الفصل الرابع

الخلق والتأمل «ختام»

البناءات الصادرة عن تفكير

(١) النشاط التكنيكي الشعوري

إن الدور الرئيسي الذي يلعبه اللاشعور في كل فكر إستطيقي دور لا سبيل إلى إنكاره ولكنه دور يجب مجابهته في حذر؛ لأنه قد بولغ فيه مبالغة وصلت إلى حد الخرافة.

وعلينا ألا ننسى أن بجانب «العبقرية» التي يسيطر فيها اللاشعور الذي لا سبيل إلى تفسيره توجد المهارة الفنية le talent بما لها من حقوق. وتعني المهارة الفنية دراسة وتفكيرًا واستخدامًا لتكنيك قد فُهم فهمًا واضحًا واستخدامًا لحرفة مكتسبة. وحتى نوضح أهمية هذا الجانب نذكر ما قيل في شأن بعض المؤلفين المتفاوتين أمثال برليوز Berlioz إنهم «العباقرة الذين لم ينقصهم إلا المهارة الفنية.» وإن الغالبية العظمى من الفنانين يصححون تخطيطاتهم الأولى ويصححونها كثيرًا، وحتى عندما لا نراهم يفعلون؛ فذلك إنما يعني أنهم قد راجعوا هذه التخطيطات من قبل في أذهانهم وعلى مهل. وإن الأعمال الفنية التي ينتجها الفنانون تلقائيًّا في مرحلة الشباب تكون دائمًا أقل درجة من الأعمال التي ينتجونها في مرحلة نضجهم المتَّسم بالاجتهاد. والحق أن في نشاط الفنانين الملهمين يوجد من التفكير أكثر مما يعتقد الكثيرون وأكثر مما يعترف به هؤلاء الفنانون أنفسهم.

(١-١) الحاستان الإستطيقيتان١

لا شك أن الإبصار والسمع هما الحاستان الساميتان العقليتان والإستطيقيتان؛ فعليهما تعتمد اللغة المقولة واللغة المكتوبة، بل وكل الفنون الجميلة؛ فنحن لا يمكننا، إلا عن طريق الاستعارة الملطفة، أن نتحدث عن فن الطهي أو عن فن العطور أو عن سيموفونيات المشروبات الرُّوحية symphonies de liqueurs التي كان البطل الغريب الأطوار في قصة A reboursHuysmans يعزفها على «أرغن فمه»، ولا أن نتحدث حتى عن «اللمسية tactilisme» التي يقترحها بعض «المستقبليين».٢
غير أن هذه الحقيقة الكونية لا تعجب بعض النظريات التي لا تحترم — إلا قليلًا — الصفات النوعية الخاصة بالجميل. من قبيل هذا ما يؤكده جويو Guyau من أن الإحساس باللذة الرقيقة عند وضع الثلج على جبهة المحموم هو جمال، وأن سكان جبال الألب عندما يتعبون ويشربون من لبن الرعاة إنما يشربون في طزاجة هذا اللبن «سيمفونية رعوية»! ولكننا لا نستطيع في الواقع إلا أن نرد قائلين: إن السائح المسافر مهما كان منهوك القوى يمكنه بكل سهولة ويسر أن يميز بين استساغة اللبن وبين جمال المنظر!
والحقيقة أن الحاستَين الإستطيقيَّتين تحتكمان على ثلاث ميزات كبرى تجعل لهما مكانًا ممتازًا بين الحواس الأخرى؛ فهما أولًا: أكثر الحواس تجردًا عن الغرض وهما تعملان عن بُعد وتشملان مجالًا فسيحًا من الأحاسيس المحايدة أو التي لا تتعلق بالوجدان إلا أقل التعلق، وثانيًا: إن تركيباتهما أكثر وفرة ودقة، وثالثًا: فإن هذه الدقة تزداد حدتها بطريقة فريدة نتيجة المعاونة الفعالة للحاسة العضلية؛ فنحن نسمع سمعًا سلبيًّا الأصوات التي نصدرها نحن إصدارًا مباشرًا «على الأقل الأصوات التي تصدر على فترات ثمانية intervalles d’octaves» حين نقوم «بالغناء الباطني» أي والفم مقفل. كذلك فنحن معتادون متابعة الخطوط بحركات من عيوننا وأعضائنا. هذه الإعادة الإيجابية وهذا التنويع الإرادي للأحاسيس السامية يسمحان أولًا بقياس هذه الأحاسيس بدقة أكبر، مما يمهد السبيل إلى التركيبات الكونترابنتية ويضفيان ثانيًا على الأحاسيس صفة الحيوية والشخصية والذاتية. وبعبارة أخرى إننا «نضع شيئًا من ذاتنا» في حركة السكون أو في فترة موسيقية تعبر عضليًّا عن صيحة الألم. وواضح أننا لا نستطيع أن نقول نفس الكلام عن طعم أو عن درجة حرارةٍ ما؛ لأن دورنا معها يقتصر على الإحساس بها بطريقة سلبية، ولأن التوافقات الغامضة الكائنة فيما بينها والتي لا تعبر عن شيء خارج عنها لن يمكنها بتاتًا أن تدخل في ألعاب البوليفونية، كما تدخل الحاستان الساميتان فيها بجدارة وامتياز.

(١-٢) وحدة قوانين الفكر الإستطيقي أو تعددها

ليست ثروة الأحاسيس الإستطيقية سوى شيء أولي لا أكثر؛ فالفكر الإستطيقي بأشكاله المركَّبة يعمد إلى تحليلات وتركيبات مجموعاتية تخضع لقوانين عقلية كلية.

«نقد الحكم الذوقي» عند كانط

وأشهر تعداد لهذه القوانين الرئيسية هو تعداد كانط الذي توصل عن طريق «فلسفته النقدية» وبطريقة منظمة، إلى أنه يوجد في الحكم الإستطيقي الأربع مقولات أو الأربعة أشكال اللاتجريبية العقلية التي شملها من قبل جدول الأحكام المنطقية التقليدي عند المدرسيين٣.

والنصر المألوف الذي تحققه المذاهب النظامية هو التعبير عن الفروق الباهتة العابرة بعبارات ثنائية الألفاظ قوامها كلمات جامدة ثابتة تعارض الواحدة منها الكلمة الملاصقة لها. مثال ذلك عبارات: الشكل والمضمون، الفكر والمادة، ويكون في مقدورنا أن نضع في كفَّتَي هذه العبارات الثنائية التناقضية كل الفروق الطفيفة؛ فتصبح بهذه الطريقة أكبر تأثيرًا نتيجة لصلابة هيكل العبارة الذي بني خارجًا عنها.

ابتدأ كانط من القوانين المنطقية للعقل المجرد وقرر أن يبحث عنها وأن يجدها في كل ميدان. غير أنه لاحظ أن الحكم الذوقي لا يتطابق مع هذه القوانين تطابقًا كاملًا ولكنه في نفس الوقت وجد أنه ليس عسير الفهم كلية. وقد كان شعور كانط بهذا الالتباس ميزة كبرى خاصة في عهد مذهب لايبنتس العقلي l’intellectualisme leibnizien والمذهب العاطفي الاسكتلندي le sentimentalisme écossais والدجماطية شبه الكلاسيكية على طريقة فنكلمان. أما ناحية الضعف الفعلية في نظرية كانط؛ فهي أنه قدم أربع «عبارات تناقضية antinomies» على أنها حلول، في حين أنها في الواقع ليست إلا أربعة «رفوض كبرى» للحلول. ويقتصر دورها الحقيقي على الإشارة إشارة واضحة عميقة إلى السبب الذي من أجله ظلت أربع مشاكل رئيسية دون حل في مذهبه. وعبَّر كانط عن نظريته في هذه العبارات التناقضية الأربع التي تبدو مريحة جدًّا برغم أنها «أو لأنها» صعبة الفهم: الجمال هو «انبساط مجرد عن الغرض – هو عمومية universalité بدون مدرك عقلي – هو غائية دون غاية – هو ضرورة ذاتية.»٤

(١-٣) القانون الأساسي للمقولات التسعة الإستطيقية

يستبعد كثير من الفلاسفة العقليين «الاتجاه التعديدي» الجامد الذي يقسم إلى «مقولات» عديدة على طريقة أرسطو وكانط، ويرون أن كل صور الفكر ما هي إلا تطبيقات منوعة لاتجاه أساسي واحد يهدف إلى السير بالمتباينات نحو الوحدة.

وهذا القانون الاقتصادي الذي هو مطمح الفكر الإنساني في المجال العلمي المختص بالوقائع وفي المجال الخلقي الخاص بالفعال هو نفسه القانون الرئيسي المختص بلعبة التراكيب البوليفونية التي هي روح الحياة الإستطيقية.

ويمكننا أن نطبِّق هذا القانون على درجات ثلاث مختلفة من ملكاتنا الثلاث الرئيسية: العقل – الفعالية – الوجدان. وهذه الدرجات نعني بها: درجة الانسجام المحقق، ودرجة الانسجام المطلوب، ودرجة الانسجام المنعدم. وهكذا تنتج عندنا تسع مقولات إستطيقية أو تسعة أشكال رئيسية للقانون الكبير الخاص بتنظيم القوى العقلية.٥

والعقل من وجهة عمله الإستطيقي هو قبل كل شيء إدراك للعلاقات الحسية، أما الفعالية فهي إيحاء من الإرادة الحرة أو من الجبرية، والوجدان هو انطباع مستحب لنماء الحيوية الشخصية أو الجماعية. ولسنا بحاجة إلى القول بأن نزعتنا التشبيهية الطبيعية تنقل ملكاتنا بطريقة رمزية إلى الكائنات الدنيا وإلى الأشياء غير الحية.

الانسجام المحقق: الجميل – الهائل – الطلي

يقال للمعبد الإغريقي إنه جميل، ولقصرٍ مصري إنه هائل، ولفيلَّا أقيمت للرفاهية إنها طلية gracieuse. وهذه المقولات الإستطيقية الثلاث تشترك في افتراضها تحقُّق الانسجام تحقُّقًا فعليًّا، وفي افتراض وجود التناسب السليم بين الأجزاء المختلفة في كل واحد، وتشترك أيضًا في افتراض وجود القدر المتزن.
الجميل الحق le beau هو الانسجام يحس به العقل ويقدره الذوق، وهو الذي يبلغ بدون مشقة أكبر قدر من المفعول بأقل قدر من الوسائل. وهذا النجاح المتحقق هو رضًا من نوع عقلي أكثر من كونه انفعالًا بالنسبة للحياة الوجدانية أو فعلًا بالنسبة للإرادة، ويقارنه فنكلمان «بالماء الصافي الذي يكون من النقاوة بقدرِ ما يكون مجردًا من الطعم.»
أما الهائل le grandiose فهو يفترض في تحقيق الانسجام نوعًا من الانتصار السهل على مادة عسرة التشكيل، يفترض شيئًا يشبه الإرادة المسيطرة المتحكمة في نفسها وفي الأشياء، ويشمل إحياء بالفاعلية إلى جانب حكم العقل. ومن هنا كان هذا الانسجام جليلًا مهيبًا حافلًا بل ضخمًا.
والطلي le gracieux، واللطيف le joli، والأنيق élégant، والرقيق mignon، والمتأنق le coquet توحي على العكس بتعاطف فيه حماية لكائنات ولأشياء صغيرة وضعيفة، أي يوحي بتضامن اجتماعي وعالمي قائم لمصلحتنا على أساس تنظيم سلمي يعرف تلقائيًّا كيف يجعلنا نقبله عندما يلاطف حياتنا الوجدانية، ومن هنا يأتينا بزيادة لطيفة في شعورنا بذاتنا: بالسحر.
وهذه هي الصورة الإستطيقية الأولى؛ الصورة المباشرة الممتلئة لقانون الانسجام العالمي.٦

الانسجام المطلوب: الرائع – التراجيكي – الدراماتيكي

إن حالة رجل وقع فريسة لدوار عقلي نتيجة مواجهته الطرفين اللانهائيين — كما يقول بسكال — هو مثال للرائع sublime. أما أوديب في صراعه ضد الجبرية الخارجية للقدَر وفي انصياعه للظلم، أو بروميتيه promethée في إصراره على الثورة الخالدة في صفاء ثابت؛ فهذا هو الفعل التراجيكي. وأما الموت المفاجئ المؤثر الذي باغت جولي Julie بطلة روسو أو فرجيني بطلة برناردان دسان بيير؛ فهذا هو الانطباع الدراماتيكي dramatique.٧

وأمثلة ذلك في العمارة: الكاتدرائية القوطية وتمثل الرائع. أما أطلال أثر قديم صارع القرون ففيه شيء من التراجيكي، وأما الدراماتيكي فيمثله بيت اضطرمت فيه النيران أو نسفته القنابل.

هذه المقولات الثلاثة الجديدة قد حددت وعُرِّفت حسب الانسجام أيضًا، ولكنه انسجام مطلوب مرغوب نود تحققه أي أنه لم يتحقق تمامًا. إنه انسجام لا يمكن أن يصنع أو يتحقق في عالمنا هذا؛ ولكنا نحسبه ممكنًا أو محتملًا في عالم عالٍ، إلا أننا لا نفهمه كل الفهم.

الرائع بالنسبة للعقل صراع بين أفكار مطلوب البت فيها، هو لغز مطلوب حله «من أعلى» بحل ينبغي أن يكون خارجًا عنا وعن الكائنات الممثلة، بل خارجًا عن الطبيعة ذاتها. إن الرائع باتصاله بما وراء الطبيعة وباللانهائي له مسحة من الدين أو الميتافيزيقا.

والتراجيكي إيحاء بصراع ضد مصيبة مقدرة، هو عراك يقوم به كائن يعتقد أنه حر ضد جبرية خارجية لا مفر منها ولا رادَّ لها. ورغم ذلك يرفرف عليها إيمان بانسجام لا يعرفه هذا العالم. فالملحمي والبطولي أنواع أخرى تدخل ضمن هذه المقولة المتسامية نفسها.

أما الدراماتيكي فهو لا يهدف إلا إلى إثارتنا انفعاليًّا ويود على الدوام أن يكون مؤثرًا. وجدير بالذكر أننا نجد — تمامًا كما يقول المتشائمون — أن المتناقضات المفاجئة والأحداث العنيفة المؤلمة هي أهم منابع لانفعالاتنا الشديدة، إن الدراما le drame تثير فينا إحساسات حيوِّيتنا الشخصية إزاءَ قلق أو انعطاف ضعيف، وتثير فينا كذلك التضامن الاجتماعي، عن طريق مشاهدة أفراد غير متكيِّفين يُقاسون من بيئة لم توجد لهم وليس لأيٍّ منهم قدرة على تعديلها.
التراجيكي هو الرائع بالنسبة للفعل كما أن الدراماتيكي هو الرائع بالنسبة للوجدانية. وإن الرائع هو التراجيكي بالنسبة للعقل؛ هذه هي الثلاث صور للانسجام المتحقق والانسجام المأمول تبعًا لسيطرة إحدى هذه الملكات الثلاث الرئيسية على غيرها.٨

الانسجام المنعدم: الناكت – الكوميكي – الفكاهي

وثمة مجموعة أخيرة من ثلاث قيم تختص بالانسجام؛ ولكنه في هذه المرة انسجام منعدم؛ حيث وحدة ظاهرية كاذبة نكتشف فيها تفككًا خفيًّا حقيقيًّا؛ إنه لغز نحله «من أسفل» بوسائلنا وطرقنا الخاصة.

هذا الميكانيزم إذا كان يمس العقل بصفة خاصة يكون روح المزح esprit de plaisanterie، وأحط درجة فيه هي التلاعب بالألفاظ calembour الذي يعني وجود معنيَين خفيَّين وراء لفظ واحد: ومن قبيل هذه الأمثلة٩: Une jambe de bois,ça sert d’os أو Un cèpe tua Jenner أو … la fiente de l’esprit كما قال هوجو: qui vole.
وقد استخدم هومير هذا التلاعب بالألفاظ على لسان أوليس Ulysse بخصوص كلمة Personne واستخدمه القديس متَّى في الإنجيل على لسان يسوع بخصوص كلمة Purre.
النكتة الحقيقية تلعب قليلًا بالكلمات أو بالصيغ؛ ولكنها تلعب بالأفكار الموحاة التي يزخر بها ميدان «البصيرة esprit de finesse»١٠ بالمعنى الإستطيقي الذي يمكننا أن نعطيه لعبارة بسكال هذه والتي تشير إلى المعنى المستنتج الناكت، ولا يمكن للتعبير الصريح إلا أن يؤدي إلى نتيجة خلاف ذلك. تقول إحدى شخصيات موليير لصيدلي يحمل حقنة شرجية: «إننا نرى أنك لم تألف الحديث إلى الوجوه.» ويقول فرويد عن النكتة إنها «تهرب من الكبت». أما ربليه الذي لم يكبت إلا القليل؛ فإنه يؤثِر اللفظ المباشر الفاضح أي يؤثِر التهريج على النكتة.١١
الكوميكي le comique هو فكاهي الفعل، كما أن النكتة هي كوميكي العقل. والكوميكي يفترض قبل كل شيء في الحركة المضحكة وجود مظاهر حرية متقلبة ولا عقلية نصححها بتهكم ضحكنا؛ نصححها لأننا نكتشف فيها حركة ذاتية خفية قد حلَّت محل هذه الحرية المدعاة في حين أننا كنا نعتقد أن هذه الحركة تتغير وتتعدل حسب إرادة الشخص الذي نسخر منه. وهذا هو المعنى الدقيق الكوميكي لانحلال الانسجام.
وهكذا فنحن نضحك من بخيل أو من شخص نافر يكره عِشرة الناس؛ لأننا نعتقد أن في استطاعتهما ألا يكونا كذلك. ولكن إذا أحسسنا خلال بعض الشواهد أن هناك جبرية مصدرها عاطفة عميقة أو آتية من الغريزة أو ناجمة عن مرض عقلي؛ فإن الانسجام لا يكون حينئذٍ مضطربًا مختلًّا في نفس الاتجاه السابق. وهنا نلاحظ أن الكوميديا تقترب من حدود الصراع conflit التراجيكي. وهذا بالضبط هو ما عناه موليير عندما كتب لإحدى مسرحياته الكوميدية عنوانًا ثانيًا يوحي بأنها ليست كذلك، فكتب «النافر Le Misanthrope» أو المكتئب العاشق L’Atrabilaire Amoureux.
وأخيرًا فحنينُنا للانسجام المنعدم واستهجاننا لكل من يحطُّ منه يمسُّ ويؤثِّر على الخصوص في حياتنا الوجدانية عن طريق إحساسات الفكاهي أو الهزأة وما تشمله من معانٍ فروقية عديدة مختلفة تبدأ من السخرية التعبيرية وتنتهي بالسخرية على الطريقة الجلوازية الرابلية مارة بالهراء والكلام القارص والكاريكاتور والنقائض parodies والأضحوكة والتهريج والمسخن le burlesque والغريب المضحك le grotesque.
والفكاهة l’humour تساهم أجلَّ مساهمة في الاستقطاب غير الثابت الذي هو قانون كل حياة وجدانية. فالفكاهة تتميز في الوقت نفسه بأنها عاطفية، وجدلية، حماسية وباردة، متهاونة ومازحة لئيمة، واقعية وخيالية، فظَّة ورقيقة، رسول العقل وشيطان التهور، فوضوية واجتماعية، أخلاقية وخارجة عن المجال الأخلاقي بل ولا أخلاقية، متفائلة ومتشائمة، ميتافيزيقية ومازحة … ومهما كانت هذه الصفات من التنافر في الميادين الأخرى التي تظهر فيها؛ فإنها كلها في هذا الميدان تنصاغ خاضعة للفكاهة، إذا عالجناها في تأليفة تناسقية أدبية أو تشكيلية مع تناشزات قد حلت «من أسفل». ومن أمثلة ذلك: بانورج Panurge ودون كيخوته Don Quijote وجليفر Gulliver وترتران Tartarin والمسيو برجريه والقس كوانيار M. Bergeret et l’abbé Coignard
أما الهزأة le ridicule فهو أكثر دقة من سابقه: إنه شعور بالعلو الشخصي إزاء لاانسجام منفِّر.١٢ فهو يفترض اعتزازًا بالنفس من ناحية واحتقارًا عدائيًّا وانتقامًا لقيمتها التي يدَّعي أنها أنكرت، من ناحية ثانية. ولهذا فإننا نضحك من العاجز المشوَّه، حتى لو كان يقاسي، عندما يحاول إخفاء عاهته أو يحاول ألا يعترف أمامنا بأنه أحطُّ منا. ولكننا لا نضحك من ذلك الذي يقاسي علنًا ويعترف بمركزه فلا يترك لخُبثنا شيئًا يكشف عنه.

والهزأة في ميدان العواطف الاجتماعية هو الجزاء الذي تنزله على فرد أو بيئة واطيَين طبقة اجتماعية ضاقت بتعديات هذا الفرد أو البيئة. ونمط الهزأة الجمعي هو ما بطلت وقدمت موضته. هذا والجزاء الذي نتحدث عنه لا يمكن أن نجد له سببًا عقليًّا يسنده ويؤيده؛ فالملبس الذي بطلت موضته هو في الواقع الملبس الذي كنا منذ شهور أو سنوات مضت نلبسه وننظر إليه كدليل على الذوق. ولكننا نستطيع تفسير ذلك أحسن التفسير إذا أرجعنا الهجوم على ما بطلت موضته إلى المجال الذي يسود التصرف فيه قدرٌ من العاطفة والانفعال أكثر من التفكير والحرية؛ تصرف تأثر ضد ذلك المتعنت الذي يرفض أن يظهر دلائل خضوعه للتضامن الاجتماعي المتمثل في الموضة الجديدة.

والفكاهي هو هزأة الوجدان كما أن النكتة هي كوميكي العقل، في حين أن الكوميكي هو فكاهي الفعالية. فتلك إذَن ثلاث طرق تهدف إلى تفكيك فكرةٍ ما تفكيكًا فيه لذة. فتارة نضع الأهمية على الخسارة المؤسفة التي مُنيت بها الوحدة وتارة نضعها على الازدياد السعيد في تعدد الأفكار الجديدة المستشعرة. والفكاهي يجعلنا قبل كل شيء راضين مبسوطين من إثرائنا، وتجعلنا الهزأة مبسوطين من افتقار الآخرين، أما الكوميكي فيجعلنا راضين مبسوطين من السخرية المنصبة على شخص يأتي عليه الفقر في الوقت الذي يظن فيه نفسه أنه ثري، والنكتة تجعلنا نُحس نفس الشيء نتيجة خصوبة لاشخصية للفكر.١٣
وقد أدت بعض التطبيقات إلى التنبؤ إلى حد ما بما يمكن أن ينتهي إليه تحليل المقولات التسعة الإستطيقية والمقارنة بينها؛ فبالرغم من أنها تتصف بالتجريد التخطيطي الذي يتجاهل كثيرًا من التفاصيل الفروقية الهامة؛ فإن هذه العبارات تجعلنا على الخصوص نفهم كيف أن مجرد تغيير محور ميكانيزم واحد يكفي «لتغيير قيمة» بعض القيم الإستطيقية البالغة التأرجح تغييرًا أساسيًّا. فاللغز ذاته يكون رائعًا عندما لا يكون له حل من «أعلى»، ويكون دراماتيكيًّا إذا ساده الوجدان، ويصبح مازحًا plaisant إذا حل من أسفل، وهزأة إذا لم يؤثر إلا على حياتنا الوجدانية. وكل النقائض «الأعمال الفنية التي وُضعت للسخرية من الأعمال الفنية العظيمة» تقوم على فكرة انعدام ثبات القيم.١٤

(١-٤) القبح

ليس القبح في الفن غياب الانسجام فحسب؛ ولكنه أيضًا الاتجاه السلبي أو العدائي حيال الانسجام، إن القبح لاانسجام يمتد إلى حيث كنا ننتظر الانسجام إلى حيث «كان ينبغي» أن يكون الانسجام. والقبيح ليس فقط ما كان بغير بوليفونية؛ ولكنه أيضًا ما كان يفترض فيه وجود بوليفونية «فاشلة». فالفرق كبير بين سطر من النثر وبين بيت شِعر كأنه النثر، بين قطعة من الأثاث جميلة الذوق ولكن قليلة الثمن، وبين قطعة أثاث ثمينة ولكنها مهلهلة وتفتقر إلى الذوق الجميل، بين صورة فوتوغرافية لا تشبه الشخص وبين رسمة رسِمَت بطريقة رديئة، بين ملبس لا موضة له يرجع إلى قرنين من الزمان وبين ملبس بطلت موضته منذ سنتين …

وبنفس الطريقة نقول إنه لكي تكون الطبيعة قبيحة ينبغي أن تبدو وقد أخطأت هدفًا، وأن نكون نحن قد ظنناها — ظنًّا قليل أو كثير الشعورية — قد فشلت في تطبيق تكنيكٍ كائن في الطبيعة ذاتها، وإلا لكانت الطبيعة خارجة عن الميدان الإستطيقي. والقبح في الطبيعة هو مبدئيًّا ما كان مسخة وليس هناك «مسخات جميلة» خارج ميدان الفن إلا في اعتبار أولئك الذين يتخيلون تكنيكًا للمسخ، يتخيلونه لمجرد المعارضة والمناقضة، وليهيئوا لأنفسهم ترف الحكم على هذه المسخ بالنجاح أو بالفشل.

القبح هو رفض مجابهة مشاكل الانسجام غير القابلة للحل، أو هو حل المشاكل الأخرى، أو هو الحياة في هذا الانسجام عندما يكون كل صراع قد حُسم؛ ذلك أنه يوجد قبح للمتحقق وقبح للمطلوب وقبح للمنعدم، وهذه الأنواع هي على التوالي عكس الجميل ثم عكس الرائع ثم عكس الناكت. وكل هذه الأنواع ليست فقط خارجة على الميدان الإستطيقي، إذَن لهانَ الأمر ولكان ذلك من حقها؛ ولكنها لاإستطيقية أي أنها خطيئة كبرى ضد «دين الجمال».

١  انظر: Ch. Lalo: les Sens Esthétiques. Revue philosophique, mai, juin 1908.
٢  المستقبليون les Futuristes فئة من الفنانين الحديثين يهدفون إلى أن يقدِّموا في اللوحة الواحدة وفي نفس الوقت الانطباعات الماضية والحاضرة التي تعبر عن الحركة ومراحلها. (المترجم)
٣  وهذه بعض تفاصيل هذا النقد الشهير. لكي نعرف أي نوع من اللذة إستطيقي، يمكننا أولًا أن نضع أنفسنا عند وجهة نظر أو عند «لحظة» تقدير الكيف عارفين أن «الرضا الذي يحدد الحكم الذوقي ليس بذي فائدة على الإطلاق» بمعنى أن الاستمتاع الإستطيقي لا يهتم بحقيقة أو طبيعة موضوعه، على عكس الاستساغة الحسية والرضا الخلقي اللذين يتطلبان في ذاتهما تملك الموضوع وتحقيقه على التتالي. إن المصور يعجب بثمرةٍ ما أو بصورتها؛ ولكنه كفنان لا يحس أي رغبة في أكلها أو في بيعها، أما إذا قدَّرنا مدى القيم الإستطيقية من وجهة النظر الثانية: الكم «فإن الجميل يكون ما يعجب عمومًا وبدون مدرك عقلي»؛ فنحن لا نعرف شيئًا عامًّا universel إلا بواسطة مدركات عقلية concepts أو أفكار مجردة كلية. أما الجمال فهو وحده الملموس أي المحسوس في نفس الوقت الذي هو فيه عام، ويلاحَظ أن في قولنا إنه مشترك بين الناس أننا نعني أنه يجب على الأقل أن يكون معترفًا به من كل الناس. وأن الاستثناءات التي تلاحَظ في الواقع لا تمنع ما نرى أنه واجب أن يكون بالنسبة للحكم الإستطيقي وبالنسبة للحكم الأخلاقي أيضًا. إن طعم ثمرة من الثمار يلذ أو لا يلذ وهذا شيء ذاتي غير قابل للمناقشة. أما نحن فنناقش في قيمة طبيعة صامتة ينبغي أن يتفق عليها كل أهل الذوق، ومن وجهة النظر الثالثة؛ العلاقة: يتحدث كانط عن العلاقة بين الوسيلة والغاية وهو الموضوع الأساسي لملكة الحكم في نظر مذهبه الفلسفي «الحكم الذوقي ليس له من أساس سوى صورة الغائية التي تكون لشيء من الأشياء (أو لما يمثل هذا الشيء).» «والجمال هو صورة من غائية شيءٍ ما من حيث هو محسوس في هذا الشيء دون تمثيل لغاية.» وبعبارة أخرى ينبغي علينا أن نشتبه في وجود غاية دون أن يكون في مقدورنا تحديدها، علينا أن نعتقد أن هناك غاية وليس علينا أن نعرف على وجه الدقة ما هي. مثال ذلك عالم الأحياء عندما يتمثل الوظيفة الحقة للثمرة ودورها في حفظ النوع أو البستاني عندما يتمثل قيمتها في السوق؛ إذ هما في هذه الحالة لا يفكران في قيمتها الإستطيقية؛ فإنه حتى يتمكن الفنان من الإعجاب الإستطيقي بشيء فعليه أن يتجاهل هذه الغايات ولا يستبقي فقط سوى الإحساس غير المحدد بغائية في الطبيعة. وهذه هي الصورة النقية للغائية المجردة عن المضمون المحسوس. وختامًا فإن كل حكم يمكن أن يكون له ثلاثة أنواع من الأشكال؛ فهو إما أن يقرر فقط وبكل بساطة واقعة من وقائع الخبرة أو التجربة، وإما أن يبين ضرورة علمية، وإما أن يفترض إمكانية منطقية. وميزة الحكم الإستطيقي هو أنه يقيم «ضرورة ذاتية ممثلة تمثيلًا موضوعيًّا على أساس افتراض معنى مشترك» «فالجميل هو ما اعترف الناس — دون مدرك عقلي — بأنه موضوع رضاء ضروري» وبعبارة أخرى — من ناحية الشكل — يصبح الجميل نوعًا من «الالزام الإستطيقي l’imperatif esthétique شبيه إلى حد كبير بالإلزام الخلقي في أنه سابق على الخبرة a priori (ولكنه ليس إلزامًا قطعيًّا أو مطلقًا مثله) في الحكم على ثمرة من الثمار بأنها جميلة» ليس ثمة ضرورة منطقية أو تجريدية تبعث عليه كما هو الحال مع قضية رياضية أو فيزيقية. إنما هناك ضرورة شخصية وأمر من شعورنا الإستطيقي نحس أننا خالفناهما إذا أصدرنا حكمًا مخالفًا.
هذه هي الأربعة الشروط الصورية التي ينبغي على كل فرد أن يخضع لها إخضاعًا سابقًا على الخبرة كل لعبة حرة تقوم بها حساسيته لتتفق مع فهمه في حكم ذوقي أيًّا كان «المضمون» أو المادة الحسية التي تقدمها التجربة سواء كان موضوعًا طبيعيًّا أو عملًا فنيًّا؛ رمزًا للتوافقات الأخلاقية وفوق الحسية.
٤  هذه العبارات الأربع الشهيرة تبدو تقريبًا على صورة عبارات تناقضية لا حل لها في المعرفة السوية؛ ولكنها قد تكون ذات حل في اللامعروف. ووظيفتها الحقيقية هي أن تكون أربعة تخطيطات عقلية مجردة سابقة على الخبرة خاصة «بنقد العقل المحض»؛ ولكنها ليست قوانين ضرورية للتفكير بل قواعد عملية هدفها بناء مدركات عقلية إستطيقية أو بناء دلائل أو علامات لتطبيقها على اختلافات وتنوعات الخبرة في الفنون وفي الطبيعة.
٥  جدول المقولات التسعة الإستطيقية: بخلاف التراكيب المعقدة الخارجة عن المجال الإستطيقي والتعميمات والاقتباسات الاستعارية في الفنون والأنواع الفنية مثل تصويري pittoresque، تشكيلي plastique، عماري monumental، شِعري poétique، مسرحي théatral، روائي romanesque، غنائي lyrique، مؤثر pathétiqe، كهنوتي hieratique، صوفي mystique، لطيف joli، خلاب charmant، هزئي ridicule، كاريكاتوري caricatural، مازح plaisant، أصيل de caractére … إلخ.
انسجام محقق مطلوب منعدم
عقلي جميل beau رائع Sublime ناكت spirituel
فعالي هائل grandiose تراجيكي tragique كوميكي comique
وجداني طَلي gracieux دراماتيكي dramatique فكاهي humouristique
٦  كلمة جميل بالمعنى الواسع تعني أي قيمة إستطيقية. أما بالمعنى الضيق الذي نحصرها فيه هنا؛ فهي تعني قيمة خاصة وسط القيم الأخرى.
هذا الفهم للجميل على أنه أقصى وحدة منسجمة مع أقصى تعدد قد أحس به منذ العصور القديمة أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وأكده القديس أوغسطين ثم عاد إليه الديكارتيون وليبنتس وكروزاس والأب أندريه، حتى أصبح في عصرنا الحاضر فكرة عادية. وهذا الفهم يحاول بصفة عامة أن يفسر المقولات الإستطيقية التي نحاول نحن تمييزها هنا بوجهة نظر واحدة وبدون الإشارة إلى الفروق التي لا مفر منها؛ لذلك يمكننا أن نُنحي باللائمة على بعض هذه العبارات؛ لبعدها عن الوقائع ولقبولها تطبيقات تعسفية. من هذا القبيل التعريف الذي قال به ديديرو Diderot في الموسوعة l’Encyclopédie «الجمال لفظي نسبي يدل على القدرة على إثارة علاقات مستساغة في نفوسنا، وقلت مستساغة لأطابق المعنى العام الشائع للفظة الجمال؛ ولكني أعتقد من الناحية الفلسفية أن كل ما يمكنه أن يثير فينا إدراك العلاقات فهو جميل.» وهذه عبارة تمتاز بأنها توحي بأن العلاقات غير المستساغة الرذلة القبيحة في الطبيعة يمكن أن تصبح جميلة في الفن؛ ولكننا نضيف فقط إلى عبارة ديديرو «… بشرط أن تكون العلاقات بوليفونية بما فيه الكفاية.»
ويرى شللر وفولكلت في الطلاوة: «تعبيرًا عن نفس جميلة في الظاهر.» أما سبنسر وفيرون وغيرهما؛ فيجعلون منها اقتصادًا للقوى وسهولة بلا جهد، قريبة من الحرية «برجسون» وتابعة لاستمرار للحركة يسمح بالتنبؤ بسهولة بالمراحل التالية بناء على المرحلة السابقة لها؛ مثال ذلك: إيقاعٌ ما أو خط منحنٍ، والملاحظ أن الفهم الأول واسع بإفراط بينما الثاني ضيق بإفراط، وهما ليسا إلا أشكالًا غير صريحة للوحدة في التعدد تنسى أثر سيادة الحساسية والضعف اللذين يضفيان صفة الأنوثة على كل طلاوة حتى غير الحية منها. «والطلاوة كما يقول باير كأقصوصة متفائلة تحكي القوة وتخلد لحظة الجهد الأقل.»
٧  كانت الصفات: دراماتيكي وتراجيكي وكوميكي مقصورة على الفن المسرحي بدون مبرر، ولكننا هنا لا نأخذها على هذا المعنى الضيق. انظر: Ch. Lalo, Le Terrible, le paisible, le Risible: Revue d’ Esthétique, 1948.
٨  يبدو أن أرسطو ينسب إلى التراجيكي وإلى بعض الأنواع الموسيقية مَهمة «تطهير الانفعالات» عن طريق الرعب والشفقة. ونظريته في إشارتها إلى الإحساسية الانفعالية أكثر من الفعالية الحرة تنطبق على الدراما أكثر من انطباقها على التراجيديا الكبرى، وكانط يرى في الرائع le sublime انتقامًا لحريتنا من اللانهائي في الكبر أو في القوة الذي يوشك أن يحطمنا لو لم تكن حريتنا ذاتها لانهائية على طريقتها. وهكذا نرى أن كانط قد خلط التراجيكي بالرائع بتدخل الاستقلال الذاتي الخلقي في الميدان، وقد دفع بعض المعاصرين بهذا التحليل إلى أبعد من هذا؛ فأنكروا على الاثنين — التراجيكي والرائع — كل قيمة إستطيقية، ويفسر هِجل التراجيكي بأنه تصادُم بين قوتين تحتكم كل منهما على حق تحقيق جوهرها؛ ولكنها لا تبلغ إلى هذا التحقيق سبيلًا إلا إذا انتهكت حق الأخرى الجدير بالاحترام. فالبطل التراجيكي «مساق رغم أخلاقيته — أو لنقل بسببها — إلى ارتكاب الآثام» وهذا يبرر آلامه؛ يبررها على أنها تكفير لما ارتكب. غير أن هذا «الإثم التراجيكي» ليس شيئًا لا مفر منه، وتشهد على ذلك الإرادة الراسخة للواجب عند أبطال كورني Corneille وبعض مشكلات الضمير عند إبسن Ibsen وبراءة «التراجيكي اليومي» الذي قال به مترلنك Maeterlinck وتنتصر عند شوبنهاور الإرادة اللاعقلية للحياة والشفقة والزهد والتشاؤم؛ فالعالم تراجيديا متقنة الصنع أكثر من اللازم، والتراجيديا عالم واقعي أكثر من اللازم.
٩  لا فائدة من ترجمة هذه الأمثلة، والفكرة فيها أنها لدى سماعها ممكن أن تعطي معنيَين مختلفَين تمامًا ومثال ذلك باللغة العربية: «قرعت الباب حتى كلَّ متني فلما كلَّ متني كلمتني». (المترجم)
١٠  انظر كتاب «بسكال» لنجيب بلدي ص١٨١: الفرق بين العقل الرياضي والبصيرة. (المترجم)
١١  وهكذا علينا أن نفهم أن أحسن «نكتة فرنسية» أو «باريسية» هي التي تدع مجالًا للتفكير العميق تحت صور ماجنة في الظاهر. وقد قال شامفور Chamfort عند بدء الثورة «إنهم في فرنسا يتركون أولئك الذين يشعلون النار ويضطهدون الذين يدقون أجراس الإنذار.» وتشتمل هذه العبارة المجازية البديعة على جانب هام من علم الاجتماع ومن التاريخ الحديث. إنها معجزة تكاثر الأفكار، ويمكن أن نلاحظ أن اللغة الفرنسية من اللغات التي توشك أن تودَّ الخلط بين الفكر وبين المزاح في كلمة esprit (التي تعني العقل والنكتة) وهذه إحدى صفات الشخصية القومية وهي كذلك حقيقة كلية. النكتة توحي بمعنى العقل أكثر من الوجدان أو الفعالية (جان بول، برجسون).
انظر: Ch. Lalo, l’Esthétique du Rire. Flammarion.
١٢  كلمة هزأة ridicule تُستعمل أحيانًا لذم عملٍ فني أو فكرة قبيحة أو فاشلة. وعلى العكس فنحن نمدح نصًّا تهكميًّا أو رسمًا كاريكاتوريًّا إذا بلغ القمة في تصوير هزئيات شخصية أو موقف أو فكرة. وفي حديثنا هنا عن الهزأة نقصد المعنى الثاني.
١٣  أغلب نظريات الضحك تشتمل على هذه المعاني الفروقية الثلاثة جميعًا، وتتفق كلها في القول بوجود مقابلة contraste دائمًا، أو كما قد قلنا في دقة أكثر: «انسجام (انسجام بوليفوني) مفقود.» وينبغي علينا أن نضع في جانب المذاهب الواسعة التي تجتهد في تفسير كل حالات الضحك دفعة واحدة بما في ذلك الانفعالات المرحة التي لا يُعرف لها داعٍ عند الأطفال والدغدغة وهي أشياء خارجة عن المجال الإستطيقي ومن قبيل هذا الانتقائية éclectisme التي قال بها دوجا Dugas وسوللي Sully وهما يقرِّبان الضحك من اللعب ومن «الارتخاء بعد بذل الجهد» ويريان أن الضحك أو الابتسام ليسا في ذاتهما إلا فعلًا منعكسًا عاديًّا لا يكون إستطيقيًّا إلا في بعض الأحوال فقط. كذلك فإن كل لعب ليس مفروضًا فيه على الدوام أن يكون مضحكًا أو جميلًا، أما شوبنهاور فقد اقتصر على التطبيقات الإستطيقية للضحك واكتشف فيه تعارضًا منطقيًّا بين فكرة وموضوعها. ولكن بقي أن نحدد نوعيًّا أي التعارضات المنطقية تكون مضحكة، يتفق أغلب أصحاب النظريات على القول بأنه يوجد فيها، نحت صور مختلفة «مقابلة هابطة contraste descendant» حسب قول سبنسر. ويرى هوبز وبودلير فيها «إحساسًا مفاجئًا بالنصر» أوحاه علوُّنا الحالي على شخص آخر أو على حالتنا نحن السابقة، وفي نظر كانط: إنه «الانهيار الكامل لتوقع شديد.» ويجد ليبس في الفكاهة إما «تمثيلًا صغيرًا» وإما «تمثيلًا يصغر». ويرجعه فرويد إلى «وفورات الحياة الوجدانية» أو اللاشعور الجنسي المكبوت والذي يظهر ظهورًا اقتصاديًّا في الشعور. هذا الانتقال من الأعلى إلى الأسفل يأخذ طبعًا في نظرية برجسون صورة التعارض، التي تعتبر كلاسيكية في أيامنا هذه؛ أي الانتقال من الحياة العميقة للحرية وللحدس إلى أوتوماتيكية العادة الفردية والاتفاقات الاجتماعية. هذا التحليل الممتاز ينتهي إلى قانونَين عظيمَين للضحك: «الصفة الميكانيكية إذا ألصقت بحي» و«التهكم الاجتماعي»، وأخيرًا أشار فابر fabre وشابيرو chapiro وسولنييه Saulnier حديثًا بتأكيد على التذبذبات بين قلقنا المضطرب وبين اطمئناننا.
هذه النظريات في العادة ناجحة ولكنها تفسر إما حالات كثيرة جدًّا وإما حالات قليلة جدًّا. أليست المقابلات contrastes توصف أحيانًا بأنها «هابطة»؛ لأننا نضحك منها، لا أننا ضحكنا منها بسبب أنها كانت أولًا في حالة انحدار وهبوط؟ أليس إلصاق صفة الحياة على ما هو ميكانيكي يسبب ضحكنا، كما أن عكس ذلك يسبب الضحك أيضًا؟ ثم المجتمع هل يتطلب منا الحياة أي التلقائية la spontaneité والتحرُّك على غير تصميم سابق أم يتطلب منا التكيُّف مع البيئة والنظام الوسط التقليدي ونصف الميكانيكي الذي يتضح في العرف والعادات الموروثة؟ وإذا كان هناك ضحكات فرح واطمئنان، أليس هناك ضحكات المرح الفياض والاندهاش؟
١٤  نرى أن بعض هذه المقولات التسعة تشتمل على معطيات غير مستساغة، ولكن المزج بينها يؤدي إلى استحسان سائد: مثال ذلك دراما سوداء تنتهي نهاية سعيدة؛ إذَن يمكن القول بأن الإستطيقا الحسية التي ترى أن كل لذة جمال وكل ألم قبح Pilo إستطيقا جِد ساذجة. أما فخنر فقد وضح تفاصيل «المبدأ العام للسعادة» عنده. فمن ناحية نرى، بحسب مبادئ العتبة الإستطيقية والإضافة والطباق والوضوح والترابط … إلخ أن تكامل حشد من اللذات البالغة الصغر لا يكاد يحس بها إذا كانت منفردة يسمح بتجاوز عتبة الشعور الإستطيقي إذا كانت مجتمعة. ولنأخذ على ذلك مثلًا إيقاع شعر بلغة مجهولة، يكون بعيدًا عن أن نحسه الإحساس الكافي ولكن إذا ربطنا الإيقاع بالمعنى أصبح مستساغًا مستحبًّا «ويمكن أن نقول إن هذا الكونترابنتو ذا الصوتَين يكون العمل الفني». ومن ناحية أخرى يمكن للذاتٍ ثانوية أن تؤدي إلى الإحساس بأنواع من الألم، ولكل إثارة شديدة حتى ولو كانت مؤلمة أن تُحدث اهتياجًا مستساغًا وأن الوضوح الكبير العالي لتصور الألم يمكنه أن يكون نوعًا من اللذة. انظر: Ch. Lalo, Esthétique experimentalt. p. 17–31.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤