الفصل الثاني

الناحية الاجتماعية

عاش الشيخ ابن تيمية في مجتمع بعيد عن أن تجمعه وحدة أو ما يقاربها في الجنس والمنزلة الاجتماعية، أو في الدين ومذاهبه التعبدية، أو في القضاء والقواعد التي يتحاكم الناس بموجبها، أو في غير ذلك كله مما يجعل لأفراد المجتمع وحدة لها أسسها وأهدافها وغاياتها المشتركة؛ بل كان مجتمعًا متنافرًا في هذه النواحي وما إليها بسبيل، ويتضح ذلك من هذه الكلمات التي نتناوله بها.

أجناس وطبقات

كان المجتمع في الشام ومصر في ذلك الزمان يموج بكثير من الأجناس المختلفة، بل المتباينة، في الطباع والعادات والتقاليد، وفي فهم الحياة وألوان المعيشة، ومع هذا فقد عاشت هذه الأجناس في هذين البلدين في عصر واحد، وامتزج بعضها ببعض حالة الحروب وفي ظل السلام، وكان لذلك أثر كبير فيما كانوا عليه هم وذرياتهم من الناحية النفسية والفكرية ونحوهما.

التقى في هذا العصر أقوام من أجناس مختلفة: أتراك، ومصريون، وشاميون، وعراقيون وفدوا إلى الشام وبخاصة بعد خراب بغداد، وفرنجة وتتار وقعوا في الأسر وأقاموا في البلاد، وأرمن وإسرائيليون.

هؤلاء جميعًا وآخرون غيرهم، عاشوا في صعيد واحد على اختلافهم في عاداتهم وأخلاقهم وتقاليدهم، فكان منهم مجتمع لا يعرف الاستقرار، بل مجتمع فيه من الاضطراب وعوامله شيء كثير، وكان لهذا أثر بالغ خطير في الحياة السياسية والفكرية والقضائية حينذاك.

وكان من الطبيعي أن يكون المجتمع الذي يقوم على هذا النحو، طبقات يتلو بعضها بعضًا في المراتب الاجتماعية، وفي السلطان والنفوذ، وذلك ما سنفصل فيه القول بعض التفصيل بعد هذه الإشارة؛ وذلك لأن التدرج الطبقي في تلكم الأيام كان له شأن كبير في ابن تيمية ونشاطه وكفاحه.

وفي هذا وذاك يقول المؤرخ المقريزي من كلام طويل له عن التتار خاصة وأثرهم في الشام ومصر، ما يحسن أن ننقل بعضه بنصه، وذلك إذ يقول:« فلما كثرت وقائع التتر في بلاد المشرق والشمال وبلاد القبجاق، وأسروا كثيرًا منهم وباعوهم، تنقلوا في الأقطار، واشترى الملك الصالح نجم الدين بن أيوب جماعة منهم، سماهم البحرية، ومنهم من ملك ديار مصر وأولهم المعز بن أيبك. ثم كانت للملك المظفر قطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت، وهزم التتار وأسر منهم خلقًا كثيرًا صاروا بمصر والشام.

ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملئوا مصر والشام … فغُصَّت أرض مصر والشام بطوائف المُغُل، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم. هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد مُلئت قلوبهم رعبًا من جنكيز خان وبنيه، وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم.

وكانوا (أي التتار) إنما رُبُّوا بدار الإسلام، ولُقِّنوا القرآن وأحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء، وفوَّضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وناطوا به أمر الأوقاف والأيتام، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية كتداعي الزوجين وأرباب الديون، ونحو ذلك.

واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعهد جنكيز خان والاقتداء بحكم «الياسه»،١ فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم، والأخذ على يد قويِّهم وإنصاف الضعيف منه على مقتضى ما في «الياسه»، وجعلوا إليه مع ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف في أمور الإقطاعات؛ لينفذ ما استقرت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب …» إلى آخر ما قال.٢

•••

وبعد هذا، لنا أن نقول بصفة عامة بأن المجتمع كان فيه قوتان كبيرتان لكل منهما نفوذها؛ الأولى: طبقة الأمراء وعلى رأسهم السلطان، وكان لها نصيب الأسد من النفوذ والجاه إن لم يكن النصيب كله، ومصدر ذلك سلطان الحكم وقوته.

والأخرى: هي طبقة العلماء والفقهاء وكبار رجال الدين، ومأتى نفوذ هؤلاء هو الدين نفسه، هذا الدين الجياش بالقوة والذي يقوى به — حتى على من بيدهم الحكم — من يمثله حقًّا ويعمل به في كل الشئون والأحوال. ويرى العارفون بالتاريخ ما كان في هذا العصر من نفوذ عز الدين بن عبد السلام، ومحيي الدين النووي، وابن تيمية، وأمثالهم جميعًا، على السلاطين أنفسهم ومن إليهم، وعلى الشعب والأمة كلها، وسنرى في الفصل الخاص بحياة ابن تيمية مصداق ذلك كله.

ويكفي هنا أن نشير إلى أحد مواقف الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع سلاطين عصره وأمرائه، وذلك حين أراد الملك المظفر الخروج لقتال التتار بالشام، وجد قلة ما عنده من المال في خزانته، وأنه «محتاج إلى المساعدة بشيء من أموال الرعية لإقامة الجند وتجهيزهم للسفر وما يعينهم على ذلك»، فجمع القضاة والفقهاء والأعيان لاستشارتهم في هذا، وطلب الموافقة على ما عزم عليه، فسكت من كان في المجلس إلا الشيخ عز الدين الذي قال: «إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الحاكم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء من السِّلاح والسروج الذهبية والفضية، والكبابيش المزركشة، وأسقاط السيوف والفضة وغير ذلك، وتبيعوا ما لكم من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على سلاحه ومركوبه ويتساووا هم والعامة. وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة، فلا.»٣

قال الشيخ هذه الكلمة المدوِّية غير ناظر لما يلقاه بسببها من اضطهاد وبلاء، ولكن الملك المظفر قبلها منه وعمل بمشورته، فكان النصر من الله القوي العزيز.

وبلغ من مهابة الشيخ عز الدين في قلوب السلاطين والأمراء، أنه لما مات سنة ٦٦٠ ومرت جنازته بالملك الظاهر بيبرس ورأى كثرة الخلق الذين معها، قال لبعض خواصه: «اليوم استقر أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه؛ لانتزع الملك مني!»٤
وبعد هذا، نشير إلى ما كان للشيخ محيي الدين النووي المتوفى سنة ٦٧٦ في عهد الملك الظاهر بيبرس من مواقف مشهودة خطيرة معه، ومراسلات إليه فيها التوجيه الرشيد والنصح الصريح الشديد، وفيها طلب أن يعدل مع الرعية وأن يرفع عنهم المكوس الظالمة.٥

وإذا كان الواحد من أولئك الفقهاء العلماء لا يخاف في الله لومة لائم، ويرعى لما آتاه الله من العلم كرامته ومن الدين حرمته، فقد كان في ذلك العصر من تُنزله الحاجة أو الحرص على الدنيا ومتاعها منزلة الدون، فهو يستذل للسلطان ويضرع إليه في قصة له، وكان معاصرًا لابن تيمية.

وفي هذا، ينقل السيوطي صور قصة «رفعها الفقير إلى رحمة ربه محمد بن مالك، يقبل الأرض ويُنهي إلى السلطان (هو الظاهر بيبرس) أيَّد الله جنوده وأبَّد سعوده أنه أعرف أهل زمانه بعلوم القراءات والنحو واللغة وفنون الأدب، وأمله أن يعينه سيد السلاطين ومبيد الشياطين — خلد الله ملكه، وجعل المشارق والمغارب ملكه — على ما هو بصدده من إفادة المستفيدين والمسترشدين بصدقة تكفيه همَّ عياله، وتغنيه عن التسبب في صلاح حاله …

وقد نفع الله بهذه الدولة الظاهرية الناصرية الناس خصوصًا وعمومًا، وكشف بها عن الناس أجمعين غمومًا، ولمَّ بها من شعث الدين ما لم يكن ملمومًا؛ فمن العجائب أن يكون المملوك من مرتدي خيراتها وعن يمين عنايتها غائبًا محرومًا، مع أنه من ألزم المخلصين للدعاء بدوامها، وأقوم الموالين بمراعاة زمامها.

لا برحت أنوارها زاهرة، وسيوف أنصارها قاهرة ظاهرة، وأياديها مبذولة موفورة، وأعاديها مخذولة مقهورة، بمحمد وآله.»٦

ونعتقد أن هذا الصنف من العلماء لا يخلو منه عصر، وهو لا يذكر بجانب العلماء والفقهاء الآخرين الذين أحاطهم الله برعايته، وملأت هيبتهم قلوب السلاطين والأمراء وعامة الأمة، بما عرفوا للدين من حرمة، وللعلم من كرامة، أمثال العز والنووي وابن تيمية وتلاميذهم، حتى كان الواحد منهم تهون عليه نفسه، ولا يعطي الدنية في دينه أو كرامته.

وكانت الطبقة الثالثة تجيء بعد هاتين الطبقتين السالفتين: الحكام ورجال العلم والدين، وهذه الطبقة الثالثة تشمل العامة والشعب من تجار وصنَّاع وزرَّاع، وهم الذين عليهم الكد والكدح، ولم يكن الواحد منهم يصل إلى ثمرة عمله كله، لما كان ينوبهم من مظالم ومكوس مختلفة تئودهم أحيانًا كثيرة.

وكان الشيخ ابن تيمية يُعنى كل العناية بهذه الطبقة العاملة: فهو عليها حانٍ عاطف، ولها مُوجه مرشد، وكثيرًا ما عمل لرفع ما كان ينزل بهم من مظالم على اختلاف ضروبها، كما كان كذلك معنيًّا بالطبقة الأولى الحاكمة، فهو يبذل جهده في إبعادهم عن الظلم، وتوجيههم للخير في الدنيا والدين، وسنعرف من ذلك الكثير بعد حين.

•••

ولعل من الواجب أن نلاحظ أن العلماء ورجال الدين البارزين بصفة خاصة، كانوا يعيشون في ذلك العصر معيشة راضية، بفضل ما كان يغدقه عليهم السلاطين والأمراء من وظائف ذات مرتبات طيبة؛ رغبة منهم في استمالتهم إلى جانبهم وضمانًا لرضاهم عنهم؛ لأن إليهم قياد العامة في السخط والرضا.

وفي ذلك يذكر المؤرخ ابن كثير أنه في سنة ٦٩٠ طُلب القاضي بدر الدين بن جماعة من القدس على البريد إلى الديار المصرية لتوليته قضاء القضاة، بدل تقي الدين ابن بنت الأعز الذي عُزل من هذا المنصب، فجاء القضاة إلى تهنئته.

ثم يقول عن ابن بنت الأعز: «وكان بيده سبعة عشر منصبًا، منها: القضاء والخطابة، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر الخزانة، وتداريس كبار.»٧
ويقول عنه ابن السبكي وعن مناصبه العديدة: «إنه كان من أحسن القضاة سيرة، جمع بين القضاء والوزارة، وولي مشيخة الخانقاه وخطابة الجامع الأزهر، وتدريس الشريفية وتدريس الشافعي والمشهد الحسيني بالقاهرة …» إلى آخر ما قال عن المحنة التي جرت له.٨
وكذلك يقول المقريزي: «ولزم ابن بنت الأعز داره ولم يُترك بيده شيء من الوظائف، وكان بيده سبع عشرة منها، وهي: القضاء بديار مصر، وخطابة الجامع الأزهر، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر التركة الظاهرية … وعدة تداريس، وأُلزم الإقامة في زاوية الشيخ نصر المنبجي خارج القاهرة …» إلى آخر ما قال.٩
وبعد هذا نجد ابن كثير يذكر في حوادث سنة ٧٠١ أنه: «في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك ورغبتهم فيه، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه، وفرحت الصوفية به وجلسوا حوله. ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده في زماننا هذا: القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ.»١٠

ومن ذلك كله يتبين لنا أن كثيرًا من رجال العلم والفقه كانوا يجمعون وظائف كثيرة، ولعل ذلك يرجع أولًا إلى ما كانوا يتميزون به من كفايات نادرة، ومع هذا فقد كان جمهرة رجال العلم والدين البارزين يحيون حياة طيبة بسبب ما كانوا يقومون به من أعمال عديدة يسندها إليهم السلاطين والأمراء ومن إليهم.

جهات التقاضي وأحكامه

لم يكن في هذا المجتمع في ذلك العصر وحدة تجمع بين طبقاته كلها من ناحية جهة التقاضي التي يتحاكمون إليها، ولا من ناحية الشرائع والقواعد القانونية التي ينزلون على أحكامها، بل كان الاختلاف واضحًا وكثيرًا في هاتين الناحيتين بسبب اختلاف الأجناس.

وذلك بأن التتار الذين كثروا بمصر والشام بسبب الأسر أو غيره، ثم أقاموا في هذين البلدين، ونشئوا على الإسلام، أحلهم ملوك مصر محلًّا ممتازًا لما كان لهم من عظمة وهيبة في القلوب، ومنهم من وصل إلى أن صار من ملوك مصر وحكامها، وأولهم المعز ابن أيبك كما يقول المقريزي في خططه.

وكان من هذا، أن هؤلاء التتار احتفظوا بكثير من العادات التي نشئوا أولًا عليها، وبكثير من القواعد القانونية التي وضعها لهم جنكيز خان، والتي كانوا يعظمونها تعظيم الشرائع المنزَّلة من السماء، والتي كان يتضمنها كتابهم المشهور: «الياسه».

إنهم — كما قلنا آنفًا — جعلوا لقاضي القضاة القضاء فيما كان من الأمور الدينية، وجعلوا للحاجب الحكم فيما شجر بينهم فيما يكون من الأمور التي ترجع إلى ذات أنفسهم، وهنا كان الحكم حسب قواعد «الياسه» لا الشريعة الإسلامية.

وكان من هذه القواعد، كما يذكر ابن كثير والمقريزي، أن من زنا قُتل مُحصنًا كان أو غير محصن، ومن لاط قُتل، ومن تعمد الكذب قُتل، ومن تجسس قُتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قُتل، ومن بال في الماء الواقف قُتل، ومن أطعم أسيرًا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قُتل، وكذلك من وجد هاربًا ولم يرده، ومن أكل ولم يُطعم من عنده، ومن ذبح حيوانًا ذبحة المسلمين، إلى غير هذه القواعد التي لا تتفق وشريعة الإسلام العادلة.١١

ومن ثَم نرى ابن كثير بعد ذكر ما نقلناه عنه يقول: وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزَّلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزَّل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى «الياسه» وقدمها عليه!

من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال الله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وقال: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

•••

هذا ما كان متبعًا بالنسبة للتتار ومن إليهم، أما بالنسبة للمسلمين فكان القضاة طبعًا يُفتون حسب شريعة الله ورسوله، فكانت جهة التقاضي واحدة، وكذلك الشريعة التي يُحكم بها، فكان للبلد الواحد أو لجملة بلاد، من ديار مصر والشام، قاضٍ واحد يحكم حسب مذهبه الفقهي.

وظل الأمر كذلك إلى سنة ٦٦٣، ففي هذه السنة كان القضاء في مصر كلها (في عهد السلطان الظاهر بيبرس) للشيخ تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز وهو شافعي، فرأى السلطان بيبرس تولية قضاة من بقية المذاهب الأربعة، وأن يكون كل منهم مستقلًّا بالحكم فيما يُرفع إليه من دعاوى حسب مذهبه، وأن يولي كلٌّ منهم من جهته نوابًا في البلاد التي جُعل إليه القضاء فيها. وكان السبب في هذا التغيير الكبير — كما يذكر ابن كثير — كثرة توقف القاضي ابن بنت الأعز في أمور تخالف مذهب الشافعي وتوافق غيره من المذاهب.١٢

وبهذا ذهبت وحدة القضاء وجهاته؛ لأن من المعروف أن المذاهب الفقهية تختلف فيما بينها اختلافات كثيرة في الأصول والآراء والأحكام التي تنبني عليها، فربما كان في المسألة أو القضية الواحدة آراء كثيرة مختلفة على ما هو معروف.

أديان ومذاهب

وكما كان المجتمع في ذلك العصر كثير الأجناس والطبقات — على ما عرفنا — مثله مثل سائر المجتمعات في كل مكان في تلكم الأيام، كان كذلك كثير الأديان والعقائد، كثير النِّحَل والمذاهب في الدين الواحد، وكان هذا كله من بواعث القلق والفتنة والاضطراب، ومن العوامل التي يَسَّر للفرنج والتتر أن يعيشوا زمنًا طويلًا في البلاد.

نعم، كان هنالك المسلمون أهل البلاد والكثرة الغالبة بطبيعة الحال، وكان بجانبهم أهل الذمة اليهود والنصارى، وكان المسلمون فرقًا مختلفة من ناحية العقائد الدينية كما نعرف في علم الكلام، وكان هناك الإسماعيلية وغيرهم من الشيعة الروافض الذين يكيدون للإسلام وأهله منذ قديم الزمان وإلى اليوم كيدًا كثيرًا.

وهنا نشير إلى ظاهرة بدت ملحوظة في ذلك العصر، ولكنها أخذت تختفي في هذه الأيام التي نعيش فيها، وهي أن العاطفة الدينية كانت أقوى في ذلك الزمان بكثير جدًّا من العاطفة الوطنية، بل كانت هذه لا شيء أمام تلك.

وذلك ما يفسر لنا إلى حد كبير ما ملأ ذلك العصر من عداء النصارى للمسلمين والإسلام، في العصر الذي عاش فيه ابن تيمية وما اكتنفه قبله وبعده، بل ما كان من فرحهم وترحيبهم بالفرنج والتتار حين غزوا الوطن المشترك! كما يفسر أيضًا موقف الشيعة الرافضة في مصر والشام والعراق وميلهم إلى أعداء الدين والوطن، الغازين الظالمين.

ومهما يكن فنحن نسجل هنا هذه الظاهرة التي استشففناها من أحداث ذلك العصر، ثم نأخذ في الكلام بإجمال عما كان فيه من أحداث، سببها تعدد الديانات والنحل والمذاهب الدينية المختلفة؛ هذه الأحداث التي عاصر ابن تيمية الكثير منها، واستنفدت منه كثيرًا من جهده، واستوجبت الكثير من جهاده وكفاحه الديني والسياسي المحمود.

  • (أ)

    ونبدأ هنا بالإشارة إلى ما ذكرناه من قبلُ من مُكاتبة الدولة الفاطمية بمصر للفرنج يدعونهم للدخول إلى الشام؛ وذلك ليكونوا حائلًا بينهم وبين الدولة السلجوقية التي استولت على الشام كله حتى مدينة غزة، على ما يذكره ابن الأثير وغيره من المؤرخين.

    كما نشير إلى موقف ابن العلقمي الرافضي وزير آخر الخلفاء العباسيين ببغداد مع التتار وتيسيره لهم دخول العاصمة كما ذكرنا سابقًا؛ بسبب ما كان من عداء شديد بين أهل السنة وشيعته، فكان هذا — كما يؤكد ابن كثير — مما أهاجه على تدبير ذلك الأمر الفظيع؛ يعني دخول التتار بغداد واجتياحهم بلاد الإسلام.

  • (ب)
    والإسماعيلية طائفة من الشيعة الروافض١٣ الذين خرجوا عن الإسلام بكثير من العقائد التي يذهبون إليها، ولهم في الكيد للمسلمين؛ أهل السنة والجماعة تاريخ سيئ قبيح مشهور، وبخاصة في الشام. وزعيمهم في أيامنا هذه هو «أغا خان» المشهور، وكان المسلمون يقفون لهم بالمرصاد على مر الزمان والعصور.
    ولذلك نجد السلطان صلاح الدين الأيوبي يوقع بهم، ويخرب بلدهم بالشام ويحرقها، ولم يرجع عنهم إلا بشفاعة شهاب الدين الحارمي خاله وصاحب حماه.١٤
    وفي سنة ٦٥٥، يذكر ابن كثير في تاريخه أنه كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي؛ وكان ذلك أقوى الأسباب التي دعته إلى ممالأة التتار على آخر الخلفاء العباسيين بها.١٥
  • (جـ)

    أما المسيحيون؛ فإنهم بعد دخول التتار بغداد، أظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين، وفي هذا يقول المقريزي في حوادث سنة ٦٥٨: «واستطال النصارى بدمشق على المسلمين، وأحضروا فرمانًا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم وإقامة دينهم، فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشُّوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبُّوه على أبواب المساجد، وألزموا أرباب الحوانيت بالقيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع عن القيام للصليب.

    وصاروا يمرُّون به في الشوارع إلى كنيسة مريم، ويقفون به ويخطبون في الثناء على دينهم، وقالوا جهرًا: ظهر الدين الصحيح دين المسيح. فقلق المسلمون من ذلك، وشكَوا أمرهم لنائب هولاكو وهو كُتْبُغا، فأهانهم وضرب بعضهم، وعظَّم قدر قسوس النصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعارهم …» إلى آخر ما قال ذلك المؤرخ الأمين.١٦
  • (د)

    وأخيرًا، نشير بعد هذا وذاك، إلى ما كان يسود هذا المجتمع أحيانًا كثيرة من قلق واضطراب بسبب اختلاف بعض الفرق الإسلامية في بعض مسائل علم الكلام، مثل مسألة كلام الله تعالى وقِدَمه وأزليته، وهل القرآن القديم الأزلي ينقلب مدادًا وحروفًا وأصواتًا، كما نراه في المصحف ونقرؤه ونسمعه، فيكون كل ذلك قديمًا أزليًّا أيضًا؟

    نسب القول بذلك إلى فريق من الحنابلة؛ لأنه في رأيهم كلام الله تعالى، وقال الأشاعرة ليس شيء من ذلك قديمًا، والقديم الأزلي هو كلام الله النفسي، وما نكتبه بالمداد ونقرؤه باللسان ونسمعه بالآذان دليل عليه، وهذا كله محدث لأنه من أفعال العباد لا من أفعال الله تعالى.

    وكان هذا الاختلاف في هذه المسألة مثار فتنة كبيرة أيام الخليفة المأمون، كما كان مثار فتن كثيرة أخرى في أزمنة مختلفة.

    ومن ذلك ما كان بين العز بن عبد السلام شيخ الإسلام وسلطان العلماء وإمام عصره (توفي سنة ٦٦٠)، وبين هذا الفريق من الحنابلة بسبب تلك المسألة الكلامية الشائكة، وكان هذا في دمشق في عهد الملك الأشرف ابن الملك العادل الأيوبي، وكان هذا الملك يعرف للعز منزلته وأنه سيد أهل عصره وحجة الله على خلقه.

    ولكنه مع هذا سمع للحنابلة وصدق ما أوهموه به من أن الشيخ زائغ العقيدة، منحرف عما صح من العقائد الدينية الصحيحة التي يسندها في رأيهم القرآن والحديث، وأن الذي هم عليه هو اعتقاد السلف والإمام أحمد بن حنبل وفضلاء أصحابه رضي الله عنه.

    وكان عز الدين أشعريًّا في عقيدته، وكان السلطان ميالًا إلى المحدثين والحنابلة، فآمن بما قالوه، وصار يعتقد أن من يخالف ذلك من الأشاعرة يكون كافرًا حلال الدم.

    وهكذا بدأت الفتنة تقوم، وصارت قضية كبيرة بين العز وخصومه يؤيدهم السلطان وشُغل العلماء بذلك، بل شمل القلق والاهتمام بالأمر القاهرة أيضًا. وبعد رسائل كتبها الشيخ في بيان الحق الذي لا يخاف فيه أحدًا حتى السلطان، وبعد رده على ما رآه هذا ردودًا عنيفة، حكم السلطان عليه بألا يفتي أحدًا ولا يجتمع بأحد، وبأن يلزم بيته.

    وهكذا انتصر خصومه، ولكنه كان لا يبالي لأنه صدع بالحق. إلا أن هذا الانتصار لم يدم طويلًا؛ فقد انتصر له الملك الكامل أخو الأشرف، وكان سلطان مصر وأشعريًّا في عقيدته، كما انتصر له كثير من العلماء بعد لأيٍ، وانتهى الأمر بأن عرف السلطان الأشرف أن الشيخ على حق، فعاد إلى تقديره وتعظيمه واسترضائه.١٧

إلحاد وانحلال خلقي

كان من الطبعي أن تكون ملامح هذا المجتمع التي ألمعنا إليها، والتي اكتفينا بها عن غيرها لتصويره، من العوامل القوية التي دعت إلى ظهور كثير من صور الانحلال الخلقي وشيوع المنكرات من ناحية أخرى، فكان هذا وذاك من الدواعي الشديدة التي حفزت كثيرًا من رجال الدين والفقهاء والعلماء، ومنهم الشيخ ابن تيمية، إلى مكافحة ذلك كله بكل سبيل، وكانوا يجدون العون على ذلك من السلاطين.

ولا نرى ضرورة الإطالة في هذا، فإن هذا المجتمع في ذلك العصر لم يشذ في ذلك عن كثير من المجتمعات الأخرى التي تقدمته أو جاءت بعده، ومن ثَمَّ نرى أن نكتفي في تلك الناحية بهذه الكلمات الموجزة:
  • (أ)

    يذكر المؤرخون للعز بن عبد السلام المتوفى في القرن السابع أنه رأى السلطان الأشرف موسى ابن الملك العادل بن أيوب جالسًا يوم عيد في مجلس المملكة وفي أُبَّهة عظيمة، وقد أخذت الأمراء تقبِّل الأرض بين يديه على العادة، فناداه بقوله: «يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوِّئ لك مُلك مصر ثم تبيح الخمور؟» فقال: «هل جرى هذا؟» فقال: «نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمر وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة!»

    فقال السلطان: «يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.» فقال الشيخ: «أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة!»١٨ فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة.

    ويذكرون أن الشيخ قال لمن سأله عن الحال حتى فعل ما فعل من مجابهة السلطان، فقال: «يا بني، رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه.» فقيل له: «أما خفته؟» فقال: «يا بني، إني استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقط.»

    ولا عجب أن يكون هذا من الشيخ ابن عبد السلام، فقد كان كما يذكر ابن العماد الحنبلي زاهدًا ورعًا، مع قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومع الصلابة في الدين.١٩
  • (ب)
    ويذكر المقريزي في حوادث سنة ٦٦٤ أن السلطان الملك الظاهر بيبرس اشتد إنكاره للمنكر، وأراق الخمور، وعفَّى آثار المنكرات، ومنع الخانات والخواطئ بجميع أقطار مملكته بمصر والشام، فطُهِّرت البقاع من ذلك.٢٠
    ويقول المؤرخ نفسه في حوادث ٦٦٧: «وكتب السلطان (هو الظاهر بيبرس) بإزالة الخمور وإبطال المفاسد والخواطئ من القاهرة ومصر وجميع أعمال مصر، فطُهِّرت البلاد كلها من المنكر، ونُهبت الخانات التي جرَت عادة أهل الفساد بالإقامة بها، وسُلبت جميع أموال المفسدات وحُبسن حتى يتزوجن، ونفي كثير من المفسدين، وكتب السلطان إلى جميع البلاد بمثل ذلك.»٢١

    وتكرر مثل ذلك من الظاهر بيبرس طول حياته (توفي سنة ٦٧٦)، كما يذكر المقريزي أيضًا في كتابه «السلوك» في مواضع كثيرة منه.

  • (جـ)
    ويذكر ابن كثير أنه في سنة ٧٠١ قُتل الفتح أحمد بن الثقفي بمصر بحكم القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي؛ وذلك لما ثبت عنده من حطِّه للشريعة واستهزائه بالآيات القرآنية ومعارضة المشتبهات منها بعضها ببعض، ولأنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك لمن كان يجتمع لذلك من الفسقة من الترك وغيرهم.٢٢
  • (د)

    وأخيرًا، نذكر في هذه الناحية أنه في سنة ٧٢٦ ضُربت رقبة ناصر بن أبي الفضل الهيتي في ظاهر دمشق، بعد أن حكم القاضي المالكي بكفره وزندقته وتلاعبه بدين الإسلام. ويذكر ابن العماد الحنبلي أن الذي ثبتت زندقته عنده هو قاضي القضاة شرف الدين بن مسلم الحنبلي، ثم نقل الثبوت إلى قاضي القضاة شرف الدين المالكي، فأنفذه وحكم بإراقة دمه.

    وذكر أيضًا أنه في ابتداء أمره عاشر الكبار وانتفع بهم، كما كان كثير المجون، ولما كبر اجتمع بمحلولي العقيدة، مثل ابن المعمار والباجريقي والمنجم بن خلكان وغيرهم، فانحلت عقيدته وتزندق من غير علم.٢٣
١  وضع جنكيز خان كتابًا قرر فيه قواعد وعقوبات سماه «ياسه»، ثم أدخل عليها العرب أداة التعريف.
٢  «خطط المقريزي»، ج٢: ٢٢١.
٣  «النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة» لأبي المحاسن بن تغري بردي، طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة سنة ١٩٣٠، ج٧: ٧٢.
٤  «طبقات الشافعية» لابن السبكي، ج٥: ٨٤.
٥  «حسن المحاضرة»، ج٢: ٨٩ وما بعدها، حيث أتى المؤلف بكثير من هذه المكاتبات.
٦  «حسن المحاضرة»، ج٢: ٨٨-٨٩.
٧  «البداية والنهاية»، ج١٣: ٣٢٢.
٨  «طبقات الشافعية الكبرى»، ج٥: ٦٤.
٩  «السلوك»، ج١ ق٢ في حوادث سنة ٦٩٠.
١٠  «البداية والنهاية»، ج١٤: ١٧-١٨.
١١  يراجع في ذلك كله: «البداية والنهاية»، ج١٣: ١١٨-١١٩، «الخطط المقريزية»، ج٢: ٢٢٠-٢٢١.
١٢  «البداية والنهاية»، ج١٣: ٢٤٥.
١٣  راجع «الخطط المقريزية»، ج٢: ٣٥١ وما بعدها في سبب تسميتهم بالروافض، وفي بيان فرقهم وهي عشرون على المشهور، وهم جميعًا غلاة في حب علي بن أبي طالب وبغض الشيخين وعائشة وآخرين من الصحابة. وراجع أيضًا فيهم وفي فضائحهم «التبصير في الدين» الإسفراييني ص١٦ وما بعدها، وص٢٣ في أن الإسماعيلية منهم.
١٤  «تاريخ ابن الوردي»، ج٢: ٨٧، في حوادث سنة ٥٧٢.
١٥  «البداية والنهاية»، ج٣: ١٩٦.
١٦  «السلوك»، ج١ ق٢: ٤٢٥، وارجع في هذا أيضًا إلى «البداية والنهاية» لابن كثير، ج١٣ ص٢١٩.
١٧  راجع في تفصيل هذه الحادثة أو الفتنة، طبقات ابن السبكي ج٥: ٨٥ وما بعدها.
١٨  السبكي، ج٥: ٨١-٨٢. والخانة، أو الحانة، مكان العبث واللهو والاستهتار.
١٩  «شذرات الذهب»، ج٥: ٣٠٢.
٢٠  «السلوك»، ج١ ق٢: ٥٥٣.
٢١  «السلوك»، ج١ ق٢: ٥٧٨.
٢٢  «البداية والنهاية»، ج١٤: ١٨، وراجع في هذا أيضًا، «شذرات الذهب» ج٦: ٢.
٢٣  راجع «تاريخ ابن الوردي» ج٢: ٢٧٨، و«شذرات الذهب» ج٦: ٧٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤