الفصل الأول

موضوعات علم الجمال

(١) مشكلات العلم وكيف أُسيء وضعها – تضارب المدارس في نظرياتها

كثيرًا ما يقال إن موضوع علم الجمال صورة من الصور الرئيسية للمثل الأعلى الإنساني وهي: الجمال. وهذا القول يكون صحيحًا مقبولًا إذا كان المقصود بكلمة المثل الأعلى هو اللاواقع أو صفة الخيال والإيهام التي تشترك فيها الألعاب مع الأعمال الفنية؛ لكن إذا فهمنا من القول السابق أن المثل الأعلى هو تعديل أو تحوير للواقع بقصد تحسين هذا الواقع لكان من نتيجة فهمنا هذا استبعاد للواقعية لمصلحة المثالية. والواقعية كما نعرف، تمثل صورة واتجاهًا من صور الفن واتجاهاته، فهي فهم للجميل له ما يبرره. إذَن فعلى علم الجمال أن يقبل وجود كل المدارس وأن يفهمها دون أن يفرِّق بين الواقعية والمثالية، بين الكلاسيكية والرومانسية، أو بين اتجاه البدائيين les primitifs واتجاه التدهوريين les décadents.

العلم الحق يعلو فوق المشاحنات والتضاربات، وإن علم الاجتماع الحق، وإن علم التاريخ الحق ليعلوان على الأحزاب السياسية. إن العلم الحق يجتهد في التأليف بين الاتجاهات المختلفة مختارًا من كل مدرسة ما قد أتت به من نتائج إيجابية فعالة، متجاهلًا منها ما كان صدودًا عقيمًا عن اتجاهات الآخرين؛ لأن هذا الصدود إنما ينمُّ عن عدم فَهم لهؤلاء الآخرين، بل قد يتم أحيانًا عن عدم فهم المدرسة لآرائها ذاتها.

وسنرى فيما بعد أن هذا التأليف يحدث من تلقاء ذاته عند المراحل المتتابعة من التطور الفني. وعلى سبيل المثال: نرى أن تعارض المدرسة الواقعية والمثالية ليس في جوهره إلا تتابعًا أو تناوبًا يحدث بين مرحلتين عاديتين من مراحل تطور فن واحد.

(١-١) الإستطيقا الموضوعية والإستطيقا الذاتية

ما زالت المناقشة محتدمة حتى اليوم حول ما إذا كان يجب أن تكون الإستطيقا — علم الجمال — علمًا موضوعيًّا أو علمًا ذاتيًّا. وبناء على الفرض الأول نقول إن الجمال كائنٌ ما، أو جمال أي عمل فني، إنما ينبع من صفات خاصة بهذا الكائن أو العمل. وهذه الصفات تصل من الخارج إلى عقل المتأمل بطريقة قريبة من التأثير الضوئي وهو ينطبع في شبكية العين. فالمتأمل ليس هو الذي يخلق هذه الصفات بل لو حدث أن تدَخَّل هو ليعدلها؛ فإن تعديلها لن يكون إلا تشويهًا. هذا هو شأن الجمال المطلق عند أفلاطون، والجمال عنده — مثله مثل الخير والكمال اللذين يعكسهما — يوجد قبل أن نوجد نحن وبدوننا وخارجًا عنا، يوجد في العالم فوق الحسي، عالم المُثل. ويمكن أن نوضح الأمر بمثال ملموس فنقول إن القيمة الإستطيقية لحيوانٍ ما تعتمد على مكانه السامي أو المنحط في سلَّم الكائنات كما يرتبه علماء الطبيعة. فإذا نحَّينا وجهات النظر الأخرى جانبًا؛ فإن الجمال الإنساني أسمى من الجمال الحيواني، والجمال الحيواني أسمى من الجمال النباتي أو الجمادي، إن جاز لنا هذا التعبير.

وعلى العكس من ذلك، ينكر علم الجمال الذاتي بحقٍّ وجود هذا الجمال الخارجي الذي لا يعتمد في شيء على طبيعتنا العضوية والمفكرة. إن الجمال الوحيد الذي يمكن لنا أن نتحدث عنه لا يوجد إلا «فينا وبنا ومن أجلنا». إن جمال أو قبح الأشياء والأشخاص لا يرجع إلى طريقة وضعها خارجًا عنا، بل يرجع إلى الطريقة التي نتصوَّرها بها في فِكرنا. فهي ليست قبيحة وليست جميلة في ذاتها، بل هي ما هي، وكل صفة هي خارجة عن جوهرنا فنحن الذين نضفيها عليه.

ومثال ذلك أن غروب الشمس يثير في نفس الريفي فكرة على جانب قليل من الجمال هي فكرة العشاء مثلًا، ويثير في نفس عالم الطبيعة فكرة التحليل الطيفي، وهذا شيء ليس من الجمال أو القبح في شيء، بل هو شيء يمكن فقط أن يكون صحيحًا أو غير صحيح؛ إن غروب الشمس ليس جميلًا إلا لمن نظر إليه بعينَي فنان، وقد اتخذت نفسه وضع التأمل. واتِّباعًا لهذا الرأي، لن يزيد علم الجمال عن أن يكون بابًا من أبواب علم النفس.

هذا هو اتجاه كثير من المحدثين، اتجاه تدعَّم بعد «نقد» كانط kant.١ وكان كانط يرى أن جمال الشيء لا علاقة له بطبيعة هذا الشيء، وإنما هو نتيجة «للعب حر للخيال والفهم» يحدث لدى المشاهد وهو أمام الشيء أيًّا كانت طبيعة هذا الشيء خارجًا عنه.
وما زال التعارض بين الشخص المفكِّر والموضوع المفكَّر فيه يكوِّن شبه مشكلة يواجهها الباحثون حتى الآن. والواقع أن المسألة الحقيقية ليست البحث في فصل هذين الجانبين بل في تعاونهما. فكما أنه لا يوجد إبصار بدون شبكية ولا أشعة ضوئية — إلا في حالة الهلوسة أي في حالة الخطأ — كذلك الفنان لا يعجب «بطريقة ذاتية» إلا بما كانت له نسب منسجمة «موضوعيًّا». وإن جمال الأنغام المتسقة consonance وقبح الأنغام المتنافرة dissonance يعتمد جزئيًّا علينا نحن وعلى اهتزازنا الشخصي، ولكننا نكون تابعين لها؛ حيث إنها هي التي تهزُّ أنفسنا وأبداننا. وإن الشخص الذي لا يراعي في إعجابه الشخصي طبيعة الأعمال موضوع الإعجاب، لا يمكن إلا أن يكون مجنونًا.

إذَن فالإستطيقا علم موضوعي وذاتي في وقت واحد ودون انفصال. وهذا يعني أن قوانين الجمال ليست خاصة بالمواضيع المفكَّر فيها ولا بالشخص الذي يفكر فيها، بل هي عبارة عن بعض علاقات بين الجانبين، هي عبارة عن صور للتفاعلات العديدة المتبادلة بينهما.

(٢) المشكلة الحقيقية: الجمال الطبيعي والجمال الفني٢

إن المشكلة الجوهرية لدينا هي البحث عما إذا كان الموضوع المباشر الأساسي للإستطيقا هو الجمال في الفن أم الجمال في الطبيعة.

والحق أن الخلط بين هذين النوعين من الجمال يُعتبر أحد الأوهام الأكثر شيوعًا وضررًا. إننا نقدِّر قيمة لوحة من اللوحات بِناءً على ثروتها في الألوان أو توازن كتلها masses، وفي نفس الوقت على حُسن محيَّا ونضارة الموديلات اللواتي استُخدمن في المرسم. وفي تقديرنا لروايةٍ ما نضع في مستوى واحد أسلوب الرواية أو تأليفها ووجود أو غياب أبطال كرام مستظرَفين. وباختصار نقول: إن الجمهور عامة يودُّ أن يجد في عملٍ فنيٍّ ما الأشخاص أنفسهم والأشياء ذاتها التي تستحوذ على إعجابه أو التي يحبها أيضًا في الطبيعة عندما يلاقي ما يناظرها. إن الجمهور لا يعرف أو لا يودُّ أن يكون لديه نوعان من الإعجاب بطبقتين من القِيم لا يوجد بينهما مقياس مشترك.
وهذا الاعتقاد العامي يجد له مؤيدِين كثيرين من أصحاب النظريات ومن الفنانين. إن «اتِّباع الطبيعة» نصيحة يقدمها كل الأئمة، وإن «العودة إلى الطبيعة» لهِي الملجأ الأسمى الذي يلجأ إليه كل المصلحين والذي يدعيه كثير من «الشباب». وإن الإنسان ليدهش عندما يجد هذا المبدأ ذاته عند المدارس التي تقف بعضها من بعضٍ موقفَ المعارضة، نجده عند بوالو Boileau، عند هوجو Hugo، وعند زولا zola، وهم مؤلفون تتعارض أوصافهم للطبيعة الإنسانية أو الكونية أوضح التعارض. فهل هناك إذَن أكثر من طبيعة واحدة؟ الواقع أنه يوجد في التاريخ «طبيعات» بقدر ما قد وُجِد من المدارس الفنية المختلفة.
والحق أن الطبيعة ليست لها قيمة إستطيقية إلا عندما يُنظر إليها من خلال فنٍّ من الفنون، عندما تكون قد تُرجمت إلى لغة الأعمال التي ألِفتها عقلية شكَّلها تكنيك ما technique «فالطبيعة الفنية أمامنا — كما يقول هنري دلكروا H. Delacroix — تُشبِه عملًا من الأعمال الفنية». إن الجبال تكون جميلة عندما نكون نحن رومانسيين ولكنها كانت قبيحة أو عديمة القيمة في نظر الكلاسيكيين الإغريق والرومان والفرنسيين. وعلى النقيض من ذلك قال الرومانسيون والواقعيون عن الطبيعة المجمَّلة التي تتمثل في الحدائق المنسَّقة على الطريقة الفرنسية إنها قبيحة. والحقيقة التي نود أن نقررها هي أن ثمة جمالًا غير ذي موضوع إستطيقيًّا anesthétique٣ يوجد في الطبيعة الوحشية brute وثمة جمال إستطيقي كاذب pseudo-esthétique للطبيعة النموذجية المحلاة أو المختارة، ثم هناك أخيرًا الجمال الإستطيقي حقًّا وبذاته وهو الجمال في الفن. ويمكن أن نقول إن نظام «المحاكاة» المبهم يواجه النوع الأول من الجمال عندما يكون واقعيًّا réaliste على طريقة زولا Zola، ويواجه النوع الثاني من الجمال عندما يكون مثاليًّا idealiste تبعًا لأرسطو وبوالو. ويمكن القول بأن مدرسة «الفن للفن» التي تضم لكونت دليل وفلوبير وجنكور Leconte de Lisle, Flaubert, Goncourt وأتباعهم هي التي وعت بوضوح الجمال الإستطيقي الذي لمسه كانط kant وأكده هِجل Hegel وكثيرون من أصحاب النظريات.
أما في المدرسة الألمانية ﻟ «العلم العام للفن»؛ فإن دسوار Dessoir وأوتيتس Utitz خاصة يقولون اليوم برأي مخالف للرأي السابق كل المخالفة. إنهم يرون أن الفن له أهداف عديدة في الحضارة؛ له على سبيل المثال وظائف دينية وقومية ونفعية وعاطفية. وما الجمال في نظرهم إلا وسيلة من الوسائل التي يستخدمها الفن ليقوم بوظائفه هذه الخارجة عن الميدان الإستطيقي، ولن يصبح الجمال الغاية الوحيدة إلا في حالة المهارة الأدائية virtuosité التي لا تزيد عن كونها احتضارًا بالنسبة للفن. ذلك أنه – حسب رأي هذه المدرسة – لا يلتقي الفن والإستطيقا إلا في العصور الكلاسيكية، فالفن القوطي gothique مثلًا كانت له أهداف كثيرة خلاف الجمال، فهو لذلك ليس فنًّا إستطيقيًّا. وجدير بالذكر أن الإستطيقا القديمة لم تكن إلا سيكولوجية للعقلية الكلاسيكية مفروضٌ عليها أن تتجاهل العقليات الأخرى. أما فيما يختص بالطبيعة؛ فإنها لا تختلف عن الفن إلا في أنها أقل سرعة منه في استخلاص القيم الإستطيقية التي تحويها هي بين الكثير من القيم الأخرى، في حين أن الوسائل الفنية «التكنيكات» les techniques معدَّة لتُبرز لنا بطريقة مباشرة هذه القيم الإستطيقية.
إن هذا «العلم العام للفن» هو في الواقع علم عام للإنسانية، تدخل فيه الإستطيقا كجزء تابع أو عرضي؛ وعلى هذا فإن المدرسة التعبيرية expressionisme المعاصرة على حق في القول بأنه ليس لعملٍ فنيٍّ ما قيمة إلا بقدر ما يعبِّر بشدة عن إحدى الشخصيات أو الحضارات، بغض النظر عن كونه جميلًا أو قبيحًا، لا بقدر ما يحويه من جمال شكلي.
هذا الفهم ينتسب إلى النزعة الطبيعية لتين وجويو Taine, Guyou بإحساسه الممتاز بتعقيدات الحياة الملموسة، وسنعود مرة ثانية إلى طبيعية تين وجويو التي تفسر وتقيِّم الأعمال الفنية على أساس ظروفها الخارجة عن الميدان الإستطيقي. والجديد في هذا الاتجاه هو أنه يُلقي في خضم الإبهام وعن عمدٍ ما قد اجتهد الآخرون في إظهاره وتوضيحه، ونعني بهذا: العوامل الإستطيقية والعوامل الخارجة عن الميدان الإستطيقي للجمال.

إن الناس كلهم يعرفون أن لقَصرٍ ما وظائف أخرى تتجاوز حدود الجمال، لا بد مثلًا أن يكون دافئًا صالحًا للسكنى. والأمر كله يتلخَّص في معرفة ما نكسبه أو ما نخسره إذا خلطنا عمدًا وظائف الفن المختلفة بعضها في بعض، أو إذا ميزناها ووضحناها. إننا بلا شك نفضِّل التحليل. وإن التمييز الحق الذي لا بدَّ منه هو التمييز بين الفن والطبيعة لا بين الفن والإستطيقا.

(٢-١) القول التقليدي بالمحاكاة في الفن

هذا الاختلاف، الذي كثيرًا ما يخفيه التجاهل، يتحقق بحقائق ثلاث رئيسية:

أُولاها: أن هناك فنونًا بأكملها عبارة عن إنشاءات صناعية بحتة في أغلبها تقدم لها الطبيعة العناصر لا التأليفات combinaisons، مثَلُ هذه الفنون: الموسيقى والعمارة، بل الشِّعر أيضًا.
ثم حتى في الفنون التمثيلية représentatifs أو الطبيعة naturalistes بحكم هدفها نرى أنه توجد أنواع فنية تنحاز بعيدًا عن الجمال الطبيعي: مثَلُ ذلك الفن الزخرفي المؤسلَب stylisé أو «المجرد» والأرابسك ثم صور الأشخاص؛ فإن الجمال الطبيعي للأشخاص لا علاقة له بالجمال الفني للوحة. فصورة امرأة جميلة ليست بالضرورة صورة جميلة. وإن صورة امرأة قبيحة أو عادية بطبيعتها يمكن جدًّا أن تكون تحفة فنية رائعة. خذ مثلًا ما حقَّقه فلاسكيث Velasquez ورمبرانت Rembrandt وكثير غيرهما. إن محكَّ «جمال» حصان سباق أو حصان جرٍّ أو محكَّ جمال التهابٍ ما، هو من اختصاص علم الحيوان أو فن تربية المواشي أو الطب، غير أننا في هذه الموضوعات ذاتها نجد أن ذَوق الفنان أو المتذوِّق يحكم بطريقة أخرى وينصبُّ على شيء آخر.
وأخيرًا نرى أنه حتى عندما يلتقي الجمالان: جمال الطبيعة وجمال الفن؛ فإن هذا الالتقاء لا يكون إلا تصادفًا عرَضيًّا أو حادثًا تاريخيًّا عابرًا لا يدخل في صميم طبيعة الفن والجمال في شيء. فمن ناحية ليس ثمة ما يمنع كاتبًا واقعيًّا أو «ابتذاليًّا trivialiste» مثل زولا من أن يصف شخصًا أو منظرًا أو موقفًا معنويًّا يكون موضع إعجاب الناس في الحياة الواقعية. ومن ناحية أخرى يمكننا أن نقول كقاعدة عامة: إن المدارس الكلاسيكية لكل الفنون من كل الأزمنة تنشد تطابق هذين الجمالين، في حين أن مدارس «قبل الكلاسيكية préclassicisme» ومدارس «بعد الكلاسيكية post-classicisme » تتجنب تحقيق هذا التطابق. وهكذا نرى سوفوكل Sophocle وفرجيل Virgile وكورني Corneille وراسين Racine وفيدياس Phidias وفنشي Vinci ورفائيل Raphaël يختارون صفوة أبطالهم أشخاصًا يمكن أن يكونوا جديرين بالإعجاب في الحياة الواقعية إذا حدث أن قابلناهم. وعلى النقيض من ذلك نجد أن أولئك الذين سبقوا هؤلاء الفنانين أو أتَوا بعدهم مثل رواد البلياد La Pléiade والرومانسيين والواقعيين في ميدان الأدب والبدائيين والانطباعيين impressionistes في ميدان التصوير peinture، هؤلاء جميعًا تحاشوا النماذج المجملة وقالوا إنها أصبحت عديمة الطعم والقيمة. إن الكمال الطبيعي الذي هو موضوع من موضوعات العلم، والكمال الإستطيقي الذي هو من شأن الوسيلة الفنية technique، هذان الكمالان يمكن أن يتطابقا ولكن لا يمكن أن يكونا شيئًا واحدًا.
«إن الجمال الطبيعي — كما يقول كانط — شيء جميل، أما الجمال الفني فهو تمثيل جميل لشيءٍ ما» — لشيءٍ ما ليس مفروضًا فيه بالضرورة أن يكون جميلًا جمالًا آخر كائنًا في الطبيعة. وإن كان هاملت Hamlet قد أعلن أن الفن يضع مرآةً أمام الطبيعة فقد رد عليه ويلد Wilde بقولٍ طريف، قال: إن ذلك ليجعل الناس تعتقد أنه مجنون! «إن الطبيعة — كما يقول أوجين دلكروا — قاموس» وليست كتابًا. إنها مواد وليست بناءً! ويؤكد الأخوَان جونكور في بعض مؤلفاتهما على لسان شخص يعبِّر عن آرائهما: «إن التصوير الفوتوغرافي يبيِّن إلى أي حدٍّ يختلف الفن عن الحقيقي»، وقد أوضحَت ذلك من قبلُ المناظر المصورة على أساس الخداع البصري les panoramas en “trompe-l’œil” التي أصبحت لا تُرى إلا في الأسواق الشعبية. ويؤكد نفس الأمر الاتجاه الواقعي المتطرف le superréalisme في السينما. إن الفن عملية صياغة أسلوبية stylisation، والطبيعية دون أسلوب تخرج عن المجال الإستطيقي.
وبناءً على ما تقدم يمكننا — أو إذا اتبعنا رأي بعض المدارس والاتجاهات الفنية — علينا أن ننشئ جمالًا فنيًّا من قبحٍ طبيعي. وهكذا استطاع روزانكرانتس Rosenkranz — وهو من أتباع هِجل — أن يكتب مؤلَّفًا عن «إستطيقا القبح» Esthetique du Laid وهذا لا يمنع بتاتًا من الجمع أحيانًا بين النوعين من الجمال: الفني والطبيعي على الطريقة الكلاسيكية أو الأكاديمية، فكما يقول تين على وجه التقريب: «إن القبح جميل لا شك في هذا، ولكن الجميل أكثر جمالًا». أما من يحتم دون استثناء الجمع بين الجمالين فهو يحكم على نفسه بتجاهل أعمال فنية ممتازة لا شك في روعتها، بل يحكم على نفسه بتجاهُل مدارس بأكملها في كل الفنون.
يقول البعض: «إن الجمال هو ما يسُرُّ»، ولنضِف إلى ذلك: «هو ما يسُرُّ وجدانًا فنانًا». ويقال أيضًا: «ليس في الفن شيء لم يكن من قبل في الطبيعة»، ولنضِف إلى ذلك — على طريقة ليبنتس Leibniz — «إلا الفن نفسه».

(٣) هل الإستطيقا فلسفة للفن أم للنقد أم لتاريخ الفن

إن الإستطيقا لا تتخذ من الجمال الطبيعي موضوعًا لها إلا بقدر ما يكون هذا الجمال مقيَّمًا خلال فن من الفنون وعلى أساس المحكَّات ذاتها، كما لو كان الجمال وسيلة فنية ملازمة لطبيعة الأشياء. إن الموضوع الحق المباشر للإستطيقا هو القيم الفنية الإيجابية أو السلبية، أي الوسائل الفنية الجميلة أو القبيحة.

إن الفن بالمعنى الواسع للكلمة هو تحوير لمواد الطبيعة بواسطة الإنسان، هو كما قال بيكون Bacon «الإنسان مضافًا إلى الطبيعة». وهذا المعنى يشمل إذَن الفنون الميكانيكية والصناعية، أي الفنون التطبيقية مثل فن المهندس وفن الطبيب. هذه الفنون التي اتصلت أثناء انتقال الحرف وبطريقة غير محسوسة بالفنون الجميلة الأساسية: الأدب والفنون التشكيلية والموسيقى ومركَّباتها.
والشيء المشترك بين هذه الصور المختلفة من الفن هو فكرة الصناعة أو الإنتاج. أليس إذَن هذا المعنى هو معنى كلمات poésie (شِعر) وtechnique (وسيلة فنية أو صنعة) عند الإغريق؟ ثم كان النشاط الإنتاجي من الحرية المطَّردة؛ بحيث ابتعد عن الناحية الميكانيكية مقتربًا من الفنون الجميلة التي تكون الموضوع الحقيقي للإستطيقا، ويتضمن هذا النشاط إذَن عملية خلق خيالي وترفًا ولعبًا وخداعًا مقصودًا: خداعًا مجردًا عن الغرض حتى في التمتع الشهوي ورمزية لا شعورية أو مستترة، ثم مثلًا أعلى إلهاميًّا يحرر دوافع حياتنا الوجدانية والشهوية والانفعالية والعاطفية الجامحة.

هذا هو الموضوع الأساسي للإستطيقا كما سنوضِّحه بدقة شيئًا فشيئًا.

وقد اضطلع بالدراسة الوضعية لهذا الخَلق الخيالي النقدُ الأدبي والنقد الفني من ناحية ثم تاريخ الفنون المختلفة من ناحية أخرى. وكما أن علم المنطق هو تفكير فلسفي في القوانين الخاصة بأي حقيقة من الحقائق وفي العلوم التي تنتهي إلى هذه الحقائق، وكما أن علم الأخلاق هو تفكير فلسفي في سيكولوجية النشاط الفردي والاجتماعي وفي العلم الخاص بعادات الناس، كذلك الإستطيقا في حقيقتها ينبغي أن تكون قبل كل شيء تفكيرًا فلسفيًّا في النقد الفني وفي تاريخ الفن، هذه الأشياء التي مهدت لها السبيل من قبل.

١  إشارة إلى كتاب كانط «نقد الحكم». (المترجم)
٢  انظر: شارل لالو في كتابه introduction à l’Esthétique ص٤٩ إلى ص١٥٧.
٣  يجب التفريق بين ما هو إستطيقي أي جميل esthétique وبين ما هو لا إستطيقي أي قبيح inesthétique ثم ما هو غير ذي موضوع إستطيقيًّا، أي ما كان خارجًا عن الميدان الإستطيقي anesthétique أي محايد تعوزه الصفة الإستطيقية. ومثل ذلك قولنا: أخلاقي أو طيب moral ولا أخلاقي أي شرير immoral ثم ما كان غير ذي موضوع أخلاقيًّا أو ما كان خارجًا عن الميدان الأخلاقي amoral أي غريب عن القيم الأخلاقية. وهكذا أيضًا منطقي logique ولا منطقي illoglque ثم ما كان غير ذي موضوع منطقيًّا alogique. انظر: Le Vocabulaire philosophique de Lalande.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤