الفصل الأول

الناحية السياسية

(١) تمهيد

ظلت الدولة العربية الإسلامية دولة موحدة في الشرق والغرب طوال عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، لها أهدافها وغاياتها المعروفة، وتصدر عن رأي واحد جميع، وسياسة واحدة يرسمها الخليفة بالمدينة، ثم بدمشق من بعدُ.

وكان أول هزة عنيفة نالت من هذه الوحدة، ما كان من صراع معروف بين الأمويين والعباسيين، وانتهى هذا الصراع بقيام الدولة العباسية في الشرق والدولة الأموية بالغرب في الأندلس، ثم بالدول الأخرى التي قامت بشمالي أفريقية.

واستقر الأمر للدولة العباسية بالمشرق، ومشت قُدُمًا إلى الأمام حتى كانت فتنة الأمين والمأمون، فكانت إيذانًا بتمزق الوحدة الإسلامية. ثم جدَّت عوامل أخرى جعلت عقد الوحدة ينتثر، وتظهر في رقعة الوطن الإسلامي الأكبر دولة صغيرة هنا وهناك، وكان لذلك أثره القوي في مركز الخلافة وضعف نفوذ الخلفاء وسكون ريحهم.

نعم، مرت الدولة العباسية من ناحية القوة والضعف بأدوار مختلفة، كان لخلفائها في بعضها الكلمة العليا والحكم النافذ، وفي بعضها لم يكن لهم من الحكم والخلافة إلا الاسم والرسم، فكانت السيادة الفعلية للمتغلبين عليهم، أمثال بني بُويه الديالمة (٣٣٤–٤٤٧ﻫ)، والأتراك السلاجقة (٤٤٧–٥٩٠ﻫ)، وفي بعضها الآخر كانوا يسترجعون شيئًا من القوة الذاهبة والعز الذي ولَّى، حتى انتهى أمرهم على أيدي التتار سنة ٦٥٦ﻫ.

وقد كان اصطناع الخليفة المعتصم بالله (٢١٨–٢٢٧ﻫ) للأتراك، يتخذ منهم جندًا يستغني به عن العرب والموالي من خراسان إيذانًا ببدء طَور الضعف وزوال هيبة الخلفاء وذهاب الوحدة للأمة.

وذلك بأنه عندما أحس هؤلاء الجند الأتراك بأنهم عدة الخلفاء وقوتهم، أخذوا في الاستئثار بالسلطان حتى تحكموا في الخلافة وأمورها، بل في الخلفاء وحياتهم، وانتهى الأمر بأن صار الخليفة في منزلة من الهوان لا يملك من أمر نفسه شيئًا.

وهذه المنزلة تظهر للباحث من حالة النظر في بعض كتب التاريخ، مثل: «الطبري» وصلته، و«الكامل» لابن الأثير، و«مروج الذهب» و«التنبيه والإشراف» للمسعودي، و«البداية والنهاية» لابن كثير، و«تاريخ بغداد» للخطيب، و«شذرات الذهب» لابن العماد الحنبلي.

وكان لذلك أثره المحتوم: استقلال كثير من أمراء الأطراف، وظهور عدد غير قليل من الدول في رقعة البلاد العربية الإسلامية؛ مثل الفاطمية بمصر، والحمدانية بالجزيرة، والسامانية فيما وراء النهر، والبويهية، والخوارزمية، والسلجوقية، وذلك كله فضلًا عن الدول التي ظهرت بالمغرب.

هذا، وقد كان مما حدث في مصر والشام في هذا العصر حدثان لهما في هذين البلدين الشقيقين أكبر الخطر من الناحية السياسية والاجتماعية معًا، ولهما في حياة ابن تيمية بصفة خاصة أثر أي أثر، هما: ظهور التتار بالمشرق واستيلاؤهم على بغداد وزحفهم إلى الشام ومصر، والثاني: خروج الفرنج الصليبيين إلى هذين الإقليمين أيضًا.

وينبغي أن نتناول هنا — ولو بإيجاز — هذين الحدثين اللذين عاصرهما الشيخ ابن تيمية، وأخذ كل منهما جانبًا كبيرًا من جهاده الحربي والسياسي، راجعين إلى ابن الأثير، وهو مؤرخ ثقة معاصر، وإلى غيره من المؤرخين المعاصرين له أو الذين جاءوا بعده. يقول ابن الأثير في أحداث سنة ٦١٧ﻫ:

«لقد بُلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يُبْتَلَ بها أحد من الأمم؛ منها ظهور هؤلاء التتر — قبحهم الله — أقبلوا على المشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة مفصلة إن شاء الله تعالى.

ومنها، خروج الفرنج — لعنهم الله — من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها، لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.»١

(٢) أولًا: ظهور التتار

عن هذا الحدث، نجد المؤرخ نفسه يتحدث عن مقدار ما في خروج التتار إلى البلاد الإسلامية بصفة عامة، فيقول: «لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظامًا لها كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجْلًا وأُؤخِّر أخرى، فمن الذي يَسْهُل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين! … ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي.

إن هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمَّت الخلائق وخصَّت المسلمين. فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يُبْتَلَ بمثلها، لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها …

ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وأما الدجال فإنه يُبقي على من اتبعه ويُهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقُّوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنَّة …

فإن قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان … ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر؛ مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا وتخريبًا وقتلًا ونهبًا، ثم يتجاوزونها إلى الرَّيِّ وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق … في أقل من سنة، هذا ما لم يُسمع بمثله …

ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء وأشد؛ هذا ما لم يطرُقِ الأسماعَ مثله.

فإن الإسكندر، الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا، لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحدًا، إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء (أي التتار) قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلًا، وأعدل أهل الأرض أخلاقًا وسيرة، في نحو سنة، ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم …»

ثم يتكلم المؤرخ الثقة عن ديانتهم وبعض عاداتهم وتقاليدهم، فيقول: «أما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرِّمون شيئًا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرهما، ولا يعرفون نكاحًا، بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه.»٢

وليس فيما يقوله ابن الأثير وغيره من المؤرخين عن ابتلاء العالم، وبخاصة البلاد الإسلامية، بالتتار وما ارتكبوه من الفظائع وعظيمات الأمور، شيء ما من المبالغة، فإن زحفهم الجيَّاش، ومَدَّهم المتلاطم الأمواج، قد أوقع الرعب في العالم كله حتى للقارة الأوروبية، وبدَّل الناس جميعًا من بعد أمْنِهم خوفًا.

ونعتقد أن المؤرخ «جيبُون» قد صدق حين يمثِّل لقارئه مدى ما أصاب العالم من ذُعر ورعب بسبب موجات التتار أو المغول، وذلك بقوله: «إنها كانت أشبه بهزات الطبيعة العنيفة التي تغير وجه الأرض»، وحين يقول: «إن بعض سكان السويد، وقد سمعوا عن طريق روسيا نبأ ذلك الطوفان المغولي، لم يستطيعوا أن يخرجوا كعادتهم للصيد في سواحل إنجلترا؛ خوفًا من المغول!»٣

سقوط بغداد وأثره

يذكر المؤرخون لسقوط بغداد وذهاب الخلافة العباسية من العراق، أو على الأقل لتعجيل هذا المصير الذي كان حتمًا مقضيًّا، عوامل مختلفة؛ منها ما وصلت إليه الدولة من الضعف والفُرقة لعوامل لا ضرورة لذكرها هنا، ويكفي أن نشير إلى الصراع بسبب الجنس، والنزاع العنيف بسبب اختلاف العقيدة أو المذهب الديني، وانصراف بعض الخلفاء ورجالات الدولة إلى ضرب من الحياة أنساهم الواجب عليهم لأمة العروبة والإسلام.

ولكن إذا كان كل ذلك حقًّا، فهل من الحق أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة الرافضة، كان من تلك العوامل التي يسَّرت للتتار دخول بغداد أيضًا؟ هذا ما يقرره كثير من المؤرخين، ومنهم ابن كثير الذي عاصر تلك الأحداث.

إنه يذكر في حوادث سنة ٦٥٦ﻫ أن وزير الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وهو مؤيد الدين محمد بن العلقمي — وهو من الرافضة — عمل لذلك بسبب ما كان من عداء وحرب بين أهل السنة وشيعته، «فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد …» إلى آخر ما قال.٤

ومهما يكن من أمر، فقد أخذ التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها، وأزالوا معالم الحضارة والثقافة الإسلامية، وكان لذلك كله أكبر الآثار في حياة مصر والشام وسائر بلاد الإسلام. ونكتفي هنا بالكلام عن الناحية السياسية وحدها.

ليس علينا أن نتتبع التتار في معاركهم في الشرق حتى كفى الله شرهم وارتدُّوا على أدبارهم، ولكن نتعرض فحسب إلى مجيئهم بجموعهم إلى الشام ومحاولتهم امتلاك هذا القطر أولًا ثم مصر ثانيًا، ثم إلى ما كان من قيام الخلافة بمصر بعد بغداد.

في سنة ٦٥٨ صار ملك العراقين وخراسان وغيرها من بلاد الشرق للسلطان هولاكو ملك التتار، فأصبح الطريق مفتوحًا أمامه إلى الشام، فبادر إليها بجيوشه عابرين الفرات، وما لبثوا أن ملكوا حلب ثم دمشق، وجاسوا خلال الديار، وقد ملأ الرعب قلوب الأهلين بعد أن وصل التتار إلى غزَّة في طريقهم إلى مصر كنانة الله في أرضه.

وأرسل هولاكو رسله إلى مصر بكتاب يهدد فيه الملك المظفر قُطُز تهديدًا بالغًا بدأه بقوله: «من ملك الملوك شرقًا وغربًا»، وفيه يقول له: «فعليكم بالهرب وعلينا الطلب، فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص!»

ولكن الملك المظفر لم ينخلع قلبه من هذه الرسالة، وأعدَّ للأمر عدته مستعينًا بالله الذي ينصر عباده المؤمنين به حق الإيمان، وذلك أنه — كما يذكر ابن كثير — لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام، وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر، بادرهم قبل أن يبادروه، فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام.

ثم التقى الجمعان بالشام على «عين جالوت»، وكان قتال شديد انتهى بنصر الإسلام وأهله انتصارًا مبينًا، وبهزيمة التتار هزيمة شنيعة وبفرارهم، فلحق بهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع ومكان.

ولما بلغ هولاكو ما صار على جيشه من المسلمين بعين جالوت، أرسل جيشًا آخر يحاول استعادة الشام، فحِيل بينه وبين ما يشتهون، ورجعوا إليه خائبين خاسرين؛ وذلك على يد الملك الظاهر بيبرس الذي خلف الملك المظفر، وكان ذلك بفضل الله وتضامن المصريين ومن عاونهم من أمراء الشام وأهله.

ويذكر المقريزي أن الملك المظفر، وقد عاين أن المسلمين زُلزلوا زلزالًا شديدًا، ألقى خوذته على الأرض وصرخ بأعلى صوته: «وا إسلاماه (ثلاث مرات)! يا الله انصر عبدك قطز على التتار، وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، كان بعدها نصر الله المبين.»

ثم يقول المقريزي: «وأما التتار، فإنهم لما لحقهم الطلب إلى أرض حمص، ألقَوا ما كان معهم من متاع وغيره وأطلقوا الأسرى، وعرجوا نحو طريق الساحل، فتخطَّف المسلمون منهم وقتلوا خلقًا كثيرًا وأسروا أكثر. فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره وقتل نائبه كُتْبُغا، عظُم عليه، فإنه لم يُكسر له عسكر قبل ذلك، ورحل من يومه.»٥

وهكذا هزم الله التتار على أيدي المصريين ومن انضم إليهم من جند الشام من العرب وغيرهم، وأيقن التتار أن مصر لهم بالمرصاد، وأن قضاء الله هو الغالب، وأن العزة لله ورسوله وللعرب وللمؤمنين.

•••

هذا عن الأثر السياسي الأول لسقوط بغداد بأيدي التتار، وإزالة الخلافة العباسية عنها، وكان الأثر الثاني هو إقامة هذه الخلافة بمصر بعد أن أصبحت مثابة للمسلمين ودرعًا لهم، وستبقى كذلك بفضل الله إلى يوم الدين.

ظل منصب الخلافة شاغرًا بعد قتل آخر الخلفاء ببغداد ثلاث سنين ونصف سنة، وفي هذه الفترة علا شأن مصر وبخاصة بعد وقوفها أمام التتار وردهم على أعقابهم مدحورين إلى غير رجعة.

وأحسَّ القائمون بمصر من المماليك بضرورة العمل لإضفاء صفة «الشرعية» على ولايتهم وسائر تصرفاتهم، وكان من ذلك أن فكروا في إقامة خليفة بالقاهرة يستمدون منه سلطاتهم شرعًا دون أن يتحيَّف ذلك شيئًا من إمرتهم ونفوذهم، وقد تم لهم هذا على أيسر سبيل، وفرح الناس فرحًا شديدًا باحتضان مصر للخلافة والخلفاء الشرعيين.

وذلك بأن قدم إلى مصر سنة ٦٥٩، في عهد سلطنة الملك الظاهر بيبرس، الأمير أبو القاسم أحمد ابن أمير المؤمنين الظاهر بأمر الله، وهو عم الخليفة المستعصم الذي قتله التتار ببغداد، فخرج السلطان الظاهر إلى لقائه ومعه القاضي والوزير والعلماء والأعيان وآخرون من دونهم.

وفي الإيوان بقلعة الجبل أثبت الأمير نسبه بمحضر السلطان ومن معه، فبويع بالخلافة، وكان أول من بايعه شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، وتلاه السلطان والقاضي ثم الأمراء ومن إليهم،٦ ولقب «المستنصر بالله»، وضُرب اسمه على السكَّة، وكُتب ببيعته إلى الآفاق.

فلما كان يوم الجمعة بعد ذلك بأيام، ركب الخليفة إلى الجامع بالقلعة، وخطب على المنبر ذاكرًا شرف بني العباس، ثم دعا للسلطان ونزل وصلى بالناس. وبعد بضعة عشر يومًا، في رابع شعبان من ذلك العام، ألبس الخليفة السلطان بيده خلعة توليته، وفوض إليه الأمور في البلاد الإسلامية، ولقَّبه بقسيم أمير المؤمنين، وقرأ فخر الدين بن لقمان رئيس الكتاب تقليد الخليفة للسلطان.

وكانت بيعة السلطان للخليفة، كما يذكر المقريزي في كتابه «السلوك»، على العمل بكتاب الله وسنة رسوله ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وعلى أخذ الأموال بحقِّها وصرفها في مستحقيها.٧

ونشير هنا إلى أن هذه الخلافة كانت رمزية لا أكثر، وذلك ما كان يتفق وطبيعة ذلك الزمان والحاكمين المتسلطين فيه، فلم يكن للخليفة — كما يقول المقريزي في «الخطط» — أمر ولا نهي، إنما حظه أن يقال: أمير المؤمنين!

ومهما يكن، فقد تبنَّى الخلافةَ بلد قويٌّ، وآوت إلى ركن شديد، وأصبحت الأنظار ترنو إلى مصر بعد أن ردَّت التتار عن الشرق والإسلام والمسلمين، وبعد أن ظفر سلاطينها من المماليك بسند شرعي يتمثل في تقليد الخلفاء إياهم وتوليتهم لهم.

(٣) ثانيًا: ظهور الفرنج

إذا كان ظهور التتار بالشام لم يكن إلا بعد سقوط بغداد سنة ٦٥٦ كما رأينا، فإن الفرنج بدءوا في غاراتهم على الشام ومصر قبل ذلك بأكثر من قرن ونصف من الزمان، فإن ابن الأثير يذكر في حوادث سنة ٤٩١ أنه في سنة ٤٩٠ خرج الفرنج إلى بلاد الشام، ثم يقول: «وقيل — أي في بيان سبب خروجهم إلى الشام — إن أصحاب مصر من العلويين (يريد أصحاب الدولة الفاطمية الشيعية) لما رأوا قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبقَ بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم من دخولها وحصرها، خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام؛ ليملكوها ويكونوا بينهم وبين المسلمين، والله أعلم.»٨
ومهما يكن سبب خروج الفرنج إلى الشام، فإنهم استمروا في غاراتهم عليها وعلى مصر، ينتصرون مرة وينهزمون أخرى، وظلت الحرب سجالًا بين الطرفين نحو قرنين من الزمان، حتى انتهى الأمر بطردهم نهائيًّا، على يد الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون سنة ٦٩٠ﻫ، وفي هذا يقول ابن كثير: «وفيها فُتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مُدد متطاولة، ولم يبقَ لهم فيها حجر واحد، ولله الحمد والمنة.»٩

من أجل ذلك كان عدم الاستقرار في مصر والشام هو طابع ذلك العصر؛ بسبب هؤلاء الصليبيين الذين انضم إليهم التتار، وقد ظهروا في الميدان في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وكانت معارك لا يكاد يخمد أوارها حتى تندلع من جديد هنا أو هناك في الشام ومصر، وكان على الشيخ ابن تيمية وأمثاله واجب يقومون به، وقد قاموا به فعلًا.

ولسنا هنا في مقام قصِّ أخبار أولئك الصليبيين حتى انتهى أمرهم وألقتهم سيوف المجاهدين إلى البحر، فقد حفلت بذلك كتب التاريخ التي هي على حبل الذراع لمن يريد. ولكن نشير إلى أمور تعتبر من صُوَى ذلك الزمن وأعلامه، ومنها يتبين أي عصر عاش فيه ابن تيمية حين رأى نور الحياة:
  • (أ)
    توطدت أقدام الصليبيين بالشام منذ زمن بعيد، واستولَوا على أكثر حصونها وقلاعها ومدنها، ثم عكا ويافا وبيروت وصور وعسقلان وغيرها، كما ملكوا بيت المقدس سنة ٤٩٢، وقتلوا بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا، منهم كثير من أئمة المسلمين وعلمائهم وزهَّادهم وعُبَّادهم، وذلك فضلًا عما سَبَوْه من الحريم والأولاد.١٠
  • (ب)

    إلا أن مصر، بأهلها وأولي الأمر فيها، لا تنام على ثأر ولا ترضى بالضيم، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، ومثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهر والحمَّى، كما يقول الرسول .

    ولذلك كان من الطبيعي أن تهبَّ مصر لنجدة إخوانهم بالشام، وأن يعمل البلدان الشقيقان على رد عادية الفرنج، بل لطردهم من الأماكن المقدسة. ومن أجل هذا يروي التاريخ أن المعارك والحروب لم تَفْتُرْ بينهم وبين المعتدين طوال تلك السنين.

  • (جـ)

    ثم دار الفلك دورات، وتأذَّن الله بالفرج بعد الشدة، وبالنصر المبين على الصليبيين، فهبَّ جيش مصر، بقيادة السلطان والبطل الخالد صلاح الدين الأيوبي لحرب هؤلاء العتاة الذين عاثوا في الأرض فسادًا، وعبثوا بالأماكن المقدسة حتى أحالوا المسجد الأقصى أول القبلتين كنيسة.

    وكان أن فتح الله عليه كثيرًا من مدن الشام وحصونها، واستنقذها من أيدي غاصبيها الظالمين. ومن هذه المدن والبلاد: عكَّا، ويافا، وعسقلان وما جاورها، وطبريَّة، واللاذقية، وبيروت، وصور،١١ ثم بيت المقدس، وغير ذلك كله من البلاد والنواحي الهامة الأخرى.

    غير أن الأمر لم يستتبَّ نهائيًّا على هذا الوضع، فإن رغبة الصليبيين الجامحة في امتلاك موطن المسجد الأقصى لم تَهِن أو تضعف، والاعتداء يغري بالاعتداء مرارًا؛ ولذلك كانت المدينة الواحدة، مثل عكا وبيت المقدس، كانت تنتقل من طرف إلى طرف أكثر من مرة، كما هو معروف من التاريخ.

  • (د)

    وكان من ذلك أن رأينا الحرب سجالًا بين الطرفين، وأن خرج كثير من الفرنج في البحر إلى الشام وأرسَوْا بعكا وبيتوا أمرهم على قصد بيت المقدس؛ استنفادًا له من المسلمين، وكان هذا سنة ٦٠٠ على ما يقصه علينا ابن الأثير، ثم كثرت غاراتهم ببلاد الشام على ما يرويه المؤرخ نفسه في أحداث سنة ٦٠٤.

    وبعد بضع سنوات رأى الفرنج أن يشغلوا مصر بنفسها حتى لا تمدَّ يدها لنجدة الشام، وطمعًا فيها نفسها من ناحية أخرى، فسارت منهم جموع كثيرة بحرًا إلى دمياط، وبعد حصار طويل وقتال شديد استولوا عليها، ولكنهم لم يلبثوا بها إلا يسيرًا؛ إذ اضطرهم جيش مصر إلى الجلاء عنها سنة ٦١٨ بعد أن ذهب الكثير ما بين قتيل وأسير وغريق في البحر، بحمد الله تعالى.١٢
  • (هـ)
    وننتهي من هذا العرض الموجز بالإشارة إلى أن الفُرقة دبت بين ملوك بني أيوب بعد وفاة أبيهم السلطان صلاح الدين حتى صاروا أحزابًا وفرقًا، فقويت نفوس الفرنج بكثرتهم وبمن جاءوا إليهم من البحر، فطلبوا من المسلمين أن يردوا إليهم ما كان صلاح الدين افتتحه من أيديهم، وتم الصلح على أن يُردَّ إليهم بيت المقدس وحده فتسلموه، وكان هذا سنة ٦٢٦،١٣ ثم استرده المسلمون منهم بحمد الله سنة ٦٣٦.١٤

وهكذا كان ذلك العصر مليئًا بالأحداث السياسية، وكان أهم هذه الأحداث ما نعرفه من غارات الفرنج والتتار مجتمعين ومنفردين على الشام ومصر، والمعارك التي قامت بين المسلمين وبينهم على مدى الزمان، حتى أدال الله منهم، وتخلص منهم الإسلام وبلاده إلى غير رجعة.

١  «الكامل في التاريخ»، ج١٢: ١٢٨.
٢  راجع: «تاريخ الكامل»، ج١٢: ١٣٧-١٣٨، وراجع أيضًا في هذا الحدث مفصلًا: «البداية والنهاية» لابن كثير ج١٣: ٨٦ وما بعدها، فقد أتى بما ذكره ابن الأثير وزاد عليه.
٣  «انحطاط الدولة الرومانية وسقوطها» Yibbn. Decline and fall of the Roman Empire. نقلًا عن «ابن تيمية» للمرحوم عبد العزيز المراغي ص٨.
٤  «البداية والنهاية»، ج١٢: ٢٠١، ثم يقول في مكان آخر (ص٢١٢) عند ذكر وفاة هذا الوزير سنة ٦٥٦: «وكان رافضيًّا خبيثًا رديء الطوية على الإسلام وأهله، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، ثم مالأ على الإسلام وأهلِه الكفارَ وهولاكو خان، حتى فعل ما فعل بالإسلام وأهله مما تقدم ذكره.» ويظهر أنه كان يريد، كما يقول المؤرخ نفسه، نقل الخلافة إلى الفاطميين.
٥  راجع أمر هذه الموقعة الفاصلة ومقدماتها في: «البداية والنهاية» ج١٣: ٢٢٠ وما بعدها، وفي «السلوك» للمقريزي ج١ قسم٢ ص٤٢٧ وما بعدها.
٦  هكذا يذكر السيوطي في «حسن المحاضرة»، ولعل الصحيح هو أن الشيخ عز الدين بايعه بعد السلطان ثم بعد قاضي القضاة تاج الدين، راجع «تاريخ الخلفاء» للسيوطي نفسه ص٣١٧، و«السلوك» للمقريزي ج١ ق٢ ص٤٥٠، وإن كان يذكر أن أول من بايعه القاضي تاج الدين ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
٧  راجع في هذه البيعة وما يتصل بها: ابن كثير ج١٣: ٢٣١ وما بعدها، «السلوك» ٤٤٨ وما بعدها، «الخطط» للمقريزي ج٢: ٢٤٢، «حسن المحاضرة» ٢: ٥٧ وما بعدها.
٨  ابن الأثير، ج١٠: ٩٤.
٩  «البداية والنهاية»، ج١٣: ٣١٩.
١٠  ابن الأثير، ج١٠: ٩٨.
١١  وهي كما يقول ابن الأثير، أعظم بلاد الشام حصانة وأشدها امتناعًا على من رامها.
١٢  ابن الأثير ج١١: ٢٠٠ وما بعدها، «البداية والنهاية» ج١٢: ٣٢٠ وما بعدها.
١٣  ابن الأثير ج١٢: ١٢٣ وما بعدها.
١٤  نفس المرجع ص١٨٧، «البداية والنهاية» ج١٣: ١٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤