حكايات الفصول الأربعة

تشرد عيناك في تلاقي البنايات والسماء والأفق.

شمس الضحى تصبغ الواجهات والأسطح والمدى. أسراب الطير تلتمع في وهج الأشعة كنثار الفضة. تحط على الأمواج، تلتقط الأسماك، ثم تعاود الطيران. الفلوكة الصغيرة تتمايل وهي تجر الطراحة في عومها المتباطئ. أصداء إيقاع الأمواج تنداح على الشاطئ. أصوات الطريق شاحبة من وراء النافذة الزجاجية المغلقة.

حين ترامى صوت من الطوابق التحتية: المصعد معطل، اصطدم كل ما أعددت له نفسك بحائط مسدود. لم تعد تملك التصرف الذي يصلك بالأماكن التي كنت تُعِد نفسك للذهاب إليها في داخل المدينة، مقهى التريانون، مكتبة دار المعارف بالمنشية، مبنى الغرفة التجارية. تقدم ترجمة تقرير إنشاء منظمة التجارة العالمية. قواعد جديدة ومبادئ للمعادلات التجارية والاقتصادية في العالم. بدا الفرق هائلًا في الأرقام منذ بدأت الترجمة للغرفة التجارية حتى بلغت الخامسة والسبعين. رحل الأجانب، فغابت تأثيراتهم. تأتي التأثيرات من الخارج. العولمة، تعبير لم تقرأ عنه جيدًا. التأثيرات واضحة على الحياة التجارية في المدينة.

نزع الجاكيت بنية الاسترخاء قرار أملته الظروف.

الصعود إلى الطابق الثاني عشر، لم يَعُد متاحًا منذ ذلك المساء الذي ارتميت فيه — بثياب الخروج — على أول كرسي تصادفه في الصالة. خانك الجسد، وتهيَّأ للسقوط.

همست من بين لهاث أنفاسك: الشيخوخة!

ثم في كلمات متهدجة: تقدُّم العمر يُعطِي تأثيراته!

ربما هي فرصة للانفراد بالنفس، أو للراحة.

لم تَعُد تجلس إلى مكتبك، أو تتحرك من موضعك، إلا بجهد تشعر به وإن حاولت إخفاءه كأنك تداري ما يجب ألا يعرفه الآخرون. حتى إيناس أخفيت عنها متاعبك. تنشغل بالقراءة، أو بالترجمة. الطابق الثاني عشر تصل إليه الأصوات من أسفل كالأصداء البعيدة. ربما أدرت جهاز الريكوردر بموسيقى بيتهوفن وبرامز وباخ وسترافينسكي. تجتذبك شهرزاد كورساكوف. تنقلك إلى جزيرة مُفعَمة بالحنين والشجن. تنعزل عن كل ما حولك، وتغيب أصداء حركة الطريق. لا شيء، إلا القراءة والترجمة.

قلت للطبيب: حتى الفيتامينات لا تساعد على استعادة نشاطي القديم.

قال الطبيب مداعبًا: العطار لا يصلح ما أفسده الدهر.

ثم احتواك بنظرة مشفقة: ماذا تقول أم كلثوم؟

ثُم بصوت مترنم: عايزنا نرجع زي زمان … قول للزمان ارجع يا زمان.

وأعاد السماعة الطبية إلى موضعها على المكتب: تقدُّم السن له أحكامه يا سيد رفعت.

أعدت ما قاله الطبيب على أنور عيسى في الغرفة التجارية.

أذهلك تأمينه على كلمات الطبيب: يصبح المرء — بالشيخوخة بيتًا آيلًا للسقوط. ما يفعله الأطباء أشبه بعمليات الترميم، فيتأخر سقوطه، لكنه يعاني خطر الانهيار في لحظة ما متوقعة. بواعثه لها تسميات عدة: أزمة قلبية، ارتفاع في ضغط الدم، ذبحة صدرية، هبوط في الدورة الدموية، التهاب رئوي، وغيرها من المسمَّيات التي تمثل أنفاقًا إلى الموت! ماذا لو عرف المرء موعد موته؟ هل يُعِد له نفسه، أو يموت في خوف الانتظار؟

تحدَّث عن آلام الساقين. همس بتخوفه من أن تُلزِمه البقاء في البيت: هل أضيف جلسة القهوة إلى رصيد الذكريات؟!

تدور نظراتك في الشقة، كأنك تراها للمرة الأولى.

الصالة المربعة، تناثرت على مساند الفوتيلات والترابيزات الصغيرة وسطح التليفزيون قطع بيضاء مستديرة من الكروشيه. فوق الأرفف مجلدات قديمة تآكلت أغلفتها. تتوسط السقفَ نجفةٌ تتدلى منها عشرات اللمبات البلحية الشكل. على البوفيه شمعدان من الفضة ذو فروع ثلاثة. على الجانب الأيسر — قبالة الشرفة المستطيلة والنافذة — حجرة تطل على البنايات المجاورة. على الجانب الأيمن طرقة قصيرة تفضي من ناحية إلى المطبخ والحمام، ومن اليمين، وفي المواجهة ثلاث حجرات متلاصقة.

مدحت — شقيق رئيفة — هو الذي دلك على هذه الشقة.

أدهشك موقعها المُطِل، في طابقها الثاني عشر، على شبه جزيرة الإسكندرية. البحر من الجهات الثلاث والكورنيش والبيوت والجوامع والساحات والشوارع والأسواق. لما خصت إيناس أمها بالسر الذي أخفته عن الجميع، طالبت رئيفة بحجرة لإيناس لا يشاركها فيها أحد. شقة شارع فرنسا ذات الحجرات الثلاث لم تكن تسمح بذلك. حجرة لكما — رئيفة وأنت — والثانية للأبناء الثلاثة، والثالثة للسفرة، والصالة للاستقبال.

وأنت تميل من شارع الغرفة التجارية إلى شارع الإبياري — ثالث أيام انتقالكم إلى العمارة — تنبهت إلى أنها تحتل الزاوية نفسها التي كانت تحتلها سينما كونكورديا. موقع سينما كونكورديا نفسه قبل هدمها.

اكتفيت بالقول لرئيفة: هذه البناية في موضع دار سينما، شاهدت فيها الكثير من الأفلام الأجنبية.

الشقة الجديدة اكتشافٌ أسعد الجميع.

تحدثَت رئيفة عن الأحلام التي تحققت، بالأبناء الثلاثة، وبالشقة المطلة على الكورنيش، وبالمساحة التي تزيل الحرج. استقلت إيناس بحجرتها، وإن اعتادت جلوسك على مكتبها في أوقات المدرسة. تلاشي الحرج في حياة الولدين داخل حجرتهما. ألصقا على الجدران قصاصات من صور المجلات: جيمس دين وألفيس بريسلي ومارلين مونرو وإستر وليامز وعبد الحليم حافظ وشادية وصباح. لم تُعنَ بالسؤال ما إذا كان هاني أو مسعد هو الذي ألصق الصور، وإن اتفقَا في حب الموسيقى والغناء ومشاهدة الأفلام. المكتبة الخشبية الصغيرة — في ركن الحجرة — خلت إلا من الكتب الدراسية. لم يكن بينها ما تتعرف به إلى نوعية قراءاتهما. نقل التليفزيون من حجرة السفرة إلى الصالة الواسعة، المطلة على البحر.

لما نظرتَ للمرة الأولى من نافذة الطابق الثاني عشر، أحسستَ بدوار، وما يشبه الميل إلى إلقاء نفسك. أدركتَ أنك تعاني عقدة الخوف من الطوابق العليا.

اكتفيت — في الأيام التالية — بالنظرة الخاطفة السريعة. ثم ألفت المشاهد دون أن تشعر بالدوار، أو بالميل إلى إلقاء نفسك، أو تغادر موضعك.

أدرت الريكوردر.

ليلى مراد. ماتت أمس. لم تغادر الشقة. أسلمت الذهن — بالأغنيات الجميلة — إلى شرود، وذكريات، وملامح مختلطة، ومتشابكة. الماضي المجهول، وقفت أمام شباك التذاكر في سينما محمد علي ذات النسق المعماري الإيطالي. مشاعرك تختلف عن مشاعر حدثتك عنها رئيفة. أهملت إشفاقك على حملها في أول الأبناء. أحبت ليلى مراد منذ «يحيا الحب». رويت حكايات عن أحمد سالم، استفزت فضولك لمشاهدته. أحببت أغنيات ليلى مراد لحب رئيفة لها. أحببت كل ما أحبته.

قالت: فلنأخذ إجازة في مرسى مطروح؟

– لا بأس بالإجازة … لكن لماذا مرسى مطروح؟

وشى صوتها باللهفة: أزور شاطئ الغرام!

يرافق انحسار أشعة الشمس من داخل الحجرة صوت الأذان من مسجد قريب. لا تحدد مسجدًا؛ فالأذان يرتفع حتى من الزوايا الصغيرة، والحصير المفروش داخل الحدائق، وفي المساحات الخالية بين البنايات.

تقف وراء النافذة الزجاجية المطلة على الميناء الشرقية. في مدى الأفق مباني السلسلة، وحاجز الأمواج المتصل — في الناحية المقابلة — بقلعة قايتباي. لا نهائية أفق البحر إلى بعد المصدات بين السلسلة وقلعة قايتباي. تهبك الشعور بالامتداد. تغيب اللحظة في توالي الأمواج من نقطة غير مرئية. تذوي — في سطح المياه العريض احتمالات القلق. يغيب حتى الإحساس بالعمر، يفقد الاتصال بين ما قبل، وما بعد.

لما اقتحمتك نظرات الرجل ذو الشارب الأشيب — قبل أن تصبح السلسلة منطقة عسكرية — أعدت التلفُّت لتواجهك النظرة التي كان الرجل خصَّك بها. كنت في التاسعة والعشرين. تناثَر في المكان جنودٌ يمتشقون الأسلحة، ودبابات.

– حاول أن تقف بعيدًا.

حدجته بنظرة مستفهمة: لماذا؟

المدينة في حالة طوارئ.

تستعيد — بعفوية — أحداث الليلة السابقة: الدبابات تهدر على طريق الكورنيش. المسافة قصيرة من البيت القديم بالحجاري إلى الطريق. أربع أو خمس دبابات يتقدمها، ويتبعها، موتوسيكلات ولوريات تحمل جنودًا، أمسكوا بالبنادق والمدافع الرشاشة. تشق طريقها — وسط الجموع الواقفة — إلى سراي رأس التين. أعداد من عمال ورش المراكب، والصيادين، والمطلين من النوافذ، والواقفين على أبواب البيوت والدكاكين، والمارة. يضع الجنود الكردونات أمام الحديقة الواسعة، ويصطفون. تهمس التعليقات، وتتعالى.

قلت: أفلح الجيش فيما عجزت عنه الأحزاب.

قال كامل عبد الرحيم: قطف الجيش في ساعة ما عمل المصريون لتحقيقه في سنوات.

ثم وهو يهز إصبعه: لا تظلم من ماتوا أو قُتِلوا لإسقاط النظام.

قال عبد المنعم فرغلي: احتمال أن يحكم مصري واحد من أبنائها.

قال حنفي جامع: هل يتكرر ما حدث في سوريا؟

قال كامل عبد الرحيم: أنا لا أطمئن إلى جيش المحمل.

وأنت تنظر إلى كامل عبد الرحيم بجانب عينك: لعلهم يجبرون الملك على إعادة النحاس.

قال عبد المنعم فرغلي: المهم أن تعود البلاد إلى أبنائها.

حين بدأت يومك الأول في سراي الحقانية، تذكرت قول أبيك وهو يطوي الجريدة، ويضعها على الطاولة: إلغاء المحاكم المختلطة بداية النهاية لوجود الأجانب في مصر.

قال جابر عثمان، صديق أبيك: أمنية مستحيلة! إنهم موجودون في الهواء الذي نتنفسه.

الحقانية هي المكان الذي كانت تشغله المحاكم المختلطة. لم يدُر في بالك أن تخلف فيها أباك. عمل موظفًا في الأرشيف، وعملت موظفًا في إدارة الترجمة.

قال أبوك: هل عندك مشوار بالقرب من شارع المسلة؟

قلت: تقصد صفية زغلول؟

– ما أذكره هو المسلة.

– عندي موعد في التريانون.

– لم نكن نقصده على أيامنا.

ثم وهو يدفع لك أوراقًا: هذه نتيجة التحليل … يريدها الدكتور سيمون.

وأوما برأسه: عيادته على ناصية الفلكي والمسلة.

ثم وهو يربت كتفك: أقصد صفية زغلول.

وأنت تحتضنه بنظرة مشفقة: هل فقدت الثقة في الدكتور حسن النجار؟

– لا بأس به … لكن الأوروبي أفضل!

أغلقت منطقة السلسلة. اختفي التيرو، والتصويب على الأطباق والحمام. قَلَّ إلى حد الندرة سيرك كل غروب على الكورنيش. وجدت في نصيحة الطبيب بضرورة المشي فرصةً للحياة في التأمل. نصحك بالمشي السريع. لا الهرولة ولا الجري. يقي — في رأيه — من أمراض كثيرة؛ القلب والسمنة وهشاشة العظام والتهاب المفاصل والاكتئاب والسكتة القلبية. أضاف: السكتة الدماغية هي الأدق. الدماغ يعطي إشارة إلى القلب، فيسكت. مبعث الإشارة ضغط الدم، وزيادة الكوليسترول، والإرهاق، والجلطة الدموية.

تمشي من موضع الكورنيش المواجه لشارع الإبياري إلى قلعة قايتباي، وتعود. أو تقطع المشوار نفسه في الاتجاه العكسي إلى السلسلة. تخلي ذهنك للتأمل، ما يخطر على بالك، أحداث بعيدة وقريبة، وتعبيرات، وتصرفات، وسحن، ورؤًى.

لمحت التِفاتة حنفي جامع إلى مسرح الأزاريطة. الألعاب المتوقفة من فوق السور العالي تشي بخلو المكان. حتى الأبواب مغلقة، وبقايا ليلة الأمس تكوَّمت على جانب الرصيف.

قال حنفي جامع: جئت أمس إلى مسرح الأزاريطة لمشاهدة المطرب الجديد عبد الحليم حافظ.

قلت لمجرد المسايرة: ما رأيك في صوته؟

فوجئت بكارم محمود يغني بدلًا منه. عرفت أن الجمهور أنزله — في الليلة السابقة — من فوق المسرح.

واتجه بنظرته إلى أفق البحر: رأيي لم يتبدل منذ عشرين عامًا: الغناء هو أم كلثوم وعبد الوهاب.

– وبعدهما؟

– عبد الوهاب وأم كلثوم!

– وترددك زمان على فرق الكسار والمسيري وحمامة العطار.

هؤلاء نجوم أمام الكوكبين!

استعاد حكايات أبيه عن منافسات سيد درويش والليثي مطرب كانا يغنيان في قهوتين متجاورتين. خاضا معركة بالأيدي، فضها الناس، قبل أن يؤذي أحدهما الآخر.

وابتسمت عيناه: لا أحد يذكر الليثي. الجميع يذكرون سيد درويش!

وهز إصبعه مؤكدًا: لا يتذكر الناس إلا مَن ترك أثرًا حقيقيًّا!

الصداقة قديمة، تعود إلى مدرسة رأس التين الثانوية.

اكتفي بالبكالوريا. ترقَّى في الوظيفة، حتى أُحِيل إلى المعاش بدرجة مدير عام. دائم التحدث عن أنه صعد درجة درجة. كل درجة في وقتها، لم يلجأ إلى الوساطة، ولا إلى المزاحمة. قرأ ماجدولين وآلام فرتر وغادة الكاميليا والعبرات والنظرات. حلق في أجواء من الرومانسية الشفيفة. يقتني مجلات اللطائف المصورة والاثنين والدنيا ومسامرات الجيب. ملاحظاته أعمق من قراءاته. ربما روى الحكاية أكثر من مرة. يلجأ إلى الإضافة والحذف والتعديل والتغيير. يفاجئكم — في الروايات التالية — بما لم تتوقعوه. يحب المناقشات والأخذ والرد. يتذكر أنه دخل في قافية مع رواد قهوة النجعاوي. ظلت المساجلة حتى أقروا بحضور بديهته. يعتز بأنه لم يتردد في حياته على طبيب، وأن تقدُّم عمره لا يحول دون أن يفتح الزجاجات بأسنانه، ويكسر بها المكسرات.

اقتصرت المسافة من ميدان المنشية إلى انحناءة الطريق في اتجاه الشاطبي.

لم تعد تلتقى — في موازاة الكورنيش الحجري — بأحمد فرغلي باشا وأم كلثوم وتوفيق الحكيم وعشرات ممن تطالعك صورهم في الصحف والمجلات، يمارسون رياضة المشي، ويتأملون مفردات المكان: الشمس الغاربة، وطيور النورس، وصيادي السنارة، والبلانسات المتناثرة، واللانشات المنطلقة إلى خارج حاجز الأمواج. اقتصرت رؤيتك للبحر — في معظم الأيام — من البعد، من الشرفة، أو النافذة، المطلة على المينا الشرقية.

قال كامل عبد الرحيم: الإسكندرية مدينة. أما القاهرة فمدينة كبيرة!

قال أنور عيسى: إسكندرية زمان كانت أقل مساحة، وأكثر هدوءًا، وكان شتاؤها أجمل من الصيف.

وزفر في ضيق: الآن … صارت واسعة ومزدحمة، ولا تُحتَمل في الشتاء ولا في الصيف.

قلت لمجرد أن تشارك في الكلام: لو أني المسئول عن تسمية هذه المدينة لسميتها سوتر. هو الذي بناها وليس الإسكندر!

قال كامل عبد الرحيم: كثر الممنوع في الإسكندرية. حتى صيد السنارة يواجه مناطق ممنوعة.

اعتاد التحسر على الذكريات القديمة. حياة بلا ذكريات لا معنى لها، لا نقدر أن نزعم أننا عشناها. يعيب على الأجيال الحالية أنها لا تعرف ماذا تريد. هي ترفض لمجرد الرفض. زاوج بين الدراسة والعمل في الميناء.

لم يمارس عملًا محددًا: التخليص والتصدير والاستيراد واستخراج التراخيص. تبين — قبل أن يحصل على التوجيهية بعام واحد — أنه لا يحتاج إلى شهادات ليواصل عمله في الميناء. لم تشغله السياسة حتى أحزنته إقالة الملك فاروق لمصطفي النحاس. أحس بالانتماء للرجل، وللحزب.

لا تستطيع أن تقبض على لحظة واحدة في مشاعره. قد يطيل التأمل والصمت، أو ينطلق في الكلام إلى حد الثرثرة، أو يبدو عليه الضيق من أية ملاحظة.

عاب عليه حنفي جامع أنه يتخلى عن هدوئه بلا سبب. يغضب من كل كلمة، يثور على كل تصرف. ربما أعاد فنجان القهوة إلى بقشة الجرسون لأنه لم يلحظ انسكابه في الفنجان. حتى الأسئلة التي يشغلها ملء مساحات الصمت، يجد فيها ما يستحق المؤاخذة. حتى الباعة السريحة استبدل توبيخهم بالنظرة اللامبالية. إذا فاجأه الميل إلى النوم، تشفق عليه من المغالبة بإغماض العينين، وفتحهما، وتصنع المتابعة، حتى يصعب عليه الجلوس، فيستأذن.

قلت: الأمن!

على أيامنا لم يكن هناك باب مغلق.

ثم في نبرة ملمزة: ولم نكن نعرف الجماعات الإرهابية!

ربما تستطيع النزول. تستريح بين كل طابقين أو ثلاثة.

ماذا لو ظل المصعد معطَّلًا؟ هل تلجأ إلى أحد الفنادق القريبة؟ هل تتجه إلى بيت إيناس؟ وهل تتحمل ملاحظات ياسر السخيفة؟

قال ياسر: لو أنكم ظللتم على رفض زواجي من إيناس، كنت سأختطفها.

رشقته بنظرة غاضبة: ماذا؟

أومأ برأسه دلالة التأكيد: هذا صحيح. لم أكن أتصور لنفسي حياة بدونها!

لم تدرِ إن كنت تحزن للعبارة، أم تسعد بها!

تحدثت رئيفة عن علاقة بين إيناس وياسر. داخلتك مشاعر غريبة، غامضة. ما يشبه المفاجأة، أو الحرج. سرقك العمر، وإيناس في سن الزواج. تلاحقت أسئلتك: هل هو زميلها في الكلية؟ هل هو جار لنا؟ هل وافقت إيناس عليه؟

اكتفيت بالقول: علينا أن نسأل عنه.

تركت لموظفي السنيور جويدو مهمة السؤال عن الشاب.

تحدثوا عن مشواره اليومي بين الإسكندرية وعزبة خورشيد. ينفق على تعليمه الجامعي من العمل في مكابس القطن بمينا البصل. وجدت في الفارق الاجتماعي ما يدفعك إلى رفضه.

واجهتك إيناس بما لم تتوقعه، ما لم تتصوره. استمعت مذهولًا إلى قولها:

رأي المفتي ليس ملزمًا.

– ماذا تقصدين؟

– زواجي مسألة شخصية … لا أطلب موافقة أحد.

صرخت: تكلمين أباك!

– أتكلم عن مستقبلي!

نقلت رئيفة ما لمحت به: لن تنفق على ما ترفضه. همست وهي تخفض رأسها: وافقت على طلب ياسر بأن تترك البيت دون حقيبة ملابسها.

تحدثت إيناس عن دخل ياسر من وظيفته، ومن أعمال أخرى، وعن الشقة التي أعدها في رشدي، لا ينقصها شيء. حتى دراستها في الجامعة، سيدفع ياسر تكاليفها وحده.

تملكتك الحيرة: ترضخ، أو تواصل الرفض؟

– زوَّجتك ابنتي!

قال بهجت عبد المنعم العبارة، ويدك في يده تحت المنديل الأبيض.

– وأنا قبلت.

رددت العبارة خلف المأذون المعمَّم. قدم من دكانه الخشبي الصغير قبالة أبو العباس. الجلسة مختلفة. اختلف المأذون فهو يرتدي البنطلون والقميص. لم تختلف العبارتان: أزوجك ابنتي، وأنا قبلت. شعرت — وأنت تردد ما قاله المأذون — بطعم المز في شفتيك. اصطدم رفضك بأفق غائم. تحدثت رئيفة عن الخطر الذي تلوح نذره، وبكت.

كتمت الرفض، والألم، في داخلك. وضعت ما يجري في إطار الفرجة. تشارك بما أذنوا لك به: أزوجك ابنتي! تطلب منه ما لا توافق على أن يطلبه، لو أنه هو الذي ردد العبارة الأولى وراء المأذون. إذا كانت إيناس قد لوحت — بإيعاز ياسر — إلى ما لم يدُر لك ببالٍ ولا تصورته، فإن الشاب هو الذي يجب أن يردد العبارة: زوجني ابنتك! ترد بالموافقة أو الرفض. لكنك عرضت ما ترفضه، ومنحك ياسر موافقته!

لو أن الظروف لم تجبر بدر العدوي على الفرار، كنت تنزل عنده. تتوق للقائه، مناقشته في مشكلات تهمك.

التقيت في صحن أبو العباس المكسو بالسجاد — للمرة الأولى — ببدر العدوي. لم تكن تعرفه ولا التقيت به من قبل. فاجأتك ملاحظته على تكبيرة الصلاة لركعتي تحية المسجد: النية موضعها القلب.

واجهته بنظرة متأملة.

في حوالي الثلاثين أو أكبر قليلًا. وجه أسمر مستدير، وجبهة عريضة. تناثر في شعر رأسه الأسود شعيرات بيضاء. تطل من وراء النظارة الطبية عينان بنيتان، فيهما طيبة واضحة، وإن وضع على وجهه قناعًا من الهدوء، فلا تستطيع أن تقرأ مشاعره. حليق الذقن والشارب، وفي خده الأيمن خال أسود. يرتدي بنطلونًا وقميصًا أبيض من البوبلين ذا خطوط زرقاء رفيعة [أضاف السويتر أو البلوفر في الشتاء، لكنه لم يرتدِ — ذات يوم — بدلة كاملة].

نظرة الود في عينيه اجتذبتك، فلم تحاول السؤال بضيق — كعادتك — ولا المناقشة، ولا الاعتراض.

وأنت ترفع كتفيك: أفعل كما يفعل المصلون.

– المفروض أننا نفعل كما يقول القرآن والسنة.

ثم وهو يضغط على نظارته: العودة إلى أصل الدين تلغي البدع تمامًا!

تحدث عن اختلاط الطريق أمام المسلمين. لا فجوة في الإسلام بين الدين والحياة. الفجوة تنشأ، وتتسع، بقدر الابتعاد عن قيم الدين وشرائعه وشعائره. علينا إعادة الناس إلى دين الله. لكي نعيد بعث الفكر الإسلامي الصحيح، لا بد من إعادة فهم الإسلام، وإعادة تذكير الناس بهذا المفهوم. يجب العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله. القول بأن الإسلام لكل البشر، ولكل زمان ومكان، معناه أن الإسلام ليس دينًا متجمِّدًا. إنه دين مُتجدِّد، مُتطوِّر. العقيدة الصحيحة توجِّه السلوك، وتقوِّمه. لا معنًى لطقوس دينية بلا تصرفات شخصية. عدم أداء الشعائر أفضل من الأداء المظهري.

قال: لا بد أن يعود العقل إلى موضعه الذي أزحناه عنه!

وضغط على الكلمات: الاعتقاد السليم هو البداية الحقيقية لكل أمور الدين والدنيا.

لاحظ ضيقك بتلويحة الشاب إلى مَن تغيب ملامحها خلف المشربية، في مصلى السيدات المطل على صحن الجامع.

فاجأك بالقول: الدنيا تتغير. يجب أن نستوعب تغيرها!

ثم وهو يشير إلى الشاب: أيامهم تتغير عن أيامنا!

وافترَّ فمه عن ابتسامة: عندما نتقدم في السن نكتشف أن جيلنا أفضل من الأجيال التالية.

قلت في لهجة مستنكرة: لم أبلغ الثانية والثلاثين.

وهو يومئ برأسه: هؤلاء الشبان جيل آخر.

ثم وهو يبتسم: هذا ما اعتاده المصريون منذ نصائح إيبو وير.

أضاف في لهجة غامزة: تذكَّرْ تصرفاتك في سنهم.

الرؤى والأخيلة تشعل النيران في داخلك: احتكاك بجسد أنثوي في زنقة الستات، مايوه فوق رمال الشاطئ، عبارة ذات إيحاءات، قبلة في مشهد سينمائي. تعاني القيد، والمحاصرة، والجيشان، والتصوُّرات الوحشية، والتوق إلى لحظات غامضة. تجري راحتك باللذة إلى منتهاها.

قلت: لكن هناك اختلافًا حقيقيًّا بين سلوكيات أيامنا وما نراه الآن.

لمحت على شفتَيه ظل ابتسامة فاهمة: عندما يكبرون سيتغيرون إلى الأفضل.

الجيل — في رأيه — ساخط، لكنه لا يدري سر سخطه، ولا أين يتجه بهذا السخط. المشكلة في هؤلاء الذين يجدون زمن شبابهم هو الزمن الجميل. من يصل الكهولة عليه أن يفسح الطريق للجيل التالي، للأجيال التالية. يعتزل الوظيفة والسلطة وصداقة المستقبل.

صرخت رئيفة للجرح في جبهتك، والدم المتناثر على البلوفر.

ماذا حدث؟

أشحت بيدك في استهانة: لا شيء. شاركت في مظاهرات المطالبة بعودة محمد نجيب.

– إنهم شبان صغار.

– وجدتني وسط مظاهرة فانسقت معها.

المظاهرات تصب من الشوارع الجانبية في الميادين. الهتافات تعلو: عاش محمد نجيب. فليعُد الجيش إلى الثكنات. أين خالد محيي الدين؟ اشتعلت المواجهة بين المتظاهرين وعساكر البوليس. حطم المتظاهرون أعمدة إنارة كتب عليها شعار عبد الناصر: ارفع رأسك يا أخي. تمطت الفوضى في الشوارع. آثار التدمير على واجهات المحال، واللافتات الزجاجية، وأعمدة الإنارة، وأسلاك التليفون. آثار دماء على السلم الصاعد إلى سينما ريالتو، فروع أشجار، قطع أحجار، كراسي محطمة، بقايا أقمشة أطفئت فيها النيران، نثار زجاج متكسر، إطارات سيارات مستعملة. حتى قصاري الورود أمام «إيليت» بشارع صفية زغلول، تناثرت ورودها في الطريق.

وهي تمسد شعرك بأصابعها: لا شأن لك بهذه المظاهرات.

أشحت بيدك مهونًا: أنا واحد من مئات.

الخروج في المظاهرات ليس مجاملة.

ثم وهي تغالب الانفعال: لا تفعل إلا ما تقتنع به!

– بدر العدوي … أين أنت؟

تَنفض الرأس بتلقائية، وتُزمِع البقاء في البيت.

تشعر أن زجاج النافذة المغلق يفصلك عن حركة الطريق. يضعك في عزلة. تفتح النافذة، وتدفع الشيش. يندفع الهواء، فترتفع الستارة. يلتصق طرفها بالسقف.

تميز المواقع في بحري بمئذنة أبو العباس. ارتفاعها — من بعيد — وسط البنايات بوصلة يدل اتجاهها على اقترابه وابتعاده من المكان الذي يقصده.

اجتذبتك الأغنية، فرددتها: «اقروا الفاتحة لابو العباس … يا اسكندرية يا أجدع ناس.»

أهملت نظرة الدهشة في عينَي رئيفة. ترنو إلى انغماسك في المتابعة، والنشوة، وترديد كلمات الأغنية.

اندسست بين الواقفين حول المقام. مسحت القضبان الحديدية، وهمست بالاستغاثة. دعوت بزوال المعاناة، وتحقق الأمنيات. استعصت الكلمات، فأعدت ما التقطته من أفواه الملتفين حول المقام. أدركك التلعثُم تمامًا، فهمست: يا رب … أنت عارف!

قال بدر العدوي في نبرته الهادئة: أنت كثير الوقوف أمام المقام.

حدقت في وجهه تتبين مقصده: خطأ؟!

اختلجت عيناه وراء النظارة الطبية: الخطأ هو لمس القضبان الحديدية وهزها.

وابتسم، ربما ليخفف وقع الكلمات: حرام أن نتوسل بعظام الموتى أو بالحديد.

ثم وهو يربت كتفك: اتجه إلى الله!

لاحظت أن ملامح بدر العدوي خلت من الاطمئنان لحديث إمام جامع أبو العباس. في درس المغرب عن إقامة الحد على مرتكبي الخطيئة؛ قطع يد السارق، جلد شارب الخمر، جلد رامي المحصنات، جلد الزاني، ورجمه إن كان متزوجًا.

قال بدر العدوي فيما يشبه الهمس: الدين يُسر، ولكل عصر ظروفه!

علا صوت خادم الجامع وهو يصفق بيديه: الجامع سيُغلِق أبوابه.

قال بدر العدوي: لماذا؟

قال الخادم: الجامع يفتح فقط في مواعيد الصلاة.

أردف وهو يرفق التصفيق بالنداء على المتناثرين في الصحن الواسع: النوم في اللوكاندات.

رفع بدر العدوي نظرة مستاءة، وأنتما تهبطان الدرجات الرخامية إلى الميدان: لم تكن الجوامع تغلق أبوابها في أي وقت!

حدثك العدوي عن عمله في شركة النقل والهندسة.

قال لنظرة الدهشة في عينيك: مهنة المرء لا شأن لها باجتهاداته الدينية. كان أبو حنيفة خزازًا، وابن حنبل تكسَّب من استنساخ الكتب، والصفَّار عمل في بيع الأواني.

وتنحنح ليستعيد وضوح صوته: الإسلام لا يعرف رجال الدين، من جعلوا الدين مهنتهم.

ثم وهو يضغط على النظارة: إنه يعرف العلماء والمجتهدين!

– أنت إذن عالم دين؟

رفع كتفيه، ومط شفته السفلى: لا أنسب لنفسي ميزة!

لاحظت أنه لم يكن يميل إلى التحدث عن أسراره الشخصية، أو ما يرى أنه يجب أن يحتفظ به لنفسه. لم يُشِر إلى ظروفه الأسرية. ردد كلمة «الأولاد» فلم تدرك إن كان يقصد زوجته وأبناءه، أو إخوة يصغرونه. تعددت لقاءاتكما في أبو العباس، فلم يستضف أحدكما صاحبه في بيته.

تتابع بعينَين غير واعيتَين حركة المرور في نهر الطريق، والجالسين والمارة على رصيف الكورنيش. تعيد النظر في الرجل ذي البنطلون والبلوفر والخطوات المسرعة.

– عبد المنعم فرغلي؟

لم يعُد ينزل من البيت إلا لأوقات قصيرة في مكتبه، أو لقضاء مشاوير عاجلة، أو للتمشي على الكورنيش، أو للجلوس على القهوة التجارية. اعتاد قراءة صفحة الوفيات في «الأهرام». يسير في الجنازة إن كان الراحل من الإسكندرية، أو يكتفي ببرقية عزاء إلى أسر الراحلين في المدن الأخرى.

هدَّه الحزن يوم وفاة عبد الناصر. حرص على أن يسير في الجنازة.

عرَّفك به كامل عبد الرحيم. نحن نتفق في الصداقة، ونختلف في السياسة. روى أنه شارك أباه في بيع الشروات من حلقة السمك. ضاق بسطوة المعلمين، وتخاذل الأب، ورزق الثقوب الضيقة. تفرغ لمذاكرته حتى تخرج في أول دفعة من حقوق الإسكندرية.

قال كامل عبد الرحيم: لا أفهم سر حبك لبطل النكسة!

قال عبد المنعم فرغلي: أحبه لأنه حاول وأخفق. المهم أنه حاول!

قلت: خدعتنا طيلة ثمانية عشر عامًا. كنت أظنك اشتراكيَّ الهوى.

واتجهت إليه بالسؤال: أكان لا بد من موت عبد الناصر، ليصبح زعيمك بدلًا من أحمد حسين؟

قال: أنا مصري الهوى … وهو ما تحقق في أحمد حسين، ومن بعده جمال عبد الناصر.

ثم وهو يهز إصبعه: ولا تنسَ أن عبد الناصر بدأ حياته السياسية عضوًا في مصر الفتاة.

يلخص حياة عبد الناصر في إلغاء الإقطاع، والإصلاح الزراعي، وحرب الاستعمار، وهزيمة حلف بغداد، والانتصار في القناة، والتحرر الاقتصادي، وإنشاء القطاع العام، والسيطرة على أموال الشعب، ومجانية التعليم. يعيب على زعماء ما قبل ثورة ١٩٥٢م أنهم حرصوا على التمتع بكل لحظة حياة. سافروا إلى المواني البعيدة، والقريبة، وسكنوا القصور، واستمتعوا بالخدم والحشم والأبهة. عبد الناصر لم يغادر بيته منذ كان ضابطًا، واعتبر رؤيته للقاهرة في الليل جائزة غالية، قبل أن يودع الحياة.

إلى ما قبل لحظات تأميم قناة السويس، كان يأخذ على عبد الناصر غدرَه بمحمد نجيب، اتهاماته ضد الإخوان المسلمين، وإلغاء الأحزاب، والتساهل في وحدة وادي النيل، وتقييد الديمقراطية، ومنْع مَن لا يروقه من الاشتغال بالعمل السياسي، وعدم التفرقة بين المحسوبين لمصر والمحسوبين عليها، ومظهره الذي لا يوحي بالثقافة.

كان يستند إلى جدار سراي الحقانية، ينصت — بالفضول — إلى خطبة عبد الناصر في ٢٦ يوليو. فاجأه قرار التأميم، فاجأ آلاف المحتشدين في ميدان المنشية. انعكس تأثير المفاجأة — صباح اليوم التالي — في مصر كلها. أهمل الثقب الخَلقي في قلبه، وهو يجري مع المتابعين للموكب، يخترق شارع الكورنيش إلى ميدان المنشية، ثم إلى شارع سعد زغلول، والنبي دانيال، حتى ميدان محطة الإسكندرية. عبد الناصر هو الرجل، وحلم السنوات القادمة. استمع إلى خطبته في جامع الأزهر. أحزنه أنه لم يكن في القاهرة ليرى عبد الناصر فوق منبر الجامع، يرفع الشعارات، ويتحدى، ويتوعد. حفظ خطبة الأزهر، وفقرات من خطب المناسبات الأخرى: محاولة اغتياله في ميدان المنشية، تأميم قناة السويس. حتى خطاب التنحي ظلت في ذاكرته فقرات بأكملها: إذا قتلوا جمال عبد الناصر، فكلكم جمال عبد الناصر. لقد زرعت فيكم العزة، وزرعت فيكم الكرامة. سنقاتل ولن نستسلم. باسم الأمة: تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية … لقد قامت دولة كبرى في هذه المنطقة من العالم، ليست عادِيَةً عليه ولا مستعدية، دولة تصون ولا تبدد، تبني ولا تهدد … قلت لهم: فلنمهد للوحدة، لأن الوحدة تحتاج إلى تمهيد. الوحدة مشاكل، والوحدة امتزاج. قلت لهم هذا، لكنهم قالوا لي: أين الأهداف التي ناديت بها؟ أين الأهداف التي أعلنتها؟ هل تتنكر لهذه الأهداف؟ قلت لهم: أبدًا، أنا لا أتنكر لأهدافي، ولكن ليطمئن قلبي … وستبقى الجمهورية العربية المتحدة رافعةً أعلامها، مرددة نشيدها، أعان الله سوريا الحبيبة على أمورها، ووفق شعبها.

قال عبد المنعم فرغلي وهو يغالب التأثر: لولا ممارسات أعوان عبد الناصر لاعتبرته نبيًّا!

قال كامل عبد الرحيم: حتى جرائمه تنسبها إلى أعوانه؟!

قلت: الديمقراطية مشكلة حيرت الحكام والمحكومين في دول العالم المتقدمة والمتخلفة.

قال كامل عبد الرحيم: حكاية زرع العزة والكرامة تكفي لإقالته أو قتله!

قال حنفي جامع: تصورت من كلامه قبل النكسة أن صحته بمب. تحدث عن إيدن الخرع، ثم ظهر أن جثته لم تكن خالصة!

قلت متذكرًا: لماذا أبرز الأهرام صورة زكريا محيي الدين في مقدمة الجنازة؟

قال عبد المنعم فرغلي: لا تنس أن عبد الناصر رشحه لخلافته بعد التنحي.

قال كامل عبد الرحيم: هل هي وراثة؟

ورمقه بنظرة مستفهمة: وهل يَرضى الناس؟

قال أنور عيسى: منذ متى كان للمصريين رأي في من يحكمهم؟!

يأخذ على المصريين أنهم يمتلكون موهبة صنع الطغاة. يحولون البشر العاديين إلى آلهة معصومين من الخطأ، ومحصَّنين ضد الحساب حتى لو كان إلهيًّا. يفدونهم بالروح والدم، ويحسنون التغني بمآثرهم، والتطبيل لإنجازاتهم، ويحرقون البخور لذكراهم.

عبد المنعم فرغلي … هل هو في طريقه إلى القهوة التجارية؟

الطاولات المتقابلة لصق النوافذ المطلة على طريق الكورنيش. ربما تباعَد تردُّدُهم عليها، لكنهم ظلوا حريصين على لقاءاتهم فيها. رفضوا اقتراحًا — أنت صاحبه — بأن ينقلوا جلساتهم إلى التريانون أو أتينيوس أو نادي سبورتنج أو نادي سموحة. التجارية هي المكان الذي ألفوا الجلوس فيه كمجموعة. طرف خيط يكرونه في الأحاديث العفوية، ربما تقاطعت، أو تشابكت، معه خيوط أخرى، حتى يحل المساء، فتتهيئون للانصراف.

داخلك ما يشبه السعادة، أو النشوة، حين اختلف الأصدقاء في القهوة التجارية حول قضية لا تذكرها. اتفقوا، واختلفوا. هدأت الأصوات بقول أنور عيسى وهو يومئ برأسه: هذا الرجل لا يكذب … أي الروايات هي الأصدق؟

ظل يتردد على القهوة التجارية. لم يصرفه ما بلغه من مكانة. يمارس العادات نفسها، دون أن يشغله حتى النظرات، أو الإحساس بالحرج.

آخر مغادرتك للقهوة التجارية منذ ثلاث سنوات. بدأ الأصدقاء في التناقص، بالموت، وبالمرض، وبأسباب شتى. قلَّ تردُّدُك على المقهى، تباعد، ثم شغلتك الترجمة في كتب أعجبتك من الفرنسية والإنجليزية. لم تعُد تثيرك الأخبار المهمة، ولا التي كانت تثير دهشتك. تنزل من البيت للتمشي على الكورنيش، حتى أول طريق قلعة قايتباي، أو من الناحية المقابلة إلى تمثال عرائس البحر، والعودة.

قرأ حنفي جامع خبرًا في «الأهرام». معلم على المعاش يلخص كتابًا قرأه لجمهور من الشباب. يسألونه — بعد التلخيص — ويرد على أسئلتهم. إضافة إلى حياة ما قبل المعاش، وفائدة يحصل عليها من يستمعون — بواسطة معلم — إلى تلخيص الكتاب.

قال كامل عبد الرحيم: ما قرأته نسيته، وعيني لا تساعدني على القراءة!

تأملته بعفوية: تهدل جفناه. بدت العينان تحتهما أشبه بخطين. ظلت قامته على امتلائها، وإن مال كتفاه إلى الانحناء، وتناثرت البقع البنية في ظاهر يديه. جعله امتلاء جسده أميل إلى القصر، وإن بدا طوله في جلسته إلى جانب حنفي جامع.

قلت: منذ بلغت السبعين صرت أراقب نفسي. ألاحظ إن أصبت بالخرف!

قال عبد المنعم فرغلي: ما دمت تراقب نفسك فأنت في عز شبابك الذهني.

استطرد حنفي جامع: والجسدي أيضًا.

حنفي جامع! … يرفض أن يكون ضيفًا على الحياة، طارئًا عليها. تحركه رغبة عارمة في الاستمتاع بها: لا معنى للحياة إن لم يعِشها الإنسان طولًا وعرضًا وعمقًا.

حياتنا نعيشها مرة واحدة. نحن لا نملك ترتيب الأيام. لا نملك إلغاء الماضي، ولا حجب المستقبل، أو بتره. نوحٌ طال عمره، ثم مات في النهاية. لا بد أن يموت المرء في النهاية.

لماذا لا نعيش المتاح من حياتنا إذن؟

أطرق وهو يعض شفته السفلى بأسنانه: بعد الرحيل لن نملك وقتًا للندم!

يستعيد أعوام انضمامه إلى الطريقة الشاذلية. وجد في الصوفية خلاصًا مما كان يشغله. قرأ سيرة الرسول، وسير الصحابة والمجاهدين والأقطاب، والأوراد الشاذلية، ودلائل الخيرات. وجلس إلى الشيوخ، وعكف على العبادة، والانقطاع إلى الله، ومجاهدة النفس ورياضتها. ثم هجر الصوفية — ذات يوم — بلا سبب محدد.

همس باعتزازه من الصحو — منتصبًا — كل صباح.

كتمت ضحكة قصيرة: أشعر أني شاب … لكنَّ حركة جسدي لا تساعدني على هذا الشعور.

قال أنور عيسى: زمان … كنا نتباهى ببراعتنا في المضاجعة.

واغتصب ابتسامة: أقصى ما نتباهى به الآن براعتنا في التبول دون عناء.

ظلت صداقتكما، حتى بعد أن تركت أسرته شارع أبو وردة.

ترددت عليه في الوكالة بشارع الميدان. يساعد أباه شقيقيه، ويدرس في كلية فيكتوريا، حتى رحل الأب، فورثوا الوكالة. ظل الإشراف له. زاد من نشاطه. تحققت له مكانة، بعد أن فاز في انتخابات الغرفة مع التجارية.

من الذكريات التي لا يمل ترديدها، أنه ورث الجلوس على القهوة التجارية من أبيه. من أقدم مقاهي المدينة، ومن أولها في الإنارة بالكهرباء. الجلوس فيها يشعرني بالصبا. أظل أنور الصغير الذي يرافق أبيه إلى القهوة ليدعوه إلى زجاجة «تسيباس» ساقعة.

تبدي ملاحظة عن اختلاف ارتدائه للجينز والقمصان المشجرة، أو الكاروهات الملونة، مع البدلة الكاملة ورباط العنق. يرد: لكل وقت زيه. هذا هو معنى الأناقة. أميل إلى النحافة والقصر. تكسو وجهه القمحي ابتسامة طفولية. له حاجبان خفيفان، وتطل من عينيه بساطة وعفوية. حركاته طبيعية وغير متكلفة. يلجأ إلى التعبير باليدين، وبملامح الوجه والرأس. زحف الصلع على مقدمة رأسه، وخط الشيب فوديه. تفتر شفتاه عن أسنان صغيرة لامعة. إذا ضحك، فبجانب فمه، وليس بفمه كله. يضع في خنصره خاتمًا كبيرًا من الذهب، يتوسطه فص من الياقوت. يمتلك قدرة مذهلة على الحكي. يلتقط طرف الخيط من حيث لا تراه. يكره فتغيب النهاية، وإن امتلك القدرة على الإنهاء في الوقت المناسب.

ألفتم سؤاله عما تحتاجون إليه من رحلاته في الخارج. يكتب ما تريدون في نوتة صغيرة، هو — في الأغلب — دواء يغيب عن صيدليات الإسكندرية. تبدو أوروبا جزءًا من حواراته. أجمل ما في الحياة متعة السفر. أنت تسافر فتشاهد، وتسمع، تشعر بالمتعة. يتحدث عن ميدان الطرف الأغر، والبيكاديلي، والسين، والكونكورد، وحي سان جرمان، وسوهو، ومونبارناس، والشانزليزيه، والكوميدي فرانسيز، والكابيتول، ومونمارتر، وكنيسة نوتردام، والبيجال، واللوكسمبورج، وهايد بارك، ومطعم مكسيم بالبساطة نفسها التي يتحدث بها عن ميدان أبو العباس، وميدان الحسين، والأزهر، وباب الجمرك رقم واحد، وشوارع الميدان، وقصر النيل، وشريف، ومحطة الرمل، وميدان المنشية.

قال له كامل عبد الرحيم: تتحدث عن مكسيم كأنه العاصي بائع الفول!

قال أنور عيسى: العاصي مطعم الملك فاروق … لم يكن يتناول الفول إلا منه. أما مكسيم فلا أعرف أن الملوك يترددون عليه!

قال عبد المنعم فرغلي: أعجب لتخشب أعضاء الجسد في الشيخوخة … ما عدا عضو واحد يصيبه التهدل!

قال حنفي جامع: كل هذا سيصبح من الماضي بعد استعمال الاختراع الجديد … اسمه الفياجرا.

قال كامل عبد الرحيم: من التحذيرات المصاحبة لاكتشافه، يبدو أن مخاطره أكثر من فائدته!

قال أنور عيسى: اشتريت من فتح الله التاجر بسوق الترك ما سماه حجر جهنم.

ثم وهو يهرش أنفه بظهر سبابته: دخلت جهنم بالفعل في الليلة نفسها.

وهز قبضتيه: دفعت في المقلب مائة جنيه كاملة!

غمز حنفي جامع بعينه: رأيت رفعت القباني يعاكس بنت الجيران من النافذة.

قال أنور عيسى: ربما يريد أن يثبت لنفسه أنه مازال قادرًا على المغامرة.

قال كامل عبد الرحيم: بل هو يريد أن يثبت الوهم!

قلت لتُنهِي المناقشة: لا بد أنها جنية بحر لأن نافذتي تطل على المينا الشرقية.

يغيظك اقتصار أحاديث القهوة على الماضي، على ما كان من أحداث عامة وشخصية، اجترار الزمن الفائت، مهما يبين المستقبل — حتى القريب — عن ملامح مغرية. شحب، أو غاب اختلاط المناقشات، وتشابكها، حول قروض البنوك، وتزوير الانتخابات، وإحياء الفتنة الطائفية، وتفصيل القوانين: قانون العيب، وقانون حماية الوحدة الوطنية، وعمليات التفجير والاغتيال، وتسريب الامتحانات، وجرائم الاغتصاب، وتفشي ظاهرة الإدمان.

ولدت بعد عام واحد من ثورة ١٩١٩م، وكنت في السابعة حين توفي سعد زغلول. أحدثت تطورات الفترة تأثيراتها في نفسك. الوفد هو الحزب، وسعد زغلول هو المعبود. ثم تبدلت المشاعر بمعارك الزعامات، وإلغاء دستور ١٩٢٣م، والقمصان الزرقاء، والقمصان الخضراء، والقمصان الصفراء، وتزييف الانتخابات، وخيانات الأحزاب، والأزمة الاقتصادية، وتدخل قصر الدوبارة، والحرب العالمية الثانية، وحادثة ٤ فبراير، وحرب فلسطين، ومعارك القناة، وثورة يوليو، وعدوان ١٩٥٦م، ونكسة ١٩٦٧م، وحرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر.

قال عبد المنعم فرغلي: هذا هو الوفد الذي تؤمن به … محمد صلاح الدين كان ضمن السياسيين الذين طالبوا باستقالة عبد الناصر.

قلت: لم يعُد الوفد قائمًا لنتحدث عنه، ومن الصعب أن نضع محمد صلاح الدين خارج إطار الوطنية.

– الوطنية ليست في قبول الاحتلال.

– دعا الرجل إلى استقالة عبد الناصر ليمنع الغزو.

قال عبد المنعم فرغلي: منذ انضم صلاح الدين إلى جمعية الفلاح في ١٩٥١م كشف عن عمالته لأمريكا.

قال حنفي جامع: العمالة تهمة قاسية.

قال عبد المنعم فرغلي: استقال الوزير الوفدي أحمد حسين من الحكومة لينفذ طلب واشنطن بتكوين الجمعية.

قال حنفي جامع: لم يكن محمد صلاح الدين بمفرده. هناك مَن ينتمي إلى مجلس قيادة الثورة!

اختفي — أو كاد — تلاغط المناقشات والنداءات بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والأرمنية واليونانية. ضمنت السياق كلمة أجنبية. ردتك النظرة غير الفاهمة، فأعدت نطق الكلمة بالعربية، بالعامية. اقتصرت اللغات الأجنبية على عمليات الترجمة من لغة إلى أخرى. هذا هو عملك. لم يعُد الإيقاع بسرعته القديمة. حل — بقلة المراسلات التجارية — تباطؤ، وفترات سكون. انشغلت بترجمات اخترتها، ولم يفرضها العمل. أضفت القراءة إلى الترجمة. لم تقتصر على الكتب الأجنبية، ولا على الاقتصاد وحده، وإنما شملت قراءات في الأدب، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والفن التشكيلي. قرأت ما اجتذبك عنوانه، أو ما أعاره لك الأصدقاء. قرأت لهوجو، وراسل، وبلزاك، وزولا، وديكنز، وشوبنهاور، وجوته، وميلر، ومورافيا، وتشيخوف، ودوستويفسكي. حتى بدر العدوي وجدت في مكتبته ما يحضك على قراءته: كتب الغزالي، وابن عربي، وابن رشد، وتفسير المنار لرشيد رضا، وأجزاء من «في ظلال القرآن» لسيد قطب، وكُتُب خالد محمد خالد. لم تعُد الترجمة مجرد وسيلة لكسب العيش. تترجم ما تكتفي بإيداعه أدراج المكتب. يعجبك فتترجمه، لا يشغلك ماذا بعد، ولا إن كنت ستدفع به للنشر. الترجمة ليست مجرد استبدال جملة أو كلمة، بجملة أو كلمة من لغة أخرى. الترجمة روح ومعنًى.

قرأ بدر العدوي ترجمتك لرؤية سارتر في «الوجود والعدم». أظهر إشفاقه من ضياع موهبتك في ترجمة المذكرات والوثائق والتقارير الاقتصادية. إما أن يكسب المرء المال، أو يكسب موهبته. أعدت ما قاله على أنور عيسى.

رسم على شفتَيه ابتسامة ساخرة: كيف يكسب المرء موهبته دون مال؟!

أرجأت ما كنت تنوي تنفيذه: إعادة طلاء جدران غرفة نوم هاني ومسعد، علاج تشققات الرطوبة في المطبخ والطرقة، تجديد دورة المياه، استبدال الستائر، شراء مكتبة جديدة لغرفة إيناس. الاستغناء عن قطع الأثاث المكوَّمة في الشرفة الخلفية.

واجهك بدر العدوي بالسؤال: لماذا لا تصلي؟

– أنا أكفي خيري شري!

وحركت يدك بما يعني أنك قلت ما لديك: هذا يكفي.

– لكنَّ الدينَ له فرائضُه وسننه.

– أزمعت أن أتعامل مع الله بلا واسطة.

بدا عليه استياء: دع الله في حاله.

رميته بنظرة مستنكرة: هل أنت مبعوث العناية الإلهية لهداية العباد؟!

صدقني … ضعفنا لبعدنا عن الدين!

استطردت، ربما لمجرد الرغبة في المناوشة: والدين يقوى عندما يضعف المجتمع!

كان يختلف في تدينه عن تديُّن الإخوان المسلمين، وعن الجماعات الإسلامية الجديدة، وحتى عن تديُّن الصوفية بطقوسها وشطحاتها. على امتداد صداقتكما، لم يصحبك إلى شعبة الإخوان المسلمين في البناية القديمة، ذات الطابقين، المطلة على ميدان أبو العباس. لم يحدثك عن انتمائه السياسي، ولا ناقشته في ذلك. عمقت الكتب التي أعارها لك من غياب المعنى المحدد. المراجعات، هذا إسلامنا، العبقريات، على هامش السيرة، حياة محمد، في منزل الوحي، فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام.

أهمل الإجابة عن سؤالك: هل يوجد غروب الإسلام؟

أظهر عدم ميله إلى قراءاتك في كتب الأدب والفلسفة. قصر قراءاته على كتب الإسلاميات. قضايا العالم الإسلامي والمسلمين، وليس فقه الدين. ثمة ما يشغل علماء الدين، وما يشغل بقية الناس. العلماء يتعمقون في دراسة الشريعة وأصول الدين. عامة القراء — نسب نفسه إليهم — تصلهم القراءات الدينية بين أمور الدين والدنيا.

لم يتحدث عن علاقة تلمذة ولا صداقة بمن كان أبناء بحري يعتبرونهم قادة شعبة الإخوان المسلمين في الحي، وإن كرر ملاحظته بأن فكر الإخوان لم يعُد هو المسيطر. تعددت التيارات والجماعات الدينية. تختلف مع الإخوان في اتجاهها إلى اليمين أو اليسار. وكان له رأي في العلوم والتحديث، هو لا يرفضها إن لم تناقض أصول الدين، أو تنقلب عليه، ويحرص — دائمًا — على القول: هذا رأيي الشخصي … هذا تصوري … هذه وجهة نظري.

اكتفى بالصمت لعرضك أن تعرفه بأصدقاء المقهى.

لاحظت أنه لا يميل إلى جلسات المقاهي. يفضل التردد على الجوامع والمساجد. مجرد الاستناد إلى الجدار، والقراءة، وتأمل الفراغ، أو داخل النفس، أفضل من أحاديث النميمة.

ترقب من جلستك داخل الحجرة — عبر النافذة المفتوحة — قطعة من السماء، يشوب صفاءها غيوم متناثرة. تترامى رائحة البحر. الملح واليود والطحالب والأعشاب. تنتشر في الجو. يعبق بها بما لا يخطئه أنفك.

اعتدت الأوقات التي تدخل فيها الشمس داخل الصالة إلى أقصى مداها، ثم انحسارها حتى التلاشي. تتعرف على الوقت بمجرد النظر إلى الموضع الذي بلغته أشعة الشمس. ألفت الجدران، والأبواب، والشروخ الصغيرة، والأسقف، والأثاث، وتهرُّؤ الملاءات، وتسلل العثة إلى داخل البراويز، والتآكل في أطراف السجاجيد، واللمبة الناقصة في النجفة المتدلية من السقف.

كان هاني أول من ترك الشقة، ترك الإسكندرية كلها. مضى بحلم الأمان، والتنقل بين المواني والمدن البعيدة. رفض التفكير في أنه سيمضي بقية عمره في الإسكندرية. تلاه — في سبعة أعوام — مسعد وإيناس.

قال هاني: حصلت على شهادة التجنيد مقابل حصولي على بكالوريوس التجارة.

ثم في لهجة باترة: من حقي الآن أن أرحل!

كان قد عرف البلد الذي يهاجر إليه، وأنهى كل أوراقه. الموعد وحده هو ما أبلغنا به. تستطيعون وداعي على باب الشقة، أو في المطار.

وهو يحاول السيطرة على ارتعاشة صوته: حتى لا أتعبكما، يكفي الوداع في الإسكندرية.

قلبت بعد رحيله أوراقًا ومطبوعات ومنشورات سياحية ورسائل إلى سفارات وقنصليات، وإلى أصدقاء في أمريكا وكندا وأستراليا. فرد المشهد على اتساعه. تأمل، وفاضل، واختار. لا بد أنه قد خضع للاختيارات نفسها.

أذهلك أنه لم يكن لديه تصور عن الحياة في الغربة. العمل الذي ينوي السفر إليه. بدت الهجرة هدفًا لا يتصل بأسئلة ولا أجوبة ولا مشكلات يشغله التغلب عليها.

قال: هناك … سأشعر بالأمان!

– وهنا …؟

هز رأسه دلالة النفي: وطني حيث أشعر بالأمان.

وأنت تنثر الفراغ: لا أميل إلى مناقشات التفلسُف!

لا أتفلسف! … لكن الوطن بلا معنًى إن غاب الشعور بالأمان.

لاحظت تسلل الانفعال إلى صوتك: والميلاد … والنشأة … والدراسة … والانتماء … هل نسقطها من معنى الوطن؟

لا قيمة لأي شيء عندما يقضي على مستقبلي.

عاود الحديث عن المشروع، قبل أن تعطيه المبلغ الذي طلبه، ويسحب ما أودعه في البنك. صحبته إلى البيت ذي الطوابق الثلاثة على ناصية سوق راتب وشارع السبع بنات. أطال الكلام والتعبير باليدين وملامح الوجه، حتى تصورت اللافتة على شقة الطابق الأول: شركة القباني للتصدير والاستيراد.

قال: لا يوجد ما يربطني بهذه المدينة، ولا بمصر كلها.

– إذا كنتَ قد واجهت الفشل مرة، فلا يعني هذا أنك ستظل تواجهه.

– أنا لم أفشل … لكنني سُرِقت.

ثم وهو يحاول السيطرة على مشاعره: تسلمت البضاعة مغشوشة، فخسرت كل شيء!

قلت مهونًا: سأساعدك لتبدأ من جديد.

مَن يضمن ألا أواجه ذلك الموقف ثانية؟!

رنوت إليه في انفعاله: ورث عنك الشعر الكثيف، وإن غلب البياض في رأسك، وزحف الصلع إلى جانبَي الجبهة، ولون عينيه العسليتين هو لون عينيك، والأنف الأقنى، وغياب الانفعال عن الملامح، ووضوحه في نبرة الصوت.

قال كامل عبد الرحيم وهو يتطلع إلى أسراب الطير، المحلقة في سماء المينا الشرقية: لو أنك تغاضَيت عن عاطفتك كأب، فإن لهاني الحق في الهجرة.

اكتفيت بالنظر إليه في دهشة، دون أن تُبدِي اعتراضًا، أو تحاول السؤال.

قال: مصر الآن مثل الباخرة الغارقة … الكل يحاول النجاة بنفسه!

وحَكَّ جبهته بظفر إصبعه: الغربة إحساس يعانيه الشباب!

ثم وهو ينفخ في كوب الشاي الساخن: الفهلوة هي روح العصر ومثله الأعلى!

قال عبد المنعم فرغلي: تبدلت الأحوال. كان ركوب المرسيدس في أيام الاشتراكية تهمة. ركوب المرسيدس الآن يعني شخصية واصلة.

قال أنور عيسى: نتيجة كد، وليس بشراء استمارة حجز الفيات كما حدث في حرب اليمن!

قلت لرئيفة مداعبًا: عُدنا إلى ليلة الزفاف.

واحتضنت كتفَيها: لو أن الصحة تحتمل كنا أنجبنا طفل الوقت الضائع.

ثم اتجهت إلى عينَيها: ربما تحتاجين إلى مَن يُؤنس وحدتك.

لمحت على شفتَيها ظل ابتسامة فاهمة: أنت الذي تتصور أنك ما زلت شابًّا.

واتسعت ابتسامتها: نصيحتي أن تتفرغ للعبادة.

– تقصدين التهيُّؤ للموت؟

تهدج صوتها بالانفعال: هل تقتصر العبادة على تذكُّر الموت؟ أقصد أن عمرك يحتاج إلى تفكير آخر.

فوت الملاحظة: كنت أحلم بإجازة في البحر الأحمر أو العريش.

وواجهت عينَيها: ما رأيك؟

– هل تنوي التقاعُد؟

– لست موظفًا لأتقاعد … مجرد إجازة قصيرة نصل بها ذكريات جميلة … قديمة …

تلتقط ومضة الابتسامة في المرآة أمامها.

الحرب تنعكس في الكشافات المتناثرة على الشاطئ، وأكياس الرمل المصفوفة بامتداد واجهة سراي رأس التين، والزرقة تغطي واجهات المحال والشرفات والنوافذ على طول الشاطئ، توَقِّيًا لغارات طائرات المحور. حتى السيارات في طريق الكورنيش شحبت أصواتها بالزرقة. الجنود الأمريكان والإنجليز والأستراليين والهنود والأفغان والأفارقة، يسيرون جماعات.

ظل دخول حديقة السراي متاحًا للجميع، وإن اجتذبت الفتاتان انتباهَك بجلستهما المنفردة. تذاكران تحت شجرة بالقرب من المدخل. جلس تحت الشجرة المقابلة صبي يذاكر، يبين من تلفُّت نظراته بينهما وبين المترددين على الحديقة، أنه قريب لهما. الملاءة مفروشة على الحشائش الخضراء الندية، تكسو الحديقة الواسعة كحدوة هائلة. تناثر فوق الملاءة كتب وعمود طعام وزجاجة ماء. تكرر ترددك على الحديقة حتى ألفت رؤية الفتاتين، واعتادا — في عدم التفاتهما — رؤيتك.

ترامى صوت صفارة الإنذار.

التفتت الأعين — بتلقائية — ناحية مصدر الصوت.

الليل توقع الغارات الجوية. تحل الظلمة. تلحس الكشافات السماء. يتوالى إطلاق قذائف المدفعية. تخلو البيوت والشوارع، وتمتلئ المخابئ والبدرومات والطوابق التحتية. تكتفون بالنزول إلى الطابق الأرضي، أو تتجهون إلى جامع الموازيني القريب. تثق أمك أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن الأخطار تبعد عن أضرحتهم ومقاماتهم. تتعالى أصوات المدافع. تتقاطع التخمينات بين ما إذا كان مصدرها طائرات الألمان، أم أنها تنطلق من المدفعية المضادة للطائرات.

قال أبوك: المظاهرات في القاهرة تهتف: إلى الأمام يا روميل.

ثم وهو يضرب كفًّا بكف: يريدون استبدال احتلال باحتلال. أين شعار الاستقلال التام أو الموت الزؤام؟

إيماءة الموافقة دفعتك إلى معاونة الفتاتين في لم الحاجيات، وصرها في الملاءة. البناية المجاورة لقصر أم البحرية أقرب الأماكن للاختباء.

قلت: ظروف الحرب لا تناسب المذاكرة في حديقة عامة.

فطنت إلى تسرعك في إبداء الملاحظة.

فاجأتك بابتسامة: هذا صحيح.

وأشارت إلى صديقتها: لم يوافق والدها على خروجها إلا برفقتي.

وأردفت ضاحكة: ولم يوافق أبي على خروجي إلا بصحبة مدحت.

حملت ملاحظتك غياب الفتاتين والولد في الأيام التالية. أحدثت تأثيرها، فلن يعودوا للمذاكرة في الحديقة.

التقطت — بعد غيبة عن المكان — تعمد اتجاه ابتسامتها إلى الناحية المقابلة.

صادقتها.

ألقيت بكل ما بنفسك عند قدميها. أدركت أن فتاة أخرى لن تحل محلها في قلبك. عدت إلى حديقة سراي رأس التين. تتجه إلى الشجرة الثالثة في يمين المدخل الواسع. تحاذر برك المياه التي خلفها ري النجيل. تتأمل الكلمات المحفورة بالمطواة: «رفعت – رئيفة ١٩٤٤م». خشيت رئيفة مِن أن يراها مدحت. أعملت فيها المطواة بحفر متقاطع، لكنَّ الاسمَين لم يختفيا.

هل ما تزال الشجرة في موضعها؟

لما عرضت على أبويك أن تتزوج رئيفة، سأل: مَن أبوها؟

قلت: بهجت عبد النعيم … موظف بوزارة الصحة.

اكتفى بالقول: هذا شأنك!

أدهشك أنه لم يسأل عن المُلابسات. ثم عرفت أن الرجلين — أباك وأباها — جليسَا قهوة المطري المطلة على البحر.

طبع أبوك بطاقة دعوة زفافك في مطبعة الخواجة جان لاجوداكيس بشارع شريف. معرفة قديمة. عرض أن يطبعها مجاملة.

لم تناقش رئيفة في قرارها بأن تلزم البيت. أغناك عن الأسئلة، والمناقشة، ومحاولات الإقناع، وربما السير في رمال مشبعة بالحصى والماء. لم تحدد أسباب القرار، وإن قالت إنها اتخذته قبل أن تنهي دراستها الجامعية. فاجأتك ملاحظة أبيها: لماذا تخرجت في الجامعة إذن؟

قلت لأزيل ارتباكها: رئيفة تفضل رعاية بيتها!

حدث ما حدث في لحظات.

استغرقتما فترة الصباح في التنقل بين دكاكين أسواق الخيط والعقَّادين والمغاربة والصيارفة والخراطين والترك وزنقة الستات. ثم اتجهتما إلى شارع الميدان لشراء احتياجات البيت.

اقترحت رئيفة اختصار الطريق في عودتكما من شارع الميدان.

تتقاسمان حمل الحقائب البلاستيك المحملة بالطعام. شارع الصاغة، ومنه إلى شارع فرنسا، ثم شارع سنان باشا المواجه لوكالة الأوقاف.

أغراكما الهدوء بإبطاء الخطوات.

صرخت رئيفة لمحاولة اختطاف حقيبة يدها في غير توقع. احتضنت الحقيبة بتلقائية. لم تفطن للمطواة التي سددها الرجل إلى بطنها. تأوهت وسقطت. أذهلك ما حدث، فلم تحاول حتى مطاردة الرجل.

أقسى ما في الأمر أنها ماتت بلا سبب. لم تُصَب بمرض، ولا كانت مُهيَّأة للموت على أي نحو. الرجل ذو السحنة المجدورة، والأنف الأفطس، والشعر الأكرت، اختطف حياتها، سرقها.

قالت وهي تعدل الأكياس في يديها: سأدعو مسعد وإيناس.

أردفت في نبرة متواطئة: إذا كانا قد استقلا بحياتهما، فإن بيت شارع الإبياري سيظل بيت العائلة.

عدت إلى البيت من مقابر المنارة. زيارات المعزين شغلت اليومين التاليين. ثم استأذن مسعد وإيناس، ومضيَا.

واجهت الوحدة في داخل الشقة.

أضأت الشقة كلها. ضغطت على كل الأزرار. لم تكن تخاف الظلام، واعتدت النوم دون إضاءة من أي نوع. الهاجس في داخلك — لا تعرف بواعثه — دفعك إلى الرقاد في النور. حتى الأباجورة الصغيرة جنب السرير، حرصت على إضاءتها. أخفقت في استدعاء النوم، ربما للإضاءة العالية، أو للأفكار التي ملأت ذهنك، أو لإحساس المحاصرة والوحدة. سحبت كتابًا، تصفحته بقراءة غير متأملة، وأعدته.

ماذا قرأت؟ وماذا كنت تنوي قراءته؟ وما الذي سترحل قبل أن تتصفحه؟

لم يعد الزمن يتيح لك حسابه بالأعوام. بعد عامين، أو بعد ثلاثة، أو عشرة. الفترة القادمة — غير محددة الزمن — هي ما تستطيع التحدث عنه. تتوقع اللحظة، وإن ظلت في إطار التوقع، لا تدري متى، ولا كيف؟

وقفت وراء النافذة تطل على الظلمة التي غابت فيها أمواج البحر. أدرت مؤشر الراديو على البرنامج الموسيقى. أكثرت من التقلب، ومن تأمل تكوينات الظلال.

تحدث حنفي جامع عن الضوء الذي يصدر عن الشقة في الليل. رآه وهو يتمشى مع زوجته على الكورنيش. زمان، كنت — كما تعرف — بطلًا في الجمباز. رياضتي الوحيدة الآن هي التمشي على الكورنيش! … هل تخاف النوم بمفردك؟ لم ترد على السؤال، وإن أطفأت نور الصالة. ثم استغنيت — في الأيام التالية — عن إضاءة باقي الحجرات. لم تعد تخاف البقاء وحيدًا.

ظللت شهورًا — بعد رحيل رئيفة — تتنفس الموت في هواء الشقة. تطالعك في السرير، وعلى كنبة الصالة، وداخل المطبخ. قاسمتك النهار والليل. تشعر بوجودها لحظة فتح باب الشقة. تراها جالسة على طرف السرير، تثبت الغسيل في منشر النافذة الخلفية. وهي قادمة من الطُّرقة إلى الصالة. وهي تتكلم، تسأل، تقاطع، تحزن، تبتسم، تضحك. تطالعك في توالي اللحظات. تحاصرك. حتى صوتها يملأ اتساع الشقة. حتى عطرها المفضل كنت تتشممه كنسائم متطايرة في حجرة النوم. تلتفت — بتلقائية — إلى السرير، أو الكرسي المذهب الصغير أمام التسريحة، أو الدولاب الممتد بعرض الحائط. تتوقع أن تكون رئيفة هنا، هناك، وأنها تهبك العطر الذي تحب رائحته.

كنت قد جاوزت الخامسة والخمسين، لكنك أدركت معنى اليُتم. أنساه لك مرورُ أعوامٍ على رحيل الأبوين. تواصلت حياتك بالونس في رفقة رئيفة، قبل أن تُغيِّبها طعنة شريرة لا معنى لها.

لو أن الرجل هدد رئيفة: حقيبتك أو أقتلك، لأعطته الحقيبة بنفسها، أو لأعطيتها أنت له. كل شيء بلا معنًى أمام الموت.

تحايلت رئيفة ليلة تشييعكما جنازة أبيك حتى أعادتك إلى نفسك. تجاوزت السؤال عن معنى أي شيء، وإن انخرطت في نشيج. احتضنتك. لامست جبهتها ذقنك: لا يسعد المرحوم أن تقتل نفسك من الحزن!

عاودت احتضانك، فأعادتك إلى نفسك.

لم يخطر في بالك أن الموت يختطف رئيفة. تغيب عن حياتك، دون أن تبين عن المشاعر التي تحيا في داخلك. ربما — لو أنك تعرف — تقول لها كلامًا كثيرًا: أنا أحبك … أنا لا أتصور حياتي بدونك … أنا أنشغل بعملي فأهمل الجلوس إليك. شوشت المفاجأة القاسية ما كان قد استقر في وجدانك من تواصل حياتكما. ما يختلف عن ذلك هو المستحيل، وما لم تكن تتوقعه. الإحساس مُمِضٌّ بالفقدان والوحشة. تهبط إلى الطريق. تعبر من الرصيف إلى الرصيف المقابل. تخترق زحام المارة والسيارات والحنطور. تتشاغل بالنظر غير المتأمل لفاترينات الدكاكين وقعدات المقاهي و«ستندات» الصحف. همك تبديد مشاعر العزلة والوحدة والمحاصرة.

أهملت قول حنفي جامع وهو يمط شفتيه للحزن المرتسِم على شفتَيك: الموت سيحصدنا جميعًا. كل واحد يبكي على من سبقوه.

ثم وهو يفتعل ابتسامة: الأفضل أن ننسى البكاء، ونستمتع بما يتاح لنا من حياة.

أشفقت على إيناس من تكرار إعدادها لطعامك. حرصت ألا يقتصر ترددك على مطعم نصار أسفل البيت. عرفت الطريق إلى مطاعم وسط البلد، والمطلة على الكورنيش. في المنطقة ما بين المنشية والشاطبي: نصار أسفل البيت الملاصق المواجه للبحر ومصطفي درويش، وتافيرنا، والشرق، وبستروس، وإيليت، وسي جيل، وأتينيوس، ودنيس، واستيريا، وسيد درويش وغيرها. تقتصر على الغداء وحده. أكلت بشهية، وتذوقت، وتركت الأطباق على حالها. لاحظت أنك طلبت الأطعمة التي كانت تحبها رئيفة. ألوان من الأطعمة لم تتذوقها منذ طفولتك. تأكلها بمفردها، ولا تدعوك لمشاركتها. تعرف ما تفضله، وما تعتذر عنه. حتى الجندوفلي التي كانت توصيك بشرائها من سوق راتب، بدت لك شهية، بعد أن صارت — للمرة الأولى — جزءًا من طعامك. تستدعي ملامح رئيفة وهي تنزع الصدفة عن الجسد الرخوي، وتدسها داخل الفم المفتوح بما يكفي حجم الشوكة الصغيرة. تهمل الرائحة، وتكتفي بتوهُّم التلذُّذ الذي كانت تشعر به رئيفة. ربما أكلت على الواقف ساندوتشات فول وطعمية من جاد أو محمد أحمد. في الإفطار والعشاء تأكل ما تجده في الثلاجة. جبن وزيتون وبسطرمة ولانشون وزبادي ومعلبات. لم تعمد إلى تسخين أي طعام. ما تجده في الثلاجة تضعه على المائدة.

كانت رئيفة ترفض مجرد دخولك المطبخ. عملك الترجمة، ومسئوليتي البيت. منذ قدمت إيناس بأم محروس الشغالة، تركت لها مهمة ترتيب البيت، وغسيل الملابس، وإعداد الطعام. تظل خارج البيت نهار الاثنين. بعد المغرب تولج المفتاح في الباب. قد تضغط على الجرس. تتنبه إلى أن رئيفة ليست في الداخل. يطالعك الهدوء والصمت والنظافة والترتيب. «إنني أعيش وحيدًا، كما سأستلقي وحيدًا في قبري». استوقفتك عبارة تشيخوف. أعدت قراءتها. طويت الكتاب، وشردت في رؤًى غائمة.

قال أنور عيسى: هذه العزلة خطأ.

ورفع رأسه، كأنه توصل إلى قرار: أنت في حاجة لأن تحيا وسط الناس.

واتجه ناحيتك بنظرة متسائلة: لم تعد تتردد على القهوة التجارية؟

قلت في لهجة باترة: لا!

– لماذا؟ … نحن نتردد عليها.

– أعطاك الله العمر. الغربال الذي يسقط الأصدقاء واسع الثقوب. معظمهم — كما ترى — ماتوا أو حبسهم المرض في البيوت!

لم تعد قادرًا على زيارة المستشفى. يتملكك التوتر لمجرد دخولك الصمت، والسير في الطرقة الطويلة ذات الأرضية الرخامية. على الجانبين أبواب مغلقة، ومنفرجة، ومفتوحة. تتوالى الأرقام. تلمح الأسِرَّة، والمرضى، والزوار، والأطباء، والممرضات، والبياض الذي يكسو كل شيء. تشعر أنك في المستشفي، فأنت قريب مما يشغلك تصوره. لا بد أن المشرحة في داخل المبنى. المشرحة جزء من أي مستشفى. لعلك سرت بالقرب منها دون أن تدري.

تتأمل التسمية: وحدة العناية المركزة لمرضى القلب. تقف وراء النافذة الزجاجية الملاصقة. يقتحمك رؤية ما لم يدُر ببالك، ولا تصورته: الأسلاك والخراطيم تحيط بالصدر العادي. تدخل في الأنف وبين الشفتين. فرج سباعي يمتصه المرض. تكسوه صفرة شبحية تؤلمك. نحف جسده، وتبدلت ملامحه، وغامت نظراته، وتدلى أنفه، وأحاطت الهالات السوداء بعينيه. لم يعُد هو. كان قد لزم البيت منذ تبين حاجته إلى مساعدة للقيام من الكرسي. نحن السابقون، عبارة تقال عند الموت، لكنها يجب أن تقال في الحياة أيضًا.

ما قيمة الحياة إذا أرهقها المرض؟ إذا امتصها قطرة قطرة، فتذوي، وتنتظر النهاية؟! هل وُلِد الإنسان ليموت؟ ما معنى الميلاد؟ وما معنى الموت؟ وما معنى الحياة التي — مهما تطول أو تقصر — فهي لا بد أن تنتهي؟

قال أنور عيسى: إذَا أنت لم تؤمن بالموت، فأنت لا تؤمن بالحياة الآخرة!

أنت تعرف الحياة، لكنك لا تعرف الموت، وإن كنت تدرك تأثيراته في الطقوس المُفضِية إلى المجهول والعدم، المقدمات التي تسبق الموت، وترافقه. يبدو أمنيةً قبل أن تروح فيما لا تعرفه.

تنفض رأسك من التفكير في أن عمرك القريب من عمر فرج سباعي يمضي بك إلى هذه الصورة القاسية. هل لا بد للشيخوخة من أعراض؟ وهل هذا هو ما ستئول إليه حياتك في النهاية، مجرد أنفاس تعاني اللهاث، وتعتمد — لتواصل انتظامها — على مساعدات قد لا تريدها؟ تزعجك فكرة أن تقضي بقية حياتك مستندًا على أيدي الآخرين، أو جالسًا على كرسي متنقل، أو ضيفًا ثقيلًا يتمنى له أعزاؤه الرحمة. تسلطت عليك فكرة أن يفاجئك الموت وأنت بمفردك في الشقة. التُّرَبي يؤدي أخطر الأدوار في حياة الناس، لكن الميت قد لا يعرفه — في حياته — أو يلتقي به. المرء يرحل وحيدًا، ينزل القبر وحيدًا، يعاني الظلمة وحيدًا، وإن يحرص، يتمنَّ، ألا يموت وحيدًا.

قال أنور عيسى وهو يدفع إليك بأوراق: ألا تتعاطى دواءً لهذه الارتعاشة في يدك؟

لم ترد.

تدرك أن الارتعاشة وليدة ضيق. تكتم ما بداخلك، فترتعش يدك.

تتقبل اتساع الفجوة بينك وبين الناس. حتى الأصدقاء القدامى لم يعُد يستوقفك غيابهم عن حياتك. الدنيا تلاهي، تقولها، وتستمع إليها. حتى العبارات التي تشكل طقسًا، لم تعُد تتوقعها، ولا يتوقعها من غِبت عنه. تحت النظر، خليك فوق النظر وبان. يجرفك امتداد اللحظات. تشعر أنك وحيد كما لم يحدث من قبل. تغطيك أمواج الوحدة تمامًا. يحدث ما يذكرك برئيفة: مشهد، أو كلمة، أو تصرف، أو أغنية. يطالعك الوجه الأبيض المدور، والعينان الباسمتان، والأنف الدقيق، والشفتان المكتنزتان، والبشرة الخالية من أدوات الزينة، والإيشارب الملتف حول مقدمة الرأس، يبين منه الشعر الفاحم المنسدل على الكتفين.

– هل تحاول الانتحار؟

– لماذا؟

– معظم اليوم في الكتابة … من حقي أن أجلس معك.

مجرد الإشارة إلى إجهاد العين، يأتي بالعديد من الملاحظات: لعله انفصال في الشبكية، مياه بيضاء، مياه زرقاء. تثق أنك أجهدت عينك في الترجمة بما لا تطيق. تضع نقطتين من قطرة أُكيوميثيل، فيتلاشى التعب. يبدو الرد على الملاحظة سهلًا، لكنك تفضل الصمت. تلجأ إلى فيتامين «أ» و«ﺟ» لحماية الخلايا من أعراض تقدم السن. لا يشير الطبيب إلى كلمة الشيخوخة، ولا تحبها.

تغلق باب الشقة من الداخل. تشعر بالحياة بعيدًا عن خارج البيت. لا قعدات مقاهي، ولا أصدقاء ربما لا تطمئن إلى ملاحظاتهم، أو زحام تضيق به.

لا تذكر اللحظة التي أدرت فيها مفتاح الراديو للمرة الأولى. ذلك ما كان يفعله هاني وإيناس ومسعد، ثم رئيفة عندما خَلت الشقة من الأبناء. توقفت أصابعك على البرنامج الموسيقى. سحبت كتابًا من المكتبة الصغيرة، المثبتة في الجدار.

ربما انتابك شعور أنك لم تَعُد تسكن هذه البناية، تحيا في هذه البناية، تصادق هؤلاء الرجال. تحيط بك الوحدة والعزلة والغربة عما حولك. يلفك الإحساس بأنك لست من هذا العالم.

بدا قول أنور عيسى ضربة تثير الحيرة والتأمل: إذا كنت تعاني فقدان حاسة الشم، فإن ذلك لا يعني أن الرائحة المسمومة لن تدخل صدرك!

أهملت قراءة صفحة الوفيات في «الأهرام» — عدوى أصابك بها حنفي جامع. يطوحك بعيدًا ما تتوقعه، أو لا تتوقعه. تستدعي ما تهمل تصوُّره، ما يبدو مؤلمًا. الحزن لفقد من تعرفهم يحل كقدر قاسٍ، لا يرحم. تقهرك الاستكانة لتوقعات غامضة.

يبدو الآن عاديًّا أن تصاب بمرض الموت، أو يباغتك: نزيف في المخ، غيبوبة كبد، سكتة، ذبحة صدرية. لا مفاجأة عند مَن يحيطون بك، لا شعور بالصدمة. كلمات تأثُّر ومواساة، وينتهي الأمر.

صدمتك الإجابة لما سألت: ما المرض الذي مات به فرج سباعي؟

قال أنور عيسى: في سِنه لا يحتاج المرء إلى مرض.

ثم وهو يداعب المقبض الأبنوسي لعصًا من الخشب اللامع: إنها الشيخوخة!

لم تلحظ تسرُّب الزمن حتى تسرَّب بالفعل. بدا ما تحياه بلا نهاية. التوقُّع والأحلام والأمنيات، ومرور الزمن يبطئ فلا يتفق مع ما تندفع في اتجاهه. حكاية الأرنب والسلحفاة تكررت دون تمهيد. دون تنبه إلى توالي الفصول، مدِّ الأمواج وجزرِها، ظهورِ الشمس في الأفق الشرقي، وسقوطِها في أفق البحر أمامك.

تكالُب الشحاذين بحجة القراءة على قبر رئيفة دفعك إلى إهمال ما اعتزمته بالتردد على القبر، مرة كل أسبوع. حتى التُّرَبي، اعتبر ما تعطيه له راتبًا ثابتًا. أسعفك بدر العدوي بنصيحته: زيارة القبور ليست فريضة. يكفي أن نقرأ الفاتحة لأحبائنا. اكتفيت فيما عدا أول أيام العيدين بقراءة الفاتحة لروحها من أي مكان تنفرد فيه بنفسك، وبروحها.

مَن يزورك حيث تدفن؟

أنت آخر الأحياء من إخوتك الثلاثة. تقف على الشاطئ وحيدًا، تتطلع إلى المجهول، وما لا تدرك طبيعته.

لن يرافق ياسر إيناس إلى المنارة. ربما منعها من الذهاب. يضايقه — ربما — صمتك وهو يتحدث عن فرص النجاح، وصفقات الشطارة، وارتفاع أرقام الواردات، ولغة السوق. تتظاهر بالصمت، لكنك تصيخ السمع جيدًا، تحاول الفهم، والتعرف إلى ما يكتمه. تغالب الشعور بالقلق، وبالخوف.

أعاد بدر العدوي ملاحظته: أرى أنك لا تصلي.

– هل يؤذيك تصرفي؟

لا! … لكنك تؤذي نفسك.

– الله هو الذي يحاسب البشر.

وربت كتفه: أشكرك على اهتمامك بي … لكن هذه علاقة خاصة بين الله وبيني.

رفع نظارته من أذنيه، يداري انفعاله. مسح زجاجها بطرف القميص. قربها من عينيه، ثم أعادها إلى موضعها.

تهب نسمة باردة من اتجاه البحر، تلامس وجهك بانتعاشة. تستعيد قول الطبيب وهو يحذرك من تيارات الهواء: الالتهاب الرئوي صديق السن المتقدمة.

تطل برأسك من النافذة، فتبدو الطوابق التحتية بتصاعدها الهرمي. المدينة في أسفل. مجموعة من البنايات الساكنة، الصماء. أفق البحر يلتقي في المدى مع أفق السماء. ثمة بائع تين شوكي يقشر الثمار، يقدمها إلى سيدة، تلتقطها بإصبعيها. تدفع بها إلى فمها، وشاب وفتاة يسيران على الكورنيش بخطوات متباطئة، وقد وضع ذراعه حول كتفَيها.

قالت إيناس: إذا لم أتزوج ياسر، ربما لن تجدوا من تمارسون معها سطوتكم.

قلت: ماذا تقصدين؟

– أقصد أني سأكون غير موجودة.

أعادت رئيفة قولك: ماذا تقصدين؟

قالت إيناس: سأترك لكم هذا العالم!

يتناهى صوت إيناس عبر التليفون: هل أعود إلى البيت؟

– لن أستطيع النزول من الشقة إلا في المصعد … إذا عدت إلى البيت فستضيعين وقتك بلا ضرورة.

ثم وأنا أتلفت — بعفوية — حولي: هذه فرصة للراحة.

– إذن … سأكون دائمًا إلى جانب التليفون.

كنتَ قد أعلنتَ رفضك، فأعلنَت إصرارها.

قلت: لماذا ياسر؟ … يستحقك مَن هو أفضل.

قالت إيناس: لا أتصور أن أحيا في شقة واحدة مع شاب غير ياسر.

لكنه يواجه مستقبلًا مجهولًا.

– أعرف أنه بلا وظيفة، لكنه أنهى دراسته الجامعية، ويمتلك الطموح والإرادة.

أشحت بيدك: كلام جميل … لا يخلو من رومانسية.

– أنا أدرى الناس بقدرات ياسر.

واجهتها بنظرة مغتاظة: مسكينة! لحس عقلك!

تنتقل إلى النافذة الجانبية.

تُطِل على شارع الغرفة التجارية. الترام — في أسفل — الرمل وبحري، ومن الزاوية اليمنى محطة الكهرباء الصغيرة، قبالة سينما ركس، تلاحظ استمرار وجود الغسيل على منشر الشرفة الملاصقة، كأنهم يستبدلون — في اللحظة نفسها — الثياب المبلولة بالثياب التي جففها الهواء. في العمارة جيران كثيرون، أساتذة جامعة وأطباء ومحامون ومحاسبون ومستشارون ورجال أعمال ومكاتب تصدير واستيراد. ذكروا أسماءهم ومهنهم في خانات صناديق البريد على جدار بهو المدخل. اعتدت السحن، وربما إيماءة الرأس، بالتحية في وقفتك داخل، أو أمام المصعد، أو نزولك وصعودك على الدرجات الرخامية الواصلة بين البهو والطريق. المصعد واسطة بين الطابق الثاني عشر والطابق الأرضي. لا شأن لك بالطوابق التي تراها من نافذة المصعد الزجاجية. عرفت جيران الشقة الملاصقة من اللافتة النحاسية البيضاوية: أحمد منصور الشايب؛ تاجر. تصخب الأصوات في الداخل. يتوالى فتح باب الشقة وإغلاقه، وتخفق الثياب — بصورة دائمة — على منشر الشرفة الخلفية.

تطل من زاوية حادة على المينا الغربية.

البواخر الضخمة والمخازن والمستودعات والأرصفة والحاويات وبلوطات الأخشاب والأجولة والرافعات، وتناثر القوارب الصغيرة إلى حيث تتداخل — في المدى — مع حركة الميناء. تقصر البنايات عن بلوغ ارتفاع النافذة. تبدو الأسطح والشرفات ومناشر الغسيل وأطباق الفضائيات. تتقاطع الشوارع والميادين في أسفل، ويتحرك المارة والسيارات كدمًى صغيرة.

أمضيت أيامًا في الترجمة وملء البيانات للدخول إلى الجمرك في الميناء الغربية.

قلت: كان الدخول بلا تصاريح ولا بيانات.

فتحي عبد الوهاب يسبقك في الدخول إلى الميناء. لا أحد يسأل من أنت، ولا إلى أين. تتابعان حركة السفن الكثيرة، وتتطلعان إلى أفق المياه والحوض الجاف والترسانة البحرية والمخازن والمستودعات وأحواض البترول والحاويات والصناديق الهائلة والبالات وشوادر الأخشاب وبلوطات الأجولة.

قال أنور عيسى: المفروض أن الإجراءات تتصل بالوسائل الأمنية الحديثة.

وضغط السيجارة في الطفاية: ما حدث هو العكس.

رفضت انتظار العمل، والموت. تقاوم ما لا تتبينه بالانهماك في العمل، وشغل فراغ الوقت. تقرأ، وتترجم، وتشاهد التليفزيون، وتذهب إلى السينما، وتتمشى على الكورنيش، وتجلس إلى الأصدقاء في القهوة التجارية أو أتينيوس أو التريانون.

تذكرت دعوة السنيور جويدو لزيارة نابولي … هل نسيها؟

أعدت النظر إلى الكردون الحديدي، يسد الشارع الموصل بين فندق سميراميس ومبنى القنصلية الإيطالية المنفرد على الناصية. تطل واجهته على ميدان سعد زغلول، ومن الجانب على ميدان محطة الرمل، ومن الجانب الآخر على المينا الشرقية. أدركت أن الكردون للمبنى وليس للفندق. قدمت إلى القنصلية الإيطالية للحصول على تأشيرة زيارة. آلمك ما اعتبرته إغلاقًا لنافذة — أخرى — في بناية الإسكندرية.

عدت إلى البيت.

لم تناقش عرض أنور عيسى بالعمل في الغرفة التجارية. طوق نجاة، لا للراتب الشهري، وإنما لممارسة الحياة. الصحو لموعد تترجم في أثنائه مراسلات الغرفة وتقاريرها، وليس لانتظار ما لا تدرك كنهه. مجرد الخروج إلى موعد العمل، والعودة منه، الجلوس على مكتب، ترجمة المراسلات والتقارير الاقتصادية، وملء الاستمارات والتصاريح. تشاهد — من النافذة الجانبية للطابق الثاني — حركة الميدان، والحديقة المستطيلة، وتمثال سعد زغلول، والكورنيش، وأحوال البحر. تقتصر الترجمة — أو تكاد — على اللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والفرنسية. شحب تأثير اللغات الأخرى برحيل الجاليات الأجنبية عن الإسكندرية، في السنوات الخمس ما بين ١٩٥٦م و١٩٦١م. تقرأها لأنك تجيد قراءتها، تجد فيه ما يستحق القراءة. تكتفي بالقراءة، أو تترجمه وتودعه الأدراج.

حين صدرت قرارات التأميم، داخلك الخوف لعلاقتك القريبة بالشركات الأجنبية: هل تذوي؟ أو تنتهي؟ وهل تقتصر على وظيفتك في سراي الحقانية؟

قال الفرنسي مارك فونتين: لو اضطررت إلى فتح كشك لبيع الصحف فسأفعل.

ثم وهو يهز قبضته: هذا بلدي.

لكن الرجل فاجأك بعد أقل من عامين بتصفية شركاته، والعودة إلى إيطاليا.

علا الانفتاح بإيقاع المراسلات من اللغات المختلفة. نشطت حركة الواردات، وقدم وسطاء، وتوالت عروض ببضائع لم تكن موجودة في السوق المصرية.

أسعدك قول أنور عيسى: أَغنَيتَنا عن أربعة مترجمين بإجادتك أربع لغات.

ثم وهو يغمز بعينه: أنت الرجل المناسب للانفتاح!

ونادى على بائع الفريسكا. طواها — متكسرة — كسندوتش، وبدأ في التهامها.

طالعك في ترجمتك للرسائل والمكاتبات ما يحتاج إلى توضيح، أو ملاحظة تبديها. تكتم ما يشغلك في نفسك، لكن التقرير تحدث عن شركات توظيف الأموال. تجتذب المودعين في البنوك وشركات التأمين بإغراء العائد المرتفع، ما بين ٢٤ و٢٦٪ سنويًّا. يحصل المودع نصيبه منه كل ستة أشهر. بدت الأرقام غريبة، وصعبة التصديق.

اخترت الكلمات بما لا يُغضب أنور عيسى أو يضايقه: ما تعلمته من المذكرات والتقارير التي ترجمتها، أن أي مشروع اقتصادي — لكي يحقق عائدًا — يحتاج إلى فترة حضانة أولية من خمس إلى ست سنوات!

وجاهدت ليبدو صوتك هادئًا: ولا يزيد أقصى عائد عن ١٢٪.

ثم في لهجة مثقلة بالحزن: أخشى أن يكون نشاط هذه الشركات في تجارة العملة أو المضاربة على الذهب.

وغلبتك حماسة طارئة: أو تمويل تجارة المخدرات!

ظل أنور عيسى صامتًا، يرمقك بنظرة محايدة، ثم قال في لهجة متسائلة: هل تعرف أن اقتصاد البلد إن لم يكن قد أصبح، فسيصبح في أيدي هذه الشركات: السعد والريان والنور والهدى وبدر.

وداخل لهجته توتر: هل تريد إغلاق الغرفة؟

وواجهني بنظرة جامدة: نحن أصدقاء خارج هذا المبنى.

وأشار إلى الآلة الكاتبة على مكتبك، وقال في الجدية نفسها: عملنا هنا يسقط الأسئلة والملاحظات، مثل هذه الآلة تمامًا!

قال كامل عبد الرحيم: هل استمعت إلى الإذاعة اليوم؟

حدجه أنور عيسى بنظرة قلقة: ماذا حدث؟

يدخل الشقة تمتد يده — بتلقائية — كما يروي، إلى مفتاح التليفزيون، أو الراديو. يغلقه. الإعلام يتحول إلى إعلان عندما تملكه الدولة. يصبح الرئيس هو البطل، ويحصل الوزراء على الأدوار الثانية والثانوية. الشعب يكتفي بالسماع أو المشاهدة: لو أنه يتقاضى مقابلًا لأوقات ظهوره في التليفزيون، فسيحصل على أجر يفوق ما يحصل عليه من منصب الرئيس!

قال كامل عبد الرحيم: قالت: هنا إذاعة جمهورية مصر العربية من القاهرة.

قلت: طبيعي بعد أن عادت مصر إلى تسميتها القديمة.

قال كامل عبد الرحيم: فلنأمل في عودة العلم الأخضر ذي النجوم الثلاثة!

ثم وهو يهز إصبعه: أخطأ عبد الناصر حين تصور بداية التاريخ المصري في ٢٣ يوليو.

وحدق في الفراغ: نسي أُبوَّة الوفد، وهو ما ذكره به الألوف في جنازة النحاس!

كان أنور عيسى قد انشغل بالأخذ والرد مع بائع حمل بضاعته على يديه. يجد متعة في الفصال — بلا نية للشراء — على أثمان ساعات اليد والميداليات والأقلام والولاعات ولعب الأطفال والمعلبات وعلب السجائر الأجنبية.

تحاول فتح باب المنور المطل على الأسطح والشوارع الخلفية. الكتب والكراسات تملأ صناديق الكرتون. تغريك بالتقليب فيها. اللون أقرب إلى الصفرة، والخطوط شاحبة. وزارة المعارف العمومية. العقل السليم في الجسم السليم. اغسل يديك قبل الأكل وبعده. لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد. من زرع حصد، ومن جد وجد. مدرسة رأس التين الثانوية. المشوار اليومي من البيت في شارع الأباصيري إلى المدرسة.

أين فتحي عبد الوهاب؟

تصعدان إلى الطابق الثالث في سينما كونكورديا. تطلان من زاوية خالية في الشرفة العليا، تمدان عنقَيكما لتتمكنا من متابعة أفلام العرض المستمر. ثلاثة أفلام أمريكية يتواصل عرضها حتى موعد إغلاق السينما. تتابعان مغامرات الكاوبوي ورعاة البقر وأفلام شارلي شابلن، تتأملان ساقَي مارلين ديتريش في فيلم «إكسبريس شنغهاي». تتباعدان، وإن حدس كلٌّ منكما أن صاحبه يستتر بالظلمة لمعانقة النشوة والرؤى المحمومة. تقاسمتما تسمية شخصيات الفيلم. امتدت التسمية إلى كل الأفلام: البطل والبطلة والعجوز والشرير. يتحابُّ البطلان. يأخذكما القلق، وربما الخوف، وإن ألفتما انتصار البطل في نهاية كل فيلم. يواجه الشرير. يفلت من أعدائه بطرق كأنها السحر، يفك نفسه من القيود. العجوز يوجه النصيحة. يهتز مبنى السينما من التصفيق للبطل وهو يركب جواده أو دراجته البخارية — حتى ينقذ فتاته من يدي الشرير، أو الأشرار. يقبل البطل فتاته. يعلو الصفير، وتضرب قبضات الأيدي كراسي الصالة. شمشون ودليلة هو آخر الأفلام التي شاهدتماها.

عُدتُما إلى كونكورديا بعد غيبة أكثر من عشر سنوات. اخترتما الجلوس في البلكون، وإن لاحظ كل منكما تطلع صاحبه إلى الشرفات العليا.

قال فتحي عبد الوهاب: لو أمتلك قوة شمشون فأهدم البيت على الحاج.

– هل يضايقك إلى هذا الحد؟

– هو المضايقة والتسلط والرعب.

يرفض أن يسمي أباه. هو الحاج. مع أنه لم يذهب إلى الحج. هذه هي تسمية المعلمين. تاجر في كل أنواع الأقمشة. الرفوف مكدسة بلفات الدمور والبوبلين والتلفيحات الحرير والصوف والطرح السوداء وأتواب الصوف وقماش الساتان والحرام الأسود والأحمر. حتى أكفان الموتى حرص على بيعها. في أعوام الحرب العالمية الثانية دفع لأصحاب بطاقات تموينية مقابلًا، وتاجر في أقمشة البطاقات بأضعاف ثمنها. امتلأت الأرفف، فصف لفات الأقمشة على قواعد قصيرة من الخشب.

قلت: لن يكون أبوك تحت الردم وحده … سينهد المبنى على إخوتك وعليك.

شرد قليلًا، ثم قال: سأحاول التصرف ليكون وحده.

قلت لفتحي عبد الوهاب: لماذا لا تنتظر حتى تحصل على التوجيهية؟

قال: قد لا تعود فرصة ركوب البحر. عمل لا يحتاج إلى شهادة. المهم هو اللغة الأجنبية.

استطرد موضِّحًا: كما تعرف … لغتي الإنجليزية لا بأس بها.

ظل على حرصه في متابعة الأفلام الأمريكية، وأخبار نجومه المفضلين: كلارك جيبل وإيرول فلين وجريتا جاربو ومارلين ديتريش وجانيت لي. صحبته إلى حفلة العاشرة في سينما فريال. خرجت من استغراقك في مشهد من فيلم «سلامة». تلفت — بتلقائية — يمينك. ربما لتتبين رد فعل المشهد على فتحي عبد الوهاب. فاجأك بتسلله من جانبك، أثناء عرض الفيلم.

حين بدأ هاني إجراءات السفر، لم تكن فكرة المغادرة مما يشغلك، أو تعِد له نفسك. لم تتصور نفسك خارج المساحة التي يحدها البحر من الجهات الثلاث. المينا الشرقية والمينا الغربية وخليج الأنفوشي. تنزل من الطابق الثاني عشر. تطالعك البنايات والأسواق والميادين والشوارع والمحال. ما ألفت من السحن والشرفات والنوافذ واللافتات والشرفات وهوائيات التليفزيون وأطباق الأقمار الصناعية. المثل يتحدث عن الحياة المستحيلة للسمك خارج مياه البحر. الإسكندرية بحر ترفض تصور الحياة بعيدًا عنه. حتى لو ظللت في الشقة المطلة على المدينة. مجرد أن تحيا في المجال الذي تعرفه. تغمض عينيك، تستدعي القسمات الثابتة في الذاكرة.

انبثقت فكرة السفر دون توقُّع، دون أن تسبقها بدايات من أي نوع. لم تشغلك، ولا هيأت لها نفسك. حتى الدعوات التي وجَّهها مَن عملت في شركاتهم، ترجمت مراسلاتها التجارية، أروامًا وطلاينةً وإنجليزًا وفرنسيين، لم تتصور أنها ستدخل — ذات يوم — دائرة التحقيق. كلمات مجاملة لا تعني شيئًا. تشكلت اللوحة من القراءة والأحاديث وحكايات الحنين ومشاهد الأفلام والخيال المنطلق. ملامحها المواني والمطارات والميادين والساحات والشوارع والكنائس والحدائق والنافورات والبشر والعلاقات المتمايزة. تضيف، وتحذف، وتوشي الألوان والظلال.

تحدث السنيور جويدو عن ضغط العمل في شركة السياحة، أثناء موسم الشتاء. معظم القادمين من سكان الإسكندرية. غادروها، ويعيدهم إليها الحنين.

قال: تقتصر عملياتنا في هذه الفترة على اليونانية والإيطالية.

ثم وهو يضرب بأصابعه على ركبته: سكان العطارين والأزاريطة القدامى يعودون لزيارتهما.

ورمقك بنظرة متفحصة، كالمتنبه: أنت تجيد اللغات، لكنك تكتفي باستعمالاتها التجارية!

قلت: ماذا تقترح؟

– أستضيفك في بيتي على شاطئ البحر في نابولي. حتى قيمة تذكرة الطائرة لن تتكلفها!

أشحت بيدك: فكرة السفر تخيفني.

ملأت الدهشة صوته: أكلمك عن السفر … الفسحة … وليس الموت!

– ألفت الحياة في الإسكندرية!

هل كان رحيل بدر العدوي — إلى أين؟! — هو الباعث لفكرة السفر؟!

تطل من تكوم الأثاث كرة جلدية. هل هي؟!

ربما أخفتها رئيفة، فلا ينزل بها مسعد إلى الشارع الخلفي. تكررت رسائل التحذير من العباسية الثانوية لغيابه عن البيت. أشفقت من الغضب في ملامحك: لا شأن لك بهذه المشكلة … سأتصرف!

نطقت بالغضب لسقوطه — للمرة الثالثة — في الثانوية العامة. لم يُبدِ تأثرًا، ولا تعلَّلَ بظرف، ولا اعتذر. قال وهو يلم الكتب المتناثرة هذا أفضل … أريد أن أعمل.

– هل تعمل بلا شهادة؟

– التجارة لا تحتاج إلى شهادة.

ومر بطرف لسانه على شفتَيه: التجارة شطارة.

رمقته بعينين غاضبتين: ورأس المال؟

– سأدبر نفسي.

واتجه إليك بابتسامة تطلب التصديق: الأصح أني دبرت نفسي!

لاحظت وجود مجلات «البلاي بوي» و«البنتا هاوس» بين الكتب والأوراق على مكتبه. أدركت أنه يخوض معركة المراهقة. لم تتصور النتيجة، وإن توقعت ما ينبغي التحسُّب له.

صرخت لرؤية العازل الواقي على أرضية الصالة: ما هذا؟!

تلفت مسعد حوله في حيرة: لعله سقط من حقيبتي.

لا يهمني كيف سقط … أسألك لماذا تحتفظ به؟

غلبه الارتباك، فلم يعرف بماذا يجيب.

قلت في انفعال: يبدو أني لم أحسن تربيتك!

قفزت الصورة كأنها ألم الضرس الذي يعلو بلا توقع. كنت منشغلًا بمتابعة الفيلم. فاطمة رشدي وحسين صدقي يتبادلان الكلمات العاطفية على درجات السلم. شعرت بيد تتحسس فخذك. حاولت — في الظلمة الشاحبة — أن تتعرف على الجالس بجوارك. له شارب وعينان ملتمعتان وشعر تهدل على جبهته.

سحبت ذراعه من امتداده على ظهر الكرسي، وأعنت الشاب على وضع يده في الموضع الذي يتحسس الطريق إليه.

تركت سينما فؤاد في لحظات ما قبل نهاية الفيلم. ملت بخطوات إلى شارع النبي دانيال. أهملت الخطوات المتابعة، حتى اطمأننت — في هرولتك التي صارت جريًا — إلى تلاشيها.

أغناك هاني ومسعد عن همسات رئيفة بالتغيُّر في جسد إيناس. خشونة الصوت، والشارب الخفيف أعلى الفم، نبَّهك إلى ما طرأ على حياتهما من تحول. اكتفيتما — رئيفة وأنت — بالنظرات الفاهمة، وإن لم تناقشا الأمر على أي نحو.

امتدت سهرات مسعد خارج البيت. يعود في الصباح. يظل نائمًا، لا يقوم إلا لتناول الطعام، أو للذهاب إلى الحمام. إذا حل المساء، بدل ثيابه وخرج. اهتمامَك بمذاكرته ذوى في انشغالك بالأمكنة التي يقصدها كل ليلة. أدركت أن رئيفة تمرر لمسعد النقود خلسة. ينفق منها في سهرات لا تعرف أماكنها، وإن حدثك أصدقاء عن رؤيتهم له في صحراء المتراس، وجبل ناعسة، وبارات اللبان وشارع البوستة.

قال: أنا الآن في الثامنة عشرة.

وهز رأسه في عدم اقتناع: لم يعُد من المقبول أن أنفذ ما تصدره من أوامر.

– ما تتصوره أوامر هو لصالحك.

– أنا أدرى الناس بمصلحتي.

صحت: أنت مثل ذبابة تؤذي، ولا فائدة لها!

راجعت ما قلت. تملكك ما يشبه تأنيب النفس. أذهلتك ابتسامته الساخرة، الهادئة، كأنك لم توجه عبارتك إليه، كأنه لم تشتمه!

تأملت — في اليوم التالي — ما حدث، بملامح هادئة ونفس مستاءة.

التحطيم والتشوه لحق كل ما في الحجرة. الستائر، ساعة الحائط، التماثيل الخزفية الصغيرة، ملصقات الجدران، الكتب الممزقة، المبعثرة على الأرض، شرائط الريكوردر كاسيت والفيديو. الورود البلاستيك. حتى مرتبة السرير والوسائد، جرى فيها التمزيق والتقطيع.

همست من بين أسنانك: لماذا فعل ما فعل؟

تميل الشمس إلى الغروب. تنسحب إلى ما وراء البنايات. ظلال الأشياء تبدأ في الاستطالة. بقايا الضوء تلامس أعلى الجدران، وإن ظلت الطائرات الورقية تعلو فوق أسطح البيوت، وطيور البحر تحلق في أسراب متقاربة بامتداد الشاطئ، تتحول — في ابتعادها — إلى سحابات بيضاء. ومن أسفل، يتصاعد أصوات الكلاكسات والصيحات والنداءات والشتائم والضحكات العابثة.

خرجت من مكتبة «شوارتز» بشارع صفية زغلول. اشتريت جو صحف البورص والإجبشيان جازيت والبروجريه وتاشودورموس.

بدا مقهى البلياردو في وقت الظهر على غير الهيئة التي يطالعك بها في أوقات المساء. يصنع دخان السجاير غلالات رمادية في الصالة الواسعة. يتزاحم اللاعبون من جنسيات مختلفة، أروام وطلاينة وإنجليز وفرنسيون — يسهل عليك تبيُّن جنسية محدثك من اللكنة التي ينطق بها اللغة العربية — على طاولات البلياردو. يدفعون العصي الطويلة، الرفيعة. تصطدم بالكرات. تعلو صيحة الفوز حين تسقط الكرة في ثقب الزاوية. تختلط اللغات واللهجات، ترافقها تلويحات بالأيدي، وإيماءات، وتعبيرات بالملامح. يقضي السنيور جويدو في المقهى فترة ما بعد المغرب إلى منتصف الليل. أقل وقته يقذف الكرة إلى الثقب في ركن الطاولة. معظم الوقت يدخل في مناقشات مع رواد المقهى. يستغرقه العمل في الشركة، يهمل ما يشوش أداءه. يأخذ في المقهى ويعطي، ويستدعي الذكريات. تتكلمان بالعربية والإيطالية. ربما تخللت الأحاديث كلمات بالفرنسية، ترافقها إيماءات وإشارات بملامح الوجه، وبالأيدي. عنده استعداد للدعابة، وتبادل القفشات. تذكر ملامحه بين الخمسين والستين، قبل أن يغيب عن حياتك تمامًا: أميل إلى السمنة. رأسه مغروس بين كتفيه. عيناه ضيقتان يعلوهما حاجبان كثيفان. مزاجه مستقر، فهو دائم الابتسام، وصوته هادئ النبرة. إذا استغرقه التفكير، أو الشرود، يبدو كالنائم. حتى عيناه يغمضهما. وإذا غلبه الضحك، اهتزت كتفاه العريضتان. وإذا أطبق شفتيه، تهدل خداه. له ذاكرة بصرية؛ فهو يعتمد على عينَيه في تذكر الشخصيات والأحداث. يُعنَى بوضع وردة صغيرة في عروة الجاكتة. لكي يطرد الرائحة الكريهة من فمه، كان يحرص على أن يمص قرص نعناع، أو يمضغ لبانة.

أعلن يأسه من أن تمسك عصا البلياردو — ذات يوم — في صورة صحيحة، وتقذف بها الكرات.

قال وهو يضحك: البلي أنسب لك!

قلت لمسايرته: أفضل الدوم!

يذهلك معرفة السنيور جويدو بأحوال المجتمع المصري: الأحزاب والجمعيات الأهلية والدخل القومي وإحصائيات السكان والتعليم والصحة وغيرها مما يشغل المتخصصين وحدهم. حتى الأندية الرياضية يتابع مبارياتها، ويُظهر التحمُّس لنادي الاتحاد السكندري. أنا سكندري، أشجع النادي الذي يشجعه أبناء الإسكندرية. وكان يسجل — في نوتة صغيرة — تواريخ ميلاد أصدقائه والمتعاملين معه، ثم يرسل التهنئة في موعدها.

قلت: لم أفاجأ بموقفك من مبادرة السادات قدر مفاجأتي بكلامك في السياسة.

لم يكن يقدم ما يمتلكه من المعلومات في سياق رأي. هي مجرد معلومات تمليها ذاكرة حافظة، لكنه يحرص ألا يضمنها أفكارًا محددة يشغله التعبير عنها.

قال السنيور جويدو: إن أشتغل في الاقتصاد، فلا بد أن أنشغل بالسياسة.

قلت في لهجة مشفقة: نصيحتي إذن أن تحتفظ بآرائك لنفسك.

لم تكن تتصور أنه يهاجم مبادرة السادات. لم تكن تتصور أنه يعلن رأيه برفض المبادرة. بدا المستقبل بما لا يمكن تصوره. دخلت في مناقشات مع أصدقاء القهوة التجارية. حتى إيناس لاحظت انشغالك بما بدا كأنه المفاجأة. كنت تحتفظ — في داخلك — بآرائك السياسية، لا شأن لصغيرتك بقضايا لا تعنيها، ولا تهيأت لمناقشتها. آراء السنيور جويدو اجتذبتك إلى كلام السياسة، تتبنى رأيه، أو ما تثق أنه رأيك.

قال عبد المنعم فرغلي: كيف تحول الممثل في فرقة فاطمة رشدي إلى بطل الحرب والسلام؟

قال كامل عبد الرحيم: هو على الأقل لم يدَّعِ أنه خلق فينا العزة والكرامة.

ومصمص شفتيه: كأنه انتشلنا من صفيحة زبالة!

أدهشك تحول بدر العدوي من النصح على أداء الشعائر الدينية، وإبداء الرأي في قضايا الدين، إلى مناقشة قضايا السياسة. حتى ما يتردد في مناقشته أصدقاء القهوة التجارية. اقتصرت آراؤه على رفض مبادرة السادات، ما لحقها من زيارة السادات للقدس، ثم توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل.

ضغط على نظارته: يذهلني أن إعلام عبد الناصر حول الهزيمة إلى انتصار، بينما حول إعلام السادات أكبر انتصاراتنا إلى هزيمة!

ثم في لهجة تقطر مرارة: جربنا كل الأنظمة … لماذا لا نجرب الإسلام؟!

قال السنيور جويدو: أعتذر لأني لم أرسل لك المكافأة الكاملة لترجمة مراسلاتنا مع الشركة الفرنسية.

قلت في ذهول: لم تصلني مكافأة كاملة ولا ناقصة.

– سلمت المكافأة لمسعد بنفسي.

ذهلت، وسكت في ذهولك.

وضعت ما قاله الرجل في دائرة الحقيقة، لا في دائرة الاحتمال. لم تكن تلك أول مرة يأخذ مسعد لنفسه نقودًا. ترددت في مواجهته، ثم فضلت أن تكتم على الخبر ماجورًا. تحصل على المكافأة بنفسك، أو تطلب إرسالها إلى عنوان البيت.

أدرت المفتاح في الباب. النور مُضاء. هل نسيته في الصباح؟

أدركت من الحركة في المطبخ أن أم محروس ما تزال تؤدي عملها داخل الشقة. لم تعد تنتظرها. أعطيتها المفتاح. تخرج قبل مجيئها، وتعود بعد موعد انصرافها.

– مسعد!

ورشقته بنظرة غاضبة: هل أعطاك الخواجة جويدو مبلغًا لي.

ظل في هدوئه: لا أذكر.

– أعطيته الترجمة، وأعطاك المقابل … كيف لا تذكر؟!

– لا أذكر!

– أعطاك الرجل النقود فأخذتها لنفسك.

ثم في لهجة تسليم: هذا ما حدث!

صفق مسعد الباب وراءه، واختفي. مر يوم وثانٍ وثالث دون أن يظهر. اتصل صوت — لا تعرف صاحبه — يدعوك لزيارة مسعد — الذي حاول الانتحار — في المستشفي الأميري.

تحركت مشاعرك حين اللقاء، لكنك اكتفيت بكلمات مدغمة، لا تقصد بها معنًى محددًا. مددت يدك لتسلم. مد يده.

ظللتما صامتَين كأنكما اتفقتما على ألا تتبادلا كلمة واحدة.

يغطس قرص الشمس في البحر، وإن خلف بقايا ضوء شديد الاحمرار. ينطلق سرب من الطير في الأفق، يواصل طيرانه حتى يتحول إلى نقطة بعيدة، ما تلبث أن تختفي. ترين على المكان رمادية شفيفة، تستطيل الظلال. تفترش مساحات من الطريق والبنايات، ووميض بقايا أشعة الشمس ينعكس على النوافذ الزجاجية المغلقة. وغربان البحر تنعق، وتصرخ، وتزعق، وهي تحوم فوق بلانس اجتاز حاجز الأمواج، ودخل نصف الدائرة ما بين السلسلة وقايتباي. طوى الرجال الشراع، وأعدوا المخطاف.

تنشغل بنفض التراب عن الأرفف والأركان، والمفرش البلاستيك — فوق طاولة المائدة — ذي نقوش الورود الملونة.

تزيل من ثيابك ما علق بها من غبار. الوقت خريف، لكنك تشمُّ رائحة العرق من تحت إبطيك. تدخل الحمام. حتى لا يفاجئك الموت، اعتدت أن ترتدي ثيابًا داخلية نظيفة. تحرص على الاستحمام، واستبدال ثيابك صباح كل يوم. تترك الباب مفتوحًا. لا أحد في الشقة سواك. تنزع ثيابك. تقف تحت الدش. ينساب الماء الدافئ. تسلم الذهن لأحداث قريبة وبعيدة. تختلط الوجوه وتتشابك: بدر العدوي يسبقك في النزول على سلم أبو العباس المفضي إلى الميدان. أصوات المدافع ترافق اتجاه الكشافات نحو السماء. تعلم القراءة على لافتات الدكاكين وأفيشات أفلام السينما. المذاكرة في صحن الحديقة الهائلة أمام سراي رأس التين. إفساح الواقفين الطريق أمام سيارة محمد نجيب لوداع الملك. ارتطامات الأمواج بالمصدات الأسمنتية أسفل قلعة قايتباي. صرختك المتألمة من عصا العسكري في المظاهرات ضد حكومة صدقي. الفرجة على عمليات إنشاء الكورنيش. إصرارك على مصافحة مصطفي النحاس في موكب عودته من أوروبا. امتزاج الفرحة والخوف عند دخول حديقة حيوان النزهة للمرة الأولى. استيقاظك على إيقاع خطوات جياد الملك في مشوارها الصباحي. اندفاعة حنفي جامع الخائفة من باب المقهى: ألم تسمعوا الخبر … القاهرة احترقت وأعلنت الأحكام العرفية. هتافات التشجيع المحيطة بملعب كرة القدم، بالقرب من حلقة السمك. التسلي بمشاهدة صيادي السنارة في تناثرهم على كورنيش المينا الشرقية. صرختك العفوية حين أعلن عبد الناصر قرار التنحي. امتطاؤك كتفي أبيك، يتيح لك رؤية موكب الزفاف في ميدان أبو العباس. تأملك للمساحة البيضاء، ما عدا دائرة سوداء صغيرة في جانب اللوحة المعلقة على جدار البينالي. هز الفوانيس في ليل رمضان: الدكان ده كله عمار، وصاحبه ربنا يغنيه. متابعة الجلوة القادمة من شارع الأباصيري إلى شارع الميدان. قول كامل عبد الرحيم: ألم تسمعوا الأخبار؟ … القاهرة احترقت وأُعلِنت الأحكام العرفية. وقفتك في ناصية تقاطع ميدان المنشية وشارع السبع بنات، تشارك بالهتاف لقرار عبد الناصر بتأميم القناة. اتجاه سيارة النقل في الطريق الزراعي عقب الغارة على باب سدرة — إلى دمنهور. المناقشات التي تبدأ ولا تنتهي في تمشيتك مع بدر العدوي — وقت الأصيل — على الكورنيش. الحواديت التي تخترعها لإيناس قبل أن تنام، الحيوان والشياطين والجان والملائكة وممالك قاع البحر. قول إيناس — في نبرة احتجاج — وهي تقف على باب المطبخ: أنا الآن في الجامعة، ومسئولة عن إعداد الإفطار. إقلاعك عن الأنفاس المحشوة في اللحظة التالية للجذبة الأولى، عندما شجعك حنفي جامع على المسامرة ليلة أم كلثوم. قول بدر العدوي: قرأنا في الدين لنتعلمه وليس لقلب نظام الحكم. التأمل — بعيني الذهول — لنزول السادات من الطائرة المصرية في مطار تل أبيب. نزول الرجال بجثمان جار البناية المقابلة إلى النعش في أسفل. قول كامل عبد الرحيم: سيذكر التاريخ أن الدستور ألغى في يناير ١٩٥٣م، وألغيت الأحزاب، لتبدأ مصر عصرًا من الديكتاتورية. صوت الرجل — محملًا بالتهديد — في التليفون: إذا لم توافق على اللقاء فقد أسلم الأوراق إلى الجهات المسئولة.

اعتدت السير في نفق محطة سيدي جابر، لكنك تنظر — دومًا — إلى اللوحات الإرشادية: القطار المتجه إلى القاهرة … القطار القادم إلى الإسكندرية … القطار المتجه إلى أبو قير. تهبط الدرجات، وتمضي في النفق المستطيل.

تصعد إلى رصيف رقم ثلاثة. تقف في موضع العربة رقم ستة. من الخلف صف البنايات العالية، تعلوها سماء صافية الزرقة إلا من سحب متناثرة. تتوزع نظراتك بين اللافتة الخشبية البيضاء، عليها اسم سيدي جابر، والأكشاك المعدنية تحت المظلات الحجرية بامتداد الأرصفة، والمبنى المصمت من الطوب الحراري، تتوسطه عبارة «مرحبًا بكم في الإسكندرية». يعلو صف الأبواب الخضراء المفتوحة، والنوافذ العالية، وصالة حجز التذاكر، ومكتب المعاون، وكبائن التليفونات، والبوفيه الخالي إلا من ثلاثة تناثروا داخله، والساعة البيضاء المتدلية من أوسط السقف، تشير إلى الثامنة إلا الربع.

موعدكما قطار الثامنة صباحًا من القاهرة. المكان أمام كشك الصحف، على يمين الأبواب المفضية إلى الميدان. جرائد ومجلات وكتب وسجاد وشيبس وحلوى ومرطبات ومياه غازية.

لاحظت نبرة التهديد في كلماته. تحدث عن آلاف الجنيهات. حصل مسعد عليها لمشروع وهمي. لم تتصوَّر أنه قد انساق في الأمر إلى غير نهاية. تنقل بين وظائف عدة. ظل يتقاضى منك ما يشي بأنه لن يجاوز ظروفه القاسية. تحول الإنفاق عليه — رغم ابتعاده عن البيت — إلى جزء من إنفاقك.

سبقك الرجل بخطوات متسارعة. أسقط كل ما أعددته في ذهنك. تنفي صلتك بأي شيء، وتمضي.

قال وهو يتأمل حركة الميدان: أنا قاهري، لكنني عضو في نادي سبورتنج.

قلت: أنا عضو في النادي، وإن كنت لا أتردد عليه.

ماذا يريد الشاب؟

يقترب من الأربعين. له صوت حلقي. ألصق بملامحه ابتسامة تخفي ما يضمره في نفسه. ضخامة رأسه لا تتسق مع نحافة وجهه. تعاني عيناه جحوظًا واضحًا، وتحت جفونه السفلية انتفاخ واضح. تناثرت حبيبات حول الأنف وأسفل العنق. اختلط في أسنانه السواد والصفرة. يرتدي بدلة شاركسكين كحلية اللون. في يده علبة سجائر مارلبورو وولاعة ذهبية. لم تطمئن إليه، ولا إلى اللقاء الذي فرضه بالتهديد.

قال: عرفت من مسعد أنكما تملكان شركة للتصدير والاستيراد.

علا صوتك بالسؤال: مَن نحن؟

– أنت وهو … ألست والده؟

– صحيح … لكنني لا أمتلك حتى الشقة التي أسكنها.

– حصل مسعد على عشرة آلاف جنيه لتخليص بضائع من الجمرك باسمي.

غلبك الضيق والانفعال: لماذا يضعك مسعد في ظل الشبهات؟!

وأنت تفز من كرسيك: هذا شأنكما.

ثم وأنت تهز إصبعك في وجهه: أدخله السجن لو استطعت!

زاد إحساسك بالوحدة. غلبك التأثر. تمنيت لو تذهب إلى مكان بعيد، يخلو من البشر تمامًا. تتمدد على رمال الشاطئ. تأتي الأمواج. تغطيك، تغسلك، تنحسر. تعود لتغطيك، وتغسلك، إلى ما لانهاية.

تضيء النور، وتعيد تأمل ما حولك: الأثاث، الستائر، المكتبة، التليفزيون، النوافذ، الشرفات. تلاحظ الشقوق الواضحة في السقف والجدران، والتكوينات التي صنعها تساقط الطلاء.

تنظر — بآلية — إلى ساعة الحائط، تحت إفريز السقف. الحادية عشرة وخمس عشرة دقيقة. أكثر من ساعة لم تذهب للتبول.

تنفخ بتلقائية. تمضي إلى النافذة دون أن تتوقع ما ستطالعه. مجرد حركة لم تتدبرها. تسقط احتمال الخطوة التالية.

كانت حركة الطريق قد هدأت، وشحبت الأصوات المتصاعدة من أسفل. وكان الظلام قد ابتلع البحر. لا مرئيات سوى نقاط ضوء متناثرة في بلانسات بعيدة. وثمة توالي حركة الموج في مد وجزر متلاحقين، وغابت أسراب النورس عن سماء الشاطئ.

قلت: لا أكاد أترك البيت. أصادق الأمراض، وأنتظر ما لا أعرفه.

قال حنفي جامع: أصبحت تتكلم مثل العجائز.

– أنا عجوز بالفعل.

– بالعكس … أنت تمنع العين!

ولانت لهجته: ما دمنا أحياءً نظل في حاجة إلى الناس.

وتراخى على الكرسي: حتى في الموت نحتاج إلى الدعوات.

تتصوره بقامته الطويلة، وجبهته العريضة، وعينَيه الضيقتين الخاليتين من الرموش، وأنفه الضخم، وتفاحة آدم البارزة في عنقه، مريدًا في طريقة صوفية، أو قطبًا لها. منشدًا في حلقات الذكر، أو مصفقًا. يتلوى، وينتصب، ويرتفع، ويهبط. يرافقه إيقاع الدفوف وتصفيقات الأيدي. عاد إلى القهوة — بعد خمسة أشهر — ليروي تجربة انضمامه إلى الطريقة الشاذلية. تتصور على جسده جوالًا من الخيش، وفي يده اليمنى عكاز من خشب الجميز، وفي اليد اليسرى محكاك ذو ذراع طويلة، تنتهي بما يشبه أصابع اليد. وهو يهز رأسه وجسده وسط حلقة الذكر. وهو يهتف بالأدعية والابتهالات والأذكار والصيحات التي لا معنى لها. وهو يستند بثيابه الغريبة على جدار أبي العباس، يسأل الرزق والنصفة والمدد.

تتأمل في موضعك على الكرسي قبالة النافذة، اختفاء القمر لمرور السماء سحب صغيرة، متناثرة، ثم عودته إلى الظهور. ضوء الفنار يمسح في توالٍ، وصوت ارتطام الأمواج في الكتل الخرسانية يأتي كالصدى.

أشارت رئيفة إلى البحر الغارق في الظلمة. أبدت إشفاقها من عودة الإظلام والزجاج الأزرق والسواتر الحجرية والمخابئ وصفارات الإنذار والكشافات والغارات الجوية والمدفعية المضادة للطائرات والقنابل والخوف.

– هل تعود تلك الأيام؟

قلت: لم يكن لنا في الحرب العالمية ناقة ولا جمل كما قال شيخ الأزهر. أما هذه الحرب فنحن الناقة والجمل.

أطلت الوقوف بين ضلفتي الباب الخارجي للقهوة التجارية. لجأت إلى النحنحة، فينتبه الأصدقاء من مناقشاتهم التي ابتلعت ما في القهوة من ملامح وأصوات ونداءات. اكتفي كامل عبد الرحيم برفع يده محييًا، وواصل الكلام .

أدركت أنه يتحدث عن التطورات الأخيرة.

كل ما حولك نطق بالحرب: السواتر، والنوافذ المصمتة، وكشافات السيارات المطلية باللون الأزرق، وجنود البوليس الحربي المتناثرون في النواصي، وفي الميادين، والكورنيش الخالي من الحركة. تحول الناس إلى آذان تلتقط ما تبثه الإذاعات المصرية من أخبار سقوط الطائرات، وتقدم الجيش المصري في سيناء، وتوغل قوات الصاعقة إلى داخل إسرائيل. السؤال: كيف نحرر فلسطين، حل محله السؤال: ما صورة فلسطين التي نستعد لرؤيتها؟ الحكايات والصور: المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وأشجار الزيتون، ومزارع البرتقال، والبيارات، والشوارع، والميادين. كان النحاس باشا يقضي إجازة الصيف في فندق الملك داود بالقدس. أزمع — بعد استعادة فلسطين — أن يحاكي زعيمه الجليل.

أشار كامل عبد الرحيم إلى رجل يرتدي أفرولًا، ويلصق عليه «بوستر» عليه شعار «مصر مقبرة الغزاة».

مصر احتلها اليهود.

قال عبد المنعم فرغلي: فال الله ولا فالك. سيناء ليست كل مصر، وسنستردها بإذن الله!

قال أنور عيسى: لماذا لم يطل المقهى نوافذه، ولا وضع سواتر؟

قلت: النكسة فاجأت الجميع.

قال حنفي جامع: صفعة لم نستطع ردها!

قال كامل عبد الرحيم: نحن لم نُهزَم من إسرائيل … الفساد هو الذي هزمنا!

قال حنفي جامع: كنت أتصور فساد رأس السمكة. لم أكن أعرف أن جسد السمكة كله تعفن بالفساد!

وأظهر التأثر: تصورت أن الجيش بعيد عن الفساد. ثم اكتشفت أن الفساد نخر فيه حتى العظم.

تصورت — بالأناشيد، والبيانات العسكرية، وصوت أحمد سعيد — أن النصر في قبضة اليد: راجعين بقوة السلاح … راجعين نحرر الحِمَى … ولا يهمك يا ريِّس …م الأمريكان يا ريِّس … حواليك أشجع رجال. خلي الصقور الجارحة تنهش لحمهم … خلي الصحاري الواسعة تشرب دمهم.

لم تكن تفتح الراديو، ولا تجلس لسماعه، ولا تفتح التليفزيون. أجهزة الراديو والتليفزيون مفتوحة على آخرها. يتناهى ما تبثه من النوافذ والشرفات والأسطح والمقاهي والدكاكين.

قال كامل عبد الرحيم: أثبت قادتنا العسكريين أنهم برعوا في كل شيء إلا العسكرية!

قال عبد المنعم فرغلي: أعلن الرجل تنحيه، فطالب الشعب بعودته!

قال كامل عبد الرحيم: كان عليه أن يعالج خطأه، فإن لم يستطع يواجه المحاكمة!

أضاف بلهجة من يريد أن ينهي المناقشة: لم يكن دور طاولة فقده، فطلب إيقاف اللعب!

قلت: ما يحيرني أن الطريق من السويس إلى القاهرة — باعتراف عبد الناصر — كان سالكًا، لكنهم اكتفوا بالوقوف على البر الشرقي.

قال عبد المنعم فرغلي: عندها سيواجهون ما لا يتصورونه في بحر البشر!

قال كامل عبد الرحيم: أظن أنه آن الأوان لكي نعترف أن حربنا مع أمريكا وليس مع إسرائيل.

– ماذا تقصد؟

أقصد أن نلمها، فلا قدرة لنا على المواجهة!

قلت لهاني: لماذا تتظاهرون الآن، بعد أن طالبتموه بالعدول عن التنحي؟

قال: لم يكن ذلك — كما تعرف حضرتك — لسواد عين عبد الناصر. كان البديل ضياع البلد!

لم تعُد تسأل: أين كنت؟ تعرف أين كان، وماذا يفعل.

كنت قلقًا من تصرفاته، لكنك كتمت الإشفاق، وربما الغضب، في داخلك، وتركت القرار له، هو الذي يتخذه، حتى لو تحملت النتائج بمفردك.

قلت: هذه مظاهرات الطلبة، وما أعرفه أنك تخرجت هذا العام.

أشارك فيما حدث بصفتي مواطنًا!

ضغطت على الريموت كونترول.

فيلم ما بعد الثانية صباحًا في القناة الثانية. شاهدته في سينما بلازا، ربما قبل أن تدخل الجامعة. لم يعلن أبوك استياءه، وإن عكست ملامحه ضيقًا واضحًا. ثاني يوم، تحدث أبوك عن الظروف القاسية. أصبحت مسئولًا عن تأمين معيشتك واحتياجاتك، وما تحتاجه الأسرة. تذاكر اللغات، وتعطي فيها دروسًا. تُعِد للمستقبل بالتحصيل العلمي والمادي.

لو أن أباك لحق التليفزيون، ولحق القنوات الفضائية، والريكوردر كاسيت، وتكاثر الإذاعات، واتساع مساحتها الزمنية بامتداد ساعات اليوم …

أنكرت — في البداية — أنك مَن يتحدث إلى الرجل في التليفون: النمرة غلط!

قال الصوت المنفعل: اسم الشاب مسعد رفعت القباني. هو ابنك أو قريب لك.

أردف بسرعة: إذا كنتما على خصام انسَ الأمر مؤقتًا، لأنه يموت.

صرخت: ماذا؟

– أكلمك من قسم الاستقبال بالمستشفى الأميري.

استعدت حادثة لم يمضِ عليها أربعة أعوام.

– ماذا حدث؟

– عند قدومك اسأل الطبيب.

اكتفيت بالوقوف أمام الباب الداخلي. صعدت إيناس السلم المفضي إلى داخل العنابر. كنت تعيب عليها ما لا تقوى على مواجهته: الألم ومشاهد العمليات الجراحية والدماء والموت. أحزنك ما روته. الرأس الذي شجته آلة حادة. عصًا غليظة، أو بلطة، أو ساطور. سألت وأجابت. سألت وأجابت. قالت في إشفاق: هذا كل شيء.

زغردت الخادمة دهب لولادته في كيس. دليل السعد.

قالت رئيفة وهي تحتضنه: سأسميه مسعد.

قلبت شفتي: اسم بلدي … لكنه ابنك. اختاري له الاسم الذي تفضلينه.

قلت لإيناس: أين زوجته؟

اتصلوا بها.

وهزت رأسها: أظن أن جيهان لن تأتي … فهما مطلقان.

قالت لك جيهان: هل يمكن لمن تكره رجلًا أن تنجب منه؟

غالبت الحرج: العلاقة الجسدية لا شأن لها بالحب والكراهية.

قلت في كلمات متباطئة: ربما تحمل المرأة من اغتصاب.

واجهتك بنظرة حزينة: إذن ابنتي من مسعد وليدة اغتصاب.

وعلا صوتها بالانفعال: لا أتصور كيف عاشرته ثلاث سنوات!

لم يُتِح لك مسعد إظهار أبوتك. ما حدث كان دافعًا لأن تصمت على ما حدث، لا ترويه، لا تخبر حتى القريبين أن «مسعد» مات.

سألك وكيل نيابة باب شرقي: هل تتهم أحدًا بقتله؟

قلت: لا.

كنت على ثقة أنه قُتِل، لكنك كتمت على الخبر ماجورًا. خشيت الفضيحة، وأسقطت الموضوع كله.

اكتفيت بصمت الذهول لقول الطبيب إن تشريح الجسد — كان لا بد من تشريحه! — أظهر تهيؤه للموت، حتى من قبل أن يحدث ما حدث. الأحشاء دمرتها المخدرات والمكيفات والمغيبات، وما يتصل بها من مسميات غريبة، ثقوب الحقن لم تترك موضعًا، حتى الترقوة.

قلت لإيناس: مهما يكن، هو أخوك وابني.

– صحيح … لكنه هو الذي آذى نفسه.

– لسنا في وقت المحاسبة … ادعي له بالرحمة.

– يعلم الله يا بابا.

لو لم تكن رئيفة قد ماتت، ماذا كان وقع وفاة مسعد عليها؟

تهمس لنفسك بالسؤال، لكن إيناس تقول في صوت مثقل بالحزن: كانت تحبه جدًا.

قلت وأنت تنظر إلى المدى: كانت تحب الجميع.

وأردفت في معاناة للتأثر: أنا في حاجة إلى أمك لأكلمها.

وأشحت بوجهك فلا ترى الدمع في عينيك: أفتقد رئيفة!

يقفز إلى ذاكرتك، فتكتم البوح. لم تعُد تذكر سيرته. ادَّعيت لحاقه بهاني. قالت جيهان ردًّا على ملاحظتك: أبلغت الناس بموته من قبل أن يموت. حرصت أن تدفن معه ما لا ينبغي أن يعرفه أحد. سيرته بدأت بمولده، وانتهت بغيابه لا بموته.

تترامى من مسجد القائد إبراهيم تسابيح ما قبل أذان الفجر. تطل عليه من نافذة الترام، أو من السيارة قبل أن تستغني عنها. أبو العباس … صورة الجامع في ذاكرتك. الدرجات الرخامية، والقبة ذات الزجاج الملون، المعشق، والمنبر الخشبي، والأعمدة الرخامية الهائلة، وتيجان البرونز، والمقرنصات، والزخارف في الأبواب والنوافذ والأسقف، والعقود المحملة بالجفوت والصنج والخناصر، والحافات المزينة بآيات القرآن، والمقام بالقرب من الباب الملكي. المذاكرة في الصحن الواسع ذي الأصداء الروحية. الجلوس في نصف الدائرة حول دروس الإمام. طواف النسوة حول الضريح، يلمسنه، فتنتقل البركة إلى الأيدي، يمسحنه بالمناديل والثياب، يمسحن على رءوسهن ورءوس الأطفال. تآلف الهمسات والأدعية والنداءات والبكاء والزغاريد.

انقطعت زيارات بدر العدوي ومكالماته التليفونية، لا يتردد على القهوة التجارية، ولا يعرف أصدقائي ممن يترددون عليها إلا من أحاديثي عنهم.

مضيت من الباب الحديدي الضخم لشركة النقل والهندسة إلى باب الاستعلامات، يسار الساحة الواسعة المزدحمة بالعمال ذوي الأفرولات الزرقاء والموظفين.

قلب موظف الأمن في الأوراق أمامه. رفع رأسه، وشرد بمحاولة التذكر. قال: المهندس بدر العدوي متغيب عن الشركة منذ سنوات.

عدت إلى أبو العباس. ظلال الغروب كست الجدران، والتف الميدان بظلمة شاحبة. أيقنت أنك ستلتقي ببدر العدوي.

لحقك — وأنت تحدق في وجوه المصلين وهم يهبطون الدرجات — شاب يرتدي عباءة بنية فضفاضة. تُناقِض صِغَر رأسه واتساع فكيه، فبدا وجهه كثمرة الكمثرى. حاجباه كثيفان متصلان في نصف دائرتين. عيناه سوداوان عميقتا النظرة. فيما عدا الجبهة والعينين والأنف، فقد اختفي وجهه وراء لحية كثة. له ابتسامة حيية.

– الأستاذ رفعت القباني؟

– أنا هو؟

– تبحث عن الأخ بدر العدوي؟

أومأت بالموافقة.

قال في صوت هامس: يبدو أنكما لم تلتقيا منذ فترة بعيدة.

استطرد دون أن يجاوز همسه: عرف أنهم يبحثون عنه بتهمة سياسية، فسافر إلى الخارج.

واتجه إلى نظرتك المتسائلة: كنتما تترددان على الجامع …

وهبط الشاب — دون أن يلتفت — درجات السلالم الرخامية المفضية إلى الميدان.

داهمك — في اللحظة التالية — جَيَشان عاطفي، لم تستطع السيطرة عليه. عانيت إحساسًا بالفقد والألم، انقباضة لم تدرِ بواعثها. كأن شيئًا ما انكسر في داخلك، يدًا خفية التفت حول عنقك، تحاول خنقك.

لماذا لم يحدثك العدوي عن اعتزامه السفر؟ هل لأن لقاءاتكما تباعدت، فضاقت فرصة المصارحة؟ أو لأنه قصر ثقته على مَن لا تعرفهم، وهذا الشاب أحدهم؟

يخايلك السؤال. تختلط الأجوبة، تتشابك. تنفض رأسك من صعوبة العثور على إجابة محددة، مقنعة.

لم تصدق إدانة بدر العدوي في نشاط ما، لم تتصوره.

قال: العمل لله لا يحتاج إلا إلى التمسك بالقرآن والسنة.

وداخل صوته انفعال: هذه هي الشرعية الوحيدة التي أومن بها.

– أنت إذن ترفض النظام القائم.

– ليس في الأمر رفض، إنما أعبر عن قناعتي!

وربت صدره بيده: أنا مواطن متدين، لي رأي في قضايا الوطن.

وارتفعت نبرات صوته: ما دامت الدولة تعلن تمسكها بالدين وشعائره، فلا بأس من قبول العيش في ظل السلطان!

ثم وهو يحاول لم انفعاله: بل إني لست ضد النظام حتى لو أغفل مبادئ الدين، وإن كنت لا أستطيع أن أتهم مسلمًا بالتطرُّف لمجرد أنه أقبل على تنفيذ تعاليم الدين كما جاءت في القرآن والسنة.

ونزع نظارته، وجرى على عينه بظهر إصبعه: ليس من الدين أن نفتش في قلوب الناس!

قلت: ترفض العنف إذن؟

أعاد النظارة إلى موضعها: أرفضه، لكنني — في الوقت نفسه — ضد أسبابه. لماذا لا يحصل كل امرئ على حقه في إبداء رأيه؟ لماذا الإلحاح على مصادرة الرأي المعارض؟

وأنت تضحك: هذه سياسة.

السياسة جزء من الإسلام. أنا حين أقدم نفسي كمسلم، فإني أقدمها باعتباري سياسيًّا كذلك!

ثم وهو يشرد بنظراته: لا قيمة لوازع ديني يهمل حرية الرأي.

أردت أن تحدثه عن رئيفة، وهجرة هاني، وضياع مسعد، وذواء الصداقات، ومعاناة الوحدة والعزلة وأوقات الملل. وأن تطل به على أفق الخطر في حياة إيناس. تشابكت الخيوط، واختلطت. تراكمت الاستدعاءات، واجتذبتك رؤى ضبابية وغائمة.

كان على اقتناع بأن مكيفات الهواء هي المجال الذي يعرفه. يعرف كيفية تشغيلها، وصيانتها، وإصلاحها. القراءة في الدين اجتهاد مطلوب. هو مسلم، وعليه أن يتعلم أصول الدين. للدين جانبه الاجتماعي. أما السياسة فهي علم، لا صلة له بالشطارة أو الفهلوة. للسياسة ناسها.

يضغط على الكلمات: وإن كنت أرى أن الإسلام هو المستقبل إذا شئنا مستقبلًا حقيقيًّا!

اغتيال السادات أحدث ما يشبه النوَّة.

تحدث عبد المنعم فرغلي عن المارد الذي أطلقه السادات من قمقمه. كان قتل المارد له أول ما فعل. أراد بإخراج الجماعات الدينية من المعتقلات، أن يجعلهم ميليشيات ضد خصومه، أداة يسلطها ضد قوى المعارضة. أعلنوا تكفير المجتمع، دعوا إلى الحاكمية، وإلى التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية. اقتصروا على الدعوة إلى الحجاب، وبقاء المرأة في البيت، وإطالة اللحي، والجلباب القصير للرجال، وبناء المساجد، واستخدام مكبرات الصوت في رفع الأذان. لم يستفزهم قمع السلطة، ولا تزييف الانتخابات، أو إلقاء الوطنيين في السجون بقوانين استثنائية مزيفة. أوقف السادات مباركته لما أدرك أنهم تجاوزوا الحدود التي رسمها لهم. صاروا أعنف الخصوم. انتهى بهم الأمر إلى قتله. لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، كان ضغطة زر الانقلاب على الرجل. أخرج المارد من القمقم. وعندما حاول أن يعيده إلى الداخل كان أول ما ناله بأذاه: تغذوا به قبل أن يتعشى بهم.

استطرد في نبرة ملونة: هكذا تصوروا!

قال حنفي جامع: الحكومة هي خصم هذه الجماعات … لماذا لم يتجهوا إليها بعملياتهم؟!

أضاف لنظرة الدهشة في عينَي أنور عيسى: لا أوافق على قتل السادات. لكن أذى الإرهاب اقتصر على الناس الغلابة.

لو أن بدر العدوي عاد من حيث هو، فسيعرف أبو العباس من مآذنه وحدها. غابت ملامح الميدان في المبنى المتداخل، المتعدد الأبواب والنوافذ، ابتلع الميدان والواجهة الجانبية للجامع. لن يهبط الدرجات الرخامية بمألوف هدوئه. أغلقت الأبواب. لم يعد إلا باب الواجهة يشغي بالزائرين. تبدو بلا معنًى ملاحظته، عن الجوامع التي لا تفتح أبوابها.

تدخل الحجرة المطلة على شارع الإبياري. تستخدمها للنوم، وللقراءة. ظلت تسميتها حجرة إيناس. حتى المرأة التي تنظف الشقة مرة كل أسبوع، تتحدث عن حجرة إيناس. الأرضية من ألواح الخشب. فوقها فروة خروف فرشت كسجادة. في المنتصف طاولة خشبية، مستطيلة، مطعمة بالصدف، فوقها فازة من الكريستال، تعالت منها زهور بلاستيكية. الجدران مغطاة بصور فنانين ولوحات ملونة منزوعة من المجلات.

يترامى صوت اصطدام الأمواج بالصخور. كلوبات البلانسات تبين عن مواقع تناثرها في المينا الشرقية. الهواء يحرك أطراف المظلات فوق الكازينوهات والمطاعم الممتدة على طريق الكورنيش. وثمة أضواء متباعدة في النوافذ والشرفات والمقاهي المفتوحة.

تفتح درج الكومودينو. تتأمل حبتَي الدواء على راحة يدك. تعيدهما إلى العلبة الكرتونية الصغيرة. لا تذكر تمامًا متى ترددت على الصيدليات لشراء الأقراص المنومة والمهدئات وأدوية الأرق والاكتئاب. اخترت درج الكومودينو العلوي موضعًا لها. لم تَعُد تتعاطى الأقراص المنومة منذ اليوم الرابع لما أشار به الطبيب. لم تتصور أنك ستلجأ إليها — وحدها — فيما بقي من العمر.

الأرق!

هل الشيخوخة تعني الحياة في الأرق حتى الموت؟!

تلتفت — بعفوية — أعلى السرير: نقش لراقصتين في وضع متماثل. كسيت الجدران بورق، رسمت عليه أزهار صغيرة، متداخلة الألوان. وثمة صور فوتوغرافية، وجوه، ومناسبات زفاف، ولوحات تآكلت حوافها، أو شحبت ألوانها، بمرور الوقت. تمثال لبوذا من الألابستر على طاولة في زاوية المكان. وفي الزاوية المقابلة جهاز تليفزيون. قبالة السرير مقعدان صغيران، تتوسطهما طاولة مستديرة سوداء، مزينة بنقوش ورسوم صينية. على أرفف المكتبة الخشبية الصغيرة تماثيل لحيوانات: كلاب وأسود وغزلان وفيلة وزرافات.

بدت المرأة في حياتك كالمصادفة اليتيمة. تذكر كيف نشأت العلاقة بينك وبين منى عبد الباسط، لكنك لا تذكر كيف تطورت حتى واجهت اللحظات القاسية.

قدمها إليك حنفي جامع في القهوة التجارية: منى عبد الباسط … باحثة ماجستير تحتاج مساعدتك في ترجمة مراجع بالإنجليزية.

في حوالي الثامنة والعشرين. اجتذبتك عيناها الباسمتان. العصابة الحمراء حول رأسها فرقت بين شعر رأسها الشديد السواد وبياض بشرتها. ذات جبهة عالية — حاولت مداراتها بإسدال خصلة من الشعر عليها — وعينين واسعتين مكحولتين، وأنف دقيق، وشفتين مكتنزتين. ترتدي فستانًا أزرق، قصير الكمين، مفتوح الصدر. في وجنتيها غمازتان تبتسمان مع ابتسامتها الدائمة. تناثر النمش على وجهها ورقبتها. خمنت أنه يتناثر بالكيفية نفسها وراء ثوبها. تضع قدميها في حذاء مكشوف، أطلت منه أصابع طليت أظافرها بالمانيكير.

تكررت لقاءاتكما عقب اتصالات تليفونية. تعرض عليك ما تطلب ترجمته. تأخذه، وتعيده مترجمًا. تتناقشان. يمتد النقاش. يشرق ويغرب. علا إيقاع الإيماءات والكلمات الداعية.

بدت الورقة المطوية ظاهرة داخل الكتاب. فتحت الكتاب على موضعها، وفضتها:

أطفئ لظى القلب بشهد الرضاب
فإنما الأيام مثل السحاب

أبيات عمر الخيام انفراجة الباب. أدركت أنها تبثك ما في قلبها، ورنوت إلى اتساع أفق علاقتكما.

تبينت سخف حكاياتك عن رئيفة، فأهملتها.

عانيت التردد قبل أن تصحبها إلى فندق وندسور. سبقتها من شارع الشهداء الجانبي. أعددت لكل شيء، فلا ينكشف المستور. حتى الستائر المسدلة على النافذة العريضة ظلت في موضعها. حتى الجرسون حرصت على مواربة باب الحجرة، لا تتيح له الدخول. تتسلم الطلبات بيدك.

مددت أطراف أصابعك، تحاول الملامسة. اصطدمت باللاجدوى وغياب الإحساس.

همست من بين أنفاس لاهثة: يبدو أني متعب.

توقعت سؤال الطبيب، وإن لم تعُد إجابة محددة. لكن التوقُّع زال بمغادرة العيادة.

– هل أُجرِيَت لك عمليات جراحية؟

قلت: إزالة ظفر مغروس في إصبع القدم.

– هل كانت لك تجارب جنسية فاشلة؟

– لا أذكر!

– هل تُسرِف في تعاطي المكيفات أو الخمر؟

– لا أعرفها!

ربما السبب نفسي … اكتئاب أو ضغط عصبي أو خوف من الفشل.

– لا أشعر بكل هذا.

ضعف الانتصاب قد يعود إلى أدوية الجهاز الهضمي والكبد والسكر وضغط الدم.

قلت: أتعاطى دواء لضغط الدم.

قال في نبرة الاكتشاف: لعل هذا هو السبب.

وجرى على دفتر الروشتات بالإنجليزية: هذه فيتامينات للتقوية.

قاومت التردد: هل تتصل المشكلة بتقدم العمر؟

للعمر تأثيراته، وإن كان مِن زبائني مَن امتلك القدرة الجنسية حتى التسعين.

ثم في نبرة حاسمة: لا مشكلة جنسية بلا حل!

أدركت المرأة في لقائكما التالي ما تعانيه.

ابتسمت، فتوضحت الغمازتان في وجهها.

ذوى كل ما كنت أعددته لتقوله لها. تلاشي، كأنه لم يكن. غالبت الحرج في كلماتك وتصرفاتك. تعمدت أن تكتم الإيماءات والتلميحات. اقتصرت أحاديثكما على الرسالة الجامعية، لا تجاوزها. ما يلزم ترجمته، وما ينبغي إهماله. لم تعرف مدى العلاقة بين المرأة وحنفي جامع، وما إذا كانت تتيح أن تروي له ما حدث.

حدثت حنفي جامع عن الصديق الذي يعاني. لم يسأل عنه، ولا عن ظروفه، وإن قال في لهجة تتسم بالبرود: عندما تكون شابًّا، تهتم الفتاة بقلبك.

ولون صوته: إذا كبرت فإن ما يهمها هو جيبك!

وومضت عيناه بما لم تتبينه: فارق السن يفرض فرقًا في الثمن! المقابل العاطفي الذي تحصل عليه وأنت شاب يتضاعف ثمنه كلما اتسعت مسافة العمر!

تفتح الكتاب على الصفحة التي طويته عليها. تبتسم لاستعادة نصيحة بدر العدوي: ألبرتو مورافيا … ألا يتعب قلبك؟!

يحيرك التفاتك نحو المرأة — أو الفتاة — التي تجد فيها ما يجتذبك: الشعر المنسدل، أو العينان الواسعتان، أو البشرة الناعمة. لا يرافق التصرف ما ألفته من اقتران النظرة المتأملة بالرغبة. تتجاوز اللحظة — في مخيلتك — إلى آفاق حافلة بالتكوينات والألوان والظلال. يغيب الدافع. تنظر إلى ما ترى أنه كذلك. لا حواشي، ولا هوامش، ولا نتائج تمثل اللحظة سببًا لها. تفكر في الشهوة. تجوس الأحراش والغابات. تصيخ السمع للأنات المكتومة وزئير الحيوان وقرع الطبول. تعاني شبق التطلع إلى الخلاص. لكن الشهوة تظل في اللحظة، لا تجاوزها. هي شهوة نظرية، تقتصر على التوقع والتمني والخيال.

عوامل متضافرة، تدفع بالجرأة في القول والتصرف. تقلصت تلك العوامل، وغابت تمامًا، فغابت الجرأة. يسبق الارتباك حديثك إلى المرأة، أو يرافقه. تبحث عن الكلمات المناسبة، وتخشى الزلل.

لم يَعُد يشغلك فيما بعد أو أنه تلاشي، ذلك الإحساس بالانجذاب، بالنزوع إلى الرؤى والتخيلات وإشباع الرغبات. ما يشبه السكينة المتبلدة استقرت في أعماقك، لا تدري لها سببًا، ولا تقوى على مغالبتها، أو التخلص منها.

واتتك جرأة وأنت تقود السيارة، وبدر العدوي يحدق أمامه في ضبابية الطريق: نحن أكثر من صديقَين، مع أننا نختلف في الكثير.

– ربما … لكننا نتفق في الثوابت.

وعدَّ على أصابعه: لا نؤذي، ونحسن التصرف، ونرفض التفاهة.

ونزع نظارته. رفعها ليتأكد من صفائها، ثم أعادها: تكفير الناس لا يكون بشبهات ظنية!

لم يشر إلى ما يحرص عليه: أداء الفرائض كما تقضي تعاليم الدين. الصلاة يؤديها في أقرب مسجد، وأبو العباس يجتذبه لصلاة الجمعة.

كان بدر العدوي يصلي، ولا تصلي. يستأذن للصلاة، ولا يسأل إن كنت سبقته أم تصلي معه. لم يعُد يشير إلى إهمالك الصلاة في أحاديثه معك، ولا يُبدي ملاحظة عن إهمالك رجل ما، ولا يبذل نصائحه التي اعتدت سماعها فيما يتصل بأداء الفروض. ربما اكتفي بدور الصديق الذي يقبل الصداقة على علاتها.

تجتذبك الرواية، فتغيب الدوامة في أعماق لا تراها. أنا وهو. الراوي الذي يخوض حوارًا مع عضوه التناسلي. التصعيد والتسفيل. التسامي والرغبة الحسية. المواقف الغريبة والمدهشة.

تلقي الكتاب على الكومودينو، وتمضي إلى السرير.

تطفئ النور، وتندس في الفراش.

تضيء النور.

يبدو الشخص الواقف بجوار الباب جلبابًا معلقًا على الشماعة. تلوح منك التفاتة إلى صورة الزفاف. بقع داكنة — لعلها بتأثير الزمن — ظللت الخلفية البيضاء التي تفصل بين الصورة والإطار المذهب. الطربوش، والبذلة الشاركسكين الكحلي ذات الياقات العريضة، وثنية البنطلون، موضة أعوام الحرب العالمية الثانية، والبابيون أعلى القميص الأبيض، والحذاء باللونين الأبيض والأسود. بدت رئيفة في فستان الزفاف والطرحة أميرة من عالم سحري.

أي معنًى لما حدث؟ أي معنًى لما تتوقع حدوثه؟

ترمق النجوم القليلة في السماء. الأمواج — في الظلمة المتكاثفة — لا يبددها الضوء الشاحب لأعمدة النور العالية، في انحناءة الكورنيش إلى قلعة قايتباي. يتصاعد منها هدير توالي المد والجزر، وأمواج متباطئة ترتطم بالمكعبات الأسمنتية، ويصل رذاذها بالكاد إلى مستوى الكورنيش الحجري. وثمة نسائم خفيفة تداعب ستارة النافذة، وتحمل — من ناحية البحر — رائحة الخريف المنعشة، مختلطة بروائح اليود والملح والطحالب والأعشاب.

ترفع — بالضيق — سماعة التليفون. غياب الحرارة يفاجئك بما لم تكن تتوقعه. تنقر الجهاز في توالٍ. تواصل السكون يدفع إلى داخلك بالقلق أو الاستياء أو الخوف.

الخوف؟

تخاف التردد على الأماكن المزدحمة، وتخاف الأماكن المرتفعة، والضيقة، والمغلقة، وتخاف الوحدة في البيت. أحيانًا تعاني مخاوف غامضة.

نصحك الطبيب بضرورة مواجهة ما يثير القلق أو الخوف. ربما تسيطر الحالة فلا تملك الفرار منها. تغمض عينك، لتتذكر الأعراض: فقدان التركيز، التردد على الحمام — في أثناء الليل — مرات كثيرة، للتبول، لاستعادة النوم بالتخفُّف من ضغط المثانة، الإحساس بالاختناق، وبالعرق يتفصد من وجهك.

قال الطبيب: نصيحتي أن تبدأ من النهاية؟

– كيف؟

– تصور أقسى نهاية … أليست الموت؟ … الموت هو نهايتنا جميعًا، فلماذا نخشاه؟

وخالط صوته نبرة محذرة: لكن الموت ليس هو أقسى ما تتصوره في حالتك.

لم تَعُد تركب سيارتك، ولا الترام، أو الأوتوبيس، إلا للمشاوير البعيدة. تحرص على نصيحة الطبيب، فتمشَّى. ربما سرت بلا هدف. تحاول — حسب النصيحة — تحريك الذراعَين والقدمَين، إنقاصَ الوزن، تحاول تنشيط الدورة الدموية. تحذر الكوليسترول والبقوليات والشحم والزيت، هي جسر الأمراض إلى آخر العمر.

عندما يحس النسر بأنه مرض، أو تقدَّم به العمر، يحلق على ارتفاع شاهق. يهوي كالقذيفة. يرتطم بالصخر، ويُنهي حياته.

ترفض أن يكون ذلك إحساسك. يفاجئك الجسد بما لم تكن تتوقعه. يحل التعب دون سبب. تبطئ القدمان عن الحركة كما تريد. تهمل حتى النظرات المشفقة. ترفض الانتظار، الموت حيًّا. تترجم ما يروق لك. لا تستأذن، ولا يعنيك إن نشر أو أودعته الأدراج.

قلت وأنت تعيد دس خطاب الإحالة إلى المعاش في جيبك: هل أضعه في برواز مثل شهادة التخرج؟

قال حنفي جامع في لهجة مُهونة: أنت لم تعُد مُلزَمًا بالخروج في مواعيد محددة.

فكرت في أن تعود إلى النوم. تصحو في موعد تحدده، ولا يحدده لك العمل. تهمل التوقع والاستعجال والتهيُّؤ. السادسة صباحًا استيقاظك، بصوت المنبه، أو بالإحساس البيولوجي. تستحم. تتناول إفطارك. تطالع الصحف. ترتدي ثيابك. تقف أمام باب المصعد في السابعة والنصف تمامًا. تعطي عشر دقائق زمنًا للوصول إلى سراي الحقانية. حرصت على الموعد في يوم المعاش الأول. شغلك أن تظل مواعيد العمل منتظمة، تخرج وتعود فيها. لم تتصور أن يلاحظ البعض أنك بلا عمل.

أهملت السيارة، وانطلقت في شوارع الإسكندرية، تتأمل المارَّة وواجهات الدكاكين والمقاهي وباعة الصحف والكناسين وإعلانات الأفلام.

المدينة في لحظات التثاؤب. أغرتك شمس نوفمبر الدافئة بالسير. تحب الخريف في الإسكندرية. لذعة البرد المنعشة. ملت من شارع إلى شارع. تلويحة أنور عيسى من داخل التريانون شغلت الوقت إلى الضحى. تحدثتما فيما لا تذكره، وإن لم يُشِر، ولا تحدثتَ أنت، عن رحلة المعاش التي تبدأ خطوتها الأولى.

وجدت في المقهى الصغير — خلف شارع سعد زغلول — اكتشافًا لا بأس به. تطالع الصحف، وتسجل الملاحظات في النوتة الصغيرة، وتتطلع إلى حركة الطريق، وتتأمل. أبعدك اختلاط النظرات المتسائلة — وربما المتوجسة — وإلحاح الباعة وماسحي الأحذية والنداءات وصيحات لاعبي الكوتشينة والتليفزيون المفتوح على آخره. عدت إلى البيت مرهقًا.

عاودت السير في اليوم التالي — دون مقصد معين — حتى القهوة التجارية. التقيت بأصدقاء قدامى، ومَن تعرفت إليهم للمرة الأولى.

بدا الاختلاء بالنفس أمنية مستحيلة. عانيت مشكلة قضاء ساعات العمل. لم تعد بك رغبة في التمشي أو السير بلا هدف. الأماكن قليلة، الملل أفقها القريب. تذكر حفلة العاشرة صباحًا في سينما الكونكورديا أو الهمبرا. مسافة السير على الكورنيش تضمن وصولك إلى البيت في موعد نهاية اليوم المدرسي.

لماذا لا تعمل — بالفعل — في داخل البيت؟

قال كامل عبد الرحيم: الزوجة رحلت والولد تزوج … أكتفي بالتحدث مع جدران الشقة.

قال حنفي جامع: أن تكلم الجدران أفضل من أن تسلي وقتك بالشخط والنطر في زوجتك وأبناتك.

وربت صدره: هذا ما يفعله أخوك.

وتنهد: المعاش رحلة قاسية!

قال أنور عيسى: لم أكن موظفًا باختياري … للتجارة عائدها المادي الأفضل.

ورفع فنجان القهوة. تأمل الثمالة المتبقية في القاع. ثم دفع به إلى فمه: القدرة على العطاء لا شأن لها بالعمر.

ومسح المكان بنظرة سريعة: الشبان يملئون المقاهي.

تكلم عبد المنعم فرغلي — من خلال ضحكات متقطعة — شكوى زوجته من توالي الملاحظات، ونصيحتها له أن يخرج لشم الهواء، أو الجلوس على المقهى. يشغله ما يراه، فتتكرر أسئلته وملاحظاته. يسأل عن أنواع الطعام، وما يحتاجه البيت. يُبدي استياءه مما يعتبره إهمالًا. حتى جرس الباب يعقبه سؤاله المُلِح: مَن؟

وعلت ضحكته: وجدت جلستكم أرحم من أن أعاني مشكلة أسرية.

قال أنور عيسى: علاقتي بزوجتي سمن على عسل، لولا سيستوفاريس الذي يبتزني لحسابها.

تساءل حنفي جامع: محل الفراء بشارع النبي دانيال؟

– أدفع له مبلغًا وقدره كل شهر ليحتفظ بفرائها.

وهز رأسه في تصعب: المشكلة أنها قد لا ترتديه العام كله!

قال كامل عبد الرحيم: شتاء مصر ثلاثة أشهر … والصعب ثلاثة أيام!

قال بدر العدوي: تحيا الآن على معاش طيب. من حقك أن تستريح.

قلت: أرفض مبدأ الانتظار. أن آكل وأنام وأصحو وأنتظر الموت. حياة رتيبة يصعب تصوُّرها!

ضغط على نظارته: على الإنسان في مرحلة ما من عمره أن يستريح.

– بالعكس … حتى السن المتقدمة يمكن أن يؤدي فيها الإنسان عملًا ما.

وهو يحتضنك بنظرة مشفقة: للشيخوخة أحكامها.

تتسلل إلى داخلك نظرات الإشفاق من التقدم في السن والمرض والعزلة والوحدة. تختلط، وتتشابك، فلا تستقر على معنًى محدد. تكتفي بمشاعر الضيق والتوجس من شيء لا تدرك كُنهَه. يرهقك انعكاس ما تقرأه على تفكيرك، وتصرفاتك، والنظرات المحدقة. لا تراها، لكنك تشعر بها، تُعرِّيك، تفضحك.

تتصور نفسك ذلك الولد الصغير. تتقمصه، تتصرف كأنه أنت. تلغي مسافة الأعوام الستين — لعلها أكثر — التي تفصلك عن أعوام الصبا. تضيق بتباطؤ حركة الجسد، بالآلام التي ترافق الحركة، مهما كانت ضعيفة. تتمنى لو جريت، قفزت، تنحني — دون معاناة — لتلتقط من الأرض ما تريده.

قلت لإيناس: أعددت الشاي لك ولزوجك.

دفعت بيديها الفراغ كأنها تدافع عن نفسها: ولك يا بابا.

وأشارت إلى كوب الشاي على الترابيزة المستديرة بجانبك.

ثم وهي ترسم الإشفاق على ملامحها: تنسى!

هممت بأن تقول إنها وضعت الكوب إلى جانبك. لم تشر — ولو بإيماءة إلى موضعه. لا صلة للتذكر بأي شيء. أعددت ردك على ملاحظتها بما لا يضايقها. أزمعت الهدوء، والكلمات التي تهمل الغضب. ثم فضلت الصمت.

تستفزك عبارات التذكير بالعمر: يا حاج … يا بركة … ربنا يطول لنا في عمرك … ربنا يديلك الصحة … ربنا يخليك لينا … تُلِح عليك العبارات، تجسد ما تحاول نسيانه، أو نسيته.

لا ترى النظرات المحدقة، والمتسائلة، لكنك تشعر بها. بدا كل شيء حولك مما يصعُب فهمه. تلاحظ في نفسك ميلًا إلى العصبية، وإلى العراك. يشغلك الصمت والإنصات وضبط النفس. يظل ما يشغلك في إطار الأمنية، لا يجاوزها.

أعوام طويلة أمضيتها في التعلم، والقراءة، والترجمة، والزواج، واكتساب الصداقات، والبُنُوَّة، والأبوة، والجلوس على المكتب، وفي المقهى، وصلاة الجمعة في أبو العباس، والتطلع إلى البحر، والسير في الشوارع، وتأمل واجهات المحال، والسفر خارج الإسكندرية.

ثم ماذا؟ ما معنى ذلك كله؟ ما معنى أن تنتهي الحياة بالانتظار، ثم بالموت؟ أو بالموت دون أن يتنبه المرء إلى ما حدث؟

قلت لبدر العدوي في نبرة متحدية: وللحياة أحكامها.

وواجهته: هل تمنع شيخوختي أن أنشغل بالترجمة؟

خاب التوقع الذي دفعك إلى القهوة التجارية. الأصدقاء حول طاولتين متجاورتين، تطلان على الطرقة الواصلة بين القهوة التجارية وقهوة النصر. أعدت التأكد ما إذا كانوا نقصوا واحدًا، أو اثنين.

شغلتك الترجمة بالإمكانية والتوقع والتصورات التي لا تحد. بدت عالمًا مكتفيًا لا صلة له بعالم القهوة التجارية، ولا الغرفة، ولا حتى القراءات التي كنت تستعيدها من بدر العدوي.

حين نخزك الألم أوسط الفخذ الأيمن، حدست أنه عارض طارئ لا يلبث أن يزول. تواصل الألم، فجريت عليه بالكريمات المهدئة، والمضادة للروماتيزم. ما اعتدته في آلام العظام أو الأعصاب، يوم أو اثنين، ثم تزول. لكن الألم تواصل، واشتد. بدا تحريك الساق صعبًا، ثم لم تعُد تقوى على السير.

قال طبيب العظام أعلى محل شيكوريل بسعد زغلول وهو يُظهر الاستياء: تأخرت!

همست بلهجة معتذرة: لم أكن أعرف أن الألم سيطول.

هذه عادة المصريين … لا يترددون على الطبيب إلا في حالة اليأس!

– هل هي حالة ميئوس منها؟

لا أقصد المعنى … لكن الأشهر التي نحتاجها في العلاج، كنا نستطيع اختصارها إلى مدة أقل.

– هل يحتاج إلى أشهر؟

تحدث الطبيب عن الأعراض التي قد يعانيها الجسد في أية مرحلة من مراحل العمر. تزيد فيما بين الخمسين والستين. إن لم تكن جاوزتها، فأظن أنك بلغتها. تأمَّل الأشعة التي طلبها، وشخَّص الحالة. ضغط الفقرات القطنية — بتأثير جلسات الترجمة — على الأعصاب. نصح بعدم الجلوس — منحنيًا — فوق الكتب أو الأوراق أو الآلة الكاتبة، وبتمرينات رياضية وعلاج طبيعي، وما لم تكن تعرف أسماءه من الأدوية. كما أرى، فإن المشي هو الرياضة المتاحة، والعلاج الطبيعي يقرره الطبيب المختص. عانيت الإرهاق، والمغص، ودوار الرأس، والخدر في الأطراف، والنخزات كشكات الدبابيس في الصدر والساعدين. دفعتك قسوة العلاج وطول المدة، إلى طبيب ثانٍ، وثالث. أهملت الترجمة والقراءة والتأمل، والحياة نفسها. أسلمت الذهن لتوقعات بأن الحركة من الذكريات التي لا سبيل إلى استعادتها.

تفتح ضلفتَي النافذة، فتستقبل الصالةُ ضوءَ النهار.

تترامى أنفاس البحر: الملح واليود والطحالب والأعشاب. الموج حصيرة. الهدوء الصامت يعمقه صوت موتور في موضع غير مرئي. الأفق مغلف بالضباب. تتابع — في غبشة الصبح — تمازج الضوء والظل في معالم الأشياء. الطيور تنقض بمناقيرها الحادة على الأسماك المتقافزة فوق سطح الماء، تلتقطها، وتعلو. تدور في نصف دائرة. تعود إلى انقضاضها. وقفة السيدة ذات التايير الأزرق على رصيف الكورنيش، تراقب حركة المرور بنظرات حذرة، تنتظر خلو الطريق من السيارات المسرعة، فتعبر إلى الناحية المقابلة.

تنزل السيدة إلى الطريق، تشير بيدها إلى السيارات المندفعة، وتعبر متباطئة.

فاجأك أنور عيسى بالقول: لماذا لا تكتب سيرة حياتك؟

قلت بالذهول: أنا؟

– أظن أنك عشت تجارب مهمة.

– ربما … لكنني أذكر أقلها.

التذكُّر يستدعي ما نسيناه.

تبدو الكتابة فكرة لا بأس بها. ما يَفِد إلى الخاطر تكتبه. القلم الجاف في جيب الجاكتة الداخلي. تستخدمه في التوقيع على الشيكات، والأوراق التي تنهي أعمالًا. بدت الكلمات غير مترابطة، ولا معنى لها. تفتش في الأدراج. ملفات وأوراق نسيت معظمها. ترجمات لأعمال قصصية ومقالات في النقد الأدبي، عن الفرنسية والإنجليزية. برنامج أعددته لترجمة ما يتصل بالأدب. ما أحببت قراءته، بعيدًا عن الاقتصاد الذي تحيا من ترجمته.

يقتحمك الضيق حين تعتذر بانشغالك عن تلبية دعوة: أنت الآن في المعاش … ماذا يشغلك؟

لا ترد، وإن واصلت الحديث إلى نفسك.

تلوك الكلمات في فمك. تتحدث — في نفسك — عن الترجمة. تشغلك تمامًا. تمتص وقتك. لا وقت فراغ تضيعه في حياة اجتماعية. أنا أترجم تقريرًا اقتصاديًّا. أنا أترجم رواية. أنا أترجم قصة قصيرة. أنا أترجم دراسة نقدية. أنا أترجم. أنا أعمل.

الأفق أقرب من مدى البصر. إذا أنهيت بعضه، فلن يسعفك العمر لترجمة معظمه. المساحة المتبقية محدودة. أسوار من الصعب تجاوزها. تبطئ السيارة — في زحام المرور — أمام مقابر المنارة. تقرأ الفاتحة لرئيفة، وتشرد في رؤًى ضبابية وغامضة.

تفكر في أن تهيئ للكتابة بما قرأت أن كتاب السير والتراجم، والمؤلفين عمومًا، يهيئون به أنفسهم. تُعِد كوب الشاي بالحليب، مشروبك الوحيد فلا تشرب سواه.

أسعفتك البديهة بالرد على ملاحظة حنفي جامع: أنت لا تشرب السجاير ولا الخمر ولا المكيفات … كيف تكتب؟

قلت: أكتب لأني لا أتعاطى ذلك كله!

البداية صعبة.

تخفق في التعبير عن أحداث وشخصيات وأفكار ورؤًى. تستعيد الذاكرة ما يبدو كالومضة، لا يصلها قبل ولا بعد، وما يشكل مساحة في المكان والزمان، لعلها أقل أهمية، لكنها تنطبع في الذاكرة بلا سبب محدد: وجه في القطار. التماع عينَي أمك بالدمع لاستياء أبيك من مناداتها عليك: يا حيلة. مباريات كرة القدم في الساحة المجاورة لحلقة السمك. صرختك العفوية لرؤية الرجل — أمام قهوة فاروق — يضع الخرقة المشتعلة بالنار في فمه، ثم ينفثها في الهواء. جياد سراي الملك تطرق الأسفلت — في طريق الكورنيش — بإيقاع منتظم. عبارة التقطتها من التليفزيون. دعوة متسول في الموازيني: قصدت باب الكريم. إمساك أمك بساعِدك وأنتما تخترقان زحام شارع الميدان. انبثاق مئذنة أبو العباس بالنور. الطرقات المتلهفة على باب الشقة وملامح أبيك المتألمة وهو يضع يده على صدره. البوصيري أعلى صحن الجامع. عقاب مُدرِّسة روضة مصر الفتاة بدفعك إلى داخل حجرة الفئران، مخزن مظلم كوم فيه الأثاث القديم. رفْض بدر العدوي المفاجئ لمبادرة السادات. تناهي أهازيج السحر من مئذنة البوصيري تبدد دهشة الرقاد — منفردًا — في الحجرة الخلفية. ارتطام الأمواج بالمصدات الأسمنتية أسفل الكورنيش، اكتشاف اللذة في الاحتكاك بالبطانية. تأمل المحيطين بمقام سيدي كظمان، يتلون الأدعية، ويطلبون النصفة والمدد. سباق الخيل في نادي سبورتنج. احتضان أبيك لك بالخوف وأنتما تشاهدان المظاهرات من نافذة الحقانية، تهتف بسقوط هور بن الطور. عمليات البيع والشراء — أول الصباح — في حلقة السمك، جري الأولاد وهم يشلحون الجلابيب وراء عربة الرش. وقفتك على رصيف باب الجمرك نمرة واحد والبواخر الضخمة تعكس ظلالها على المياه. ترددك على أبو العباس — للمرة الأولى — بصحبة أبيك، تغالب الدهشة والرهبة والخوف. جلستك إلى جانب نافذة الأوتوبيس في الطريق الزراعية، ترافقك أشجار الصفصاف وأعمدة التلغراف والكهرباء والغيطان والبنايات المتناثرة في امتداد الأفق.

تقلِّب في الأدراج والدوسيهات المكوَّمة فوق المكتب. تبحث عن طرف خيط تكر منه الذاكرة، تستعيد ما نسيته. لو أنك سجلت ملاحظات يومية في نوتة صغيرة، ربما أسعفتك بما يتيح توالي الصور الثابتة، والمتحركة.

تمزق الأوراق مرات كثيرة. تملك الوقت والقلم، وتجيد الكتابة. الملفات تخلو من الأوراق البيضاء. لم تتردد على مكتبات صفية زغلول منذ شهر. تحول مقهى البلياردو — قبل أعوام — إلى دكان لبيع الأحذية. تقلب في الأرفف. تسقط فكرة الكتابة على هوامش كتاب قديم. تجتذبك المناديل الورقية فوق المكتب. تعاني تمزقها، وتحول حبر القلم إلى ثقوب صغيرة. تحرص، فلا تضغط. تكتب، وتكتب، وتكتب. ينبثق ما كنت نسيته. تنفذ نصيحة الطبيب بالتمشي — بين فترة قصيرة وأخرى — بالقرب من المكتب. يداخلك — ربما للمرة الأولى — شعور أقرب إلى الراحة، تطمئن إليه بأنك تعبر عن نفسك. تستدعي الأفكار والذكريات والرؤى والخواطر التي لا رابط بينها إلا استعادة ما مضى من أعوام العمر. تتلاحق الصور. تتلاقى، وتتعامد، وتتشابك. تختلط الملامح والسحن والتعبيرات والمشاعر. تعود المواقف والحكايات العجيبة. يعود الأمل والقلق والخوف. تتخفف مما لا تقدر على تبين ملامحه. توشي الألوان والظلال قطع الفسيفساء في مساحة اللوحة.

محمد جبريل – مصر الجديدة ١٥ / ١٢ / ٢٠٠٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤