الْغِرَارَةُ الْمَغْرُورَةُ

كَانَتْ غِرَارَةٌ١ مُنْبَسِطَةٌ عِنْدَ مَدْخَلِ الدَّارِ لِيَمْسَحَ فِيهَا الْخَدَمُ أَرْجُلَهُمْ كُلَّمَا دَخَلُوا، وَذَاتَ يَوْمٍ خَطَرَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا لِشَأْنٍ آخَرَ قَدْ تَصْلُحُ لَهُ، وَرَأَى أَنْ يَخْتَزِنَ فِيهَا كَنْزَهُ فَمَلَأَهَا نُقُودًا؛ وَبِطَبِيعَةِ الْحَالِ كَانَ يَخْشَى عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الضَّيَاعِ، فَوَضَعَهَا فِي أَحْرَزِ مَكَانٍ مِنَ الدَّارِ، وَتَعَهَّدَهَا بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَعْبَثَ بِهَا يَدُ خَادِمٍ خَائِنٍ، أَوْ لِصٍّ غَدَّارٍ، فَأَغْلَقَ عَلَيْهَا النَّوَافِذَ وَالْأَبْوَابَ، وَلَمْ يَسْمَحْ لِأَحَدٍ بِالِاقْتِرَابِ مِنْهَا إِلَّا بِكُلِّ خُشُوعٍ وَوَقَارٍ، حَتَّى أَكْرَمُ الزُّوَّارِ لَمْ يَجْرُؤْ عَلَى مَسِّهَا.

فَلَهِجَتِ الْبَلْدَةُ بِالْحَدِيثِ عَنْهَا وَعَنْ مُحْتَوَيَاتِهَا الثَّمِينَةِ، فَدَاخَلَهَا الْعُجْبُ وَالْغُرُورُ وَالِاعْتِدَادُ بِالنَّفْسِ، وَأَدَّى بِهَا ذَلِكَ إِلَى إِبْدَاءِ آرَائِهَا، وَإِصْدَارِ أَحْكَامِهَا عَلَى مَنْ حَوْلَهَا، كَأَنْ تَقُولَ عن فلانٍ: إِنَّهُ مَاهِرٌ بَارِعٌ، وَإِنَّ فُلَانَةَ غِرَّةٌ بَلْهَاءُ، وَهَذَا الْعَالِمُ الشَّهِير حمارٌ جاهلٌ لَا يَعْرِفُ كُوعَهُ مِنْ بُوعِهِ، وَذَاكَ الَّذِي تَظُنُّونَهُ ثَرِيًّا كَبِيرًا لَيْسَ إِلَّا رَجُلًا فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ شَرْوَى نَقِيرٍ.

وَبِحُكْمِ مَا كَانَ فِي الْغِرَارَةِ مِنَ الْمَالِ الْوَفِيرِ كَانَتْ تُطَأْطِئُ رُءُوسُ السَّامِعِينَ مُؤَمِّنَةً عَلَى مَا تَقُولُهُ مِنْ سَفَاسِفِ الْأَقْوَالِ، وَتُبْدِيهِ مِنْ سَخَائِفِ الْآرَاءِ.

وَأَخِيرًا لَمَّا فَرَغَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ الْخَدَّاعِ، طَرَحَهَا صَاحِبُ الدَّارِ حَيْثُمَا كَانَتْ لِتَنْظِيفِ الْأَحْذِيَةِ وَمَسْحِ الْبَلَاطِ.

١  الغرارة: هي الزَّكيبة وكلتاهما من فصيح اللغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤