الفصل الثالث

الخلق والتأمل «تابع»

البناءات غير المسبوقة بتفكير

(١) نشأة الفن وتطوره عند الفرد

لم تبدأ الدراسة العملية للمظاهر الأولى لعملية الخلق الفني أو الإعجاب الإستطيقي لدى الطفل إلا منذ عهد قريب. وتتلخص هذه الدراسة إما في أبحاث فردية على طفل واحد أو في أبحاث جماعية وإحصاءات على عدد كبير من الأطفال في بلاد مختلفة. وقد طُبقت هذه الطرق والأبحاث أول ما طُبقت على الرسوم؛ ذلك أن ملاحظة وتفسير الرسوم وحفظها أكثر سهولة وموضوعية منها في الإنتاجات الأدبية أو الموسيقية أو الإنتاجات الخاصة بالرقص عند الأطفال، وهي الأخرى أشياء لها قيمة كبرى من الناحية الإستطيقية والتربوية.

وقد أظهر عدد من الأبحاث المنهجية أن خصائص الرسم عند الأطفال واحدة في كل البلاد وفي كل الأجناس وفي كل الطبقات. يقول ليكيه Luquet: «إن الأطفال في المجتمعات المتحضرة الآن يبدءون بدورهم في ابتكار واختراع الرسم برغم الوراثة وبرغم مثال البالغين وبرغم إيحاءاتهم الصريحة وتوجيهاتهم.»

وطبيعي أن عملية الخلق هذه تقوم على الاهتمامات الخارجة عن الميدان الإستطيقي؛ لأنها تكون اهتمامات أكثر اتصالًا بالحياة أي اهتمامات لم تنضج بعد. إن الطفل يبحث أول ما يبحث عن اللذة الناتجة عن الأحاسيس الشديدة أيًّا كانت؛ أصوات صارخة، ألوان شديدة، حركات سريعة، وهو عندما يرسم إنما يهتم أولًا «بالبني آدم» ثم ينتقل بعد ذلك متأخرًا إلى رسم الحيوانات فالبيوت فالأشياء المستخدمة ثم إلى النباتات، ويأتي الجمع بين هذه العناصر في شكل واحد متأخرًا.

إن الرسومات التي يرسمها طفل الثالثة والنصف لا تستهدف الأهداف التي تستهدفها رسومات البالغين، إنها تُرسم فقط للذة الرسم، والطفل لا يكتشف التشابهات إلا بعد فترة، ولا يفهم إلا متأخرًا إمكان نقل كل الأشياء على الورق. وإن الرسومات في السن المبكرة إنما تُرسم عن الذاكرة والخيال لا عن تقليدٍ لنموذج، بل هي ترسم حسب تخطيط عقلي مبسَّط ونفعي. إن الطفل لا يرسم من الشيء إلا ما يعرف وما يستخدم أكثر من رسمه لما يرى. فبعد الشخبطة غير المنتظمة يرسم الطفل أشخاصًا ذوي رءوس ضخمة يتكونون فقط من رأس وساقَين. ثم عندما يرسم ذراعَين فهو يلحمهما مباشرة في الرأس أو في الساقَين. والأشخاص التي يرسمها الطفل ينقصها دائمًا الجذع؛ ذلك لأنه يبدو بدون فاعلية واضحة في نظره؛ فهو إذَن لا يهمه على الرغم من أنه يدرك حجمه جيدًا. ثم في وقت متأخر عندما يرسم وجهًا من الجانب «بروفيل»؛ فهو يرسم له عينَين رغم أنه في الواقع لا يرى سوى عين واحدة. وذلك لأنه يعرف أن هناك عينَين. وكذلك عندما يرسم واجهة بيت تراه يرسم الأثاث والسكان كما لو كان من الممكن رؤيتها من خلال الجدران؛ فهو إذَن يضيف بعض التفاصيل في وقت غير مناسب وخارجًا عن المكان الذي تشغله في الواقع، والمهم لدى الطفل أن يرسمها في مكانٍ ما لأنه يعرفها. ويضاف إلى عدم مهارة الأطفال في البداية أنهم يتجهون إلى تضخيم الأطراف الصعبة الرسم؛ فهم يرسمون الأيدي على شكل الشوكة أو المذراة، والأذنَين على شكل الأجنحة، والشعر قائمًا كشعر الفرشاة.

هذه الرسومات الأولى هي في الواقع تخطيط أوصاف على أساس عقلي أكثر منها نقلي أو زخرفة حسية. ثم عندما يظهر لدى الطفل اتجاه الزخرفة فيما بعد؛ فإنه يكون عملية أسلَبة stylisation بعيدة إلى حد كبير عن الواقعية؛ فمن تماثلات صناعية إلى ملء لفراغات الصفحة بمد أو تكرار تفاصيل تعارض الحقيقة الواقعة أوضح التعارض. أما نقل الأشياء كما تُرى في لحظةٍ ما وفي وضعٍ ما مثل وضع امتداد المنظور أو بظلالها؛ أي في حالة الواقعية المحسوسة؛ فهذا لا يتأتى في العادة إلا في مرحلة متأخرة.

من هذه المميزات الثابتة التي عرضنا لها في رسوم الأطفال يجب ألا نستنتج أن الأطفال أكثر تعقليه وعملية من البالغين ولا أن البدائيين أكثر من المتحضرين، بل نستنتج فقط أن عقليات الأطفال لا يمكنها أن تدرك سوى البناءات البسيطة نسبيًّا (تدرك كل شعرة على حدة لا كل الشعر في مجموعة) وأنها تدرك بصعوبة المجموعات (مثل التماثل أو الامتداد المنظور) وبطبيعة الحال تدرك بصعوبة أكثر البناءات الكلية العليا الفنية مثل (الأساليب، الأبيات الشعرية، التنغيمات).

وتؤدي بعض حالات النكوص إلى إعادة الأشكال الطفلية في مراحل متأخرة من مراحل النمو، مثل مرحلة البلوغ أو النضج، ويُرى هذا مثلًا في الرسوم المنقوشة اللاذعة أو البذيئة التي يرسمها الأولاد بالطباشير على الحيطان أو التي يحفرونها بآلة مدببة. ويُرى هذا أيضًا في حالات بعض الأمراض العقلية التي تؤدي بالمرضى إلى الارتداد كلية إلى مرحلة الطفولة.

أما النضج الفني المبكر عن أوانه؛ فيرجع إلى أحوال وظروف فسيولوجية معقدة وغامضة تتعاون بعضها مع البعض في الوصول إلى هذه الحالة التي يختلف ظهورها عند الأفراد اختلافًا بيِّنًا بحسب الأجناس والفنون. وقد كان موتسارت عازفًا ماهرًا في سن الخامسة ثم مؤلفًا في سن الثامنة. والغالب أن كل الموسيقيين أفراد نضجوا مبكرين. أما المصورون والشعراء فليسوا على الدوام كذلك، ويتطلب النثر نضجًا عقليًّا أكثر. ويحدث أحيانًا أن يطرأ على الأطفال المعجزين توقُّف في النمو يكذِّب ما كان يُتوقَّع منهم.

والتطور الحادث في الشعوب البدائية برغم أنه يجرى على أفراد بالغين يشمل مراحل مشابهة لتلك التي نصادفها لدى الأطفال. كذلك تُلاحظ حالات النكوص في الاتجاهات التدهورية وفي العصور الوسطى بكل البلدان. وعلى هذا يمكننا القول بأن عبارة «طفولة الفن» ليست استعارة.

(٢) البقايا الطفلية والبدائية

كان القدماء يقولون: إن الفنان الملهم يشبه المطَّلع على ما وراء هذا الكون، يشبه الكاهن أو النبي، أما نحن الآن فنعتقد أن الشيطان وربَّة الشعر والآلهة هي أسماء خرافية للاشعور، وأن كل نشاط إستطيقي شديد له جذوره الممتدة تحت عتبة الشعور والتي تتضح في الحماس والانجذاب غير المقصود الذي يحدث للمتأمل وفي الإلهام والعبقرية الدافعة الملحَّة والتي تأتي للفنان الخالق حسب هواها ويُحتار في تفسيرها.

ولكن اللاشعور لن يكون سوى اسم جميل أطلقناه على الفراغات المجهولة الموجودة في علم النفس عندنا، إذا لم نحاول أن ننفُذ بتفكيرنا إلى غموضه عن طريق «فروض تمثيلية» أو عن طريق «رمزيةٍ» التحليل النفسي هو أحدث صورة لها.

وقد اعتقد بعض المفكرين أن اللاشعور الإستطيقي لدى البالغ هو من بواقي هذه «العقلية الطفلية» التي أعلن روسو وبياجيه وكثير من التربويين أنها تختلف في جوهرها عن عقلية الرجل الناضج، وبناءً على هذا يكون الفنان هو الشخص الذي يحتفظ طول حياته بنصاعة وتلقائية انطباعات وأحاسيس الطفولة. وهو الشخص الذي لم تُصبه البلادة والذي لا يتكيف أبدًا مع هذا العالم بل ينقل عليه في غير ما تعب عينَين بريئتَين وشغفًا ساذجًا ودهشة مستعجبة وعقلًا تجرَّد عن المنطق والأخلاق؛ عقلًا شديد الانفعالية مغرمًا بالأساطير والأكاذيب شبيهًا بعقل كائن شاب على الدوام.

ويندفع بعض علماء الاجتماع في أيامنا هذه إلى القول بأن لدى الفنان بقايا استثنائية من «العقلية البدائية» للشعوب الطفلة، وبأن لديه طريقة من التفكير ومن النظر إلى أشياء يصفها ليفي بريل Levy Bruhl بأنها «صوفية» أو بأنها «سابقة على المنطق»، ويريد ليفي بريل بذلك أن يُرينا إلى أي حدٍّ قد اعتاد الفنان «التشكل والاندماج» في عدة طبائع في وقت واحد واعتاد على الأسرار والغوامض من كل الأنواع؛ أي أنه اعتاد الأشياء التي تناقض المنطق والتي ينفر منها فكر الفرد الناضج في المجتمع المتحضر. وهذا هو نفسه طابع الأساطير الدينية والممارسات السحرية والقصص الخرافية التي تحتل مكانًا كبيرًا في فنون القبائل البدائية قديمًا وحديثًا.
علينا أن نستخلص من كل هذه الآراء أن الفكر الإستطيقي أقل خضوعًا للمنطق المجرد مما قد اعتقدت السيكولوجيا العقلية intellectualiste القديمة؛ ولكن هذه النتيجة طبعًا لن تبلغ بنا المعرفة الإيجابية لماهية الفكر الإستطيقي. إن الفكر الذي يقال عنه إنه إستطيقي لدى الأطفال والبدائيين تشُوبه كثير من الوظائف الخارجة عن المجال الإستطيقي أكثر مما هو حادث بالنسبة للفكر الإستطيقي لدى البالغ أو المتحضر، ويتصف فوق هذا بأنه أقل بوليفونية، غير أنه من الممكن أن نعتبره سابقًا على الفكر الإستطيقي ذاته، وعلى هذا الاعتبار تصبح له أهمية شائقة وأساسية في الدراسة.

(٣) دور الحب في الفن١

يقول موسيه شاعر الحب:

«إن ما يسميه الإنسان في هذه الدنيا عبقرية،
هو الحاجة إلى الحب، وكل ما عدا ذلك لا جدوى منه.
… قلبك أو أنت، أيهما الشاعر؟
إنه قلبك …»

ويبدأ ستندال كتابه «فسيولوجية الحب» بهذه العبارة: «إنني أبحث وأحاول التعرف على هذه العاطفة التي تتسم كل تطوراتها الصادقة بسمة الجمال.»

وهذا الفهم للحب ليس فقط فهمًا رومانسيًّا أو واقعيًّا، فمن أفلاطون إلى بوالو Boileau إلى غير أولئك نجد الفنانين من مثاليين وكلاسيكيين يكررون هذا الفهم بعينه ألف مرة. يقول فولتير: «لو سألت الضفدع ما هو الجمال، وما هو الجميل السامي؛ لأجابك من غير شك بأنه ضفدعته.» ويقول نيتشه Nietzsche: «إن كل الأدب الكلاسيكي الفرنسي الممتاز مبنيٌّ على الاهتمامات الجنسية، وإنك لو بحثت فيه عن الغزل والملاطفة والحسِّيات والصراع الجنسي والمرأة؛ فلن يذهب بحثك أدراج الرياح.»
يقول ريمي د جورمون Remy de Gourmont: «لو استُبعد الحب لم يكن هناك فن.» ويضيف نيتشه: «… لم يكن هناك فن إلا نقيق المهارة الأدائية، وإنك لو استبعدت الفن لأصبح الحب حاجة فسيولوجية لا أكثر.»

ونوجز فنقول: إن الجمال مبني على أساس هو الحب، وأن الحب مبني على الجمال، وهذا الجمال يصدُق على الفن كما يصدق على الطبيعة وعلى الغريزة الفسيولوجية للتناسل كما يصدق على الحب المثالي والعذري أو الأفلاطوني. إن هذه الآراء التي تبدو لنا عامية قد اتخذت صورة علمية على يد دارون ثم فرويد.

(٣-١) الانتخاب الجنسي

من بين صور الانتخاب الطبيعي أشار دارون باهتمام خاصٍّ إلى «الانتخاب الجنسي selection sexuelle» ويعني به الظروف المواتية التي تضمن تناسل الكائنات المحظوظة وتحُول دون تناسل الكائنات الأقل منها موهبة. وأشار إلى أن الجمال أو حتى المهارة الفنية تكون أحيانًا أحد هذه الظروف. وتضمن عملية الانتخاب التناسلي هذه تقدُّم نوع من الكائنات نحو نمط يزداد جماله أو سِمته الفنية مع التطور.

ويلاحَظ لدى بعض النباتات أن شدة ألوان البتلات تجذب الحشرات، وتهيئ بهذا انتقال حبوب اللقاح وتهيئ كذلك نوع التهجينات. كذا نلاحِظ عند الطيور أن جمال الريش — كما في حالة الطاووس — والقدرة على الشدو — كما في حالة البلبل — بل حتى القدرة على بناء العش أو على الرقص — كما في حالة الديك البري — كلها طرق تدل الشواهد على أنها طرق للإغراء الغرامي. ويتضح من هذا أن الطبيعة بصفة عامة قد حبَت الذكور أكثر من الإناث بالمظهر الجميل، وحسبُك أن تقارن الديك بالدجاجة والسبع باللبؤة. أما النوع الثاني فعلى العكس نجد أن «الجنس الجميل» يخالف الطبيعة في هذه الناحية، وذلك مرجعه إلى أسباب اجتماعية خصوصًا في البلاد التي يكون فيها العمل الاجتماعي مقسَّمًا تقسيمًا كبيرًا. ورغم هذا الشذوذ عن القاعدة؛ فإن هذه الحالة الاستثنائية الظاهرية تؤكد القاعدة السابقة؛ ذلك لأن هذا القلب للأدوار الطبيعية يُعتبر طريقة أخرى لا تقلُّ ملاءمة عن غيرها لممارسة عمليات الانتخاب عن طريق الجمال.

والمعروف أن نصاعة أزهار النباتات وأن فعل المظهر المنمق والشدو الشجي وعمليات البناء لدى الحيوانات تبدأ وتنتهي مع مواسم التناسل. أما في حالة الإنسان فإن يقظة القوى التناسلية تجعل المراهقين شعراءَ بدرجات متفاوتة، وأن هذا النشاط الشعري لديهم لا يلبث أن يخمد، ولكنه يظل على حالته فعالًا عند الفنانين الذين هم — اصطلاحًا — أشخاص استثنائيون.

وإذَن فالجمال والفن والجنسية وجوه ثلاثة لظاهرة واحدة ضرورية في تطور الحياة.

(٣-٢) الجنسية الشاملة في التحليل النفسي

استطاع الطبيب النمساوي فرويد — باستخدامه لمنهج الملاحظة السيكولوجية المعروف باسم «التحليل النفسي» — أن يكشف ويبرز الميكانيزم الهام لعملية كبت بعض الدوافع في اللاشعور عندما تتعرض لسلطة «الرقيب» الخُلقي والاجتماعي. ويرى فرويد أن الغريزة الجنسية أو الليبيدو Libido الأساسي تتعرَّض لهذا الكبت بصفة خاصة، أو على الأقل أكثر من الدوافع الأخرى منذ السن المبكرة. وتجتهد المجموعات المترابطة أو «العقد» المتكونة نتيجة لهذا الكبت في الاندفاع إلى أعلى متجاوزة عتبة الشعور، وتسلك لبلوغ هذا مسالك أربعة: الأفعال الفاشلة أو الأخطاء اللفظية للشاردين – أحلام النائمين – هذَيان العصابيين – وأخيرًا الأعمال الفنية التي يُنتجها الفنانون أو أحلام اليقظة التي تراوِد المتذوقين. ويرتبط بهذا الأساطير المعروفة في الأديان.
فالفن إذَن وسيلة من الوسائل التي يستخدمها الفرد ليحوِّل طريق الوسواسات الجنسية الآتية من اللاشعور، وبالأخص ذكريات الطفولة التي أتى عليها النسيان، على رموز غير ضارة جعلتها كذلك عملية صياغة أسلوبية مثالية أو عملية إعلاء. ومن قبيل هذا «عقدة أوديب» التي تعني الحب المحرم من طفل لأحد والديه من الجنس الآخر. هذه العقدة «مهما استعمل معها من أساليب التمويه» هي الموضوع الحقيقي لكثير من المسرحيات والقصائد والقصص والحكايات الشعبية مثل حكاية «جلد الحمار Peau de l’Ane».
يقول رانك Rank: «إن العُصابي يريد أن يهضم المؤلم — إن جاز لنا أن نعبر بهذه الطريقة — أما الحالم فإنه يتخلَّص من هذا المؤلم تخلصًا شبيهًا بالتخلُّص من العرق، أما الفنان فإنه يتقيأه.» ومن قبل رانك قال أرسطو ﺑ «تطهير الانفعالات». إن كل عمل فني هو اعتراف Confession، فالموسيقِي فاجنر — على سبيل المثال — وضع بطلات كل أوبراته تقريبًا في موقف غرامي بين رجلَين. وهذا إيحاء لاشعوري آتٍ من طفولته هو؛ فهو قد تربي في بيت الزوج الثاني لأمه.

(٣-٣) قيمة الإستطيقا المبنية على الحب

وإن أغلب الوقائع التي ذكرها الدارونيون وقائع صحيحة، لا شك في هذا، إلا أن بعض الطبيعيين naturalistes ينكرون عليها كل صفة إستطيقية، ويرون أن هذه المهارة الأدائية المستمرة التي يظهرها البلبل والتي نجد نحن فيها نوعًا من الجمال قد لا تجد فيها أنثى البلبل إلا نوعًا من إظهار القوة الجسمانية. ويعترض بعض علماء الاجتماع أيضًا بقولهم إنه إذا كان التعليل الداروني يطبَّق على البشرية لكان علينا أن نقول إن الفنون البدائية أكثر الفنون تمثيلًا للناحية الشبقية؛ لأنها أكثر الفنون قربًا من الطبيعة الحيوانية، ولكن المشاهَد عكس ذلك؛ فالرسوم في عصر ما قبل التاريخ والرقصات والزخارف لدى الشعوب المتأخرة في أيامنا هذه وكذا الملاحم الهندية والإغريقية والجرمانية والفرنسية كلها ذات اتجاه ديني أو حربي ولا يظهر فيها الحب إلا فيما ندر، وعلى خلاف ذلك نجد الحب يملأ فنون فترات التدهور، وهذه حقيقة تاريخية تعني عكس المعنى السابق كلِّية. أما فيما يختص بالمراهقين؛ فهم فريسة تطرف زائد عام شامل لكل ملَكاتهم لا ملَكاتهم الإستطيقية فحسب؛ فهو يظهر بنفس الشدة في ابتكاراتهم الميكانيكية أو في الرياضة والتديُّن لديهم.

وإن كان التحليل النفسي قد قدَّم لنا معلومات ومبادئ نافعة إلى حدٍّ كبير إلا أنها تستدعي الاحتياط. فالكبت مثلًا لا يحدث على الدوام نتيجةً لأسباب أخلاقية أو اجتماعية، كما أن الدوافع المكبوتة ليست على الدوام دوافع جنسية، فالجندي المقدام يكبت غريزة المحافظة على البقاء، والشخص المغرور الذي يعيش في مجتمع سامٍ يكبت بُخله، والرجال جميعًا — على وجه التقريب — يكبتون «رغبتهم في القوة» أو يكبتون «سطوتهم». ويعترف فرويد نفسه بأن هذه الميكانيزمات التي توصَّل إليها تفسر دوافع الفكر الإستطيقي لا اتجاهاته. إن الميول الخارجة عن الميدان الإستطيقي لا يمكنها أن تولِّد القدرات التكنيكية، إنها تستثيرها فقط عندما تكون قد تكوَّنت وتهذبت بوسائل أخرى. إن «الإستطيقا الشبقية» التي يقول بها عشاق الجمال متطرفة تطرفًا شبيهًا بتطرف «الإستطيقا المجردة عن الحب» التي يقول بها بعض النسَّاك الزاهدين.

(٤) سيكولوجية الإلهام

(٤-١) العبقرية والجنون

وضع أفلاطون في كتابة فدر Phèdre الإلهام الفني ضمن الأنواع الأربعة للهذَيان. ويعدِّد أرسطو من الفنانين مَن كانوا مجانين ثم يعمم فيقول: «إن أكثر عظماء الرجال سَوداويو المزاج.» ويؤكد مورو د تور Morau de Tours أن «العبقرية نوع من العصاب.» أما لومبروزو Lombroso فيقرر أن العبقرية — بما لها من أزمات عنيفة مفاجئة تتبعها حالات انهباط عميقة — صورة مخففة من صور الصرع. ويتحدَّث كثير من المفكرين في هذا المقام عن «المتحللين المتفوقين» أو عن جنون العرض النفسي وعن جنون الكذب والاختلاق، ويتحدثون على الأقل عن زيادة مفرطة مرضية في الانفعالية تكون سليمة في حالة الاستعداد الفني؛ ولكنها تكون دورية في حالة العبقرية. وقد حظيَت المؤلفات الممتازة التي أنتجها الفصاميون بالمدح الكثير لدى الفنانين «الذين يتبعون الإغراء ثم تخيب آمالهم»؛ ولكن هذا المدح يقل كثيرًا لدى علماء الطب العقلي «وهم عادة متحفظون». ولسنا ندري إن كان معرض المجانين Salon des Fous في المستقبل سيستبعد تفاهات المصابين بالجنون المبكر أو بجنون الشيخوخة أو بالشلل الجنوني العام وأنواع العجز المتفككة للهرمين المعتوهين. إن الخلط بين البوليفونية «تناغم الأصوات» والكاكوفونية «نشاز الأصوات» لهو وصمة من وصمات التدهور.

هذا وكان بعض الفنانين يتعاطون منبهات للجهاز العصبي يؤدي الإفراط فيها إلى هذيانات حقيقية؛ فاستعمل فولتير وبلزاك القهوة، وإدجاربو وهوفمان وموسيه وفرلين الكحول، وكان موبسان يتعاطى الإتير والكوكايين.

غير أن هذه المنبهات — سواء أكانت طبيعية أو مصنوعة — يقتصر مفعولها على دفع وتنشيط ميكانيزم قد تنظم من قبل بدونها وخارجًا عنها. ونقصد بهذا الميكانيزم: الفكر التكنيكي. وما تزال هذه المنبهات تدفع وتنشِّط حتى تبلغ بالفكر الاضطراب والتلف. ولنأخذ مثلًا قصص هوفمان؛ إنها تشبه الهلوسة، ولكنها لا تفتقر إلى الأسلوب الممتاز. أما «بيير وجان Pierre et Jean» التي ألَّفها موبسان؛ فإنها قصص مركَّزة محكمة إلى أقصى الحدود ومبنية على تنظيم عقلي سليم جدًّا رغم ما يؤكده مؤلفها من أنه كتبها من أولها إلى آخرها وهو تحت تأثير الإتير.
وإن لم يكن لدى العصابي حين يشغف بفن من الفنون هذا النظام التكنيكي؛ فإنه يهدف إلى تغذية وسوساته وصور العجز عنده من هذا الفن. ويحدث هذا أحيانًا بواسطة الحركة الذاتية السلبية للأشكال الفارغة لديه «مثل التجنيسات assonances والتماثلات والإيقاعات المقصودة لذاتها»، ويحدث أحيانًا أخرى بواسطة دوافعه الوجدانية التي لا شكل لها والتي لمتكبت «مثل اللذات والآلام والعواطف والانفعالات التي يعوزها التحكم الشعوري». وهاتان الطائفتان اللتان أشرنا إليهما تمثلان نوعَين من العناصر الفوضوية أو المتطفلة التي يعمد الفنانون الأصحاء — على العكس — إلى ربطها وإيجاد التوازن بينها في إنشاءات كونترابنتية منسجمة.
ثم إذا حدث أن أوتيت الدوافع الشاذة أحيانًا القدرة على إيجاد تكنيك سليم؛ فيجب علينا ألا ننظر إلى ذلك ظانين أنه ضرب من المحال، بل هي المعجزة في ميدان الإستطيقا، أو هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ويدعمها. والقاعدة هي أن العبقرية شيء استثنائي خارج عن المألوف؛ ولكنها ليست شيئًا مرضيًّا. وإن أغلب المرضى العباقرة كانت لديهم العبقرية برغم أمراضهم. ولكنها لم تكن لديهم بسبب هذه الأمراض؛ عصبية كانت أو غير ذلك. إن الحركة الذاتية automatisme قد تصل إلى الانسجام مصادفة وقد تستطيع تقليده ولكنها تعجز عن إنتاجه إنتاجًا منتظمًا. وهنا نرى أهمية الدراسة الإستطيقية الباثولوجية وفائدتها الكبرى في التوصل إلى المقارنات المثمرة؛ ولكن علينا ألا نسرف فنطلب منها أن تفسر لنا، تفسيرًا مباشرًا، الأشكال التي ذاع أنها سليمة.٢

(٤-٢) ميكانيزم الإلهام

إن محركات الإبداع والعبقرية مواضيع لا تقل غموضًا في الفنون عنها في العلوم، ويلخصها برجسون في قوله: «إنها مرور من التخطيط schéma الديناميكي إلى الصورة». إن المخترع في المبدأ يتمثل الصورة أقل من تمثله لطريقة بنائها، ثم ينتقل من هذا التخطيط الغامض المبسط المجرد انتقالًا تدريجيًّا إلى صورة واضحة مجسمة.
أما هنري بوانكاريه Henri Poincaré فيقول متحدثًا عن الكشوف التي توصل إليها هو شخصيًّا: إن النشاط الشعوري يقدِّم المشكلات ثم يحققها، وبين هاتين العمليتَين الواعيتَين يقوم اللاشعور بسرعة — يعترضها التفكك الشديد — بمزج المواد الابتدائية التي أوجدها النشاط الشعوري الأول وخاضعًا لعملية التشكيل البنائي للتخطيط ويستخدم في ذلك كل ما أوتي من طرقٍ وحيلٍ. وهذه المواد الابتدائية تقع، في حالة الأفراد الموهوبين تحت قوة جذب شديد متجه نحو الانسجام؛ أي إن ما يحدث بالضبط هو أن من وسط هذا الاضطراب والثوران العقيم غير المنتظم تنجح فقط التركيبات التي لديها القدرة على الترابط فيما بينها ترابطًا فيه «أناقة élégance» يحسها المهندس كل الإحساس، تنجح هذه التركيبات في الوصول إلى وضح الشعور، وهذا هو — في ميدان العلوم — خصوبة العبقرية الملهمة.
وميكانيزم الاكتشاف والخلق الفني يبدو من نفس النوع السابق الذي يتحدث عنه بوانكاريه؛ بالرغم من أنها تختص بمواد ابتدائية مخالفة كل المخالفة لنظيراتها في النوع السابق، والتخطيط الذهني هنا يتمثل في المسودة أو الرسم السريع أو الارتجال، وكلها أشياء تلعب دور مغناطيس خاص مكلَّف باستخراج حبيبات برادة الحديد من وسط حبيبات التراب؛ فهو يجذب البرادة ويستبعد التراب. وقانون الجاذبية الذهنية الذي يُبرز من الظلام الإنتاجات المبهمة للنشاط اللاشعوري هو الميل العام للفكر نحو تحقيق أكبر قدر من النتائج بأقل قدر من النفقات، وهو بالضبط ما نسميه انسجامًا، أو — حسبما تقول اللغة الدقيقة لعلم النفس الحديث — هو «الشكل الحسن» أو «البناء القوي»، أو هو في الفنون «البناء الأعلى suprastructure». إن الإلهام خصوبة فريدة في الوظيفة الكلية لإنشاء الأبنية، الوظيفة المتخصصة في تكنيك معين.٣
١  انظر:
Ch. Lola, la Beauté et l’instinct sexuel. A.M. et.
Ch. Lola, La Faillite de la beauté-La femme idéale.
٢  هذا هو الطريق الذي ينبغي علينا أن نسلكه في دراستنا لباثولوجيا الفنون المختلفة دون أن يخالجنا الأمل الكاذب في أن نكتشف فيها آثارًا للعبقرية، فندرس: الاضطرابات الناتجة عن زيادة في شدة الوظائف «أو كما يقول الأطباء اضطرابات en hyper مثل: جنون الكتابة graphomanie، جنون الألفاظ verbomanie، جنون الكلام logarrheé، جنون الألحان melomanie» «ويمكن أن نضيف أيضًا جنون الأشكال للفنون التشكيلية». والاضطرابات الناتجة عن نقص في النشاط الوظيفي en hypo مثل الصمم الموسيقي أو الأموزيا amusie ويضاف إليه عدم الإحساس بالإيقاعات arythmie وبتوافقات الأشكال amorphie وأخيرًا اضطرابات الانحراف en para وفيها: الاضطرابات المرضية العديدة التي ينظر إليها على أنها تجرؤات عبقرية، وقد أنتج القرن العشرون حتى الآن بمفرده مثلما أنتجت الثلاثة القرون التي سبقته مجتمعة: وهذه علامة على حالة تدهور مثمر إثمارًا مجتهدًا، وجدير بأن ينتج حركة نهضة.
٣  عندما يؤلف الشاعر بعض الأبيات يمكن القول بأنه تكون هناك حالة نفسية غامضة أوحتها حادثةٌ ما تبلورت في صورة بيت أو اثنين، أعني أن هذه الحالة تجلب من اللاشعور الألفاظ الملائمة تمامًا بطريقة تشابه تخير البلورة للجزئيات التي من نفس عنصرها والتي تكون سابحة في المحلول فوق المشبع بالملح، وتأتي هذه الجزيئات؛ فتصطف في مكانها المضبوط حتى تكمل صفحة البلورة كما قد خططتها في المبدأ الجزيئات الأولى. والأبيات الأولى في القصيدة ترسم تخطيط الأبيات التالية؛ أي إنها تفرض على الشاعر الصورة المجسمة وإن كانت غامضة للقوافي أو على الأقل للتجنيسات assonances ثم للإيقاع أو على الأقل لعدد الوحدات، ثم للتسلسل والترابط المنطقي أو للنغمة الوجدانية، وكل هذه الأشياء يمكنها أن تكون بناءً كاملًا متماسكًا. إن التخطيط صورة غير واضحة ولكنه — في الوقت ذاته — ليس صورة مجردة. إنه صورة تحتوي في نفس الوقت على الكثير المفرط والقليل المسرف في القلة؛ فالقوافي المختلفة الممكنة الدخول في القصيدة يواجه بعضها البعض وتختبر قيمتها النسبية في محاولات تكون شعورية عند العروضي المجتهد وتكون لاشعورية لدى الشاعر الذي يقال عنه إنه ملهم، وتقوم قوة الجاذبية الناجحة بعملية جذب القوافي المحققة لأكبر انسجام وأقل تفكك والتي تملأ الفراغات خير ملء وتزيل بطريقة أكيدة ما يحويه التخطيط الشعوري من زيادات.
انظر:
E. Poe: Philosophie de la composition.
Ch. Lalo: Le conscient et l’inconscient dans l’inspiration: Journal de psychologie, 1926 p. 11–51.
وتحدث عملية الاختيار هذه أيضًا عند الموسيقي الذي يؤلف قطعة ترديدية fugue بالنسبة للجُمل اللحنية والتوافقات الممكنة الوجود والممكنة الدخول في المؤلف. وتحدث أيضًا لدى المصور الذي يبدع لوحة معبرة، بالنسبة للخطوط والألوان التي تتوافق حسب القوانين الخاصة بالبوليفونية التشكيلية la polyphonie plastique.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤