الفصل الرابع

ملكة جمال سلافونسكي برود

في الأسابيع التالية لم أسمع أي خبر تقريبًا من كليهما، ولأن عددًا متزايدًا من مُحرِّري الصحيفة تَغَيَّبَ عن العمل بسبب موجة إنفلونزا اجتاحتهم، كنت مشغولًا جدًّا ولم أتصل أنا أيضًا بهما. استأجرَا معًا شقة في حي شلانكريه، وبعد أن أخبراني بحفلة تدشين الشقة، علمتُ بإلغائها قبل إقامتها بقليل، هكذا من دون ذكر أسباب. أنا أيضًا انتقلتُ إلى مسكن جديد وتركتُ حي ألتونا إلى حي سانت باولي، فدعوتُهما لزيارتي، وطيلة الأمسية كانَا يجلسان متلاصقين على المرتبة التي لم أفردها بعد، من دون أن يتوقفا عن أكل «العيدان المملحة» وكأنهما على وشك الموت جوعًا. لم يستطيعا أن يفهما أنني تخلصت من أثاثي فيما عدا طاولةً ومقعدًا، وحتى الكتب لم أرد أن أَصُفَّهَا، بل قمتُ بتخزينها في صناديق من الكرتون في القبو، ولم أتخيل أنني سأخرجها من هناك يومًا. كانت تلك هي المرة الأولى التي يظهران فيها أمامي كثنائي ذي مستقبل جدي، وهو ما بدَا من الطريقة التي أَمسكَ بها يدها؛ لذا كنتُ سأصدق على الفور لو أخبراني بموعد حفل الزفاف. لكن الخطة الوحيدة التي باحَا بها إليَّ كانت عزمهما على أن يبدَآ من جديد، وأن يُعَوِّضَا أخيرًا ما فاتهما بسبب الحادثة، وأنهما سيسافران معًا إلى الجنوب في إجازة عيد القيامة.

وعندما زارني باول بعد عدة أيام في قسم التحرير بالصحيفة ظننتُ أن لديه سببًا مُعيَّنًا حمله على المجيء عمدًا في فترة ما قبل الظهر التي أكون فيها متواجدًا. لم يكن قد أخبرني بمجيئه. بدَا قلقًا، وظل واقفًا في المكتب إلى أن دعوته للجلوس، فبالغ في تقديم الشكر لي قبل أن يجلس. كان يرتدي كما في زيارته الأولى إحدى البِدل التي أقنعَتْه هيلينا بشرائها، ويبدو أنه لم يستطع أن يحسم أمره، هل يُزرِّر الزُّرارين العلويين في قميصه أم لا، لذا ظل طيلة الوقت يتلاعب بهما بعصبية.

«كنتُ في المنطقة، فقلتُ لنفسي: لأطل على الجريدة حتى لا ينسوا منظري.»

كان في سلوكه شيء متكَلف؛ إذ إنه على الفور عاد يتحدث عن لقاء ألماير الذي حدث صدفة مع سلافكو، ورغم أنني لم أعد أتذكر ماذا حثَّه على الكلام في هذا الموضوع، فإنني ما زلتُ أعرف جيدًا النتيجة الشاذة التي توصل إليها.

«لعل اللقاء كان بمثابة صدور الحكم بإعدامه.»

كان من الواضح مرة أخرى أنه لم ينطلق من الوقائع، ولكن من النتائج التي يريد الوصول إليها، ليس هذا فحسب، بل كان ذلك يعجبه أيضًا.

«إن مقابلة صحفية أُجريت خلال الحرب مع شخص، قد تبدو مختلفة تمامًا إذا قُرئت بعد مرور عدة سنوات»، أضاف من دون أن يُخفي تهكمه. «ربما كان يشعر أنه من الأفضل له لو لم يثرثر كثيرًا، وكما قد يكون فعل آنذاك.»

لم أتردَّد طويلًا قبل أن أجيب. «ولكن ليس هذا سببًا لقتل إنسان.»

بدَا قولي ساذجًا، وتِبعًا لذلك جاء ردُّ فعله، فرفع حاجبه وثبَّت نظره عليَّ، كأنما ليستمتع بلهجته الساخرة: «سيكون ذلك سببًا مفهومًا لو كانت علاقته بأحد معارفه القدامى متوترة.»

وفجأة بدَا أنه يفكر في شيء آخر تمامًا.

«آمل ألَّا يهرب مني.»

ثم تطلَّع إليَّ طويلًا قبل أن يُضيف شارحًا ما يقصده، وكأنه كان ينتظر مني أن أفعل ذلك: «لن يكون أول من يختفي عن الأنظار.»

لحظتها لم أَعُد متأكدًا من أنه يتحدث عن شخص حقيقي من لحم ودم. وكأنه كان مجبرًا على توريطي في الأمر، وكأن ذلك يعطيه نوعًا من اليقين الذاتي، على الأقل كان هذا انطباعي، وكأنه في بعض الأحيان ليس لديه سبب آخر غير مواصلة الاختلاق، وأن يصبح جزءًا مما يختلقه. ربما أظلمه، لكنني شعرت أنه يعتقد أنه كلما اقتفى آثارًا أكثر فسوف تقوده حتمًا إلى مكان ما، وإذا واصل تَحرُّكه في دائرة فسيزداد تأكده من أن ثمة مركزًا، وأنه — بذهابه وإيابه — سيُوجِد يومًا ما مركزًا.

كان اشتباكًا عبثيًّا: إطلاق تكهنات فارغة لا تفسر شيئًا من جانبه، وشكوك من ناحيتي. وحتى اليوم ليس لديَّ أي فكرة عمَّا كان يريده مني في الحقيقة عندما زارني في ذلك النهار. الأرجح أنه أُصيب بنوبة من نوباته العاطفية، وكان يريد أن يستعيد لقاءاتنا مرة أخرى، وأن نقضي وقتًا معًا، وكأن ذلك من أكثر الأشياء بديهيةً، مثلما كان الحال في الربيع الماضي، لكنني لست متأكدًا من شيء. لم أعرف كيف أقضي الوقت معه، وكنت فرحًا عندما رافقته إلى الباب لدى انصرافه، وإذا أصابت ذاكرتي فقد ألحَّت عليَّ فكرة أن الموضوعات المشترَكة بيننا قليلة، لو لم يكن هناك ألماير بما يقدمه من مادة حديث لا تفرغ.

لا أعرف إذا كان قد لاحظ شيئًا، غير أنني لم أتلقَّ أي اتصال منه إلى أن سافر بالفعل إلى كرواتيا مع هيلينا. لم يستخدم أيًّا من الطُّرق التي ظل يدرسها قبل ذلك طويلًا، وإنما سافر عَبْر إيطاليا. ثمة صورة لهما الْتُقِطَت قبل أن يَستقِلَّا المعدية من أنكونا إلى سبليت، وفيها يَستندان إلى سور حديدي في موقف سيارات، وهي — مرتدية فستانًا أزرق فاتحًا بدون أكمام وفي قدميها شبشب بحر — تضع إحدى ذراعيها حول كتفه؛ صورة أثارت لديَّ في البداية شوقًا مبهمًا، أحسستُ بها كالطعنة في مكان ما بين الضلوع، وشعرتُ بالألم يتصاعد حتى إبطي الأيسر. ربما يرجع ذلك إلى أنني لم أرَ وجهه بمثل هذا الاسترخاء من قبل، نظراته الجسورة إلى حد التهور مُسدَّدة في اتجاه سائق شاحنة طالبًا منه أن يلتقط لهما الصورة التي التقطها الرجل بحسم، ربما يرجع أيضًا إلى أن المساء قد اقترب، وأن الشمس على وشك الغروب، أو إلى الضوء الهارب، على كل حال لم أستطع أن أُحَوِّلَ عيني عنهما، شاعرًا أنني أتلاشَى تدريجيًّا.

بعد كل المعلومات التي وصلتني فلا بُدَّ أنها كانت رحلة غريبة، رحلة في طول البلاد وعرضها خلف آثار ألماير، مع رحلات قصيرة إلى البوسنة أحيانًا أو إلى البحر؛ لا أستطيع سوى أن أهز رأسي إذا فكَّرتُ في البطاقات البريدية وحدها — وقد كانَا كل يوم تقريبًا يرسلان إليَّ واحدة، هو يوقع إلى أقصى اليمين بحرف «ب» مائل، ثم اسمها المكتوب بخط واضح وكبير — ما أبعد المسافات التي توجب عليهما أن يقطعا في بعض الأحيان! كانت البطاقات تحوي في الأغلب المناظر الطبيعية المعتادة: شاطئ فاتن على خليج ساحر إلى درجة مؤلمة، غروب الشمس في إحدى الجزر، مجموعة من المنازل تَقَشَّر طلاؤها تمامًا حتى إنني تساءلتُ لماذا لم يَشتريَا بطاقة أخرى. ربما بطاقتان أو ثلاث اختلفت للوهلة الأولى عن المناظر المعهودة، وهي البطاقات التي كنتُ أتطلع إليها من دون مَلل، لعلهما اختاراها بالصدفة البحتة مثل البطاقات الأخرى: السفينة البيضاء الراسية على رصيف الميناء وعلى مُقدِّمَتها كلمة Proleterka، محطة القطار في زغرب، تمثال القيصر فرانتس يوزف أمام الكاتدرائية في سكراوين، وعلى ظَهر هذه البطاقة كَتب باول بخط لا يكاد يقرأ: «هنا، في هذا المكان حيث يقف جلالته تمامًا، حَفرَت طلقات المَدافع أثناء الحرب حُفرة كبيرة.»

كنتُ أتعجب من وصول البطاقات العديدة، كما تَعجبتُ من أن تلك الجملة كانت هي الوحيدة التي كُتِبَت كاملة، إلى أن وصلتني رسالة كتبها باول من دوبروفنيك. استخدم باول ورق رسائل الفندق، وأدركتُ على الفور أنه يريد أن يُظهر لي أنه نزل في الفندق الملائم، في «أرجنتينا»، أحد الفنادق القليلة في منطقة القتال، وهو فندق ظل مفتوحًا وممارِسًا نشاطه العادي — قدر الإمكان — طوال الفترة التي تعرَّضَت فيها المدينة لقصف استمر أسابيع. وأتذكَّر أنه أشار عمدًا إلى أن ألماير ذكر في إحدى مقالاته أنه أقام هناك، وكنتُ متأكدًا من أنه يأمل في الحصول ربما على الغرفة نفسها، ليرى المنظر نفسه على البحر، وكان ينتظر مني أن أحسده على ذلك.

حسبما ذكر كانت هيلينا قد استغرقت في النوم، بينما جلس هو ليكتب لي، النافذة مفتوحة على سماء ليلية يضيئها بين حين وآخر بَرْق يمرق سريعًا. بدأ كلامه بأنه يسمع أصواتًا آتية من الساحة بالأسفل، عند حمام السباحة، وأنه يعتقد في بعض الأحيان أن صلصلة الأشرعة تصل إليه مع الريح من ميناء اليخوت البعيد جدًّا، ثم يسود الصمت بعد ذلك. أتصوره وهو ينصت ليعرف ما إذا كانت هيلينا تتقلب في فراشها، وبين الحين والآخر يخرج إلى الشرفة ملقيًا نظرة على أضواء المدينة. وصفُه ذكَّرني بكلامه الحماسي عن غرفة في أحد فنادق باريس حيث قضى معها ليلة، وعندما أتى على ذكر المطر أيضًا، شعرتُ مرة أخرى بذلك المزيج من الإقصاء والأمان الذي انتشى به، الشعور بأن عليه أن يحميها وهي راقدة عارية تحت الغطاء، رغم أنه هو نفسه لا يشعر بالأمان إلا في وجودها. تَعجَّبتُ من شعوره المُلِح بضرورة أن يحكي لي كل شيء، ولم أعرف كيف أفهم تعمَّد ذِكر ملابسها الداخلية وأنها ملقاة على الكرسي، وأن كتابًا يستقر على الأرض كانت تقرأ فيه لتَوِّها، ذراعها الممدود، الذي انزاح الغطاء من فوقه، شعرها المفرود على الوسادة؛ ألا يريد أن يتشبث بهذا كله، أن يُشَيِّد عالَمًا يعتصم به من الظلام في الخارج، من الفراغ الذي كاد يبتلعه؟ كان بإمكانه أن يرقد بجانبها، ولكن بدلًا من ذلك جلس هناك، يُسَوِّدُ سطرًا بعد الآخر بخطه. ولا بُدَّ من أنه كان منفعلًا بحق عندما نزل فيما بعد إلى البار وقابَل هناك البارمان الذي كان يُجهِّز المشروبات للزبائن أثناء فترة الحرب. راح البارمان يحكي له الحكايات عن المراقبين الدوليين، بزِيِّهم الرسمي الأبيض المثير للضحك، الذين كانوا يجتمعون في بعض الأحيان على الشُّرفة المطلة على البحر، ليتابعوا — وهم في الزاوية الميتة التي تحميهم من القنابل — ما يجري على مسرح الأحداث عندما ينهمر من التل المنبسط خلفهم وابل من القنابل التي تضيء في الظلام بلون برتقالي، عابرة أسطح المنازل في المدينة القديمة ثم تهبط على الميناء، أو ليسمعوا الموسيقى الجنونية الصادرة عن تَهشُّم قرميد السقف تحت وابل الرصاص، ثم يُسرِعون إلى الغُرَف الخلفية بمجرَّد ظهور زورق حربي في البحر ودخول موظف من الفندق الذي يُفرق شملهم بعبارة: They are shooting, gentlemen, they are shooting.

على النحو الذي تحدَّث به باول، كان واضحًا أنه يعني فوكوفار. لا شك في ذلك. حاولت — عبثًا — أن أُكَوِّنَ صورة عن وصوله مع هيلينا مع مَقْدِم الليل إلى المدينة المدمَّرة ليغادرها في الصباح التالي. لا أعرف لماذا غادراها فجأة هكذا، هل أرادتْ أن تواصل الرحيل فور رؤية المباني التي هدمتها طلقات المدافع في ضوء النهار، والجدران المتآكلة المتداعية التي ربما لم تظهر لها في المساء بهذا المظهر الشبحي، أم لعلها ظلت تُلِحُّ عليه حتى دفعته إلى الرحيل بسبب الشوارع المهجورة التي لم يُنرها ضوء إلا نادرًا، وإشارات المرور المثقوبة بطلقات الرصاص والتي لم يعيدوا تشغيلها حتى الآن رغم مرور كل تلك السنوات. هذه شذرات ما زلت أتذكرها مما حكاه لي فيما بعد، شظايا تكاد توحي بالسريالية: مثلًا المُغنِّي الذي شدَا لهما وحْدَهما بأفضل أغانيه العاطفية الرثة على شُرفة الفندق، شاب يرتدي قميصًا مشجرًا فاقع الألوان مفتوحًا حتى السُّرَّة تقريبًا، وفي الظُّلْمة خلفهما بين الشجر أفواج من المستمعين سرًّا، الثقوب التي خلَّفها الرصاص في أبواب غرف الطابق الأول كله حيث لم يكن ثمة نزيل واحد سواهما، الثقوب التي لصقوا فوقها بصورة مؤقتة قشرة خشب، كل ثُقب يروي قصة خاصة، ثم كيف ظلَّا ساعات وساعات مستيقظين راقدين على الفراش من دون أن يتبادَلا كلمة. حسب زعمه كانت النافذة تطل على الدانوب، ومنها كانا يتفرجان على الشمس التي تظهر من بين الشجيرات على الضفة الأخرى، ثم للحظات تهتز بلون أحمر دموي في الهواء الساخن وكأنها لا تستطيع أن ترتفع بسبب ثقلها، حالة من السكون المرتعش، هذا ما أُفكر فيه منذ ذلك الحين عندما أتذكرهما. ورغم أنهما واصَلَا الرحيل بعد ساعات تاركين المكان وراءهما الذي لم يكن ألماير أول من كتب عنه بلهجة مؤثرة: إن الحياة البشرية هناك أقل قيمةً من بعض الجدران القديمة في دوبروفنيك، وقد يتضور الإنسان جوعًا في هذه البلاد التي ليس لها ذكر على الخريطة من دون أن يعلم الذباب الأزرق طريقه، بينما تثور ثائرة العالَم ويتحدثون جميعًا عن تراث البشرية الثقافي ولؤلؤة البحر الأدرياتيكي بمجرد سقوط طلقات المدافع على شارع سترادون الخالي تمامًا إلا من الدوريات العسكرية الليلية.

ورغم أن باول بالَغ في كلامه مُطلِقًا على الرحلة كلها بتفاخر «رحلة جمْع معلومات»، فإن ذلك لم يكن صحيحًا، ولا يمكن الحديث بأي حال عن جمع معلومات، كما روت لي هيلينا في لقائنا الأول بعد عودتها بقليل. راح يجول في ربوع مناطق القتال السابقة، يتوقف هنا أو هناك، ثم يطلب منها أن توجه لأحد المارة بضعة أسئلة، ولكنه سرعان ما يتخلى عن ذلك بمجرد أن يشيح ذاك برأسه قائلًا إنه لا يعرف شيئًا عن ذلك، أو بمجرد أن يشرع في التباهي. كان باول محمومًا في إلقاء أسئلته، وفي الوقت نفسه لم يكن مهتمًّا اهتمامًا جديًّا بما يفعله. إنني أتخيله وهو يلقي بعبء معظم الأشياء عليها، والقلق يسيطر عليه لأنه لا يعرف عن أي شيء يبحث أصلًا، بينما لم يكد يفتح فمه بكلمة، سواء كان الناس سيفهمونه لو تحدث بالألمانية أم لا. في بعض الأحيان بدَا لها أن الأمر بِرُمَّته لا يعنيه في الحقيقة، وأنه يضع أهدافًا نُصْبَ عينيه كي يواصل التقدم فحسب، وكأنه يهرب من شيء ما، أو أن حالته النفسية في اللحظة الراهنة هي التي كانت تحدد مسار الأمور.

صحيح أنهما استقلَّا العبَّارة إلى هفار، وعرفوا الاسم الحقيقي للمدعو سلافكو، وذلك في الفندق الذي كان يعمل فيه، ولكن عندما سألَا عنه في سلافونسكي برود ولم يكن موجودًا، لم يُرِد باول الانتظار حتى اليوم التالي، وواصل الرحيل على الفور. تَفرَّجَا على مَعالِم فينكوفيتشي، ولكنهما فَعلا ذلك لمجرد أن يعرفا شيئًا عن سَير المَعارك على الجبهة آنذاك، وفي الثكنة العسكرية هناك تركهم يصرفونه وكأنه تلميذ مدرسة، تسلل من المعسكر خائفًا عندما قال له أحد الحراس إنهم لا يحبون أن يروا أحدًا يتشمم ويتصيد الأخبار كالجواسيس، وأنه قد يواجه المتاعب بسبب ذلك. كان هذا هو النموذج المعتاد: هجوم، ولدَى أقل مقاوَمة انسحاب فوري. على هذا النحو طافَا بنصف البلد، ولم يهدأ للحظات على الأقل إلا في مكان ما في عمق إقليم زادار. هناك بدَا كل شيء للوهلة الأولى وكأنه مُرتَّب لإظهار ما حدث أثناء الحرب.

يُدْعى المكان إسلام، وهو مقسم إلى جزئين، إسلام جرتشكي وإسلام لاتينسكي،١ وهو ما لا يمكن أن يكون مُحمَّلًا بالرمز أكثر من ذلك، وكأن هذا المكان الصغير الهادئ وحده مَفْصلُ الديانات الثلاث، وأعرف من هيلينا أي جهد بذله باول كي يلتقط صورتين نُشِرَا فيما بعد بدون أي تعليق في الصحيفة تحت عنوان «انطباعات من دالماتيا». قالت لي: «استغرق الأمر منه وقتًا طويلًا حتى يجد الزاوية التي رآها مناسبة. أما النتيجة فلا يمكن أن تكون أكثر فجاجة ونمطية.»

عندما رأيتُ الصور، تعجَّبْت من إحدى لافتات المكان وفي خلفيتها مَبنًى مدمَّر لن تقوم له قائمة مرَّة أخرى، بينما كانت ثمة لافتة أخرى أمام صف من المباني التي لم تتم بعد والتي توحي ببداية جديدة، وعرفتُ منها أن المسافة بينهما في الحقيقة لم تكن بالطبع بهذا القرب البالغ.

«لو كان خطا بضع خطوات جانبًا قبل أن يلتقط الصورة، لكان باستطاعته بدون صعوبات كبيرة أن يستبدل هذا المنظر بمنظر آخر.»

ما كادت تذكر ذلك، حتى حكت لي كيف وقف مرتكزًا على سطح السيارة في قيظ الظهيرة، موجِّهًا بصره إلى التلال البعيدة، إلى القرية، وجزء من الخليج، وفي الخلفية يرى المرء قمة تل فيلبيت الغائمة، ثم شرع لأول مرة يكتب ملاحظات بجدية. وأضافت: «سَجَّلَ ما كان مكتوبًا على الأطلال. وبدَا أنه يهتم بكل جملة، حتى لو كانت بلا معنى.»

وهذا معناه أنه كان يكتب أي شيء، ولو رأى نصف عبارة ممسوحة، مثلًا «غرفة شاغرة»، بالألمانية بالطبع، على آخر سور ما زال قائمًا وسط كومة أنقاض، على حد تعبيرها المتهكم.

«في بعض الأحيان لم يكن بإمكان المرء أن يُفرِّق بين ما إذا كانت اللافتات كُتبت قبل الحرب أم بعدها، ولكن هذا لا يُغير في الأمر أي شيء.»

لم تستطع أن تقول لي أكثر من ذلك لأنني لم أتمكن في تلك المرة من التحدث معها منفردًا سوى دقائق معدودة. كان أحد معارف باول يتحدث أثناءها معه، وفيما بَعدُ تحدَّث هو طيلة الوقت كالمعتاد. كانت تشعر بالمَلل، إما لأنها سمعت شروحاته قبل ذلك، أو لأنها لم تحب طريقته في الحديث. تصيدتُ نظرتها بين حين وآخَر، وكنتُ أعرف أنها ستحكي لي يومًا ما كل شيء على نحو مختلف تمامًا. لم أعد ألحظ شيئًا من عدم ثقتها بنفسها التي لفتت انتباهي في لقائنا الأول، الخضوع الذي اعتقدت أنني لاحظته، العصبية التي اعترتها وهي تجلس بجانبه من دون أن تعترض على شيء. كان من الواضح الآن أنها تستمتع إذا قاطعته أو إذا تنهدت ولم تقل شيئًا.

بعد عدة أيام رأيتهما مرة أخرى. في تلك الفترة كان عليَّ أن أنوب عن مراسل الصحيفة في برلين، ولذلك كانت برأسي هموم أخرى، كما أنني اعتقدتُ أن الحكاية انتهَت بالنسبة لي على هذا النحو. دعوتهما لزيارتي، لكن الأمر ظلَّ في نطاق التأكيدات الفارغة، وعندما كنتُ أقضي أحيانًا عطلة نهاية الأسبوع في المدينة، لم أكن أتصل بهما. بالمصادفة قابلتهما بعد ذلك، في مقهى «القدس» في «مسرح الغرفة» حيث كانَا يقفان مرتكزين على طاولة البار، واحتجنا إلى لحظات حتى نتجاوز ما اعترانا من ارتباك، إذ إنهما تَصرَّفَا على نحو بارد ومتَكلَّف وكأنما بُوغِتَا. كان يرتدي بدلة، وهي فستانًا طويلًا أسود، وقد صَفَّفت شعرها وشدَّتْه إلى الخلف حتى إن وجنتيها برزت، وكَبُرَت المسافة بينهما إلى حد لم ألاحظه من قبل.

كان عام قد مرَّ على الحادثة في كوسوفو، وهو ما لم أنتبِه إليه لو لم يشرع باول مباشرة في التحدث عن ذلك.

«هل تستطيع أن تتخيل مرور كل هذا الوقت؟»

تَردَّدتُ ولم أعرف هل أومئ أم أهز رأسي، ولكنه كان قد بدأ يحكي أنه اتصل تلفونيًّا بإيزابيلا وعرف منها أن ألماير كان ينوي أن يتجول في ذلك الصيف سيرًا على الأقدام في البوسنة.

«لقد قرأ في الشهور الأخيرة — حسب روايتها — وصفًا لرحلة من أيام العثمانيين، ونوى أن يتبع المسار نفسه»، أضاف من دون أن تفوح من كلامه نبرة تأثُّر. «كان سينطلق من مكان يقع جنوبي كارلوفاتس، ثم يسافر عَبْر سارييفو وفيشيغارد، إلى بريشتنيا مخترقًا شاندزاك.»

استخدامه البديهي لأسماء هذه الأماكن أثار سخريتي، فهو ربما يجهلها مثلي تمامًا، رغم ذلك بذلتُ جهدًا حتى أصغي إليه وأُبْدي اهتمامي. كان يحمل معه قصاصتين من صحيفتين نمساويتين أظهرهما لي، قصيدة كتبَتْها لِيلي بعنوان «حزن»، قصيدة رثائية ذاتية مُؤثِّرة، ذات نبرة غير موفَّقة ومليئة بالوعود الفارغة، ولذلك لم يعلق عليها كثيرًا، ومقالَة على عمودين في ذكرى ألماير، ولأنه ألحَّ عليَّ كي أُلقي نظرة، فقد أسديتُ له هذا الجميل وقرأتُ الأسطُر الأولى، من دون أن أدرك إلى أي شيء يريد الوصول. تطلعتُ إليه متسائلًا ومنتظرًا، وعندما وضع إصبعه على أحد السطور بدأتُ أخمِّن أنه لم يستطع هضم الجملة التي يشير إليها.

كان مكتوبًا بالحرف الواحد أن الطموح الذي يميز ساكني جبال الألب دفع ألماير إلى مغادَرة عُشِّه الجبلي الصغير الواقع على حافة الغابات، ليحط الرحال في هامبورج، مدينة الإعلام، واستطاع في حياته القصيرة أن يغزو كبرى الصحف الألمانية، ورغم أن هذا الكلام كان غبيًّا على نحو مخجل، لم أفهم سبب انفعاله الشديد، اللهم إلا إذا أحس أنه مقصود أيضًا بذلك. عندئذٍ قال: «هذا الكلام يفضح السلوك الشائع هنا، الإساءة إلى لشخص بعد موته وتحقيره لمجرد أنه غادر مسقط رأسه. يبدو أنهم يعتبرون ذلك جريمة، أنه لم يبق في فيينا ليطوف بالصحف وينحني أمام رؤساء التحرير، كما يقتضي طريق العمل الصحفي، ولذلك لا بُدَّ من معاقبته.»

تملَّكه الغضب وهو يتحدث؛ لذا كنتُ سعيدًا بِتدخُّل هيلينا عندما طلبَتْ منه ألَّا يبدأ في الكلام مرة أخرى عن هذا الموضوع. أخذَت القصاصة من يدي ووضعَتْها في حقيبة يدها، ولم تُلقِ إليه بالًا عندما اعترض، بل لمسته على ذراعه وتبادلت الهمسات معه. التفَتتْ إليَّ عندئذٍ قائلةً إنه خرج عن طوره منذ أن عَثر على هذه المقالة. ولأول مرة أنتبه إلى أنها تتكلم عنه بهذه الطريقة، ليس هذا فحسب، بل تتحدث عنه أيضًا وكأنه غير موجود، شيء لم أكن أستطيع أن أتخيله قبل أسابيع، أما الآن فقد بدَا في عيوني وكأنه الدليل الأخير على أن شيئًا ما قد تَغيَّر فيما بينهما منذ رحلتهما الأخيرة.

لا أعرف عن أي شيء تَحدَّثنا غير ذلك، ولكنها كانت هي أيضًا التي قالت إنها ستسافر في النصف الثاني من أغسطس إلى كرواتيا مرة أخرى، وسألَتْني ما إذا كنتُ أحب أن أنضم إليهما. تَطلَّعتْ إليَّ وهي تقول ذلك وأتذكَّر جيدًا نظرة عينيها التعسة عندما راحت تشدني كطفل، وتصرَّفت وكأنها بالفعل تَستَعْطِفنِي. أعقب ذلك اسمي مرة أخرى، منطوقًا بنعومة لدرجة أنني لم أتعرَّف عليه، وبينما رحت أبحث عن حجة أتذرع بها، أَلحَّت هي على باول كي يوافق، ثم تَجاهلَتْه ببساطة عندما لاذ بالصمت.

«الشرط الوحيد أن تَتوقَّفَا عن تصرفات الأطفال»، قالت في النهاية وكأننا اتفقنا. «سوف تتحملان عدة أيام إجازة من دون التحدث عن أحداث فظيعة ووحشية.»

بعد شهرين كانَا يقفان في مطار سبليت لاستقبالي. لم أكن مهتمًّا إلا بها. كانت تُلوِّح لي على شرفة الزائرين عندما هَبطتْ كأول الركاب من الطائرة، ثم اتَّجهتْ إلى مبنى الوصول لاستلام الحقائب. كان يجب عليَّ أن أتماسك حتى لا أتصرف كالأبله وأجري تجاهها بذراعين ممدودتين. لَفَحتْ وجهي الحرارة، ثم التصقَت الحرارة بجسدي مثل شريحة رقيقة، هواء ناعم شَعرتُ فيه آنذاك بالراحة، واعتراني ما يشبه الغيبوبة بعد الهبوط فوق البحر، وربما لذلك، ورغم كل ما انْتوَيتُه، بدأتُ في الثرثرة حتى قبل أن أحييها.

«مَن يصدق أن الحرب كانت دائرة هنا قبل بضعة أعوام.»

قلتُ ذلك رغم أنني رأيتُ بكل وضوح مقاتِلتَين على حافة طريق الهبوط، وكأنهما على استعداد للتحليق في أي وقت. أما هي فَحاولَتْ على الفور كبح جماحي: «أيضًا لن نتحدث عن ذلك.»

لفَّت ذراعيها حول عنقي، وقبَّلَتني على خدي الأيسر والأيمن، كما لم تفعل من قبل أبدًا، ثم ضَحكَت.

«أخشى أنك لن تستطيع التوقف عن ذلك»، قالت عندئذٍ. «رغم كل شيء لم أكن أظن أنك ستبدأ مع أول جملة تنطق بها.»

خلال الرحلة إلى الشمال والتي استمرت نصف ساعة كانت هي التي لم تتوقف عن التحدث باستفاضة عن الطريق، عن خلوِّه بكامله من أي أثر للتدمير، بينما كان باول يجلس صامتًا على مقعد القيادة. بين الحين والآخر كنت أنظر إليه في المرآة، كان يرتدي نظارة شمس، ومن خلالها كان يتطلع إليَّ. كان غريبًا أن أسمع ذلك من فمها هي، ولكنها قالت إن المعارك في المنطقة لم تمتد حتى الساحل، وهو ما وافق عليه بهزة رأس، والمنازل أيضًا لم يصبها ضرر، المنازل التي رأيتُها تهتز في القيظ اللافح وعليها إعلانات بأربع لغات تبحث عن سُيَّاح. كان من الممكن أن تكون هذه المنازل مُشيَّدة في مكان آخر، وعندما كانت تستدير إليَّ واضعةً يدها على كتفه — مشيرةً إلى شيء ما، سواء كان البحر أو مطعم بموائد على حافة الشارع أو أرضية التلال المنبسطة التي تشققت من الجفاف، الشجيرات اليابسة وبينهما الصخور العارية — فلم يكن يُعِير ما تشير إليه أدنى اهتمام. كان مستغرقًا في القيادة تاركًا إياها تحكي ما تشاء، يتخطى السيارات أمامه برعونة، ومرة واحدة توجَّه بالكلام إليَّ مشيرًا إلى ملصق انتخابي من العام الماضي، الصورة التي كادت أن تَصْفَرَّ والتي ظلَّت مُعلَّقة بعد فوات أوانها مُظهِرةً الرئيس المتوفَّى منذ فترة طويلة ومعه طفل، وكما يليق برجل دولة من وزنه، كان وجهه العجوز عَبوسًا، هكذا كاد يبدو في كل الصور التي رأيتها له، ذو ملامح كئيبة أو سفسطائية، تبعًا للزاوية التي ينظر إليه المرء منها.

لا أعرف ماذا تَخيَّلَت هيلينا، ولكننا تَكلَّمْنا بالطبع أثناء الأسبوعين ونصف التي قضيناها عند والديها في كل مرة تقريبًا عن الحرب، إما بشكل مباشر أو أننا تَجنَّبْنا الحديث عن الموضوع على نحو جعل الشعور يلازمني أن والديها إنما ينتظران أن يُسألَا عن الحرب، أو أنهما يريدان تبرير موقفهما. لقد عاش كِلاهما أكثر من ثلاثين عامًا في ألمانيا، ورغم أن حديثهما لم يوضح في بعض الأحيان الفارق بين سبب مغادرتهما ألمانيا وسبب إطلاق الرصاصات الأولى بعد ذلك، فإنني لا أستطيع القول أي الرُّؤيتين كانت صوابًا. سواء تعلَّق الأمر بالشكوى من أن القرى المحيطة قد أُهمَلت على أبشع صورة عَبْر سنوات وعقود، والمدة الطويلة التي انتظروها حتى تصل الكهرباء إليهم، أو الماء الجاري، وكيف أن الشارع المؤدي إلى بيت الوالدين ما زال لم يُسفلت بعد، أو أن الحكومة في بلغراد قد وطَّنت على الساحل أناسًا من صربيا بقروض بخسة، أتصور أن هذه الحكايات كانت تُروى في كل مناسبة، ولم يكونوا هم فقط مَن يرويها، بل لعلها استمدت قوة الإقناع من تكرارها الدائم أكثر من كونها صحيحة.

كان والد هيلينا على وجه الخصوص لا يتوقف عن حَكْي مثل هذه الحكايات، وما زِلت أتذكر كيف سألني وهو يُسدِّد نظرةً جانبيةً إلى باول إذا كنتُ أنا أيضًا أكتبُ عن الحرب، وعندما نفيت، هزَّ رأسه بأُلْفَة غريبة.

«إذن لديك وقت كي تتجول في المكان.»

على ما يبدو كان ينخز باول بكلامه، إلا أنني لم أعرف لماذا قال ذلك، تَطلَّعتُ إليه فحسب، بينما راح هو يعطيني درسًا طويلًا: «أفضل شيء أن تفتح عينيك، وألا تعتمد كثيرًا على ما تَقرؤُه في الكُتب، ربما تعرف عندئذٍ حقيقة الأشياء.»

لم يكن قد مرَّ وقت طويل على وصولنا عندما قال ذلك، وسواء كان يطلق الكلام على عواهنه، أم أنه كان يشير إلى أن لديه معلومات أكثر، فقد ذكر ذلك عَرَضًا، وهذه النبرة العَرَضية احتفظ بها خلال الأيام اللاحقة. بمجرد أن يقابلني وحدي كان يحوم حولي مترددًا قبل أن يجلس معي، ويسألني عمَّا إذا كان يزعجني، ثم يشرع في الحكي. بعد كل ما سمعتُه عنه، كنتُ أتوقع رجلًا آخر، وليس هذا المزيج من التَّحفُّظ والتَّهذُّب الخجول الذي كان يتودَّد به إليَّ، كنتُ أتخيله أكثر تماسكًا، ربما أكثر خشونة، فهو كان يعمل بنَّاءً، كنت أتوقع ثقة وقحة بالذات، أو على الأقل الظهور بمظهر هادئ غير متكلف، أيًّا كان معنى ذلك. ربما يرجع ذلك إلى العينين الكبيرتين المتعبتين خلف النظارة، إلى الشعر الأبيض الشاحب القصير جدًّا، أو الوداعة المفاجئة في صوته، على كل حال كان مظهره يوحي بالتَّردُّد والخوف، وهو ما يلفت النظر من الوهلة الأولى، أما ألمانِيَّته فبَدَت حَذِرة، قليلة المفردات في بعض الأحيان، وحينًا آخر — وتحديدًا بسبب قلة المفردات — كانت تبدو متأمِّلة، لا سيما عندما يبحث طويلًا عن كلمة ثم يقول في النهاية شيئًا آخر تمامًا غير ما كان ينوي.

ورغم أنه لم يكن واضحًا بالنسبة لي لماذا حصلتُ أنا على هذا الشرف، فقد أحببت الجلوس في الصباح معه أمام البيت — باول وهيلينا ما زالا نائمين، وزوجته ذهبت إلى القرية — عندئذٍ كان يحكي لي نادرة بعد الأخرى. غالبًا ما يكون قد سَبَحَ قبل ذلك، ومن غرفتي كنت أتفرج عليه وهو ينثر الماء على جسمه من خرطوم ليزيل آثار الماء المالح، وبعد أن يرتدي ملابسه، يجلس أمامي خلال الساعتين الوحيدتين في النهار اللتين كانت الحرارة فيهما محتملة، كنت أراه شابًّا، سعيدًا على ما يبدو؛ لأنه وجد فيَّ شخصًا يُصغي إليه. اعتاد أن يُعِدَّ القهوة ويضع أمامي بعض ثمار التين، مستمتعًا بالموقف عندما يمر عابرون من أمام البوابة ويُسلِّمون، أو يَتبادلون معه عدة كلمات، جيران عائدون من الشاطئ أو ذاهبون إليه، وينتهزون الفرصة ليثرثروا معه قليلًا. كنتُ أتعجَّب من أنه كان يتوه في حكاياته الكئيبة التي يعود ليرويها بنفس الخفة التي كان يتحدث بها لتوِّه مع جيرانه عن الطقس أو أي شيء آخر لا وزن له.

كان ينتظرني منذ المرة الأولى بأكثر الأشياء غرابةً وكأنه أراد أن يعرف إلى أيِّ حد يمكنه المُضِي معي، وما زلتُ أتذكَّر بدقة أنه لم يكن يحوِّل بصره عني.

«قد تصدقني أو لا تصدقني»، كان يكرر دائمًا موضِّحًا بذلك أنه لن يندهش إذا اصطدم بشكوك لدى مَن يستمع إليه. «ليس لديَّ سبب كي أكذب عليك.»

كان كلامه إجمالًا بمثابة دورة تدريبية سريعة في عبثية كل شيء، لكنني لم أعرف إذا كان بإمكاني التأكد من صحة التفاصيل، عندما تحدَّث عمَّن أسماهم «مناضلي نهاية الأسبوع»، أناس كانوا يعملون من الاثنين إلى الجمعة أعمالًا يمكن وصفها بالعادية، وفي نهاية الأسبوع ينهمكون في النَّهْب والقتل وكأنهم يُمارِسون هواية في وقت الفراغ، آباء طيبون لا يلفتون النظر في شيء، يتسللون إلى أحد المعسكرات كي يُصَفُّوا حسابًا قديمًا؛ أو حديثه عن المهاجمين المُلثَّمِين في القرى المحيطة، وأن من بينهم — حسب ادعائه الذي كرره مرارًا — نساء أيضًا. ما صوَّره كان يدور في فلك هذه الأشياء الغريبة، حكايات عن عجائز تُرِكْن وحدهن بين أطلال ما كان حيًّا سكنيًّا، كن يستدرجن الجنود الغازين إلى المطبخ لاحتساء كأس عرق ثم ينزعن فتيل قنبلة يدوية مُخبأة تحت التنورة. لم أكن أعلن شكوكي إلا بتردد وحَذَر. ذكَّرني كلامه بشدة بالأساطير التي حِيكَت حول الفدائيات المُتوحِّشات من الحرب العالمية الثانية اللاتي كن يستمتعن بمهاجمة الرجال من الخَلْف وذبحهم، ولكن عندما كنت أرفض تصديق حكاياته لم يكن يقول سوى إنني لم أسمع شيئًا بعد. عندئذٍ حكى لي عن الجنود الذين حاصروا منطقة المنحدرات فوق دوبروفنيك، والذين كانوا يكادون يستعطفون المدافعين عن المدينة كي يُطلقوا عليهم النار قليلًا حتى لا يُنقَلوا إلى الجبهة الأخرى الأسوأ بكثير في سلوفينيا؛ أو حكاياته عن الأطراف المُتعادية الذين كانوا يُؤجِّرون لبعضهم البعض الدبابات وكأنهم يستعجلون موتهم، ثم راح في النهاية يحكي عن أكثر الشائعات شذوذًا، الهراء الذي كان ينتشر بعد الرصاصات الأولى، تخاريف لا يصدقها عقل، مثلًا أن القوات النمساوية تحارب في سلوفيينا يدًا في يد مع السكان لتأسيس الرايخ الرابع، فقط لذكر أعظم الشائعات جنونًا، أو أن عقدًا — سريًّا للغاية بالطبع، تبلغ قيمته مليارات — وُقِّعَ مع الألمان لطرد آخر الصرب من كرواتيا طردًا لا عودة بعده، ثم توطين مئات الآلاف من العمال الراغبين في العودة إلى وطنهم.

عندما كانت زوجته تعود إلى المنزل، كانت تحثه على النهوض قائلة إن عليه ألَّا يُصَدِّع رأسي بأساطيره. هيلينا أيضًا كانت تعتقد أن عليها أن تحُول بيني وبينه، وقالت لي مرة إنه يتبنى آراء متطرفة، وأن عليَّ ألَّا أصدق كلمة واحدة مما يقوله. لم يكن يجدي شيئًا عندما أدافع عنه، وأكاد أقسم أن بعض الأشياء التي يحكيها ليست بعيدة عن التصديق، وأنه كان في المعتاد يعرف إذا كان ما يقوله بعيدًا تمامًا عن المنطق، لكنها أصرت على أنه مليء بالأحقاد والضغائن، وأنه يشعر أنه فقد كل شيء منذ البداية، لا لشيء إلا لأن أباه كانت تنقصه بطاقة عضوية الحزب التي تفتح كل الأبواب المغلقة، وهي التي كانت ستجعله إنسانًا أفضل. لم ينجح أحد — حسبما حكت لي — في أن يطرد من رأسه الفكرة التي عشَّشت بها، وهي أن هجْرته كانت في الحقيقة طردًا وتشريدًا. كانت هيلينا ترى أنه لم يَكفَّ عن اختراع سيرة تراجيدية تصوره منفيًّا؛ لأنه بمرور السنين لم يستطع أن يتأقلم مع فكرة أنه هاجر بمحض إرادته، وأنه تخلى عن حياته، على حد تعبيرها، وهي الشيء الوحيد الذي كان — أو في استطاعته أن — يمتلكه.

«كثيرًا ما تمنيت لو لم يكن ذهب إلى ألمانيا، بل أن يكون ذهب إلى أبعد مكان ممكن»، أضافت عندئذٍ. «زيارة الوطن، على الأقل في الأعياد، كانت تبدو مغرية جدًّا، وهذا تحديدًا ما منعه من أن يبدأ شيئًا آخر بجدية.»

تمشينا معًا في شوارع القرية، وبينما راحت هي تحكي لي أنه فَقَدَ تدريجيًّا السيطرة على حياته، لم أكن أتمنى إلا أن أطيل النظر إليها فحسب، كانت هي تشير يمينًا ويسارًا إلى المنازل الجديدة، يمتلك معظمها عمال مهاجرون، طابقان أو ثلاثة طوابق، في بعض الأحيان مبانٍ تنطق بالتفاخر والتباهي، وكانت هيلينا تعرف على نحو شبه دائم أين يعيش المالك، وكانت تنطق أسماء أماكن في أمريكا أو أستراليا أيضًا، كأننا في لعبة تخمين، ثم راحت تسخر من زوج وزوجته كانَا — حسب كلامها — يديران مطعمًا طوال العام في برلين يدعى «مشويات البلقان»، وفي الصيف، وكأن هذه هي أفضل فكرة خطرت على بالهما، يديران «مشويات برلين» في البلقان.

كانت تلبس الفستان الأزرق الفاتح بدون أكمام، والذي كانت ترتديه في الصورة التي مَسَّت شغاف قلبي. تَحدَّثَتْ بانفعال يكاد يَشي بأنها تعتقد أن الجميع تمكَّن من تحقيق شيء، وأن أباها وحده هو الذي أخفق.

«يبدو أن حالته كانت طيبة طالما أنه كان يثق بأنه يستطيع العودة إلى الوطن في أي وقت يشاء.» واصلت كلامها. «لا بُدَّ من أن الشكوك بدأتْ تراوده عندما لاحَظ أن ذلك بالفعل صحيح، ولكنه إذا دقق في الأمر، فإن المكان الذي يريد العودة إليه لم يَعُد له أية علاقة به.»

ما قالته بعد ذلك لم يكن مفاجئًا.

«كان دائمًا يحلم بمنزله على البحر، وفي الوقت الذي انتهت فيه أعمال البناء، أُصيب لأول مرة في حياته بمرض خطير.»

حدث ذلك قبل الحرب بالتأكيد، وعندما تَحدَّثَت عن حالته النفسية وعن إحالته إلى التقاعد المبكر، وعن تناوله الأدوية منذ ذلك الحين، توقفتُ عن توجيه الأسئلة، غير أنني بدأتُ أنظر إليه على نحو مختلف عندما أراه يعمل في الحديقة، أو عندما يتغير شكل شجيرات حصى اللبان بين عشية وضحاها، الأقماع المسنودة بدقة، المكعبات والكريات التي كان يشذبها كل يوم تقريبًا بمقصه. وفجأة لم أعد قادرًا على تبادُل الحديث معه من دون أن أسمع تعليقها في أذني الذي كان يعمل على توازُن الأمور، وبدأتُ أستمع إليه على نحو مختلف تمامًا، مثلًا عندما يشرع على الفور في سرد الحجج والبراهين لمجرد أن يدافع عن نفسه في أمر ما، أيًّا ما كان هذا الأمر، ولكي يدعم كلامه يستشهد بكل بديهية بما حدث في أقصى قرية في الوطن أو في العالم كله. طالما كانت هيلينا موجودة، لم يكن الأب يتحدث معي مباشرة. كان يطلب منها أن تسألني، أو أن تلفت نظري إلى شيء. وعندما سألتُها بماذا يناديها في كل مرة، بدت مترددة لوهلة ثم قالت «يا ابني»، وأضافت أنه كان دائمًا يناديها هكذا، منذ أن وعت الدنيا، وأنه كان في السابق يمزح أمام الغرباء والأصدقاء قائلًا إنه لم ينجب أطفالًا، لمجرد أنها فتاة.

أثناء النهار كنت أقضي معها وقتًا طويلًا وحدي؛ لأن باول توهَّم أن عليه أن يعمل. وبينما كنا نتمدد على الشاطئ، كان هو يبقى في المنزل ويكتب، أو على الأقل يأخذ الطاولة التي تُطوى ويضعها على الشرفة أمام غرفته، ثم يشرع في التخبيط والنقر على آلته الكاتبة التي يحملها في الأسفار، لدرجة أن كل الجيران كانوا يسمعونه. كنت أحب للغاية قضاء الوقت معها، ورغم ذلك كنت أحسده أحيانًا على ما يفعله، كنت أتمنى أن أجلس أنا هناك، وأن أرسل نظرة لا يقف في طريقها شيء عبْر أسطح المنازل إلى البحر، مُطلقًا لأفكاري، ببساطة، العنان. كانت هذه هي المرات الأولى التي أراها فيها وحدها، بدونه، منذ ما حدث في رأس السنة، ولكنني كنت أشعر بالامتعاض ونحن نحصل على بَركته قبل الذهاب في الضحى، وأن يلوِّح إلينا مودِّعًا عندما نتأهب للرحيل، وأن أجد نفسي مجبرًا عند عودتنا على سماع ما نجح أو لم ينجح في إنجازه خلال غيابنا، وهو جالس في مكانه حافيًا بالشورت تحت المظلة، وكأنه لم يتحرك لحظة واحدة.

لا أعرف ماذا كان يدور في رأسه، ماذا جعله يصنع من نفسه فرجة للجميع، إلا أنني لم أتحدث معه عن ذلك. وفي المرة أو المرتين اللتين اختلينا فيهما في غرفته تجنَّب أن يحدثني عن روايته ولو بكلمة واحدة، وتجاهل أسئلتي عنها، رغم أنني أتذكر أن الأرضية كلها كانت مغطاة بالورق، وأنه — ليفتح الشيش ويُدخِل بعض الضوء — كان يتحرك بين الأوراق وكأنه على لوحة شطرنج. لم أكن أعلم أنه معروف في القرية كلها منذ زيارته الأولى بأنه وسط الحديث مع الناس يُخرج أحيانًا مفكرته ليدوِّن بعض الملاحظات، ولكنني أستطيع أن أتخيل كيف بدَا بحركاته هذه خطيرًا في بعض الأحيان، لا يختلف في ذلك عن عضو إحدى اللجان التي لا تأتي إلا بالشرور. لذلك لم أتعجب عندما سمعت أن سلوكه استفز بشدة عائلة بوسنية لاجئة، كانت قد احتلت منذ الحرب منزلًا يمتلكه صرب شُرِّدوا من المنطقة؛ لأن البوسنيين ظنوا أنه سيطالبهم بشيء. وعندما ظهرت إحدى الجارات بالقرب من باب الحديقة طالبة بلهجة تتراوح بين التهكم والجدية أن يبعدوا عنها هذا المجنون، فهو منذ أن عرف أن لها صلة قرابة بأحد جنرالات الجيش لم يتوقف عن الإلحاح عليها أن تجمعه بالرجل الذي تحوم حوله حكايات مريبة، أو فظائع لا تُصدَّق على أقل تقدير، إذا لم أكن أخلط بين الأمور فقد كانت شائعات تتردد عن مسئوليته عن مذابح ارتُكِبت بالقرب من جوسبيتش. فوجئتُ في البداية عندما رأيتُ ذلك، ثم بدأتُ أفكر فيما يهدف إليه. بالتأكيد كان الجهد الذي يبذله مبالغًا فيه، وأتذكر كيف سأله والد هيلينا ذات مساء إذا كان كل ذلك ضروريًّا بالفعل لكتابه، فكانت النتيجة أن يسمع مرة أخرى حكاية ألماير، فما كان من الأب إلا أن هزَّ رأسه قائلًا في النهاية: «بسبب ميت واحد تُقيم الدينا ولا تقعدها؟ أتعرف عدد الذين ماتوا هنا؟»

انفعاله كان واضحًا.

– «كم في الحرب العالمية الأولى؟ كم في الثانية؟»

لمحت شفته العلوية تهتز، ثم مسح بكلتا يديه على وجهه منتظرًا لحظة قبل أن يواصل كلامه: «وكم الآن؟»

لم يكن هذا هو سوء التفاهم الوحيد بينهما، وربما يرجع موقفه الرافض لمخططاته بشأن السفر إلى كوسوفو لرؤية موقع الحادث إلا أنه ببساطة لم يكن يحب باول. بعد وصولنا بيوم واحد ضحك على الفكرة وسأله عمَّا يتوقعه، وكان في كل مرة يقابل بالمزاح حديثه عن ذلك، وكأنه يتحداه. ثم قال له الأب: فلتفعل ما يلحُّ عليك، ولكنني شخصيًّا لن أسافر إلى آخر الدنيا ولو أعطوني ملايين، ناهيك عن أن أفعل ذلك انطلاقًا من فكرة هي الجنون بعينه.

غير أن باول نفسه لم يَبْدُ عليه الإصرار على القيام بتلك الرحلة. كان من الصعب تَخيُّل أن يتحرك من مكانه، حتى لو كان غالبًا ما يدير دفة الحديث إلى هذا الموضوع بمجرد أن يفتح فمه، مستمتعًا بالحصول على الاهتمام من وراء ذلك. بدَا أنه يكتفي بأن يرينا قصاصة من صحيفة بها صورة تُظهر صليبًا معدنيًّا أحمر على حافة طريق صاعد صعودًا طفيفًا، وكان لا يمل تكرار الجملة نفسها وهو يشير إلى الصورة: «هنا وقع الحادث.»

كان من الممكن أن يكون ذلك في أي مكان: في الخلفية سيارتان جيب، كيس قمامة أزرق فاتح، وقطعة من السماء. وأتذكر كيف أمسك الصورة أمام عيني وهو يقول إن هذا النُّصب أقامه أصدقاء لألماير في ذكراه السنوية الأولى، ليتحدث بعد ذلك بطريقة شبه بديهية عن لِيلي.

فكَّرتُ في ذلك مرة أخرى عندما انطلق ذات صباح باكر للغاية، بالطبع وحده وكما يليق الأمر بمغامر حقيقي، وكنت بالمصادفة شاهدًا على وداعه من هيلينا. لم أنم طيلة الليل، بعد أن كاد الناموس في غرفتي يُفقدني عقلي، ولأنني سمعت أصواتًا، فقد اقتربت من النافذة، فوجدتهما يقفان هناك، على بُعد مترين أو ثلاثة مني، هي بالبيجاما رغم أن درجة الحرارة لم تكد تهبط خلال الليل، وهو بشورت يصل إلى ركبتيه وحذاء بنصف رقبة كنت أراه لأول مرة. احتضنها، وهي تقف في مواجهتي، مُسدِّدة البصر عَبْر أكتافه إليَّ، تمامًا كما حدث في قريته آنذاك، ولكن لم يكن باستطاعتها أن تراني، لأنني كنت أقف في الظلام بينما كان الصبح يتنفس بالخارج. لم يفصل بيننا إلا السلك الذي يمنع دخول الذباب، والفجر، وشيء ما في الهدوء قال لي إنها تبكي، أصخت السمع، ولكن لا شيء، ولا حتى من جانبه، لم يتحدث، ولم يعد يحاول إقناعها، أو ربما من البداية كان صامتًا، ويمسك بها فحسب.

استغرق الأمر لحظات عدة، إلى أن انتزع نفسه منها، ومشى إلى سيارته، بينما ظلت هي واقفة، ورغم أنه لم يسر إلا خطوات فقد تَعجَّبْت من أن عَرَجه أصبح فجأة واضحًا بدرجة لا تخطئها العين. ثم رأيت ضوء الكشافات الذي مرَّ بالبيت المجاور، ورأيتها وهي تعدو إلى باب الحديقة حتى تلوِّح له، وكأن جهازي السمعي بدأ يعمل فجأة، إذ وصلني صوت المحرك بقوة غير معتادة. ابتعدت السيارة بسرعة، ولم يَتناهَ إلى سمعي إلا نباح كلب من أحد البيوت المجاورة، وصرير شيش نافذة فُتحت فوقي، وهي، في وقفتها هناك، سكونها، وبعد برهة صوت أمها، جملة أو جملتان، إلا أني لم أفهم شيئًا، وهي تجيب بالألمانية: «طيب يا ماما، طيب».

كنتُ قد استلقيتُ مرة أخرى عندما ظَهرَت وهي تكاد تلتصق بنافذتي، مرسلة النظر إليَّ. كنتُ أرى خطوطها الخارجية بوضوح تام، كما كنتُ متأكدًا تمام التأكد من أنها لا تستطيع أن تحدد إذا كنتُ نائمًا أم أتظاهر بالنوم، وحملقت فيها أنا أيضًا إلى أن استدارتْ وانصرفتْ. يبدو أنني غفوت بعد ذلك، وعندما أفقتُ لم تكن نصف ساعة قد مضَت، وكانت تقف عند المكان نفسه، وإنْ كان الضوء قد تزايد كثيرًا، مرتدية لباس البحر وقد لفَّت منشفة كبيرة حول خصرها، ثم سألتني إذا كنتُ أودُّ أن أذهب معها للسباحة.

الحرارة خانقة وكأننا في الظهيرة، والهواء يكاد يَئِزُّ بسبب آلاف الجنادب التي تطير، وبغتةً عادني شوقي القديم إليها. كان باول بالنسبة لي بعيدًا للغاية حتى إنني شعرتُ وأنا أسبح معها في البحر عديم الأمواج وكأنه فارق الحياة، لكنها أعادتني إلى أرض الواقع؛ لأنها أدارت على الفور دفة الحديث إليه بمجرد أن استلقينا على الشاطئ لنجفف أنفسنا في الشمس البازغة.

«أتعتقد أن هناك خطورة مما يفعله؟»

كنت لا أزال ألهث، ولا أزال على جناحي الحماسة التي حملتني أثناء السباحة؛ كنت أُنزل رأسي تحت الماء بعد كل نفس، فتنتابني رعشة، ثم أظل في الوضع نفسه إلى أن تسكن المياه من حولي، لذا لم أُرد أن أسمع شيئًا عنه.

«لقد تمعن في الأمر بالتأكيد قبل سفره»، قلت من دون أن أهتم بتلطيف لهجتي الجافة. «لن يتهور ويخاطر بشيء غير مضمون.»

لم تكن ثمة لهجة أخشن من ذلك، غير أنها لم تتأثر بما قلت، وقرَّبت رأسها من رأسي إلى الحد الذي شعرت فيه بالدُّوار عندما نظرت في عينيها، ثم راحت مرة أخرى تقول إن الوضع ما زال مضطربًا في كوسوفو رغم وجود القوات المسلحة هناك.

«وما زال هناك مَن يلقى مصرعه.»

نبرات صوتها كانت ناعسة.

«لا يكاد يمر يوم لا يحدث فيه شيء»، أضافتْ عندئذٍ. «ولا أحد يعرف إذا كانت الصحف تكتب عن كل شيء.»

كلامها أزال سِحر اللحظة، فلزمت الصمت، وببساطة رحت أُمَتِّعُ نظري بالتطلع إلى وجهها. ولكن لم تمضِ سوى أربع ساعاتٍ وعاد باول. تَعطَّلتْ سيارته، ولسبب ما راحت تعامله باعتباره فاشلًا، ولم تُرد أن تصدق أنه ينوي أن ينطلق من جديد فور استلام السيارة من الورشة. قالت لي إنني كنتُ محقًّا في ألَّا أهتم بالأمر منذ البداية. كانت تقاطعه بمجرد أن يهم بالكلام، إلى أن تَخلَّى عن محاولاته. وباستثناء بعض الملاحظات التي رميتُها في وجهه، بدا أنه لم يعد يفكر في الموضوع، وكأن النية الجدية بالرحيل لم تكن لديه أبدًا.

كانت أيامًا امتنع فيها النسيم عن الهبوب، وكانت الحرارة في كل يوم تزداد عن سابقه، ورغم أن ذلك كان بالأحرى نذيرًا بالكارثة الأبدية أكثر منه بشيرًا بالسعادة الكبرى، فقد قضيت — وكما تمنيت — ساعات وساعات على الشرفة. من دون إحساس بالزمن كنت أغفو هناك، تفاجئني الشمس الساطعة في السماء، مرَّة من هنا وأخرى من هناك، فأستيقظ مذعورًا وأُرسِل النظر إلى البحر الممدد أمامي كالميت، والذي تظهر عليه في وقت ما العبَّارة التي تُبحر بين سبليت وأنكونا، من دون أن أستطيع التفرقة بين الهلوسات والواقع. في الظهيرة أحيانًا، لم يكن ثمة إنسان على مدى البصر، وكثيرًا ما كانت الأصوات في البيت تحتضر أيضًا، عندئذٍ كان يتلَبَّسُني الرُّعب من أن يكون الجميع هجَروا المكان وتركوني وحيدًا، فأتعجَّل هبوط المساء حيث يتحلق الكل في سلام حول المائدة وأتأكد من أنهم ما زالوا على قيد الحياة. بعد ذلك بقليل يبدأ الزوار في التردد على البيت، عادةً من دون سابق إخطار، رجال من البيوت المجاورة، ينضمون إلينا، ودون تكليف يرفعون قمصانهم حتى الصدر، ويُبرِّدون بطونهم العارية بكفوفهم أو يُظللون عليها بورقة من الجريدة، أو يحركون مناشف الصحون في الهواء لإفزاع الناموس.

في عدة أماكن على الشاطئ قبلنا أو بعدنا كانت حرائق قد اشتعلت، أحيانًا كان اليوم كله يمر وأنا أشم الرائحة اللاذعة العالقة في الهواء. كانوا يقولون إن الطريق مغلق أمام المرور هنا أو هناك، وعندما تنعكس في الليل ألسنة اللهب، ويجد المرء في الصباح بقايا الرماد على البلاط الحجري أمام المنزل، تستولي على الجميع حالة من الترقب شبه المتوتر لإعلان حالة الطوارئ. أما بالنسبة لي فلم يتغير أي شيء. ظللتُ جالسًا في مكاني وقد اشتد خمولي، أتطلع إلى منظر الخليج حيث تظهر بين الحين والآخر طائرات إطفاء الحريق وتهبط على الماء، ثم لا تلبث أن ترتفع، ولبُرهة يبدو أن ثقلها الذاتي يجذبها لأسفل، وتنقطع أنفاس الرائي وهي تبدو واقفة في السماء بزاوية مائلة، قبل أن تختفي بمحركاتها التي تدور بصعوبة.

الشعور نفسه بالغياب انتابني عندما سافر باول وهيلينا إلى مناطق جَرَت فيها الحرب، ومنذ ذلك الحين أشعر عندما أفكر في ذلك بأنني أرى الأشياء من وراء لوح زجاجي. وما زِلتُ أتذكر أنني لم أُعر كلامهما انتباهًا، وفيما بعد تكاثرت في رأسي الانطباعات التي بدَتْ تحت ثقل الحقيقة غير حقيقية. كان من الممكن أن أقضي وحدي وقتًا طويلًا، أن أجلس في السيارة وهُمَا بالأمام يحكيان ما يحلو لهما من دون أن أنصت، إلى هذا الحد استحوذ على اهتمامي الخراب الذى تراءى لعيوني يمينًا ويسارًا، المباني المدمَّرة على حافة الطرق، المنازل التي لم يتم بناؤها ومع ذلك تم قصفها، أكوام الأنقاض التي لم ينهض منها إلا ربما مدخنة، والجدران التي لم تُسقف بعد، بنوافذها الخالية وآثار القنابل التي تُذَكِّرُ بما تُخلفه حوافر الحيوانات، والنباتات التي نَمَتْ بعد كل هذه السنين لتصل إلى قامة الإنسان بل وتتجاوزه، والتي امتدت من غرف النوم وغرف المعيشة صاعدة إلى السماء.

ورغم أنني كنت أعرف بالطبع مقالات ألماير بهذا الشأن، فلم أكن مُهيَّئًا لذلك، لا سيما رؤية الحياة التي ظهرت لي من بين الأنقاض، والتي أكدت الشعور بالهجران، ألواح زجاجية لامعة ونظيفة بستائر وسط فراغ، طفل حافٍ على حافة الطريق لا يرتدي إلا سروالًا داخليًّا، امرأة تقلب التربة في حقل خضار ضئيل المساحة محاصَر بهياكل السيارات الصدئة، غسيل منشور على حبال شُدَّت كيفما اتفق، الملابس ترفرف في الهواء كما ترفرف في أي مكان آخر. أتذكر ذهول ألماير عندما فكَّر في عدد السنوات التي يحتاجها العامل في الخارج ليدَّخر ثمن بيت يبنيه هنا، ثم يفجرونه ببساطة، وأتذكر أيضًا كيف كانوا يستمتعون بذلك استمتاعًا خاصًّا، وأنهم كانوا يغلقون كل الأبواب والشبابيك، ثم يثبِّتون شمعة مشتعلة في الطابق العلوي، ويفتحون الغاز في المطبخ، وينتظرون إلى أن تنتفخ الجدران من غير صوت، ثم تنهار بفرقعة. ولكن كلما حاولت أن أستشف حكاية مما خلَّفته الأنقاض، أشعر بعجز خيالي. تراءى لي وصفه وكأنه من زمن آخر، لُوردات الحرب الذين تركوا أسماءهم فوق أبواب الدخول ضامنين حقهم بذلك في أن يكونوا أول من يسلب البيت وينهبه، عربات نقل المتاع والأثاث التي كانت تسافر من قرية إلى أخرى لحمل كل ما يمكن حمله، العصابات التي انتزعت من الجدران ما تبقى من بريز الكهرباء، قبل أن تجيء الأرامل العجائز المتشحات بالسواد بالطبع، ويقمن بمسح الخرائب والأطلال مسحًا، وينبشن كالحِدآت في كل حجر بحثًا عن أي شيء يُحمل.

تذكرت ثانية أن ألماير كتب ذات مرة أنه — في كل مرة يسافر فيها على الطريق الزراعي متوجهًا إلى دالماتيا — كان يشعر بمزيج من الحنين إلى دالماتيا والشوق إلى السفر بعيدًا في آنٍ واحد. كنت أعتبر ذلك مجرد تلاعب بالكلمات، ولكن عندما أنظر إلى الهضاب والسهول المتربة، المراعي شبه اليابسة التي حُوِّلت حقولًا والتي كانت تمر بنا في الخارج، وسماء الظهيرة التي توحي بالحريق، والوميض الذي لا ينطفئ في الأفق، اعتقدتُ أنني بدأتُ أفهم ما يقصد، بل إنني لم أجد التشبيه الذي استخدمه شاذًّا عندما قال إن الطبيعة في دالماتيا كانت تُؤثِّر فيه للغاية، وكما لم يشعر في حياته إلا عندما يرى في وطنه مساحة شاسعة بِكر من الثلج تمتد من اللاشيء إلى اللاشيء. ربما بدَا كلامه للوهلة الأولى متناقضًا عندما يقول إنه شعر بالعبثية لأن صراعًا يمكن أن يتفجر حول هذه الأرض القفر تحديدًا، لا سيما أن كل ذي عقل لا يريد شيئًا سوى الرحيل من هذا المكان، ولكنني أدركت سريعًا أن الناس من أجل ذلك تحديدًا يدافعون عن الوطن حتى آخر نقطة من دمائهم، بدافع من التشبث المتناقض بشيء لا وجود له في الحقيقة، وأنهم يمتنعون عن الرحيل ببساطة، وترْك هذا الضياع وراء ظهورهم بصورة نهائية، هذا الضياع الذي كان ينبعث من عديد من القرى في المنطقة حتى قبل أن يتم تدميرها، قرى لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن البحر، ومع ذلك فهي بعيدة نائية، ليست من هذا العالم، هذه المنازل القليلة التي تبدو وكأن الشمس أنضجتها، المنازل المتناثرة في فراغ المنطقة الجبلية وجدبها.

ورغم أنني لستُ متأكدًا من صحة ذلك، فإنني لم أَنسَ ادعاء ألماير أن كنين أبشع مكان في كل البلقان عندما تثلج السماء. ولكن عندما وصلنا إلى هناك لم تكن تثلج، كنا في وسط الصيف، ٤١ درجة مئوية حسبما أعلنوا في الراديو، قيظ لافح خانق. القلعة، محطة السكك الحديدية، وأمامها تمثال فظ، نُصب النصر التذكاري: جندي يرفع ذراعيه، في إحدى يديه مدفع رشاش، قضبان السكة الحديد المتشعبة، الموصِّلة إلى المحطة والخارجة منها، مداخن مصنع مسامير قلاووظ التي لفتت نظر ألماير، وما زلت أتذكر أن رنين كلماته كان يتردد في رأسي: الناس هناك مرضى بالبارانويا بشكل لافت، تَذكَّرتُ هذا التعبير حتى قبل أن ألاحظ لابسي الزي الرسمي الواقفين على نواصي الشوارع، وكيف كان الناس يلاحقوننا بنظرات عنيدة أينما نذهب. حسب كلامه كانت المنطقة تعج بالمجرمين أثناء الحرب، تحدَّث — إذا لم أكن أخلط الأمور — عن «وكر التشتنيك»، ولكن عندما اخترقت بنا السيارة الشوارع بسرعة السلحفاة، لم أرَ إلا وجوهًا فضولية تتسكع في تثاقل، من دون أن تتمتع بالقدرة على فعل أكثر من ذلك. رايات مستفزة في كل مكان، ولا شيء غير ذلك، لا شيء بالمعنى الحرفي للكلمة. بلا شك كان محقًّا، لقد كان مكانًا بائسًا، سواء مع الصرب، أو الآن من غيرهم بعد أن شُرِّدوا وطُردوا من المكان، وعندما حكي باول أن الحدود العسكرية النمساوية كانت لا تبعد عن هنا كثيرًا، في الاتجاه الشمالي، بأسطورتهم الحزينة عن أكثر الرعايا وفاءً وأكثر المحاربين شجاعةً في كل ربوع المملكة، عندما حكى عن الحاجز الذي شُيد في وجه الأتراك والمكوَّن من الحصون ونقاط المراقبة والذي كان في أقصى امتداد له، يومًا ما، يصل بين الساحل الأدرياتيكي عَبْر سلوفينيا وإقليم بانات حتى زيبنبورغن، فإن المنازل تراءت لي أكثر كآبةً، وشعرت بالفرح عندما خلَّفناها وراء ظهورنا، ومعها الهواء الفاسد العفن الذي يسود مدينة صغيرة كانت مقرًّا لثكنات عسكرية، مدينة من قرن آخر، قدَرُها — منذ الأزل — أن تكون معبرًا للجنود ومنطقة انسحاب معزولة.

أتذكر أن هيلينا لزمت الصمت طوال الرحلة، ولم تستيقظ إلا عندما اقتربنا من قرية جدتها. راحت تتحدث فجأة بنبرة ساخرة لم أعهدها، وهو ما حملني على الاعتقاد أنها تريد أن تعتذر عن كل شيء، أنها تخشى أن تكون توقعاتنا أكبر من اللازم، وأن نشعر بخيبة الأمل عند وصولنا. رغم أنني لم أتصور شيئًا آخر غير ما رأيته: بيت صغير من الحجر، أربع غرف فقيرة متقشفة، غرفتان في الطابق الأرضي وغرفتان في العلوي، معلق فيها ثلاث صورٍ ﻟ «العشاء الرباني» وتقويم منسي على الحائط من سنوات السبعينيات. آلمني أن أراها تفتح بابًا بعد الآخر، بلامبالاة، وكأنها تريد أن تدمر بنفسها جنة طفولتها، قبل أن ننتهك حرمتها بنظراتنا.

كانت العجوز تُعِدُّ القهوة في المطبخ، وأسعدني أنها لم تلاحظ شيئًا من كل ذلك عندما كانت تقول شيئًا لهيلينا من حين لآخر من دون أن تنتظر ردًّا. عندما استقبلَتْها، احتَضنَتْها وضمَّتْها إلى صدرها، ثم أمسكَتْ بها على مسافة قبل أن تَحتَضِنها ثانيةً، وكرَّرَت ذلك عدة مرات، ولاحظتُ أنها لا تكفُّ عن الإمساك بذراعها وكأنها تريد التأكد من أنها بالفعل موجودة هنا. بين الجُمل المتناثرة التي قالتها لها، كانت تصمت طويلًا، وكانت تكرر في كل مرة اسمها، وعندما فكرت في ذلك لاحقًا، تذكرت كيف جلَسَت بجانبها من دون حراك في شمس الأصيل، على مقعد مُنتَزع من سيارة، وسط الدجاج الذي انتشر ينقر أرض الفناء باحثًا عن طعام. كانت تبدو كجزء من الطبيعة هنا بوجهها المُجَعَّد الذي لوَّحته الشمس. لم تتأثر بأسئلة باول التي كانت تثير لديها رد الفعل نفسه، والإجابة ذاتها، وكأنها احتاجت إلى أعوام طويلة، والآن وصلت إلى إدراك كنه الأشياء:

«جيد أن الحرب انتهت.»

على الأقل كانت هذه ترجمة هيلينا، ولم أكن متأكدًا إذا كانت تعابثه فحسب، وأنها كانت تستمتع كل الاستمتاع برميه بمثل هذه الردود.

«إنها لا تفهم ماذا تريد»، قالت في النهاية وكأنها تريد أن تُنهي هذا الحديث السخيف. «يمكنك أن تُلِحَّ عليها ما شئت، ولن تسمع منها إجابة أخرى.»

كان هذا أيضًا من ضمن الأسباب التي جعلتني أشعر بأنني منتزع تمامًا من الزمان عندما تَمشَّيْنا صامتين في الحقول الواقعة خلف المنزل. كل خطوة على الأرض الهائلة الاتساع اكتسبت ثقلًا لم أحبه. مررنا بحقول الذُّرة اليابسة رغمًا عنها، وبأشجار التين، وبضعة أشجار لوز، وقليل من الكروم. شعرت فجأة وكأن لا وجود إلا للمكان، اتساع يصل حتى الجبال في الأفق التي تبدو وكأنها مُعلَّقة فوق السهول. شعرت — سواء أردتُ ذلك أم لم أُرِد — أننا نستولي بمشينا على أراضي الغير؛ وكأن كل حركة مصيرها إلى الجمود، وبينما رُحتُ أنصتُ إلى صوت الأغنام العالي التي كانت تمضغ بقايا الخبز الملقاة في المذود، صوت أقرب إلى الهشيم والصرير، كان رأسي يستحضر عددًا لا يُحصى من الصور: الجار الواقف على العشب لا يفعل شيئًا، أعواد الحشيش التي بدت ثابتة في وجه الريح، الغبار الذي يعلو كل شيء، جدة هيلينا وهي تتكئ في الفجر إلى شباك المطبخ المفتوح، وكالمتحجرة تُصيخ السمع إلى العويل الآتي من بعيد، الذي يبدأ ثم يخرس بعد وهلة، وفي النهاية لا تنطق سوى بكلمتين: «بنات آوى».

لم أتنفس الصعداء إلا بعد ذلك بأيام في سبليت، وفجأة فهمت الحماسة المبالغ فيها للمدينة التي كانت تثير دائمًا سخرية ألماير، لا سيما حماسة زملائه الأمريكيين. بدا لي حكمه قاسيًا، فبعد يومين أو ثلاثة في الأرياف، أو حتى في البوسنة، كان من المفهوم أن يقفوا كالحالمين وهم يروحون ويجيئون بين صفي النخيل على الجانبين، وأن يفقدوا عقلهم بالفعل عندما ينظرون إلى فتيات المنطقة باعتبارهن ربَّات الجمال، ويتحدثون عن الفردوس، أو بخيال أقل يتحدثون عن كاليفورنيا أو فلوريدا. ليس معنى ذلك أنني أصبحت واحدًا منهم، لكنني رحت أتطلع إلى المياه شاعرًا بأنني ولدت من جديد، واعتبرت لَعَنَاتِه للمكان مُبالَغًا فيها، ما قاله مستاءً إن المكان لا يعدو أن يكون محطة بائسة على الطريق، فيه يُمتِّع الجنود أنفسهم مع بنات الهوى، كما كتب ذات مرة، ثم فيما بعد — عندما انتهت الحرب — جعل من المدينة وكرًا خاليًا من الحياة، لكن هذا الوكر ما زال يتوهم أنه يُصَدِّرُ إلى نصف العالم لاعبي كرة قدم وملكات جمال.

ولأن هيلينا شعرت بالتعب، استجبت إلى إلحاح باول وسافرت معه إلى براتش حيث كان يريد زيارة كاتب نمساوي متزوج بكرواتية ويقضي طوال الصيف على الجزيرة. لم يعطني تفاصيل أكثر عنه إلا بعد أن ركبنا العبَّارة. نظرت إلى الأمر باعتباره رحلة، ورحت أنظر خلفي إلى المدينة نصف الغائمة بسبب بخار الهواء الذي كانت ما تزال تفوح منه رائحة دخان حرائق الأيام الماضية، وربما لذلك لم أُصغِ إليه كثيرًا، ولم أتعجب لأنه تواعد كي يلقاه رغم أنه يعتبره دجَّالًا. جلس بجانبي على إحدى الدكك على سطح العبَّارة، وقال عنه إنه معروف بزيارته الاستعراضية لدى المسئولين في مدينة «باله»، ومواقفه غير المدعومة بالحجج في مقالاته عن الحرب، هراء أيديولوجي جعله يدافع عن الغزاة بعد سقوط فوكوفار، على سبيل المثال لا الحصر، أو يقينه الأعمى بأن كل شيء سيتكرر حتمًا مثلما حدث قبل خمسين عامًا، وأنه عندئذٍ سيكون محقًّا في تحذيراته الأبدية.

لم أكن قد سمعتُ عن فالدنر قبل ذلك أبدًا، ولكن عندما حكى عنه أنه ظَلَّ طيلة أسابيع يكتب بكل جدية عمودًا حواريًّا لإحدى الصحف، ناسبًا الدور الكرواتي لزوجته بينما تبنَّى هو بالطبع دور الصربي، استطعتُ بوضوح تَخيُّل جنونه. ثم قال باول: «كان بالتأكيد يشعر ببهجة شاذَّة وهو يستخدم زوجته لقول ما يريد هو؛ لأنه سيان ما كانت تقوله، في النهاية كان هو المحقُّ دائمًا.»

ويُقال إنه جَمَعَ ذلك الهراء في كتاب بعنوان: «سكون المياه تحت الجليد». كنتُ أفكر في ذلك الكتاب عندما وصلنا واستقبلَتْنا زوجته؛ لأنه كان يقضي مشوارًا في مكان ما على الجزيرة. بعد تبادُل التحية سألها باول مباشرة إذا كانت قد عانت من وراء ذلك.

«لقد كان الأمر مُجرَّد لعبة»، أجابت من دون أن تتردَّد لحظة. «لا يمكن لأي إنسان أن يأخذ هذا الكلام مأخذ الجد.»

لم تكن نبرات صوتها توحي بالاقتناع، وعندما أفكر في أن عينيها اكتسبَتَا لونًا داكنًا وهي تقول ذلك، تنتابني قشعريرة، أرى وجهها أمامي، يدهش المرء لشحوبه، لا سيما وأنها موجودة منذ بضعة أسابيع في الجزيرة، خصلات شعرها، عيناها اليقظتان، ثم الغائبتان، واللتان تشعَّان خوفًا مقيمًا، ضَيِّقَتان ومتقاربتان للغاية. كانت ترتدي شورتًا وبلوزة، كلاهما بلا لون تقريبًا من كثرة الغسيل. عندما أفكر فيها تحضرني أيضًا على الفور صفتان: ممتقعة وشاحبة، مثل ذراعيها وفخذيها. أيضًا الطريقة التي تحدَّثت بها فيما بعد مع زوجها ذَكَّرتْنِي بشيء حليبي غائم، عادتها أثناء وجوده أن تبدأ في جملة بصوت خافِت لا يُسمع، مع ذلك يواصل صوتها خفوته، ثم تُنهي الجملة بلا صوت، صَمتُها الذي لم يكن أبدًا انقطاعًا، وإنما تراجُع مستمر، وكأن السكون وحده لا يكفي ولذلك تريد أن تنتزع منه شيئًا، بحركات عاجزة من فمها، فم السمكة الذي ينفتح وينغلق في فراغ.

كان البيت مشيَّدًا وحده على ربوة في اتجاه المدينة، وإنْ كان يطل على البحر. قادتنا إلى طاولة في الهواء الطلق وكانت دائمة التَّطلُّع إلى الطريق المتعرج على المنحدر أمامنا، لترى هل وصل أم لا. وقع بصرها على أشجار السرو التي كانت تَمتدُّ على قمة المنحدر وأعمدة الكهرباء التي بَدتْ ضائعة على القمة، وعندما كانت تَلتفتُ إلينا ثانيةً وتقول إنه لن يتأخَّر، لم أعرف ما إذا كانت تأمل ذلك أم تخشاه. ثم عاد إلى نبرات صوتها التعبير السابق نفسه، وقالت إنها تعيش معه هنا بمفردها تمامًا، بكل معنى الكلمة، وإن القرية القريبة من البيت قرية أشباح هجرَها معظم ساكنيها منذ الثلاثينيات.

أستطيع أن أقسم أن الرُّعب أطلَّ من عينيها عندما ظهر أخيرًا. لم يجئ من الاتجاه الذي تَوقَّعَتْه، وكنتُ أنا أول مَن لمحتُه. عندئذٍ لفتَ انتباهي كيف تَجمَّدَت نظرتها على السيارة الآخذة في الاقتراب إلى أن توقَّفَت، ورغم أن صوتها خَفتَ تمامًا، فإن رجاءها كان واضحًا وحاسمًا ألَّا نورطه في أي حديث شائك.

«منذ الحرب وهو مريض بالقلب»، قالت بنبرة تكاد تكون متوسلة. «أقل انفعال يمكن أن يأخذه إلى القبر.»

في تلك الأثناء هبط ومشى في اتجاهنا ببطء، رجل رَبعة ممتلئ، في بداية العقد السادس، متين البنيان وقوي قياسًا إلى عمره، ويسير على نحو يذكرني بمشية حيوان. فتح القميص على اتساعه، ولكنه، ورغم الحر، كان يرتدي حذاء برقبة وبنطلون جينز. ولكن أكثر ما يلفت النظر كانت قبعته، أحسستُ على الفور أنه لن يخلعها أبدًا مهما حدث، وبالفعل احتفظ بها طيلة الوقت على رأسه. وجهه كان متورِّدًا، وعلى أنفه تناثرت شعيرات دموية مهترئة، الفجوات الصغيرة تملأ لحيته على الصدغ وشاربه، وعمومًا فقد أثار لديَّ لأول وهلة انطباعًا بأنهم سيكتبون في رثاء شخص مثلها أن الموت قد انتزعه فجأة من قلب الحياة، رغم أن الأجل كان في الحقيقة، ومنذ فترة طويلة، أقرب إليه من حبل الوريد.

لم أستلطفه عندما زعَّق في وجه زوجته قائلًا إن عليها أن تسكب القهوة التي وضعتها أمامنا وتحضر شيئًا محترمًا، وبينما اخْتفَتْ بلا كلمة واحدة، شَرَعَ على الفور في إطلاق نكتة خليعة، أعقبها بضحكة ماجنة عندما عادت ووضعَتْ على الطاولة صينية فوقها زجاجة نبيذ وقِطع صغيرة من شحم الخنزير. ما نفَّرني منه كانت لغته الألمانية التي تَنُمُّ حينًا عن خنوع وخضوع، وأحيانًا عن تَعجْرُف واضح، وعندما يَتحدَّث معها كانت نَبرَتُه تَنقلب بين لحظة وأخرى إلى لهجة آمرة. ولأن جزءًا من أحد أسنانه الأمامية مكسور، كان رذاذ لعابه يتناثر عند نطق بعض الحروف. كانت كلماته — عندما يتوجه إليها بالحديث — تبدو وكأنها من هذه الحروف فقط. كان يتحدث بلهجة فِيِينَّاوِيَّة سيئة المزاج، وحتى بعد انصرافنا بوقت طويل بقيت في أذني كلمته المستفزة «معذرة» والتي كان يبدأ بها كل جملة تقريبًا يوجهها إليها في نبرة تبدو كالاتهام، وبهذه الكلمة كان يخرسها على الفور.

ثمة ثلاث صورٍ له، كان لا بُدَّ أن أراها عندما انتهزتُ أول فرصة سانحة كي أهرب منه وأدخل المنزل، لقطات مُؤطَّرة، حوالي عشرين في ثلاثين سنتيمترًا، مُعلَّقة بجانب مدخل دورة المياه مباشرة، وفي كل صورة يظهر إلى جوار أحد المستشارين النمساويين. بقيتُ واقفًا أمامها أتفرج، رغم أنها لم تَحْوِ شيئًا مثيرًا، وجوه الساسة الذين أعرفهم، وهو بشعره الذي يُمسي في كل صورة أخفَّ من سابقتها، ولون الجاكيت في كل صورة يزداد وقارًا، وكرافتة مقلمة دومًا. الشيء الوحيد الذي رأيته جديرًا بالملاحَظة هو كيف ارتقى السلم المهني خلال تلك السنوات، بدايةً من الصورة الأولى حيث يقف كالخادم وراء سيده بخطوتين، عَبْر السكرتير الذي يتجاسر على النظر من خلف ظهر رئيسه مشدود القامة، إلى رجل الأعمال الذي يقف على قدم المساوة مع المستشار الذي يضحك ضحكة عريضة كشفَتْ عن أسنانه. كان يحب، وكما عرفتُ فيما بعد، أن يحكي نادرة عن هذا المستشار الذي فَقَدَ طاقم أسنانه ذات مرة أثناء تصوير تلفزيوني لهما معًا.

أتخيل بَكرة فيلم تدور ببطء وتُصدر تكتكة، تعرض هذه الصور الثلاث، لا تتغير، وثلاثة أرباع المتر الذي جاهد وكافح طيلة عشر سنواتٍ أو خمس عشرة سنة حتى يقطعه، الطُّرق المسدودة والملتوية التي تُحَتِّمُ عليه السير فيها كي يتقدم من الخلفية إلى صدارة المشهد، ثم شَعَرْتُ بالدهشة عندما سمعت زوجته فجأة من وراء ظهري تقول: «أتريد رؤية المزيد؟»

كانت قد دخلت الغرفة بدون صوت، ولاحقت نظراتي، وقبل أن أستطيع أن أجيب بشيء وجدت صورة في يدي، رَجُلان من الخلف، فالدنر يمكن التعرُّف عليه من جزء من وجهه الذي ظهر جانبيًّا، ومعه شخص آخر، وبينهما امرأة، وأمام فتحة صدرها الواسعة السمراء يقرعان الأنخاب.

«ربما تهمك هذه الصورة.»

ووضعت سبابتها على رأس الرجل المجهول بشعره الذي غطى قفاه مُنْسدِلًا على ياقة القميص، والذي لم يكن المرء يرى شيئًا من وجهه: «هل تعرف مَن هذا؟»

هززتُ رأسي نافيًا.

«هذا هو الجديد»، قالت ونبرتها تشي بشماتة خفيفة. «بالتأكيد التقطوا هذه الصورة بعد أن أدَّى اليمين الدستورية بقليل.»

ودون أن تُعلِّق بالمزيد أشارت إلى التاريخ على حافة الصورة، بداية العام، ثم نظرت إليَّ. لا أستطيع أن أُحدِّد إذا كانت نبرتها اتهامية؛ لذا انتظرتُ ما ستُعقب به، ولكنها ظَلَّت واقفة وتطلَّعت إلى الصور المُؤطَّرة المعلقة على الحائط. ووجدتُ نفسي أضع يدًا على كتفيها لأهدئها، وما كدتُ ألمسها حتى أمسكتُ بها وتشبثت بها بُرهة طويلة.

ما زلتُ أتذكَّر أنني فكَّرْت بمجرد دخولي أن شيئًا قد حدث حتمًا بين الاثنين. رأيتُ باول يحاول إقناع فالدنر. كان يجلس على حافة المقعد مائلًا للأمام، وإذا لم تخني الذاكرة، كان يقاطعه كلما همَّ بالرد، رغم أنه كان يصمت بعد كل جملة، ويكاد بذلك يدعوه إلى الكلام. من الواضح أن الحديث دار عن الحرب، وتَعجَّبْت من صراحة الاتهامات، وما زلتُ أراه أمامي، كيف كان يهاجمه ولا يدع له أي فرصة للدفاع عن نفسه.

«أنت أيضًا كتبتَ عن مذابح قبل أن يسقط أول قتيل.» قال له. «عليك إذن ألَّا تتعجب من رد الفعل المُتوحِّش لدى أول حادث صغير؛ لأن الجميع كانوا مقتنعين بأن عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم.»

بهذه الجملة كان فالدنر قد وصل إلى حالة لم يَعُد فيها يستطيع السيطرة على نفسه إلا بجهد جهيد، ورغم أنه حاول المناورة في البداية قائلًا إنه اعتقد أنه يتحدث مع صديق، لكنه في النهاية ردَّ على اتهاماته قائلًا: «لم أفعل سوى ما أستطيع فعله.»

– «ماذا فعلت؟»

وكرر ما قاله.

– «لستَ جادًّا فيما تقوله!»

أومأ فحسب، وانفجر باول في ضحكة لم أسمع شبيهًا لها من قبل، ضحكة تَنُمُّ عن عدم تصديق وقِلة حيلة في آنٍ واحد.

– «قل لنا ما فعلت إذن»، واصل كلامه. «لا تختبئ خلف الكلام المنمق الفارغ وفقاعات الصابون التي تطلقها.»

لم يُعقِّب على كلامه. اكتسبَ وجهه لون حمرة النيران، وارتعشَتْ زاويتا فمه، وراحت نظراته تهيم من دون هدف باحثة عن شيء، إلى أن تَجمَّدَت وهو يُثبِّتها أمامه في الفراغ، ولم يعد يصدر عنه إلا صوت الشهيق والزفير. بدَا مترددًا لا يعرف ماذا يفعل، ولكن عندما صرخَت زوجته فجأة، ومدَّت يدها لتمسك بذراعه، كان قد تناول سكينًا قريبة من السكاكين الموضوعة على الصينية، وغرزها بكل قوته في الطاولة، بينما بدأَت زوجته في إبعاد السكاكين الأخرى من دون أن ينتبه. ثم راح يصيح بلا توقف: «فاشيُّون … فاشيُّون …»

كان موقفًا سخيفًا وخطيرًا في آنٍ واحد. راح ينزلق على كرسيه حتى يصل إلى حافته، وفي اللحظة التالية يرجع إلى الوراء وكأنه لا يستطيع أن يتماسك، وكأنه على وشك أن يهجم على أحدنا.

«اطلعوا بره، وإلا اتصلت بالبوليس.»

نظرت إلى باول الذي حملقَتْ عيناه في النصل المهتز أمامه مباشرة من دون أن يتحرك. وكأن رعشة السكين نوَّمَته مغناطيسيًّا، إلى أن نهض بركبتين رخوتين، ثم وقف مترددًا لحظات، غير أنه لم ينطق بكلمة، وعندما بدأ يتحرك، أحسستُ أنه يسير على نحو آلي، شادًّا قامته لدى كل خطوة ليشتت الأنظار عن عرجه. استغرق الأمر عدة لحظات حتى اختفى عن أنظاره، غير أن فالدنر لم يكن يُعِيرُه أي اهتمام على كل حال، وكأنه نسي أمره، والتفَت إلى زوجته آمرًا: «أَحضِري الأقراص.» كان صوته متقطعًا بعض الشيء. «ماذا تنتظرين؟»

لاهثًا حاول أن يستنشق الهواء.

«هل تريدين أن أموت؟»

وبينما شرع هو في إطلاق ضحكة مستهزئة، لم أعرف كيف أتجنب النظرات اليائسة التي وجهتها إليَّ. كانت تقف هناك وترتجف تحت سياط كلامه، وعندما حاولَتْ أن تجيب لم أرَ سوى الحركات المرتبكة الصادرة عن ذراعيها، وكأنها تُجدِّف بهما. عندئذٍ أسرعَت خارجة، وعندما أخذ يصرخ «فاشيُّون» مرة أخرى، رحتُ أحملق في المضيق البحري بالأسفل، وشريط المياه الهادئة الذي يفصل هذه الجزيرة عن الجُزر المجاورة لها، وحاولتُ جاهدًا ألَّا أفكر في شيء.

ما زلتُ أتذكر جيدًا كيف جلس باول متخشبًا في مكانه عندما وصلتُ إلى السيارة، ولم يفاجئني السؤال الذي طرحه عليَّ فور ركوبي.

«أتعتقد أنه يضربها؟»

كان قد أنزل زجاج شُبَّاكه، وراح يصغي إلى الصراخ الآتي من المنزل، ناظرًا إليَّ بعيون منكسرة.

– «الواحد يَتوقَّع منه أي شيء.»

انزلق الكلام مني بدون تفكير، إلا أنه أومأ قائلًا: «ليس لها أي أحد تعتمد عليه غير نفسها، وهو بإمكانه أن يفعل معها ما يشاء. حتى لو هربت من أمامه صارخةً فلن يسمعها ابن آدم واحد.»

واضعًا يديه على عجلة القيادة أرسل النظر بُرهة إلى الخارج ولم يتكلم، وكأنه يكتشف شيئًا، ثم هزَّ رأسه قائلًا: «خنزير وضيع!»

تعمَّد أن يترك مسافة بين الكلمتين. ثم واصل قائلًا: «لا يهمني أن يغرق في شُعوره بأنه معصوم عن الخطأ. إنني آخِر مَن يذرف عليه دمعة حزن.»

لم أعرف ماذا أقول له. ورغم أنني أحسستُ فجأة بانقباض في الصدر عندما انتبهتُ إلى أن الشيش في معظم نوافذ بيوت القرية مُغلَق، وعندما رأيتُ الأسقف المتهاوية في بعض الأماكن وأمامها الحدائق الشعثاء، فقد كنتُ سعيدًا عندما شغَّل المحرك وانطلق أخيرًا. بالتأكيد كانت الساعة حوالي الرابعة، الشمس الآن فوق الجزيرة المجاورة، وبينما كانت السيارة تتهادى بنا على الطريق الصاعد، رحتُ أتطلع إليه وهو يُشعِل سيجارة ويسحب منها أنفاسًا شرهة، ولم أستطع أن أتغَلَّب على الرُّعب الذي استولى عليَّ من طول النهار، ولذلك ظل السؤال يطاردني: متى سينتهي أخيرًا؟ وعندما اقترح عليَّ أن نذهب للسباحة، لم أستطع التخيل أن البحر لا يبعد سوى كيلومترات، بعد أن اختفى منذ لحظات عن ناظري، وتَملَّكني الشوق لقضاء عدة ساعات على الشاطئ، وكأن هذا شيء بعيد المنال، والشوق إلى صحبة الناس، حتى لو كانوا أولئك الذين كنت أُشبعهم سبًّا وشتمًا، إلى ثنائيات المحبين في مختلف أطوارهم الذين كانوا في بعض الأحيان يرقدون في الشمس وكأنهم في انتظار يوم البعث والخلود.

لم أتبادل معه كلمة تقريبًا على العبَّارة. ويبدو أنه لاحَظ أنني أريد أن أكون وحدي، فتركني في سلام. جلستُ هناك من دون أن أرسل البصر إلى المياه، وأدركتُ أن الأوان قد حان للرجوع إلى هامبورج. الانطباعات الأولى عن الجزيرة بدأت تَضمَحِل، وبينما راح هو يقرأ في الدليل السياحي، تشبَّثت بتشنج بصورة الجزيرة في نهاية الموسم، كيف ستكون مهجورة بعد رحيل آخِر المصطافين مع مَقْدِمِ الخريف، وهبوب العواصف من القارة على الهضاب العجفاء.

في اليومين التاليين عاد للجلوس إلى مكتبه على الشرفة، بينما لازمتُ أنا هيلينا كظلها. لم أَحكِ لها أي شيء مما حدث لنا، أو رويتُ لها رؤية مُخفَّفة لا ضرر منها حتى لا تتعرف على نفسها في زوجة فالدنر. ولأنها قنعتْ بما حكيتُه، اعتقدتُ أنه لم يَتحدَّث معها عن الأمر أيضًا. نجحتُ في أن أتجنبه إلى حد أنني لم أَعُد أخشى ألَّا يوافق على قيامي معها برحلات، وكان ظهوره في المساء على الشاطئ يلفتُ انتباهي للغاية؛ لأنه لم يفعل ذلك في السابق أبدًا؛ لذا كنتُ أقول لنفسي إنه لا يجيء سوى ليرى ماذا نفعل.

اقترح عليَّ ألَّا أسافر بالطائرة في موعدي، وأن أسافر معه ومع هيلينا ليلًا إلى سلافونسكي برود حيث اتفق على لقاء سلافكو في ظُهر اليوم التالي، وحثَّتْني هيلينا على الموافقة. وهكذا جلستُ على مقعد السيارة الخلفي كتلميذ، ثم تهوَّرتُ ولمستُ هيلينا، ومَددتُ يدي إليها من الخلف وضغطتُ على خصرها. لم تَعترض بينما كان الظلام يَبتلعُنا. لم يَتوقَّف عن العبث بمؤشر الراديو وكأنه لا يستطيع التصديق أن هناك محطة واحدة يمكن استقبالها. عندما كانت تغفو، ثم تفزع فجأة لأنه قاد السيارة بزاوية حادة في أحد المنعطفات، كنتُ أزيد الضغط عليها حتى أهدئ من روعها، وكنتُ أشاهدها وهي تستطلع بعينيها إلى أن يظهر في الشعاع المخروطي للكشاف منزلٌ على حافة الطريق، وفي اللحظة الأخيرة يتبين أنه عبارة عن كومة من الأنقاض، أو عندما نكتشف سُكانًا يقطنون كالأشباح وسط الأطلال. مع طلوع الفجر سلَّمني عجلة القيادة، ولأن النوم تغلَّب عليه، كنا — هيلينا وأنا — وحدنا تقريبًا على الطريق السريع المستقيم الذي يمتد ناحية الشرق، من دون أية سيارات أخرى، وعلى اليمين واليسار تنهض مضخات البترول تجاه السماء المسامية، الحقول المتسعة المزروعة بآلاف من أزهار عبَّاد الشمس التي كادَت تموت عطشًا، أسلاك الكهرباء وعليها عدد لا يحصى من الطيور، واسم مدينة ليبوفاتس، رغم قربها، مكتوب على كل اللافتات كوعد متكرر بالوصول إلى أبعد مكان، مكان مُقفر على الحدود مع صربيا، نهاية العالم، وبعده يبدأ اللاشيء المُرتَقب بتشوق منذ أن اختفَت بلغراد من الوجود، على ما يبدو على الأقل.

وصلنا مبكرًا جدًّا، للوهلة الأولى بدَت المدينة ناعسة بمنازلها المنكمشة على ذاتها، والممتدة على طول الطريق المؤدي للمدينة، ومباني الإمبراطورية في وسط المدينة التي تفتح على ميدان يطل على نهر السافه الذي يصنع انعطافة في تلك المنطقة، ثم يتلاشى في كلا الاتجاهين عَبْر الأشجار الكثيفة. هكذا انساب النهر في خمول. كانت الضفة الأخرى من النهر بتجمعاتها السكنية التي تعلو الشجيرات تقع في البوسنة، وبعدها باتجاه التيار يعبر جسر فوق المياه، جسر من الحديد الصلب وكأنه بُني في بدايات عصر السكك الحديدية، وفوق الجسر كانت تتكدس الشاحنات ليلًا ونهارًا طوال فترة إقامتنا هناك، وكانت الرياح تهب علينا في بعض الأحيان حاملةً هدير المُحرِّكات. لم يكن ثمة إنسان على ضفة النهر في هذه الساعة، المسبح كان مهجورًا، وخلفه — أمام الأكواخ التي كانت تبدو من بعيد كأنها عوَّامات على صفحة المياه — كان يقع الاستاد، كما عرفنا فيما بَعد، الذي كتب ألماير عنه أنه كان مكدسًا باللاجئين الذين كانوا يتعرضون للقصف بالقنابل من الضفة الأخرى للنهر.

ورغم أن المَنظر الخارجي لم يكن يفتح الشهية، فقد نزلنا في فندق «بارك» الواقع على النهاية الأخرى من الساحة، على بُعد حوالي مائتين أو ثلاثمائة مترًا من النهر الذي تطل واجهته عليه. آثار الطلقات على الواجهة ما زالت واضحة. عند دخولنا سألَتْنا موظفة الاستقبال من أين أتينا، ثم قالت وهي تهز رأسها، لو كنا أخذنا هذا الطريق أثناء الحرب لمررنا على ست جبهات قتال. كان فندقًا مُهمَلًا، وقد بدأ انحداره بلا شك قبل مجيء أول مجموعات اللاجئين وإيوائهم ثم إجلائهم، الرجال الذين كانوا ما زالوا يتكئون على البار في هذه الساعة المبكِّرة ويتفرجون علينا، من دون أن يُحَوِّلُوا أبصارهم عن شاشة التلفزيون الوامضة، لم يثيروا لديَّ شعورًا بالثقة. كان يبدو أن لا أحد ينتظر نزلاء مثلنا، وهكذا بقينا أيضًا وحْدَنا أثناء الإفطار في صالة الاجتماعات الضخمة نصف الدائرية، وهو المكان الوحيد الفخم في الفندق بموائده ومقاعده المصفوفة على خط مستقيم صارم، والستائر الليلكية اللون التي تصل إلى الأرض أمام النوافذ، ومنبر المُتحدِّثِين وبجانبه إكليل زهور ضخم، وكأن سكرتير الحزب قد يظهر في أي لحظة ممثلًا للدولة وداعيًا إلى الإخاء والوحدة. ولكن المكان لم يشهد طيلة الشهور الأخيرة إلا حفلة طلبة الثانوية العامة، عشاء لآباء الجنود الذين لقوا مصرعهم في الحرب دفاعًا عن الوطن، كما قرأنا على إحدى الدعوات التي نسوها هناك، وعرض مسرحية Lipa Smrt — أي «الموت الجميل» — لفرقة تُسمِّي نفسها Hrvatski Emigranti، وقبلها بأسبوع — في تعاقُب منطقي برأيي — مسابقة انتخاب ملكة جمال سلافونسكي برود، حيث ما زالت هناك صور من المسابقة مُعلَّقة على الجدران، صور فتيات بشعر داكن، يبدون للوهلة الأولى وكأنهن خمسة أو ستة توائم من بويضة واحدة، بلباس البحر، والفائزة متلفِّحة بوشاح عليه رقعة الشطرنج المعهودة، وعلى رأسها تاج فضي بدَا مثل عنكبوت ضخم جاثم على شعرها.
كانت «ميس سلافونسكي برود» هي أيضًا أول شخص يتحدث عنه سلافكو عندما قابلناه بعد ساعتين؛ لأنه هو الذي نظَّم بنفسه هذا العام المسابقة التي لم تقم لأول مرة منذ سنوات على جزيرة هفار. قابلنا في «غرادسكا كافانا»، حيث تعمل في ذلك المقهى الواقع على أطراف المدينة مقابل النهر مباشرة، أما موائده فقد وُضعت في الساحة. على ما يبدو أراد أن يبين لنا أنها صنيع يده، وبينما كانت تُقدم لنا المشروبات تطلَّع إلينا، وكأن علينا أن نُبدي إعجابنا على الفور، ثم طلب منها أن تجلس معنا عدة دقائق، ووضع يده على فخذها ولم يرفعها. كانت في السادسة عشرة أو السابعة عشرة على أقصى تقدير، وبينما كانت تجلس هناك في فستانها الرقيق، الشفاف تقريبًا، واضعةً ساقًا فوق الأخرى، ومُشَبِّكةً يديها، بدَا أنها تبذل جهدًا كي تُبقِي عينيها مفتوحتين، ودون سيطرة منها كان رأسها يسقط في بعض الأحيان إلى الخلف، ولم تصدر عنها ردة فعل إلا عندما كان يناديها ﺑ «برنسيسا»، ولكنها لم تكن في المعتاد تنطق بأكثر من: da, keptn, da أو ne, keptn, ne.

لم يستغرق الأمر طويلًا حتى أشار سلافكو إلى النهر قائلًا إنها من الناحية الأخرى، ليحكي عندئذٍ أنها فَقدَت خلال الحرب عائلتها كلها، ومنذ ذلك الحين لم تذهب إلى هناك أبدًا.

«في بيت والديها يعيش منذ فترة صرب من كنين.»

انتظر هنيهة ونظر إليها، وكأنه — بحديثه شخصيًّا عمَّا جرى لها — يريد أن يخفف عنها، غير أنها ظلَّت تصوِّب نظرها على أظافر أصابعها لازمةً الصمت.

«لا تحب الحديث عن ذلك»، واصلَ في النهاية، وبدَا عليه الارتياح. «لا ينطلق لسانها بالكلام إلا إذا شربت.»

عندئذٍ التفتَ إليها ضاحكًا.

«صحيح؟»

لم تقل شيئًا، فعلَا صوتُه.

«لقد سألتُكِ سؤالًا.»

وسواء فهمَتْ ما قاله بالألمانية أم لا، فقد أومأتْ برأسها، وبذلك سُمِحَ لها بالانصراف. وإذا كنت قد تعجَّبت آنذاك من تلك الفجائية، فإنني أدرك الآن أنه كان يستخدم مصيرها كنوع من التأكيد لمصيره هو، وأن الأمر كان يعنيه عندما تحدث عنها هكذا. أيًّا كان الدور الذي لعبه أثناء الحرب، فقد كان عليها أن تعطيه الحق، قلتُ لنفسي؛ على شبابها، أو جمالها، أن يجعله مدافعًا عنها، لا سيما عندما كانت لا تزال طفلة. كانت قد ابتعدَت عنا عندما ادَّعى أنها ستُلقي قنبلة يدوية لو تركوها تعود إلى بيتها، وما زِلتُ أتذكر كيف ظَلَّ يلاحقها ببصره، وأتذكر بريق عينيه عندما تتبع كل خطوة من خطواتها من دون أن يلاحظ أنه ظل يفرك يديه طوال الوقت.

أن أقارنه بفالدنر — كما خطر على بالي على الفور — كان أبسط من اللازم، ورغم ذلك لم أستطع أن أطرد هذه المقارنة من رأسي. ربما يرجع ذلك إلى طريقته التي جعلتني أفكر في التشابه بين كليهما، الحيوية، هكذا قلتُ لنفسي لعجزي عن أن أجد كلمة أخرى مناسبة أكثر، ولكن لم يكن هذا وحده هو السبب. كان يُشبهه بقامته الممتلئة، المشية نفسها، طريقة الجلوس المتربصة ذاتها، المستعدة — كما بدَا لي — للانقضاض على الجالس مقابله؛ ولكن ليس هذا ما أعنيه، ربما أقصد بالأحرى البريق الذي ينبعث من رجل أعمال ليس جادًّا تمامًا، نصَّاب من عُتاة النصابين.

على كل حال، كان يضع نظارة شمس أمام عينيه، ويرتدي قميصًا أبيض، وبنطلونًا أسود مغسولًا لتوِّه، ومكويًّا بعناية فائقة. شَعره القصير مدهون ولامع؛ لذلك لا بُدَّ من أنها كانت مُجرَّد حيلة عندما كان من حين لآخر يتأكد بكلتا يديه إذا كانت تسريحة شعره في مكانها، بل وفي بعض الأحيان كانت يداه تظل للحظات فوق شعره وكأنه تحت سشوار، رافعًا رأسه إلى أعلى قليلًا من دون أن ينظر إلى أحد أثناء الحديث. عندئذٍ علا صوته أكثر من المعتاد، وبدَا معجبًا بذاته وهو يُلقي الأسئلة التي كان يُجيب عليها بنفسه، وهو شيء ليس صعبًا عليه بالتأكيد بصفته «مُقدِّم برامج تسلية»، كما هو مكتوب على بطاقته.

هذا هو إذن، الرجل الذي لم أكن أعرفه إلا من صورة الْتُقِطَت له مع بندقيته، وكأنه ينوب عن أهل مهنة محترمة مع آلته المُهمة، الوجه مغطًّى بدخان سيجارته، وعندما سأله باول ما إذا كان يتذكر ألماير، حدَّجه بنظرة وكأن سؤاله إهانة له.

«سمعتُ ما حدث له»، قال بعد بُرهة. «لقد فقدتُ أشخاصًا كثيرين. لقد كان بالنسبة لي واحدًا منا.»

كان قد اشتغل سنوات عديدة في دسلدورف؛ لذا كان يتحدث ألمانية معقولة، ولم يتكلم بالكرواتية إلا إذا كان شيئًا غير واضح، عندئذٍ كانت تتولَّى هيلينا الترجمة. إذن سوء التفاهم كان شبه مُستبْعَد.

– «واحدًا منكم؟»

حاول باول أن يزعزع هدوءه المُفتَعل، لكن مناورته كانت مكشوفة للغاية، لذلك لم يخرج عن هدوئه.

– «كان من الممكن أن يكون واحدًا منا.»

كرر هذه الجملة كي يتجاهل ببساطة كل الأسئلة حول ما يقصده بذلك، ثم راح يحكي كيف ظهر ألماير آنذاك على الجبهة: «لم أُصدِّق عيني عندما أتى إلينا من ناحية الحقول. وعلى الفور كان واضحًا بالنسبة لي أن المجنون فقط هو من يَضِلُّ طريقه ويجيء إلى منطقتنا.»

وكأنه كان يلوك عبارة مستهلَكة فارغة المعنى، وعندما أضاف أنه كان على ألماير أن يجيء مع مترجِمِه عن طريق المَجَر؛ لأن الطريق لم يَعُد مفتوحًا بين زغرب وموقعه بالقرب من فينكوفيتشي، اتضح لي عندئذٍ أن الأمر لم يكن مُجرَّد عبارة فارغة. حاوَل أن يصفه، ولم أكن متأكدًا تمامًا، هل يتذكره بالفعل، أم أنه يَتصيَّد النوادر عندما قال إنه ما زال يراه أمام عينيه مرتديًا الصدرية الجديدة تمامًا، الواقية من الرصاص، والثقيلة لدرجة أنها تجبر ثورًا على الركوع، وأنهم جرَّبوها ضاحكين الواحد إثر الآخر، وسألوه إذا كان يريد بهذه الصدرية أن يعيش إلى الأبد، أم أنه يرتديها على سبيل الزُّهد والتقشف، أم أنها حِزام عفة لكنه يرتديه بالمقلوب. على حين غرة اكتسب كلامه ملمحًا وحشيًّا وهو يتحدث عنه، واصفًا إياه بأنه شخص «عظمه طري»، كان يريد أن يعرف كيف يَقتُل الإنسان شخصًا، وكأنه نسي ما قاله عنه لتوه، وفي النهاية لم أُصدق أذني عندما تفوَّق على نفسه قائلًا: «على الأقل يعرف الآن كيف يموت الإنسان.»

للحظة خيَّم الصمت التام، ولم تُنقِذ الموقف محاوَلة باول الادعاء بأنه يريد أن يتحدث معه عن ذلك.

– «ولكن بإمكانك حتمًا الرد على سؤاله.»

لم يُعَقِّب سوى بضحكة.

– «ماذا تريد أن تسمع مني؟»

كان من الواضح أن الموقف يُرضي غروره، أن يُسأل عن رأيه كمتخصص يشعر بالسعادة عندما يعترف الآخرون له بالمهارة والخبرة.

«لا أستطيع أن أقول لكَ إلا ما قلتُه له أيضًا»، واصل أخيرًا كلامه. «يمكنك أن تفكر في الأمر، مثله، حتى يصيبك الصداع، ولكن طالما أنك لم تُجرِّب بنفسك، فسيبقى كل شيء مجرد كلام.»

نزع نظارته الشمسية، فرأيتُ لأول مرة عينيه اللتين لم تَتناسبَا مع مظهره العام، عينين زائغتين، عصبيتين، زُرقتهما شاحبة، وتلمع فيهما الدموع. على مَنبت الأنف شامَة راحَ يَتحسَّسها كأنها دُمَّل، وكلما استدار برأسه يمينًا ويسارًا كنت أتوقع أن يشم تحت إبطيه حيث ظهرت بقعتان كبيرتان من العرق، إلا أنه كان يتلفتُ حوله فحسب وكأنه يبحث عن شخص ما. قرَّب يديه إلى بعضهما إلى أن تلامست أطراف الأصابع الممدودة، ثم ترك هنيهات تمضي قبل أن يتجه فجأة إليَّ ويسألني عمَّا إذا كنتُ أعرف كيف كانوا فيما مضى يطفئون الشموع في هيكل الكنيسة؟ وقبل أن أستطيع الإجابة كان قد أجاب قائلًا: «بنفخة وديعة من ماسورةٍ رفيعةٍ طويلة.»

ونفخ في الهواء كأنه أراد أن يستعرض ذلك.

«ليس أكثر من ذلك.»

التشبيه الكنسي الذي استخدمه جعل كلامه أكثر إثارةً للتَّقزُّز مما هو بالفعل، ولا أعرف لماذا لم أنهض وأنصرف؟ لماذا أصغيت إليه؟ لماذا تحمَّلْتُ أصلًا نظراته الشامتة عندما واصل قائلًا: إن السفلة على الجانب الآخر كانت لهم بالطبع طُرقهم الخاصة؟

«كانوا يُفضِّلون التنشين على الركبة»، أضاف من غير أن يسأله أحد عن ذلك. «عندئذٍ كانوا يَخرُجون صائحين من خنادقهم وينهالون بالسكاكين على رقبة الضحية.»

كنتُ أعرف أنه تقاضى أجرًا لقاء الحديث، وربما لذلك راح يسلك على هذا النحو، وربما كانت هذه طريقته لتقديم شيء مقابل المال، أو ربما أن هذا هو ما يقوله دومًا للصحفيين الأجانب، النُّسخة التي يقدمها لأحد لوردات الحرب، لا سيما أنه يصف نفسه بكلمة specijalista، وعندما سُئِلَ ماذا تعني الكلمة، اغتصبَ ابتسامة متعالِمة، متطلعًا إلينا الواحد تلو الآخر بنظراته القلقة. صعُب عليَّ أن أحدد: هل كان يُمثِّل ذاته فحسب حتى نرضى، أم يمثل دور الشرير لأننا — في رأيه — نتخيله هكذا؟ ولكن سلوكه كان غير مُتقَن، عندما أفرغ كأس العَرَق في جوفه بطريقة استفزازية، أو عندما أخرج تليفونه بعد أول رنة من جيب الصدر وكأنه يُخرج مسدسًا، ثم فحَّ ببضع كلمات مرتبكًا، ناهيك عمَّا فعله بمجموعة من الصبية الذين مروا بنا وأحدثوا صخبًا، فقبض على مَن وقع في يده، وحذَّره متهكمًا أن يحترس عندما يقترب منا، وإلا سيجد نفسه مُرحَّلًا إلى لاهاي. كان واضحًا أنه يستمتع بوجوده معنَا، لكنني لم أكن في حالة تسمح لي بالضحك، وعندما أخرج بعد كل ذلك صورة له ولفرقته آنذاك وعرضها علينا — وكأنه يعرض علينا صورة الْتُقِطَت له في الكرنفال، كيف وقفوا مُتحلِّقين حول دبابة بدت ماسورتها وكأنها ستخترق الصورة، أمام عين الرائي مباشرة — فقد أحسست بالاختناق من وقاحته وصفاقته.

كان في صدر الصورة، على رأسه كاسكيت أهل الباسك، الوحيد الذي لا يرتدي قناعًا، نظرته مستقيمة مُفعَمة بفخر واضح، نظرة غير مهزوزة كما لاحظتُ من قبل، أمَّا المرتدون الزي العسكري وراءه فقد وضع كلٌّ منهم جوربًا على وجهه، وأتذكر كيف توقف بغتةً عن ممازَحَاته عندما تحدث عنهم. ورغم صعوبة التفرقة بينهم، راح يشير إلى كل واحد ذاكرًا اسمه، وكادت رقته أثناء ذلك تقترب من الشذوذ، ما زلتُ أرى المنظر أمام عيني، كيف تحدث إليهم، وكأن عليه أن ينادي الواحد بعد الآخر، كما كان يفعل أثناء الحرب، الفارق أنه فعل ذلك الآن هامسًا، وكأنهم سيجيبون بصوت غير مسموع. إذا كان ثمة شيء غير مُزيَّف فيه، فهو تأثُّره الذي انقبض له صدري آنذاك، والآن أيضًا عندما أفكر في ضعف صوته وهشاشته لمَّا حكى عن مصيرهم، تَعداده لهم بدَا وكأنه خَبَر يُتلى من سُلطة عليا، تُحتِّم عليه أن يقدم أمامها كشف حساب، اثنان قُتلوا، اثنان تَزوَّجَا، وكأن الموت كالزواج، اثنان يعملان ضمن فرقة مرتزقة في مكان ما في أفريقيا، واحد مريض في رأسه، على حد تعبيره، وواحد عاد إلى كندا حيث كان يعيش قبل أن يأتي خِصِّيصَى لينضم إليهم للقتال. هكذا كما صور الأمر، كانت الخسائر كبيرة، وما زلتُ أتذكَّر كيف اشتكى قائلًا: هذا ما جنيناه من وراء إنجاز العمل القذر، عندما أطعنا وقبلنا أن يرسلونا إلى أماكن تافهة ليست لها قيمة. ثم أعاد الصورة وصمَت، كتلة من البؤس ترثى لحالها، إلى أن سأله باول عمَّا إذا كان ذهب مع فرقته إلى كوسوفو أيضًا.

«وماذا كنا سنفعل هناك؟»

هكذا أجاب قبل أن يفهم ما وراء السؤال، ثم توقَّف بغتةً لينفي كل شك عن نفسه.

«هل تقصد فعلًا أن لنا علاقة بما حدث هناك؟»

اعتقدتُ أن باول سيقول «نعم»، إلا أنه لم يعطه فرصة وواصل كلامه واصفًا ألماير بالصديق، وحاوَل أن يستظرف: «أنت ربما تعرف أنني رأيتُه آخر مرة على جزيرة هفار. ولكن صدقني، لقد تصرف وكأننا لا نعرف بعضنا على الإطلاق.»

كلامه يتعارض مع ما ادعته إيزابيلا، غير أنه أصرَّ على أنه خاطبه، لكنه لم يَجنِ منه سوى الإعراض. ثم واصل قائلًا: «كان هناك مع امرأة، تصرَّف وكأننا لم نَلتقِ ولم نَتحدَّث أبدًا على الجبهة. ربما لم أكن أَليقُ بمستواه، ولهذا لم يُقدِّمْني للسيدة.»

لم أعرف: هل أُصدقه؟ ولكنني من ناحية أخرى لم أجد سببًا يحمله على أن يكذب علينا، وأن يتظاهر بأنه لم يتحدث معه إذا كان في الحقيقة قد تكلم معه. ليس ثمة دافِع لذلك، قلتُ لنفسي، ورغم أن الأمر كان بلا شك له علاقة بالنساء، إذا كان ضبطه بالفعل أثناء نزوة غرامية كان يفضل ألماير أن تظل في الخفاء، ولذلك عامله بجفاف. من ناحية أخرى لا يستطيع أحد أن يدعي أن الإنسان يحب أن يلتقي شخصًا مثل سلافكو مرة أخرى، وعندما أتصوَّر كيف سار في اتجاهه، بشعره الدهني اللامع، وكأس في يده، مثل غندور متأنِّق، يعرف المرء بمجرد رؤيته من بعيد أنه جندي متقاعد، قضى سنوات في الدفاع عن الوطن ثم عُزل من الخدمة، فإنني لا أستغرب أن يكون قد أنكر معرفته.

لم نستطع استدراجه ليقول أكثر من ذلك. ولم يَعُد يبدو أنه يريد أن يَتحدَّث عن ألماير على وجه العموم. تجاهَل أسئلة باول حول الرصاص أثناء عملية تبادُل الأسرى، ولم يقل سوى أن ذلك كان أمرًا عاديًّا تمامًا على الجبهة.

«إذا كنتم تريدون أن تَستنتِجوا شيئًا آخَر، فأنتم أحرار»، قال بعد بُرهة. «أطلقوا لخيالكم العنان كما تشاءون.»

ألقى نظرة على الساعة وقال إن الوقت المُتَّفَق عليه قد مرَّ، ومقابل كل كلمة أخرى لا بُدَّ من أن يأخذ حسابًا إضافيًّا، ولكنه في الواقع ليس لديه ما يضيفه. وضع النظارة الشمسية مرة أخرى أمام عينيه، ثم أمال كرسيه إلى الوراء وشبَّك يديه خلف رأسه، ولم يكن في مظهره يختلف شيئًا عن الشُّبَّاب الذين كانوا يجلسون إلى المائدة المجاورة ويرسلون البصر إلى النهر. إذا لم يعرف الإنسان هُوِيَّته، فإنه قد يعتبره أي شيء وأي شخص: رجل أعمال مرهَق أثناء استراحة الغداء، مندوب مبيعات أتى إلى المدينة ليوم واحد، أو النسخة البلقانية من دون جوان الباحث عن عشيقة. وعندما سلَّم علينا في النهاية وودَّعنا، اختفى على الفور بين الناس الذين ملَئُوا الساحة الآن، بين حركة الرائِحِين والغادِين في سرعة إلى هدفهم، أو المُتمهِّلِين الذين يظهرون ثم يختفون كما ظهروا فجأة، أعداد من البشر، لكل منهم — كما يقولون — سيرة ذاتية، وحياة تخصه وحده، كل منهم يتخيل أنه لن يموت الآن، ولكل منهم موت يختلف عن الآخَر.

ما زِلتُ أتذكَّر أنه أثناء النهوض راح يحذرنا من ألَّا ننخدع من الهدوء ومَظاهر السلام، فالحرب البوسنية بدأت هنا وليس في سراييفو كما يعتقد الجميع. ثم ذكر أهمية المكان الاستراتيجية، الممر — إذا كنتُ أتذكر كلماته بحرفها — الذي يضمن طريقًا مباشرًا بين بلغراد وكرايينا، ومعامل التكرير على الجانب الآخر، إلى أن وقف بغتة بعد أن لاحَظ هو نفسه أن كل كلمة إضافية لن تزيد الموقف إلا عبثية. أشار إلى الجسر الواقع خلفي، حيث كانت طوابير من الشاحنات تَتحرَّك بسرعة السلحفاة، وكان آخِر ما سمعْتُه منه أن هذا الجسر كان في النهاية الوصلة الوحيدة بين ضفَّتَي السافه التي بَقيَتْ من غير تدمير ولم تقع في أيدي الصرب.

كنتُ لا أزال أفكر في كلامه عندما تَمشَّيتُ بعد ساعات وَحْدي على الطريق الموازي لضفة النهر، على امتداد صفوف شجر الكستناء، وكل بضع خطوات أجد تحت شجرة بائع «فيشار» أمام طاولة البيع الصغيرة جدًّا. كنا قبل الغروب بقليل، الشمس قرص مسطَّح، أجواء المساء كادت تكون أسطورية؛ من بعيد تبدو المياه وكأنها لا تَتحرَّك، أشباح السابحين الذين كانوا يتحركون قُرب الشاطئ في الأماكن الضَّحلة من النهر، وكان يكفي أن أفكر في أن الأيام آنذاك كانت شبيهة بهذا النهار، في الربيع والصيف، وعلى الفور ينتابني دُوار اللاواقع. عندئذٍ تَطلَّعتُ إلى البريق الذي لمع على الضفة الأخرى، السماء التي شَرعت أضواؤها تَخْفت هناك ببطء، وحاولت التَّخيُّل كيف كان الأمر في تلك الأيام، تيار اللاجئين في الأسابيع والشهور التي سَبقتْ إغلاق الجسر أمام العابرين، لم يُسمح سوى للنساء والأطفال بالعبور بينما أُجْبِر الرجال على البقاء على الناحية الأخرى كي يُكافِحوا، اليائسون الذين حاولوا الهروب سباحةً ولكنهم لقوا مصرعهم غرقًا على نحو يبعث على الحزن والرثاء.

على بُعد أقل من مائة كيلومترًا، عند مصب الأونا، كان يقع يازينوفاتس، أكبر معسكر اعتقال لأنصار حركة الأوستاشا في الحرب العالمية الثانية، حيث قُتل عشرات بل مئات الآلاف منهم، أغلبيتهم من الصرب، وأتذكر أن ألماير كتب في إحدى مقالاته بشعور تام من العجز أنه لم يستطع تحمل لامبالاة الطبيعة هناك عندما زار المكان. على حين غِرَّة تراءى أمام عيني وصفه للمتنزه النهري هناك، الخمول أثناء قيظ الصيف، ومن بعيد يبدو النُّصب التذكاري، التمثال الخرساني المنهار، الذي يشبه زهرة أوركيديا ضخمة تسمو بهامتها شاكيةً للسماء، والقطار الذي كان يقف على السَّد، ضائعًا بين المروج، القاطرة وخلفها خمس عرباتٍ لنقل المواشي، والقُضبان التي تمتد نحو اللاشيء. حسبما زعموا نُهِب المتحف ودُمِّر تدميرًا تامًّا، قام بذلك على الأرجح أعضاء الميليشيات الكرواتية الذين أقاموا ثكنتهم العسكرية هناك قبل أن يتم طردهم. حاولتُ أن أتخيله يسير عَبْر صالات العرض، والجدران ملطَّخة بالبراز، الكتب والصور ممزقة، ولم تَعُد ثمة نافذة سليمة تمامًا. حدث ذلك بطريقة منهجية، كل شيء فقد معالِمَه وهويته، ورُحتُ أفكر كيف كان يصحح نفسه بنفسه عندما يرى صورة عليها وجه يتعرَّف عليه، أو إذا كان ثمة اسم يمكن قراءته، كيف فكَّر في اللحظة الأولى أنهم نَجَوْا من الحرب، ثم يقول لنفسه إن هذا لا يعني شيئًا، إن السواد الأعظم منهم قضى نَحْبَه تمامًا مثل الآخَرِين الذين لم يتركوا أي أثر. ما تبقى في النهاية كانت رسومات الأطفال التي تناثرت في كل مكان، وعليها أشكال مُكدَّسة في خوف خلف الأسلاك الشائكة، مرسومة بألوان مائية باهتة، أبراج الحراسة وأسوار مصنع الطوب التي لوَّنَتْها أيادي التلاميذ، وكذا الحكاية التي تُدمي القلوب وتثير الرعب في آنٍ، حكاية ميلان كوفوتشيفيتش، وهي حكاية — وكما يتضح على الفور لدى قراءتها — لا يمكن أن يكون قد اختلقها.

استدرتُ ورحتُ أسير ضد التيار في اتجاه الجسر، مارًّا بالقلعة النمساوية التي كادت تغطيها النباتات والأعشاب، وعندئذٍ لفتت انتباهي سيرة هذا الرجل مرة أخرى بكل المعلومات المرعبة التي أعرفها عنه: وُلِدَ في ياسنوفاتس طفلًا لسجين، ثم بعد ذلك بخمسين عامًا، وغير بعيد عن هناك، أصبح هو نفسه قائدًا عسكريًّا في البوسنة، في منطقة بريدور، مسئولًا عن المعسكرات في أومارسكا، وكيراتيرم، وترنوبوليه، تلك الأماكن التي لن تغفلها في المستقبل أي خريطة للفظائع والجرائم التي يرتكبها البشر في كل مكان. كان من العبث أن أحاول مُجرَّد محاوَلة تَخيُّل الصبي الذي ارتعب رعبًا مميتًا لم يُفارِقه منذ ذلك اليوم، الصبي المختبئ الآن داخل الرَّجُل ذي المئة كيلوغرام الذي كان يفضل استقبال الزوار الأجانب — حسبما يُروى — مرتديًا اﻟ «تي شيرت» ذي الألوان المموَّهة وعليه مكتوب U.S. Marines، ورغم ذلك لم أستطع أن أطرده من رأسي، عندما عبَرت النهر وسِرْتُ على الجانب الآخر. Welcome to Republic Srpska، هكذا كان مكتوبًا على لافتة على الحدود باللغة الإنكليزية وبجانبها جملة بالحروف الكيرلسية، إذن اسم المدينة الآن «صربسكي برود»، وليس كما هو مكتوب في الأطلس وخرائط الطرق «بوسانسكي برود»، وكما كانت المدينة التوأم لسلافونسكي برود تُدعى حتى الآن، وبالنسبة لي فقد رأيتُ في تغيير الأسماء، ومحو الصفة البوسنية والتأكيد على الصفة الصربية، تعبيرًا عن الرغبة في الثأر ورد الاعتبار، ووَدِدْت لو عُدْت على الفور من حيث أتيتُ.

وبالفعل، لم أظل مدة طويلة هناك. تَسكَّعْت قليلًا في السوق، وهي منطقة من الأكشاك الخشبية العشوائية التي أُقيمَت على النهر مباشرة، ثم انطلقتُ من جديد. أثناء عودتي على الجسر كان معي هناك عدد غفير من الناس الذين عبروا الضفة للتسوق، وفي كلتا اليدين يحملون أكياسًا بها كل ما يمكن تخيله، كثيرون كانوا يحملون أيضًا خراطيش السجائر، وزجاجات تَسَع ليترين من المشروبات الغازية ذات الألوان الصارخة. ساد التزاحم الشديد على الجسر، ما زال المرور في اتجاه كرواتيا يسير ببطء، صفير مزعج يصدر عن الهيكل الفولاذي للجسر الذي يتلقى الرياح، وشعرت بالبهجة عندما وصلت الفندق أخيرًا، حتى وإن أوقفتني موظفة الاستقبال هناك بمجرد أن حكيتُ لها أين كنتُ، ثم ورطتني في محادثة.

«أنا لا أفهم أولئك الأوغاد»، قالت مستنكرةً. «عندما أفكر في سرعة نسيانهم لما شاركوا في ارتكابه، فإنني أتساءل لماذا كان كل ما حدث.»

رغم أنني خمَّنتُ ما قصدَتْ، فقد فوجئتُ بوضوح رأيها الذي خرج من فمها بالأحرى كتنهيدة.

«قبل سنوات قليلة كانوا يَتصرَّفون وكأن من المستحيل أن يعيشوا معًا تحت أي ظرف من الظروف، وفجأة باتوا يَتبادَلون التجارة ويُساوِمون حول كل مليم.»

لم أفهم ما العيب في ذلك؟

– «هذه بداية جديدة.»

قهقهَتْ متسائلة: «لأي شيء؟»

«لا أعرف»، قلتُ لها نادمًا على تورطي في الكلام. «ولكن ربما يكون أي شيء أفضل من لا شيء.»

أخذَتْ تنظر إليَّ، غير أني لم أبادلها النظر، وتطلعتُ إلى العَلم الشبيه برقعة الشطرنج خلفها والذي لَفَتَ نظري الآن لأول مرة، وانتظرت. بعد أن راحت تُقلِّب في دفتر الزوار الضخم، وأغلقته من دون أن تحول بصرها عني، ولم يفارقني الانطباع بأنها تعطيني وقتًا كي أصحح رأيي، أو أن أضيف بضع كلمات تُسَهِّل عليها الإجابة. عندئذٍ شرعَتْ تقول شيئًا، ولكنها في اللحظة الأخيرة قرَّرتْ أن تومئ فحسب، وتتمنى لي أمسية طيبة، وقبل أن أسألها عن الخطأ الذي ارتكبتُه، كانت قد أنهَت الحديث.

بعد ساعتين كنتُ أجلس مع هيلينا وباول على العشاء، ولا أعرف إذا ما كانَا قد اتفقا على عدم التحدث عن سلافكو، أم أن تجنُّب ذكرِه كان مُجرَّد مصادَفة، عمومًا كانا يتطلعان إليَّ في كل مرة أتحدث عنه، على نحو يكاد يقول إنهما لا يريدان أن يتذكراه. كانَا قد نامَا طيلة العصر، وعلى كل حال لم يتكلَّمَا كثيرًا، غير أنني لم أفهم أبدًا هدفهما من التصرف وكأننا لم نقابله. ربما ينبع سوء التفاهم من صفة «كابوسي» التي حاولَا من خلالها أن يَصِفَا لقاءه، قلتُ لنفسي، فهما ينظران إلى المقابَلة على أنها شيء غير حقيقي، وهمي، بينما أعتبرها أنا العكس تمامًا، وأنني أُفضِّل الصمت عن أن أعتبر كلامه مجرد هذيان.

وأتذكر أيضًا أن هيلينا سألَتْه إذا كان يشعر بالسعادة، غير أنها تجاهَلَت ذلك الآن تمامًا. كان سؤالًا ساذجًا وصبيانيًّا. تَطلَّع إليها وضَحِك مكرِّرًا الكلمة كأنها شيء داعر، والآن فحسب اتَّضَح لي الاتهام الذي تخفَّى وراء سؤالها الهجومي، وعدم جدوى السؤال، وعبثية الحكم بالبراءة، سيان من أي شيء، لو كان رد بالإيجاب. بالطبع لم تواجهه بذلك إلا لأنها لا يمكن أن تَتخيَّل أن يكون سعيدًا، وربما لذلك جاء رد فعلها دفاعيًّا عندما سألتُها عن موقفها لو كان بالفعل سعيدًا، إذا كان هذا سيعني أي شيء بالنسبة لها، أو كان سيغير مما فعله أو لم يفعله؟

«ما تَتوهَّمُه في رأسك ليس في رأيي إلا هراءً»، قالت عندئذٍ. «على كل حال، بالنسبة له تَسْرِي قوانين أخرى.»

دُهشت من ردها لدرجة أنني أُصبْتُ بالخرس.

«لو أن الأشياء بهذه البساطة.» كانت هذه الجملة هي كل ما استطاعت في النهاية قوله، قبل أن تضيف جملةً قطعت الشك باليقين قطعًا نهائيًّا وحاسمًا: «إما أن تكون إنسانًا، أو لا تكون.»

وبهذه الجملة انتهى الحديث. ذهبتُ للنوم مبكرًا، ولكنني استيقظتُ مبكرًا على صيحات طيور النورس التي تَجمَّعتْ في الفناء وراحَت تتنازع حول شيء بين صناديق المشروبات التي رُصَّت فوق بعضها حتى وصَلَت إلى الطابق الأول. نوافِذ الممر كانت مفتوحة، والريح تتلاعب بالستائر، ولكن عندما اتَّكأتُ على النافذة لأُلقي نظرة إلى الخارج لم أستطع تَبيُّن سبب صياح الطيور. ورغم أن النهار طلع، كان القمر ما زال في السماء، في ثلاثة أرباع حجمه المُكتمِل، وبدَا لي وكأنه منعكس على الجسر، في اتجاه التيار، هناك حيث غابت الشمس ضد التيار. أمام مَدخل الفندق كان يقف باص بعربتين مربوطتين من المنتصف بمفصل مُتحرِّك يشبه الأكورديون، من الطراز الذي كان يعمل سابقًا في خدمة البريد النمساوي، حيث لا زالَت عليه دعاية لقضاء إجازة عائلية في قرية ما على الجبال، وبينما رحتُ أُحملق في الجملة غير مُصدِّق — وهل هناك ما هو أكثر مفارَقةً؟ — بدَت لي وكأنها خَبَر من عالم زال ولم يَعُد له أثر.

لا أعرف السبب الذي حملني على فعل ذلك، ولكنني أخذتُ أول قطار إلى زغرب، ومن هناك اتصلت بهيلينا وباول وطلبتُ منهما أن يَمرَّا لأخْذِي. كانت هي التي ردَّت على التليفون، وأتذكر أنها لم تطرح أي أسئلة، فاستنتجتُ أنه كان يقف بجانبها. قالت لي إنهما سيكونان هناك خلال ساعتين، إذا كان هذا يناسبني. عندئذٍ ذهبتُ إلى المقهى في ساحة يلاتشيتش حيث ظلت هيلينا تنتظر باول من دون جدوى إثر وقوع الحادثة له، وعندما ظهرَا في الموعد تقريبًا، لم أحتج إلى بذل مجهود كبير حتى أقنعهما بمواصلة السَّفَر على الفور إلى ألمانيا، لذلك ما زلتُ أسأل نفسي: هل فَعلَا ذلك من أَجْلي فقط، أم أنهما هما أيضًا كانا قد سَئِمَا كل شيء؟

١  أي: الإسلام اليوناني، والإسلام اللاتيني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤