الفصل الثالث

الطفرات

يُمكن توضيح أي شيء له شكل متذبذب من خلال أفكار خالدة.

جوته

(١) الطفرات التي تُشبه «القفزات»: مجال عمل الانتخاب الطبيعي

الحقائق العامة التي طرحناها للبرهنة على الديمومة المزعومة لتركيب الجينات، ربما تكون معتادة جدًّا بالنسبة لنا بحيث لا تبدو لنا مُدهشة أو مُقنِعة. هنا، ولمرة واحدة، المقولة الرائجة التي تقول إن الاستثناءات تثبت القاعدة فعلًا حقيقية. فإذا لم يكن هناك استثناءات للتشابُه بين الأبناء والآباء، لكنا حُرِمنا ليس فقط من كل تلك التجارب الجميلة التي كشفَت لنا عن الآلية التفصيلية للوراثة، لكن أيضًا التجربة الطبيعية الأعظم بمليون ضعف، التي تُشكِّل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.

دعوني آخذ هذا الموضوع الأخير المهم نقطةَ بداية لتقديم الحقائق المتعلِّقة بعرضنا، مرة أخرى مع اعتذارٍ وتذكير بأنني لست عالِم أحياء:

fig7
شكل ٣-١: إحصاءات طول الحسكات في محصول من سلالةٍ نقية. المجموعة المظلَّلة باللون الأسود هي التي ستُختار لكي تُبذر. (إن التفاصيل المعروضة ليست نتاج تجربة فعلية، لكنها معروضة فقط من أجل التوضيح.)
نحن نعرف بكل تأكيد اليومَ أن داروين كان مخطئًا في النظر إلى التنوعات الضئيلة المستمرة العرضية، المؤكِّدة الحدوث حتى في أكثر الجماعات تجانسًا، باعتبارها المادة التي تعمل عليها عملية الانتخاب الطبيعي؛ إذ بُرهِن على أنها غير موروثة. هذه الحقيقة على قدر كبير من الأهمية بحيث يوجب علينا شرحها هنا ولو على نحوٍ مُختصَر. فإذا ما أخذتَ محصولًا من سلالة نقية من الشعير، وقستَ طول حسكاتها سنبلةً سنبلةً، ثم مثَّلت ما حصلت عليه من نتائج بيانيًّا، فسوف تحصل على شكل منحنًى يُشبه الجرس، كما هو موضَّح في الشكل ٣-١؛ حيث يُمثِّل عددَ السنابل التي لحسكاتها طولٌ معيَّنٌ في مقابل الطول. بمعنى آخر، يسود طولٌ متوسط محدَّد، وتَحدث انحرافات في كلا الاتجاهين بتكرارات معينة. والآن اختر منها مجموعة من السنابل (المظلَّلة باللون الأسود) بحيث تكون حسكاتها أقل في الطول من المتوسط بقدرٍ ملحوظ، لكن عددها كافٍ بحيث تنبت في الحقل بمفردها وتُعطي محصولًا جديدًا. وبإجراء الإحصاءات نفسها للمحصول الجديد، فإن داروين كان سيتوقَّع أن يجد المنحنى الجرسي المقابل وقد تحرَّك نحو اليمين. بمعنًى آخر، كان سيتوقَّع أن ينتج بواسطة الانتخاب زيادة في متوسِّط طول الحسكات. لكن ليس هذا ما يحدث لو استُخدمت سلالة نقية من الشعير. إن المنحنى الإحصائي الجديد الذي سنحصل عليه من المحصول المنتخَب، سيكون مُماثلًا للمنحنى الأول، ولن تختلف الحال لو انتُخبت سنابل قصيرة الحسكات على نحو خاصٍّ للإنبات. فالانتخاب ليس له تأثير؛ لأن التنوُّعات الضئيلة والمستمرَّة لا تُورث. من الواضح أنها لا تعتمد على تركيب المادة الوراثية، وأنها عرضية. لكن منذ نحو أربعين عامًا اكتشف العالِم الهولندي دي فريس أن الذرية حتى تلك التي من سلالات خالصة النقاء، سيظهر فيها عدد ضئيل جدًّا من الأفراد — لنقُل اثنين أو ثلاثة في العشرة آلاف — وبهم تغيير طفيف لكنه يشبه «القفزة»، وهذا لا يعني أن التغيير ملحوظٌ للغاية، لكن أن هناك عدم استمرارية، مثلما لا توجد تكوينات بينية بين غير المتغيِّرين والقِلة التي تغيرت. دي فريس أطلق على ذلك اسم الطفرة. الحقيقة المهمة هنا تكمن في عدم الاستمرارية، وهي تُذكِّر الفيزيائي بنظرية الكم؛ إذ لا توجد طاقات وسيطة بين مستوَيين مُتجاورَين للطاقة. وسوف يميل إلى أن يُطلِق على نظرية الطفرة الخاصة ﺑ «دي فريس» — مجازيًّا — نظرية الكم الخاصة بعلم الأحياء. سوف يتَّضح لنا لاحقًا أن هذا أكبر كثيرًا من كونه أمرًا مجازيًّا؛ فالطفرات في الحقيقة سببها قفزات كمية في جزيء الجين. لكن نظرية الكم لم يكن عمرها يتعدى العامَين عندما نشر دي فريس اكتشافه للمرة الأولى في عام ١٩٠٢. ما يُثير الدهشة قليلًا أن الأمر قد استغرق جيلًا آخر لكشف العلاقة الوثيقة بين الطرفين!

(٢) إنها تتكاثَر على نحوٍ نقي؛ أي إنها تُورث على نحو تام

الطفرات تُورَّث على نحو تام تمامًا كما هي الحال بالنسبة للصفات الأصلية غير المتغيِّرة. لنضرب مثالًا: في محصول الشعير الأول الذي عرضنا له أعلاه قد يظهر عدد من السنابل وبه حسكات تقع خارج نطاق التنوع الموضَّح في الشكل ٣-١ على نحوٍ كبير؛ لنقل بلا حسكات على الإطلاق. ربما تُمثِّل تلك السنابل طفرةً بمفهوم دي فريس، وستتكاثر بعد ذلك على نحو نقي؛ أي إن كل نسلها سيكون بلا حسكات.
وهكذا، فإن الطفرة هي بالتأكيد تغيير في الجوانب الوراثية، والمسئول عنها حدوث تغييرٍ ما في المادة الوراثية. في واقع الأمر، إن أغلب تجارب التكاثُر المهمة التي كشفت لنا عن آلية حدوث الوراثة تقوم على التحليل الدقيق للذرية التي تنتج عن التهجين، بحسب خطة مسبقة، بين أفراد طافرين (أو في حالات كثيرة، متعدِّدي الطفرات) من جهة، وغير طافرين أو طافرين على نحوٍ مختلف من جهة أخرى. من ناحية أخرى، إن الطفرات، بسبب تكاثُرها النقي، تُعدُّ مادة مناسبة يمكن للانتخاب الطبيعي أن يعمل عليها وينتج أنواعًا كما وصف داروين، عن طريق القضاء على غير الصالح منها وترك الأصلح لتَبقى. في نظرية داروين، يجب عليك فقط أن تَستبدل «الطفرات» ﺑ «تنوعاته العرضية الضئيلة» (كما استبدلتْ نظريةُ الكمِّ «القفزة الكمية» ﺑ «انتقال الطاقةِ المُستمر»). في كل الجوانب الأخرى، كان مطلوبًا إدخال تغيير ضئيل في نظرية داروين، هذا لو كنتُ أفهم على نحو صحيح رؤية الغالبية العظمى من علماء الأحياء.١

(٣) الموقع: التنحي والسيادة

علينا الآن أن نَستعرض بعض الحقائق والمفاهيم الأساسية الأخرى عن الطفرات، مرة أخرى بأسلوبٍ مباشر بعض الشيء، دون أن أبيِّن على نحو صريح كيف تَنبثق، الواحدة تلو الأخرى، بالأدلة التجريبية.

يجب أن نتوقَّع أن يكون سبب أي طفرة ملحوظة محدَّدة هو تغيُّر في مكانٍ معيَّن في أحد الكروموسومات. لكن من المهم أن نُصرِّح بأننا نعرف على نحو أكيد أنها تغيُّر في كروموسوم واحد فقط، لكنه ليس في «الموقع» المقابل على الكروموسوم المُتماثل. يُشير الشكل ٣-٢ إلى هذا على نحوٍ بياني؛ إذ توضِّح العلامة X الموقع الطافر. تكشَّفت حقيقة أن كروموسومًا واحدًا فقط هو الذي يتأثَّر عندما هُجِّن فردٌ طافر بآخر غير طافر؛ إذ أظهر بالضبط نصف الذرية الناتجة الصفة الطافرة والنصف الآخر أظهر الصفة الطبيعية. هذا هو المتوقَّع نتيجةً لانفصال الكروموسومين من خلال الانقسام الميوزي في الفرد الطافر، وذلك كما يتضح على نحوٍ بياني في الشكل ٣-٣. إن هذا الشكلَ «شجرةُ نسبٍ» تُمثِّل كلَّ فرد (في ثلاثة أجيال مُتوالية) ببساطة من خلال الكروموسومين محل التناول. عليك أن تدرك أن الفرد الطافر لو أن كروموسومَيه قد تأثَّرا، فكل أطفاله سوف يَرِثون الصفة الوراثية (الطافرة) نفسها، التي تَختلف عن تلك الخاصة بكلا الأبوَين.
fig8
شكل ٣-٢: فرد طافر مُتغاير اللواقح. تشير العلامة X إلى الجين الطافر.

لكن إجراء التجارب في هذا الشأن ليس بالبساطة الظاهرة التي قد تتراءى لنا مما عرضناه للتو. فالأمر معقَّد بسبب العامل المهم الثاني المتمثِّل في أن الطفرات في الأغلب الأعم تكون كامنة. ما الذي يعنيه هذا؟

fig9
شكل ٣-٣: انتقال طفرة. تُشير الخطوط المستقيمة العرضية إلى انتقال كروموسوم، والخطوط المزدوجة إلى انتقال الكروموسوم الطافر. تأتي كروموسومات الجيل الثالث غير المبينة من حالات «تزاوج» من الجيل الثاني، التي ليست متضمَّنة في الشكل البياني، والتي من المفترض أن تكون لأفرادٍ ليسوا بأقارب وليس لديهم الطفرة.
fig10
شكل ٣-٤: فرد طافر مُتماثل اللواقح ظهر في ربع الذرية إما من التخصيب الذاتي لفرد طافر مُتغاير اللواقح (راجع الشكل ٣-٢) أو تهجين اثنين من هؤلاء الأفراد.

في الفرد الطافر، لم تعُد «نسختا نص الشفرة» متماثلتين؛ فهما تقدمان «قراءتين» أو «نسختين» مختلفتَين في ذلك المكان الواحد على أيِّ حال. ربما من الجيد أن نُشير على الفور إلى أنه سيكون من الخطأ أن تُعدَّ النسخة الأصلية ﮐ «الشخص المتديِّن» والنسخة الطافرة ﮐ «الشخص المهرطق»، على الرغم من أن هذا قد يكون مغريًا. فيجب علينا أن نعتبر أن لهما حقوقًا متساوية، وذلك من الناحية المبدئية؛ فالصفات الطبيعية قد نشأت كذلك من طفرات.

ما يحدث حقيقة هو أن «نمط» الفرد — كقاعدة عامة — يتبع إحدى النسختين، التي من الممكن أن تكون الطبيعية أو الطافرة. إن النسخة التي تُتبع تُوصف بأنها سائدة، والأخرى بأنها مُتنحية؛ بعبارة أخرى، الطفرة تُدعى سائدة أو متنحية بحسب ما إذا كانت مؤثِّرة في الحال في تغيير النمط أم لا.

إن الطفرات المُتنحية أكثر حدوثًا من تلك السائدة وهي مهمَّة جدًّا، على الرغم من أنها في البداية لا تظهر على الإطلاق. ولكي تؤثِّر في النمط، يجب أن توجد على كلا الكروموسومَين (انظر الشكل ٣-٤). هؤلاء الأفراد يُمكن أن ينتجوا عند تصادف تهجين فردَين طافرَين متنحيَين متكافئين مع بعضهما، أو عند تهجين فرد طافر مع نفسه؛ يكون هذا ممكنًا في النباتات الخُنثى، بل وحتى يحدث على نحو تلقائي. إن التأمل البسيط سيُبيِّن أنه في هذه الحالات، ربع الذرية تقريبًا ستكون من هذا النوع، وبذلك ستُظهر على نحو واضح النمط الطافر.

(٤) استعراض بعض المصطلحات المتخصِّصة

أعتقد أن شرح القليل من المصطلحات المتخصِّصة هنا سيُسهم في توضيح الأمور. يُستخدَم مصطلح «أليل» للإشارة إلى «نسخة نَص الشفرة»، سواء أكانت الأصلية أم الطافرة. وعندما تكون النسختان مختلفتَين، كما هو موضَّح في الشكل ٣-٢، يُوصف الفرد بأنه مُتغاير اللواقح فيما يتعلق بهذا الموقع، وعندما تكونان متماثلتَين كما في حالة الفرد غير الطافر أو كما هي الحال في الشكل ٣-٤، يُوصف الفرد بأنه مُتماثِل اللَّواقح. هكذا الأليل المتنحي لا يؤثر في النمط إلا إذا كان مُتماثل اللواقح، بينما الأليل السائد ينتج النمط نفسه، سواء كان متماثل اللواقح أو مُتغاير اللواقح.

إن امتلاك لون في الأغلب الأعم سائد على عدم امتلاك لون (أو امتلاك اللون الأبيض). وهكذا، فإن البازلاء، على سبيل المثال، ستُزهر زهورًا بيضاء فقط عندما تَمتلك «الأليل المتنحي المسئول عن اللون الأبيض» في كلا الكروموسومين المعنيَّين، عندما تكون «مُتماثلة اللواقح للون الأبيض»؛ حينها ستتكاثَر على نحوٍ نقي، وسيكون كل النسل أبيض. لكن وجود «أليل أحمر» (مع كون الآخر أبيض؛ أي «مُتغاير اللواقح») سيجعل الزهور حمراء، وهكذا الحال عند وجود أليلَين حمراوَين (متماثل اللواقح). إن الاختلاف بين الحالتين الأخيرتين لن يتَّضح إلا في الذرية، عندما يُنتج متغاير اللواقح للأحمر بعض النسل الأبيض، ويتكاثَر متماثل اللواقح للأحمر على نحوٍ نقي.

إن حقيقة أن فردَين من الممكن أن يكونا متماثلَين تمامًا في المظهر الخارجي لكن مختلفين وراثيًّا مهمة للغاية لدرجة أن التفريق بينهما على نحو دقيق أمر مرغوب. علماء الجينات يقولون إن لديهما الطراز الظاهري نفسه، ولكن طراز جيني مختلف. يمكن إذن اختصار محتوى الفقرات السابقة في العبارة التالية، المُوجَزة لكن شديدة التخصُّص:

الأليل المُتنحِّي يؤثر في الطراز الظاهري فقط عندما يكون الطراز الجيني مُتماثِل اللواقح.

سوف نستخدم هذه المصطلحات المتخصِّصة من آنٍ لآخر، لكن سوف نعرض للقارئ معانيها، عند الضرورة.

(٥) التأثير الضار للتوالد الداخلي

الطفرات المتنحية، ما دامت متغايرة اللواقح، لا تُعد مادة مناسبة بكل تأكيد لعمل الانتخاب الطبيعي. وإذا كانت ضارَّة، كما هي الحال مع الأغلب الأعم من الطفرات، فلن يُقضى عليها لأنها تكون كامنة. وهكذا يمكن لمجموعة من الطفرات غير المحبَّبة أن تتراكم ولا تؤدي إلى ضرر فوري، لكنها بكل تأكيد ستَنتقِل إلى نصف الذرية، ولهذا استخدام مُهمٌّ بالنسبة للبشر والماشية والدواجن وأي أنواع أخرى؛ إن السمات البدنية الجيدة لها هي ما تعنينا هنا. في الشكل ٣-٣، من المفترض أن الفرد الذكَر (فلنقل، إنه أنا، لجعل الأمور واضحة أكثر) يحمل إحدى تلك الطفرات الضارة المتنحية على نحوٍ مُتغاير اللواقح؛ لذلك فهي لا تظهر. فلنَفترض أن زوجتي خالية منها. من ثم فنِصف أطفالنا (الخط الثاني) سوف يحملونها مرة أخرى على نحو متغاير اللواقح. فلو أن جميعهم قد تزوَّجوا من شركاء غير طافِرين (لقد حذفت هذا من الشكل البياني حتى لا أربك القارئ)، فإن ربع أحفادنا سيتأثَّرون بالطريقة نفسها في المتوسط.

لا يكون هناك أي ضرر إلا إذا تزوَّج فردان متأثِّران على نحوٍ مُتساوٍ؛ عندها، وبتأمل بسيط، سيظهر أن ربع أطفالهما، كونهم مُتماثلي اللواقح، سيتعرَّضون للضرر. أعظم خطر بعد التلقيح الذاتي (الذي يُمكن حدوثه فقط في النباتات الخنثى) سيكون في زواج ابن وابنة من أطفالي. فكل منهما يَحمل فرصة مُتعادلة أن يكون متأثِّرًا على نحو كامل أو لا، وربع زيجات المَحارم هذه ستكون خطيرة؛ إذ إن ربع الأطفال الناتجة عنها سيتضرَّر؛ من ثم فمعامل الخطر للذرية الناتجة عن زواج اثنين من أبنائي سيكون ١ : ١٦.

وبالطريقة نفسها، سيَزيد المعامل إلى  ١ : ٦٤  للذرية الناتجة عن زواج اثنين من أحفادي (ذوي الدماء الصافية) هما بالأساس من أبناء العمومة من الدرجة الأولى. تقل احتمالات حدوث هاتَين الحالتين، وإن كانت الحالة الثانية ممكنة أكثر. لكن لا تنسَ أننا قد حلَّلنا تداعيات إصابة كامنة واحدة ممكنة فقط في شريك واحد من زَوجِ أجداد (أنا وزوجتي). فعليًّا الاثنان لديهما احتمالية كبيرة أن يُضمرا أكثر من خلل كامن من هذا النوع. فإذا كنتَ تعرف أنك تمتلك خللًا محدَّدًا، فعليك أن تَخلُص إلى أن واحدًا من كل ثمانية من أبناء عمومتك من الدرجة الأولى يُشاركونك ذلك الخلل! تشير التجارب التي أُجريت على النباتات والحيوانات إلى أنه بالإضافة إلى حالات الخلل الخطيرة المعروفة والنادرة نسبيًّا، فعلى ما يبدو أن هناك مجموعة من حالات الخلل الأقل خطورة، التي تتجمع فرص حدوثها لتؤدِّي إلى تدهور حالة الذرية الناتجة عن التكاثُر الداخلي ككل. وبما أننا لم نعُدْ بأي حال ميالين إلى التخلص من حالات الخلل الشديد بطريقة قاسية كالتي اعتاد اللاسيديمونيون على تنفيذها على جبل تايجيتوس، فيجب في حالة الإنسان أن نفكر على نحوٍ جدِّي بصورة خاصة في هذه الأمور؛ حيث تتوقَّف عملية الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح على نحوٍ كبير، بل وتتحوَّل إلى العكس. إن التأثير المعاكس لعملية الانتخاب للمذابح الجماعية الحديثة للشباب الأصحاء في كل الأمم بالكاد تفوقه بالكاد الرؤية التي ترى أن الحروب في الظروف الأكثر بدائية ربما كان لها قيمة إيجابية في السماح للأصلح بالبقاء.

(٦) ملاحظات عامة وتاريخية

إن حقيقة أن الأليل المتنحي، عندما يكون مُتغايرَ اللواقح، يُهيمن عليه بالكامل الأليل السائد، ولا يكون له أي تأثير مرئي على الإطلاق هي حقيقة مذهلة. ويجب على الأقل أن نَذكُر أن هناك استثناءات لهذا السلوك. عندما يُهجَّن نباتُ أنفِ عجل أبيض مُتماثل اللواقح مع مَثيلٍ له لكن لونُه قُرمزي، فكل النسل المباشر سيكون لونه وسيطًا بين لون الاثنَين؛ مما يعني أن لونه سيكون ورديًّا (وليس قرمزيًّا كما قد يكون متوقَّعًا). تَظهر حالة أكثر أهمية بكثير لاثنين من الأليلات يُظهران تأثيرهما على نحوٍ متزامن في فصائل الدم، لكن لا يُمكننا الاستفاضة في ذلك هنا. لن أندهش إذا اتضح في النهاية أن هناك درجات للتنحي، وأنه يعتمد على حساسية الاختبارات التي نستخدمها في فحص «الطراز الظاهري».

وهذا على ما يبدو الموضع المناسب لعرض القليل عن التاريخ المبكِّر لعلم الوراثة. يعود أساس علم الوراثة، قانون وراثة الخصائص التي يَختلف فيها الوالدان عبر أجيال مُتتالية، وعلى وجه الخصوص أكثر التمييز المُهم بين المتنحِّي والسائد، إلى الراهب الأوغسطيني الذي أصبَح شهيرًا الآن على مستوى العالم أبوت جريجور مندل (١٨٢٢–١٨٨٤). لم يكن مندل يَعرف شيئًا عن الطفرات والكروموسومات. في حدائق الدير خاصته بمدينة برنو، أجرى تجارب على بازلاء الحديقة، التي استنبت منها عدة أنواع، وقام بعمليات تهجين فيما بينها، وتابع نسلها في الجيل الأول، الثاني، الثالث … إلخ. من الممكن أن تقول إنه قام بتجاربه على الأفراد الطافرة التي وجدها جاهزة في الطبيعة. كان قد نشر تجاربه مبكِّرًا في عام ١٨٦٦ في مجلة جمعية التاريخ الطبيعي ببرنو. لا أحد فيما يبدو كان مهتمًّا على نحوٍ خاص بهواية السيد أبوت، ولا أحد بالتأكيد كانت لديه أيُّ فكرة عن أن اكتشافه سوف يُصبح في القرن العشرين الدليلَ الهادي لفرع جديد بالكامل من العلم الذي يُعَد في حقيقة الأمر الفرعَ الأكثر إثارة للاهتمام في الوقت الحالي. وقد نُسيَت ورقته البحثية تمامًا، ولكن أُعيد اكتشافُها فقط في عام ١٩٠٠، على نحوٍ متزامن ومُستقِلٍّ من قِبل كلٍّ من كورنس (برلين)، ودي فريس (أمستردام)، وتشيرماك (فيينا).

(٧) ضرورة كون الطفرة حدَثًا نادرًا

حتى الآن مِلنا إلى التركيز على الطفرات الضارة، التي من المُمكن أن تكون الأكثر شيوعًا؛ لكن من الواجب بالتأكيد أن نُشير إلى أن هناك أيضًا طفرات مفيدة. إذا كانت الطفرة العفوية خطوة صغيرة في تطوُّر النوع، فإنه يُخالجنا انطباع أن تغييرًا ما «يُجرَّب» على نحو عشوائي إلى حدٍّ ما مع المخاطرة بكونه مؤذيًا، وهي الحالة التي يتم فيها التخلُّص منه تلقائيًّا. هذا يُبرز نقطة مهمة للغاية. فكي تكون الطفرات مادة مناسبة لعمل الانتخاب الطبيعي، يجب أن تكون نادرة الحدوث، كما هي بالفعل. فلو كانت موجودة بكثرة بحيث توجد فرصة كبيرة لحدوث عدد كبير من الطفرات في الفرد نفسه، فكقاعدة، ستُهيمن الطفرات المؤذية على تلك المفيدة، والنوع ذو الصِّلة، بدلًا من أن يتحسَّن بالانتخاب، سيبقى بلا تحسُّن أو سيهلك. إن المحافظة المقابلة التي تنتج عن الدرجة العالية لديمومة الجينات ضرورية. يُمكن مقارنة ذلك بالعمل في وحدة تصنيعية كبيرة في أحد المصانع. فلأجل استحداث وسائل أفضل، يَجب تجربة الابتكارات، حتى وإن لم تكن قد أثبتت فعاليتها بعد. لكن من أجل التأكُّد مما إذا كانت الابتكارات تُحسِّن الناتج أم تُقلِّلها، فإنه من الضروري إدخالها واحدًا واحدًا، بينما يُحافَظ على كل الأجزاء الأخرى دون تغيير.

(٨) الطفرات المُستحَثَّة بواسطة الأشعة السينية

الآن علينا أن نستعرض سلسلة شديدة البراعة من النتائج البحثية في مجال الوراثة، التي سيتَّضح أنها أكثر الجوانب صِلة بتحليلنا.

إن النسبة المئوية للطفرات في الذُّرية — ما يُطلق عليها معدَّل الطفرات — يُمكن زيادتها إلى مضاعَفات عالية من معدل الطفرات الطبيعي الضئيل بواسطة تعريض الوالدين للأشعة السينية أو أشعة جاما. الطفرات الناجمة عن ذلك لا تختلف في شيء (عدا كونها أكثر وفرة) عن تلك الحادثة عفويًّا، وهذا يجعلنا نصل لانطباع بأن كل طفرة «طبيعية» من الممكن أن تُستحَث كذلك بالأشعة السينية. في ذبابة الفاكهة، يتكرر الكثير من الطفرات الخاصة عفويًّا مرة بعد الأخرى في المزارع الحيوية الكبيرة؛ لقد حُدد مواضعها على الكروموسومات، كما أوضَحنا في الأقسام الأخيرة من الفصل الثاني، ومُنحت أسماء معيَّنة. وقد وُجد حتى ما يُطلق عليه «الأليلات المتعدِّدة»، وهي «نسختان» أو «قراءتان» مختلفتان أو أكثر، بالإضافة إلى الأليل الطبيعي غير الطافر على الموقع نفسه على شفرة الكروموسوم، مما يَعني وجود ليس فقط اثنين بل ثلاثة أو أكثر من البدائل في هذا «الموقع» المحدَّد، وأن أي اثنين منها يكونان في علاقة «السائد والمتنحِّي» عندما يحدثان على نحوٍ مُتزامن في موقعيهما المتقابلين في الكروموسومين المتماثلَين.

إن التجارب التي أُجريت على الطفرات المستحَثة بواسطة الأشعة السينية تُعطي انطباعًا أن كل «انتقال» معيَّن — لنقل من الفرد الطبيعي إلى فرد طافر معيَّن أو العكس — له «مُعامِل أشعة سينية» فردي خاص به، والذي يشير إلى النسبة المئوية للذرية التي ستُصبح طافرة عبر هذه السبيل، وذلك عند تعريض الوالدَين لجرعة من الأشعة السينية قبل إنتاج الذرية.

(٨-١) القانون الأول: الطفرات حدث مفرد

بالإضافة إلى ذلك، فالقوانين التي تحكم معدَّل الطفرات المستحثة في غاية البساطة والوضوح. أنا أتبع هنا تقرير إن دبليو تيموفيف المنشور في دورية «بيولوجيكال ريفيوز»، المجلد التاسع، لعام ١٩٣٤. يعتمد هذا التقرير على نحوٍ كبير على عمل رائع آخر للمؤلِّف نفسه. القانون الأول ينص على الآتي:

(١) «الزيادة تتناسب على نحو دقيق مع جرعة الأشعة السينية، بحيث يمكننا الحديث (كما فعلت) عن مُعامِل للزيادة.»

نحن معتادون جدًّا على التناسب البسيط؛ لذا فنحن عرضة للانتقاص من التداعيات والنتائج البعيدة المدى لهذا القانون البسيط. ولكي نلمَّ بها، ربما علينا أن نتذكر أن ثمن السلعة، على سبيل المثال، لا يتناسب دائمًا مع كميتها. في الأوقات العادية فإن صاحب المتجَر قد يكون ممتنًّا جدًّا لشرائك ستِّ برتقالات منه، لدرجة أنك عندما تقرِّر أن تأخذ في نهاية الأمر دستة كاملة، فمن الممكن أن يعطيها لك بسعر أقل من ضعف ثمن الست. وفي أوقات الندرة، من المُمكن أن يحدث العكس. في الحالة الراهنة، يمكن أن نَستخلِص أن النصف الأول من جرعة الإشعاع، رغم أنها تسبَّب في إحداث طفرات، لنقل، في واحد في الألف من الذرية، لم تُؤثر في البقية على الإطلاق، سواء بجعلهم يَمتلكون استعدادًا لتطويرها أو بمنحهم مناعة ضدها. من ناحية أخرى، النصف الثاني من الجرعة لن يتسبَّب مرة ثانية في إحداث طفرات في واحد من الألف من الذرية. على ذلك، فالطفرات ليست تأثيرًا متراكمًا، تتأتَّى من حصص صغيرة متتابعة من الإشعاع يُقوِّي بعضها بعضًا. فهي يجب أن تُسفر عن حدثٍ ما مفردٍ في كروموسوم واحد خلال التعرُّض للإشعاع. السؤال الآن: أي نوع من الأحداث هذا؟

(٨-٢) القانون الثاني: تحديد موقع الحدث

سيُجيب على هذا القانونُ الثاني الذي ينص على ما يلي:

(٢) «إذا غيَّرتَ نوعية الأشعة (الطول الموجي) ضمن حدود واسعة، من أشعة سينية خفيفة إلى أشعة جاما قوية نوعًا ما، فالمُعامل سيبقى ثابتًا شريطة أن تستخدم الجرعة نفسها فيما يُدعى وحدات رونتجن»؛ أي شريطة أن تقيس الجرعة بواسطة الكمية الإجمالية للمادة المعيارية خلال الزمان والمكان حيث يتعرَّض الوالدان للأشعة.

سنختار الهواء مادةً معياريةً، ليس فقط لأنه مُناسِب لكن أيضًا بسبب أن الأنسجة العضوية مكوَّنة من عناصر لها الوزن الذري نفسه للهواء. إن الحد الأدنى لكمية عمليات التأين أو العمليات الشبيهة٢ (الاستثارات) في الأنسجة يمكن الحصول عليه ببساطة عن طريق ضرب عدد عمليات التأيُّن في الهواء في نسبة الكثافات. وهكذا، من الواضح إلى حدٍّ ما، وهو أمر يُمكن تأكيده عن طريق إجراء فحص دقيق أكثر، أن الحدث المفرد المتسبِّب في الطفرة، هو مجرد تأيُّن (أو عملية شبيهة) يحدث ضمن حجم ما «حرج» من الخلية الجرثومية. السؤال الآن: ما هذا الحجم الحرج؟ نستطيع حسابه من خلال معدل الطفرات المرصود عن طريق اعتبار المثال التالي: لو أن جرعة من ٥٠ ألف أيون في السنتيمتر المكعَّب الواحد تنتج فرصة  ١: ١٠٠٠ فقط لأحد الأمشاج (كان في منطقة الإشعاع) ليَطفر بهذه الطريقة، فنستنتج من ذلك أن الحجم الحرج، وهو «الهدف» الذي يجب أن «يُضرب» بالتأيُّن لتحدث تلك الطفرة، هو فقط ١ / ١٠٠٠  من ١ / ٥٠٠٠٠ من السنتيمتر المكعَّب؛ ما يعني، واحدًا على ٥٠ مليون من السنتيمتر المكعب. هذه الأرقام ليست صحيحة، لكنها مُستخدَمة هنا فقط للتبسيط والتوضيح. نحن نتبع في عملية الحساب الفعلية إم ديلبروك في الورقة البحثية التي قدمها هو وإن دبليو تيموفيف وكيه جي زيمر، والتي ستكون كذلك المصدر الرئيسي للنظرية التي سنعرض لها في الفصلين التاليَين. لقد وصل هناك إلى حجم يعادل فقط نحو تكعيب عشر مسافات ذرية متوسطة، هكذا يحتوي فقط على نحو ١٠٣؛ أي ألف ذرة. أبسط تفسير لهذه النتيجة هو أن هناك فرصة جيدة لإنتاج تلك الطفرة عندما يحدث التأين (أو الاستثارة) ليس «أبعد من ١٠ ذرات» تقريبًا من نقطةٍ ما معينة من الكروموسوم. سوف نناقش هذا على نحو أكثر تفصيلًا بعد قليل.

يحوي تقرير تيموفيف تلميحًا عمليًّا لا أقدر على الامتناع عن ذكره هنا، بالرغم من أنه بالطبع لا يُمثِّل أي أهمية بالنسبة لعرضنا الحالي. يوجد الكثير من المناسَبات في الحياة الحديثة يكون على الإنسان فيها أن يتعرض للأشعة السينية. والأخطار المباشرة لذلك مثل الحروق وسرطان التعرُّض للأشعة السينية والعقم، هي أخطار معروفة جيدًا، والحماية بالحواجز الواقية أو المآزِر المصنوعة من الرصاص … إلخ متاحة، خاصة للممرضات والأطباء الذين يكون عليهم أن يتعاملوا مع تلك الأشعة على نحو منتظم. النقطة المهمة هنا هي أنه حتى عندما يمكن تفادي هذه الأخطار الوشيكة بنجاح، فإنه يبدو أن هناك أخطارًا غير مباشرة بحدوث طفرات صغيرة ضارة في الخلايا الجنسية، طفرات من النوع المتصوَّر الذي أشرنا إليه عندما تحدثنا عن النتائج غير المحبَّبة للتوالد الداخلي. لكي نوضح مقصدنا على نحو أكبر، على الرغم من أنه من المحتمل أن يكون ساذجًا قليلًا. نقول إن الزواج الضار والمؤذي بين أبناء العمومة من الدرجة الأولى من المُمكن أن تزيد احتماليته للغاية إذا كانت جدتهم قد عملت وقتًا طويلًا ممرضةً تستخدم الأشعة السينية. هذه نقطة لا تحتاج إلى أن تقلق أي فرد على نحو شخصي. لكن أي احتمالية لإصابة الجنس البشري على نحو تدريجي بطفرات غير مرغوبة كامنة يجب أن تكون أمرًا يهمُّ كل الناس.

مرجع

Nachr. a. d. Biologie d. Ges. d. Wiss. Göttingen, I (1935), 189.

هوامش

(١) لقد نُوقشت على نحو مُسهِب مسألة ما إذا كان الانتخاب الطبيعي يُعاونه (إن لم يكن يحلُّ محله) ميل ملحوظ من جانب الطفرات للحدوث على نحوٍ مفيد أو مرغوب فيه. إن رأيي الشخصي في هذا الشأن ليس مهمًّا؛ لكن من الضروري القول إن احتمالية وجود «طفرات موجهة» قد استُبعدت فيما يتعلَّق بكل ما سيأتي ذكره. إضافة إلى ذلك، فأنا لا أستطيع أن أتناول هنا تفاعل جينات «التبديل» و«الجينات المتعدِّدة»، مهما كانت أهمية ذلك فيما يتعلق بالآلية الفعلية للانتخاب والتطور.
(٢) إن الحد الأدنى مستخدم هنا؛ لأن تلك العمليات الأخرى لا تخضع لقياس التأيُّن، لكنها قد تكون فعَّالة في إنتاج الطفرات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤