الفصل السادس

الفيروسات المستديمة

تخوض الفيروسات معركة لا ينقشع غبارها ضد جهاز مناعة العائل، ولا تسنح لمعظمها سوى فرصة محدودة لتتكاثر من خلالها ثم تخرج على عجل قبل أن تتكفل مصفوفة رائعة من آليات العائل الدفاعية بالقضاء عليها. غير أن بعض الفيروسات نجحت في تطوير استراتيجيات تهدف إلى التغلب على تلك الآليات المناعية والبقاء على قيد الحياة داخل عائلها فترات طويلة، تصل أحيانًا إلى العمر بأكمله. ومع أن الآليات التفصيلية الداخلة في تلك الاستراتيجية المراوغة شديدة التعقيد والتباين، فإنها إجمالًا تشتمل على ثلاث مناورات أساسية: البحث عن مكمن يختبئ فيه الفيروس من الهجوم المناعي، واستغلال العمليات المناعية بحيث تعمل لصالح الفيروس، وخداع دفاعات المناعة عن طريق التحور السريع.

تطورت معظم الفيروسات المستديمة بحيث صارت لا تسبب سوى أعراض طفيفة وقد تحدث حالات عدوى لا أعراض لها، إذ إن المرض الذي يهدد حياة العائل لن يقضي على ذلك العائل فحسب وإنما سيحرم الفيروس كذلك من مسكنه. والحقيقة أن بعض الفيروسات على ما يبدو لا تتسبب في أي آثار مرضية على الإطلاق، ولم تُكتشف تلك الفيروسات إلا بالمصادفة. ومن الأمثلة على ذلك فيروس «تي تي»، وهو فيروس دي إن إيه دقيق الحجم اكتشف عام ١٩٩٧ خلال البحث عن سبب للالتهاب الكبدي، وسبب تسميته هكذا أن تلك هي الحروف الأولى بالإنجليزية من اسم المريض الذي عزل ذلك الفيروس منه لأول مرة. ونحن الآن نعلم أن فيروس تي تي، وقريبه فيروس «ميني» الشبيه به، يمثلان طائفة كاملة من فيروسات متشابهة تحملها الغالبية العظمى من البشر، والرئيسيات من غير البشر، ومجموعة أخرى متنوعة من الفقاريات، ولكن حتى يومنا هذا لم ترتبط بأي مرض. ومع ظهور التقنيات الجزيئية الحديثة المتمتعة بالحساسية الفائقة في التعرف على الفيروسات غير المرضية، يمكننا أن نتوقع العثور على المزيد من أولئك الركاب الصامتين في المستقبل.

يتباين معدل نجاح الفيروسات في البقاء المستديم داخل عوائلها، فمثلًا فيروسات الهيربس تؤسس لنفسها علاقة تستمر طول العمر لا تلحق عادةً أي ضرر بالعائل. كذلك تصيب الفيروسات القهقرية عمومًا عائلها بالعدوى طيلة حياته، غير أنها ربما تتسبب، مثلها في ذلك مثل فيروس نقص المناعة البشري، في مرض لدى أولئك الذين تصيبهم بعد فترة طويلة من الصمت. وهناك فيروسات أخرى، مثل فيروس الالتهاب الكبدي ب، تناضل من أجل مراوغة الاستجابة المناعية، وتتحايل كثير من العوائل في نهاية المطاف على إخلاء أجسادها من الفيروس. زد على ذلك أن هناك قلة من الفيروسات تُجلى عادةً بعد العدوى الأولى غير أنه في مناسبات نادرة قد تظل موجودة بجسم العائل ولا تغادره. ففيروس الحصبة مثلًا يستمر — لأسباب مجهولة — ماكثًا بجسم العائل بعد انتهاء العدوى الحادة في حوالي ١ من كل ١٠ آلاف حالة، مسببًا مرضًا قاتلًا بالمخ يسمى الالتهاب الدماغي الشامل التصلبي شبه الحاد.

بسبب وجود جينات أجنبية (فيروسية) طيلة العمر داخل خلية العائل، يتمكن الفيروس المستديم في بعض الأحيان من حث الخلية التي يحتمي بداخلها على النمو غير الخاضع للسيطرة، بمعنى، أن الخلية تتحول إلى خلية سرطانية. ومن بين تلك الفيروسات الفيروس تي الليمفاوي البشري، والالتهاب الكبدي ب وج، وفيروس إبشتاين-بار، والفيروس المرتبط بساركوما كابوسي، وفيروسات الورم الحليمي. وسوف نتناول الآليات الداخلة في تطور تلك السرطانات في الفصل السابع.

عائلة فيروس الهيربس

تشكل فيروسات الهيربس عائلة عتيقة قد يعود تاريخ تطور سلفها الأول إلى الحقبة الديفونية منذ حوالي ٤٠٠ مليون عام عندما كانت مخلوقات تشبه الأسماك تخرج لتوها من البحار لتقطن باليابسة. وخلال قيامها بذلك، لا بد أنها واجهت مجموعة كبيرة من الميكروبات الجديدة، ومن بينها الفيروسات البدائية الأشبه بالملتهمات التي يعتقد أنها الأسلاف الأوائل لفيروسات الهيربس المعاصرة.

منذ البداية الأولى، تطورت فيروسات الهيربس بالاشتراك مع عوائلها، ومارس كل من الشريكين ضغطًا انتقائيًّا على الآخر إلى أن صارا متأقلمين على نحو متميز مع نمط حياة كل منهما، بما سمح للفيروسات بالازدهار دون أن تقضي على عائلها. ومع تفرع أنواع عوائلها، تفرعت فيروسات الهيربس كذلك إلى أنواع عدة، حتى إنه صار هناك الآن لدى الغالبية العظمى من أنواع الثدييات والطيور والزواحف والبرمائيات والأسماك بل وحتى اللافقاريات؛ مزيج خاص بكل منها من فيروسات الهيربس.

حتى يومنا هذا، تم التعرف على ما يزيد على ١٥٠ نوعًا مختلفًا من فيروسات الهيربس، كلها فيروسات دي إن إيه مغلفة كبيرة الحجم تحمل شفرة ما بين ٨٠ و١٥٠ بروتينًا. وهي فيروسات واهنة لا يمكنها البقاء حية مستقلة لمدة طويلة في العالم الخارجي، ولهذا فإنها تميل للانتشار عن طريق الاتصال الوثيق بين العوائل الحاملة للعدوى والعوائل المعرضة لانتقال العدوى إليها.

ودون استثناء، يصيب فيروس الهيربس عائله بالعدوى مدى الحياة، وكثيرًا ما يطلق عليها اسم «عدوى كامنة». وتظل الفيروسات على قيد الحياة داخل خلايا العائل في حالة كمون، فتعطل جميع عمليات إنتاج البروتين ومن ثم تصبح غير مرئية لجهاز مناعة العائل. وفي أحيان عارضة، أثناء حياة العائل، تعاود تلك العدوى الكامنة نشاطها كي تنتج فيروسات جديدة. ويضمن تطور هذه الاستراتيجية طويلة الأمد لذرية الفيروس الوصول إلى مجتمع العوائل صغيرة السن والأكثر قابلية للعدوى ومن ثم تضمن بقاء نوعها.

هناك ثلاث عائلات فرعية من فيروس الهيربس: ألفا وبيتا وجاما، وتصنف أفرادها تبعًا لخصائصها البيولوجية، ولا سيما أنواع الخلايا التي تحقق من خلالها الكمون. وحتى الآن، اكتشفت ثمانية فيروسات هيربس، سميت فيروس الهيربس من ١ إلى ٨ بترتيب اكتشاف كل منها، ولكنها منحت أيضًا أسماء عامة يمكن بواسطتها جعلها معروفة أكثر للناس (انظر الجدول ٦-١).

لقد ورثنا تلك الفيروسات من أسلافنا الأوائل، لهذا فإن لكل منها نظيره لدى الرئيسيات التي ترتبط به بصلة قرابة تفوق صلتها بفيروسات الهيربس البشرية الأخرى. ولما كان تطورها متزامنًا مع تطورنا، صارت فيروسات الهيربس تصيب جميع المجتمعات البشرية على مستوى العالم، حتى إن أكثر القبائل الهندية الأمريكية انعزالًا لم تسلم منها.

يُفترض بصفة عامة أن فيروسات الهيربس البشرية جميعها كانت في الماضي موجودة في كل مكان، لكن انتشارها اليوم بدأ يتفاوت، ولعل المنظومة الهرمية تعكس مدى نجاحها في الانتشار بين العوائل المختلفة في عالمنا المعاصر. ويمكن لفيروسات الهيربس البشرية الانتشار بطرق متنوعة: فهي تنتقل من الأم إلى الطفل مباشرةً عن طريق حليب الثدي (فيروس سي إم ڤي) أو تنتشر بين أفراد الأسرة الواحدة وعن طريق الاختلاط اللصيق عبر اللعاب (فيروسات إتش إس ڤي-١، سي إم ڤي، إي بي ڤي، إتش إتش ڤي-٦ و-٧ وكيه إس إتش ڤي). ومن بين تلك الفيروسات، يعد فيروسا إتش إتش ڤي-٦ و-٧ أكثرها نجاحًا، فهما يصيبان بعدواهما الغالبية العظمى من البشر في جميع أنحاء العالم. وانتشار فيروسات إبشتاين-بار وإتش إس ڤي-١ (الهيربس البسيط)، وسي إم ڤي عالٍ كذلك، ولكن حدث لكل واحد منها مؤخرًا تراجع في المناطق التي تطبق فيها معايير عالية للصحة العامة فحال ذلك دون انتقال عدواها. ومن الطريف، أن فيروسي إتش إس ڤي-٢ وكيه إس إتش ڤي حققا قدرًا أقل كثيرًا من الانتشار من غيرهما من فيروسات الهيربس البشرية، ويظهران توزيعًا جغرافيًّا أكثر تقييدًا، حيث إن أكثر منطقة ينتشران فيها هي بعض أجزاء القارة الأفريقية. إن تلك الفيروسات تعتمد على الانتقال عن طريق اللعاب أثناء سنوات الطفولة (كيه إس إتش ڤي) والانتقال عن طريق ممارسة الجنس بين الكبار أو أحد السبيلين، ووفقًا لتكهنات العلماء فإنهما أكثر الفيروسات تأثرًا بالتغيرات الحديثة التي طرأت على أساليب الحياة والثقافة، ومن ثم فإن توزيعهما على مستوى العالم أول ما يتأثر تأثرًا واضحًا.
جدول ٦-١: فيروس الهيربس البشري، العدوى الرئيسية والانتشار وموقع الكمون.
الاسم الاسم الشائع الأسرة الفرعية الأعراض الإكلينيكية الرئيسية الشائعة النسبة المئوية (٪) الإجمالية للانتشار بين الكبار* موقع كمون الفيروس
إتش إتش ڤي-١ الهيربس البسيط نوع ١ ألفا بثرة البرد (الحرارة) أكثر من ٦٠ العقد العصبية
إتش إتش ڤي-٢ الهيربس البسيط نوع ٢ ألفا الهيربس التناسلي ٢٠ العقد العصبية
إتش إتش ڤي-٣ الفيروس النطاقي الحماقي ألفا جديري مائي حوالي ٩٠ العقد العصبية
إتش إتش ڤي-٤ إبشتاين-بار جاما الحمى الغددية حوالي ٩٠ خلايا الليمف البائية
إتش إتش ڤي-٥ الفيروس المضخم للخلايا بيتا متلازمة كثرة الوحيدات حوالي ٥٠ الخلايا الجذعية لنخاع العظم
إتش إتش ڤي-٦ بيتا طفح ظاهر فجائي حوالي ٩٠ خلايا الدم البيضاء
إتش إتش ڤي-٧ بيتا طفح ظاهر فجائي حوالي ٩٠ خلايا الدم البيضاء
إتش إتش ڤي-٨ فيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي جاما أقل من ٥ خلايا الليمف البائية
في أوروبا الغربية.

فيروسات الهيربس البشرية من نوع ألفا، وهي إتش إس ڤي-١ و-٢، تتطابق معًا بنسبة ٨٥٪ على مستوى الدي إن إيه، غير أن فيروس إتش إس ڤي-١ يسبب عادةً بثرات البرد (الحرارة) بالوجه في حين يتسبب إتش إس ڤي-٢ في الهيربس التناسلي. مع أن هذا الأمر لا يزال صحيحًا عمومًا، فإن كلا الفيروسين في الحقيقة يمكنه إصابة جلد الوجه والمنطقة التناسلية بعدواه، وهناك قلة آخذة في التصاعد من حالات الهيربس التناسلي يسببها حاليًّا إتش إس ڤي-١.

يدخل فيروسا إتش إس ڤي-١ و-٢ الجسم من خلال جرح أو سحجة ويستهدفان خلايا الجلد حيث يتكاثران، فيقتلان الخلايا المصابة كلما أنتجا فيروسات جديدة. وغالبية أنواع العدوى الأولية بفيروس إتش إس ڤي عدوى صامتة، غير أنها في بعض الأحيان تتسبب في طفح مؤلم مكون من بثور دقيقة الحجم داخل وحول الفم أو في المنطقة التناسلية. ولما كانت كل بثرة تحتوي على الآلاف من جسيمات الفيروسات، فإن من السهل أن نفهم كيف ينتشر الفيروس منتقلًا إلى أشخاص آخرين.

عدوى فيروس الهيربس البسيط التي تصيب الجلد سرعان ما تجتذب انتباه الخلايا المناعية وتلتئم الحالات التي تسببها سريعًا، ولكن ليس قبل أن تصيب بعض جسيمات الفيروس سرًّا النهايات العصبية بالجلد وتتسلق الألياف العصبية وصولًا إلى نواة الخلية حيث تؤسس لنفسها مكانًا لتكمن فيه. يكمن فيروس الهيربس البسيط الآتي من عدوى الوجه (وهو بصفة أساسية فيروس إتش إس ڤي-١) في الضفائر العصبية ثلاثية التوائم الموجودة في قاع الجمجمة، في حين تتجه الفيروسات الآتية من عدوى المنطقة التناسلية (وهي في الأساس بسبب فيروس إتش إس ڤي-٢) نحو الضفائر العصبية العجزية على جانبي أسفل العمود الفقري. ولما كانت الخلايا العصبية تظل على قيد الحياة من أجل حياة العائل ولا تنقسم، فإنها تعد مكانًا مثاليًّا ليكمن فيه الفيروس لفترة من الوقت. غير أنه لكي يضمن بقاءه حيًّا لأمد طويل، ينبغي على الفيروس عند مرحلة ما أن يستيقظ ويتحرك. فمن حين لآخر، تُنتج فيروسات جديدة، فترتحل عبر الألياف العصبية ثم تفرغ في اللعاب أو في الإفرازات التناسلية. وقد يكون تجدد النشاط هذا صامتًا أو ربما يظهر للعيان على هيئة بثرات برد فوق الوجه، عادةً ما تكون فوق الشفاه أو بالقرب منها، لدى حوالي ٤٠٪ ممن يحملون فيروس إتش إس ڤي-١، وفي صورة هيربس تناسلي لدى حوالي ٦٠٪ ممن يحملون إتش إس ڤي-٢. وفي الغالب تكون محفزات تجدد نشاط فيروس إتش إس ڤي لدى أحد من حامليه شديدة الوضوح ويمكن التعرف عليها بسهولة: نقص المناعة نتيجة لتعاطي عقاقير أو لمرض ما، الحمى، ارتفاع مستويات الأشعة فوق البنفسجية (ويكون سببه عادةً القيام برحلة تزلج على الجليد)، أو نزول الطمث والتعرض لتوتر عصبي، غير أن الآليات الجزيئية التي تتدخل في هذا الأمر غير مفهومة.

تناولنا في الفصل الخامس الجديري المائي، باعتباره عدوى حادة شديدة الانتشار في سنوات الطفولة، لكن الفيروس النطاقي الحماقي، نظرًا لكونه أحد فيروسات الهيربس، يؤسس عدوى كامنة لنفسه في كل شخص يصيبه بالفعل. ويختبئ الفيروس النطاقي الحماقي مثله مثل فيروسات الهيربس البسيط داخل الخلايا العصبية، ولكن لما كان طفح الجديري المائي ينتشر في جميع أنحاء الجسم، فإن الفيروس قد يكمن في الضفائر العصبية الشوكية المتصلة بأي من الأعصاب المغذية للجلد أو كلها.

يمكن للفيروس النطاقي الحماقي الكامن أن يجدد نشاطه كي يتسبب فيما يعرف بالقوباء المنطقية في أي توقيت من العمر، غير أن هذا الأمر يكون أكثر انتشارًا لدى المسنين. ويحدث تجدد النشاط عادةً في خلية عصبية واحدة، فيتسبب في الطفح المؤلم النمطي للحزام الناري المكون من بثور دقيقة الحجم على امتداد مسار عصب معين. ومع انطلاق الفيروسات المعدية من تلك الحالات المرضية، فإن الأفراد الذين لم يصابوا به من قبل يلتقطون الجديري المائي منهم. غير أن قوباء المنطقة لا تلتقط لا من حالات القوباء المماثلة ولا من الجديري المائي، وإنما تأتي نتيجة لتجدد نشاط فيروسات داخلية كامنة.

وكما هو الحال مع فيروسات الهيربس البسيط، لم تعرف بعد الآليات الجزيئية الداخلة في تجدد نشاط الفيروس النطاقي الحماقي، ولماذا يحدث ذلك في الغالب في الأعصاب المغذية للعين والرقبة والجذع، فلا يزال هذا أمرًا غامضًا. على أي حال، ومن الأمور المألوفة لفيروس الهيربس البسيط، يكون تجدد النشاط أكثر شيوعًا لدى المرضى أصحاب المناعة المثبطة، ومن بينهم إيجابيو فيروس الإيدز، ومن أجريت لهم عمليات زراعة أعضاء، أو من يتلقون علاجًا كيماويًّا. ولدى كل تلك الفئات قد يكون الطفح شديدًا وواسع الانتشار، بل وقد يهدد حياة المرضى، غير أنه توجد العديد من المركبات المضادة للفيروسات من بينها «أسيكلوفير»، التي يمكن أن يكون لها تأثير مفيد (انظر الفصل الثامن).

من بين فيروسات هيربس بيتا البشرية الثلاثة، نجد أن الفيروس المضخم للخلايا (سي إم ڤي) هو الوحيد الذي يتسبب في مشكلات صحية واضحة. ومع أن الفيروس يصيب معظم الناس بعدوى صامتة، فإنه في بعض الأحيان يتسبب في مرض غددي أشبه بالحمى في عدواه الأولى. ولكن الأهم من ذلك، قد يعبر الفيروس الموجود لدى أم حامل في حالات نادرة المشيمة ليصيب بعدواه طفلها الذي لم يولد بعد. وعندما يحدث هذا فإنه يتسبب في داء مضخم للخلايا الاشتمالية لدى حوالي ١٠٪ من الرضع المصابين، فيستحث مجموعة واسعة من الأعراض من بينها تأخر النمو، والصمم، وعدم تجلط الدم على نحو طبيعي في حالات الجروح والالتهاب الكبدي والرئتين والقلب والمخ.

ويكمن الفيروس المضخم للخلايا في الخلايا الجذعية لنخاع العظام التي تتطور إلى الخلايا الأحادية الدموية والخلايا الملتهمة الكبيرة بالأنسجة. وتنقل تلك الخلايا الفيروس الكامن عن طريق الدم إلى الأنسجة حيث يكون تجدد نشاط الفيروس شائعًا. ولدى العوائل الأصحاء، يتم التعامل مع هذا الأمر بواسطة جهاز المناعة دون أن يتسبب في مرض، ولكن تكاثر الفيروس يسبب اعتلالًا واضحًا لدى المرضى مثبطي المناعة، وكان مسئولًا عن العمى والإسهال الشديد والالتهاب الرئوي والالتهاب الدماغي لدى كثير من إيجابيي فيروس نقص المناعة البشري قبل أن تُطوَّر أدوية فعالة مضادة للفيروسات في بدايات التسعينيات.

فيروسا هيربس البشريان من نوع جاما، إبشتاين-بار والفيروس المرتبط بساركوما كابوسي، كلاهما من فيروسات الأورام ولذا سوف نتناولهما بالشرح في الفصل الثامن. غير أنه مع أن فيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي على ما يبدو لا يسبب أي مشكلات عندما يصيب بعدواه الإنسان لأول مرة، فإن إبشتاين-بار يتسبب في حمى غددية، تسمى أيضًا بمرض كثرة الوحيدات المعدي.

ويصيب إبشتاين-بار الإنسان عمومًا بعدواه في سنوات الطفولة، ولكن إذا تأخرت العدوى حتى المراهقة أو بداية الشباب، فإنه يسبب حمى غددية في حوالي ربع عدد الحالات. ولما كانت العدوى أثناء الطفولة منتشرة في الواقع في كل مكان من البلدان النامية، كما أنها واسعة الانتشار أيضًا لدى الفئات المتدنية اجتماعيًّا واقتصاديًّا في البلدان المتقدمة، فإن الحمى الغددية نجدها أوسع ما تكون انتشارًا في الفئات ذات المستوى الاقتصادي والاجتماعي المرتفع في بلدان العالم المتقدمة. وفي تلك الظروف، نجدها شائعة للغاية في أوساط تلاميذ المدارس الثانوية وطلبة الجامعة، حيث تشير تقديرات إحدى الدراسات التي أجريت في المملكة المتحدة إلى أنها تصيب ما يقرب من ١ من كل ١٠٠٠ طالب جامعي سنويًّا.

يصيب إبشتاين-بار بعدواه الخلايا البائية المناعية بالدم ويجد مكمنه بداخلها، وربما لأن تلك الخلايا نفسها تمثل جزءًا من جهاز المناعة، فإن العدوى تستحث استجابة مناعية مبالغًا فيها من الخلايا التائية. والحقيقة أن أعراض الحمى الغددية، التي تشتمل عادةً على احتقان الزور، والحمى، وتضخم غدد الرقبة، والإعياء، ذات طبيعة مرضية مناعية، يتسبب فيها هذا الانسكاب الهائل للخلايا التائية أكثر من كونها بسبب العدوى الفيروسية ذاتها على نحو مباشر. ومع أن المرض عادةً ما يزول على مدى ١٠ إلى ١٤ يومًا، فإن الإعياء قد يستمر مدة تصل إلى ستة شهور، وقد يتسبب أحيانًا في اضطراب شديد للغاية في أسلوب حياة من يعاني منه.

في مناسبات نادرة، يتسبب إبشتاين-بار في تكون أورام (انظر الفصل الثامن) كما أُشيرَ أيضًا إلى أنه السبب في العديد من الأمراض الأخرى، وبخاصة أمراض المناعة الذاتية مثل التهاب المفاصل الروماتويدي (الروماتويد) والتصلب المتعدد (انظر الفصل التاسع).

عائلة الفيروسات القهقرية

تصيب الفيروسات القهقرية مجموعة واسعة من أنواع الحيوانات، وغالبًا ما تلعب دور الراكب الصامت، لكنها في بعض الأحيان تتسبب في نقص المناعة، أو اللوكيميا، أو الأورام المصمتة. هناك العديد من الفيروسات القهقرية التي تتسبب في نقص المناعة لدى البشر، وجميعها مكتسبة من الرئيسيات. واليوم صارت فيروسات نقص المناعة البشرية هذه هي الفيروسات القهقرية الوحيدة غير المكونة للأورام التي تتسبب في المرض لدى البشر، غير أن هناك أدلة محيرة تشير إلى أن البشر البدائيين القدامى ربما كانوا فرائس للعديد من الفيروسات الأخرى. وتأتي الأدلة على تلك النظرية من عدد كبير من بقايا الفيروسات القهقرية التي أمكن التعرف عليها داخل الجينوم البشري، ولكن كيف ومتى وصلت إلى هناك، ولماذا ظلت هناك، كل هذه التساؤلات لا تزال تمثل لغزًا غامضًا. لعل أجدادنا الأوائل نجوا من هجوم ضارٍ لتلك الأنواع من العدوى بتطوير المقاومة المضادة لها في حين أن من لم يتمكنوا من ذلك ببساطة لقوا حتفهم.

ولا تقتصر فيروسات نقص المناعة البشرية فقط على النوع إتش آي ڤي-١ المجموعة إم، وهي السلالة المسببة لوباء الإيدز، وإنما تشمل أيضًا سلالات «إن» و«أو» و«بي» وإتش آي ڤي-٢. ونحن نعلم الآن أن جميع تلك الفيروسات انتقلت مؤخرًا من الرئيسيات إلى الإنسان في أفريقيا، وأنه من المحتمل أن عمليات الانتقال تلك حدثت من حين إلى آخر عبر تاريخنا، لكنها ظلت غير ملحوظة لأنها لم تتجاوز في انتشارها منطقة تواجدها المباشر. وكان الحدث الفريد الممثل في انتشار المجموعة إم من الفيروس من أفريقيا إلى هايتي ومنها إلى الولايات المتحدة في ستينيات القرن العشرين هو الذي عجل بأول وصف لمرض الإيدز عام ١٩٨٠ وعزل الفيروس عام ١٩٨٣.

أما فيروس إتش آي ڤي-٢ المكتشف عام ١٩٨٦، فلا يتطابق مع النوع إتش آي ڤي-١ إلا في ٤٠٪ من الخصائص ومنشؤه مختلف تمامًا، حيث اكتسب من قرد مانجابي الأسخم الذي يعيش في غرب أفريقيا. ومع أن هذا الفيروس ينتشر بنفس الطريقة، ويصيب بعدواه نفس أنواع الخلايا التي يصيبها النوع إتش آي ڤي-١، كما يتسبب كذلك في مرض الإيدز، فإنه أقل قدرة على الانتقال كعدوى من النوع إتش آي ڤي-١ وقد ظل نوعًا محليًّا مقتصرًا على منطقة غرب أفريقيا دون غيرها.

فيروس نقص المناعة البشري-١ ومرض الإيدز

لما كان فيروس المناعة البشري-١ (إتش آي ڤي-١) لم يصب البشر إلا منذ وقت قريب، لذا نجدهم يفتقرون إلى المقاومة الوراثية للفيروس، ومن ثم تنتهي فعلًا كل حالة عدوى لا يتلقى صاحبها العلاج بوفاته بمرض الإيدز. فقط بعض الأفراد المحظوظين هم الذين يقاومون العدوى، وقد ناقشنا هذه الآلية في الفصل الثالث. كما نوقش في موضع سابق أيضًا جوانب أخرى من فيروس إتش آي ڤي-١: بيولوجية الفيروس القهقري واستخدام مستقبل فيروس نقص المناعة البشري بالفصل الأول، ومنشأ فيروس نقص المناعة البشري من الشمبانزي وتوقيت انتقاله إلى البشر، وانتشاره لاحقًا، واكتشافه في نهاية الأمر وذلك في الفصل الرابع. وفي هذا الفصل الذي بين أيدينا، نركز على عواقب العدوى بفيروس إتش آي ڤي-١ ونشوء مرض الإيدز.

مع أن الإيدز وُصِف لأول مرة لدى رجل شاذ، وبعدها بفترة قصيرة وُجِد أن مستخدمي الحقن من مدمني المخدرات وكذا مرضى الهيموفيليا مهددون بالخطر، فإن الفيروس ينتقل على مستوى العالم وبصفة أساسية عن طريق الجنس السوي بين رجل وامرأة. ويوجد الآن ٣٣ مليون شخص يعيشون حاملين لفيروس نقص المناعة البشري، مع ظهور حوالي ٢٫٧ مليون حالة عدوى جديدة، و٢ مليون حالة وفاة سنويًّا. لقد غزا هذا الفيروس بالفعل كل بلاد العالم، غير أن تأثيره البشع نجده في البلدان النامية؛ فيوجد ٢٢ مليون شخص يعيشون حاملين لفيروس نقص المناعة البشري في أفريقيا السوداء. ولكن حتى تلك الأرقام المفزعة لا تعكس بدقة مأساة البلدان الأفريقية صاحبة أكبر أرقام الإصابات بالمرض التي انخفض فيها العمر المتوقع للمواطن إلى ما دون الأربعين عامًا نتيجة لحالات وفيات بالجملة لأناس كانوا فيما مضى يتمتعون بالصحة والإنتاجية، مما خلق تراجعًا اقتصاديًّا حادًّا، وخلف فقرًا مدقعًا، بجانب ما يقرب من ١٥ مليون يتيم مصاب بالإيدز.

يصيب فيروس نقص المناعة البشري الخلايا الحاملة للواسمة سي دي ٤، وهي بصفة رئيسية الخلايا التائية المساعدة والخلايا الملتهمة الكبيرة للأنسجة. وتحدث العدوى الفيروسية عن طريق الاتصال بدم حامل الفيروس أو إفرازاته التناسلية، ويكون ذلك عادةً عبر تمزق أو سحج بالبطانة الطلائية للقناة التناسلية، أو بصورة شائعة، قرحة مفتوحة تسببت فيها عدوى أخرى تنتقل عن طريق الجنس مثل فيروس الهيربس البسيط، أو المكورات البنية، أو الزهري. ولدى دخوله الجسم يستهدف الفيروس في البداية خلايا لانجرهانز، وهي فئة فرعية من الخلايا الملتهمة الكبيرة التي تمشط بدورياتها الجلد والأسطح الطلائية، ومن بينها القناة التناسلية. ثم تحمل تلك الخلايا بعد ذلك الفيروس إلى الغدد الليمفاوية الموضعية، حيث تتجمع بالفعل الملايين من خلايا سي دي ٤ التائية لتحصل على قسط من الراحة من الدوران مع تيار الدم. إن العدوى التي تنتقل لتلك الخلايا طويلة العمر لا تعمل فحسب على نشر الفيروس في جميع أنحاء الجسم، وإنما توفر للفيروس أيضًا مكانًا للوجود المستمر، حيث يتكامل الجينوم الفيروسي المبدئي مع دي إن إيه تلك الخلايا.

ينقسم المسار الإكلينيكي لعدوى فيروس نقص المناعة البشري عادةً إلى ثلاث مراحل: الطور الحاد، والطور الخالي من الأعراض، وطور الأعراض، وذلك الأخير هو الذي يظهر في صورة مرض الإيدز (شكل ٦-١). المصابون بعدوى فيروس نقص المناعة البشري غالبًا ما يعانون من مرض أولي يعرف باسم متلازمة الفيروس القهقري الحادة بعد العدوى بفترة تتراوح بين أسبوع وستة أسابيع. وهو توعك غير محدد إلى حد ما مصحوب بحمى، واحتقان بالزور، وتورم بالغدد، وطفح وأوجاع وآلام بعموم الجسم وعادةً ما يستمر مدة تصل إلى ١٤ يومًا يتبعها شفاء كامل.
fig13
شكل ٦-١: رسم بياني يوضح تعداد سي دي ٤ والشحنة الفيروسية أثناء كل من الطور الحاد والخالي من الأعراض وطور الأعراض من عدوى بفيروس نقص المناعة البشري.1

يتكاثر الفيروس في البداية بحرية داخل الخلايا التائية الحاملة للمستقبل سي دي ٤، مدمرًا أكثر من ٣٠ مليون خلية كل يوم. وترتفع مستويات الفيروس في الدم (وتسمى الشحنة الفيروسية) إلى ذروتها خلال الأسابيع القليلة الأولى، وبعدها تبدأ الاستجابة المناعية في التدخل، مسيطرة على الفيروس وإن كانت لا تستطيع التخلص منه تمامًا. بعدها تنخفض الشحنة الفيروسية وفي غضون ستة أشهر تصبح مستقرة بصفة عامة عند مستوى «نقطة محددة»، ويعتمد ارتفاعها على قوة الاستجابة المناعية وتكتسب أهميتها من إمكانية التنبؤ بالمسار التالي للمرض؛ فكلما ارتفعت النقطة المحددة، كان تفاقم مرض الإيدز أسرع.

لدى شخص لم يعالج، يستمر الطور الخالي من الأعراض لعدوى فيروس نقص المناعة البشري بين ستة أعوام وخمسة عشر عامًا حسب النقطة الفيروسية المحددة، ومع أن حاملي الفيروس في هذا الطور يتمتعون بصحة طيبة إجمالًا، فإن الفيروس يستمر في معركته مع جهاز المناعة، مسببًا تلفًا تراكميًّا. في بداية العدوى يكون جينوم فيروس نقص المناعة البشري داخل الخلايا المصابة ذا تتابع جيني موحد إلى حد ما، لكنه كلما تكاثر عدده، زاد عدد ما يطرحه من فيروسات متحورة بعضها يمكنه الإفلات من الاستجابة المناعية، ومع ازدهار أحوال تلك الفيروسات المتحورة، ينشأ سباق تسلح بين الخلايا التائية المناعية والأجسام المضادة، من ناحية، وبين سلسلة من الفيروسات المتحورة المراوغة للمناعة من ناحية أخرى. خلايا سي دي ٤ التائية محورية بالنسبة للاستجابة المناعية المتطورة باستمرار، غير أن فيروس نقص المناعة البشري يتكاثر داخل تلك الخلايا ويدمرها بمعدل لا يمكن للجسم مجاراته. وفي نهاية المطاف، يجف خط إنتاج خلايا سي دي ٤ وتنخفض أعدادها. وبدون تناول عقاقير مضادة للفيروسات من أجل مقاومة تكاثر الفيروس، تصير قدرة الجسم على تجديد خلايا سي دي ٤ في نهاية الأمر منهكة، حتى إنه عندما ينخفض المستوى إلى ما دون الحد الأدنى الحرج وهو ٢٠٠ خلية سي دي ٤ لكل ملليلتر دم، تعجز المناعة عن مقاومة الميكروبات الأخرى المسببة للأمراض فتنتهز تلك الميكروبات الفرصة كي تغزو الجسم.

ومن الأدلة التي تشير إلى انخفاض المناعة والبداية الواضحة لطور الأعراض من عدوى فيروس نقص المناعة البشري أو مرض الإيدز، فقدان الوزن، والتصبب عرقًا بالليل، وتكرار العدوى الصدرية، والعلل الجلدية مثل الثآليل وقرح الفم والعدوى الميكروبية مثل القلاع والتهاب الزور. بعدها يعقب تلك الحالات هجوم ضارٍ لا هوادة فيه لما لا يعد ولا يحصى من أشكال العدوى الانتهازية، من بينها تجدد نشاط الميكروبات المستديمة مثل الفيروس المضخم للخلايا، وفيروس الهيربس البسيط، والفيروس النطاقي الحماقي، وميكروب الدرن، وكذلك الأورام التي تتسبب فيها فيروسات الورم الحليمي البشري وفيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي، وإبشتاين-بار. ومن السمات المميزة لمرض الإيدز العدوى بميكروبات لا تمثل أي مشكلة لأناس يتمتعون بأجهزة مناعية سليمة، مثال ذلك الالتهاب الرئوي الذي يتسبب فيه ميكروب درن الطيور أو فطر «المُتَكَيِّسَة الرِّئَوِيَّة الجُؤْجُؤِيَّة» «نيوموسيستك جيروفيتشاي» (وكان اسمه فيما مضى بي كاريناي)، وهذا الأخير قدم مفتاح التعرف على الإيدز باعتباره مرضًا جديدًا عام ١٩٨٠.

كذلك من الشائع ظهور أعراض مرتبطة بالجهاز العصبي المركزي في مرض الإيدز، أثناء غزو الفيروس للمخ في مرحلة مبكرة من المرض، حيث يصيب الخلايا بعدواه ويفتك بها، مسببًا تغيرات تآكلية متفاقمة تؤدي إلى الاعتلال الدماغي والعته المصاحبين للإيدز. إضافة لذلك، قد يتسبب فيروسا المضخم للخلايا وفيروس آخر شديد الشيوع ومستديم، وبصفة عامة لا يسبب أعراضًا اسمه «جيه سي» (وهما الحرفان الأوليان من اسم المريض الذي عزل منه الفيروس لأول مرة) في مرض تآكلي متنامٍ للمخ لدى ضحايا الإيدز.

لا مهرب من الموت من جراء الإصابة بواحد من تلك الأنواع من العدوى، وغالبًا ما يكون ذلك في غضون بضعة أشهر. ولحسن الحظ، حَوَّل العلاج المضاد للفيروس القهقري اليوم هذه الصورة القاتمة لعدوى فيروس نقص المناعة البشري إلى مرض مزمن قابل للعلاج، غير أن هذا العلاج لا يخلو من مشاكل، كما أنه لا يزال هناك الملايين من ضحايا فيروس نقص المناعة البشري في بلدان العالم النامي الذين لا يملكون القدرة على الحصول على تلك العقاقير المنقذة لحياتهم التي سوف نتناولها بالمناقشة في الفصل الثامن.

فيروسات الالتهاب الكبدي

هناك مجموعة متنوعة من الفيروسات التي يمكنها أن تتسبب في الالتهاب الكبدي كما أن هناك كيماويات سامة كالكحول وعقار الباراسيتامول التي يمكنها فعل الشيء نفسه. إن الكبد عضو هائل الحجم به وفرة من القدرة الاحتياطية، لهذا فإن التهابًا بسيطًا به غالبًا ما يمر مرور الكرام دون أن يلحظه أحد. والإشارة الرئيسية الدالة على حدوث تلف أشد وطأة حدوث اصطباغ أصفر اللون للجلد يعرف باسم الصفراء، وأكثر منطقة يلاحظ فيها هي بياض العينين.

يمكن للعديد من الفيروسات، من بينها إبشتاين-بار والهيربس البسيط أن تتسبب في الالتهاب الكبدي كجزء من عدوى عامة. لكن هناك فيروسات أخرى يعد الكبد بالنسبة لها الموقع الرئيسي للتكاثر، مما يدفعنا لجمعها معًا تحت اسم «فيروسات الالتهاب الكبدي» بالرغم من انتماء كل منها لعائلة مختلفة عن الأخرى. وحتى يومنا هذا، اكتشفت خمسة فيروسات للالتهاب الكبدي الذي يصيب البشر وهي أ وب وج (الشهير باسم «سي») ود وﻫ. كل تلك الفيروسات باستثناء النوع د إما تصيب بعدوى صامتة أو تحدث التهابًا كبديًّا ذا أعراض إكلينيكية تتباين في شدتها من طفيفة وتزول من تلقاء نفسها إلى متوهجة، بمعنى فشل كبدي حاد يقضي عادةً على المريض ما لم تُجرَ له عملية زرع كبد على نحو طارئ.

ينتشر فيروسا الالتهاب الكبدي أ وﻫ بالطريق الشرجي الفموي مسببين لأوبئة «الصفراء المعدية»، وفي الأماكن التي تنخفض فيها معايير الصحة العامة يصاب معظم الأطفال بالعدوى في سن مبكرة. ومع أن فترة المرض قد تكون طويلة، فإن الشفاء منها هو القاعدة، ولا تمكث الفيروسات بعدها في الجسم. وبالمقابل، قد يظل الفيروسان ب وسي ماكثين بعد العدوى الأولى، وقد يؤدي ذلك إلى التهاب كبدي مزمن، وتليف، وسرطان كبد. ويعد النوع د من فيروسات الالتهاب الكبدي، ويسمى أيضًا دلتا، فريدًا في نوعه من بين الفيروسات البشرية في كونه معيبًا فهو في حاجة لمعونة من النوع ب كي ينتقل. وتتكون جسيمات الفيروس دلتا تحديدًا من جينوم آر إن إيه يحيط به بروتينه الخاص غير أنه مغلف داخل مستضد سطح فيروس ب الذي يؤدي دور مستقبله كي يتمكن من الدخول إلى الخلايا الكبدية والخروج منها، إذن هذا الفيروس لا يمكنه التكاثر سوى داخل الخلايا المصابة بالفعل بعدوى الفيروس ب التي تقوم بتصنيع المستضد السطحي للفيروس ب، ويمكن للفيروس دلتا الانتقال جنبًا إلى جنب مع الفيروس ب أو ربما يصيب بعدواه حامل الفيروس ب، وفي كلتا الحالتين فإنه يميل نحو مفاقمة حالة العدوى بزيادته لحجم التلف الكبدي وتعجيله ببدء المعاناة من المرض الكبدي المزمن.

ينتشر فيروس الالتهاب الكبدي سي بصورة أساسية عن طريق تلوث الدم. بمجرد استبعاد عمليات التحاليل الروتينية للدم المتبرع به لأغلب الوحدات المصابة بفيروس ب في السبعينيات، صار الفيروس سي أكثر أسباب الالتهاب الكبدي الفيروسي الذي يظهر بعد نقل الدم شيوعًا. غير أنه في أعقاب اكتشافه عام ١٩٨٩، عندما بات يُجرى مسح للدم ومشتقاته بحثًا عن فيروس سي، صار أكثر طرق الانتقال شيوعًا الاشتراك في إبرة حقن واحدة من قبل متعاطي المخدرات عن طريق الوريد. حوالي ١٠٪ من الأمهات الحاملات للفيروس يمررن الفيروس إلى أطفالهن حديثي الولادة، غير أنه يعتقد أن الإقامة في منزل واحد مع المصاب أو الاتصال الجنسي معه لا يشكلان خطرًا كبيرًا.

يوجد في الوقت الحاضر ١٧٠ مليون شخص في جميع أنحاء العالم مصابين بفيروس الالتهاب الكبدي سي. وتحدث العدوى في جميع أنحاء العالم لكنها تبدي تباينًا جغرافيًّا ملحوظًا، حيث نجد أن ١-٢٪ من سكان الولايات المتحدة، وشمال أوروبا، وأستراليا مصابون به، ونجد معدلاته في جنوب ووسط أوروبا واليابان وأجزاء من الشرق الأوسط (انظر شكل ٦-٢) تصل إلى ٥٪. وقد سجل أعلى معدلات الإصابة به التي بلغت ما يقرب من ٢٠٪ في مصر، حيث تسبب برنامج العلاج من مرض البلهارسيا الطفيلي في الستينيات دون قصد في نشر الفيروس عن طريق استخدام إبر حقن غير معقمة.
fig14
شكل ٦-٢: خريطة العالم وتوضح حجم انتشار العدوى بفيروسي الالتهاب الكبدي ب وسي.2

حوالي الربع فقط ممن يصابون بعدوى فيروس سي الأولية يصابون بالتهاب كبدي مصحوب بأعراضه، ولكن سواء أكانت العدوى مصحوبة بأعراض أم لا فإن حوالي ٨٠٪ من حالات الالتهاب الكبدي بفيروس سي تتطور إلى الطور المزمن.

ويملك فيروس سي العديد من السبل التي يراوغ بها مناعة الجسم. فباعتباره فيروسًا من نوع آر إن إيه، مثله مثل فيروس نقص المناعة البشري، فإنه يتحور سريعًا وهذا الأمر مجتمعًا مع معدله شديد الارتفاع في التكاثر، يولد مصفوفة كاملة من التنويعات الجينية الطفيفة، تسمى أشباه أنواع، داخل الفرد الواحد. وتتحايل بعض من تلك التنويعات حتى تفلت من الخلايا التائية المناعية والأجسام المضادة التي تخلَّق خصيصًا لمقاومة الفيروس، ومن ثم تزدهر أحوال تلك الطفرات إلى أن تتمكن الاستجابة المناعية من التقاطها. بعدها يبرز في المشهد نوع فيروسي آخر، ويتواصل هذا التطور المدفوع بالمناعة حتى يحبط مناعة العائل إلى ما لا نهاية.

كذلك يراوغ فيروس سي مناعة العائل عن طريق حجب الآليات المضادة للفيروسات داخل الخلايا المصابة، فيمنع إنتاج السيتوكينات مثل الإنترفيرون التي لولا ذلك لخفضت من مستوى انتشاره داخل الكبد. كذلك يستحث الفيروس الخلايا التائية التنظيمية التي من المفارقة أنها تثبط المناعة المضادة لفيروس سي. وقد اتضحت أهمية ذلك عندما وجد أنه أثناء العدوى الأولية بفيروس سي، يعكس ارتفاع هذه الاستجابة النتيجة النهائية: فأولئك الذين لديهم نسبة مرتفعة من الخلايا التائية التنظيمية يكون لديهم شحنة فيروسية أعلى ويرجح لهم أكثر من غيرهم تفاقم العدوى لتصبح مستديمة عن أولئك الذين لديهم نسب منخفضة من نفس تلك الخلايا.

ليس من الواضح أمامنا إن كان تلف الكبد بسبب عدوى فيروس سي يعود مباشرةً إلى تكاثر الفيروس داخل خلايا الكبد أم إلى الاعتلال المناعي، ولكن أيًّا كانت الآلية، هناك إشارات دالة على استمرار التلف الكبدي لدى جميع حاملي فيروس سي المزمنين، وكثير منهم لا يدري أنه مصاب بالعدوى، ويتفاقم هذا إلى التهاب كبدي نشط مزمن و/أو تليف في نسبة تصل إلى ٧٠٪ من الحالات. ويمكن للعلاج المكثف المضاد للفيروسات أن يجلي الفيروس في بعض الحالات، ولكن هذا الأمر باهظ التكلفة ولا يقدر على تكلفته سوى هيئات الخدمات الصحية في البلدان المتقدمة (انظر الفصل الثامن).

لا يوجد لقاح متوفر للوقاية من العدوى بفيروس سي، ولما كان ٣٪ من تعداد سكان العالم حاليًّا مصابين بالعدوى، فقد صار هذا الفيروس في الوقت الحاضر أكثر أسباب الفشل الكبدي شيوعًا وأكثر دواعي زراعة الكبد انتشارًا في العالم الغربي. كذلك ترتبط عدوى فيروس سي المزمنة بنشوء سرطان الكبد (انظر الفصل السابع)، وفي البلدان التي انخفضت فيها معدلات انتشار فيروس ب الكبدي نتيجة لعمليات مسح دم المتبرعين بالدم ثم ما تلاها من برامج التطعيم، يعد فيروس سي الكبدي الآن أكبر عوامل الخطر التي تصيب المرضى بذلك الورم.

اكتشف فيروس الالتهاب الكبدي ب بالمصادفة عام ١٩٦٤ في دماء أحد الأستراليين من سكان البلاد الأصليين وتبين أنه السبب الرئيسي في التهاب كبدي مرتبط بنقل الدم. والفيروس شديد العدوى ولدى حامليه شحنات فيروسية عالية في دمائهم وفي سوائل أجسامهم. وهو ينتشر عن طريق الاتصال اللصيق، ولا سيما ممارسة الجنس، ومن الأم إلى طفلها، وكذلك عن طريق تلوث الأجهزة الطبية بالدم، ومثاقيب حفر الأسنان، والإبر المستخدمة في الحقن والأدوات المنزلية مثل شفرات الحلاقة وفرش الأسنان وعن طريق عمل الوشم والأقراط التي تعلق بالجسم عن طريق ثقب الجلد، والإبر الصينية. أما مدمنو المخدرات والشواذ، فهم معرضون بصفة خاصة للعدوى بسهولة.

يحمل ما يقرب من ٣٥٠ مليون شخص حول العالم فيروس الالتهاب الكبدي ب، وهناك عدد أكبر من ذلك يبدون دلائل تشير إلى سابق إصابتهم بالعدوى. ويتباين معدل الانتشار جغرافيًّا حيث نجد منطقتي جنوب شرق آسيا وأفريقيا السوداء صاحبتي أعلى المعدلات (شكل ٦-٢).

مثلها مثل باقي أنواع عدوى فيروس الالتهاب الكبدي، عادةً ما تكون العدوى بفيروس ب صامتة، ومعظم الأصحاء البالغين تطرد أجسامهم الفيروس في غضون ستة أشهر. فقط ١-٢٪ من الحالات بين الكبار تؤدي إلى استدامة الفيروس طيلة حياة الإنسان، وقد يؤدي ذلك إلى تلف الكبد، والتليف و/أو السرطان في مرحلة لاحقة من العمر. وتكون معظم حالات العدوى المستديمة ناتجة عن الإصابة بالعدوى في مرحلة مبكرة من العمر، وبخاصة عندما تنقله الأم الحاملة للفيروس في دمائها إلى طفلها وقت الولادة. ونتيجة لعدم نضج جهاز المناعة، فإن أكثر من ٩٠٪ من تلك الحالات التي تحدث فيها العدوى عند الولادة تصبح مستديمة إلا إذا تلقت علاجًا فوريًّا وقت الولادة. ومع وجود ما يزيد على ١٠ ملايين نسخة من دي إن إيه الفيروس في كل ملليلتر من الدم، فإن انتشاره بين الأطفال الآخرين يصبح أمرًا عاديًّا.

انخفضت مستويات عدوى فيروس ب في أعقاب عمليات مسح الدم ومشتقاته، وعندما أدخل اللقاح عام ١٩٨٢ نجح في كسر حلقة الانتقال من الأم لطفلها في بلدان كان هذا هو الطريق الرئيسي بها لانتقال العدوى. غير أن فيروس الالتهاب الكبدي ب لا يزال يمثل مشكلة كبرى عالميًّا لأن كثيرين من حاملي العدوى لا يعلمون أنهم مصابون إلى أن يبدءوا في المعاناة من عواقب مميتة. والآن وبعد ظهور وسائل فعالة لمكافحة العدوى باستخدام العقاقير المضادة للفيروسات (انظر الفصل الثامن)، أصبح هناك ما يدعو لإجراء مسح لكل أولئك الواقعين ضمن الفئات المهددة بالخطر. ومن شأن هذا أن يتيح التعرف المبكر على حاملي الفيروس وتقديم العلاج لهم وكذا وقاية من يتبين أنه غير مصاب بعدوى الفيروس عن طريق التطعيم.

الفيروسات المستديمة طفيليات بارعة في التكيف ونمط حياتها متوازن بطريقة معقدة مع أسلوب حياة عائلها. فمعظمهم يحافظ على وجوده بشكل حميد طيلة حياة العائل، ولكن في حالات قليلة يضطرب هذا التوازن ويتبع ذلك ظهور المرض الذي قد يصل إلى الإصابة بالسرطان. وفي الفصل التالي، سوف نبحث في الآليات التي تقف وراء نشوء السرطان المرتبط بالفيروسات.

هوامش

(1) From A. Mindel and M. TenantFlowers, ‘Natural History and Management of early HIV infection’, ABC of Aids (2001), with permission from BMJ Publishing Group Ltd.
(2) Cancer Research UK, http://info.cancer-research.org/cancerstats. Source: WHO.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤