الباب الثاني

الحب في الميزان

نتحدث كثيرًا عن الحب في حين أننا لا نعرف عنه شيئًا، ولا يشارك المحبَّ شعورَه إلَّا من ذاق مرارة الهوى وحلاوته، وجرَّبَ ويلاته ولذَّاته.

ما الحب إلا شَرَك تنصبه الطبيعة للبشر؛ فلذا يجب على المرء أن يراعيَ جانب الاعتدال في الحب، فإن العاطفة العنيفة لا تدوم، والإسراف في الحب أقرب إلى الحماقة.

ولو نظرنا إلى العالم مَليًّا لألفَيْنا أنه لا شيء يدير عجلة الكون غير الحب؛ لأننا في الواقع نحيا في هذا العالم عندما نحب، ولولا الحب ما عُرف الخالق.

فالحب إذن كلمة جميلة مغرية، محبوبة إلى السمع؛ فهو الذي يمنحنا في الأرض ما نطمح إليه في السماء.

إنه كلمة قصيرة مسلية، وكما يحتاج العقل إلى التجربة، والقرابة إلى المودة، كذلك يحتاج الحب إلى الأدب.

وقد يكون الحب بلسمًا للجِراح.

وقد يكون مصدرًا لأعمق الجراح.

ومع ذلك فالخلاص من الحب إحدى معجزات الكون.

فالحب عظيم .. وقد لا يعظُمه شيء آخر.

وهو تافه .. لا يدانيه شيء في تفاهته.

والحب حياة عند بعض الناس، وهو ممات عند معظم الناس.

والحب دواء قد يُبتلى به المرء، فيئنُّ ويتوجَّع.

وهو دواء قد يتجرَّعه الإنسان فيثمَل ويترنَّح.

والحب إحدى صور الإيمان المقدَّسة.

وقد يكون أحد مظاهر الكفران المدنسة.

والحب قطرة غيث صافية، تنزل بالتربة الطيبة؛ فتُثمر الرحمة والشفقة والبر والإحسان.

الحب طوفان قد يحطِّم كلَّ شيء أمامه.

وهو أيضًا سلام قد يرمِّم كلَّ شيء في طريقه.

ففي الحب لطافة النسيم العليل، وقوة العاصفة الهوجاء.

والحب وردة جميلة، إن تعهَّدتها صغيرة نمت وأينعت وأنجبت السعادة والسلام.

الحب مملكة من السهل أن تَسُوسها لو أوتِيتَ الحكمة والرزانة والروية.

قد يكون الحب نعمة إن راعيت فيه اللين، وقد يكون نقمة لو تعسَّفت فيه.

وهو كالقتال لا يخلو من الكرِّ والفرِّ .. للحبيب فيه أن يتدلَّل، وعلى المحب أن يتذلَّل، وفي ذلك قال عمر بن أبي ربيعة:

ليت هندًا أنجزتْنا ما تَعِدْ
وشفَتْ أنفُسَنا مما نَجِدْ
واستبدَّتْ مرَّةً واحدةً
إنما العاجز مَنْ لا يستبدّْ

بيد أنَّ الحب ليس بمادة، بل هو شعور، فقد توجد مادة ولا يوجد حب .. ولكن لو وُجد الشعور فلا بُدَّ من حب.

والحب شرارة تلمع في القلب فتضيء ظُلْمته. كما أنه قد يهذِّب كثيرًا من أخلاق الشاب، وخاصة إذا كان المحبوب راقيًا مُهذَّبًا.

إنه كالنور كلما زدته ضياءً زادك احترامًا. وقلَّ أن يعيش فتًى لم يملك الحبُّ فؤاده وجوارحه وعواطفه يومًا ما.

فالحب هو اختلاج القلب، ووجوده يبعث الأمل، وزواله يورث الألم.

بيد أن الحبَّ المقيم بالتفكير العميق الكثير، قد يقلب نعيم دنياك جحيمًا لا يطاق.

ولا شكَّ أنه من الخير أن تحبَّ بعقل ورويَّة، ولو أنه من الممتع أحيانًا أن تُحبَّ بجنون.

•••

لا ريب في أن الكلام عن الحب لذيذ كطعم الحب نفسه، بيد أن الكلام عن الحب شيء، والوقوع فيه شيء آخر. ومن ذاقوا الحب يجاهرون بأن ألذَّ أنواعه أكثرُها ألمًا وتبريحًا. قد يكون هذا صحيحًا، وربما يكون العكس هو الصحيح؛ فالحبُّ يبدأ باختيار الإنسان، غير أنه ليس له يد في نهايته. إنه عَلاقة بين سيد وعبد، فالسيد يريد أن يكون عبدًا، والعبد يرغب في أن يُصبح سيدًا.

تتباين آراء الناس وتتعدَّد في الحب، فلكلِّ فردٍ نظرته الخاصة، تكِّيفها بيئته وميوله واستعداده، وتهذِّبها ثقافته وتعليمه ومدى تمسُّكه بدينه. ومهما تعدَّدت آراء الناس واختلفت في الحب، فكلُّها لا تُنكر أهميَّته، وتعترف بالدَّوْر الهام الذي يلعبه في كل قلب، وما أكثر القلوب!

ولكن لِمَ نُعير الحبَّ كلَّ هذا الاهتمام البالغ؟

دعنا الآن نسأل ما هو الحب؟ هل هو قوة؟ وإن كان كذلك، فهل هو قوة أقوى من الحياة والموت، وأعلى من السماء وأعمق من البحر كما يقول البعض؟ أم هل الحب احترام؟ وعندئذٍ فلا سبيل إلى مزجه بالخوف. وهل لنا أن نأخذ برأي فرجيل الشاعر حين يقول:

الحب يقهر كل شيء … إذن فلنرضخ للحب.

يبدو أننا سنُضطرُّ إلى موافقة فرجيل في رأيه، فقد أجمعت الآراء على أن الحب قوة، تتضاءل إزاءها كلُّ قوة.

شبَّه «ماسفيلد» الحب بالنار فقال: «الحب كاللهيب المستعر المتَّقد، يحرق العزيمة .. ولا يتركها إلَّا رمادًا لا حياة فيه.»

غير أن هناك من يرى أن الفيضانات تعجِز عن إطفاء أُوار الحب! «إن المياه الغزيرة لا تستطيع أن تطفئ ظمأ الحب، كما أن الفيضان لا يقدر أن يُغرقه.»

أما «برتون»، فلكي يدلِّل على قوة الحب يقول: «لكي تستطيع فَهْم مدى قوة الحب ووضوح نوره، ضع شمعة تحت ضوء الشمس.»

ويحدِّثنا «بيكنسفيلد» عن الحب وقوته فيقول: «إن كل حياتنا، بما فيها من ضرورات وعادات، لَتتلاشى أمام الحب. إن الطعام والنوم اللذين — في الظاهر — يتقاسمان كِياننا كما يتقاسم الليل والنهار الزمان فيما بينهما، يفقدان تأثيرهما على العاشق الولهان. المحب كائن روحاني يصلح فقط أن يعيش على طعام الآلهة الذي يحفظ المرء شابًّا كلَّ أيام حياته، وأن ينام في فردوس يصوِّره له الخيال. لا تمسُّه هموم الحياة، ولا تكون أكثر حوادثها اضطرابًا وشغبًا في نظره سوى حوادث الأيام المنصرمة، وتكون كل ثروة العالم من غير حبيبة بؤسًا، وفي وجود المعشوقة تصبح جميع مصائب الدهر حُلمًا زائلًا. إن الثَّوْرات والزلازل وانقلاب الحكومات وسقوط الإمبراطوريات ليست في نظر العاشق غير ألعاب صبيانية تشمئزُّ منها نفس الرجل الشهم. إن الرجال لَيعشقون في زمن الطاعون وينسون الوباء وخطره، ولو أنه يفتك بالعباد حولهم؛ لأنهم يعيشون في حياة مسحورة، كلها غبطة وسرور، ولا يفكِّرون في الفناء حتى يمس معبودهم، وحينئذ يموتون دون أن يتجرَّعوا كأس المنون وغمراته، كما يموت المتعصِّبون من أجل دينهم المضطهد.»

ولبيكنسفيلد هذا برهان آخر على قوة الحب فيذكر: «يُؤثِر تهكُّم الناس أكثر مما يُؤثِر تضرُّع الأب، ودمعة الأم قد لا تصادف غير الاستخفاف، أمَّا زفرة الحبيبة فقد أحدثت تغييرًا عظيمًا حتى في أشدِّ الناس عنادًا.»

أمَّا قوة الحب فيعبِّر عنها «مارتن» في قوله الموجز: «الحب .. يا له من مُجلَّد في كلمة! وأوقيانوس في دمعة، وسماء سابعة في نظرة، وعاصفة في زفرة، وألف عام في لحظة.»

وعن الحب يقول ابن حزم الذي عرَف الدنيا وخَبَرَ الناس: «لقد وطئت بساط الخلفاء، وشاهدت محاضر الملوك، فما رأيت هيبة تعدِل هيبةَ محبٍّ لمحبوبه، ورأيت تمكُّن المتغلِّبين على الرؤساء وتحكُّم الوزراء وانبساط مديري الدول، فما رأيت أشدَّ تبجُّحًا ولا أعظمَ سرورًا بما هو فيه مِن محبٍّ أيقنَ أن قلب محبوبه عنده، ووثِق بمَيْله إليه، وصحَّت مودته له. وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتَّهمين بعظيم الذنوب، والمتمرِّدين الطاغين، فما رأيت أذلَّ من موقفِ محبٍّ هيمانَ بين يدَي محبوب غضبان، قد غمره السخط، وغلب عليه الجفاء، ولقد امتحنت الأمرين وكنت في الحال الأول أشدَّ من الحديد، وأنْفَذَ من السيف، لا أجيب إلى الدنيَّة، ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذلُّ من الرِّداء، وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلُّل لو نفع، وأغتنم فرصة الخضوع لو نجع، وأتحلَّل بلساني وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأُفَنِّنُ القول فنونًا، وأتصدَّى لكلِّ ما يُوجب الترضِّي.»

لا جدال إذن في أن الحبَّ كما يقول جبران خليل جبران: «عزم يلازم كِياننا، ويصل حاضرنا بماضي الأجيال ومستقبلها، وأنه قوة تبتدع قلوبنا، وقلوبنا لا تقدر أن تبتدعها.»

ولا سبيل إلى نكران قوة الحب؛ إذ رأينا كيف أنه يشجِّع على إتيان الأعمال العظيمة، ويرقِّي قوة طبيعتنا المبدعة.

لقد نجح قليل من عظماء العالم ونبغوا، ولكنهم لم يعترفوا بالفوائد الجمَّة التي استفادوها في فاتحة حياتهم العملية من روح المرأة وعطفها.

فكم من منصب رسمي في الوزارة لم يكن في المقدور الوصول إليه لولا روح المرأة الواثقة، وحبها القوي.

وكم من محامٍ كاد يقتله اليأس ويُهلِكه الاكتئاب، قد سبَقَ الأمراء في المنصب محمولًا إلى الأمام على نسيم حب الحبيبة المشجِّع، ومسترشدًا بنور ابتسامتها الحُلْوة الدالَّة على النبوة.

إن صديقةً مُحِبَّةً ذكيَّةً مُخلصةً، لَمُقْتَنًى أكثرُ قيمةً من أجمل الحدائق وأعظم القصور.

ومن ثَمَّ فإذا قلنا «الحب» يجب أن يتبادر إلى الذهن معنى «الحب الحقيقي» ومعناه «الحق والقوة والجمال» ذلك هو الحب.

فحبُّنا الحقَّ تقديسٌ لله، وفي غرامنا بالقوة عبادةٌ للخالق، وفي هُيامنا بالجمال تسبيحٌ للرب.

ولعلَّ هذا سبب قول أوسكار وايلد: «في مقدوري أن أقاوم كلَّ شيء إلَّا الحب.»

قلَّما يتسلَّط الحبُّ على الجبان؛ لأن الجبان دائمًا يتردَّد والحب جريء.

ويقول ميخائيل نُعَيمة في هذا الصدد قولَين صريحَين، آية في الروعة والجمال، وغاية في الدقة والإتقان.

أمَّا كلمته الأولى فهي: «الحب سيد مطلق، لا يُطيق فوق سيادته سيادة؛ فهو يقود ولا يُقاد، ويسوق ولا يُساق، ويأمر ولا يأتمِر. ولأنه سيد الزمان والمكان نراه إذا احتلَّ قلبًا ولو لحظة أو لحظات قصيرات جَعَلَه أَفْسحَ من الأرض والسماء، وأعتق من الأزل، وأفتى من الأبد. هو الطريق والدليل. وهو الغاية والواسطة، والبداية والنهاية.»

وهاك كلمته الثانية: «لو جنَّدنا كلَّ ما في الإنسان من ذكاء وعبقرية ودهاء، لَما استطعنا أن نخلُق من القرد غزالًا، أمَّا الحب إذا ما تربَّع في القلب وبثَّ أنفاسه في نياطه وشَغافه، استطاع في أقل من طرفة عين أن يعبث بالناس وتقاليدهم، وبالطبيعة وسَنَنها على هواه؛ فالعليل يَبرَأ، والقبيح يجمُل، والضعيف يقوى، والقَصيُّ يدنو، والخشن ينعم، والقاسي يلين، والمحدود يغدو بغير حدود. وإذا الأبديَّة لمحة واللمحة أبديَّة، وإذا الفضاء بكل ما فيه سرير دافئ وثير. فالزمان والمكان كلاهما عبد طيِّع للحبِّ ومطيَّة ذَلول.»

هذا هو الحب في نظر ميخائيل نعيمة. إنه قوة مطلقة مجرَّدة من كل ضعف .. تسود ولا تُساد .. وتُفني ولا تَفنى .. بل وتجعل الأسود أبيض، والأبيض أسود.

ومع هذا فإن «فاجنر» يذكر الحب مقرونًا بالضعف، ولكن بضعفنا نحن، لا بضعف الحب نفسه، ولذلك يقول: «الحب ضعف فطري، ورثناه عن الإنسان الأوَّل.»

والحب في نظر فريق من الناس نزاع لا بُدَّ فيه من غالب ومغلوب .. إنه حرب .. والحرب قوة وخدعة كما نعرف.

يرى نابليون أن «الانتصار في الحب هو الفرار منه.» ويشاركه «بترارك» في رأيه هذا إذ يقول: «في معركة الحب، الفرار انتصار!»

ولكي يدلِّل «قاسم أمين» على قوة الحب، نراه يشبِّه الحبَّ بالنار فيقول: «أكثر الناس لا يفهمون من الحب إلَّا أنه تمتُّع يشبه أكلةً لذيذة، وإذا حضرت أكلوها هنيئًا، وإذا غابت استعاضوها بغيرها. والحقيقة أنه إحساس عميق يستولي على النفس كلها ويجعلها محتاجة إلى الاختلاط بنفس أخرى احتياجًا ضروريًّا كاحتياج العليل إلى الشمس، والغريق إلى الهواء. نار تُلهب القلب لا يطفيها البعد ولا يبردها القرب، بل يَزيدها اشتعالًا. ومرض يقاسي فيه العاشق عذابًا يظهر باحتقان في مُخِّه، وخفقان في قلبه، واضطراب في أعصابه، واختلال في نظام حياته. يظهر في الأخصِّ في الأكل وفي النوم وفي الشغل، ويجعله غير صالح لشيء سوى أنه يقضي أوقاته شاخصًا إلى صورة محبوبته مستغرقًا في عبادتها، ذاكرًا أوصافها وحركاتها وإشاراتها وكلماتها. نظرة في عيون محبوبته، تملأ قلبه فرحًا وتجعله يتخيَّل أنه ماشٍ في طريق مفروش بالورد، أو راكب سحابة وطائر في المرتفعات العالية. في هذه اللحظة يكون سعيدًا أسعد من أكبر ملوك الأرض، فإذا انقضت عاد إلى ما كان فيه من العذاب والألم.»

وتجرُّنا كلمات قاسم أمين الأخيرة إلى الحديث عن الحب وما فيه من سعادة وألم، وما يتضمَّنه من حلاوة ومرارة، وما يحويه من شهد وحنظل.

قال الشاعر:

سَلْني عنِ الحُبِّ يا مَنْ ليس يعلَمُهُ
ما أطيبَ الحبَّ لولا أنَّه نَكْدُ
طمعانِ حُلْوٌ ومُرٌّ ليس يَعْدِلُهُ
في حَلْقِ ذائقه مُرٌّ ولا شهْدُ

وقال آخر:

سَلْني عن الحبِّ يا من ليس يَعلَمُه
عندي من الحبِّ إنْ ساءلتَني خَبَرُ
إني امرؤٌ بالهوى ما زلتُ مُشتِهرًا
لاقيتُ فيه الذي لم يَلْقَهُ بَشَرُ
الحبُّ أوَّلُه عَذْبٌ مَذَاقتُه
لكنَّ آخرَه التَّنْغيصُ والكَدَرُ

وقال ثالث:

يا أيُّها الرجلُ المعذَّبُ بالهوى
إني بأحوال الهوى لَعليمُ
الحبُّ صاحِبُهُ يَبيتُ مُسهَّدًا
فيَطير منه فؤادُه ويَهيمُ
والحبُّ داءٌ قد تضمَّنه الحَشا
بين الجوانحِ والضُّلوعِ مُقيمُ
والحبُّ لا يَخفى وإن أخفيتَه
إنَّ البكاء على الحبيب يدومُ
والحبُّ فيه حلاوةٌ ومرارةٌ
والحبُّ فيه شقاوةٌ ونعيمُ
والحبُّ أَهْونُ ما يكون مُبَرِّحٌ
والحبُّ أصغرُ ما يكون عظيمُ

من ذلك نفهم أن الألم دائمًا يرافق الحب، غير أن جبران خليل جبران يعتبر هذا الألم ألمًا لذيذًا.

ولئن أردت الحقَّ، فخيرٌ لك أن تحبَّ وتتألَّم بل وتتعذب من ألَّا تحبَّ مطلقًا؛ لأنك إنما تحيا مرة واحدة في هذا العالم. فإذا لم تحبَّ فأنت لم تَحْيَ حياتك، بل عَبرَتها فقط.

ولا شك أن الألم في الحب أعذب كثيرًا من المرح، فتقول لطيفة جارية الفضل بن يحيى:

الحبُّ فيه حلاوةٌ ومرارةٌ
فاسأل بذلك مَن تَطَعَّمَ أو ذُقِ
ما ذاق بؤسَ معيشةٍ ونعيمَها
في الناس مَن في عمره لم يعشقِ

لا يكون الحب حبًّا إلَّا إذا استمرأ صاحبه الألم واستهان بالشقاء والكدر. فما العذاب في الحب إلا نشيد المحبين. والحب الذي لا يُروى بالدموع السخينة ولا يحنُّ إلى العذاب لا يكون حبًّا، ولله دَرُّ من قال:

قالت وقد سألَتْ عن حالِ عاشقها
بالله صِفهُ ولا تنقص ولا تَزِدِ
فقلتُ لو كان رَهْنَ الموت من ظمأٍ
وقلتِ قِفْ عن ورودِ الماء لم يَرِدِ

ويتحدَّث «روشبدر» عن الحب فيقول: «الحب مرض أخشى ما يخشاه المصاب به أن يبرأ منه!» بينما تقول مدام دي لسبيناس: «الحب معاهدة مع الشقاء.»

أمَّا «شو» فيقول: «ليس وراء الحب شيء غير الألم.» ويؤيد هؤلاء جميعًا لورد ديوار إذ يقول: «إن الحب محيط عميق من الأحاسيس والعاطفة، لكنه مُحاط من كل نواحيه بالآلام وباهظ النفقات.»

وما أصدقَ الشاعر الذي يقول:

مَنْ لم يَبِتْ والحبُّ حَشْوُ فؤاده
لم يَدْرِ كيف تفتت الأكباد

وما أروع «أوفيد» الشاعر الروماني حين يقول في هذا المعنى:

الحب والقلق والألم، تسير دائمًا متشابكة الأيدي.

ويقول «سونبورن» قوله المأثور: «اهربوا من الحب فخيرٌ لكم ألَّا تذوقوا حلاوته، حتى لا تقتلَكم مرارته.» كما يقول بيرون: «الحب علَّة رَبُّها في عناء، وحمَّى صاحبُها في هذيان وهراء.»

غير أن شكسبير ينصح المحبين قائلًا: «إن قسا عليك الحبُّ فاقْسُ عليه … أوخز الحب كما يوخزك؛ فبِذا تنتصر على الحب.»

ما أشقَى المحبين وإنْ ظنَّهم الناس سعداء! انظر إلى ما كتبه هذا الرجل إلى صديقه:

«نم يا صديقي ملء جفنيك واهنأ بالحلم السعيد، استرح واستكن وتمتع بالنوم العميق، واتركني وحيدًا أسير الهموم والأوهام، فريسة القلق والأرق. اتركني وحيدًا أعدُّ النجوم وهي تفرُّ أمام ناظري. اتركني وحدي أمزِّق قلبي على مذبح التضحية حزنًا على فراقها، وأسفًا على بعادها، وهي بريئة من دنسي وأنا أيضًا من دنسها.»

وهكذا كلما زاد حب الرجل زاد عليه الألم مهما كان صحيح الجسم. ولا يشقى غير المُحِبِّ العاشق، ولا يوجد — على حدِّ قول جورج إليوت — أبدع وأعذب من امتزاج الألم واللذة في ذلك الذي نُطلق عليه لفظة «حب».

هناك مِن الناس مَن يعتقد أنه يستطيع أن يخلق السعادة بآلام حب عنيف، فالحبُّ جوُّه جوٌّ عاصف مضطرم لا يؤذِن بخير، ولا يثبُت أمام عوامل الزمن، ولكنه مع ذلك يجعلنا سعداء، ولكن إلى فترة وجيزة سرعان ما تنقضي وتخلف وراءها ألف حسرة.

ومهما كان الحب سعيدًا مُتبادَلًا، فهو أبدًا محاط بالريب والشكوك والغَيرة والأنانية، والخوف من غدر المستقبل. فيقول لاسال: «ليس الحب سوى أنانية شخصية.» ويقول بلزاك: «عندما يدخل الحب من الباب، تندفع الأنانية من الشباك.»

فالحب بلا جدال أنانية بين اثنين.

ما أسعد البشر لو أن الحب الذي يسوس السموات يسوس عقولهم!

الحب مفتاح السعادة، ولولاه لَما تذوَّق إنسان غبطة الوجود، ولَما انتشى بخمرة الحياة.

ويصف جبران خليل جبران سعادة الحب بأنها ترتعش. وهو يرى أن المال مصدر شرور الإنسان، بينما الحب هو مصدر السعادة والنور.

وعلى أية حال، فمهما بلغت الأخطار، ومهما اشتدَّت الرزايا، ومهما عظُمت مشقَّات الحب، فهو كلمة لذيذة، كأن ضِيقَه فرج، وعبوسه طلاقة، ومشقَّته سهولة، ومرارته حلاوة. إنه هو وحده سعادة المرء في دنياه.

لا مراء في أن الحب هو السعادة الأرضية الزمانية، إذا صحَّ أن في السماء سعادة أخرى يسمونها السعادة الأبدية.

وسعيد هو الفن الذي يعيش بين خلائق الفن المحيطة به، التي ترفع الإنسان إلى مستوًى عالٍ، وتكسبه شرفًا صاعدًا.

وسعيد من قامت قصور مَحبَّته على دعائم الفضيلة موشَّاةً بالكمال ومسقوفةً بالشرف.

وسعادة المرأة في رأي جبران خليل جبران، ليست بمجد الرجل وسؤدُده، ولا بكرمه وحلمه، بل هي بالحب الذي يضم روحها إلى روحه، ويسكب عواطفها في كبده، ويجعلها معه عضوًا واحدًا في جسم الحياة الواحدة، وكلمة واحدة على شفتَي الإله الواحد.

وما أصدق من قال: ليست سعادة المرء في جيبه، وإنما سعادته في قلبه.

•••

يرى «موروا» أن الحب فن جميل، فيقول في ذلك: «مولد الحب كمولد الكائن الحي، فهو من عمل الطبيعة أولًا وأخيرًا، ويأتي عمل الإنسان فيه في المرحلة الثانية، وهذا ما نسمِّيه بفن الحب.»

فهل الحب فنٌّ حقيقةً؟ وهل للحياة — كما يقول البعض — نفحتان؛ حب الفن، وفن الحب؟ أم هل الحب عاطفة سامية؟

يقول جول دي كاستين: «قد يكون الحب قارورة الوضاعة والخسة واللؤم، ومع ذلك فهو لا يكون في نظر المحب إلا ملكًا شريفًا مقدَّسًا. وتلك أجمل صفات هذه العاطفة السامية.»

ويحدِّثنا بيكنسفيلد عن الحب كعاطفة سامية فيقول: «ما هو ذلك المطمع الذي يرافقنا شبحُه في دور الشباب، أو ما هي تلك الرغبة الشديدة في طلب السلطة، أو ما هي شهوة الشهرة التي تُرغمنا على الخروج من النكرات إلى مصافِّ أعلام العالم — ما هي هذه العواطف التي تمثِّل السموَّ والقوَّة والشرف؟ إنَّ كل هذه لتتلاشى في طرفة عين أمام نظرة سيدة. إن كل الأفكار والمشاعر والمطالب والرغائب والحياة تندمج في عاطفة واحدة، هي عاطفة الحب السامية.»

فيا أيها الحب! يا أيتها العاطفة السامية! عبثًا يتفلسفون في معانيك، وعبثًا يفحصون عاطفتك التي ترسل وحيًا إلى القلوب، ويصوِّبون إلى مقاتل الحياة سهام البؤس المميتة من تحليلها المشين. فقد يعلن الفيلسوف أن غايتك الزهو والغرور، ولكن العاشق ينظر شَزْرًا إلى فلسفته الباردة.

إن الطبيعة تؤكِّد له أنك عاطفة جميلة وسامية.

•••

والحب — كعاطفة سامية — جلَّ أن يخفى ودقَّ عن أن يُرى. له كُمونٌ ككُمون النار في الحجر، إن قدحته أوراك، وإن تركته توارى.

وهو كالسعال، لا يستطيع المرء إخفاءه؛ ذلك لأن روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين وإن كتموها، وتظهر عليهم دلائلها وإن أخفَوها، وتدل عليهم وإن ستروها.

ومهما تكنْ عند امرئٍ من خَليقةٍ
وإنْ خالها تَخْفى على الناس تُعْلَمِ

وكما أن الحب لا يخفى، فهو كذلك يدوم ويخلُد. ويقول في ذلك بيرنز: «يكفي أن تنظر إليها لتحبها، فإذا ما أحببتها فإن حبك لها يجب أن يدوم إلى الأبد.» ويقول طاغور: «دع للموتى خلود الشهرة، وللأحياء خلود الحب.» ويرى شكسبير: «أن الحب لا يتغير بتغيُّر ساعاته المحدودة، ولا أسابيعه، ولكنه يبقى حتى حافة القبر.» بينما يرى أوسكار وايلد: «أن الحب الوحيد الذي يدوم إلى الأبد هو حب الذات.»

ويحدِّثنا جبران خليل جبران عن خلود الحب حديثًا طَليًّا إذ يقول: «إن المحبة المحدودة تطلب امتلاك المحبوب، أما المحبة غير المتناهية فلا تطلب سوى ذاتها. المحبة التي تجئ بين يقظة الشباب، وغفلته تستكفي باللقاء وتقنَع بالوصل وتنمو بالقُبلات، أمَّا المحبة التي تولد في أحضان اللانهاية وتهبط مع أسرار الليل، فلا تقنع بغير الأبدية ولا تستكفي بغير الخلود، ولا تقف متهِّيبة أمام شيء سوى الألوهية.»

والرأي السليم أن الحب الصحيح يدوم بدوام العمر إلى ما بعد الموت، فمن الناس من فقدوا من يحبونهم فظلوا على ولائهم ينعمون بحبهم وهم في قبورهم.

وعلى أية حال، فمهما قيل عن خلود الحب في قلوب العاشقين، فهو لا يمكن أن يدوم إلا إذا اتفق مع المصلحة. فإذا تنافر الاثنان فعاقبة ذلك انكسار القلوب.

ولكن ما هي عَلاقة القلب بالحب؟ وهل القلب حقًّا بيت الحب؟ وهل لا ينبعث الحب إلا من القلب؟ ولا يقطن إلا في شَغافه؟

لقد أجمعت الآراء على أن الله قد خلق القلب وأودعه الحب، وأن الحب إذا زال ترك في القلب أثرًا لا يُمحى أبَدَ الدهر.

فالحب حسب رأي «دوبسون» يتسلل إلى القلب فلا يحس به أحد، ولكننا نحس به عندما يترك قلوبنا في فراغ ووحشة.

الحب كالنحل يستميل القلوب بحلاوة عسله، وقد يقتلها بزُعاف سمِّه، وهو حالات الروح وتطورات القلب. أوله ابتسامة، ثم تعقبه ضحكة، فإذا تمكَّن صار بكاءً مُرًّا.

وتنصح دوروثي باركر العذارى فتقول: «امتحني دائمًا قلب فتاكِ؛ لتعرفي إذا كان يُحبُّكِ. إن دقَّات القلب لَتكشف عن مدى الحب.»

ويعتقد «أندريه موروا» أن الحب يجب أن يصدر من القلب قبل أن يفكر العقل في شأنه.

قال رجل لعبد الله بن جعفر إن فلانًا يقول إنه يحبني فبماذا أعلم صدقه؟ قال: «امتحن قلبه بقلبك، فإن كنت تودُّه فاعلم أنه يودُّك.»

القلب جهاز يسير على ثلاثة؛ المنفعة والكبرياء والحب.

يقول شوبان: «اعصري قلبي يا حبيبتي الحسناء، فلن تجدي في كل قطرة منه إلا حبي.» ويقول بيرون: «حياتي وقلبي وروحي مِلْك للمرأة التي تحبني، ولكن أين هي؟»

ويقول الشاعر:

وقائلٍ لستُ بالمحبِّ ولو
كنت مُحبًّا لَذُبْتُ من زمنِ
أحبَّ قلبي وما دَرَى بدني
ولو دَرَى ما أقامَ في السِّمَنِ

وقال التنوخي:

كأنَّكَ في كلِّ القلوبِ مُحبَّبٌ
فأنتَ إلى كلِّ القلوب حبيبُ

ويعتقد جبران خليل جبران أن الحب كَنْز ثمين لا يودعه إلا الله القلوب الكبيرة الحسَّاسة، وأن النفس قد تجني من الشوك وردًا بحكمتها، وقد يستمدُّ القلب من الظلمة نورًا بمحبته.»

وقد سُئل سقراط: «ماذا تفعل لو انكسر حبك؟» فأجاب: «إن انكسر الحب لا ينكسر مكانه.» وقال رجل لأرسطاطاليس: «عظني» فردَّ عليه: «لا يملأن قلبك محبة شيء، ولا يستولين عليك بغضه، واجعلهما قصدًا؛ فالقلب كاسمه يتقلَّب.»

كما تحب القلوب تكره، وكما تميل تصدُّ، فالرباط بين الحب والكراهية رباط وطيد، والصلة بينهما قريبة. ولقد ينقلب الحب إلى كراهية ومقت، وقد تصبح الكراهية حبًّا عنيفًا.

قالت عائشة رضي الله عنها: «جُبِلت النفوس على حبِّ مَن أحسنَ إليها وبُغض من أساء إليها.»

وكما يتسع القلب للحب، فإنه يتسع أيضًا للكراهية، يقول شيلون: «الحب والبغض لا يدومان، فإذا أحببت صديقًا، فأَبْقِ للعداوة موضعًا، وإذا كرهت امرأً فخلِّ للمحبة مكانًا.» وجاء في الحديث الشريف: «أحْبِب حبيبَك هَوْنًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما.» وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: «لا يكن حبُّك كَلَفًا ولا بُغضُك تَلَفًا.»

ويعتقد روشفوكول أن من يتسرَّع في حب معشوقته لا يلبث طويلًا حتى ينبذها ويتحوَّل حبُّه إلى كراهية. أمَّا «كونجريف» فيؤكد أنه ليس في السموات غضب أعتى من الحب إذا تحوَّل إلى كراهية.

قال الوليد لرجل: «إني أُبْغِضك.» فأجاب: «إنما تجزع الناس من فقد المحبة.»

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل همَّ بطلاق امرأته: «لمَ تُطلِّقها؟» قال: «لا أحبُّها.» قال: «أوكلُّ بيت يُبنَى على المحبة؟ أين الرعاية والذمم؟»

والصدُّ في الحب أقوى صدمة تصيب القلب، غير أن الرجال في الغالب أشدُّ مقاومةً له من النساء.

قال الشاعر:

زار الحبيب فحيَّا
يا حُسنَ ذاك المُحيَّا
مِنْ صدِّه كنتُ مَيْتًا
مِنْ وَصْله عُدْتُ حيَّا

وهكذا ربط الشاعر حياته ومماته بالحب، وجعل للحب هذا الأثر العظيم في بقائه وفنائه. ويؤيده في ذلك قول جبران: «الحب يقظة تتناول الموت والحياة، وتبتدع منهما حُلمًا أغرب من الحياة، وأعمق من الموت.» وكذلك قال الفيلسوف الروماني بوبليليوس سيروس: «لا أحد يَقدِر على النجاة من الموت أو الحب.»

ويرى فولتير أن الإنسان يموت مرَّتين؛ المرة الثانية حين يكفُّ عن التنفُّس ويُدفَن في باطن الأرض، أمَّا المرَّة الأولى فحين يكفُّ قلبه عن الخفقان للجمال والشعور بعاطفة الحب.»

إذن فالحب في نظر فولتير هو الحياة بعينها، وما من شكٍّ أن الحياة بدون حب حياة عقيمة، بل هي أشبه شيء بصَحْراء جرداء قاحلة، لا زهر فيها ولا ثمر.

يقول الشاعر:

ولا خيرَ في الدنيا بغير صَبابةٍ
ولا في نعيمٍ ليس فيه حبيبُ

وعلى ذلك تكون الحياة بدون حبٍّ أشبه بشجرة لا زهر فيها ولا ثمر. والحب بغير الجمال كأزهار بلا عطر، أو ثمار بغير بذور. فالحياة والحب والجمال ثلاثة أقانيم في ذاتٍ واحدةٍ مستقلَّة مطلقة، لا تقبل التغيير ولا الانفصال.

وهناك أغنية فَرنسية تقول: «إنه الحب .. إنه الحب .. الذي يجعل الحياة تمضي.»

فلا تَلَذُّ الحياةُ لصاحبها إلَّا إذا تخلَّلها الحب، والحب كماء البحر، كلما زدت منه شربًا زادك عطشًا، أو هو كالبحر نفسه كلَّما حدقت فيه ببصرك، كلما تراءى لك أنه أعمق من أن تتناوله الأبصار.

ويرى «توماس مور» أن الحبَّ حُلم الحياة الصغير، ويعتقد فريق من الناس أن الحياة زهرة رحيقها الحب. ويرى فريق آخر أنه من ضروريات الحياة أن نحب شيئًا. والحب عند «شابمان» شمس الحياة الثانية، كلما أشرق أضفى على الإنسانية معاني الفضيلة. وحب الرجل عند بيرون منفصل عن حياته، ولكن حب المرأة هو حياتها ذاتها.

كتَبَ «برديلون» في هذا المعنى يقول:

لليل ألف عين،
وللنهار عين واحدة،
بَيْدَ أن ضوء العالم الساطع يموت
بمغيب الشمس وموتها.
للعقل ألف عين،
وللقلب عين واحدة،
بَيْدَ أن ضوء الحياة كلها يموت
بمغيب الحب وموته.

ومن قصيدة لعلي الجارم رحمه الله:

والحب مَلْهاةُ الحياةِ وطبُّها
ولقد تكون به الحياة سَقاما

فالحب إذن مصدر الحياة. هو الحياة عَيْنُها، بل قل هو الله نفسه لأن الله محبة؛ ولذلك نجد شكسبير يقول: «يا أيها الإنسان، اركع على قدميك واشكر السماء، فقد وَهَبَك الله الحب.» كما نجد جبران يقول: «الحب وما يولده، والتمرُّد وما يوجده، والحرية وما تنميه؛ ثلاثة مظاهر من مظاهر الله سبحانه وتعالى.»

ألست معي في أن الطير يحب ولا يعيش بدون الحب؟ ألا ترى الطائر ينتقل في الصباح من غصن إلى غصن، ويغرد تارةً هنا وطورًا هناك. إنَّ حبَّه لأنثاه يدفع به إلى ذلك السرور، وينطقه بأعذب الأنغام.

أوليست النساء كالطير؟ تتنقل على غصون الحياة، فإن أحبَّت سمِعتَ حنينها وأنينها وشكواها، فعرَفت كيف تكون نغمات الحب.

لا يعيش النبات بدون الحب، وكذلك لا يعيش الحيوان بغير الحب. انظر إلى الطبيعة واقرأ في معانيها آيات الحب. ألا ترى القمر في كبد السماء تحيط به تلك الهالة الجميلة؟ ثم انظر إلى تلك الكواكب ترنو بألحاظها إليه، وكيف تسطع بشعلات الحب. وها أنا ذا أقول إن الله تعالى — جلَّت قدرته — يحب؛ فهو يحب عباده، يحب خلقه، يحب الملائكة، يحب ما هو من صنع يديه؛ لأنه هو الحب بعينه.

يقول بايلي:

حبيبتي لا تسأليني عن الحب،
بل سَلِي الله عنه في السموات،
سلي الشمس العظيمة عن الضوء،
أمَّا الليل فسليه عن الظلام
سليني عن عذوبة قُبْلَتك،
ثم سلي نفسك عن جمالها.

ومحبة الله لا نهاية لها في نظر شكسبير إذ يقول: «لا نهاية لمحبة الله.»

وقال النبي : «ما تحابَّ اثنان في الله إلا كان أحبُّهما إلى الله أشدَّهما حبًّا لصاحبه.» وقال عليه السلام أيضًا: «إن رجلًا زار أخًا في الله، فأرسل الله له مَلَكًا فقال: أين تريد؟ قال: أريد أن أزور أخي فلانًا، فقال ألحاجة لك عنده؟ قال: لا، قال: فيمَ؟ قال: أحبُّه في الله. قال: فإن الله أرسلني إليك يخبرك بأنه يُحبُّك لحبِّك إيَّاه، وقد أوجبَ لك الجنة.»

ولقد ورد في الأخبار: «إن الله إذا أحبَّ عبدًا ألقى محبته في الملأ، فلا يمرُّ به أحد إلا أحبه.»

والمحبة على حد قول جبران خليل جبران، تهبط على أرواحنا بإيعاز من الله، لا بطلب من البشر.

ومن ثم فالحب الطاهر في رأي تيمور أجسام متباعدة على الأرض وأرواح متعانقة في السماء. وهكذا يصعد تيمور إلى السماء ليضع الحب بين يدَي الخلَّاق الأعظم.

•••

حقًّا إن أمر الحب لَعجيب، لا تتنافس فيه العبودية والحرية. هما لا يتعارضان عند بابه، بل يلتقيان فيه ويتآلفان.

ويلعن «بوب» القيود التي تحدُّ من سلطان الحب فيقول: «لقد خلق حرًّا يرفرف بجناحيه في الهواء، ويغمر الحياة بنور مشرق رقيق، فلماذا نحاول إطفاء النور وتحطيم الأجنحة الطليقة؟»

ومن رأي جبران أيضًا «أن المحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم؛ لأنها تسمو بالنفس إلى مقامٍ سامٍ لا تبلغ إليه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسود عليه نواميس الطبيعة وأحكامها.»

•••

وكما يميل الحب إلى الحرية، فإنه كذلك يميل إلى الظلم والجور، وفي ذلك يقول أوسكار وايلد: «من الصعب ألَّا تظلم من تحب.» بَيْدَ أنَّ الإنسان كلما زاد خلوًّا من عاطفتَي الحب والرحمة، كلما زاد توغُّلًا في الظلم.

•••

ونحن إذا كنا قد تعرَّضنا لعَلاقة الحب بالقلب والحياة، فلا أقل من أن نورد كلمة بسيطة عن عَلاقته بالروح؛ ذلك لأن الحب الصافي الذي لا يهتم بشيء ما، يضيء الروح برغبته في كلِّ غاية جميلة، على أمل أن يجد له صدًى.

ويتساءل رود: «ما هو الحب؟» ثم يجيب بنفسه عن سؤاله فيقول: «الحب روحان في جسد، أو روح في جسدين.» ويرى أرسطو رأي رود تمامًا.

أما ميخائيل نعيمة فيرى أنَّ الحب ليس إلا ذوبان المحب في محبوبه، ثم ذوبان الاثنين في الكائنات. إنه الشعور بأن محبوبك هو الكون، والكون هو محبوبك، والاثنان وحدة شاملة كاملة، وأنك من ذلك الكون بمثابة الروح من الجسد، وأنه جسد كامل وروح كامل.

وبهذا المعنى يقول جبران:

والحبُّ في الروح لا في الجسم نعرفه
كالخمر للوَحْي لا للسكر تنعصر

وكذلك صدق من قال: «لو بحثوا عن روحي لوجدوها تعانق روحك، ولو كان للناس أن يروا قلبي لوجوده يقبِّل قلبك.»

والذي كتب يقول: «إن روحي تطير حيث أنتِ فرِحةً جذِلة، تقبِّل وجنتيك تارةً، وشفتيك تارةً أخرى، وتضحك إليها في حنان وعطف دونه كل حنان وكل عطف.»

•••

وللحب عَلاقة وطيدة بالنظر. هكذا يقولون، وهكذا نؤمن أجمعين بصحة هذا القول؛ إذ للعين دخل كبير في كثير من قصص الغرام، إن لم تكن هي الرسول الأول بين القلوب.

ولئن كان للعقل آلاف العيون، فإن للقلب عين واحدة حتى إذا ما خبت أضواء الحياة، ظلت عين الحب وحدها ساهرة.

يقول شكسبير: «لا يتعمَّق حبُّ الشبان في قلوبهم، بل في عيونهم.»

أمَّا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول: «رؤية الحبيب جلاء للعين.»

ويرى موروا أنه لا سبيل إلى تلافي الحبِّ الخاطف، أو ما يُسمَّى بالحب من أول نظرة.

ولا أدلَّ على ذلك من الأسطورة اليونانية القديمة التي تقول إن الإله قد شطر الرجل والمرأة في بَدْء الخليقة شطرَين وإنَّ كليهما يبحث بصفة لازبة عن شطره الآخر. فإذا حدث والتقى الشطران فجأة، سرى بينهما ذلك التيار القوي الذي نطلق عليه اسم الحب الصاعق، فيحب كل واحد منهما الآخر حبًّا جارفًا بلا تحفُّظ ولا رَويَّة.

ويعتقد أبو محمد علي بن حزم أنه إذا اجتمع قلبان في مكان واحد، وتعطَّلت لغة الكلام، ولم يكن هناك مجال لحديث الهوى، فإن العين تتكلم، وتفرح وتحزن، وتنادي وتطرد. فإذا كانت الإشارة بمُؤْخِر العين فالمحبوبة تقول لا، وإذا أغمضت عينها في راحة واطمئنان فالقلب يقول نعم.

بَيْدَ أن ابن حزم الأندلسي هذا قد وَضَعَ قاموسًا خاصًّا عن إشارات الحب بالعين جاء فيه:
  • الإشارة بمُؤْخِر العين معناها «لا».

  • النظرة الدائمة المستقيمة معناها «إني آسفة.»

  • النظرة المنكسرة مع إرخاء الجفون معناها «إني سعيدة.»

  • النظرة السريعة بجانب العين معناها «احذر هناك خطر!»

  • الإشارة الخفيفة بمُؤْخِر العين معناها «هل أنتظرك غدًا؟»

  • النظرة السريعة إلى أعلى معناها «ليس مناسبًا.»

  • النظرة المهتزة السريعة معناها «لا تقترب مني.»

غير أن ابن حزم لا يؤمن بمسألة الحب من أول نظرة، وإن كان يعتقد أن المحبة لا تصح إلا بعد كثرة المشاهدة، ويقول في ذلك: «إني لا أطيل العجب مِن كل مَن يدَّعي أنه يحب من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدِّقه، ولا أجعل حبَّه إلا ضربًا من الشهوة، وأمَّا أن يكون في ظني متمكِّنًا من صميم الفؤاد، نافذًا في حجاب القلب، فما أقدر ذلك، وما لصِق بأحشائي حبٌّ قطُّ إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهرًا، وأخذي معه في كل جِدٍّ وهَزْل، وكذلك أنا في السلوِّ والتَّوْق، فما نسيت ودًّا لي قطُّ، وإن حنيني إلى كل عهد تقدَّم لي لَيغصبني بالطعام، ويشرقني بالماء، وقد استراح من لم تكن هذه صفته، وما ملِلْت شيئًا قطُّ بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس بشيء قطُّ أول لقائي له، وما رغبت الاستبدال إلى سبب من أسبابي مذ كنت، لا أقول في الألَّاف والإخوان وحدهم، لكن في كل ما يستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعت بعيش ولا فارقني الإطراق والانغلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لَشجًى يعتادني ووَلوع همٍّ ما ينفكُّ يطرقني، ولقد نغَّص تذكُّري ما مضَى كلَّ عيش أستأنفه، وإني لقتيل الهموم في عِداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا، والله المحمود على كل حال لا إلا هو.»

ويؤمن «بارنابي جوجي» بأن الحب قد يُولد من النظر:

هناك فتاة جميلة طيبة،
لم يَفْتِنِّي شيء فيها غير وجهها،
ومع أن عيني لم ترَها إلَّا مارَّةً بها
إلَّا أنني سأموت غارقًا في حبِّها.

كما يؤمن معه في ذلك «بيرنز» إذ يقول:

إن ترها تحببها،
وحبك لها إلى الأبد،
قد خلقتها الطبيعة كما هي
وما خلقت الطبيعة شبيهًا لها.

ومع ذلك فالقول السائد يعتبر الحب أعمى، وفي ذلك يقول النبي : «حبُّكَ الشيءَ يُعمي ويُصم.»

ويعتقد «كاو فمان» أن الزواج هو الإخصائي الوحيد الذي في استطاعته أن يعيد البصر إلى الحب.

إذن والحالة هذه فما عَلاقة الحب بالزواج؟ يقول شوشر: «من كان عبدًا في الحب يصبح سيدًا في الزواج.» أمَّا أوسكار وايلد فيقول: «يجب أن تحبَّ دائمًا، ولذلك ينبغي ألَّا تتزوَّج.»

غير أن هناك من يعتقد أن الزواج يطفئ نار الحب، وهناك من يرى أنه لا سبيل إلى الهروب من الحب إلا بكلمة واحدة، هي الزواج. ولعل روسو قد صدق حين قال: «إذا أردت أن تحطِّم الحب، ففكِّر في الزواج.» وتؤيده في ذلك ماري كورلي: «إن الحب مجرَّد وَهْم يبدِّده الزواج.»

وهناك فريق آخر يرى أن الحب ليس شرطًا في بقاء الزواج أو انفصام عُراه، فقد ينقلب زواج الحب إلى مقت، كما قد ينقلب زواج الكراهية إلى حب.

ويرى فريق ثالث أن لا عَلاقة بين الحب والزواج، فهذا شيء وذاك شيء آخر، وأن الحب من وحي السماء وأمَّا الزواج فمِنْ صُنْع الأرض.

ومن الناس من يعتقد أن الزواج قسمة ونصيب، وأن الحب شيء لا وجود له إلا في الكتب. ومنهم مَن يرى الحبَّ مَرَضًا يُشبه الزكام، أمَّا الزواج فهو شيء صحيح سليم لا يقبل أن يعيش مع آخر مريض.

غير أنه يوجد من يرى أن زواج الحب هو الزواج القوي الباقي؛ لأنه يحصن الزوجين ضد الفراق ولوعته، فكلما حاولا أن يفترقا حال الحب دون أن يبتعدا عن بعضهما.

وهناك من يقولون إن الحب لا يُعرف عمقه إلَّا ساعة الفراق؛ فالبعد للحبِّ كالهواء للنار يلاشيها إذا كانت قليلة، ويثيرها إذا كانت شديدة.

والفراق في نظر «كوتون» يطفئ نيران الحب المستعرة، ويلطِّف العاطفة المشتعلة، ويهدِّئ خلجات القلب.

ومن ثَمَّ لزِم لنا أن نصدِّق إذن «ألفونس كار» حين يقول: «الحب يولد من لا شيء، ويموت بأي شيء.»

أمَّا «بروك» فيعتقد أن الحب قد يموت، فيقول: «سأعيش لك دائمًا، فإذا ذبل الحب في قلبك وجب أن تذبل زهرة حياتي. ولكن أليس من العجيب أن أظلَّ حيًّا بينما يموت حبي!»

والحب عند موروا قد يذبل ويذوي، ولكن لا يحدث له ذلك إلا في جوِّ الكآبة والأسى.

ولكن هل تبقى للحب ذِكرى إذا مات؟ وهل تظلُّ ذكراه إذا ذَبَل؟ .. يؤيد هذا الرأي قول الشاعر:

أموتُ إذا ذكرتك ثم أحيا
ولولا حُسْنُ ظني ما حَيِيتُ
شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأسٍ
فما نفِدَ الشرابُ وما رَويتُ

وقول القائل:

أتذكرينني يا مهجة القلب، أتذكرين وَحْيَ مُحِّب؟
أتذكرين من بثَّك هواه، فكنت له خير مُلَبٍّ؟
أتذكرين يوم لقياك، ما أسعده! أتذكرينه؟
أتُبغضين يوم الفراق، ما أبشعه! أتُبغضينه؟
أتذكرينني يا لوعتي، أتذكرين من بجَّلك؟
أتذكرين من حباك، ومن بحبه جلَّك؟

ولكن هل الحب الصادق هو الحب الوحيد الذي قد تبقى له في نفس المحبِّ ذكرى؟

فالحياة الحقَّة لا تكون إلا حيث يكون الحب الصادق الذي يملأ النفوس قوَّة وأملًا، ويجعلها تشعر بلذة الحياة بالرغم مما يكتنفها من متاعب وآلام.

فالحب الصادق هو الذي يسمو بصاحبه ويرتفع به إلى حيث الطهر والشرف والعفاف، إلى المجد وإلى العظمة وإلى الزعامة، أمَّا الحب الكاذب فهو الذي يكون لابتغاء لذَّة طارئة والتماس منفعة زائلة، وإرضاء نزعة مادية جامحة.

ولعل أبدع ما قيل في هذا الصدد قول بوسايد: «دام الحب زمنًا طويلًا في العصور الخالية؛ لأن وجوه النساء كانت تبدو بعد غسلها كما كانت قبل الغسل!»

وعلى أية حال فإذا اجتمع الحب والصدق، كان الحب هو المتقدِّم؛ لأنه تاج يضيء ببهاء على جبين الصدق والإخلاص، وقد تناول الشعراء والفلاسفة الصدق في الحب وكتبوا عنه كثيرًا من الأقوال:

فقال «توماس مدلتون»:

الحب كله نار، ومع ذلك فهو بارد دائمًا،
الحب عليل دائمًا، ومع ذلك فهو لا يموت أبدًا،
الحب صادق أبدًا، ومع ذلك فهو كاذب على الدوام
الحب في الحق شيء، وهو في الحق ليس شيئًا.

وقالت «إدنا»:

لو أحببتك يوم الأربعاء
فماذا يعنيك من هذا؟
إنني لا أحبك يوم الخميس،
وهذا عين الصدق.

أما شكسبير فيقول: «عندما تُقسم حبيبتي أنها مصنوعة من الصدق، أصدِّقها وإن كنت أعلم أنها كاذبة.»

فالحب الصادق مثل الأشباح، يتحدث عنها كل إنسان، ولا يراها إلا القليلون.

ومع كلٍّ، فالرجل العفيف الشجاع هو الذي يحب حبًّا صادقًا، وإنه العفيف الشجاع، هو الذي يعرف الإخلاص في حبه. فما الإخلاص إلا لون من ألوان الحب العنيف، وهو يبدو لنا في حُلَّةٍ من الطموح وحب الرِّفْعة.

ويحدثنا نابليون عن الإخلاص في الحب فيقول: «إني واثق تمام الثقة من أنه لا يوجد في العالم من يحبني أو يخلص لي. فطالما لي القوة والسلطان والمُلْك، يكثر من يدَّعون مودَّتي تزلُّفًا وتملُّقًا، فإذا خمدت ريحي انفضُّوا من حولي.»

ويعارض «جوستاف لوبون» فكرة الإخلاص في الحب إذ يقول: «لو صَحَّ للنساء الإخلاص في الحب، لفقدن سلطانهن على الرجال.»

وهكذا يرى جوستاف أن الحب لا يعيش إلا على الكذب والنفاق.

•••

وهناك من يربط بين الحب والصداقة، ويعتقد أن الصداقة بين الرجل والمرأة ضَرْبٌ من الحب العاجز.

ويفرِّق الفيلسوف ديكارت بين الحب والصداقة بقوله: «الحب أعمق، ولكن الصداقة أوسع.»

بل إننا نراه يزيد على ذلك أن الصداقة برغم كونها لونًا من ألوان الحب، فإنه يغلب عليها طابع التضحية، بينما يغلب على الحب طابع الغَيرة والأنانية؛ إذ «قد تسعى الصداقة إلى أن تكون حبًّا، أمَّا الحب فلا يرضى أبدًا أن يتطور إلى صداقة.»

ومن هنا يتضح السبب في كون المرأة أبرع من الرجل في الحب، ولكنه أبرع منها في الصداقة.

وتختلف الآراء في تفسير نظرة الرجل إلى الحب، ونظرة المرأة إليه.

فهناك من يرى أن الحبَّ من قلب المرأة العاقلة كاللؤلؤ في المحيط، لا يناله إلا الغوَّاص الماهر.

وهناك من يظن أن المرأة لا تفكر في حب الله إلا بعد أن تيئس من حب الرجال.

ويعتقد «كونراد» أنه لا توجد امرأة واحدة يستطيع الرجل أن يخدعها في ميدان الحب.

أمَّا «أثيروتون» فيقول: «إن المرأة تلتهم الكذبة الفاضحة التي تحفظ كبرياءها في الحب، ولكنها لن تغفر الحقيقة المُرَّة إذا قيلت لها!»

ويرى بيرون أن الحبَّ بالنسبة للرجل شيء يختلف تمام الاختلاف عن وجوده «أما بالنسبة للمرأة، فهو وجودها، وهو كِيانها.»

وتتباين النساء أمام الحب ويختلفن، فمنهن من ترتعش قلوبهن وتهتز كأوراق الأشجار إذا مرَّت بها ريح الحب، ثم تعود فتسكن، بينما لا تهتز قلوب غيرهن إلا إذا هبَّت صواعق الحب وبَرَق وميضُه في قلوبهن، فتضطرب وتهيج ويعزُّ عليها الرجوع إلى السكينة.

غير أن ماري كورلي تعتقد أنه لا توجد امرأة يدوم حبها أكثر من ساعة.

ولعلَّ قولي كورلي يناقض قول القائل: «هَمُّ المرأة أن تحب، وهَمُّ الرجل أن يعيش. ومن هنا نشأ سوء التفاهم بين الجنسين.»

ومن رأي جبران خليل جبران أن الحب الذي يضم قلب الرجل بقلب المرأة، هو أمر فوق إرادتهما.

إلا أن هناك من يرى أنه يجب علينا أن نحذر حب امرأة أكثر مما نحذر عداوة رجل.

قال رجل ليوسف الصديق: «إني أحبك.» فقال: «لا حاجة لي بمن يحبني، فقد أحبَّني أبي فطُرِحت لأجله في الجُبِّ، وأحبتني امرأة العزيز فحُبِست لأجلها في السجن بضع سنين.»

وهكذا انطبق على سيدنا يوسف قول الشاعر:

إذا لعِبَ الرجال بكلُّ شيءٍ
رأيت الحبَّ يلعب بالرجالِ

والحب في نظر شوقي الشاعر ضروري في سنِّ الشباب، فقد أورد على لسان زينون في مسرحية كليوباترة قوله:

بُنيَّ ليس بالفتى
إذا أحبَّ من عَجَبْ
من لم يحبَّ لم يؤدِّ
للشباب ما وَجَبْ

ويرى أندريه موروا أننا في فترة المراهقة نكون مهيئين للحب؛ أي أن الشباب في هذه الفترة هو الباعث على الحب.

وعلى أية حال، فإذا أحب الرجل امرأة سقاها من كأس حنانه، وإذا أحبَّت امرأة رجلًا أظمأته دائمًا إلى شفتيها، وأشقى امرأة في الوجود هي تلك التي تمنح جسدها لزوجها، وتمنح قلبها لحبيبها!

والرجل الجدير بالتقدير هو الذي يعرف كيف يقدر الحب دون أن ينسى أن الحبَّ مجرَّد حادث في الحياة، ولما يصير تحت رُقْيةِ سحره، يتمتع به ويستثمره من غير أن ينسى أنَّ الحقائق المؤلمة لا تزال أسمى وأعظم من أعذب الأوهام وأحلاها.

فإن رجلًا كهذا يعرف كيف يختار أو يصبر بحكمة، أو يحب بثبات، أو يبذل نفسه دون أن يظهر ضعفًا.

•••

ويدفعنا الكلام عن الحب إلى الحديث عن مراحله ووسائله.

يرى أندريه موروا أن الحبَّ يبدأ عادة بتصادمٍ نفسيٍّ يُوجِده الإعجاب أو العطف أو الرغبة.

يتبع الصدمة وتأثيرها عنصر «الغياب» فهو من أهمِّ العوامل في تنمية الحب؛ لأنه لا يكشف لنا عن مواطن الضعف في شخص المحبوب.

بعد هذه المرحلة يعدو المحبوب في نظرنا شخصًا آخر ممتازًا، وهذا ما يعبِّر عنه «بروست» بقوله: «نحن لا نحب أشخاصًا حقيقيين بقدر ما نحب في الواقع الأشخاص الذين ابتكرناهم في خيالنا؛ لأن الجمال يكمن حقيقة في عيوننا نحن.»

والحب في هذه المرحلة عبارة عن سعادة مطلقة، لا تبقى نيرانه متَّقدة إلا بالأمل وبعض التشجيع، بنظرة مثلًا، أو كلمة ثناء ومديح.

ويحدِّثنا أندريه موروا عن وسائل الحب فيقول: «إن التزين والتبرج وسيلة شائعة للفت النظر، فكما تجذب الأزهار بألوانها الحشرات كي تلقِّحها في الوقت المناسب، كذلك المرأة تتحلى بأفخر الثياب وأنفس الجواهر كي يُعجب بها الرجل ويقع عليها اختياره.»

ومن وسائل جذب نظر الجنس الآخر محاولة القيام بما يعجز عنه الآخرون، فكل عاشق يحاول جهده كي يثبت براعته الخارقة في فنه.

وتَنْشُد المرأة أيضًا الأمان والحماية، وهي لذلك تختار كلَّ من تتوسم فيه أنه أكفأ من غيره لتحقيق بغيتها هذه.

وللهدايا والإطراء قيمتها الكبرى في استمالة المحبوب، وهو سلاح تعرفه جميع المخلوقات، كما تستخدمه كذلك الطيور والحيوانات.

وقد تخلب البطولة لبَّ المرأة فترمي بها في أحضان الرجل. ولهذه البطولة صور مختلفة؛ منها الشهرة ونباهة الذكر والثراء والنفوذ.

أمَّا الحب عند قاسم أمين، فأوله هَزْلٌ في الغالب وآخِره جِدٌّ.

فإذا كانت عَلاقة الحبيبَين ترمي إلى اختلاط الأرواح وتعانق النفوس واختبار الرفيق الوحيد، كانت هذه الغاية الشريفة دليلًا على رُقيِّ الأخلاق وعلوِّ الشعور، ومنبعًا مستمرًّا يتفجَّر منه الخير لهما ويفيض على الناس.

ويرى بيرون أن المرأة في عاطفتها الأولى تحب حبيبها، وفيما عدا ذلك تحب حبها.

أما هذا الشاعر فله رأيه في الحب الجديد إذ يقول:

جميل أن تكون مرِحًا وحكيمًا،
وجميل أن تكون صادقًا وأمينًا،
ولكن من الخير أن تتخلَّص من الحب القديم
قبل إقدامك على حب جديد.

هذا هو الحب، وهذه هي مذاهب الناس فيه، فهو باختصار كما يقول جبران خليل جبران: «الحب شعاع سحري ينبثق من أعماق الذات الحساسة، وينير جنباتها، فترى العالم موكبًا سائرًا في مروج خضراء، والحياة حُلمًا جميلًا منتصبًا بين اليقظة والنوم.»

وكما أبدع حين قال: «الحب أبي، والحب أمي، ولا يعرف الحب سوى أبي وأمي.»

أو كما يقول بيرنز:

آه يا حبي، إنك لتشبه وردةً حمراء
قد نمت حديثًا في شهر يونيو،
آه يا حبي، إنك لَتشبه أنشودةً بديعةً
قد عزفت حديثًا ألحانها العذبة.

لئن كان بيرنز قد اكتفى بتشبيه الحب بالوردة الحمراء التي أينعت في شهر يونيو، فإن تنيسون يقول إن الذي لا يحب في الصيف، وخاصة في شهر مايو، فقد انطوى على قلب قُدَّ مِن صَوَّان. ويؤيده في ذلك شكسبير، فهو يرى أن الصيف أفضل الفصول للحب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤