ختام

وضع علماء الجمال مشاكلهم أحيانًا على المستوى الرياضي أو الميكانيكي، وأحيانًا على المستوى الفسيولوجي أو السيكولوجي، ثم وضعوها أخيرًا من وجهة النظر السوسيولوجية، ولا شك أنهم على حق في ذلك. ولكن بعض الشكاك والسطحيين قد وجدوا في هذا الاختلاف دليلًا على التفكك والعجز في حين أنه يعبر عن إفراط ثراء علم مبتدئ يتجه نحو هدف هو الانتظام، وهذا الاتجاه هو بلا شك أغنى وأصعب النظم الأخلاقية لدى الإنسانية.

وإن أعدى أعداء الإستطيقا عندما يحكم على قيمةٍ ما من قيم الفن أو الجمال حكمًا مبنيًّا على أساس إنما يسهم في الإستطيقا بطرف سواء أراد ذلك أو لم يرد، وشبيه بذلك القولِ القولُ بأنه لا داعي لأن تكون هناك إستطيقا؛ هذا القول هو تأليف في الإستطيقا، بل أكثر من ذلك هو تأليف لإستطيقا ممتازة تحل محل الرديئة التي استنكرت وأهدرت. إن الإستطيقا الحقَّة لا تستبعد من الآراء سوى التشبثية العقيمة وتعصب المدارس.

وإن التشابك الشديد بين الوقائع ليفسر لنا السبب الذي كانت من أجله الصورة الوضعية أو العلمية للإستطيقا حديثة إلى حد كبير، ويفسر لنا كيف أن شخصية كل مؤلِّف تندس وسط التفاصيل الدقيقة جاعلة كل همِّها أن تثبت نفسها في مؤلَّف فني على الفن لا أن تختفي لتنتج مؤلَّفًا علميًّا.

وفوق هذا الأثر الذي تحدثه في الإستطيقا الصفات الفردية للمؤلفين نجد أثر الصفات القومية؛ فمن الطبيعي أن إستطيقا بلدٍ ما تترجم وتعكس بطريقتها مزاج هذا البلد ترجمة شبيهة بما تفعله الفنون المحلية بطريقة أخرى. فالإستطيقا الإنجليزية والأمريكية تتسم بالبراجماسية والخبرية التجريبية التي تقف على طرف النقيضَين مع المثالية الصوفية والعاطفية. إنها تفضل الوقائع الملموسة على النظريات العامة.

وعلى العكس من هذا تميل الإستطيقا الجرمانية إلى التجريد المجتهد وإلى الاستنتاجات المذهبية، وتهدف — على الدوام تقريبًا — إلى الدخول ضمن النظريات الكبرى للعالم والبناءات الهائلة للميتافيزيقا أو العلم العالمي.

أما إستطيقا البلاد اللاتينية، البلاد التي تتكلم الفرنسية والإيطالية أو الإسبانية؛ فإنها تقف موقفًا وسطًا كارهة للإسراف محبة للأفكار الواضحة ولشواهد الذوق محبة لذلك التعقل في الوجدانية المثقفة معتقدة أنها أكثر حكمة؛ لأنها أقل غرورًا وأكثر اهتمامًا بالاتزان منها بالتفكير ومحترمة الوضوح والصفاء الذي تتميز به.

وأخيرًا فإن الروح العلمي يُستخلص بعيدًا فوق هذه المزاجات القومية قادرًا على توحيد هذه الشخصيات الفردية أو الجمعية في مثال واحد للمنهج والحقيقة، وهما الأساسان اللذان ينبني عليهما العلم. وبهذه الطريقة يولد العلم، ونقول «يُولد» لأن الإستطيقا العلمية ليست حتى الآن حقيقة؛ ولكنها في طريقها إلى بلوغ هذه المرتبة، ولا شك أنها ستبلغها.

لقد قيل — وهذا قول لا يبعد عن الحق — إن النظرية المجردة للفن تلائم ملاءمة خاصة الأجناس الفنانة عن اجتهاد التي تحتاج؛ لكي تفسر إلى أن تفهم وتحتاج لكي تعجب إلى أن تفسِّر. من هذه الأجناس الألمان والأمريكان. ولكن هذه النظرية المجردة ليست بضرورة ملحة لدى الشعوب التي لها ذوق بالفطرة مثل الفرنسيين الحديثين، بل أكثر من ذلك. إن مثل هذه النظرية قد تعوق الخلق عندهم؛ إذ إن الإسراف في التفكير كثيرًا ما يفسده الإلهام الحدسي صنو الانتخاب أو قريب الغريزة العمياء والاندفاعات اللاشعورية.

غير أننا قد رأينا أن هذا الرأي السيكولوجي فيه كثير من المبالغة، وأن تطبيقه السوسيولوجي غير سليم، فالتاريخ يدلُّنا على أن الإغريق منذ نضجهم والإيطاليين من وقت نهضتهم يربطون أحسن الربط في شخص أفلاطون أو ليوناردو بين الاندفاعات الخلاقة والتفكير النقدي.

في بعض الطبائع إذَن وفي بعض لحظات التطور يدعم التفكير النقدي الاندفاعات الخلاقة ويوضِّحها. والمدارس الفنية الفتية في أيامنا هذه تحيط نفسها في عناية بإعلانات وبرامج أهدافها منهجية. وإن كان التزايد الحديث في الإنتاج الإستطيقي حقيقة عالمية؛ فلماذا لا يكون الوقت قد حان — بعد المصائب والمحن التي قاستها الأجيال الحديثة — لتتخذ فرنسا في الحضارة المستقبلة مكان القيادة السلمية الذي كان لليونان بعد الحروب الميدية في العصر القديم؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤