الفصل الثاني

التنظيم الجمعي للفن

(١) الشروط الخارجة عن الميدان الإستطيقي للحياة الإستطيقية

تفرض الحياة الجمعية على الفكر الإستطيقي عددًا من الشروط الخارجة عن المجال الإستطيقي والتي تحدث في الفن تأليفًا ساميًا.١
أول هذه الشروط الشروط المادية، وهي وإن كانت ذات أثر كبير في كل الفنون إلا أنها تظهر بوضوح أكثر في فن العمارة. وحتى نرى إلى أي حدٍّ يكون أثرها واضحًا في العمارة يكفي أن نذكر الأسطح المنبسطة التي تميِّز مباني جنوب فرنسا والأسطح المائلة والمدافئ التي لا يخلو منها مبنًى من مباني الشمال، ثم استعمال الخشب أو الطوب أو الرخام أو الجرانيت، الذي يتحكَّم فيه نوع الأرض التي يُقام فيها البناء، ويدخل في هذه المواد أيضًا الإنتاج الصناعي للحديد والزجاج والأسمنت المسلح، وهي مواد لها من القدرة ما يمكِّنها من تغيير أساليبنا المعمارية القديمة؛ فبفضلها سيصبح النموذج المفضَّل لعمود معدني شديد المقاومة والمرونة في الوقت نفسه، هو عصبة مغزلية من العروق المنوِّرة بدلًا من العمود الإغريقي المأخوذ أصلًا عن جذع الشجر أو العمود القوطي المقام؛ ليناسب مباشرة قواعد من الطوب.٢
والمادة تخضع على الدوام للتغير بفعل الحرف المختلفة، وهذا التغير يمثل شروطًا جديدة خارجة عن الميدان الإستطيقي وتتصف بالجمعية؛ بل وتتصف أكثر من هذا بأنها في المعتاد تكون منظمة. ويرى كارل بيشر Karl Bücher أن كل الإيقاعات، الفنية وعلى وجه الخصوص الأوزان المختلفة لكل أنواع الشِّعر، قد توَّلدت من النظام الطبيعي لبعض الأشغال أو الأعمال ذات الإيقاعات، وهذه الأشغال أو الأعمال غالبًا ما تكون جمعية، وتتمثل على سبيل المثال في الأغاني والرقصات الشعبية الترددية التي يؤديها القائمون بالحصاد أو المشتغلون بالجذب بالحبال أو بالتجديف. وليس من شك في أن الأساليب المختلفة في فنوننا الزخرفية مدينة — إلى حدٍّ كبير — إلى التشبيكات الهندسية لأعمال الخيزران البدائية الغنية بتقاليدها وبوصفاتها المصنعية.

كما أننا لو نظرنا من وجهة نظر أعلى مما سبق إلى الأمر؛ لألفينا أن تنظيم الاتحادات الحرفية ثم إلغاءها يفسِّر بعض الشيء تطور الأساليب الزخرفية ثم اختفاءها بعد اندلاع نار الثورة الفرنسية بقليل، تلك الثورة التي ما كادت تقوم حتى ألغت منظمات الحِرف وألغت معها تقاليدها الفنية وحاجتها للذوق الخلَّاق.

ومن جهة أخرى فأثر الطبقات الاجتماعية والحياة السياسية أثر معروف. فالمجتمع يتطلب وينتج فنًّا يختلف باختلاف كونه مجتمعًا استعباديًّا أو ملكيًّا أو أرستقراطيًّا أو بورجوازيًّا أو ديمقراطيًّا، ويتوقع بردون والاشتراكيون انقلابًا في كل الفنون إذا خمد «الصراع بين الطبقات»، وأن هذا يؤدي إلى اختفاء أو تحور موضوعات غرامية كثيرة مبنية على تقاليد الطبقات الحالية، ويؤدي إلى اختفاء الفن الخصوصي أو الأناني ثم إلى تنظيم «ترفٍ عام» ضخم هو الفن الشعبي الحق، هو «الفن للجميع»، الفن الذي ينفذ في حياة المهن ليُسهِّل مهماتها ومسئولياتها وليجعلها محببة إلى نفوس العمال القائمين بها — حسب ما كان يتمنى رسكن. ويمكن أن نضع في الجهة المقابلة لأُمنية رسكن «نظام تايلور» الأمريكي الذي يصنِّع حتى الفن نفسه — على عكس رسكن — ويصفف كل شيء في العمل في طبقات ويضعه في مجموعات مسلسلة يختص كل عامل في جانب خاص منها لا يخرج عنه، مما يؤدي إلى فقدانه الشغف والاهتمام.

والنظم الدينية تؤثر أقوى الأثر على النظم الفنية ويكون هذا التأثير مباشرًا في الحضارات البدائية؛ حيث نرى كل ما هو اجتماعي ديني نتيجة لانعدام فكرة تقسيم العمل الاجتماعي. ويكون هذا التأثير غير مباشر فيما يلي ذلك؛ فالأثر الديني غير مباشر عندما يستبقي أشياء من التقوى ومن ذلك اﻟ Xoana العتيقة المتناقلة، حتى فترة التدهور الإغريقي، ثم الأساليب الرومانية الحديثة والقوطية الحديثة في القرن التاسع عشر. وفي إمكان أمرٍ ما من أمور الحياة الدينية أن يقلب فنونًا بأكملها؛ مثال ذلك تحريم الصور خوفًا من الطواطم أو من الوثنية كما هو الحال عند اليهود والمسلمين وعند محطمِي الصور iconoclastes، ومن قبيل هذا أيضًا الإقلال من الزخارف وحتى من العناصر الدينية في الفنون التشكيلية والإكثار من غنائية التوراة ومن الترددية الجماعية لدى البروتستانت.
ويقدم التنظيم العائلي إلى الفن نماذج مختلفة من الحياة العاطفية، ويقدم إليه كذلك جماهير وفنانين تربَّوا تربية مختلفة بعضهم عن البعض الآخر؛ نتيجة كون العائلة خاضعة لنظام الزواج بأكثر من واحدة أو الزواج بواحدة، وحسبما إذا كان الأبناء يظلون تحت الوصاية فترة طويلة أو قصيرة وتحت نظام كثير أو قليل الاستبداد، ثم حسبما إذا كانت النساء يختلطن بالرجال أو ينزوين في الحريم أو في الجناح الخصوصي المنعزل. وقد لاحظ رود Rod السويسري أن الأدب الفرنسي الحديث «أدب عُزَّاب» ولا شك أن هذه الحقيقة تفسِّر بعض صفاته التي يدهش لها الأجانب، بل قد يجدون فيها ما ينفرهم، وتصدُق هذه الملاحظة أكثر ما تصدُق على أدب قرننا هذا الذي يتميَّز بالتطرف وبظهور كثير من الإباحات الفاضحة في ميدان اللذة.

والأسرة — قبل كل شيء — هي النظام الاجتماعي للغريزة الجنسية؛ لهذا كان الترف الخاص بهذا النظام الجنسي وحده يترتب غالبًا من الصورة الخيالية للفن نظرًا لأسباب اجتماعية، وفي نفس الوقت لأسباب نفسية جسيمة «سيكوفسيولوجية» في حين نلاحظ أن التنظيمات الاجتماعية الأخرى لها صور من الترف أو اللعب أكثر مادية وأكثر خروجًا عن الميدان الإستطيقي، ونقصد بها الرياضات وألعاب المهارة والمعارضات السياسية والبدع الدينية.

ومن هنا كان اهتمام الفن بالحب خارج العائلة واهتمامه بالخطبات المرفوضة وبالعلاقات الممنوعة وبالانحرافات المختلفة، وتكون مهمة الفن في هذه الحالة هي جعل ترف حياة وجدانية لا يحتملها التنظيم العائلي في أشكال أخري متمشية مع الحياة الاجتماعية، ويكون ذلك في شكل صور. وهذا نوع من «تطهير الانفعالات» كما يقول أرسطو أو من «التسامي بالغرائز الفاسقة التي كبتتها الرقابة الاجتماعية» كما يقول فرويد.

وأخيرًا تؤثر الاتجاهات العقلية التي تسير حسب حركات التعليم العام والخاص، على الثقافة الإستطيقية لأمة من الأمم. فالأدب الحالي أو أدب الأجيال المقبلة يتأثر عاجلًا أو آجلًا بمشاحنات الجدال التربوي الذي يتجدد باستمرار بين الداعين للقديم وأنصار الحديث وبين أنصار اللاتينية والداعين للإغريقية وأنصار اللغات الأجنبية والفنون الترفيهية والرياضية.

(١-١) الاستقلال الذاتي النسبي للفن، النظام الاجتماعي للترف

ولكن الفن يكوِّن من كل هذه المواد الخارجة عن الموضوع الإستطيقي تركيبًا إستطيقيًّا أي تركيبًا يتميَّز بصفات نوعية خاصة وبقيَم لا تعرفها هذه المواد عندما تكون منعزلة بعضها عن بعض. إذَن فمن الحق أن نقول إن لهذا التركيب نوعًا من الاستقلال الذاتي.

والثقافة الإستطيقية لها أولًا أثر خاص على النظم الخارجة على الميدان الإستطيقي؛ مثل الأثر الذي يمكن أن يكون لكل ترف أو لعب على الجانب الضروري الجاد من الحياة، هذا الأثر في الحقيقة أقل من النشاط المقابل له ولكنه لا يقل عنه واقعية. فقد تغيَّرت الوثنية القديمة — وكانت نصف طوطمية — أكبر التغيُّر بفعل الشعراء والنحاتين، وأملَى النفوذ الفني للإغريق أكثر من موقف على الرومان الغالبين. ومن ذلك موقف نيرون الذي أعلن بحركة تمثيلية أن إقليم «أكايي» حرٌّ في نطاق الإمبراطورية. وأسهمت الروائع الفنية في إيطاليا في تهذيب العادات والطباع الفرنسية في القرن السادس عشر نتيجة اتصال الجيوش الفرنسية بثمار النهضة الإيطالية التي بدأت في إيطاليا قبل فرنسا.

هذه الأمثلة التي سقناها تدل على أن أثر الفن — الذي أشرنا إليه — لا يؤدي بالضرورة إلى الميوعة والفساد كما قد حلا للبعض أن يقولوا خالطين الترف والراحة بالفن وناظرين فقط إلى الغالبين المنحطين الذين لم يستطيعوا أن يسلكوا المراحل التي كان من الضروري أن يسلكوها حتى يتكيَّفوا وحضارة المغلوبين وقد بدأ التدهور يخيِّم عليها؛ مثال ذلك ما حدث للرومان في الإسكندرية أو مع الترك في بيزنطة.

إن الاستقلال الذاتي النسبي للفن يتيح له أن يدخل في علاقات مختلفة مع الحياة الجمعية كما قد فعل من قبل مع الحياة الفردية حسب ما ذكرنا من قبل. فالفن في نظر الجمهور وفي نظر الفرد على السواء يمكن أن يكون ممارسة لموهبة خاصة دون أن يكون له من هدف سوى ذاته هو، ويمكن أن يكون في نظرهم جميعًا انطلاقًا بعيدًا عن العادات المحيطة، ويمكن أن يكون سموًّا بهذه العادات إلى المثالية، ويمكن أيضًا أن يكون مطهرًا لها ولكن الفن — برغم الأحكام التقليدية السائرة — بعيد أكثر البعد عن أن يكون على الدوام تكرارًا لهذه العادات الراهنة!

صحيح أن الأدب المثالي العديم الطعم المطهر بإسراف كما تعرفه «حلقات الحب» في العصور الوسطى هو أدب الأجيال الغليظة وهو الأدب الذي يناسبها أوقع المناسبة. ولكننا نرى أيضًا أنه في الوقت الذي كانت فيه الأزمات السياسية والعسكرية تحيط بفرنسا من كل جانب أيام الثورة الفرنسية كان الفن يُنتج الرعويات الشعرية والموسيقية والتشكيلية. بينما لم تظهر الرومانسية المضطربة إلا وسط السلام الطويل البورجوازي الذي عرفته فرنسا في عهد إعادة الحكم الملكي وعصر لويس فيليب، بل إن عصر الجمهورية الثالثة في فرنسا الذي كان بالنسبة لكل النظم أكثر العهود بُعدًا عن الدين، إذا قارناه بأي عصر آخر من عصور تاريخ الفن في فرنسا لوجدناه أكثرها تميزًا بالأدب الكاثوليكي المحدث المهاجم وبظهور أول «صالونات دينية» و«مراسم الفن المقدس»، وبانتشار فكرة العودة إلى الدين في البيئات الفنية. ثم بالرغم من أن هذا العصر كان عصرًا ديمقراطيًّا متملِّقًا للشعب؛ فإنه أتاح فرص النجاح لكثير من الأعمال الفنية الغامضة الدقيقة التي أنتجها الرمزيون والتدهوريون والديبوسيون والتكعيبيون والمستقبليون والتعبيريون والسرياليون، وكلهم من مذاهب عكس الفن الشعبي!

وهكذا نرى إلى أي حد يتعرض مؤرخ الفن للخطأ حينما يريد أن يكوِّن من الأعمال الفنية صورة لما كانت عليه عادات شعب غير معروف. تكاد هذه الأعمال الفنية في أغلب الأحوال تصور عكس هذه العادات والنظم بدلًا من أن تكون صورة صادقة لها!

وإذا قلنا إن الفن في الحياة الاجتماعية والحياة الفردية نظام؛ فينبغي ألا ننسى أنه نظام للترف أو للخرافة وأن وظيفته هي أن يلعب في حرية حول الحياة الجادة ويجعلنا نستمتع بهذه الحرية. وليس من شك في أن الأخلاقية الضيقة ستتبرم من ذلك وستجد فيه انتهاكًا لها؛ ولكن ثمة أخلاقية سامية ستعطي اللعب نصيبه الحق في حياة منسجمة ولا تنازعه هذا النصيب نزاع الحقد والغيرة.٣

والترف إذا اتخذ شكل الراحة المسرفة أو شكل التظاهر المثير المحنق؛ فلن يعدو أن يكون أنانية لاأخلاقية وغير اجتماعية في كثير من الأحيان. أما إذا عرف الترف أن يتحلى بحسن الذوق فهو لا شك مساهم في تربية الأفراد الذين يجعلهم يشتركون في نفس الإعجاب، ويسهم أيضًا في جعلهم متضامنين متعاونين؛ فيؤدي بذلك خدمة اجتماعية لا سبيل إلى إنكارها حتى في الوقت الذي يعتقد فيه أنه أناني محض. وإن الرجل الذي يجمع اللوحات الفنية في السر يودُّ مع ذلك أن تكون مجموعته مشهورة وأن تكون شهرتها حديث الناس، وليس من شك في أن الشهرة شيء اجتماعي.

(٢) النظم الإستطيقية في الحياة الاجتماعية

ليست كل المؤثرات الجماعية التي تمارس نشاطها في الحياة الإستطيقية بمؤثرات خارجة عن الميدان الإستطيقي وآتية من الخارج إلى الفن. فهناك نظم إستطيقية حقيقية تمتاز بصفة أكثر نوعية ومنظمة تنظيمًا اجتماعيًّا ولا تأتي للفن إلا من الفن نفسه.

(٢-١) الضمير الإستطيقي وأحكامه

فهناك أولًا ضمير إستطيقي يمكن مقارنته بالضمير الخلقي؛ فكلاهما يصدر أحكامًا ويطبقها باسم سلطة عليا، وإلا لما تجاوزنا في تصرفاتنا مستوى ما هو مقبول فرديًّا.

وقد رُمز لهذا العلو بأسطورة شبه دينية لربة شِعر أو لإله أو لشيطان، وهي كائنات تفوق الطبيعة. وهذه الأسطورة — مثلها مثل الأساطير الدينية البحتة — تعبِّر إما عن ضغط الضمير الاجتماعي الحالي الذي يحس أكثر الأفراد تمتُّعًا بالشخصية بأنه يتجاوزه من كافة النواحي في المكان والزمان، أو يعبِّر عن فرض شخصي يختص بمثَلٍ أعلى لتقدم مستقبل لا يمكن أن يتحقق «أعني لا يمكن أن يحقق لنفسه قيمة» إلا بواسطة جمهور كامن أو جمهور سوف يأتي؛ ولكنه على أي حال له صورة جمهورٍ ما.

وهناك «أمانة فنية» حساسة للضمائر الرقيقة، والموضوع في الحقيقة موضوع شرف وكرامة فنية إذا كنا بحيال مراعاة قواعد اللعب مراعاة أمينة لا غشَّ فيها، ونعني بذلك القيام بتطبيق أكثر قوانين التكنيك سرية بدون خداع أو تمويه حتى ولو كان الخطأ أو التمويه في العمل دقيقًا؛ بحيث يمكن أن يمر دون أن يلحظه أحد. إنها مشكلة ضمير تصادف في العصور التجارية أناسًا لا يحكمون باسم الأخلاق أكثر مما تصادف من ذوي الضمائر المتمسكين.

أما الأحكام الإستطيقية الجمعية فنعني بها النجاح والمجد والخلود من ناحية أو الفشل والنسيان والهزأة من الناحية المقابلة. وهذه الأحكام تؤثر حتى على الخالق البالغ الفردية الذي يظن أو يودُّ أن ينتج أعمالًا فنية لنفسه فقط — تؤثر هذه الأحكام عليه بطريقةٍ ما، شعورية أو لا شعورية. فإن توقع هذه الأحكام وتمثلها في الذهن هو أقوى دافع يدفع الفنان الذي يستحق هذا الاسم بالرغم من أن هذه الأحكام كثيرًا ما تكون وهمية. ثم إن المبدأ الذي تقوم عليه أحكام المتذوق أو الناقد هو ذوق جمهور موجود فعلًا أو جمهور ممكن الوجود في الماضي أو المستقبل في أرض الوطن أو في مكان خارجه.

هذا وينبغي الحذر من الخلط بين هذا الحكم الإستطيقي البحت، وبين ما قد ينتج عنه من نتائج اقتصادية؛ ذلك أنهما أمران لا تناسب بينهما البتة. فالنجاح الحالي لا يأتي على الدوام بالربح، وكذلك الخلود بطبيعة الحال!

والحكم متشعب الانتشار؛ فهو ينتظم في البيئات الأكاديمية في صورة الجوائز والانتخابات، والحق أنه بالرغم من أن الأكاديميات تظل متمسكة ومتأثرة للنزعة التقليدية التي تظل فعالة بعد جيلها مما أدى إلى اتخاذ كلمة الأكاديمية academisme للمعنى السيئ المعروف، إلا أن بعض الأكاديميات ما زالت تحتفظ بنفوذ كبير في هذا الميدان، نفوذ بعضه فني وبعضه متأثر بالطبقة الاجتماعية الراقية. وقد ظل زولا ومدرسته يتقدمون إلى الأكاديمية مدى ربع قرن دون نجاح، وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن عليهم أن يفعلوا ذلك بينما لم يجد إدمون دجنكور سبيلًا إلى مناهضة الأكاديمية إلا إنشاء أكاديمية أخرى.

(٢-٢) الجماهير

تتحكم في الأحكام الإستطيقية التجمعات المختلفة للجمهور، فمن هذا تجمع مادي كثيف جدًّا يتمثل في الجمهرة la foule، ويتميَّز بأن أفراده لا تكون لهم إحساسات مشتركة إلا بطريقة المصادفة العابرة. ومن هذه التجمعات تجمع أكثر تنظيمًا يتمثل في الجمهور le public الحقيقي، وتكون أفراده متجمعة كجمهور المسرح مثلًا، وقد تكون متفرقة متباعدة كما هو الحال في جمهور الجريدة أو الإذاعة أو كجمهور فنان خاص، فلفولتير جمهوره: الفولتيريون les voltairiens، وهناك الاستنداليون les stendhaliens، والجليكيون glückiens والفجنريون wagnériens، والديبوسيون debussystes المتعصبون. وهناك عالم العارفين الذي يكوِّن صفوة فنية ليست هي — إلا فيما ندر — الصفوة الأرستقراطية الأشرافية أو السياسية أو العسكرية أو الدينية دون الحاجة إلى الإشارة إلى أرستقراطية محدثِي الثراء الذين يصبحون بين عشية وضحاها حُماة الفن. إن الأرستقراطية ليست إلا نظرية خيالية لعشاق الجمال التدهوريين.
ويتضمن كل تجمع «سيكولوجية جماعية» لا تختلط بالسيكولوجية الفردية لكل واحد من أعضاء هذا التجمع إلا اختلاطًا جزئيًّا. وقد أوضح تارد ولو بون Tarde & le Bon كيف أن التضامن الذي يأخذ مكانه في التجمع يقوي العواطف المشتركة بين الكل ويمحو الميول الشخصية المتنافرة الشخصية بأن يسلط بعضها على البعض الآخر، ومن هنا جاءت صفة العادية الضرورية إلى «الأنواع الفنية المشتركة» التي يمارس جمهورها — المجتمع — ويتأثر بالإيحاء الشديد الضغط كما في حالة الخطابة وحالة المسرح. إنه الأثر العادي لسيكولوجية القادة والمنقادين، الرواد والمقلدين الذي نراه في القطيع البشري، بل إنه حتى عندما يكون الجمهور متفرق الأفراد يجهل أعضاؤه الواحد منهم زميله نرى أن الفكرة العامة التي يتقاسمها الألوف إزاء نفس العواطف في نفس اللحظة، تحور وتكيف وتنظم فكرتنا الشخصية؛ هذه هي الآثار الدنيا ولكن التي لا شك في صحتها ومفعولها التي لصحيفة الأخبار وحتى للإعلان، هذه الأشياء التي غزت الفن نفسه بمهارة وخفاء ودعته إلى أن يصبح صناعيًّا كما قد أصبح كل شيء.

(٢-٣) التكنيك، جوهر الفن

ينبغي أولًا ألا نخلط بين التكنيك technique وبين الحرفة metier.

أما الحرفة فهي الجانب المادي من الفن، إنها الممارسة التقليدية العادية التي يتعلمها المبتدئون وصبيان الفنانين، هي ميكانيكية لا بدَّ منها ولكنها ليست كل شيء، وينبغي تجاوزها إلى ما بعدها لأنها جامدة وغير صالحة للعمل في كل الحالات الخاصة. إنها قائد أعمى يرفع التافهين فوق مستواهم ويهبط بالممتازين تحت قدرهم.

وأما التكنيك فإنه الحرفة الحية المتكيفة المتطورة تطورًا مستمرًّا، إنه الوعي الكامل بكل نسبيات أي قيمة فنية بما في ذلك النسبيات البالغة الدقة والتي تعجز الحرفة عن تعليمها لأنها تتغير بتغير الموقف وبتغير الشخصية الفنية؛ ولكن الإحساسية الذكية قادرة على الدوام على تكشفه، وفي قدرة العلم أن يفسره وأنه سيكون في قدرة العلم يومًا أن يفسره. إنه المعنى وقد سما فوق اللفظ.

وأقصى انتصار تحققه الحرفة هو المهارة الأدائية التي هي في الحق بهلوانية ميكانيكية ليست من الذكاء أو الإحساس في شيء. أما المثل الأعلى للتكنيك فهو الفهم الأسمى الذي يتضمن الوجدان والحرية؛ فالماهر في الأداء الفني هو شخص استطاع أن يظل طول حياته تلميذًا مجدًّا واستحق بذلك أن يصبح أستاذًا ممتازًا وخطرًا في نفس الوقت. أما الفنان فبعد أن يتعدى فترة التعلم الابتدائي، يظل مدى حياته معلم نفسه ولا تكون له على الدوام قدرة على التدريس الجيد، فاللاشعور صديق عظيم ولكنه أيضًا أستاذ رديء. إذَن ينبغي — كما يقول رومان رولان R. Roland — أن نأخذ عظماء الرجال أمثلة تُتَّبع لا نماذج تُنقل ينبغي أن نفعل قدر ما فعلوا لا مثلما فعلوا.
وحِرفة الشاعر تقتصر على جعله يُعِد المقاطع التي عُرف أنها متساوية وعلى وزن قيمة القافية. أما تكنيكه فيوحي إليه بما لا تستطيعه الحرفة؛ يوحي إليه بالتماثل أو بالتعارض الطفيف بين جرسات كل مقطع لفظي، يوحي إليه بتكييف الأجزاء وبتسلسلات الإيقاع حسب شكل الفكر المنطقي وحسب قفزات العاطفة، ويوحي إليه بالتجاوب الرقيق بين رنين الأصوات وبين الصور المقترحة؛ إنه يوحي إليه بما يحاول جرامون Grammont وأصحاب الفونيتيكا التجريبية la phonétique expérimentale المعاصرة أن يجعلوا منها علمًا، وأن يكون كل ذلك متفقًا مع التطور الجمعي لصناعة الشعر الحالية.٤

إن التكنيك هو الحرفة وقد اتخذت معنى أكثر علمية ومعنى آخر أكثر عمقًا في الحدس؛ فإذا فُهم التكنيك على هذا النحو فقط أمكننا أن نقول إن التكنيك جوهر الفن. التكنيك ليس الروتين الفني، بل هو الفكر الإستطيقي، ليس الفعل المنعكس بل هو الحرية. ففي العمل الفني الذي هو بمثابة الكائن الحي تكون الحرفة المكتسبة فيه هي الجسد والمثل الأعلى الخيالي هو الروح، أما التكنيك فهو الفن بجسده وروحه.

ويتخذ التكنيك صورًا أكثر خصوصية تبدأ أولًا بالأسلوب بالمعنى الشديد التشابك الذي نتكلم فيه عن الأسلوب الروماني أو القوطي، الشعري أو النثري، بل عن أسلوب الكمان وأسلوب البيانو. وحسب ما سبق ينبغي ألا نقول مع بوفون Buffon «بالمعنى الواسع للكلمة»: «إن الأسلوب هو الإنسان بعينه.» ذلك أنه — برغم بسكال — إذا توقعنا مقابلة مؤلف ثم وجدنا إنسانًا لكان معنى هذا توقف الفن والوقوع في اللبس. ولو أن بسكال كان من عشاق الجمال البحت لكان قال: «ولكن ذلك يكون على مستوى آخر.»٥ والأسلوب الكبير ينقسم إلى مدارس؛ فثمة قانون للمركزة أو البلورة يجمع الفنانين والجماهير حول أستاذ كبير أو حول مدينة من المدن أو منطقة من المناطق؛ فنجد مثلًا المدرسة الفلاندرية أو مدرسة باريس أو مدرسة رفائيل، وهناك على نطاق أضيق «المنتدى» le cénacle الرومنسي و«الصومعة» la chapelle وفريق هذه المجلة أو تلك أو حتى «دار» أو «عملاء» هذا الناشر أو ذاك أو هذا المدير المسرحي أو تاجر اللوحات أو منتج الأفلام في عصرنا هذا التجاري.
والأنواع الأدبية أو الفنية هي تركيبات من مقتضيات مختلفة بعضها إستطيقي وبعضها غير ذي موضوع إستطيقيا. وتتمايز الأنواع الفنية العامية والأنواع السامية مثل الكوميديا والتراجيديا بحسب الطبقات الاجتماعية لشخصيات هذه الروايات أكثر من تمايزها بحسب الاختلافات التكنيكية الحقة؛ فعاداتنا الديمقراطية هي التي تجعلنا نستغرب الملاحم البطولية والتراجيديات الأشرافية. أما الأنواع الفنية الدينية والتعليمية والرسائلية؛ فإنها أنواع مختلطة فيما بينها. ويرى برونتيير Brunetière أن هناك تطورًا في الأنواع الفنية، وهذا يعني أن النوع الفني يمثل حقيقة جمعية ليست عمل أي فردٍ منفرد مهما كان هذا الفرد من العبقرية، وأن هذه التكوينات غير الشخصية تتحول وتتحور أثناء تتابع الأجيال مارة بمراحل مترابطة تخضع لقوانين الانتخاب Lois de sélection. فقد حدث على سبيل المثال أن انتقلت الموضوعات والوظائف الإستطيقية التي كانت للبلاغة الخطابية الوعظية الكنائسية في القرن السابع عشر إلى الشعر الغنائي في القرن التاسع عشر. إن تطور الأنواع الفنية حقيقة واقعة ولكنها ليست حقيقة فنية بحتة، وسنرى فيما بعد أن هناك تطورًا أكثر إستطيقية يحدث في تكنيك كل فن.
وعند أوطَى درجة منه نجد الموضة، وهي تمثل أكثر النظم الإستطيقية اختلاطًا وأبعدها عن الثبات؛ ذلك أنها على الخصوص أداة واضحة للتمييز بين الطبقات الاجتماعية، وتبين ذلك — مثلًا — القوانين التقشفية les lois somptuaires التي عرفتها العصور القديمة، وتبينها كذلك السرعة المتزايدة في تغيراتها، تلك السرعة التي تتأثر بكون المراتب الاجتماعية أقرب إلى التساوي وأبعد عن التمايز كما هو الحادث في أيامنا هذه. وفي هذا «التنظيم الواسع للترف» الذي هو الفن نرى أن الموضة هي «تنظيم الإسراف»؛ ولكنها لا تكون «لانظامًا» بالنسبة له رغم ما يظهر من تغيراتها ونزواتها؛ ذلك أن هناك ما يحكمها، هناك «قانون الموضة»، بل إن ميدان الموضة ميدان تنجح فيه قوانين المحاكاة التي قال بها تارد Tarde؛ فالموضة تنتقل عن طريق المحاكاة من أعلى إلى أسفل، ومن الداخل إلى الخارج، ومن الأكثر شخصية إلى الأكثر تفاهة.
وينبغي ألا نحتقر الموضة في الفن كل الاحتقار لأنها لا تلبث إلا فترة قصيرة؛ فالأسلوب الزُّخرفي لا يبقى في المعتاد أكثر من جيل، مثال ذلك أسلوب لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر، كما أن أجمل المدارس الكلاسيكية إغريقية كانت أو لاتينية أو فرنسية لم تعِش لأكثر من جيليَن. حقيقة قد يبقى منها شيء بعد انتهاء مدتها، وهذا أمر آخر. إن الحطة الحقيقية للموضة مردُّها إلى الكثرة المفرطة في عدد المؤثرات الخارجة عن الميدان الإستطيقي، وأهم هذه المؤثراتِ المؤثراتُ الاقتصادية التي تُضيع من الموضة صفتها الإستطيقية؛ فالحاجة إلى أن نغير بأي ثمن عادة أو شيئًا يكون قد انتشر وشمل العامة توحي إلى الاختصاصيين إفراطًا في أشكال القبح الحقيقية يتقبَّلها النفَّاجون snobs في سرور ما دامت في نظرهم كبيرة التكاليف مرضية لغرورهم سائرة حسبما يشتهون.
١  انظر: Ch. Lolo, l’Art et la vie sociale.
٢  وهذه هي أهم مدعِّمات وجود هذا الشكل من العمود المغزلي الحديث والذي ينبِئ بمستقبل عظيم. أولًا: عمود أو «صُلبة» تتكون غالبًا من عمودين على شكل T توصِّلهما مجموعة من القضبان القواطع؛ ويمكن الحصول على أقصى درجة من الصلابة والمقاومة بإبعاد القطعتَين الرئيسيتَين نحو الوسط حسب بعض النِّسب الخاصة، وبتقريبهما من كلا الطرفَين اللذين يتحركان مفصليًّا على ركبة رقيقة من الصلب نصل إلى تسهيل التحرُّكات التمددية الناتجة عن الحرارة وإلى تركيز خطوط الضغط تركيزًا مفيدًا. وهكذا يمكن لهذه المواد الجديدة التي يفرضها سير الحضارة أن توحي بأشكال جديدة سوف تصبح بدورها أشكالًا «معبرة» كالأشكال القديمة رغم نفور الجمهور منها لأول وهلة (وتظهر هذه الأشكال في القاعات وفي عقود وأعمدة الكباري المعدنية … إلخ).
٣  انظر: Ch. Lalo, l’Art et la Morale, p. 162–179.
٤  الحرفة التي يتعلمها عازف الكمان عبارة عن اللعب حسب الفترات النظرية التي قال بها علماء الطبيعة أو حسب المزاج الميكانيكي للبيانو المصاحب للعازف. وهذه الحرفة هي ما يحكم عليه المستمع الحسن الذوق بأنه «صحيح» ولكنه «بارد»، وهو في الواقع خطأ ولا شك. إن التكنيك الحقيقي للكمان عبارة عن توفيق كل فترة من الفترات على الوظائف الهارمونية أو اللحنية الحقيقية، ومثال ذلك تأدية الفترات الثمانية أو الخماسية تأدية أكبر إذا كانت لحنية عنها إذا كانت هارمونية، أو تقوية جذبات النغمات الحساسة وتذبذبات الأصوات المتنافرة في الاتجاه الذي يتمنى فيه النظام النغمي الحالي هذه الطريقة برغم أن النظرية المجردة تجهلها وتهدرها نظرًا لجهلها إياها. وهذه الألوف من الدقائق الفروقية هي التي تسمَّى «بالتعبير» تسمية فيها كثير من المرامي الصوفية وما هذه الطفائف بكل بساطة إلا الصحة المتقنة الحقة، وإن «جمال التعبير» لا يعدو أن يكون التكيُّف المجسم مع كل النسبيات جميعًا في دفعة واحدة. والمؤلفون العباقرة هم أولئك الذين لهم من الحدس والذكاء والجرأة ما يمكنهم من فرض جمال التعبير هذا الذي يفوت العلوم الإحاطة بتعقيده البالغ في الواقع لا من حيث المبدأ.
٥  الصياغة الأسلوبية للغة أو لشيء طبيعي هي تثنيتها حسب احتياجات ومقتضيات بوليفونية متصوَّرة من قبل، بوليفونية اتفاقية، ويكون ذلك بواسطة إضافات وحذوفات وتحويرات وتشويهات قد تصل إلى تغيير معالم الأصل. كذلك في ميدان الفن الشكيلي عند التطوير يقتضي الأمر رغبة في الزخرفة إلى حذف «أصوات» الامتداد المنظور والظلال حذفًا مشروعًا. وقد فعل البدائيون ذلك تقريبًا عن جهل، وفعله الشرقيون سيرًا وراء الذوق، ويفعله التكعيبيون اتباعًا لنظام مرسوم. أما الانطباعيون فما كانوا يلتفتون إلا إلى مشكلتَي الضوء والجو متجاهلين «صوتَين» عفت عليهما الموضة وهما: صلابة الأشكال والتأليف، كذلك المدارس المعاصرة بعد سيزان Cézanne تُسقِط غالبًا من حسابها وعن قصد دقة الرسم مستخدِمة نفس الحق الذي يستخدمه النحت والحفر بلون واحد عندما يتجاهلان الألوان، بل قد حاول بعض الملوِّنين الحديثين أن يلغوا من حسابهم كل موضوع أو شكل محدد دون أن يقبلوا — مع ذلك — الهبوط بفنهم إلى مستوى الزخرفة البحتة. إنهم يُنشئون سينوكرومية من مقام الأخضر synochromie en vert، مثل أولئك الذين ينشئون سيمفونية من مقام «ري» Symphonie en ré.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤