
٢  ساكن العطارين أو الخيامية غالبًا يعمل في مهنة العطارة، أو صنع الخيام المشهورة بزخرفها من الملصقات القماش الملون — الأبليك — سواء كان هو شيخ المهنة أو صاحب ورشة أو عامل بالمهنة، والآن ساكن الزمالك أو جاردن سيتي أو المعادي أو في مصر الجديدة يدل على متوسط دخل الفرد العالي بالقياس إلى ساكن روض الفرج أو الخليفة أو الدرب الأحمر أو السيدة زينب، فهو عادة من ذوي الدخل المتوسط إلى الفقير، ولم يعد اسم القسم كافيًا بل تحديد الحي أهم؛ ففي مصر الجديدة روكسي والكوربة وشارع العروبة تمثل منسوبًا أعلى من منطقة الجامع وأطراف مصر الجديدة القريبة من الزيتون.
٣  بالرغم من وجود قانون ٢٧ لسنة ١٩٥٦ بتجديد الأحياء المتهالكة البناء ونزع الملكية وإعادة التخطيط، والقانون ٣ لسنة ١٩٨٢ الذي يتفق في كثير من مفاهيمه الأساسية مع قانون ١٩٥٦، وخاصة الاحتفاظ بنفس الكثافة السكانية وتوفير مساحات خضراء، فإنهما لم يطبقا إلا في حالات قليلة، وبخاصة في المناطق العشوائية التي تمت إزالتها في بعض أطراف القاهرة دون الأحياء القديمة في قلب القاهرة. راجع كتاب «تجديد الأحياء» لأحمد خالد علام ويحيى عثمان شديد وماجد المهدي، مكتبة الأنجلو المصرية ١٩٩٧.
٤  في ١٩٦٠ كانت القاهرة والجيزة تستحوذ على نصف حجم الهجرة الداخلية في مصر، وفي عام ١٩٧٦ كانت الهجرة إلى القاهرة في حدود ثلاثة أرباع المليون، وإلى الجيزة ثلث مليون، وفي ١٩٨٦ هبطت الهجرة إلى القاهرة إلى حدود نصف مليون، ولكنها ارتفعت في الجيزة إلى نصف مليون، ولا شك أن الهجرة إلى الجيزة كبيرة بالقياس إلى تجمد حجم الهجرة بالنسبة للقاهرة التي أشبعت تمامًا، والمهاجرون يحسون الطلب، ويتوجهون إليه باستجابة بطيئة إلى أن تتشبع منطقة الهجرة كما حدت في مدن القناة بين ٧٦ و١٩٨٦. والسؤال: لماذا «نشوش» على تيار الهجرة ببناء مدن حول القاهرة تبعدهم عن التوجه الصحيح إلى مناطق التنمية في سيناء أو جنوب الوادي؟
٥  في العادة تحتل الطرق وساحات انتظار السيارات ومحطات البنزين والجراجات نحو ثلث مساحة منطقة المدينة، وفي لوس أنجيلوس تزداد هذه المساحات إلى نحو ٧٠٪ وهي بذلك أعلى نسبة في العالم؛ نتيجة لأن المدينة مبنية على مساحات ضخمة متفرقة للتباين التضاريسي المحلي، ولسيادة السيارة كوسيلة نقل وحيدة. والغالب أن نسبة مساحة الطرق وأماكن السيارات في القاهرة هي أقل من ١٥٪ في قلب القاهرة، وتتحسن في الأحياء الجديدة إلى نحو الثلث، وهذا هو على رأس مشكلة المرور في القاهرة.
٦  مثل نظريات المكان المركزي لفالتر كريستالر Christaller (١٩٣٣) عن مركزية الخدمات وتراتبها، وتعديلات أوجست لوش Lósch حول اقتصاديات المواقع (١٩٥٦)، ونظرية كريستالر تطوير وتحديث لما سبقه من نظريات المكان عند يوهان هاينريخ فون تونن Von Thunen (١٧٨٣–١٨٥٠) عن مواقع الاستخدام الزراعي، وألفرد فيبر Weber (١٩٠٩) عن مواقع الصناعة.
٧  مقتطفات من مقال «إنقاذ القاهرة» للمؤلف، جريدة الأهرام — صفحة العمران: القاهرة ١٧/ ١٢/ ١٩٩٥.
٨  راجع الفصل الثاني من هذا الكتاب حول المدن الجديدة.
٩  الجانب الأكبر من هذا الموضوع نقلًا عن بحث للمؤلف نشر في مجلة جمعية المهندسين المصرية المجلد ٣٢، عدد ٣ لسنة ١٩٩٣.
١٠  لم يؤخذ ضجيج الطائرات في الحسبان، فالمنطقة قريبة من المطار. كما أن ازدياد حركة النقل بالشاحنات الضخمة له هدير يؤثر على الأسماع، وله من العادم ما يلوث الهواء.
١١  حوادث القطارات هي بالقطع أقل بكثير جدًّا من حوادث السيارات. فمثلًا عدد قتلى حوادث قطارات شركة آمتراك Amtrak الأمريكية مائة قتيل منذ ١٩٧١ مقابل أكثر من ٤٠ ألف قتيل في حوادث السيارات السنوية في الولايات المتحدة.
١٢  شغل موضوع شارع الأزهر بعض كتابات المؤلف منذ نشر موضوع «ماذا نحن فاعلون بميدان الأزهر؟» في صفحة العمران بجريدة الأهرام في ٢٠/ ١١/ ١٩٩٧، ومشكلة المرور في شارع الأزهر، «وهل يحل النفق المشكلة؟» في ١٤/ ٤/ ١٩٩٨ ونبذات أخرى عن محاذير الأنفاق في موضوعات متعددة بصفحة قضايا وآراء بجريدة الأهرام بعد ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤