الفصل السابع

في منشأ كورش

أما الملك «أستياج» فإنَّه ما زال يبحث عن ابنته، ويئنُّ لفقدها حتى مضى على ذلك أربع سنوات، ولم يهتدِ لها على أثر — وكان في أثناء ذلك أرسل لزوجها يخبره بما تمَّ — واستفسر عنها، فلم يقع لها على خبر. أمَّا زوجها فإنه جدَّ في البحث حتى عِيلَ صبره، وأخيرًا يئس من وجودها، ولزم الحزن؛ لأنه كان يحبها حبًّا فوق العقل.

أمَّا الخادم الذي كان مع «مندان» — وقد تركناه في المركب — فإنه اجتهد ليجد له طريقةً يُخلِّص بها سيدته، فلم يقدر على شيء، وقد وطَّدَ العزم على أن يرجع لسيده «أرباسيس»، ويخبره لعلَّه يسعى في خلاصها، وسارت بهم المركب إلى أن قطعت عدَّة أميال عن الجزيرة، وإذا بمركب قرصان قد هجمت عليهم، وبعد المُدافعة الشديدة استولوا عليها، وأخذوا من فيها أسرى، ومن ضمنهم «أديوس» الخادم، وساروا بهم إلى بلاد الهند، وباعوهم جميعًا فوقع «أديوس» في يدِ رجلٍ من العلماء، ففرح لذلك؛ لأنَّه كسيده، ولكنه تكدر لعدم مقدرته على خلاص سيدته، ولكنه قال: لا بُدَّ أن يكون لله فيه إرادة.

أما «كورش» الذي تركته أمه «مندان» عند «سباكو» زوجة الرَّاعي فإنه كبر، وأنبته الله نباتًا حسنًا، ونشأ في حجر الرَّاعي، وبين أولاده لا يعرف أبًا سواه، ولا أُمًّا سوى «سباكو»، وصار يجمع أولاد تلك القرية ويلعب، وكان جميل الصورة مُعتدل القوام تَلُوحُ على مُحيَّاهُ علائم النَّجابةِ والذَّكاء. ولما صار له عشر سنوات اتَّفق يومًا من الأيام أنه شَكَّلَ شبيه محكمة في أثناء لعبه مع أولاد القرية، وصار بينهم بالقسط، ويُجري عليهم أوامره، ويجعل منهم قوادًا، ويُقلِّدهم الوظائف، وينظم بعضهم في زمرة الجند، وجعل له عساكر، وبنى له قصرًا وهميًّا، وأوقف عليه الجنود والحراس حتى صار كل أولاد القرية له أعوانًا كالحقيقة، وكان يأمرُ بضرب المجرمين منهم، وبسجن من يستحق السجن.

وكان من هؤلاء الأولاد غلام من أولاد أشراف «مادي» اعتدى على آخر في ذلك اليوم، فأمر بضربه بعد أن أحضره، وحكم عليه بالقصاص، وفي الحال انقضت عليه الجنود فأراد الخلاص منهم فقالوا لا بدَّ من تنفيذ أمر الملك، وتغالبوا عليه، وطرحوه فوق الثرى، وضربوه ضربًا وجيعًا مُؤلمًا فذهب الغلام إلى والده باكي العين، وشكا له ما حلَّ به من الأولاد، ومن «كورش» ابن الرَّاعي، وأخبره بكل ما جَرَى، وكشف له عن محل الضرب، فوجد آثاره على ولده فطار عقله، وأخذ ولده، وذهب به إلى قصر الملك، وأخبره بما تمَّ، وكيف أنَّ ولدًا صغيرًا جعل له حزبًا من الأطفال، ورتَّبَ له دولةً موهومةً بغاية الانتظام لا ينقص من ترتيبها عن الممالك شيء مع أنه رُبِّي هذا الغلام في البوادي مع الرعيان فمن أين علم هذا الترتيب.

فتعجَّب الملك من كلام هذا الأمير، وقال عليَّ بالراعي وولده فأحضروهما، ولما مثلا بين يديه قال: من أين لك هذا الغلام أيها الرجل؟

قال: هو ولدي يا مولاي.

قال الملك: ما أظنُّ أنَّه ولدك، اصدقني وإلا ضربت عنقك. وقد توسَّم الملك في وجهه ملامح «مندان» في صباها، فلما سمع الرَّاعي تهديد الملك له خاف على نفسه فأخبره الخبر، وأطلعه على الحقيقة، وكيف أنَّ أُمَّه وضعته، وسافرت بعد الوضع ببضع ساعات، فضبط الملك تاريخ اليوم، فوجده اليوم الذي خرجت فيه «مندان»، فتأكَّد للملك أنَّ الغلام هو ابن «مندان» لا محالة، وأنه هو الذي سيخرب بلاد «مادي»، ويضمها إلى بلاد فارس فاستشاط غيظًا، ورجع له حقده القديم، وضبط الغلام عنده إلى الصباح، وعزم على قتله في الغد، وكان «أرباسيس» الجالس، وتأكَّد له أن الغلام ولد «مندان»، وأن الملك سيُهلكه بدون شكٍّ فنهض قائمًا، وذهبَ إلى منزله، ثمَّ طلب الأولاد الثلاث فحضروا، وقال لهم: يا أولادي! أنتم تعلمون أنَّ الملكة «مندان» هي السبب الوحيد في إنقاذ حياتكم من مخالب المنون، ولولا أنَّ الله شخصها لكم لكانت قد التهمت أجسامكم النضرة، وقد أفرغت عليكم النعم، وأحيت قلوبكم بالعلوم، وكان لها عليكم فضل الوالد على ولده!

قالوا: نعم! نحن غرس نعمتها بدون استثناء، فمُرنا بما يجب أن نُؤدِّيَ به حق العبودية.

قال: الغلام المسجون الآن في سجن الملك هو ابن الملكة، وإن لم تدركوه هلك لا محالة؛ لأن الملك عازمٌ على قتله في صباح الغد.

قال «روبير»: شرِّفني بهذه الخِدمَةِ يا مولاي، وأنا آتيك به هذه الليلة قبل بزوغ الفجر.

قال: شأنك وما تريد. ثم نهض الغلام، ودخل غرفته الخصوصية، ولبس لباس السواح، وأرخى له لحية بيضاء، وأسبل على أكتافه شعورًا بيضاء أيضًا تُشابه لحيته، وأخذ بيده عُكَّازًا، وقصد لجهة السجن الذي فيه «كورش»، فوجد هناك الحرس قيامٌ على باب السجن، فسلم ودخل بينهم فرحبوا به، وأجلسوه، ثم جاءوا بفضلات الطعام الباقي منهم فأكل، وحمد الله، وصار يأتيهم بكل نكتةٍ ظريفةٍ ويرقصُ، ويُطربهم بالعبارات المضحكة حتى آنسوا به غاية الإيناس، ولما علم منهم ذلك جلس، وأخرج شمعته من جيبه وأشعلها ووضعها، وصار يُلهيهم بكلِّ ما يقدرُ عليه من الملح إلى أن دبَّت رائحة البنج في رءوسهم، وكانت الشمعة مصنوعة لمثل هذه الغاية.

وبعد بُرهة صاروا يتساقطون واحدًا بعد واحد إلى أن ناموا جميعًا، فانسلَّ هو من بينهم، وكان واضعًا في صدره سفنجةً فيها بعض الأرواح المنعشة لكي لا يُؤثِّرُ فيه البنج، وأخرج المفاتيح من الحارس، وفتح الباب، ودخل على «كورش»، فوجده منزويًا في السجن الداخلي، وهو نائمٌ لا يعي على شيء، فتقدَّم إليه وأيقظه، وقال له: لا تخف! فإني مُنقذك من هذا السِّجن فقُم معي، ولا تلفظ أدنى كلمة. فلبَّى الغلام طلبه ونهض، وانسلَّا من الباب الخارجي، وقد أخرج من تحت ردائه ثوبًا ألبسه له، وسارا على عجلٍ إلى أن دخلا على «أرباسيس»، فوجداه على أحرِّ من الجمر، ولما رأى «كورش» ضمَّه إلى صدره، وقبَّله بين عينيه، وأفرد له محلًّا خصوصيًّا في الداخل، وأوصى عليه «بركزاس»، وسلَّمه إلى «فانيس» الفيلسوف، وقال له: ليكن هذا تحت عهدتك يا ولدي بحيث لا يعلم به أحد من خلق الله، وتتكفَّل بتهذيبه، وتعليمه كُلَّ ما تقدر عليه من العلوم. ثم أخرج زجاجةً وطلى جسمه، وأنزله بين الخدم إلى أن ينتهي بحث الملك، وبينما هم كذلك، وإذا «بروبير» يطرق الباب ففتحوا له، ودخل على أخويه فسألاه: أين وجهته، وكيف تأخَّر إلى هذا الوقت وقد ظهر الفجر؟

قال: إنِّي بعد أن سلمت لكم سيدي «كورش»، تذكرت أن لا بدَّ للملك من تفتيش المدينة، ولا بدَّ أن يصل إلينا التفتيش، فأردت أن أفعل شيئًا ينفي عنَّا ذلك، وقد حصل، وهو أنِّي تزيَّيْتُ بزيِّ الجُندِ، وتوجَّهتُ إلى الباب، ودخلتُ ضمن الحراس، وأشعلت شمعةً، ووضعتها في غرفة الغفير، ثم توجهت إلى الباب الثاني والثالث إلى أن انتهيت إلى السابع، وقد فتحت كل أبواب المدينة حتى إذا انتبه الحُرَّاس لا يشكُّون أنَّ الفاعل قد خرج من المدينة إلى الخارج حيث إِنَّ الذي حصل في السجن حصل في الأبواب أيضًا.

فتعجَّب «أرباسيس» من خفَّته، وحسن صنعه، وشكر له ذلك، وشكره أخواه أيضًا.

ولما أصبح الصباح قام الملك، وأمر بأن تُنصب له أحبولة على جزع ليشنق الغلام على مرأى من الناس، وبعد أن أحضروا ما لزم، توجَّهوا إلى السجن لإحضار الغلام فوجدوا الحراس في بكاءٍ ونحيبٍ خوفًا على أنفسهم من غضب الملك؛ لأنهم لما أصبحوا وجدوا الأبواب مفتحةً، ولم يجدوا الغلام ولا الرجل الهرم. وقد فتشوا ما أمكنهم حتى وصلوا إلى أبواب المدينة، فوجدوا الحراس هناك كذلك في ارتباكٍ عظيمٍ، وقبل أن يذهبوا إلى الملك جاء الجلادون بطلب الغلام، فلم يجدوه كما تقدم.

فذهبوا إلى الملك وأخبروه الخبر، ولما سمع انقلبت عيناه في أُمِّ رأسه، وغضب الغضب الشديد، وقال: لا بدَّ أن يكون للنار في ذلك إرادة، ولا بدَّ أنَّ الغلام يملك بين مشرقها ومغربها، وقد عزمتُ على قتله وهو في بطن أُمه، فلم يتيسر لي ذلك، ولقد فقدت ابنتي الوحيدة بسببه، وها أنا الآن بعد أن ظفرت به، وأردت قتله خوفًا على بلاد «مادي»، وخروج المُلك إلى يد الفرس أبت النار إلا تنفيذ أمرها، ولم أدر هل الأرض ابتلعته أم السماء انتشلته، ثم قال: علي «بميقرات» الرَّاعي وزوجته، فأَحضِرُوهُما. وكانت القواد والوزراء والأمراء والحاشية قد اجتمعوا، وكان منهم «أرباسيس» و«أرباغوس»، فسأل الملكُ الرَّاعيَ وزوجته عن «كورش» فقالا: إنَّنَا لم نره بعد أن استلمه الملك، فأمر الملك بسجنهما إلى أن ينظر في جزائهما على ما فعلاه من تربية «كورش»، ثم قال مُخاطبًا «أرباسيس»: اعلم أيها الفيلسوف أنَّ بلادنا من الآن فصاعدًا ستصير في أيدي الفرس؛ لأن هذا الغلام سيصير ملكًا عظيمًا إذا تهاونَّا في أمره، فأريدُ الآن أن تبحث عنه؛ لأني لو تركته لتفاقم أمره، ولَصَعُبَ علينا استدراكه؛ لأني ما انتدبتك لهذا الأمر إلا لما أعلم من خبرتك بفكِّ المعميات وقراءة الطلاسم. وغاية قصدي أن تبحث لي عن مكان هذا الغلام بكل ما تقدر عليه.

قال «أرباسيس»: نعم سأبحث، ولكن لا نُفلح لو وجدناه؛ إذ رُبَّما كان للنار فيه مأرب وغاية في استفحال أمره، فما نكون إلا أغضبناها، وعملنا ضد إرادتها، ولولا ذلك لما كانت النار تفتح له بابًا للخلاص، كُلَّمَا أردنا الايقاع به.

هذا وقد صدَّق على قوله كل من في المجلس إلا «أرباغوس» فإنه قال: لا بد من البحث والتدقيق؛ لأنه من واجباتنا المحافظة على الوطن والذبِّ عن حقوق مملكتنا، وصون أعراضنا، وأموالنا من أن تنالها أيدي الفرس.

وكان قصد الوزير بهذا الكلام أن يستخلص لنفسه ثقة الملك؛ لأنه كان يحرك عليه القوم لما عنده من الضغينة به عليه.

وكان الوزير من يوم قتل ولده يتحيَّن الفرص، ويدُسُّ الدسائس، ويشحن صدور الأمراء وأكابر البلاد على مُخالفة «أستياج»، ولما علم فيه بظهور ابن «مندان» حمد الله وأثنى عليه. ولكنَّه تحيَّر فيمن خلَّصه، وودَّ لو أنه هو المخلص له، وقال في ذاته: من الذي انتشله يا تُرى؛ إذ إنَّ هذا الأمر لا يكون إلا من خبيرٍ قديرٍ، ولا قدرة «لأرباسيس» على مثل هذا الفعل.

ولمَّا سمع الملك منه ذلك جنح إليه، وجاء طِبقَ مُرامه فقال له: نعم الرأي أيها الوزير! إنَّ ما قلته هو الصواب، فيجب أن تبث العيون في أنحاء المملكة، وتجد لي هذا الخائن الذي تجاسر، بعد علمه برؤياي، على إخراج الغلام من السجن، وعمل على كيدي وكيد المملكة؛ لأن النار لا ترضى بخراب بلاد عُبَّادها.

فلبَّى الوزير طلبه بالسمع والطاعة، وانفرط عقد المجلس على هذا الرأي، وقام مع «أرباسيس»، وتوجَّها إلى منزل الكاهن بعد أن أصدر أوامره لجميع القواد ببثِّ المخبرين في أنحاء المملكة، وقال: لا أظنُّ أنَّ الغلام في المدينة؛ لأن أبواب المدينة وُجدت مُفتَّحَة. ثم سارا وهما يتذاكران في أمر «كورش» إلى أن بَلَغَا منزل «أرباسيس» ودخلاه، وجلس كل منهما مُرتابًا في الآخر مُرتبكًا في ما يفتح له الحديث، ويكشف عمَّا في ضميره، وبعد تفكُّر برهة قال «أرباغوس»: لا بد أن يكون أخذك العجب، وارتبت في أمري أيها الفيلسوف حينما تكلمت مع الملك ضد فكرك في التفتيش على «كورش» والبحث عنه حيث إنك تعلم محبتي «لمندان»، وكيف عدمتُ ولدي بسببها، وتعلم أيضًا بغضي للملك الذي قتل ولدي ظلمًا، ومن ذاك الوقت، وأنا أترقَّبُ فرصةً كهذه لآخذ ثأري، وإني أعلم أنك تُوافقني على أفكارك؛ فلذلك أريدُ أن أطلعك على ما في ضميري؛ لأني لا أشك في أنك تريدُ ذلك أنت أيضًا لحبك لولد «مندان».

فقال «أرباسيس» وقد تبيَّن فيه الصدق وتهلَّل وجهه بعلائم البشر: صرِّح لي بما في ضميرك أيها الأخ الصادق، ولا أشك في صداقتك «لمندان».

قال «أرباغوس»: آه يا سيدي لو أعلم أنها على قيد الحياة!

قال: نعم! إنها على قيد الحياة، وستجتمع بولدها «كورش» بعد بضعة سنين حينما يكون في أوج عِزِّه، ولكن دعنا الآن منها، ولنتكلم في أمر ولدها.

قال: وكيف الوصول إليه الآن؟!

قال: سنجتهد في الحصول عليه بعد ما نُدبِّرُ أمر وقايته من أيدي الظلم.

قال: أنا أقيه بنفسي وبمالي، وبكل ما أقدر عليه.

قال: وأين يكون المحل الذي يجب أن يكون فيه، ولا تصل إليه عيون الملك؟

قال: أنا أرسله إلى إحدى مزارعي، وهي في محلٍّ حسن المناظر، طلق الهواء، فيه قصر شاهق حصين، وأرسل معه «بركزاس» و«فانيس» و«روبير»، وأُجري عليهم الأرزاق بما يجعلهم يعيشون كأولاد الملوك، ولا أدعُ أحدًا يعلم لهم مكانًا.

فأعجبه هذا الرأي، وقال: هو عندي الآن أيها الوزير في منزلي بين خدمي، وأنا في غاية الخوف عليه.

ولمَّا سمع الوزير ذلك ابتهج غاية الابتهاج حتى كاد أن يطير فرحًا، وقال: أين هو؟ آتني به حتى أضمَّه إلى صدري، وأُطفئ نار وجدي على ولدي الذي أحسبه هو الآن؛ لأنه مات بسببه، فعوضني الله منه خيرًا.

فأمر «أرباسيس» بإحضار «كورش» فحضر، وقام له الوزير وضمَّه إلى صدره، وبكى حتى بلَّ الأرض، ثم جلس وأجلسه إلى جانبه، وسأله عن اسمه فقال: اسمي «كورش».

قال: ومن هو والدك؟

قال: يا سيدي! بكل أسف أُخبرك أن والدي أقل من أن يُذكر في مجلسك؛ لأنه راعٍ، واسمه «ميترادات»، واسم أُمي «سباكو»، ومعناها: «الكلبة»، وما أدري سبب هذا الاسم لها، فإنها آية اللطف والله يا سيدي!

فتعجب الوزير من حُسن منطقة ورشاقة أسلوبه في إلقاء العبارة، ثُمَّ ضمَّه إلى صدره، وقبَّله مرارًا عديدةً، ولم يبد له شيئًا عن والديه؛ لأنه يعلم أنَّ الملك مهتمٌّ بجمع الجيوش، وتحصين القلاع، وعازمٌ على ضرب مدينة «طهران» وهي المدينة التي يحكمها والد كورش، ويدفع خراجها إلى الملك «أستياج»، وكان لما علم «قمبيز» والد «كورش» أنَّ زوجته وولده فُقِدَا، فجاهر بالعصيان، وكان الوزير يدسُّ عليه الفتن، ويخبره بأسرار المملكة، وقد جمع الجيوش، وحصن بلاده، وصار مستعدًّا للدفاع عن بلاده، هذا وقد أمر الوزير بأن يركب «كورش»، ومن معه — بعد أن طلى جسمه بصباغ أسود، فصار كالعبد النوبي — فركبوا جميعًا، وساروا إلى المزرعة، وكان الوزير أعطى تعليماته لأحد خدمه الأُمناء ليُحضر لهم كل ما يحتاجون إليه في ذلك المحل اللائق لسكنى هذا الأمير الجديد، وكانت تلك القرية واقعةً في بُقعة نضرة زاهرة في سهلٍ مُتَّسِعٍ على جانب نهر جارٍ كالسلسبيل، ينسابُ من جانبها الغربي، ومن وراء هذا النهر جبلٌ شامخٌ مرصعٌ بالأشجار الزبرجدية، والماء يلتف من حوله كالطوق في جِيدِ الحسناء، ومن الجانب الشرقي من النهر أراضٍ واسعة خالية من الأحراش والغابات صالحة للزرع، وفي وسطها حديقة غَضَّة، وفيها من كلِّ فاكهةٍ زوجان قُطوفها دانية وأثمارها يانعة. وفي تلك الحديقة قصرٌ مشيدٌ مُقامٌ على أحسن ما صُنع في ذلك الزمان، وفيه من الزخارف ما يفوق عن قصور الملوك، قد جعله الوزير متنزَّهًا له يرحلُ إليه في فصل الربيع من كل سنة، وفي الجانب الغربي من النهر غاباتٌ ومناظرُ طبيعية قد غرستها يد القدرة الإلهية، واعتاد الناس التنزُّه في تلك الأحراش.

ولما كان اليوم الذي قدم فيه «كورش»، وكان سبقهم الخادم الذي أرسله الوزير إلى حارس القصر، وأمره أن يهيئ كل ما يلزم فامتثل الأمر، وأجرى كل أوامر سيده حتى إذا جاء «كورش» ومن معه وجدوا أنفسهم كأنهم في جنة الفردوس، فجلس كل منهم في الحجرة التي أُعدت، وأفردوا «لكورش» حجرةً خصوصيةً، وأحضروا له كل ما يلزم له، وقد جعلوه نصب أعينهم، وصاروا يلقنونه الدروس في مواعيدها، من علوم، وفروسية، وغير ذلك. وهو يتعجَّبُ من هذا الاعتناء الغريب الذي يرى نفسه غير مُستحقٍ له؛ لأنه ابن راع، وفوق ذلك فإنه مغضوبٌ عليه من الملك؛ لأنه ضرب ابن أحد الأمراء. هذا ما كان يعلمه «كورش» ويفتكره في نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤