الفصل السادس

ما الفلسفة التحليلية إذن؟

كتبتُ في مقدمة هذا الكتاب أنَّ هدفي هو اصطحابك في جولة للتفكير وإعمال الفِكْر وليس جولة لمشاهدة المَعالم. وفي الفصول التي تلت ذلك، استعرضنا خمسة موضوعات توضِّح تقليد الفلسفة التحليلية كما تناوله كلٌّ من فريجه وراسل ومور وفيتجنشتاين وستيبينج. وطرحنا أسئلةً معيَّنة، وتأمَّلنا كيف أجابَ عنها الفلاسفة السالفو الذكر. وكما كنت آمل، ثَمَّة العديد من أوجه التشابه والاختلاف بين آراء كلٍّ منهم ومناهجه. ولكن، هل ثَمَّة أيُّ نقاطِ التقاء بينهم يمكن استخدامها لوصف الفلسفة التحليلية ككلٍّ؟ ذكرتُ سابقًا أنَّ الفلاسفة التحليليين يقدِّرون الوضوح والدقة. ألن تكون مفارقةً كبرى ألا يتمكنوا من وصف منهجهم الخاص؟

من وجهة نظري، من الخطأ محاولة تعريف الفلسفة التحليلية بدلالة أي مجموعة من المعتقَدات التي لم يتشاركها سوى الفلاسفة التحليليين جميعهم. (قد تنطبق حُجَّة مور للسؤال المفتوح على هذه الحالة.) لا شكَّ في أن ما يُعَدُّ فلسفةً تحليلية في العصر الحالي واسع النطاق ولا حدود له لدرجة أنَّ أيَّ محاولة لفعل ذلك ستكون بلا جدوى. ولكن، ثَمَّة اقتراحٌ بديل، وهو وصفُ الفلسفة التحليلية، وصفًا أكثر مرونة، بأنَّ أفكارها مترابطة معًا بحُكم التشابهات العائلية، في استخدام لأحد أفكار فلسفة فيتجنشتاين المتأخرة. هذا الاقتراح أيضًا يُمثِّل إشكالية؛ نظرًا لأنه يمكن أن يوجد دائمًا بين أيِّ فيلسوفَين فلاسفة آخرون يمكنهم إنشاء سلسلة من التشابهات العائلية بحيث يمكن أن ينتهي المطاف بكل فيلسوف أن يُعَدَّ فيلسوفًا تحليليًّا.

ثَمَّة إجابة أدق، وهي إثراءُ فكرة التشابه العائلي عبر إدراجها في قصة تاريخية مفصَّلة تفسِّر الحُجَج والمعتقَدات والنظريات أثناء تطوُّرها الفعلي في المناقشات والمناظرات التي حفَّزها أولئك الذين يُشار إليهم على أنهم مؤسِّسو الفلسفة التحليلية. شخصٌ يُحسَب في عِداد الفلاسفة التحليليين لدرجة أنه يسهم بفاعلية وعن وعي ذاتي في هذه المناظرات والمناقشات المستمرة. أشعر بكثير من التعاطف مع هذا المنهج، وحاولتُ أن أعكس ذلك، ولو جزئيًّا، في هذا الكتاب — من خلال الحديث عن محاولة راسل لحلِّ التناقض الظاهري الذي اكتشفه في عمل فريجه — على سبيل المثال، والفارق بين القول والعَرْض الذي خلُص فيتجنشتاين إليه أثناء انتقاد كلٍّ من فريجه وراسل.

ولكنَّ سرد هذه القصة التاريخية لا يتعارض مع تحديد سماتٍ معيَّنة من الفلسفة التحليلية، والتي يمكن أن تفيد في فهم طابعها الرئيسي وتمييزها عن أنواع الفلسفة الأخرى. ما حاولتُ أن أعرضه في هذا الكتاب أيضًا هو أنَّ الفلسفة التحليلية، في المقام الأول، عبارة عن «طريقة» لممارسة الفلسفة، تمثيل سماتٍ معيَّنة واستخدام الطرق الجديدة التي تمخَّضَ عنها تطوُّرُ المنطق الحديث.

تحليلُ «التحليل»

مثلما اقترحتُ في المقدِّمة، تتمثَّل الطريقة المباشرة للوقوف على خصائص الفلسفة التحليلية وسماتها في نهجها في استخدام التحليل. ولكن، بما أنَّ «التحليل» لطالما لعبَ دورًا في الفلسفة بطريقة أو أخرى، سنوجِّه دفَّة المشكلة إلى السؤال عن أنواع التحليل الموظَّفة في الفلسفة التحليلية. في الفصل الثالث، ميَّزتُ بين التحليل «التفسيري» و«التفكيكي» و«التراجعي»، وقلت إنَّ النوع الأول، على الرغم من حضور الأنواع الثلاثة في الفلسفة التحليلية، هو تحديدًا الذي يميِّز أعمال فريجه وراسل، وهو الذي أَولى له مور اهتمامًا خاصًّا عند طرح أسئلة عن التحليل.

fig8
شكل ٦-١: بينولوبي تفكُّ خيوط غَزْلها.
ذكرتُ في الفصل الخامس وجهة نظر ستيبينج عن كيفية تضليل الاستعارات لنا. ولكن، في واقع الأمر، يُعَدُّ الحديث عن «التحليل» مثالًا ممتازًا على ذلك. إنَّ أحد المعاني الأصلية للمصطلح الإغريقي analusis، الذي اشتُقَّ منه مصطلح analysis (أي «التحليل») باللغة الإنجليزية، يعني «التفكيك»، ومن معانيه أيضًا «الحل» أو «الفَصْل». نجد هذا المعنى في ملحمة الأُوديسة لهومر، على سبيل المثال، حيث كانت بينولوبي «تفكُّ» في الليل خيوط الكفن الذي كانت تغزله خلال النهار، كوسيلة لصدِّ خُطَّابها؛ إذ قطعت عهدًا على نفسها بأن تتخذ قرارًا بشأن خُطَّابها (الذين تقدَّموا إليها خلال غياب أوديسيوس الطويل) عندما تنتهي من غزل هذا الكفن (شكل ٦-١). ثم اتسع نطاق المصطلح، مجازيًّا، ليشملَ الحديثَ عن «تفكيك» المشكلات أو «حلِّها». (في نهاية المطاف، عثرت بينولوبي على حلٍّ رائع لمشكلتها). وفي الهندسة الإغريقية، سرعان ما اكتسبَ المصطلح معنًى تقنيًّا، وهو العمل بطريقة عكسية وصولًا إلى النظريات والمبادئ الأولية، أو البِنى الهندسية الأبسط، والتي بواسطتها يمكن حلُّ المشكلة (إثبات نظرية ما أو بناء شكل معيَّن). هذا هو التحليل بالمفهوم «التراجعي» للتحليل، إلا أن المقصود بالضبط بهذا المعنى ظلَّ محلَّ جدل على مَرِّ العصور.
عندما تُرجمَت المصطلحاتُ الإغريقية إلى اللغة اللاتينية، تحوَّلَ مصطلحُ analusis إلى decompositio، ونُقل كلاهما حرفيًّا إلى اللغة الإنجليزية ليصبحا analysis وdecomposition. يُستخدم هذان المصطلحان أحيانًا مترادفَين، وأحيانًا ما يوجد بينهما اختلافٌ طفيف في المعنى؛ حيث يكون مصطلح decomposition أقربَ في معناه إلى «التفكيك». (حدثَ أمرٌ مشابه مع كلماتٍ أخرى أشهرها fantasy وimagination «الخيال»، ethics وmorality «الأخلاق»، psychological وmental «نفساني»، حيث اشتُقَّت الكلمة الأولى من كلِّ زوجٍ من هذه الكلمات من الإغريقية، واشتُقَّت الكلمة الثانية من اللاتينية. يُفهَم كلُّ زوج من الكلمات السابقة بأنه يحمل معنًى مترادفًا إلى حدٍّ ما في بعض الأحيان، أو معنًى مختلفًا في أحيانٍ أخرى. وثَمَّة حالاتٌ مشابهة مذهلة، ومهمة من الناحية الفلسفية، ولكلٍّ منها قصة طويلة). ولكن، في حدود التعامل مع analysis وdecomposition كمترادفَين، أُسقطَت دلالاتُ مصطلح decomposition على مصطلح analysis، أو بتعبير أدق، ربما تعزَّزت دلالاتُ التفكيك التي يحملها مصطلحُ «التحليل» بالفعل، وطُمسَت معانيه الأخرى. بعبارة أخرى، اكتسبَ مصطلحُ «التحليل» تدريجيًّا، وعلى نحو أكبر، معنى «التفكيك»؛ ومن ثَم، أصبح التفكيك حاليًّا هو المعنى الأقرب إلى مصطلح «التحليل».
ولكن، لم تختفِ المعاني الأخرى تمامًا، ولا سيَّما الفكرة الرئيسية عن التحليل بوصفه «حلًّا» أو «انحلالًا» وليس «تفكيكًا»، التي رسَخَت (وهذه استعارة أخرى) في المفاهيم منذ ذلك الحين. إليك، على سبيل المثال، الهندسة «التحليلية»، التي ابتكرها كلٌّ من ديكارت وفيرما في القرن السابع عشر. ما حدثَ هنا هو أن المسائل الهندسية حُلَّت باستخدام مصادر من الجبر وعلم الحساب. يُمثَّل خطٌّ، على سبيل المثال، بالمعادلة ، حيث و يُمثِّلان إحداثيَّي رسم الخط على تمثيل بياني، ويُمثِّل ميل الخط، ويُمثِّل نقطة تقاطع الخط مع المحور (حيث ). إنَّ المسائل التي لا يمكن حلُّها باستخدام الهندسة الإقليدية (الإغريقية)، التي أصبحت تُسمى الهندسة «التركيبية» للإشارة إلى كونها نقيضًا للهندسة التحليلية، يمكن حلُّها بسهولة باستخدام الهندسة التحليلية.

في الهندسة التحليلية، تُحَلُّ المسائل الهندسية عن طريق «ترجمتها» إلى لغة علم الحساب والجبر. وفي هذا السياق أيضًا، يمكننا أن نرى الدور الذي يلعبه التحليلُ «التفسيري». يجب أولًا «تحويل» الخطوط والدوائر والمنحنيات وما إلى ذلك إلى معادلات؛ ومن ثَم، ستكون المسائل الهندسية قد أُعيد صياغتها، قبل تطبيق علم الحساب والجبر لحلِّها. ويمكن تعميم هذه الفكرة؛ يجب ترجمة المشكلات بطريقةٍ ما قبل جمع مصادر نظرية ما أو إطار عمل مفاهيمي ذات صلة واستخدامها. وهذا تحديدًا ما تتضمَّنه الفلسفة التحليلية: قضايا يجب تحليلها — تلك القضايا التي تثير المشكلات الفلسفية التي يجب حلُّها أو علاجُها — تلزم إعادة صياغتها في إطار مفاهيم أكثر ثراءً أو صياغتها في نظرية منطقية ملائمة. ومن ثَم، فإنَّ معنى أنَّ الفلسفة التحليلية «تحليلية» هو أقربُ إلى كون الهندسة التحليلية «تحليلية» منه إلى أي معنًى تفكيكي مجرَّد.

ولكن، دعوني أؤكِّد مرةً أخرى على أنَّ جميع أنواع التحليل الثلاثة التي ميَّزتُ بينها متضمَّنة في أي مشروع أو مثال فعلي عن التحليل. وبقدر ما تُعَدُّ كلمات «التفكيك» و«التراجع» و«الترجمة» نفسها استعارات، فإنها تعكس فقط أوجهًا أو أبعادًا مختلفة من عملية حلِّ المشكلات. نحن نستعين في حلِّ المشكلات بكل طريقة — أو مجموعة طرق — ممكنة. وقد نلجأ إلى تقسيمها إلى أجزاءٍ أصغر يسهُل التعامل معها؛ وذلك لتحديد الأمور التي نعلم بالفعل أنها قد تفيدنا، و/أو إعادة صياغتها لفتح المجال أمام مناهج جديدة. ومن ثَم، فلا غرو في أن يكون التحليل أكثر تعقيدًا مما يمكن لأي استعارة استيعابُه.

ولكن، إذا كان «التحليل»، بمعناه الأعم، يعني حلَّ المشكلات فقط، أفلن تُعَدَّ جميع أنواع الفلسفة تحليلية؟ وإذا كان ما أصبحنا نُطلِق عليه الآن مُسمَّى الفلسفة التحليلية «تحليليًّا» بمعنًى إضافي خاص، فما المعنى الذي يمكنه تأكيد التحليل وفقًا لوصفه الذاتي؟ الإجابة المختصَرة عن هذا السؤال هي النهج الذي استخدم به التحليلُ المنطقَ الحديث — المنطق الكَمِّي الذي ابتكره فريجه وراسل وآخرون — بالإضافة إلى جميع الأساليب الجديدة التي ظهرت مع نشأته والاستيعاب الأفضل للعلاقة بين المنطق واللغة الذي ترتَّب على ذلك. ومثلما أحدثت الهندسةُ التحليلية تحولًا في علم الهندسة باستخدام الأدوات الفعَّالة لعلم الحساب والجبر، أحدثت الفلسفةُ التحليلية تحولًا في الفلسفة باستخدام الأدوات الفعَّالة للمنطق الكَمِّي ونظريات المعنى.

التعريف بالفلسفة التحليلية المتأخِّرة

ركَّزنا في هذا الكتاب على بعض أفكار المؤسِّسين الخمسة للفلسفة التحليلية. وفي رأيي، منحنا استعراض هذه الأفكار والتجول عبرها فهمًا أفضل للتفلسف التحليلي عمَّا لو قمنا بجولة متعدِّدة المحطات في المجال بأكمله. إلا أنَّ الكثير قد حدثَ منذ السنوات الأولى التي أعقبت نشأة الفلسفة التحليلية. كيف تطوَّرت إذَن الفلسفة التحليلية بعد ذلك؟ التزامًا مني بموضوع التحليل، دعوني أوضِّح معيارَين محوريين يتعلقان بتطوُّرها اللاحق؛ وذلك بإبراز طريقتَين مختلفتَين أحدثتا تغيرًا في مفاهيم وممارسات التحليل المبكرة واتساع نطاقها.

تناولنا في الفصل الخامس كيفية التمييز — على يد ستيبينج وآخرين غيرها — بين التحليل المنطقي أو تحليل «المستوى نفسه»، والتحليل الميتافيزيقي أو تحليل «المستوى الجديد». فتح هذا التمييزُ المجالَ أمام احتمالية قبول النوع الأول من التحليل مع رفض نوعه الثاني، ولا سيَّما رفض الادعاء بأنه لا بد من وجود تحليل ميتافيزيقي نهائي وحاسم. كان هذا هو المنهج الذي اتَّبعه مَن أصبحنا نُطلِق عليهم الآن، وإن كانت تسميةً مضلِّلة، «فلاسفةَ اللغة العادية» أو «الفلاسفة اللغويون»، خصوصًا من كانوا يعملون في جامعة أكسفورد خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، مع ضمِّ فيتجنشتاين إليهم، والذي رفضَ بعضًا من الأفكار الرئيسية التي ذكرها في كتابه «رسالة منطقية فلسفية» خلال إنشاء فلسفته اللاحقة في جامعة كامبريدج في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.

جمعَ فيتجنشتاين الثمار الرئيسية لأفكاره اللاحقة في كتاب «بحوث فلسفية»، الذي استُكمل الجزءُ الرئيسي منه بحلول عام ١٩٤٥، ولكنه لم يُنشَر إلا عام ١٩٥٣، بعد وفاته. في هذا الكتاب، واصلَ فيتجنشتاين اهتمامه بالتمييز بين المعنى والهراء، ولكنه رفضَ ادعاءه السابق بأن ثَمَّة منطقًا واحدًا — المنطق الذي صاغه كلٌّ من فريجه وراسل على وجه التحديد — يقوم عليه استخدامُنا للُّغة، وكذلك رأيه السابق بأن القضايا تكون ذات معنًى إذا، وفقط إذا، كانت تصوِّر حالة من حالات الواقع الممكنة. ولكنه أكَّد، بدلًا من ذلك، على تعدُّدية ما أسماه «ألعابَ اللُّغة» — وهو المصطلحُ الذي أصبح يفضِّله وقتها — وأوضحَ أنَّ لكلٍّ من ألعاب اللغة هذه «منطقه» و«قواعده اللُّغوية» التي تحكمه، وهو عبارة عن مجموعة من القواعد التي تحكم ممارسة لعبة اللغة.

تنبع الفلسفة، وفقًا لتصوُّر فيتجنشتاين الجديد، من تكوين «تصوُّر عام» عن القواعد اللُّغوية الخاصة بألعاب اللغة، يهدف إلى القضاء على سوء الفهم الذي قد ينشأ. في الفقرة ٩٠ من كتاب «بحوث فلسفية»، كتبَ فيتجنشتاين:
إنَّ فحصنا … هو فحصٌ نحوي. ويسلِّط هذا الفحصُ الضوءَ على مشكلتنا بالقضاء على سوء الفهم. ينشأ سوء الفهم المتعلق باستخدام الكلمات، على سبيل المثال لا الحصر، عن تناظرات وتشابهاتٍ معيَّنة بين أشكال التعبير في مجالاتٍ مختلفة من اللغة. فيمكن إزالة بعضها من خلال إحلال أحد أشكال التعبير محل شكل آخر، ويمكن أن يُسمى هذا «تحليلًا» (Analysieren بالألمانية) لأشكال تعبيرنا؛ إذ تماثل هذه العمليةُ التفكيكَ في بعض الأحيان.

وكما يشير ذلك، يمكن أيضًا وصفُ منهج فيتجنشتاين بأنه نوع من «التحليل»، وإن كنت أرى أنه قد ضلَّل نفسه قليلًا عندما فكَّر في التحليل بمفهوم «التفكيك». ولكنه يُوضَع بالتأكيد ضِمن ما أطلقت عليه ستيبينج تحليل «المستوى نفسه»، وما أطلقتُ عليه اسم التحليل «التفسيري».

أما عن النوع الثاني، وهو تصور مختلف إلى حد ما عن التحليل تطوَّر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فجاء متأثِّرًا بأعمال فريجه وراسل أكثر من أعمال مور وفيتجنشتاين، ولا سيَّما بنوع التحليل المُتمثِّل في مشروعهما المنطقاني. فلْنتذكَّر تعريفات فريجه للأعداد الطبيعية بمفهوم الفئات، والتي تناولناها في الفصل الأول. وهذه ليست من نوع التعريفات التي يمكن لأي متحدِّث «عادي» ابتكارُها؛ فالمقصود بها — كما رأينا بالفعل — تقديمُ فهمٍ أعمق لعلم الحساب من خلال استخدام مصادر مفاهيمية أكثر ثراءً للمنطق الحديث. أطلقَ كارناب على ذلك اسم «الإيضاح»، ووصفه بأنه «الاستعاضة» عن مصطلح عادي غامض بمصطلح آخر — أدق ذي تعريفٍ علمي — كأن نستعيض عن المفهوم المعتاد عن الدفء أو السخونة بمفهوم الحرارة الأدق الذي له تعريفه في علم الفيزياء، أو الاستعاضة عن مفهومنا المعتاد عن الماء بمفهوم H2O الأدق الذي له تعريفه في علم الكيمياء.

عندما تولى الحزبُ النازي الحكم في ألمانيا عام ١٩٣٣، هاجر كارناب — مع آخرين من أعلام التجريبية المنطقية — إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك ترسَّخ التصوُّر الأكثر «علميةً» عن الفلسفة، الذي كانوا يؤيِّدونه. وأصبحَ يُنظَر إلى الفلسفة على أنها متصلة بالعلوم الطبيعية؛ ومن ثَم، أصبحَ يُنظَر إلى التحليل من منظور علمي أكثر؛ مما فتحَ المجال في نهاية المطاف أمام تحليل ميتافيزيقي متجدِّد، على الرغم من إنكاره في أوج التجريبية المنطقية.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، انقسمت الفلسفة التحليلية إلى تيارَين رئيسيين، أحدهما يُطوِّر منهج مور وستيبينج، والآخر يبني على الأسس التي وضعها فريجه وراسل، مع تبايُن تأثير كتاب «رسالة منطقية فلسفية» لفيتجنشتاين على كلٍّ منهما. دعونا نتناول كلًّا من التيارَين بمزيد من التفصيل.

فلسفة اللغة العادية

بالإضافة إلى فيتجنشتاين، برزَ ثلاثة فلاسفة بوصفهم ممثِّلي «فلسفة اللغة العادية»: جلبرت رايل (١٩٠٠–١٩٧٦)، وجون لانجشو أوستن (١٩١١–١٩٦٠)، وبيتر فريدريك ستروسون (١٩١٩–٢٠٠٦)، وجميعهم من جامعة أكسفورد. جسَّد عملُ رايل التحولَ من تحليل المستوى الجديد إلى تحليل المستوى نفسه في تطوُّر الفلسفة التحليلية. في كتابه «تعبيرات مضلِّلة بطريقة منظَّمة» الذي نُشر عام ١٩٣٢، ادَّعى رايل أنَّ جميع القضايا لها هيئة منطقية «صادقة»، إلا أنه بحلول وقت نشر كتابه الأكثر تأثيرًا، «مفهوم العقل»، عام ١٩٤٩، ركَّز على تخطيط ما أطلقَ عليه «الجغرافيا المنطقية» لمفاهيمنا. وكان رايل هو مَن نشر فكرة «خطأ النوع»، وكانت الحُجة الرئيسية في كتابه هي أنَّ التصور، الذي قدَّمه رينيه ديكارت في القرن السابع عشر، بأنَّ العقل يسكن الجسد كما لو كان «شبحًا في الآلة»، وفقًا لوصف رايل، يُعَدُّ خطأ نوع: أن ما يمكن قوله عن الظواهر الذهنية لا يمكن بالضرورة قوله عن الأحداث المادية، والعكس صحيح. وقدَّم في كتابه تفسيرًا لمجموعة كبيرة من مفاهيمنا عن الظواهر الذهنية مُستكشِفًا العلاقات المنطقية بينها.

إذا كان رايل مُناصِر فيتجنشتاين في جامعة أكسفورد، فقد كان أوستن مُناصِر مور في جامعة أكسفورد. في مقاله «مناشدة لتقبُّل الأعذار»، الذي نُشر عام ١٩٥٦، يعرض أوستن أفضل مقدِّمة إلى منهجه الفلسفي. فقد تحدَّث في هذا المقال عن المُعضِلة الفلسفية الأزلية، هل لنا إرادة حُرَّة أم إن كلَّ شيءٍ مُقدَّر؟ اتفاقًا مع محاولة مور التمييز بين الأسئلة المختلفة التي يمكن طرحها في هذا السياق، اقترحَ أوستن أن التباين المزعوم ينقسم إلى عدد من الاختلافات الأكثر تحديدًا، التي يُعبَّر عنها على نحو مستتِر في السياقات الواقعية الملموسة التي يمكن تطبيق المصطلحات فيها. دعونا نتناول مجموعة من الكلمات والعبارات الظرفية التي تصف كون الشخص قد تصرَّفَ دون «حرية» كاملة من جانبه، على غرار «سهوًا»، و«خطأً»، و«عَرَضًا»، و«دون قصد»، و«لا شعوريًّا»، و«دون اكتراث»، و«عفويًّا»، و«عشوائيًّا»، و«جُزافًا». هل ثَمَّة فارق رئيسي واحد بين حرية الفعل والحتمية أو القَدَرية؟ سأترك لك (متعمِّدًا) حرية تقرير ذلك!

أرسى أوستن قواعدَ ما أصبح معروفًا الآن باسم نظرية أفعال القول. وأوضحَ الأنواع المختلفة للأشياء التي يمكننا «فعلُها» بالكلمات. فبقول «أَعِدُ»، على سبيل المثال، لا أقول شيئًا فحسب (مصوِّرًا حالة من حالات الواقع الممكنة)، بل «أؤدي» فِعلَ الوَعد؛ أطلقَ أوستن على هذا اسم التلفُّظ «الأدائي». واستغلَّ ستروسون فكرة أفعال القول هذه لينتقد نظرية الأوصاف لراسل (التي قدَّمها راسل للمرة الأولى في أطروحته «عن التدليل» عام ١٩٠٥) في مقال قوي التأثير نشره عام ١٩٥٠ تحت عنوان «عن الإحالة». وفقًا لستروسون، إذا كان لا يوجد ملِك لفرنسا، فينبغي النظر إلى قضية «ملِك فرنسا فيلسوف» على أنها ليست صدقًا ولا كذبًا، وليست كذبًا كما ادعى راسل. لا «أؤكِّد»، في هذا السياق، أن ثَمَّة ملِكًا واحدًا وواحدًا فقط لفرنسا، ولكني «أفترض هذا مسبقًا» كشرط لتأكيدِ شيءٍ ما ﺑ «شأن» هذا الشخص. إنَّ التأكيد والافتراض المسبق من أفعال القول، شيء نفعله أثناء «استخدام» اللغة، وكان اعتراض ستروسون الرئيسي على راسل يتمثل في أنه ركَّز على الجُمل وليس على استخدامات الجُمل.

اتَّسم عمل ستروسون اللاحق بالعودة إلى الميتافيزيقا، ولكن بمذهبٍ أسماه «الوصفي» بدلًا من «التنقيحي»، ويهدف هذا المذهب إلى توضيح إطار العمل المفاهيمي الأساسي الذي نفكِّر في العالَم من خلاله. ميَّز ستروسون في كتاب «التحليل والميتافيزيقا»، الذي نُشر عام ١٩٩٢، بين التحليل «الترابطي» والتحليل «الاختزالي» مؤيِّدًا النوع الأول من التحليل: الشرح الفلسفي للمفاهيم يكمن في تفسير العلاقات المعقَّدة التي تربطها بمفاهيم أخرى.

فلسفة اللغة المثالية وفلسفة العلوم

دعوني أخصُّ بالذكر ثلاثةَ فلاسفة لأعطيكم لمحةً عن تطوُّرات الفلسفة التحليلية في أمريكا ما بعد الحرب العالمية الثانية: ويلارد فان أورمان كواين (١٩٠٨–٢٠٠٠)، ودونالد ديفيدسون (١٩١٧–٢٠٠٣)، وهيلاري بوتنام (١٩٢٦–٢٠١٦). هاجَم كواين، في مقاله الأكثر تأثيرًا «مذهبان للتجريبية»، الذي نُشر عام ١٩٥١، الفارق الذي وضعه التجريبيون المنطقيون بين القضايا التحليلية والتركيبية، وكذلك تصوُّرهم الاختزالي عن التحليل، والذي بمقتضاه يتم التحقق من صحة القضايا التركيبية في نهاية المطاف بالتجربة الحسية. وفقًا لكواين، لا يوجد فارقٌ واضح بين مسائل «المعنى» ومسائل «الواقع»، ودفعَ بوجهةِ نظرٍ بديلة تُختبر في ضوئها المنظومة الكاملة ﻟ «شبكة معتقداتنا»، كما أطلقَ عليها، على نحو تجريبي ودفعة واحدة.

إلا أن كواين اتفقَ مع كارناب في أنَّ دور الفلسفة هو «تفسير» مفاهيمنا ومعتقداتنا العادية عن طريق «ترجمتها» إلى — أو على حدِّ تعبيره «تنظيمها» في — لغة منطقية مناسبة. ولكن، في حين رأى كارناب في ذلك طريقة لاجتثاث الميتافيزيقا من جذورها، ذهبَ كواين — مثلما فعل راسل من قبل — إلى اعتباره كشفًا لالتزاماتنا الأنطولوجية «الواقعية»، بعبارة أخرى، استعراضًا لما تخبرنا به أفضل التفسيرات العلمية عن الأشياء الموجودة في العالَم. وبمصطلحات ستروسون، أيَّد كواين الميتافيزيقا «التنقيحية»، ولو كانت مُستمَدَّة من نتائج العلوم الطبيعية.

كان تأثيرُ ديفيدسون كبيرًا في حدوث تطوُّر مهم آخر للفلسفة التحليلية ما بعد الحرب العالمية الثانية، ألا وهو: وضعُ نظريات المعنى. يُنظَر عمومًا إلى عمل فريجه على أنه نقطة الانطلاق أو البداية، إلا أن تركيز فريجه الرئيسي كان منصبًّا على الرياضيات؛ كيف تعبِّر لغة الرياضيات عن الأفكار والحُجج التي تثيرها. كان ديفيدسون مهتمًّا بوضع نظرية في المعنى تخصُّ اللغات الطبيعية بكلِّ ثرائها وتعقيدها. وأصبح هذا التوجه حاليًّا مجالًا واسعًا للبحث، فقد أصبح الفلاسفة واللُّغويون، على حدٍّ سواء، يسعون إلى فهم آلية العمل الخاصة بمختلف عناصر اللغة، بدءًا من الضمائر وحتى الاستعارات. وكان من بين إسهامات ديفيدسون إسهامه في تحليل الجُمل المتعلقة بالأفعال والأحداث، والتي أشار إلى أنها أوضحت مدى التزامنا بكينونة الأحداث ووجودها — بعبارة أخرى، إن الأحداث يجدر النظر إليها بوصفها موجودة في العالَم مثلما اعتقد فريجه، على سبيل المثال، بأن الموضوعات والمفاهيم موجودة.

كما عرَّفَ ديفيدسون ما أطلقَ عليه مذهبَ التجريبية الثالث ورفضه الرأي القائل بأنَّ المرء يمكنه التمييز بين النظام المفاهيمي والمحتوى التجريبي. فوفقًا لديفيدسون، لا يمكننا أن نستوعب أن يكون لدى شخص نظامٌ مفاهيميٌّ مختلف تمامًا عن نظامنا. وإذا كان هذا صحيحًا، فإن هذا الرأي له تَبعاته فيما يتعلق بالسؤال الذي تناولناه في الفصل الثالث: لا يمكننا معرفةُ ما يعنيه شخصٌ آخر إلا إذا كنا نتشارك بعضًا من الاستيعاب المفاهيمي المتجذِّر في ارتباطاتنا المشتركة مع العالَم. إنَّ استيعابَ المعنى؛ أي القدرة على فهم الآخرين، والمشاركة في الأنشطة الجمعية أمران مترابطان.

كان لبوتنام تأثيرٌ كبير على الفلسفة الأمريكية من خلال مجموعة كبيرة من المجالات. وعليَّ أن أذكر في هذا السياق تجربة «توءم الأرض» الفكرية التي أجراها؛ ذلك أنها تتعلق بالمُعضِلة التي تناولناها في الفصل الثالث فيما يتعلق بتحليل الماء على أنه H2O. تخيَّل بوتنام في هذه التجربة كوكبًا توءمًا للأرض، يشبه أرضنا تمامًا فيما عدا أنَّ ما يبدو مثل الماء من حيث الشكل والمذاق ليس H2O، بل مركَّب كيميائي مختلف، فلْنقُل — مثلًا — إنه XYZ. وفقًا لبوتنام، و«المغزى» مما سيقوله في هذا السياق على أمل التحجج به، فإنَّ شخصًا على الأرض قد يشير إلى مركَّب H2O ويقصده، بينما قد يشير شخصٌ على توءم الأرض إلى المركب XYZ ويقصده، على الرغم من أن أحدًا منهما لا يعلم ما هو المركَّب الكيميائي للمادة المائية التي يتعاملان معها. ومن ثَم، فإن السبب في تفرُّد المعاني والأفكار يُعزى جزئيًّا إلى ما يوجد خارج ذواتنا، في العالَم الخارجي، وهي الفرضية التي أُطلَق عليها مُسمَّى «الخارجيانية». وإذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فثَمَّة رد على مفارقة التحليل؛ يساعد المعنى «الخارجي» في تأكيد صحة جملة «الماء هو نفسه H2O»، وإن كان سيظل في مقدورك معرفةُ شيءٍ ما عندما تكتشف ذلك. وعبَّر بوتنام عن فكرته الرئيسية في شعار «المعاني ليست في الذهن فقط». ومنذ ذلك الحين، احتدم الجدلُ حول الخارجيانية، داخل أذهان البشر وخارجها على حدٍّ سواء.

كيف حصلت الفلسفة التحليلية على مُسمَّاها؟

أصبحنا الآن على دراية بنشأة الفلسفة التحليلية المتمثِّلة في أعمالِ كلٍّ من فريجه وراسل ومور وفيتجنشتاين خلال العقود الأربعة إبَّانَ مطلع القرن العشرين. (بدايةً من نشر كتاب «تدوين المفاهيم» لفريجه عام ١٨٧٩، وحتى نشر كتاب «رسالة منطقية فلسفية» لفيتجنشتاين عام ١٩٢١.) إلا أننا لم نصادف مصطلح «الفلسفة التحليلية» مُستخدَمًا في إشارة ولو إلى جزء مما ندرك حاليًّا أنه التقليدُ التحليلي في الفلسفة حتى أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. فعلى سبيل المثال، لم يظهر المصطلح فيما قلت إنه المرجع الأول عن الفلسفة التحليلية — كتاب «مقدمة حديثة إلى المنطق» لستيبينج — الذي نُشر عام ١٩٣٠. ولكن، ينبغي ألا نستغرب ذلك، فلا بد لأي حركة أو تقليد من فترةٍ زمنية حتى تترسَّخ جذوره بما يكفي لأن يُنظَر إليه على أنه كذلك، وهكذا الحال لأي مُسمًّى حتى يلقى رواجًا.

ولكن، ربما الغريبُ هو أن الاستخدام الأول لهذا المصطلح كان بهدف «انتقاد» الفلسفة التحليلية. فقد استخدمه فيلسوفُ أكسفورد جورج كولينجوود (١٨٨٩–١٩٤٣) في كتابه «مقال في المنهج الفلسفي»، الذي نُشر عام ١٩٣٣، في الهجوم على الرأي القائل بأنَّ الفلسفة لا تسعى إلا إلى تحليل ما نعلمه بالفعل، وهو الرأي المنسوب إلى كلٍّ من مور وستيبينج. بالنسبة إلى كولينجوود، كان الهدفُ من مصطلح «الفلسفة التحليلية» هو الانتقاص من قَدْر الفلسفة؛ لما يُوحي به من تصوُّر ضيق الأفق عن الفلسفة. وكما رأينا عندما تناولنا مفارقة التحليل في الفصل الثالث، فإنَّ مسألة الكيفية التي يمكن أن تكون بها التحليلات مفيدة هي بالفعل مسألة جوهرية، وعليه، فإنَّ كولينجوود كان مُحقًّا في جانب من انتقاده. ولكن، كما آملُ أن أكونَ قد أوضحت، فإن إدراك الطابع «التحويلي» للتحليلات يقدِّم ردًّا فعَّالًا على المفارقة (ردًّا يمكننا أن نجده، في الواقع، في كتاب كولينجوود «مقال في المنهج الفلسفي»).

في الواقع، كان اسم مجموعة الفلاسفة الذين انتمى إليهم مور وستيبينج في ثلاثينيات القرن العشرين هو مدرسة كامبريدج للتحليل. وعكسَ هذا الاسم البصمة التي تركها مشروعُ راسل للتحليل وآراءُ فيتجنشتاين عن التحليل في عملهم. ومن ثَم، كان من المناسب تمامًا استخدام مصطلح «الفلسفة التحليلية» كاسمٍ بديل، مع النظر إليه بصورة أكثر إيجابيةً. في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين، اتسعَ نطاقُ المصطلح ليشملَ التجريبيين المنطقيين الذين تأثَّروا أيضًا براسل وفيتجنشتاين، إلا أنَّ المصطلح لم يلقَ رواجًا إلا بعد أن وضعت الحربُ العالمية الثانية أوزارَها. وبحلول ذلك الوقت، استُخدم المصطلحُ أيضًا بحيث يشمل فلسفة اللغة العادية والشكلَين الجديدَين من فلسفة اللغة المثالية وفلسفة العلوم اللذين ظهرا في الولايات المتحدة الأمريكية.

خلال خمسينيات القرن العشرين، بدأ إدراكُ تأثير فريجه على كلٍّ من راسل وفيتجنشتاين وكارناب، بالإضافة إلى أهمية أفكاره لمشروع وضع نظريات عن المعنى؛ ومن ثَم «أُعيدَ تأريخ» الفلسفة التحليلية بحيث يتضمَّنه. ومنذ ذلك الحين، ظلَّ النظامُ يتوسَّع أكثر فأكثر، ليشمل فلاسفةً من عصورٍ أقدم، وفلاسفة من العصر نفسه، وفلاسفة مستقبليين، وكذلك تقاليدَ فلسفية ذات صلة مثل البراجماتية الأمريكية. (ولم يُطرَد أحدٌ حتى اللحظة من هذا النظام!). إنَّ ما بدأ كمجموعة من الأفكار والمناهج الراسخة في المنطق وفلسفة الرياضيات والأخلاق، امتدَّ حاليًّا عبر فلسفة اللغة وفلسفة العلوم وفلسفة العقل إلى جميع مجالات الفلسفة. وأصبح كلُّ فرع من فروع الفلسفة نسخته «التحليلية»، ليس الميتافيزيقا التحليلية والأستيطيقا التحليلية (اللتَين يرجع تاريخهمها إلى خمسينيات القرن العشرين) فحسب، بل أيضًا الماركسية التحليلية، والظواهرية التحليلية، والنسوية التحليلية، على سبيل المثال، كما رأيتُ كذلك مصطلح «اللاهوت العقائدي التحليلي» مُستخدَمًا. لقد لاقى مُسمَّى «تحليلي» رواجًا كبيرًا لدرجة أنَّ المرءَ قد يتساءل عمَّا لا يُعَدُّ فلسفةً تحليليةً، في الفلسفة الغربية على الأقل. ما الذي يقف على طرف نقيض مع الفلسفة التحليلية؟

الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية

في عام ١٩٥٨، عُقد مؤتمر في مدينة روايومو دُعي إليه كوكبةٌ من الفلاسفة التحليليين لتشجيع الحوار مع الفلاسفة الفرنسيين. ولكن، لم يحقِّق المؤتمر نجاحًا كبيرًا. فقد قرأ جلبرت رايل خطابًا تحدَّث فيه عن البحر العريض الذي انشقَّ بين الفلسفة الأنجلوسكسونية والفلسفة القارية. وكان يعني بكلمة «الأنجلوسكسونية» الفلسفة التحليلية، وبعبارة الفلسفة «القارية» كان يعني الظواهرية، على وجه التحديد. ومنذ ذلك الحين، اتسعَ نطاقُ مصطلح «الفلسفة القارية» ليشمل تقاليدَ فلسفية أخرى على غرار الهرمنيوطيقا والوجودية والتفكيكية، وبالطبع جميع أنواع الفلسفة الغربية، بدايةً من كانط، التي لا تُعَدُّ تحليلية. وأصبحَ هذا التقسيم هو الأكثر تعمقًا وضررًا في تاريخ الفلسفة المعاصرة. ولكنه يُبزر كيف تُشكَّل التقاليدُ (مثل الأحزاب السياسية) جزئيًّا وتستمر في معارضة بعضها بعضًا.

علَّق برنارد ويليامز ذات مرة تعليقًا شهيرًا قال فيه إنَّ التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية يشبه تقسيم السيارات إلى سياراتِ دفعٍ أمامي وسيارات يابانية الصنع، أحدُ المصطلحَين منهجي أو إجرائي، أما الآخر فجغرافي. ويتضمَّن التباين المزعوم نوعًا من الالتباس بين الأنواع، ولا يكون حصريًّا ولا شاملًا. نشأ الفلاسفة التحليليون البارزون، أمثالُ فريجه وفيتجنشتاين وكارناب، في دول تتحدَّث اللغة الألمانية — وبالنسبة إلى فريجه، فقد قضى كاملَ حياته في إحداها. كما أن الفلسفة «القارية» توظِّف أيضًا أشكالًا من التحليل. وثَمَّة كثير من التقاليد الفلسفية، مثل البراجماتية، ناهيكَ عن جميع التقاليد الفلسفية غير الغربية على اختلافها، التي يصعُب تصنيفها تبعًا لأيٍّ من النوعَين. ولكن، مثلما يمكننا فتحُ المجال أمام استعارة «التحليلية»، يمكننا أيضًا فتحُ المجال أمام استعارة «القارية». إنَّ «الفلسفة القارية» مصطلح عامٌّ يشير إلى مجموعة من التقاليد الفلسفية التي تعود نشأتها «في الأساس» إلى أعمال فلاسفة من القارة الأوروبية، على النقيض من الفلسفة التحليلية. فعلى سبيل المثال، مؤسِّس مذهب الظواهرية هو إدموند هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨)، بالإضافة إلى أسماء بارزة في تطوُّر الهرمنيوطيقا تضم كلًّا من فريدريك شلايرماخر (١٧٦٨–١٨٣٤) وهانز جورج جادامير (١٩٠٠–٢٠٠٢). وكان مذهبُ الوجودية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعمل جان بول سارتر (١٩٠٥–١٩٨٠) وسيمون دي بوفوار (١٩٠٨–١٩٨٦)، ولكن تمتد جذوره إلى أعمال فلاسفة أسبق، أمثال سورين كيركجارد (١٨١٣–١٨٥٥)، وفريدريش نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠)، ومارتن هايدجر (١٨٨٩–١٩٧٦). وكان جاك دريدا (١٩٣٠–٢٠٠٤) هو الأب الروحي لمذهب التفكيكية.

fig9
شكل ٦-٢: فيلسوف يقود سيارةَ دفعٍ أمامي يابانية الصُّنع.

لم يكن بين جميع التقاليد الفلسفية المُكوِّنة ﻟ «الفلسفة القارية» كثيرٌ من العوامل المشتركة، فيما عدا عاملًا سلبيًّا واحدًا، وهو معارضتُها (المزعومة) للفلسفة التحليلية، وعاملًا إيجابيًّا واحدًا، وهو أنها جميعها، بشكل أو بآخر، تُعَدُّ ردودًا على فلسفة كانط (بيدَ أنَّ هذه الفلسفة أيضًا قد تشمل الفلسفة التحليلية). وبما أنَّ هذا الكتاب يتحدَّث عن الفلسفة التحليلية، فلن أُسهبَ في الحديث عن الفلسفة القارية بشكل مباشر، ولكني سأتناول — على سبيل المثال لا الحصر — بعضًا من انتقادات الفلاسفة القاريين للفلسفة التحليلية، والتي ساعدت في استمرار المعارضة المزعومة لها.

ما مواطن القصور التي تنطوي عليها الفلسفة التحليلية؟

لطالما تضمَّنت الانتقاداتُ التي وجَّهها الفلاسفةُ القاريون إلى الفلسفة التحليلية، وكذلك الانتقاداتُ التي وجَّهها الفلاسفةُ التحليليون إلى الفلسفة القارية، تشويهاتٍ مُغالًى فيها للآراء التي يعارضونها. في مربع ٦، أدرجت بعضًا من الاختلافات الرئيسية التي يُقال إنها ظلَّت قائمة بين الفلسفتَين التحليلية والقارية، وجميعها انتقاداتٌ مُغالًى فيها، ولكنها — مثل جميع الانتقادات — تحوي شيئًا من الصدق يجعلها منطقية. تتعلق بعضُ هذه الاختلافات بالمنهج والأسلوب، الموضوعَين اللذين اهتممنا بهما على مدى هذا الكتاب واللذان سأعود إلى الحديث عنهما في الجزء الأخير منه. ويجدر بي أن أقول شيئًا ما عن الاختلافات الأخرى بين هاتَين الفلسفتَين تحت عنوانَين رئيسيين يتعلقان بعلاقة الفلسفة التحليلية بالعلوم الطبيعية أولًا، وعلاقتها بالتاريخ ثانيًا.

مربع ٦: بعضُ الاختلافات الهادفة إلى تقسيم الفلسفتَين التحليلية والقارية

الفلسفة القارية الفلسفة التحليلية
تستخدم أساليبَ تركيبية تستخدم أساليبَ تحليلية
إيحائية، وتلميحية، وهزلية واضحة، ودقيقة، وصارمة
متشكِّكة في قدرة المنطق المُحاجَّة المنطقية
قائمة على النصوص تهتم بالمشكلات
تهتم بالمعنى تُعنى بالحقيقة
لا علمية/لا علموية علمية/علموية
لا طبيعانية طبيعانية
مثالية واقعية
نسبية كونية
إنسانية عقلانية
تاريخية لا تاريخية/معادية للتاريخ
سياسية لا سياسية

خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، على وجه الخصوص، أصبح يُنظَر إلى الفلسفة التحليلية على أنها علمية وطبيعانية في الوقت نفسه، وأصبحت تتعرَّض للانتقادات على هذا الأساس. والعلموية هي وجهة النظر القائلة بأنَّ العلوم الطبيعية تُقدِّم نموذجًا يمكن استخدامه في تفسير مجالاتٍ أخرى وفهمها، بما في ذلك الفلسفة. أما الطبيعانية، فلها تصوُّران رئيسيان. فهي تشبه — في تصوُّرها الأكثر وضوحًا — العلموية، وفقًا للاعتقاد القائل بأنَّ كلَّ شيءٍ يمكن أن يُفسَّر في نهاية المطاف بالعلوم الطبيعية. أما في تصوُّرها الأقل وضوحًا، فإنها تستند إلى الاعتقاد القائل بأنْ لا شيءَ يعلو فوق العالَم الطبيعي — بعبارة أخرى، إنها ترفض كلَّ ما يتعلق بأي شيء «ميتافيزيقي».

بدايةً براسل والتجريبيين المنطقيين فصاعدًا، ظهر تقليدٌ قوي ضمَّته الفلسفة التحليلية، والذي يمكن وصفه، دون أدنى شك، بأنه «علمي»، بفضل احترامه لأساليب العلوم الطبيعية ونتائجها وضعف قناعته بالطبيعانية. ولكن، يختلف ذلك عن كون المرء علمويًّا وطبيعانيًّا عن قناعة، بيدَ أنَّ بعض الفلاسفة التحليليين يتسمون بذلك أيضًا. ويعتمد الأمر على رؤية المرء لموضع المنطق والميتافيزيقا في كلِّ ذلك. استندَ كثيرٌ من فلاسفة العقل إلى أحدث اكتشافات علم الأحياء، والعلوم المعرفية، وعلم الأعصاب، وعلم النفس، وتفاعلوا معها، كما أنَّ كثيرًا من الفلاسفة اللُّغويين يخوضون حوارًا مستمرًّا مع اللُّغويين، بالإضافة إلى آخرين. إلا أنهم يفعلون ذلك بروح انتقادية، وسيستخدمون أساليبَ أخرى بخلاف أساليب العلوم الطبيعية؛ ومن ثَم، فإنَّ مصطلح «علموي» أقوى بكثير من قدرة أحد على استخدامه، حتى بالنسبة إليهم.

يوجد أيضًا تيارٌ آخر يرجع إلى فلسفة فريجه ومور، وفلسفة فيتجنشتاين المبكرة، والذين رفضوا جميعًا العلموية والطبيعانية، وإن كان فيتجنشتاين في فلسفته اللاحقة طبيعانيًّا ولكن دون قناعة تامَّة. ورأى فريجه أنَّ الأعداد موضوعاتٌ منطقية، وأدركها على أنها موضوعات «لا» طبيعانية، على سبيل المثال، وكان مور لا طبيعانيًّا فيما يتعلق بالأخلاق. وكان الجدلُ بين الطبيعانية واللاطبيعانية محتدِمًا في جميع مجالات الفلسفة التحليلية المعاصرة؛ ومن ثَم، لا يجوز أن نعتبر أيًّا من الموقفَين من سمات الفلسفة التحليلية.

من وجهة نظري، ثَمَّة اعتراضٌ واحد رئيسي على العلموية (والتصوُّر الطبيعاني الراسخ)، الذي يمكن التعبير عنه كالآتي. يضع أيُّ علم افتراضاتٍ مسبقة، ولطالما كانت إحدى المهام الرئيسية للفلسفة أن تُخضِع هذه الافتراضات إلى الفحص المُدقِّق، وتتطلب تلك المهام أساليبَ تختلف عن أساليب العلوم نفسها. وكانت الفلسفة التحليلية مُؤهَّلة جيدًا لأداء هذه المهام، ولكنها لم تنفرد بذلك. فقد قدَّم الظواهريون، على وجه الخصوص، نقدًا لاذعًا إلى العلموية حين قالوا إنَّ مشروع العلوم الطبيعية برُمَّته، والتوجُّه النظري الذي يقتضيه، يجب أن يُفهَم على أنه نابع مما أسماه هوسرل «عالَم الحياة» (Lebenswelt بالألمانية)، المُكوَّن من تجارب الإنسان اليومية، وتوجُّهاته ومعتقداته السابقة للنظريات. من وجهة نظري، لم تتعلَّم الفلسفة التحليلية من الأخطاء التي ارتكبتها الظواهرية؛ ومن ثَم، فإنَّ هذا هو أحدُ الجوانب التي أرى أن الانتقادات المُوجَّهة إلى الفلسفة التحليلية مُحقَّة فيها.

والجانبُ الرئيسي الآخر ذو الصلة الذي يمكنني القول إنَّ انتقادات الفلسفة التحليلية مُحقَّة فيه يتعلق بتوجُّهها نحو التاريخ. لطالما نُظِر إلى الفلسفة التحليلية على أنها «لا تاريخية»، بل «معادية للتاريخ». ومثلما هو الحال مع الطبيعانية، فإن للتاريخية العديد من التصوُّرات، وأكثر هذه التصوُّرات رسوخًا هو التصوُّر الذي يدَّعي أن الفلسفة في أساسها تاريخية ويجب فهمُها وانتهاجُها على هذا النحو، وأضعف هذه التصوُّرات هو الذي يدَّعي أنَّ الإلمام بالتاريخ يفيد في انتهاج الفلسفة. قلةٌ فقط هم مَن عارضوا التصوُّر الثاني، إلا أنَّ التصوُّر الأول كان أكثر إثارةً للجدل بفارقٍ شاسع. رفضَ كثيرٌ من الفلاسفة التحليليين، ولا سيَّما أوائلهم، مذهبَ التاريخية في أقوى تصوُّراته. كان من المُزمِع أن المعضلات الفلسفية أزلية، وعلى الرغم من أنه قد يفيدنا أن نتعرف على محاولات الفلاسفة السابقين لحلها، فإن ثَمَّة محاولات جديدة تحدث باستمرار، ولا سيَّما ما كان من خلال استغلال أحدث النظريات المنطقية والعلمية.

دعونا نُقرُّ بأن ثَمَّة بعض المعضلات الفلسفية الشاملة، وإن لم تكن «أزلية» بالمعنى الدقيق للكلمة؛ لأنها تكون راسخة في الأنشطة الإنسانية الأساسية على غِرارِ العدِّ والاستدلال. ويمكننا أن نتفق أيضًا على أنَّ حلول هذه المعضلات قد تتضمَّن تشكيلَ أدواتٍ مفاهيمية جديدة. ولكن، ستظل الحاجة إلى الإلمام بالتاريخ قائمة. ذلك أن المفاهيم والحلول الجديدة ستحتاج إلى تفسير، والذي سيتضمَّن توضيحَ ارتباطها بالمفاهيم والحلول الأخرى، في الماضي والحاضر على حدٍّ سواء. ومع استمرار المناظرات والنقاشات الفلسفية، لن يمكن تفادي الآراء السابقة.

تضع الآراءُ الفلسفية أيضًا افتراضاتٍ مسبقة، مثلما تناولنا في الفصل الخامس. قد لا يظهر ذلك جليًّا في وقت صياغة هذه الآراء أو المناقشة بشأنها، ولكن، عاجلًا أو آجلًا، سيستلزم الأمر توضيحها، إذا كان الغرض هو استمرار الجدل. وقد يتطلب الأمر الرجوع إلى فترةٍ تاريخية معيَّنة من أجل تحديد هذه الافتراضات المسبقة، وهذا المجال أيضًا يُبرز الحاجة إلى الإلمام بالتاريخ.

قد يكون الإلمامُ بالتاريخ مطلوبًا من أجل تفسير الاستعارات والقياسات والأمثال والمجاز والتشبيهات التي تلعب دورًا أيضًا في الفلسفة، وآملُ أن أكون قد نجحت في تفسير ذلك جيدًا خلال توضيح فكرة التحليل نفسها، ويمكننا أن نضيف التلميحات والإشارات إلى التعبيرات البلاغية السابقة — على سبيل المثال، إلى أفكار المفكِّرين السابقين — حيث نجدها أيضًا في الكتابات الفلسفية. لفتَ دريدا (أحدُ أعلام الفلاسفة القارية السالفي الذكر) انتباهَنا إلى ما أطلقَ عليه «هوامش» الفلسفة — الحواشي السفلية، والتمهيدات، والخطابات، والمقابلات، والملاحظات العابرة، وما إلى ذلك — حيث يُجرى أغلب التفكير «غير الصوري»، والتي قد تُبرز ما يُقال بشكل «صوري». وهنا أيضًا تظهر أهمية عمل المؤرِّخ.

لطالما انتقدَ الفلاسفةُ التحليليون مؤرِّخي الفلسفة على أنهم يهتمون «فقط» بما كان يعنيه الفلاسفة السابقون أو يعتقدونه، ويركِّزون على تفسير النصوص، بينما يهتمون هم، على حدِّ قولهم، بما هو حقيقي، ويركِّزون على حلِّ المعضلات الفلسفية. إلا أنَّ هذين الاهتمامَين ليسا مختلفَين كما هو مفترَض. إذا كنا بصدد تفسير ما يعنيه شخصٌ ما بأكبر قدرٍ ممكن من التفاؤل، فسيكون علينا أن نعرف ما هو حقيقي، ومن المؤكَّد أن أيَّ تقييم لآرائه سيستوجب ذلك. ويمكن تعزيز حلِّ المعضلات التوصل إلى ما هو حقيقي عن طريق التوغل في الحلول والآراء التي طرحها الآخرون، الأمر الذي سيتطلب فهم ما يعنون. إنَّ الفلسفة التحليلية وتاريخ الفلسفة لا غنى لأحدهما عن الآخر.

يُزعَم أنَّ نقص الوعي الذاتي التاريخي هو أكبر نقطة عمياء في الفلسفة التحليلية. إنَّ عدم الانبهار المُبالَغ فيه بالتراث قد يكون ضروريًّا للتوصُّل إلى الابتكارات المفاهيمية، إلا أنَّ ترسيخ هذه الابتكارات والدفاع عنها يتطلب تحديدَ موضع لها ضمن المساحة التاريخية التي تشغلها الآراءُ السابقة. تقدِّم الفلسفةُ القارية مصادرَ غنية لإدراك هذه المساحة التاريخية — وللكشف عن الافتراضات المسبقة، وتفسير الاستعارات، وتفكيك الادعاءات، وتوضيح سياقات التوجُّهات، وما إلى ذلك. تلك هي مجالات الفلسفة القارية التي يمكن للفلسفة التحليلية أن تحصل منها على أكبر قدر ممكن من الفائدة، في رأيي، إذا ما عمَّقت أكثر من الارتباط بها.

ما مواطن القوة في الفلسفة التحليلية إذَن؟

خلال الشرح الذي قدَّمتُه في هذا الكتاب ذكرتُ أنَّ جذور الفلسفة التحليلية تمتد إلى نشأة المنطق الحديث واستخدامه من قِبَل فريجه وراسل وآخرين. حُلَّت المعضلاتُ الفلسفية عن طريق ترجمة الجُمل التي تمثِّل إشكاليات إلى لغة منطقية، وهو ما أوضح أكثر مما تعنيه «فعليًّا». ووُصفَت هذه العملية بأنها تضمين التحليل التفسيري، وكذلك نوعا التحليل التراجعي والتفكيكي اللذان طالما كانا موجودين في الفلسفة. ومنذ ذلك الحين، ظلَّ التحليلُ التفسيري من ركائز الفلسفة التحليلية؛ مما فتح المجالَ أمام أسئلة عن طبيعة المعنى والعلاقة بين المنطق واللغة، وهي موضوعاتٌ ظلَّت محورية على مدى تاريخها. ومن ثَم، فإنَّ أول موطن قوة في الفلسفة التحليلية أرغبُ في ذكره هو الفهمُ الأعمق الذي غرسته لآليات العمل المعقَّدة التي لا حصر لها فيما يخصُّ اللغة.

تسبَّبَ تطوُّر المنطق الحديث في تغيير المشهد الفلسفي تغييرًا جذريًّا. فقبل فريجه، كان المناطقة لا يمكنهم إلا تحليل الاستدلالات الفرعية البسيطة التي نفعلها خلال التفكير اليومي والعلمي. واستكمالًا لعمل فريجه، شهدت النظرية المنطقية والدلالية مزيدًا من التطور لتعميق فهمنا لمجموعة ممارساتنا المفاهيمية والمنطقية كاملةً. كما مكَّنَت الفلاسفة من وضع حُجج بأكبر قدرٍ ممكن من الدقة، محدِّدين بذلك مقدِّمات وقواعد الاستدلال التي تسمح بالتوصل إلى الاستنتاجات بطريقة سليمة. ومن خلال إعادة هيكلة الحُجج التي قُدِّمت في الماضي، يمكن للفلاسفة أن يُظهروا طرقهم السليمة أو يعرضوا الجوانب التي فشلوا فيها أو المقدِّمات الناقصة التي يحتاجونها. وزادَ المنطق التطبيقي — وأفكار الفلسفة التحليلية، بصورة أعم — من عمق إلمامنا بتاريخ الفلسفة، والرياضيات، والعلوم، سواءٌ كانت غربية أو غير غربية.

ولكن، دعونا نعود إلى السمات التي ذكرتُها في بداية هذا الكتاب، والتي أصبحت موضوعات الفصول التي تلتها. آمل أن أكون قد تمكَّنتُ من توضيح الكيفية التي أصبح بها وضوح التفكير ودقة التعبير ودقة المحاجَّة من السمات الجوهرية للفلسفة التحليلية، وكيف بررت جميعها اعتقادي الشخصي بأنها بالفعل سمات. حاولتُ أن أُبرز أيضًا كيف أنَّ الفلسفة التحليلية إبداعية من الناحية المفاهيمية، الأمر الذي يستحق مزيدًا من التقدير. عندما يراجع المرءُ تاريخَ الفلسفة التحليلية، يُدرك مدى الفائدة الفكرية التي أفرزتها الابتكارات المفاهيمية. كما أُجري العمل المنهجي أيضًا، بدايةً بالمشروع المنطقاني لفريجه وراسل وصولًا إلى نظريات المعنى المعاصرة. إلا أن الفلسفة التحليلية تُفسح المجال أيضًا أمام المساهمات الصغيرة، مثل تحليل مفاهيم محدَّدة، أو إعادة هيكلة حُجج بعينها أو انتقادها. وُضع حاليًّا عددٌ كبير من الأدوات المفاهيمية والمنطقية لمساعدة الفيلسوف التحليلي في عمله، وما كان يُستخدم في البداية في أحد المجالات أصبحَ يُطبَّق على مجالاتٍ أخرى.

خلال الأعوام الماضية، أصبحَ لدى الفلاسفة التحليليين، في بعض من أوساطها على الأقل، قدرٌ أكبر من الوعي الذاتي بالتاريخ، وزادت رغبتُهم في المشاركة في حوارات مع تقاليدَ فلسفية أخرى، بدايةً بالفلسفة الصينية القديمة وصولًا إلى مذهب التفكيكية الفرنسي، مع قبول جميع هذه التطورات. وكما أشرتُ، تشعَّبَت الفلسفةُ التحليلية أيضًا في جميع أنواع الفلسفة، بدايةً بالمنطق وفلسفة الرياضيات وصولًا إلى علم اللاهوت والتفكير النقدي، وأبْلَت بالفعل بلاءً حسنًا في هذه المجالات، فقد أضافت أدواتِها المنهجية، وحسَّنتها ووسَّعت نطاقها. إنَّ تاريخ الفلسفة التحليلية واضح، حتى وإن كانت طبيعتُها وملامحُها المحدَّدة مثارًا للجدل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤