الفصل الأول

كم يبلغ عددُ الأشياءِ الموجودة في العالَم؟

كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم؟ إذا سألتني كم ولدًا لديك، فسيمكنني أن أجيبك على الفور: ثلاثة. وإذا سألتني كم كتابًا في مكتبي، فسيمكنني أن أجيبك، ولكني قد أُضطر إلى عدِّها أولًا. وإذا سألتني عن عمري بالدقائق، فسيمكنني أن أحسب عددَها، ولكني قد أُضطر إلى أن أسأل والدتي عن الوقت الدقيق لمولدي. وإذا سألتني عن عدد الخلايا في جسمي، فقد أستعين بعالِم أحياء، ولن يمكنني أن أعطيك إلا إجابةً تقريبية، واضعًا في اعتباري عواملَ مثل وزني. ولكن، هل يمكننا الإجابة عن السؤال «كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم «إجمالًا»؟». هل يمكننا عدُّها كلِّها، من حيث المبدأ على الأقل، أو حساب عددها؟ إذا لم نتمكن من إعطاء العدد الفعلي، فهل يمكننا على الأقل إعطاء إجابة تقريبية؟

الأشياءُ وأنواعها

إذا وجدنا أن السؤال «كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم؟» مستعصيًا، أو محيِّرًا، أو بلا معنًى، أو سخيفًا تمامًا، فهل هذا بسبب أن العالم كبير لدرجة تمنعنا عن إعطاء إجابة معقولة؟ إذا كان الحال على هذا المنوال، فدعونا نتناول سؤالًا أسهل: كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في غرفة مكتبي؟ قد نعتقد أن كلَّ ما عليَّ فِعله هو أن أنظر حولي وأعدَّ الأشياء. قد أبدأ بعَدِّ كُتبي. ولكن، إذا أمسكتُ بأحد هذه الكتب، فهل يجدر بي أن أعدَّ كلَّ صفحة على حِدَة؟ أم أعدَّ كلماتِ كلِّ صفحة؟ هل مقعدي ذو الذراعَين يُعَدُّ شيئًا واحدًا أم شيئَين، على سبيل المثال الإطار الخشبي والحشوة، أم أشياء كثيرة؟ هل مكتبي يُعَدُّ شيئًا واحدًا أم خمسة أشياء (الجزء العلوي والأرجُل الأربعة التي يُمكن أن يصبح عليها عند تفكيكه)؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا بتحديد «أنواع الأشياء» التي نفكِّر فيها. إذا كنا نعني «الكتب»، أو «المقاعد»، أو «المكاتب»، أو بالأحرى «الكتب أو المقاعد أو المكاتب» (بضمِّها معًا)، فسيمكنني أن أعطيك إجابة قاطعة، من حيث المبدأ على الأقل، أو تقريبية. ولكن يبدو أن السؤال «كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم إجمالًا»، من دون تحديد، لا إجابة له.

ولكن، هل يُعد هذا السؤال بلا معنًى إذَن؟ في سياقاتٍ معيَّنة، قد يكون له معنًى بلا شك. لنتخيل أني أنقل أثاثي من منزل لآخر، واتصلت شركة نقل الأثاث لطلب بيان أسعار. وبينما كنا نتجول بين الغُرف، سُئلتُ عن عدد الأشياء في غرفة مكتبي. في هذه الحالة قد أجيب قائلًا: «حسنًا، لديَّ نحوُ ألفِ كتاب، ومكتب واحد، وثلاثة مقاعد، وأريكة، ومقعد ذو ذراعَين، وخِزانتا مِلفَّات، وطاولة صغيرة، وخمسة أُصُص نباتات.» قد يكون مضلِّلًا أن ألخِّص ما سبق بقول إن لديَّ ١٫٠١٤ شيئًا (بجمعها كلها معًا)، ولكن يُعَدُّ هذا ردًّا مناسبًا. بيد أن هذا يُعزِّز فكرة أننا بحاجة إلى تحديد «أنواع الأشياء» التي نَعنيها عند الإجابة عن مثل هذا السؤال. ما كان موظفُ شركة النقل يعنيه بكلمة «أشياء» هو جميع الأجسام المادية التي عليه نقلُها، سواءٌ فُرادى أو معبَّأة في صناديق. عند الإجابة عن السؤال، سيكون عليَّ أن أحدِّد أنواع الأشياء ذات الصلة ببيان الأسعار، على سبيل المثال، أن أحسبَ عدد الصناديق التي سأحتاجها من أجل كُتبي.

ومن ثَم، يمكن أن يوضِّح السياق عادةً أنواع الأشياء المقصودة عند طرح السؤال «كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة؟». وإذا لم يوضِّح السياق ذلك، فيمكن للمرء أن يقول «هذا يعتمد على ما تعنيه بكلمة «شيء»». سيُلقي هذا على عاتق السائل مسئولية أن يحدِّد ما يعنيه. والآن، بالعودة إلى السؤال الأعم «كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم؟» من الصعب رؤية السياق الذي يمكنه منح هذا السؤال معنًى واضحًا بما يكفي لأن تكون له إجابة. ولكن، لكي يكون له معنًى، فلا شكَّ أنه يجب أن يحدِّد أنواع الأشياء التي يعنيها (هل هي الذرات؟ أم الجُزيئات؟ أم العناصر الكيميائية؟) وهذا هو بيت القصيد ومَربط الفرس.

يُبرز هذا بالفعل أحدَ الأشكال التي يتخذها «التحليل» في الفلسفة. إذا لم يتضح على الفور كيفية الإجابة عن سؤالٍ ما، فسيكون علينا أن نحدِّد معانيه المحتمَلة. وربما سنتمكن من إيجاد المعنى المقصود أو المناسب من خلال فهم السياق؛ ولكن إذا لم نفعل وأردنا أن نفسِّر كيف يمكن أن «يبدو» السؤال ذا معنًى، فعلينا أن «نتخيل» السياقات المحتمَلة حيث يكون للسؤال إجابة. ولكن إذا تأكَّدنا من أن أيًّا من هذه السياقات المحتمَلة ليس السياق الصحيح، يحقُّ لنا أن نستنتج، في هذه الحالة، أن السؤال بلا معنًى؛ ومن ثَم تتعذر إجابته. وبإدراك أنها مجرد شكل من أشكال الكلمات، قد يكون لأي سؤال العديدُ من المعاني المحتمَلة، وسيكون التحليل مطلوبًا لإبراز المعاني ذات الصلة. ولا يعني «التحليل» في هذا السياق المعنى الأوليَّ الدالَّ على «تفكيكِ» شيءٍ ما معروف بالفعل، بل المعنى الدال على تحديد جميع الاحتمالات ذات الصلة، وهي عملية تتطلب مُخيِّلة. فالتحليل عملية أكثر إبداعًا بكثير مما يُعتقد.

التعريف بجوتلوب فريجه

أصبح جوتلوب فريجه (١٨٤٨–١٩٢٥) يشتهر حاليًّا بأنه أحد المؤسِّسين الرئيسيين للفلسفة التحليلية. وُلد فريجه في مدينة فيسمار التي تقع على ساحل مقاطعة مكلنبورج في شمال شرق ألمانيا، ودرسَ في جامعتَي مدينتَي ينا وجوتينجن، وقضى مسيرته الأكاديمية بالكامل في تدريس الرياضيات في جامعة ينا. كان اهتمامه الرئيسي مُنصبًّا على طبيعة الرياضيات ولا سيَّما علم الحساب. ما الأعداد، وكيف نكتسب المعرفة عن علم الحساب؟ محاولة فريجه للإجابة عن هذه الأسئلة جعلت منه فيلسوفًا بنفس قدر كونه عالم رياضيات. من السهل عرضُ إجابته، ولكن يصعُب كثيرًا إثباتها (كما اكتشف فريجه بنفسه بعد ذلك)، ويصعُب قليلًا شرحها، ولكني سأبذل قصارى جهدي في هذا الفصل. طبقًا لفريجه، علم الحساب في الأساس نوعٌ من المنطق، الإطار النظري الذي أصبح يُسمَّى فيما بعدُ «المَنطِقانيَّة» logicism، والأعداد نوع من الموضوعات المنطقية. ولكي يوضِّح ذلك، اضطُر فريجه إلى أن يضع نظرية منطقية، وهذا جعله عالِم منطق بالإضافة إلى كونه عالِم رياضيات وفيلسوفًا. لا شكَّ أن مكانته كأحد مؤسِّسي الفلسفة التحليلية قامت على كونه مُبتكِر المنطق الحديث، وهو ما أصبحنا نعرفه الآن باسم «المنطق الكَمِّي». أطلقَ فريجه على هذا النظام المنطقي اسم Begriffsschrift، ويعني حرفيًّا «تدوين المفاهيم»، والذي عرضه للمرة الأولى في كتاب قصير نُشر تحت هذا العنوان عام ١٨٧٩.

أكثر كُتب فريجه انتشارًا، والذي أصبح حاليًّا من أُمهات الكتب الفلسفية، كتاب «أساسيات علم الحساب»، والذي نُشر عام ١٨٨٤. والفكرة الرئيسية التي تدور حولها فلسفته هي حُجَّته بأن القضايا العددية ما هي إلا إقراراتٌ بشأن المفاهيم. ولقد أصبحنا بالفعل في موضع يؤهِّلنا لفهم هذه الحُجَّة. دعونا نَعُد إلى المثال السابق عن الكتاب، ولنفترض أنه الكتاب الذي تقرؤه الآن. كم شيئًا لدينا هنا؟ هل لدينا كتابٌ واحد، أم ١٥٠ صفحة، أم ٣٨ ألف كلمة (تقريبًا)؟ لا شك في أن الإجابة تعتمد على نوع الشيء الذي نقصده أو، كما يمكننا أن نقول الآن، «المفهوم» الذي نستخدمه للتفكير في هذا الشيء. إذا كنا نفكِّر في المفهوم على أنه كتاب، فستكون الإجابة واحدًا؛ أما إذا كان المفهوم مجموعة من الصفحات، فستكون الإجابة ١٥٠؛ وإذا كان المفهوم مجموعة من الكلمات، فستكون الإجابة ٣٨ ألف.

دعونا نتناول قضيةً عددية مثل «هذا الكتاب يحتوي على ١٥٠ صفحة». طبقًا لفريجه، نحن لا ننسب العدد ١٥٠ إلى الموضوع نفسه (هذا الكتاب)، بل إلى المفهوم «صفحة من هذا الكتاب». وفي الآتي، سنتناول المفهوم بمزيد من التفصيل. لهذا المفهوم ١٥٠ حالة. بعبارة أخرى، لا تتعلق القضية بالموضوع الذي يبدو أنها تتعلق به (وينعكس هذا على حقيقة أن عبارة «هذا الكتاب» هي الفاعل النحوي في الجملة التي نستخدمها لصياغة القضية)، بل تتعلق بالمفهوم الذي علينا إدراكه لكي نُجري العَدَّ المقصود. في رأي فريجه، ما يعنيه أن «الكتاب يحتوي على ١٥٠ صفحة» حقيقةً هو «مفهوم أن «صفحة هذا الكتاب» لها ١٥٠ حالة». وسنعود إلى تناول فكرة «ما تعنيه جملةٌ حقيقةً» في الفصل الثالث. والفكرة الرئيسية هنا هي توضيح حُجَّة فريجه الرئيسية بأن القضايا العددية عبارة عن إفادات بشأن المفاهيم.

إذا كان فريجه مُحقًّا، فقد أحرزنا تقدمًا نحو التوصل إلى إجابة واحد من أبسط الأسئلة، في تاريخ الفلسفة، وإن كان أبسطها ظاهريًّا فقط ولكنه في الحقيقة أصعبها. ما الأعداد؟ دعونا نقصُر حديثنا هنا على الأعداد التي نستخدمها في العَد، أو ما يُطلَق عليه الأعدادُ الطبيعية: ٠، ١، ٢، ٣، وهكذا. لن يمكننا عَدُّ شيء إلا إذا امتلكنا المفهوم الذي يساعدنا في إدراكه. ويمكن أن يكون المفهوم إما كتابًا واحدًا، وإما ١٥٠ صفحة، وإما ٣٨ ألف كلمة؛ ولن يمكننا تحديد العدد إلا عندما ندرك المفهوم الصحيح. وبمجرد تحديد المفهوم، ستتضح الإجابة، ولكن تُعَدُّ هذه قدرةً مهمة على التمييز، وتقترح استنتاجًا يمكن التعبير عنه على النحو الآتي. لا تُعيَّن الأعداد إلى الموضوعات نفسها، بل إلى المفاهيم التي تساعدنا على إدراك الموضوعات. وبغرض التوضيح، يمكننا أن نعتبر المفاهيم خواص تمثيلية للأشياء؛ يمكن أن يكون الشيء إما كتابًا، وإما صفحةً، وإما كلمةً، على سبيل المثال. ومن ثَم، يمكن اعتبار الأعداد خواصَّ الخواص. (وكما سنرى لاحقًا، ما هذا إلا تقريبٌ أوَّلي لرأي فريجه، ولكنه يتبع المسار المطلوب). إنَّ خاصيةَ أن يكون الشيءُ هذا الكتابَ تحملُ في ذاتها خاصيةَ أن تكون له حالة واحدة؛ وخاصية أن يكون الشيء صفحةً من هذا الكتاب تحملُ خاصيةَ أن تكون لها ١٥٠ حالة، وهَلُمَّ جرًّا.

لماذا كان هذا الرأي مهمًّا بالنسبة إلى فريجه؟ الإجابة المختصَرة عن هذا السؤال هي أن خاصية امتلاك حالة هي خاصية منطقية؛ أي يمكن تعريفها بأسلوب منطقي تمامًا. سنعود إلى هذا في الفصل الثاني، ولكن إذا تقبَّلنا هذا الرأي، فقد خطونا بالفعل خطوةً نحو توضيح أن القضايا العددية يمكن تعريفها بمصطلحاتٍ منطقية.

الموضوعات والمفاهيم

دعونا نَعُد إلى الموضوع الرئيسي. للإجابة عن السؤال «كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم؟» علينا أن ندرك أنواعَ الأشياء المقصودة. طبقًا للغة الاصطلاحية لفريجه، نحتاج إلى إدراك المفهوم ذي الصلة حتى نحدِّد العدد الصحيح. وعند الحديث عن «أنواع الأشياء» نفترض مسبقًا وجود فَرقٍ بين الأشياء وأنواع الأشياء. وطبقًا للغة الاصطلاحية لفريجه، هذا هو الفرق بين «الموضوعات» و«المفاهيم». ومثلما يمكن تصنيف الأشياء إلى أنواع مختلفة، ويمكن تصنيف الشيء الواحد بأكثر من طريقة (يمكن أن يكون الشيء حصانًا وكذلك حيوانًا)، يمكن إدراك الموضوعات من خلال مفاهيم مختلفة، ويمكن أن يندرج الموضوع نفسه تحت مفاهيم مختلفة.

اعتبر فريجه أن علاقة أن يندرج الموضوع تحت مفهوم ما، هي أصل العلاقات المنطقية على الإطلاق. فهي تشكِّل جوهر أبسط أنواع الفكر الذي قد نمتلكه. تأمَّل، على سبيل المثال، فكرةَ أن جوتلوب إنسان. تتضمن هذه الفكرة التفكير في أن شيئًا ما، ألا وهو جوتلوب، يمتلك خاصية معيَّنة، ألا وهي خاصية كونه إنسانًا. يصف فريجه هذا بأنه يعني التفكير في أن موضوعًا معينًا (جوتلوب) يندرج تحت مفهوم معين (مفهوم إنسان). طبقًا لفريجه، لا يمكن تحليل هذه العلاقة أكثر من ذلك، وهي أساس الأفكار الأكثر تعقيدًا، مثل فكرة أن جميع البشر فانون، والتي يصفها بأنها الفكرة التي مُفادها أن أي موضوع يندرج تحت مفهوم «إنسان»، يندرج أيضًا تحت مفهوم «فانٍ».

كما يمكن أن تكون لدينا أفكار عن مفاهيم، على غرار فكرة أن مفهوم «صفحة من هذا الكتاب» له ١٥٠ حالة. يصف فريجه هذا بأن فكرة مفهوم «صفحة من هذا الكتاب» تندرج ضمن مفهوم «له ١٥٠ حالة»، حيث يكون مفهومُ «صفحة من هذا الكتاب» «مفهومًا من المستوى الأول»، ومفهومُ «له ١٥٠ حالة» «مفهومًا من المستوى الثاني». المفاهيم من المستوى الأول هي المفاهيم التي تندرج تحتها الموضوعات، والمفاهيم من المستوى الثاني هي المفاهيم التي تندرج ضمنها مفاهيم المستوى الأول. (يفرِّق فريجه هنا بين تعبير «يندرج تحت» وتعبير «يندرج ضمن» بغرض التمييز بين المستويات المختلفة المَعنية، إلا أن العلاقتَين متماثلتان). ومن ثَم، تُحلَّل القضايا العددية، في رأي فريجه، على أنها إفادة بأن المفهوم من المستوى الأول يندرج ضمن المفهوم من المستوى الثاني، والمفهوم من المستوى الثاني هو الذي ينسب عددًا معينًا من الحالات إلى المفهوم من المستوى الأول. قولنا إن هذا الكتاب يحتوي على ١٥٠ صفحةً يعني أن المفهوم من المستوى الأول «صفحة من هذا الكتاب» يندرج ضمن المفهوم من المستوى الثاني «له ١٥٠ حالة».

كما يمكننا أن نقول إن المفاهيم من المستوى الثاني تتطلب مفاهيمَ من المستوى الثالث، وهكذا. ويُعَدُّ مفهوم «المفهوم من المستوى الثاني» مثالًا على المفاهيم من المستوى الثالث (ذلك أن المفاهيم من المستوى الثاني تندرج ضمنها). وعليه، طبقًا لرأي فريجه، ثَمَّة تسلسلٌ هرمي من المفاهيم: المفاهيم من المستوى الأول، والمفاهيم من المستوى الثاني، والمفاهيم من المستوى الثالث، وهكذا. وبذلك، يبدو السؤال عن عدد الأشياء الموجودة في العالم، حتى إن كانت أبسط «أنواع الأشياء»، أكثر تعقيدًا مما افترضنا في بادئ الأمر.

امتدادات المفاهيم

إنَّ الفَرق بين الموضوعات والمفاهيم هو الفَرق الأهم في فلسفة فريجه (وحُدِّدَت فروقٌ مشابهة له على مدى تاريخ الفلسفة). ولكن ثَمَّة شيء من نوع آخر علينا أن نُعرِّف به قبل أن نعود إلى تناول السؤال المتعلق بعدد الأشياء في العالم. وهو ما يُطلَق عليه فريجه اسم «امتداد المفهوم» أو، كما يُسمَّى أيضًا، «الفئة» أو «المجموعة». وينصُّ المبدأ الحاكم هنا على أن كلَّ مفهوم تندرج تحته فئةٌ من الأشياء. دعونا نأخذ مفهوم «الإنسان» مثالًا. يندرج تحت هذا المفهوم كلٌّ من جوتلوب فريجه، ولودفيج فيتجنشتاين، وسوزان ستيبينج، وغيرهم. هذه الموضوعات تُعَدُّ عناصر في «فئة» البشر، ووفقًا للُغة فريجه الاصطلاحية، تنتمي إلى امتداد مفهوم «الإنسان». وهذه الفئة في حدِّ ذاتها، وفقًا لفريجه، تُعَدُّ نوعًا من الأشياء، ليس موضوعًا «ملموسًا» بل موضوع «مجرد». والموضوعات «الملموسة» هي الموضوعات الموجودة في عالَمنا التجريبي الزماني المكاني؛ أما الموضوعات «المجردة» فهي الموضوعات الموجودة في فِكرنا العقلاني، وتُعَدُّ مسألة «وجودها» أحدَ الأسئلة المستعصية التي أرَّقَت الفلاسفة، على الأقل، منذ عصر أفلاطون. وعلى نحو أكثر تحديدًا، يَعتبر فريجه الفئاتِ موضوعاتٍ «منطقية»؛ وذلك لأن فكرة الفئة لطالما نُظِر إليها على أنها منطقية، ويُفهَم المنطق بأنه ما يحكم فِكرنا العقلاني.

دعونا نُسايِر فريجه مؤقَّتًا ونُعامِل الفئات (امتدادات المفاهيم) على أنها موضوعاتٌ منطقية مجردة. (سنتناول هذه الفكرة بمزيد من التفصيل في الفصل الثاني). قديمًا، كان يُنظَر إلى الأعداد على أنها نوعٌ من الموضوعات المجردة. ومن المؤكَّد أن فريجه اعتبرها موضوعات وليس مفاهيم. عندما نقول «العدد ١»، على سبيل المثال، فإننا نشير إلى موضوع؛ وعندما نقول «العدد ٢ هو الجذر التربيعي للعدد ٤»، يُمكن تحليل ذلك بأن نقول إن الموضوع «العدد ٢» يندرج تحت مفهوم «الجذر التربيعي للعدد ٤». هل يمكن إذَن اعتبار الأعداد موضوعات «منطقية»؟ لكي نجيب بالإيجاب، سيكون الاقتراح المباشر أن نجد فئاتٍ مناسبةً نحدِّدها وفقًا لها، وهذا ما فعله فريجه.

ما الأعدادُ الطبيعية؟

إذا كنا بصدد تعريف الأعداد الطبيعية (٠، ١، ٢، ٣، إلى آخره) بأنها فئات، وتُفهَم على أنها موضوعاتٌ منطقية، فسيكون علينا إيجاد مفاهيم منطقية مناسبة. ثَمَّة مفهومان من مفاهيم المنطق الأكثر أهمية، وهما مفهوما تطابق الهُوية والنفي. دعونا نتناول مفهوم الهُوية، أو بتعبيرٍ أدق، مفهوم التطابق مع الذات. كلُّ موضوع يكون متطابقًا مع ذاته، أو بعبارة أخرى، كلُّ موضوع يندرج تحت مفهوم «التطابق مع الذات». (قد يبدو ما قلناه غريبًا، بيدَ أنه صحيح تمامًا على ما يبدو). ومن ثَم، فإن الفئة المناظِرة تتضمن جميع الموضوعات كعناصر. والآن، دعونا نُضِف مفهوم النفي لتكوين مفهوم «عدم التطابق مع الذات». لا يوجد شيءٌ لا يكون متطابقًا مع ذاته. (إذا كان كلُّ موضوع متطابقًا مع ذاته، فلن يوجد موضوعٌ غير متطابق مع ذاته. ومجدَّدًا، قد يبدو ما قلناه غريبًا، ولكنه صحيح تمامًا على ما يبدو). ومن ثَم، فإن الفئة المناظِرة في هذه الحالة لا تتضمن أيَّ عناصر على الإطلاق. وهذا ما يُطلِق عليه علماءُ المنطق «الفئة الفارغة» (أو «المجموعة الخالية»)، وفي هذه الحالة، عُرِّفَت طبقًا للمفاهيم المنطقية فقط بأنها فئة الأشياء غير المتطابقة مع الذات.

وعليه، فإنَّ المقترَح البديهي هو تعريف العدد الطبيعي الأول، أي العدد صفر، بأنه عنصر في الفئة الفارغة. وهذا ما حدث في نظرية المجموعات الحديثة، وهو أبسط تعريف على الإطلاق. في واقع الأمر، يقدِّم فريجه تعريفًا أكثر تعقيدًا؛ إذ لا يعرِّف العدد صفرًا بانتمائه إلى الفئة الفارغة مباشرةً، بل بانتمائه إلى فئة الفئات التي تتماثل في عدد عناصرها مع الفئة الفارغة؛ ولكن، يمكننا أن نتجاهل هذا التعقيد حاليًّا. وللأغراض الراهنة، دعونا نتقبَّل أن هذا التعريف يُعرِّف لنا العدد الطبيعي الأول، العدد صفر، أنه جزءٌ من الفئة الفارغة. ومن ثَم، يمكننا صياغة المفهوم «متطابق مع الصفر» (أي مفهوم «متطابق مع الفئة الفارغة»). في هذه الحالة، تحتوي الفئة المناظِرة على عنصر واحد فقط، ألا وهو الصفر (الفئة الفارغة نفسها)، بما أن هذا الموضوع فقط (أي الصفر) متطابق مع الصفر. تختلف هذه الفئة (فئة الأشياء المتطابقة مع الصفر) عن العنصر الوحيد الذي تحتويه (أي الصفر، أو الفئة الفارغة)؛ ذلك أن الفئة الأولى تحتوي على عنصر واحد، والفئة الثانية لا تحتوي على أي عناصر؛ ومن ثَم، يمكننا تعريف العدد ١ بهذه الفئة (فئة الأشياء المتماثلة مع الصفر). أصبح لدينا الآن موضوعان، وعليه يمكننا صياغة المفهوم «متماثل مع صفر أو ١» (باستخدام مفهوم منطقي إضافي، وهو «الفصل المنطقي» في هذه الحالة). وهذا يعطينا فئةً مناظِرة يمكن تعريفها باستخدام العدد ٢، وهكذا. إذَن، بدءًا بالفئة الفارغة وباستخدام المفاهيم المنطقية فقط، يمكننا تعريف جميع الأعداد الطبيعية.

هل يمكن أن توجد مجموعة تتضمن جميع الموضوعات؟

يمنحنا التطرق إلى فكرة الفئة — أو المجموعة أو امتداد المفهوم — نهجًا جديدًا في تناول السؤال الأصلي: كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم؟ إذا كان لهذا السؤال إجابة، فهل يجب أن تكون ثَمَّة مجموعة تتضمن كلَّ الأشياء؟ دعونا نتجاهل المفاهيم ونركِّز على الموضوعات، بما في ذلك الموضوعات المنطقية مثل الفئات أو المجموعات. ودعونا أيضًا نحوِّل حديثنا هنا إلى «المجموعات» بدلًا من «الفئات». (لأغلب الأغراض، قد تعتقد أن المصطلحَين مترادفان. إلا أن واضعي نظرية المجموعات ميَّزوا بين المجموعات والفئات، ولكننا سنتجاهل هذا حاليًّا. وسوف نستخدم كلمة «مجموعة» مع ما نحن بصدد مناقشته الآن). هل توجد مجموعة تتضمن كلَّ الموضوعات؟ من الجلي أنه إذا كانت المجموعات نفسها موضوعات، فستتضمن هذه المجموعة نفسها، ولكن، هل ثَمَّة مشكلة في ذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نتعرف على فكرة «المجموعة الجزئية»، وأن نفهم العلاقة بين المجموعة ومجموعاتها الجزئية.

دعونا نتناول مجموعة مكوَّنة من موضوعَين، والتي يمكننا أن نكتبها على الصورة ، يشير القوسان المعقوفان إلى أن لدينا مجموعة، ويشير الحرفان و إلى عنصرَي هذه المجموعة. كم مجموعة جزئية في هذه المجموعة؟ جرى العُرف أن كلًّا من المجموعة الخالية — تُكتَب على الصورة — والمجموعة نفسها، وهي في هذه الحالة ، يُعَدَّان مجموعة جزئية لأي مجموعة. ويعني هذا أن الإجابة هي أربعُ مجموعاتٍ جزئية: ، ، ، . (يمكنك أن تعتبر المجموعة الجزئية تمثِّل اختيارًا من المجموعة. دعونا نفترض أنه قُدِّمَت إليك كعكتان. يمكنك أن تتناول إحداهما أو الأخرى (ولكن ليس كلتَيهما، من باب التهذيب): هذان خياران محتمَلان. ويمكنك أيضًا ألا تتناول أيًّا منهما (إذا كنت تتبع حميةً غذائية) أو تتناول كلتَيهما (إذا كنت جائعًا للغاية). وعليه، توجد أربعةُ خياراتٍ محتمَلة إجمالًا).
وبالمثل، المجموعة التي تتضمن ثلاثة موضوعات، ، لها ثماني مجموعاتٍ جزئية: ، ، ، ، ، ، ، . الفكرة بوجه عام أن المجموعة التي تتضمن العدد من العناصر لها العدد من المجموعات الجزئية. ولكن، دائمًا ما يكون العدد أكبر من العدد ، وهو ما يعني أنه دائمًا ما يكون هناك عدد من المجموعات الجزئية أكبر من عدد عناصر المجموعة. (كلُّ عنصر بمفرده يُكوِّن مجموعةً جزئية، ويمكن تكوين المزيد من المجموعات الجزئية باستخدام التوافيق). والآن، دعونا نتناول المجموعة التي تتضمن كلَّ الموضوعات؛ أي المجموعة التي تتألف عناصرها من جميع الموضوعات في العالم. إذا كانت المجموعات، بما فيها المجموعات الجزئية، هي نفسها موضوعات، فسيتبيَّن أن ثَمَّة عددًا من موضوعات (أي مجموعات جزئية) أكبر من عدد موضوعات (أي عناصر). إذَن، بدءًا بالمجموعة المؤلَّفة من جميع الموضوعات، يبدو أنه يمكننا إنشاء مجموعة أكبر، المجموعة المؤلَّفة من جميع مجموعاتها الجزئية، والتي تُسمَّى «مجموعة القوى». ولأن ثَمَّة تناقضًا (لا يمكن أن يكون عدد الموضوعات أكبر من عدد موضوعات المجموعة)، فلا يمكن أن توجد مجموعة تتضمن كلَّ الموضوعات. يُسمَّى هذا النوع من الحجة «البرهان بنقض الفَرض»: إذا كان من الممكن استنتاج تناقض من فرضية ما، فهذا يعطينا مسوِّغًا لرفض الفرضية.

ومن ثَم، توفَّرت لنا طريقة أخرى للتصريح بأن ثَمة خطأً في السؤال «كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم؟». حتى وإن كنا نعني بكلمة «أشياء» الموضوعات (بالمعني المناقِض للمفاهيم)، فيبدو أننا لن نتمكَّن من الإجابة عن هذا السؤال، لا سيَّما إذا كانت المجموعات نفسها موضوعات. وبمجرد أن نجمع جميع الموضوعات معًا (في مجموعة) لعَدِّها، يمكننا أن نُنشئ المزيدَ من الموضوعات (من خلال أن نحدِّد المجموعة الجزئية من المجموعة). وثَمَّة إجابة واحدة على ذلك، بلا شك، وهي رفض فرضية أن المجموعات عبارة عن موضوعات. سنعود إلى ذلك مجدَّدًا في الفصل الثاني. ولكن، إذا رفضنا هذه الفرضية، فهل يجوز أن نكوِّن مجموعة تتضمن جميع الموضوعات (أي جمع كلِّ الموضوعات معًا في مجموعة واحدة)؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فهل يمكننا أن نجيب عن السؤال المتعلق بعدد الموضوعات في العالم؟ ألا يمكننا عَدُّها فحسب؟ ولكن، ما الذي يتطلبه ذلك؟ كيف نعدُّها؟ ماذا لو كانت المجموعة ضخمة لدرجة أننا لن نتمكن عمليًّا من عدِّ جميع عناصرها؟ ماذا لو كانت ضخمة لدرجة أننا قد نموت مثلًا قبل أن نُكمل عدَّ عناصرها؟

اللانهائية

بوصولنا إلى هذه المرحلة، قد يبدو أن الإجابة عن السؤال «كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم؟» أصبحت بديهية. ولكن، ألم نفوِّت الإجابة البديهية منذ البداية؟ ألم يكن بإمكاننا أن نقول «إلى ما لا نهاية» أو «عدد لا نهائي»؟ من منطلَق أن ثَمَّة عددًا كبيرًا جدًّا من طرق التفكير في الأشياء (باستخدام المفاهيم)، ألا تُعَدُّ هذه هي الإجابة الوحيدة المحتمَلة؟ إذا كان يمكن عدُّ شيءٍ واحد (كما رأينا سابقًا) على أنه كتاب واحد، أو ١٥٠ صفحة، أو ٣٨ ألف كلمة، أو حتى عدد أكبر من الذرات، أفلا يجدر بنا أن نقول إن ثَمَّة عددًا «لا نهائيًّا» من الأشياء وننتهي من الأمر برُمَّته؟

يُساء استخدام كلمة «لا نهائية» طوال الوقت. فبوصفها إجابة عن الأسئلة المتعلقة بالعدد، يمكنها أن توفِّر طريقةً سريعة ﻟ «تفادي» إجابتها، مثلما هو الحال بأن تجيب بعبارة «في مكان آخر» عن سؤال «أين كنت قبل أن تحمل بي والدتي؟». تساعد هذه الإجابات فقط في تفادي الإحراج الناتج عن عدم معرفتنا بالكيفية الصحيحة للإجابة عن مثل هذا السؤال. لا شكَّ أن كلمة «لا نهائية» تُستخدم أحيانًا بمعنى «كبير جدًّا»؛ كبير لدرجة أن المرء لا يمكنه فعليًّا أن يعد الأشياء المتعلقة به. ويمكننا أن نُطلِق على هذا المعنى الفضفاض للكلمة. ولكن، للكلمة معنًى آخر أكثر تحديدًا قد يعني به المرءُ أن ثَمَّة عددًا «لا نهائيًّا» من الأشياء.

دعونا نتناول مجموعة الأعداد الطبيعية الآتية: . في هذه المجموعة، يمكننا القول إن ثَمَّة عددًا «لا نهائيًّا» من هذه الأعداد. فيمكن مدُّ هذه المتسلسلة من الأعداد الطبيعية إلى ما لا نهاية؛ بالنسبة إلى أي عدد في هذه المتسلسلة، يمكن الحصول على العدد التالي بإضافة العدد واحد، العملية التي يمكن تَكرارها إلى ما لا نهاية. من شأن هذه العملية أن توفِّر لنا نموذجًا محدَّدًا لاستخدام مصطلح «ما لا نهاية» بمعناه المُحدَّد. يتماثل قولنا إن مجموعةً تتألف من عدد لا نهائي من العناصر مع قولنا إن المجموعة تتألف من عدد عناصر مُماثِل لعدد عناصر مجموعة الأعداد الطبيعية.

ولكن، كيف يمكننا أن نحكم على تماثُل الأعداد؛ أي على اشتمال مجموعتَين على العدد نفسه من العناصر؟ في حالة المجموعات المنتهية الصغيرة نسبيًّا، يمكننا أن نعُدَّ عناصر كلٍّ منها ونرى إذا ما كنا سنحصل على الناتج نفسه. أما في حالة المجموعات الكبيرة نسبيًّا، سواءٌ كانت نهائية أو لا نهائية، فلن يمكننا عدُّ عناصرها. كيف يمكننا المقارنة بينها إذَن؟ دعونا نتناول ما أصبح يُطلَق عليه حاليًّا «مفارقة جاليليو» (مربع ١). ما الإجابة التي ستجيب بها؟

مربع ١: مفارقة جاليليو

قارن بين المجموعتَين الآتيتَين، مجموعة الأعداد الطبيعية ومجموعة الأعداد المربعة:

أيُّ المجموعتَين أكبر، أم إنهما متساويتان في عدد العناصر؟ من ناحية، يبدو أن المجموعة الأولى أكبر؛ لأنها تتألف من جميع الأعداد الموجودة في المجموعة الثانية ويزيد. ومن ناحية أخرى، لكل عنصر من عناصر المجموعة الأولى عنصرٌ مُناظِر في المجموعة الثانية، والعكس صحيح، فهل من المؤكَّد إذَن أن المجموعتَين تتألفان من العدد نفسه من العناصر؟

يبدو أنَّ حدسنا حِيالَ ما سنقوله عن ذلك سيتضارب. ما يحدث في هذه الحالة هو أن لدينا معيارين لتماثُل العدد ينهاران في حالة المجموعات غير المنتهية. في أحد المعيارين، تكون المجموعتان متساويتَين في عدد العناصر إذا لم تكن أيٌّ منهما أكبر من الأخرى، وتعني عبارة «أكبر من» أن المجموعة دائمًا ما تكون أكبر من أيٍّ من مجموعاتها الجزئية الفعلية (كلمة «الفعلية» تستثني الحالة التي تكون فيها المجموعة الجزئية هي المجموعة نفسها). وفي المعيار الآخر، تكون المجموعتان متساويتَين في عدد العناصر إذا كان ثَمَّة ترابُط أحادي (واحد إلى واحد) بين كل عنصر وآخر من عناصرها. في حالة المجموعات المنتهية، يُعطي هذان المعياران النتيجةَ نفسها. دعونا نتناول، على سبيل المثال، مجموعة الأعداد الطبيعية حتى العدد ٢٥ (متضمِّنًا إياه) ومجموعة الأعداد المربعة حتى العدد ٢٥ (متضمِّنًا إياه). من الجلي أن المجموعة الأولى أكبر من المجموعة الثانية؛ فالمجموعة الثانية مجموعةٌ جزئية فعلية من المجموعة الأولى. ولا يمكن أن تكون علاقة الترابط بين المجموعتَين واحدًا إلى واحد. إذَن، المجموعتان لا تشتملان على العدد نفسه من العناصر.

أما في حالة المجموعات غير المنتهية، فإنَّ كلا المعيارَين ينهار. مجموعة الأعداد المربعة هي مجموعةٌ جزئية فعلية من مجموعة الأعداد الطبيعية، إلا أنه يمكن أن توجد علاقة ترابُط واحد إلى واحد بين عناصر المجموعتَين. ومن ثَم، علينا أن نقرِّر أيًّا من المعيارَين هو المعيار الرئيسي. وإذا قرَّرنا أنه المعيار الأول، فسيتبع ذلك على الفور أن المجموعات غير المنتهية لها كثير من الأحجام المختلفة. ولكن، كيف يمكننا بالضبط ترتيبها طبقًا للحجم؟ يبدو أنه من الأسهل كثيرًا استخدام المعيار الثاني. من وجهة النظر هذه، نجد أن المجموعتَين اللتين تناولناهما للتوِّ تتألفان من العدد نفسه من العناصر؛ لأن هذه العناصر يمكن أن يوجد بينها ترابط أحادي.

إذا استخدمنا المعيار الثاني، فسيبدو أنه يمنحنا إجابة محتمَلة عن السؤال الخاص بعدد الأشياء في العالم. ثَمَّة عددٌ «لا نهائي» من الأشياء في العالم، وهذا يعني وجود عدد من الأشياء مساوٍ لعدد الأعداد الطبيعية. ولكن، يُجيز هذا التصوُّر أن تكون مجموعة الأشياء إما «أكبر من» وإما «أصغر من» مجموعة الأعداد الطبيعية، وفقًا لمفهوم المعيار الأول. هل ازدَدْنا فهمًا إذَن؟

ما بعد اللانهائية

تناولنا مجموعة الأعداد الطبيعية ووجدنا، ربما على العكس مما هو متوقَّع، أن عدد العناصر الذي تتألف منه هذه المجموعة مساوٍ لعدد عناصر مجموعة الأعداد المربعة، حتى إن كانت المجموعة الثانية «أصغر» وفقًا لأحد المعاني. ولكن، هل توجد مجموعات «أكبر» من مجموعة الأعداد الطبيعية، بمعنى أن توجد مجموعة تكون مجموعة الأعداد الطبيعية مجموعةً جزئية فعلية منها؟ الإجابة، بالطبع، هي نعم. أحد الأمثلة على هذه المجموعات هي مجموعة الأعداد النسبية الموجبة؛ أي مجموعة الأعداد على الصورة ، حيث و عددان طبيعيان (باستثناء أن ). لا تشمل هذه المجموعة جميع الأعداد الطبيعية فحسب، بل تشمل أيضًا جميع الأعداد النسبية الموجبة، مثل ١ / ٢ و  و   وما إلى ذلك. وعليه، من الجلي أنها «أكبر». وبالطبع، قد تبدو هذه المجموعة أكبر إلى «ما لا نهاية»؛ وذلك لأنه يوجد بين أي عددَين طبيعيين عددٌ لا نهائي من الكسور، ويتكرر ذلك لعدد لا نهائي من المرَّات. وعليه، قد نعتقد أنَّ لدينا في هذه الحالة لا مُتناهيًا × لا مُتناهٍ.
ومع ذلك، يمكن إثبات أن مجموعة الأعداد الطبيعية ومجموعة الأعداد النسبية الموجبة تتألفان فعليًّا من العدد نفسه من العناصر؛ بمعنى أنه توجد بينها علاقة ترابط أحادي. وتوضيحًا لذلك، دعونا نمثِّل الأعداد النسبية الموجبة في جدول (شكل ١-١).
fig1
شكل ١-١: تحديد علاقة الترابط بين الأعداد الطبيعية والأعداد النسبية.
بافتراض أن هذا الجدول يمكن أن يمتد إلى ما لا نهاية، كما تشير علامات الحذف، فمن الجلي أن جميع الأعداد النسبية الموجبة يمكن تمثيلها بهذه الطريقة. ومما لا شك فيه أنه باتباع هذه الطريقة يُمثَّل كلُّ عدد نِسبي أكثر من مرة؛ ذلك أن ٢ / ٢ يكافئ ١ / ١. على سبيل المثال. جميع التكرارات اللاحقة للأعداد النسبية مكتوبة بخطٍّ عريض في شكل ١-١.
والآن، لعلنا نذكر أن أيَّ مجموعتين ستتألفان من العدد نفسه من العناصر (طبقًا للمعيار المُفضَّل) إذا كان بين عناصر كلِّ مجموعة علاقةُ ترابط أحادي. وعليه، تخيَّل قراءة الجدول في شكل ١-١ طبقًا لاتجاه الأسهم، والعدَّ بالطريقة المعتادة: ١، ٢، ٣، ٤، ٥، وهكذا. إذا تجاهلنا جميع الأعداد المائلة، فسيُتاح لنا تحديد علاقة الترابط بين جميع الأعداد النسبية الموجبة والأعداد الطبيعية. إذَن، المجموعتان تشتملان حقًّا على العدد نفسه من العناصر. إنه لأمرٌ رائع أن يكون عدد الأعداد النسبية مساويًا لعدد الأعداد الطبيعية.
والآن، دعونا نتناول مجموعة الأعداد الحقيقية. تشمل هذه المجموعة كلًّا من الأعداد النسبية والأعداد غير النسبية. والأعداد غير النسبية هي الأعداد التي لا يمكن التعبير عنها في صورة كسور، مثل ، ، . هل تتألف مجموعة الأعداد الحقيقية من العدد نفسه من العناصر مثل مجموعة الأعداد الطبيعية؟ بوصولك إلى هذه المرحلة قد لا تكون لديك أدنى فكرة عما عليك قوله: يبدو أن «الحدس» الذي لديك حيالَ هذه الأمور قد أثبت بالفعل أنه غير موثوق. فهذه المجموعة أكبر بكثير بكل تأكيد، ولكن ينطبق الحال نفسه على مجموعة الأعداد النسبية.

في الواقع، يمكن إثبات أن مجموعة الأعداد الحقيقية أكبر «فعليًّا» من مجموعة الأعداد الطبيعية، حتى في ضوء معيار الترابط الأحادي. ولتوضيح ذلك، دعونا نضع فرضية أن المجموعتَين «يمكن» أن تكون بينهما علاقة ترابط، ونرى إذا ما أمكنَّا استخراج تناقض من هذه الفرضية. تخيَّل أيضًا أن الأعداد الحقيقية مُعبَّر عنها بالترميز العَشري. ولا تهمُّ كيفية ترتيب الأعداد الحقيقية طالما ضمَمْنا إلى كل عدد طبيعي عددًا حقيقيًّا مختلفًا. وعليه، تخيَّل أن المجموعتَين يمكن تكوين علاقة ترابط بينهما كالآتي:

إذا كانت الفرضية صحيحة، فإن كلَّ عدد حقيقي لا بد أن يكون ممثَّلًا في هذا الجدول، وهو ما يعني أنه سيمتد بالفعل إلى ما لا نهاية. ولكن، ليس من السهل أن نُكوِّن عددًا حقيقيًّا «ليس» مُدرَجًا في العمود الثاني. وثَمَّة طريقة لتحقيق ذلك، وهي أن نأخذ الرقم الأول في الصف الأول ونضيف إليه واحدًا (١ ٢)، والرقم الثاني في الصف الثاني ونضيف إليه واحدًا (٣ ٤)، والرقم الثالث في الصف الثالث ونضيف إليه واحدًا (٤ ٥)، إلى آخره، فنحصل في هذه الحالة على العدد …٢٫٤٥٩٣٨ ومن الواضح أن هذا العدد يختلف عن جميع الأعداد في هذه القائمة ولو بمنزلة عشرية واحدة على الأقل. ويمكننا أن نفكِّر في هذا العدد على أننا حصلنا عليه عن طريق رسم خط «قطري» عبر العمود الثاني من الجدول، ويبدو أن ثَمَّة عددًا لا نهائيًّا من هذه الخطوط القطرية التي يمكن رسمها، وكلٌّ منها يمكن أن يُنتج عددًا حقيقيًّا ليس مُدرَجًا في القائمة. وعليه، فإن الفرضية التي تقول إن مجموعة الأعداد الحقيقية يمكن أن تكون لها علاقة ترابط أحادي مع مجموعة الأعداد الطبيعية فرضيةٌ كاذبة؛ ذلك أن عدد الأعداد الحقيقية «أكبر» من عدد الأعداد الطبيعية. وثَمَّة طريقة أخرى للتعبير عن ذلك، وهي أن نقول إن الأعداد الحقيقية «غير قابلة للعَد»، أو بعبارة أخرى، لا يمكن عدُّها.
لا يقل هذا البرهان روعةً عن سابقه. يُطلَق على هذا البرهان حاليًّا اسم حجة كانتور القطرية، تيمنًا بعالِم الرياضيات الألماني جورج كانتور (١٨٤٥–١٩١٨)، الذي طرحها للمرة الأولى عام ١٨٩١. إن نتيجة هذا البرهان رائعة حقًّا؛ يوجد فعلًا أكثر من حجم واحد للانهائية. وأطلقَ كانتور على هذه «اللانهائيات» مصطلح «الأعداد فوق المنتهية». سُمِّي العدد فوق المنتهي الأول «ألِف–صفر» (ألِف هو الحرف الأول في الأبجدية العبرية)، ويُكتَب على النحو الآتي . هذا هو العدد الذي يجيب عن السؤال: كم يبلغ عدد الأعداد الطبيعية الموجودة في العالم؟ والعدد فوق المنتهي التالي هو «ألِف – واحد»، ويُكتَب على النحو الآتي . وهذا هو العدد الذي يجيب عن السؤال: كم يبلغ عدد الأعداد الحقيقية الموجودة في العالم؟
بدءًا بالعددَين و ، وضَّح كانتور كيف يمكن إنشاء متسلسلة كاملة من الأعداد فوق المنتهية، كلٌّ منها أكبر من سابقه. بدأنا بفكرة أن هناك «لا نهائية» واحدة فقط؛ وإذا كان كانتور محقًّا، فثَمَّة «عدد لا نهائي من اللانهائيات» — أو بتعبير أدق، عدد لا نهائي من نطاق العدد فوق المنتهي الأول . تتسم تفاصيل هذا الموضوع بمزيد من التعقيد؛ ولذا سننهي رحلة الفِكْر والتفكير عبر اللانهاية عند هذه النقطة. وخلاصة الأمر أنه من خلال السعي إلى توضيح مفهومنا المعتاد عن اللانهائية، يمكننا أن نصل إلى مفهوم أدق للعدد فوق المنتهي.

كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم إذَن؟

اعتقدنا أنَّ لدينا إجابةً سهلة عن السؤال حول عدد الأشياء الموجودة في العالم، وهي اللانهائية. ولكننا اكتشفنا حاليًّا أن هذا المفهوم له كثير من المعاني. حتى وإن تجاهلنا معناه الفضفاض، فثَمَّة عدد لا نهائي من المعاني التي يمكننا تحديدها، بدايةً بالعدد فوق المنتهي الأول، ، فصاعدًا. وعليه، أصبحنا لا نعلم حاليًّا ما ينبغي قوله للإجابة عن هذا السؤال. حتى لو كان هناك «عدد لا نهائي» من الأشياء، فهل هو العدد ، أم العدد ، أم عدد أكبر منهما؟ وإذا كانت اللانهائية هي العدد ، فسيمكننا عدُّ هذه الأشياء، أما إذا كان عددًا أكبر، فلن يمكننا عدُّها. وإذا كانت الأعداد الطبيعية هي نفسها «أشياء»، فعلى أقل تقدير ثَمَّة عدد من الأشياء، ولكن إذا كانت المجموعات «أشياء» أيضًا، فلن يكون ثَمَّة عدد أكبر بكثير من هذا العدد فحسب، بل إننا لن نكون على يقين من الإجابة التي نعطيها. لقد قطعنا شوطًا طويلًا للغاية ببلوغ هذه النقطة.
بدأنا بسؤال بسيط وانتهينا إلى بعض النتائج الجديرة بالملاحظة. ولكن، إجابةً عن هذا السؤال، لا يزال أمامنا شوطٌ طويل للتأكيد على أننا بحاجة ماسة إلى تحديد «نوع الأشياء» الذي نقصده بطرح هذا السؤال. إذا كنا نقصد الأعداد الطبيعية، فسيمكننا إعطاء إجابة قاطعة: . وإذا كنا نقصد الأعداد الحقيقية، فسيمكننا أيضًا إعطاء إجابة قاطعة (ولكن مختلفة): . وإذا كنا نعني نوعًا محددًا من الأشياء العادية المنتهية، مثل الكتب أو المقاعد أو الخلايا، فقد نضطر إلى عدها أو إيجاد طريقة ملائمة لحساب عددها أو تقديره. ولكن، لا يسمح السؤال البسيط «كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم؟» بأن تكون له إجابة بسيطة من دون تحديد المفهوم أو المفاهيم ذات الصلة التي يمكننا أن نفكِّر في الأشياء باستخدامها.
ومثلما أشرنا في المقدمة، ما هذا السؤال سوى مثال واحد على الأسئلة الفلسفية النموذجية. قد لا يكون لمثل هذه الأسئلة إجابة مباشرة، ولكن خلال محاولة إجابتها أو إيضاح السبب وراء كونها مستعصية على الإجابة بطريقة مباشرة أو حتى سبب كونها «بلا معنًى»، علينا أن نُجري «تحليلًا» — ويعني هذا، أولًا وقبل كل شيء، تحديد معانيها المحتمَلة وتقديم مفاهيم جديدة لإسباغ مزيد من الدقة والتحديد على هذه المعاني، إذا استلزم الأمر. من السهل دائمًا أن نعطي إجاباتٍ بسيطةً على غرار «لا نهائية»، ولكن عندما نحلِّل مثل هذه المصطلحات، نجد عادةً أن المسائل أكثر تعقيدًا بكثير مما تبدو عليه للوهلة الأولى. وقد نُضطر إلى أن نستوضح مجموعة كبيرة من الأمور الأخرى، وقد نحتاج إلى ابتكار مصطلحات جديدة، مثل «العدد فوق المنتهي»، ، وما إلى ذلك، لكي نفعل ذلك. وهذا ما يجعل التحليل صعبًا، وفي الوقت نفسه ممتِعًا ومثمِرًا. ليس التحليل بمسألة بسيطة تتعلق ﺑ «الحل» أو «الفَصل». فالإبداع على مستوى المفاهيم مطلوبٌ لتقديم المفاهيم المناسبة، التي تفتح المجال أمام أنواع وإمكاناتٍ جديدة من التفكير.

إنَّ نوع التحليل الذي تناولناه بالشرح في هذا الفصل هو ما ألهَم، ولا يزال يُلهِم، تطوُّر الفلسفة «التحليلية». تناولنا في هذا الفصل مفاهيم على غرار «شيء»، و«موضوع»، و«مفهوم»، و«مجموعة»، و«عدد»، و«لا نهائية». إلا أن ثَمَّة مفاهيم أخرى مهمة مثل «الوجود»، و«المعنى»، و«الإدراك»، و«الفِكْر»، و«الإله»، و«الخير»، ناهيك عن مفهوم «التحليل» نفسه، الذي يتطلب توضيحه تحليلًا أيضًا. وسنتناول بعضًا من هذه المفاهيم في الفصول الآتية. وسنُلقي المزيد من الضوء على الإبداع على مستوى المفاهيم الذي يشكِّل جوهر التحليل المُثمِر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤