الفصل السادس

في غرام هيان فونك

وجلست «مندان» في حجرتها يومًا من الأيام تتذكَّر أيام عِزِّها، وأوقات أُنسها، وقد ضجرت من ذلك المحبس والسجن الأبدي، فبكت بكاءً مرًّا، ولسان حالها يقول:

زاد البلاء من الزَّمانِ وقد أَلَمّ
بفؤادِ مَنْ لا يشتكي منه ألمْ
يا دهرُ كم ألقى وكم أشقى وكمْ
أُسقى كئوس القهر مُترعة وكمْ

ثم بكت، وارتفع نحيبها حتى غُشي عليها، وانطرحت على الأرض لا تعي على شيء، وكان ابن الملك في تلك السَّاعة أمام الباب ينتظر الإذن ليدخل على «مندان» وكُنَّا أسلفنا أنه قد تولع بحب «مندان» من أوَّل يومٍ رآها فيه، ولكنه لِمَا جُبِلَ عليه من الإنسانية، وشرف النفس كتم عنها ذلك لما يعلم ما هي عليه من الصيانة، وقد قنع منها بنظرةٍ أو سماع كلمة، وصار يتردَّد عليها في بعض الأحيان، وينجز كل أوامرها، وما يلزم لها من الخصوصيات.

إلى أن كان ذلك اليوم، وقد تغلَّب عليه سلطان الغرام، وعظم لديه الوجد والهيام، ونفد منه الصبر، واشتد لديه الأمر.

فبكى مُندهشًا مما حصل في ذلك الهيكل الحيوي من الاضطراب، ولسان حاله يقول:

دع مُهجتي تزداد في خفقانها
ليس الشكاية في الهوى من شانها
وانظر فإن حشاشتي كصحيفة
لا شكَّ أن الدمع من عنوانها

ثم تجلَّد ونهض قائمًا، وركب جواده وتوجَّه قاصدًا طريق القبة لعلَّه ينظر مليكة فؤاده؛ إذ ليس له أمل في غير تلك النظرة.

ولما وصل إلى القبة، ودخل إلى جهة غرفة «مندان» مستأذنًا — كما قدمنا — سمع ذاك الأنين والنحيب — كما سلف — فخفق فؤاده، وظنَّ أنه قد أصابها ما أصابه من الوجد والهيام فخفق وطيء أقدامه، وصغى إلى ما تتلفَّظ به من الكلمات، وإذا بها تذكر عظمة الإله الأعظم جلَّ وتعالت أسماؤه، وتقول: إلهي عظمت قدرتك، واشتدَّ بطشك، إلهي خلصني من يد من يعبدون غيرك ويأكلون خيرك، يا أعظم من كل عظيم، قد طال — وعزتك — أمد هذا العناء، وعظم البلاء، واشتد الكرب، وعِيلَ الصبر. اللهم خلصني و… خرَّت مغشيًّا عليها — كما تقدم.

وكان «ألفونك» سامعًا ما تلفَّظت به من ذكر الله — سبحانه وتعالى — وقد اقشعرَّ جسمه، وحنَّ قلبه، واشتاق إلى معرفة هذا الإله الذي سمع اسمه من أحلى ثغر وأحبِّ نغمة طرقت مسامعه، فارتعشت أعضاؤه، وقد سمع سقوطها على الأرض فطاش لبه، وفتح الباب، وهجم على غير انتباه، وهو غائب الرشد، وقد حملها بين ذراعيه، وطرحها على سريرها، وهو باكي العين حزين القلب، وقد اجتهد في تنبيهها حتى أفاقت، وفتحت عينيها، فوجدت ابن الملك فوق رأسها، فاندهشت لحضوره في مثل هذا الوقت، ولما رأى منها الحيرة، قال لها: كوني مُطمئنة يا مولاتي، ولا تزعجي أفكارك، فإني ما أتيتُ إلا على سبيل الزيارة، فوجدتك على هذه الحالة. والآن أُقدِّم رجائي بين يديك، وأتوسَّلُ بهذا الإله الذي تذكرينه بهذه الصورة، وهذا التوجع الخارج من صميم الفؤاد أن تخبريني ما سبب بكائك، واصدقيني حقيقة خبر حالك؛ لأني أرى لك شأنًا وأيَّ شأنٍ، واعلمي أني أعاهدك عهدًا مقرونًا بالذمة والشرف على أن أكون لك مُساعدًا ومُعينًا ما دُمتُ حيًّا، وأعضدك بكل ما في وسعي، ولو كان في هذا ضياع نفسي.

ولما سمعت «مندان» هذا الكلام الصادر عن قلبٍ خالٍ من الغشِّ والرياء مجبول على الإخلاص، وحسن الطوية قالت: يا سيدي إني أعتقد صدق ما تقول، ولكن لا أقدر على إخبارك بكل ما عندي.

فقال: يا مندان! … ثم سكت برهةً يُفكِّرُ، وكان جل فكره أن يدخل في دينها، ويعبد الإله الذي تعبده.

ثم رفع رأسه، وقال: إني سمعتك تذكرين إله السماء، فهل تكونين لي مرشدةً إلى طريق عبادته حتى أكون لك عبدًا ما دمت في قيد الحياة؟

ولما سمعت «مندان» منه ذلك تهلَّلت أَسِرَّتُها وأبرق جبينها بأشعة الفرح، والتفتت إليه قائلةً: هل تريد أن تدخل في الدين القويم، وهو دين إبراهيم الخليل؟! واعلم أن كل ما عبدتموه من هذه المعبودات باطلٌ لا أصلَ له؛ لأنها كلها صنعة الخالق، ولا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فمثل هذا الكبش مثلًا، فإنه لا يقدر على شيء ولا يدرأ عن نفسه شيئًا، ويُذبح ويُؤكل مثل غيره من الحيوانات كذلك، فكيف يجوز لنا أن نعبدهم؟! ولنا رب هو خالق السماوات — سبحانه — إذ جعل فيهم نجومًا زاهرات، وسيَّر الشمس والقمر والأفلاك بقدرته، ونظَّم الكون، ومدَّ البحار، ودبَّر المخلوقات، وحكمته ظاهرة في شخص الإنسان أيضًا، فكيف يَصِحُّ لنا، بعد معرفته، أن نعبد غيره، وهو خالقنا ورازقنا وواقينا من كل سوء؟!

فلمَّا سمع منها هذا الكلام قال لها: قد سلبت لي بما أوضحت لي، وقد تولع قلبي بمحبة هذا الإله العظيم؛ فأرجو إرشادي إلى الطريق الذي يوصلني إلى عبادته.

وحينئذٍ علَّمَتْه «مندان» شروط الإيمان، فآمن بالله الملك الديَّان — سبحانه وتعالى — وعلمته ما يجب عليه من العمل، فتلقَّى ذلك منها بكلِّ انشراح، وفرح بدخوله في ذلك الدِّين، ثم استأذن وانصرف بعد أن ودعها، وهو يكاد أن يطير من الفرح، وصار يُفكِّرُ بما يفعل حتى يجعل له حزبًا من أهل دينه الجديد.

أما «مندان» التي سقمت من ذلك السجن الذي طال مُكثها فيه فقد فرحت، واستبشرت بدخول ابن الملك في دينها، وأحيت هذه المصادفة الغير مُنتظرة منها ميِّت الأمل، وأيقنت بخلاصها. ثم مكثت تنتظر الفرص.

أما «ألفونك» فإنه كان دائمًا يتذكَّر بديع جمال «مندان»، ويتلذَّذُ برقيق تلك الألفاظ التي مرَّت على مسامعه؛ فكانت مُعينةً له على تثبيت حلاوة الإيمان في صدره، وكثُر اعتزالُهُ النَّاس وتردُّده على المعبد الذي فيه «مندان»، وكان عند الملك وزيرٌ عاقلٌ مارس الأخطار، ودرس الأخبار يُسمَّى الوزير «فرنان»، وهو الذي كان عليه المدار الأعظم في تهذيب «ألفونك»، وكان يُحبُّه محبةً شديدةً، ودائمًا يُراقب أعماله وحركاته إلى أن كان في هذه الأيام ارتاب في أمره، وتعجَّب من حبه للاعتزال وطول تفكُّره، فعزم على مُفاتحته بهذا الخصوص، وقد دخل عليه يومًا، وهو في غرفته الخصوصية، وبعد أن أدَّى فروض التحية قال له: يا ولدي، إني أرى فيك سيم آثار الحيرة والتفكُّرِ؛ فأخبرني ماذا طرأ عليك حتى صِرتَ في هذه الحالة لعلِّي — يا سيدي — أن أقدر على مساعدتك وانتشالك من وهدة الأكدار إذا قدرت.

فرفع «ألفونك» طرفه إليه، وقال — وقد توسَّم في وجهه علائم الصدق مع الحنوِّ الزَّائد — نعم يا والدي، عندي فكرٌ قد أتعبني وأقلقني جدًّا، ولا أقدر أن أُخبرك بشيءٍ إلا بعد أن تُقسم لي أنك تساعدني مع المحافظة على سرِّي، وإن لم تقدر على مُساعدتي فلا تُبِحْ بسرِّي لأحد.

قال: عليَّ ذلك.

ثمَّ أقسم بالأقسام الوثيقة، وأكَّدَ له بأن لو سمع عنه كلمةً واحدةً فدمه له مباح، فلا يُطالبه به أحد، وكتب له بذلك صَكًّا وناوله إيَّاه، وعند ذلك اطمأنَّ «ألفونك»، وصار يشرح له كل ما دار بينه وبين «مندان»، وكيف أنها كانت السبب في إدخاله في دين الله القويم، وأراه أنَّ هذا الدين قريبٌ من العقل، والإنسان لو تأمَّل بما أبدع الباري من عجائب هذه المخلوقات، وما في الكون من الغرائب التي لو تفكَّر فيها المرءُ لطاشَ عقله، وتحيَّر في صنع الله — سبحانه وتعالى — ولعلم أنَّ الحيوانات التي يعبدونها لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا، فكيف تنفع الإنسان الذي هو أقوى منها بطشًا وهي المُسخَّرة له من قبل الله — جل وعلا؟

ولما سمع الوزير منه ذلك أكبر الأمر، وبدأ يُراجعه في شأنه، وقال: يا ولدي، إنَّ هذا الدين وجدنا عليه آباءنا الأولين، ولو سمع والدك بما تقول لقتل «مندان»؛ لأجل كُفرها بعد أن أظهر الإله فيها كرامته، وجعلها بيضاء بعد أن كانت حبشية الأصل واللون!

ولمَّا سمع منه «ألفونك» هذا الكلام داخله الأسف، والتفت قائلًا: إنِّي أتأسَّف أيها الحكيم العاقل، كيف إنَّك لم تميِّز بفكرك النيِّر بين الغثِّ والثمين؟!

ثمَّ أخبره أنَّ «مندان» ليست حبشيةً، وما هي إلا بنت ملك من أكبر ملوك العالم، وزوجة ملك، ثم أخبره بما أخبرتْه به «مندان»، وكيف أنَّ والدها أراد قتل ولدها لمُجرَّد رُؤيا رآها، وكيف فرَّت به لَمَّا علمت أن والدها يروم قتله، وكيف تركته عند زوجة الرَّاعي، وكان قصدها الذهاب إلى زوجها، فوقفت في هذه الجزيرة، أمَّا تغيُّر لونها؛ فإنه دهان صنعته حين خروجها من قصر أبيها، فلمَّا مكثت شهرًا هنا كُشف الدهان فعادت لحالتها الأولى.

ولما سمع الوزير منه ذلك ابتسم وانشرح صدره؛ لأنه كان مُرتابًا في هذا الأمر، فظهرت له الحقيقة، ثم أطلع «ألفونك» على رغبته في الدخول في دينه، وأخذ عليه العهود هو أيضًا، ووعده بالاجتماع «بمندان» والمذاكرة بحضرتها.

ولما تأكَّد «ألفونك» منه ذلك كاد أن يطير فرحًا وسرورًا ممَّا ظهر له من حمية الوزير «فرنان» وشهامته، وفي ثاني يوم توجَّه الوزير مع «ألفونك» لجهة القُبَّةِ بعد أن استأذنا من الملك لزيارة الإله؛ لئلا يرتاب في أمرهما؛ لأن ذهابهما في غير أوقات الزيارة. ولما استأذنا على «مندان» أذنت لهما فدخلا، وترحبَّت بهما، وجلسوا جميعًا، وبعد آداء فروض التحيَّة فتحا باب المذاكرة، وأخبرها «ألفونك» بإسلام الوزير ففرحت، وزاد سرورها، ثم تكلَّما في الأمر من جهة إشهار هذا الدين القويم، فقالت لهما: إشهاره يحتاج إلى قوة، وهذه ليست بالإمكان ما لم يكن الملك معنا.

فقال الوزير: إنِّي سأجمع رجالي ورجال سيدي «ألفونك»، وأنتخب العقلاء منهم، ونجعلها جمعيةً سريةً، ونتذاكر في هذا الأمر بعد أن نأخذ عليهم القسم اللازم بألا أحد يظهر هذا السر.

قال «ألفونك»: نِعْمَ الرَّأي هذا، إنَّه لسديد! ولكن هل مضمون انضمامهم معنا.

قالت «مندان»: يجب أن تضموا كلَّ واحدٍ إلى الدِّين على حدة من الآخرين، وبذلك يصير أثبت للجمعية وأقوى، ويعرف كل منهم نفسه أخًا ثابتًا لباقي أعضاء الجمعية، ينتشلونه إذا عثر ويؤازرونه، وقد اجتهدتُ في هذه العبادة منذ سنين؛ ولذلك تراني سننت قانونًا لتسير الجمعية على مقتضاه، وقد صار عندي فوق الخمسين رجلًا.

فاندهش الوزير وقال: لأي سبب استحضرت هؤلاء الأشخاص؟

قالت: بسبب «بروتوس» الوكيل الخارجي المنوط به خدمة هذا الهيكل؛ لأنه آمن بربه من أيام دخولي إلى هذا المكان، وقد صارت أعضاء الجمعية إلى الآن خمسين نفرًا والرئيس وأنا.

قال «ألفونك»: وما سبب إيمان «بروتوس؟»

قالت: إنَّه جاءني يومًا، وقد أقمت الصلاة، فوقف في ذروة الباب إلى أن أتممت صلاتي، فتقدَّم إلى جانبي، وسألني عن هذا الإله الذي ذكرته، وقد أقسم لي أنَّه لا يبوح بكلمةٍ ما، وإنه سمعني جملة مرار، وهو لا يقدر على مفاتحتي بهذا الخصوص، وقد مال قلبه إلى محبَّة الخالق ميلًا أحرمه لذيذ المنام، والحاصل أنه آمن بربه، وكان معي كتاب من أستاذي «أرباسيس»، وكنت لا أُفارقه، وأينما توجَّهتُ أصطحبه معي، وهو يحتوي على أصولٍ دينيةٍ فأخرجته وشرحته، واستنبطت منه قانونًا لأحكام الجمعية، فظهر بغاية الاتقان.

ولما سمعا ذلك منها تعجَّبا وطلبا منها إحضاره فأحضرته، فتصفَّحَّا سطوره فوجداه على غاية ما يُرام، ففرحا به حيث إنه على قواعد دينية، وأكبرا «مندان» وشكراها، وهنآها على ما منحها الله من العلوم، وطلبا منها أن يدخلا في تلك الجمعية، ووعداها أنهما سيعضدانها بكل قوتهما.

فقالت: إنَّ الاجتماع يكون في الأسبوع مرةً، وكان في بادئ الأمر في رأس كل شهرٍ مرةً، وقد عينت الوقت الذي تجتمع فيه الجمعية.

ثم ودعاها، وخرجا فرحين بما آتاهما الله، وهكذا ثابرا على مُعاضدة هذه الجمعية، وإقامة الشعائر الدينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤