الفصل الخامس

كيف نفكِّر بوضوح أكبر؟

تُولي الفلسفة التحليلية مسألةَ الوضوح عنايةً كبيرة. ولكن، ماذا يعني «الوضوح» وكيف يمكننا أن نفكِّر بوضوح أكبر؟ وكيف يرتبط الوضوح بخصال الفلسفة التحليلية الأخرى؟ ذكرتُ، في مقدمة هذا الكتاب، أنَّ الدقة والصرامة خصلتان أُخريان كان يُنظَر إليهما على أنهما من سمات الفلسفة التحليلية. وأشرتُ إلى أن الإبداع والفاعلية والمنهجية من ضمن خصالها أيضًا، من خصال أفضل فلسفة تحليلية على أقل تقدير، وكنت مهتمًّا بوجه خاص بتوضيح كيف أن الفلسفة التحليلية إبداعية من الناحية المفاهيمية. كيف يرتبط الوضوحُ إذَن بهذا كله؟

تقييم الوضع

إحدى الطرق المتبَعة في توضيح الأمور هي تقييم الوضع. دعونا نرَ إذا كان في مقدورنا البدء في الإجابة عن هذه الأسئلة بمراجعة بعض الأفكار التي ناقشناها حتى الآن في هذا الكتاب. دعونا نعُدْ أولًا إلى أحد المفاهيم التي تحدَّثنا عنها في الفصل الأول. هل نفكِّر في اللانهائية بوضوح؟ من المؤكَّد أن مفهوم اللانهائية يُحتكم إليه في عملية التفكير العادي. ولكن، عندما نتأمَّل المجموعات غير المنتهية، ندرك أنها ليست بسيطة، بأي حال من الأحوال، كما كان يُفترض. وسواءٌ كنت مقتنِعًا بالحُجج التي قُدِّمَت للتعريف بالأعداد فوق المنتهية أم لا، آملُ أنَّ الفكرة العامة قد وصلتك على أقل تقدير؛ وهي أن ثَمَّة معايير عديدة لاستخدام مفهوم بعينه، وأنَّ هذه المعايير يمكن أن تنهار في الحالات غير القياسية، ومن هنا طرأت الحاجة إلى استحداث مفاهيم جديدة أو مُعدَّلة. وعليه، توجد طريقة للتفكير بوضوح أكبر؛ وهي فهم المعيار المُتضمَّن في استخدامنا للمفاهيم؛ ومن ثَم، إدراك احتمالية وجود مفاهيم أكثر تحديدًا تستلزم التمييز.

يمكننا أن ندرك على الفور مدى ارتباط الوضوح بالإبداع في هذا النوع تحديدًا من الحالات؛ يمكن تحقيق وضوح أكبر في تفكيرنا عن طريق الإبداع المفاهيمي المُتضمَّن في تقديم المفاهيم الأدق. وكون هذه المفاهيم الجديدة أدق من شأنه أن يُبرِز أيضًا خصلة دقة التعبير؛ يمكننا — من خلال الإلمام بالفروق الدقيقة — التعبيرُ عمَّا نعنيه بدقةٍ أكبر. عندما نتناول مجموعتَين تشتملان على العدد نفسه، فيمكن القول إنَّ ما نعنيه هو إمكانية وجود علاقة ترابط أحادي بين عناصرهما، على سبيل المثال. ويمكننا أن نرى في هذه الحالة أيضًا العلاقة بين خصلتَي الوضوح والدقة؛ يتجلَّى وضوح التفكير في دقة التعبير.

ثَمة ارتباطٌ وثيق بين فهم معايير استخدام المفاهيم وإدراك نطاق وقيود استخدامها؛ الأمر الذي يمكن أن نحقِّق فيه أيضًا وضوحًا أكبر من التفكير. رأينا هذه النقطة في مناقشتنا عن مفارقة راسل في الفصل الثاني، وكذلك رد فيتجنشتاين على الحلِّ الذي اقترحه راسل لمفارقته، متمثِّلًا في نظرية الأنماط، في الفصل الرابع. في العادة، لا تنطبق المفاهيم بمشروعية إلا ضمن نطاق معيَّن، وفي حال توفُّر شروط معيَّنة فحسب؛ مفهوم الجوع، على سبيل المثال، ينطبق فقط (بمعناه الحرفي) على نوعٍ معيَّن من الموضوعات، وهو الحيوانات. وأيُّ تطبيق له خارج هذا النطاق مآله إلى اللامعنى. في هذه الحالة، قد نشعر بأن ثَمَّة حالة من الخلط المستمر بين الوضوح والإبداع؛ ذلك أن تطبيق المفاهيم «خارج» نطاقها المعتاد قد يُنظَر إليه على أنه ضربٌ من الإبداع. وقد نُجيب باختصار عن هذا السؤال من خلال الإقرار بأنَّ المعنى يمكن إثباته أحيانًا «باستخدام» اللامعنى، إلا أنَّ من الضروري فهم كيفية إثبات هذا المعنى إذا كنا بصدد التفكير بوضوح في الأمر.

ومع ذلك، تتجلَّى أقوى علاقة بين الوضوح والدقة والإبداع في الدور الذي يلعبه التحليلُ التفسيري. أوضحتُ، في الفصل الثالث، الطريقة التي يصبح بها التحليلُ التفسيري «تحويليًّا»؛ يمكننا التفكيرُ بوضوح أكبر في المعنى المقصود من خلال إعادة صياغة الجُمل باستخدام مصادر مفاهيمية أكثر ثراءً، أو بفهم كيفية صياغة الجُمل على النحو الذي يحقِّق ذلك. كما يقترح تحليل فريجه للقضايا الوجودية والعددية ونظرية راسل للأوصاف، ما قد يبدو وكأنه يتعلق بالموضوعات قد يتبيَّن أنه يتعلق «في الحقيقة» بالمفاهيم. وفي هذه الحالة، يلتقي الوضوح والدقة والإبداع.

لم أتحدَّث بما يكفي بَعدُ عن الخصال الأخرى المذكورة أعلاه: الدقة، والفاعلية، والمنهجية. ترتبط الفاعلية ارتباطًا وثيقًا بالإبداع، وتُعَدُّ دقة «المحاجَّة» والمنهجية أقربَ إلى سمات النظريات منهما إلى سمات التحليلات الفردية. وسنعود إلى ذلك بعد قليل.

التعريف بسوزان ستيبينج

نشرت ليزي سوزان ستيبينج (١٨٨٥–١٩٤٣) ما أصبح في نهاية المطاف المرجعَ الأول للفلسفة التحليلية عام ١٩٣٠، وكان دورها في الترويج لتطوُّر الفلسفة التحليلية في بريطانيا متفوقًا على مَن عداها. وُلدَت سوزان ستيبينج في لندن، وتلقَّت تعليمها في كلية جيرتون بجامعة كامبريدج، وكلية الملك في لندن، وعملت بالتدريس في كلٍّ من كامبريدج ولندن لبقية حياتها. في ١٩٣٣، كانت المرأة الأولى التي تعمل أستاذًا في الفلسفة في بريطانيا، وشغلت أيضًا منصب رئيس الجمعيتَين الفلسفيتَين الرئيسيتَين في بريطانيا، الجمعية الأرسطية (في ١٩٣٣–١٩٣٤) وجمعية العقل (في ١٩٣٤–١٩٣٥). كما شاركت عام ١٩٣٣ في تأسيس مجلة «أناليسيز»، التي ظلت واحدةً من المطبوعات الرئيسية في مجال الفلسفة التحليلية حتى يومنا هذا، كما لعبت دورًا مهمًّا في دعوة الأعضاء الرئيسيين في حلقة فيينا إلى بريطانيا والحث على مناقشة أفكارهم. كما سنرى في الفصل السادس، تطوَّرت الفلسفة التحليلية لتصبح ما هي عليه الآن — من خلال التوفيق بين أفكار راسل ومور وفيتجنشتاين في بريطانيا، والمنطق التجريبي لفلاسفة حلقة فيينا، بما لهما من جذور في أعمال فريجه السابقة، وذلك على الرغم من التوتر الإبداعي والنقدي بينهما.

وفقًا لما قالته ستيبينج عن نفسها، فإن ما «حدا» بها إلى الفلسفة التحليلية هو تعليق مور على ورقة بحثية قرأتها على مسامع الجمعية الأرسطية عام ١٩١٧، وظلَّت على تواصل مع مور لبقية حياتها. نُشر كتابُها، «مقدِّمة حديثة إلى المنطق»، عام ١٩٣٠. تناولَ الكتابُ، فيما يزيد على ٥٠٠ صفحة، كثيرًا من الموضوعات التي أصبحت الآن وثيقة الصلة بالفلسفة التحليلية، مثل طبيعة المنطق، والاستدلال المنطقي، وتحليل القضايا، ونظرية الأوصاف، والمنهج العلمي (فيما يتعلق، على سبيل المثال، بالسببية والاستقراء)، والتعريف، والتجريد. وسرعان ما برهنَ الكتابُ على أنه دليلٌ إرشادي للتطوُّرات الجديدة، ونُشرت الطبعة الثانية منه عام ١٩٣٣. خاطبت كتبُها اللاحقة جمهورًا أعرض. فقد نشرت كتابَين عن المنطق أقصر من الكتاب الأول، وهما «تطبيق المنطق» (١٩٣٤) و«علم المنطق الأولي الحديث» (١٩٤٣)، وكتابَين يستحقان أن يُقال عنهما إنهما من أوائل الكتب عن التفكير النقدي، وهما «الفلسفة والفيزيائيون» (١٩٣٧) و«التفكير لغرضٍ معيَّن» (١٩٣٩)، وكلاهما من إصدارات دار نشر بنجوين. وتُوفِّيت ستيبينج في سبتمبر ١٩٤٣.

هل يوجد تصوُّر معقول للميتافيزيقا؟

كانت ستيبينج من أوائل الفلاسفة الذين ردوا على الهجوم الجماعي الذي شنَّه التجريبيون المنطقيون على الميتافيزيقا. ونصَّ انتقادُها الرئيسي على أن أي وجهة نظر فلسفية — بما في ذلك التجريبية المنطقية نفسها — تضع افتراضاتٍ مُسبقة، والميتافيزيقا ليست استثناءً في ذلك. افترضَ فريجه أن ثَمَّة فارقًا أساسيًّا بين الموضوعات والمفاهيم، على سبيل المثال، ووجدَ فيتجنشتاين نفسه يُقرُّ بأنَّ العالَم مكوَّن من موضوعاتٍ بسيطة «يجب» أن تكون موجودة لضمان استخدامنا للُّغة بطريقة ذات معنًى. ووضعت التجريبية المنطقية أيضًا افتراضاتٍ مسبقة معيَّنة، والتي لم تكن أيضًا بمنأًى عن إثارة الجدل. إليك، على سبيل المثال، الادعاء بأن ثَمَّة اختلافًا قاطعًا بين الحقائق التحليلية والتركيبية. هل هذه حقيقة تحليلية أم تركيبية؟ يبدو أنها ليست حقيقية طبقًا لمعنى «التحليلي» و«التركيبي» (إلا إذا عُرِّف معنى «التركيبي»، دون جدوى، بأنه معنًى «غير تحليلي»)، كما أنها ليست حقيقية تجريبية. وثَمة افتراض أيضًا بوجود فارق بين مسائل «المعنى» ومسائل «الحقيقة»، يبدو شبيهًا بنوعية الافتراضات الميتافيزيقية التي يجدر بالتجريبيين المنطقيين انتقادُها.

كانت ستيبينج أمينةً في تقييمها لمنهجها الفلسفي المتأثِّر بمور. فخلال محاولتها توضيح افتراضاته المسبقة، استنتجت أنَّ هذه الافتراضات أيضًا لا يمكن تبريرها. وعلى غرار ما فعلَ فيتجنشتاين، أدركت ستيبينج أنَّ هذا المنهج قد افترضَ مسبقًا، على وجه الخصوص، أنَّ أيَّ تحليل لا بد أن يركن في نهاية المطاف إلى مجموعة من الوقائع أو الحقائق الأساسية. ولكن، مع احتدام الجدل في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين حول ماهية هذه الحقائق الأساسية، ظلَّ الشكُّ يتزايد فيما إذا كان من الممكن الوصول إلى هذا المستوى المطلق أم لا. وكردَّة فِعل على ذلك، رسمت ستيبينج — وآخرون غيرها — خطًّا فاصلًا بين التحليل المنطقي أو تحليل «المستوى نفسه» والتحليل الميتافيزيقي أو تحليل «المستوى الجديد».

دعونا نتناول أحد أمثلة ستيبينج: «كلُّ عالِم اقتصاد غيرُ معصوم من الخطأ» (الحقيقة التي تنطبق على عصرنا الحالي أكثر من أي وقتٍ مضى!). يمكن صياغة هذه الجملة في المنطق على الصورة (بالنسبة إلى جميع قيم ، إذا كان عالِم اقتصاد، فسيكون غير معصوم من الخطأ) — لهذه الجملة نفس الصيغة المنطقية للجملة «جميع الخيول حيوانات»، التي تناولناها في الفصل الثاني. تعطينا هذه الصيغة «تحليلًا منطقيًّا»، ولكن ربما يظل السؤال مطروحًا حول ماهية الحقائق الأساسية التي تجعل مثل هذه القضية صادقة. ثَمَّة إجابة واحدة محتمَلة لهذا السؤال، وهي أن ننظر إلى هذه القضية على أنها قابلة للاختزال لتصبح مجموعة من الحقائق المحدَّدة على غرار أنَّ كارل ماركس غير معصوم من الخطأ، وجون مينارد كينز غير معصوم من الخطأ، ومحمد يونس غير معصوم من الخطأ، وما إلى ذلك. وسيعطينا هذا «تحليلًا ميتافيزيقيًّا». يُعَدُّ التحليل المنطقي تحليلًا «من المستوى نفسه»؛ لأنه لا يعطينا إلا صياغةً مكافئة (افتراضيًّا). أما التحليل الميتافيزيقي، فيُعَدُّ تحليلَ «مستوًى جديد»؛ لأنه يوضِّح لنا (افتراضيًّا) «الوجهة» التي سيُنظَر إلى القضايا على أنها تشير إليها في نهاية المطاف.

برسم هذا الخط الفاصل، أصبح من المستحيل رفضُ التحليل الميتافيزيقي مع قبول التحليل المنطقي في آن واحد. وعليه، لم تعد الشكوك المتعلقة بالتحليل الميتافيزيقي تؤثِّر على مشروعية التحليل المنطقي. دعونا نتذكَّر واحدًا من أوائل الأمثلة التي تناولناها في هذا الكتاب، لنفترض أن شخصًا يتساءل في حيرةٍ كيف يمكننا القول بأنَّ أحادي القرن لا وجودَ له. قد يكفي أن نوضِّح أن ما نعنيه «فعليًّا» هو أنَّ مفهوم «أحادي القرن» ليس مُمثَّلًا، ولن نُضطر إلى إجراء أي تحليل ميتافيزيقي «أعمق». ولكن، يمكننا أيضًا أن نعطي دورًا متواضعًا للتحليل الميتافيزيقي بالإشارة إلى أنَّ التحليل الذي نُجريه يتعلق بأغراضٍ معيَّنة نقصدها. على سبيل المثال، الحديثُ عن لجنةٍ ما يمكن اختزاله إلى الحديث عما يفعله كلُّ فرد من أعضاء هذه اللجنة، دون الحاجة إلى تفسير إضافي لما يعنيه كونه فردًا. بعبارة أخرى، كلُّ ما نحتاج إليه هو تطبيقُ التحليل بالقدر الكافي لحل مشكلة بعينها؛ إذ يمكننا أن نرفض فكرة وجود ما يُدعى التحليل «المطلق». كان هذا هو المنهج الذي اتبعته ستيبينج في أعمالها الأخيرة، ويبدو أنه يقدِّم وجهةَ نظرٍ معقولة عن الميتافيزيقا.

التفكير لغرضٍ معيَّن

تأمَّلْ مثالًا ضربته ستيبينج خلال مناقشةِ ما أسمته «التفكير التأمُّلي» — وهو على النقيض من «أحلام اليقظة العقيمة» — في الفصل الأول من كتاب «مقدِّمة حديثة إلى المنطق». كان شخصٌ لا يستطيع السباحة جالسًا على صخرة على الساحل مستغرِقًا في أحلام اليقظة، عندما سمعَ شخصًا يصيح فيه ليخبره بأن المدَّ آخذٌ في الارتفاع، وأنْ لا سبيلَ أمام عودته إلى الشاطئ. وبما أنَّ هذا الشخص يُدرك أنه لا يستطيع السباحة، نظرَ إلى أعلى ليرى مدى الارتفاع الذي يمكن أن يصل إليه أعلى الصخور. وأدركَ من آثار الطحالب الخضراء على الصخور الارتفاعَ الذي قد يصل إليه الماء، ورأى حافةً ناتئةً أعلى الصخور ستوفِّر له ملاذًا آمنًا، فقرَّر أن يتسلَّق الصخرة إلى هذه الحافة. كتبت ستيبينج أنَّ هذا التفكير التأمُّلي «مُوجَّه»؛ إنه يهتم في الأساس بحلِّ مشكلةٍ ما في هذه الحالة، وهي كيفية تفادي الغرق. ويُعَدُّ أيضًا تفكيرًا «منطقيًّا»؛ فهو ينتقل، على نحو مشروع، من مقدِّماتٍ مثل «المدُّ آخذٌ في الارتفاع»، و«لا أستطيع السباحة»، و«موقعي الآن أدنى أعلى نقطة لمنسوب المياه على الصخور»، و«هذه الحافة الناتئة على ارتفاع يفوق أعلى نقطة لمنسوب المياه»، إلى الاستنتاج «يجب أن أتسلَّق الصخور وصولًا إلى هذه الحافة».

في كتابها التالي، تحدَّثت ستيبينج بإسهاب عن التفكير «القصدي» أكثر مما تحدَّثَت عن التفكير «المُوجَّه»، إلا أن الفكرة لم تتغير، وأصبحت موضوعًا استرشاديًّا في جميع كتاباتها اللاحقة. في الواقع، «التفكير القصدي» هو عنوان الفصل الأول من كتاب «تطبيق المنطق»، وهو عبارة عن مقدِّمة قصيرة جدًّا وغير متخصِّصة (١٠٠ صفحة) عن المنطق والتفكير النقدي نُشر عام ١٩٣٤. بدأت ستيبينج هذا الفصل بوصف التفكير القصدي بأنه «تفكيرٌ مُوجَّه للإجابة عن سؤالٍ مُلحٍّ باستمرار»، ويتخطَّى هذا لتفسير ما يتضمَّنه هذا التفكير عادةً. تتجلَّى هذه الفكرة أيضًا في عنوان الكتاب الذي ربما كان أشهرَ كتبها، «التفكير لغرضٍ معيَّن»، الذي نُشر عشيةَ اندلاع الحرب العالمية الثانية. كتبت ستيبينج في هذا الكتاب أن التفكير الفعَّال هو التفكير لغرضٍ معيَّن، ويحكم هذا الغرض السؤال الذي نحاول الإجابة عنه والظروف التي نحاول فِعل ذلك في ظلها. كما تؤكِّد ستيبينج أن تفكيرنا دائمًا ما يتضمَّن شخصياتنا كاملةً، ويتحدَّد بالسياق الذي نجد أنفسنا فيه.

على الرغم من أن تفاصيل السمات الخاصة للتفكير القصدي تختلف إلى حدٍّ كبير عن سابقيه، فإن ثَمَّة عددًا من السمات العامة مشتركة فيما بينهما. ويمكننا أن نوضِّح ذلك بتناول المثال الذي ضربته ستيبينج عن الشخص الجالس على الصخور. بادئَ ذي بدء، لا بد من وجود إدراك للحقائق التجريبية ذات الصلة. في هذه الحالة، على سبيل المثال، على الشخص أن يلاحظ أن المدَّ يرتفع ويفحص الصخور المحيطة به. ثانيًا، لا بد أن يكون على دراية بالقوانين ذات الصلة أو البديهيات المعروفة عن سير العالَم، مثل أن المدَّ يصل إلى أعلى نقطة كلَّ يوم، وأنه يمكن اكتشاف ارتفاع المد بفحص الآثار التي تتركها الطحالبُ الخضراء على الصخور. ثالثًا، لا بد أن يعرف المرءُ حقائقَ عن نفسه، مثل أنه لا يستطيع السباحة ولكنه يستطيع التسلق. رابعًا، لا بد أن يدرك المشكلة، أنه سيغرق إذا بقي في مكانه، وأن يحدِّد الحلول الممكنة، مثل أن يذرع الصخور جيئة وذهابًا على أمل العثور على ملاذ أو تسلُّق أعلى الصخور وانتظار أن ينحسر المد. خامسًا، لا بد أن يكون قادرًا على الاستنباط؛ أي يتوصَّل إلى استنتاج من خلال المقدِّمات، بالطريقة المُشار إليها أعلاه. وأخيرًا، لا بد أن يتمكن من استخدام اللغة وفهمها. في هذه الحالة، لا بد أن يفهم ما يعنيه أن يصيح أحدهم فيه، كما ينبغي أن يكون قادرًا على التعبير عن أفكاره ورغباته لغويًّا أثناء تدوير الأفكار في ذهنه. (تختلف هذه الحالة عن كثير من الحالات الأخرى؛ إذ قد يلعب الاستخدامُ الصريح للُّغة دورًا أهم بكثير). من بين جميع هذه السمات العامة، صبَّت ستيبينج جُلَّ اهتمامها على السمتَين الأخيرتَين؛ ولذا، دعونا نتناول كلًّا منهما بمزيد من التفصيل.

التفكير المنطقي

يتضمن التفكير المنطقي الاستدلالَ على قضيةٍ ما، تُسمى الاستنتاج، من قضية أخرى أو أكثر، تُسمى المقدِّمة أو المقدِّمات. سيكون هذا الاستدلال أو الحُجة «صادقًا» إذا كان لا يجوز أن تكون المقدِّمات صادقة والاستنتاج كاذبًا، بعبارةٍ أخرى، في حال كان الاستنتاج نتيجة متولِّدة عن المقدِّمات. عرضنا مثالًا بسيطًا على الاستدلال المنطقي، الذي له الصيغة « ، ، إذَن »، في الفصل الرابع. إليك مثال آخر:

نلاحظ أن هذه الاستدلالات مُتضمَّنة في التفكير التأملي للشخص الجالس على الصخور. ويمكننا أن نعيد صياغة تفكيره ليصير على هيئة سلسلة كاملة من هذه الاستدلالات. إذا توصَّل الشخصُ إلى استنتاج أنَّ مياه البحر ستصل إلى أعلى نقطة لمنسوب المياه، على سبيل المثال، فقد يواصل تفكيره على النحو الآتي:

تستفيد سلسلة التفكير هذه من قاعدة «الاستلزام»، كما ناقشناها في الفصل الرابع. وتُعَدُّ هذه إحدى أهم قواعد المنطق، وإن لم تكن بأي حال القاعدةَ الوحيدة، وربما يوجد كثير من الطرق الأخرى لإعادة صياغة التفكير التأملي للشخص الجالس على الصخور. ولكن، أيًّا كانت الطريقة التي نتَّبعها في إعادة صياغة هذا التفكير، لا بد أن نتأكَّد من أن الاستدلالات صحيحة. ولا يعني هذا أن جميع المقدِّمات يجب أن تكون صادقة. ولكن كلَّ ما يلزمنا هو أن نعي أنه «إذا» كانت جميعُ المقدِّمات صادقة، «فسيكون» الاستنتاج بدوره صادقًا.

ما مدى قدرتنا على ممارسة التفكير المنطقي؟ دعونا نواصل العملَ على هذا المثال الخاص بالاستدلال وفقًا لقاعدة «الاستلزام»، التي تمكِّننا من استنتاج من و«إذا كان ، فسيكون »؛ أي إن ( ). والأساس في هذا هو فهمنا للقضايا الشرطية على الصورة «إذا كان ، فسيكون »، حيث يُطلَق على المقدِّمة المنطقية، وعلى النتيجة المنطقية. إذَن، إلى أي مدًى نفهم القضايا الشرطية؟ تأمَّل مسألة الاختيار لواسون الموضَّحة في مربع ٥. كيف ستجيب عن هذا السؤال؟

مربع ٥: مسألة الاختيار لواسون

تخيَّل أن لدينا أربع بطاقات موضوعة على طاولة، وكل بطاقة منها تحمل على أحد وجهَيها حرفًا وتحمل على الوجه الآخر عددًا. ما تراه سيكون على النحو الآتي:

ما البطاقة (أو البطاقات) التي تحتاج إلى قلبها لترى ما إذا كانت القضية الشرطية الآتية صحيحة أم لا؟

«إذا كان على أحد وجهَي البطاقة حرف متحرك، فسيكون على الوجه الآخر عدد فردي.»

إذا كانت إجابتك أنَّ عليك قلب البطاقات التي على أحد وجهَيها حرف أ وعلى الوجه الآخر العدد ٣، فلستَ وحدك مَن خمَّنت هذه الإجابة؛ أثبتت الاختبارات أنَّ أغلب الناس أعطَوا الإجابة نفسها، عندما طُرح عليهم السؤالُ للمرة الأولى على الأقل. إلا أن هذه الإجابة ليست صحيحة. لستَ بحاجة إلى قلب البطاقات التي تحمل العدد ٣، فبغضِّ النظر عما يحمله الوجه الآخر من البطاقة، لا يمكنه أن «يلغي» القضية الشرطية. إذا كان الوجه الآخر للبطاقة يحمل حرفًا ساكنًا، فستكون البطاقة غير ذات صلة باختبار القضية الشرطية؛ أما إذا كان يحمل حرفًا متحركًا فإنه لا يعطينا مثالًا مقابلًا.

يوجد تصوُّر بأنه إذا كان الوجه الآخر للبطاقة، التي على أحدِ وجهَيها العددُ ٣، يحمل حرفًا متحركًا، فهذا «يثبت صحة» القضية الشرطية؛ لكونه حالة مثبتة تتحقَّق فيها القضية الشرطية. وربما يفسِّر ذلك جزئيًّا السببَ في أن الناس عادةً ما تعتقد أن هذه هي البطاقة التي يجب قلبها. ولكن، لكي نختبر القضية الشرطية، كلُّ ما «علينا» وضعه في الاعتبار هو الحالات الممكنة التي يُحتمل أن تكون فيها القضية كاذبة. إذا كانت البطاقة التي يحمل أحدُ وجهَيها الحرفَ أ تحمل عددًا زوجيًّا على الوجه الآخر، فمن شأن ذلك أن يجعل القضية كاذبة؛ وعليه، لا بد من قلب هذه البطاقة. والغالبية العظمى من الناس يدركون هذا الأمر مباشرةً. ولكن، لا بد أيضًا من قلب البطاقة التي تحمل العدد ٦ على أحد وجهَيها، فإن كانت تحمل حرفًا متحركًا على الوجه الآخر، فستجعل أيضًا القضية الشرطية كاذبة. لسنا بحاجة إلى قلب البطاقة التي تحمل الحرف م على أحد وجهَيها، فهي أيضًا غير ذات صلة باختبار القضية الشرطية. ومن ثَم، الإجابة الصحيحة هي قلب البطاقتَين اللتَين تحملان الحرف أ والعدد ٦. قد يتطلب الأمر مزيدًا من الشرح من جانبي لإقناعك بذلك، أو مزيدًا من التفكير من جانبك لإدراك ذلك، إلا أنَّ المثير للاهتمام في مسألة الاختيار هذه أن أغلب الناس يمكن توجيه تفكيرهم إلى أن هذه هي الإجابة الصحيحة، حتى إن أعطوا الإجابة الخطأ في البداية. وتُعَدُّ هذه نتيجةً مهمة للغاية. «حتى وإن ارتكبنا أخطاءً منطقية أثناء الممارسة العملية أو في حالاتٍ معيَّنة، يمكننا أن نتعلم إدراكها، وهذا يثبت أننا قادرون على ممارسة التفكير المنطقي.»

أَعدَّ هذا الاختبارَ واستخدمه للمرة الأولى عالِمُ النفس بيتر واسون عام ١٩٦٦، بعد وفاة ستيبينج بسنواتٍ طويلة. ولكن، كانت قدرتنا على ممارسة التفكير المنطقي هي أحد الافتراضات الضمنية لأعمال ستيبينج. انصبَّ اهتمام علماء المنطق عبر العصور على صياغة قواعد التفكير وتحديد المغالطات الشائعة، وناقشت ستيبينج كثيرًا منها في كتاباتها. قد تكون بعض هذه القواعد أقل رسوخًا في تفكيرنا من «قاعدة الاستلزام»، وبعض المغالطات أصعب في تفسيرها من الخطأ الشائع المُرتكَب في مسألة الاختيار لواسون. إلا أن الفكرة الرئيسية في هذه الحالة هي أن جميع هذه القواعد والمغالطات يمكن تفسيرها، من حيث المبدأ، لجميع الناس (تقريبًا). يستوجب التفكير الواضح مراعاة قواعد المنطق وتجنب المغالطات؛ ومن ثَم، فإن إحدى طرق التفكير بوضوح أكبر، التي حثَّت ستيبينج نفسها عليها وساعدت في الترويج لها، هي دراسة المنطق والتعرف على أخطاء التفكير العديدة التي يمكن الوقوع فيها.

التفكير النقدي

ناقشت ستيبينج التفكير المنطقي بالتفصيل في كتبها الأكاديمية عن المنطق. كما أنه أحد الموضوعات التي عالجتها في كتاب «التفكير لغرضٍ معيَّن»، إلا أن تناوُلها هنا أوسعُ نطاقًا بكثير. على الغلاف الداخلي لطبعة ثانية من الكتاب السالف الذكر صدرت عام ١٩٤٨، وأقتني نسخةً منها بالفعل، وُصف الكتابُ بأنه «دليلُ إسعافاتٍ أوليَّة للتفكير الواضح». وفي عصرنا الحالي، كنا سنطلق عليه كتابًا عن التفكير النقدي. إذا طُلب إليَّ أن أشرح كيف لاقت الفلسفة التحليلية رواجًا في المجتمع الفكري الأوسع نطاقًا (بعبارة أخرى، خارج نطاق أساتذة الفلسفة الجامعيين)، كنت سأشير إلى تأثير كتب على غرار كتاب ستيبينج «التفكير لغرضٍ معيَّن». يقدِّم الكتابُ أدلةً دامغة على أن هذا النوع من التفكير الواضح هو إحدى خصال الفلسفة التحليلية.

يتضمن الكتابُ العديدَ من الفصول التي تُشخَّص فيها أنواعٌ معيَّنة من التفكير غير الواضح، وتُقترَح طرقٌ لعلاجها. في الفصل السادس، على سبيل المثال، تحدَّثت ستيبينج عما أطلقت عليه اسم «تفكير الاستيعاء»؛ وهو التفكير الذي يعتمد على الشعارات أو القضايا السريعة الموجزة. إذا سبقَ تفكيرٌ جديدٌ هذا التفكير، فلن يسبِّب ضررًا، أما إذا كان دوره يقتصر على تجنيبنا عناءَ التفكير السليم، فسيكون خطيرًا. في عالم الرسائل النصية والتغريدات المعاصر، أصبحنا في أمسِّ الحاجة إلى سمة التحليل التفسيري للفلسفة التحليلية أكثر من أي وقت مضى، لفهم تفكير الاستيعاء، وما إذا كان يُفضي بمكنونات الأفكار الجديدة التي كانت موجزة حقًّا، أم إنه — بدلًا من ذلك — يبرز ما فيها من مواطن الالتباس أو الاختزال أو الادعاء.

ناقشت ستيبينج أيضًا الأدوار التي تلعبها الاستعارة، والقياس، والجناس، والمجاز، والتشبيه في تفكيرنا، وكيف يمكن أن تضلِّلنا. إن الاستعارات أكثر انتشارًا في اللغة مما قد يتخيَّل المرء في البداية. على سبيل المثال، استخدمت ستيبينج استعارة في اشتقاق مصطلح «تفكير الاستيعاء»، وعلى المنوال نفسه نستخدم استعارة أيضًا عندما نصف فكرةً بأنها «غير مكتمِلة النضج». (وقد استخدمت استعارتَين في الجملة السابقة وحدها). أصبحت كثير من الاستعارات ميتةً حاليًّا (وهذه استعارة أخرى!) بمعنى أن المقارنة التي أنتجتها في الأساس قد نُسيَت، واكتسبَ المصطلح نفسه حياةً خاصة به (للمزج بين الاستعارات!). قد تكون الاستعارات الميتة، وكذلك الاستعارات التي صيغت حديثًا، إلى الحد الذي يلاحظ معه أنها كذلك، غير ضارَّة نسبيًّا. وتكمُن مخاطرها في المنطقة الضبابية بينهما؛ إذ قد تؤثِّر المقارنة المتضمَّنة في الاستعارة على تفكيرنا دون أن نعي ذلك بالقدر الكافي. و«التحليل» في حدِّ ذاته استعارة، كما سنرى في الفصل السادس.

fig6
شكل ٥-١: مجاز كهف أفلاطون.
يُستخدم القياسُ إما لتوضيحِ شيءٍ ما، على غرار حُجة أو ادعاء، وإما يُستخدم في صورة حُجة هو نفسه. في الحالة الثانية، نتحدث عن حُجة بالقياس. ثَمَّة شيءٌ ما يتسم بمجموعة من الخصائص، و و ، على سبيل المثال، ويتسم كذلك بخاصية أخرى . قد نكتشف فيما بعدُ أن ثَمَّة شيئًا آخر يتسم بالخصائص ، و ، و ، ونستنتج من ذلك — بافتراض أن القياس قائم — أنه يتسم أيضًا بالخاصية . وكأداة إرشادية، قد يفيد هذا في توجيهنا إلى خصائص أخرى قد يتسم بها شيءٌ ما، ولكن كحجة، من الواضح أنها لن تجدي إلا في حال كان القياس قائمًا. ومن ثَم، فإن القياس — شأنه شأن الاستعارة — يمكن أن يكون مضلِّلًا إذا ما بالغنا في استخدامه. من الممكن أن يساعد في تدريب تفكيرنا، ولكن سرعان ما سيَفقدُ زخمَه.
ينطبق الأمرُ نفسه على الجِناس والمجاز والتشبيه، والتي تُستخدم كلها على نطاق واسع في جميع أنواع الكتابة، كما في الأدب الصيني على سبيل المثال، حيث يوجد تقليد مُتَّبَع ثري بعرض الأفكار ببراعة وبأسلوب غير مباشر، وكذلك في النصوص الدينية. من بين أشهر الأمثلة على ذلك في الفلسفة، مجاز الكهف الذي استخدمه أفلاطون في كتاب «الجمهورية»، وقُدِّم على أنه تمثيل لحالة الإنسان أو كناية عنها. تصوَّر أفلاطون مجموعةً من الناس مقيَّدين في أغوار كهف ولا يمكنهم أن يروا شيئًا سوى الجدار أمامهم. ومن خلفهم تستعر نارٌ تُلقي بظلالها على الجدار حيث تظهر الأشياءُ وتتحرك بعضها فوق بعض، وثَمَّة جدارٌ أقصر يفصل بينهم وبين النار (لفهم الفكرة الرئيسية، انظر شكل ٥-١). ويعتقد السجناءُ أنَّ هذه الظلال حقيقية. وثَمَّة مثالٌ آخر، وهو التشبيهات الثلاثة التي استخدمها فرانسيس بيكون في القول المأثور ٩٥ من كتاب «الأورجانون الجديد»:

يُشبِه أهلُ التجربة النمل؛ فكلُّ ما يفعلونه هو الجَمع والاستخدام؛ أما أهل الفِكْر فيُشبِهون العناكبَ التي تصنع خيوطها من مادة في باطنها. ولكن، ينحى النحل منحًى وسطيًّا؛ يجمع مادته من زهور الحدائق والحقول، ولكنه يحوِّلها ويهضمها بقدرته الخاصة. لا يختلف مسارُ عمل الفلسفة الحقيقي كثيرًا عن ذلك؛ فهي لا تعتمد فقط أو بصورة أساسية على قدرات العقل، ولا تأخذ المسألة التي تجمعها من التاريخ الطبيعي والتجارب الميكانيكية وتخزِّنها كاملةً في الذاكرة، كما وجدتها، بل تخزِّنها في صورة فهم مُعدَّل ومهضوم.

إنَّ تشبيه الفيلسوف «الحق» بالنحلة تشبيهٌ رائع، إلا أنه لا يعني افتراضًا أن نستنبط أنَّ الفلاسفة يمكنهم أن يلدغوا لدغاتٍ مُوجِعةً (وإلا ركنَّا حينها إلى فكرة أنهم قد يلدغون لمرةٍ واحدة قبل أن يموتوا).

جاء الفصلُ الأطول من كتاب «التفكير لغرضٍ معيَّن» بعنوان «إغفال المقصد الأساسي». بالإضافة إلى مناقشة العديد من المغالطات المنطقية، تناولت ستيبينج مسألة الغموض. أن تحمل الكلمة نفسها أكثر من معنًى ليست مشكلة في حدِّ ذاتها؛ فمن شأن السياق أن يحل دائمًا أيَّ غموض أو تعدُّد معانٍ. إذا سألك شخصٌ في وسط المدينة عن مكان أقرب مَصرف، فمن غير المرجَّح أن تفسِّر سؤاله على أنه يسأل عن مَصرف مياه وليس عن مؤسسة مالية. ويكمن الخطر في إغفال أحد المعاني لصالح معنًى آخر في سياقِ حُجةٍ ما.

fig7
شكل ٥-٢: لا يمكن سحب المال إلا من أحد المصرفين فقط.

كيف نفكِّر بوضوح أكبر إذَن؟

يناقش كتابُ ستيبينج كثيرًا من الطرق التي قد تتسبَّب في تضليلنا، بدءًا بالمغالطات المنطقية وتفكير الاستيعاء، وانتهاءً بالاستعارات والغموض. ومن خلال لفت انتباهنا إلى هذه الطرق، توضِّح لنا ستيبينج كيف يمكننا التفكير بوضوح أكبر عن طريق تجنبها. ومن ثَم، قد تكون الإجابة المختصرة على سؤال «كيف نفكِّر بوضوح أكبر؟» كالآتي: اقرأ كتابًا عن التفكير النقدي على غرار كتاب «التفكير لغرضٍ معيَّن»، وتعلَّم الدروس المستفادة منه. كما يمكننا أن نتعلم التفكير بوضوح أكبر عن طريق توضيح جميع مقدِّمات حُججنا حتى يسهُل علينا ضمان أن استنتاجاتنا مُستنبَطة استنباطًا صحيحًا، ويسهُل على الآخرين إدراك ذلك. وعليه، فإنَّ النصيحة المناظِرة للإجابة المختصرة السابقة ستكون كالآتي: اقرأ كتابًا عن المنطق، وتعلَّم الدروس المستفادة منه. وقد نرى أيضًا في هذه الحالة علاقة الارتباط بين سمتَي وضوح التفكير ودقة المحاجَّة.

يساعدنا إعدادُ محاجَّاتنا بعناية أكبر في استقصاء الأمور الأخرى التي تنتج عن افتراضاتنا وارتباط مختلف الأمور التي نعتقدها بعضها ببعض. وقد يُمكِّننا ذلك من الكشف عن الافتراضات الضمنية واكتشاف التناقضات؛ مما يُيسِّر فهم معتقداتنا على نحو أفضل وتعزيز ترابطها المنطقي. ومن ثَم، فإنَّ دقة محاجَّاتنا ترتبط أيضًا بسمتَي الفاعلية والمنهجية.

كما يمكننا التفكير بوضوح أكبر عن طريق رسم حدود فاصلة أكثر دقة «حيثما كان ذلك مناسبًا». شدَّدت ستيبينج على أن رسم حدود فاصلة أوضح لا يعني بالضرورة التفكير بوضوح أكبر، لا سيَّما إن لم يكن الموضوع يسمح بذلك. أي إن الأمر برُمَّته يعتمد على السياق والغرض من التفكير. ومثالٌ جيِّد على ذلك محاولة التوصُّل إلى تعريف ﻟ «الفلسفة التحليلية» يتيح لنا التمييز بوضوح أكبر بين الفلسفة التحليلية وغير التحليلية، كما سنرى في الفصل التالي والأخير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤