الفصل الأول

المنهج

نرى قبل أن نتناول بالبحث مذهب ابن تيمية وآراءه في القرآن وتفسيره، والفقه وأصوله، وعلم الكلام والعقائد الدينية، والتصوف والمنطق والفلسفة، وما ذهب إليه من الآراء الاجتماعية والسياسية، نقول: نرى قبل ذلك كله وما إليه، أن نتكلم عن منهجه في البحث الذي سار عليه في كل هذه النواحي.

وذلك، بأننا نرى بحق أن الباحثين من العلماء يُجمعون على أنهم لا يعملون إلا للحق، ولا يبحثون إلا عنه، ولكنهم مع هذا يختلفون في نتائج بحوثهم — حتى في العلم الواحد أو المسألة الواحدة من مسائل هذا العلم — اختلافًا كثيرًا؛ وذلك بسبب اختلافهم في المناهج التي يسيرون عليها.

وتكون النتيجة الحتمية هذه الاختلافات التي رأينا الكثير منها بين الشيخ ابن تيمية ومعاصريه، بل التي لا زلنا نحسُّها بينه وبين كثير من العلماء والفقهاء في هذا العصر الذي نعيش فيه.

بيان منهج ابن تيمية ضرورة إذن لا بدَّ منها، فقد آمن بهذا المنهج إيمانًا راسخًا لا يزول، والتزمه في كل ما كتب، وصدر عنه في كل رأي ذهب إليه، ونحن نتعرض له في هذه الكلمات:

الاعتماد على الكتاب والسنة

إنه يعتمد على كتاب الله وما صح عنده من أحاديث الرسول وسنته، ثم على آراء الصحابة، على أنه قد يحتجُّ أحيانًا بأقوال التابعين والآثار التي رويت عنهم، مستأنسًا بها وبخاصَّة في الجدل والمناظرة.

وذلك بأن القرآن قد تضمن الشريعة التي أُمرنا باتِّباعها — في أصول الدين وفي فروعه وأحكامه العلمية المعروفة بالفقه، وفي غير هذا وذاك كله من الآداب والأخلاق — أحيانًا في إجمال، وأحيانًا في تفصيل. ثم بيَّن الرسول ذلك كله، وأخذ الصحابة رضي الله عنهم بيانه وتفسيره، وعنهم أخذ التابعون بإحسان.

فليس لنا بعد هذا إلا أن نسير على هذا النهج فنصل إلى ما نريد من معرفة الدين وأصوله، وشريعة الله ورسوله، وسائر ما يجب معرفته مما فيه خير الدنيا والآخرة. وليس لنا أن نتبع غير ما عرفناه عن السلف الصالح الذين بلَّغوا إلينا ما فهموه عن الرسول فأحسنوا التبليغ، وإلا ضللنا ضلالًا بعيدًا.

هذا، ونجد هذا العنصر الأول من عناصر منهجه واضحًا في كل كتبه ورسائله، ومن هذه الرسائل رسالة عنوانها: معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بيَّنها الرسول، وهي مما كتبه وهو بقلعة دمشق، ويكفي هذا العنوان للدلالة على ما نريد.١
وقد افتتح هذا الرسالة بقوله: فصل في أن رسول الله بيَّن الدين، أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله. فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصامًا بهذا الأصل كان أولى بالحق علمًا وعملًا …٢
ثم يقول بعد أن أشار إلى منهج المتكلمين والفلاسفة والصوفية: وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا الحق، وأنهم بيَّنوه مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدوقون، علموا الحق وبيَّنوه …٣

ويزيد الأمر بيانًا وتفصيلًا فيقول بعد ما تقدم: وأما العمليات، وما تسميه أناس الفروع والشرع والفقه، فهذا قد بيَّنه الرسول أحسن بيان، فما من شيء مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلَّله أو حرَّمه إلا بيَّن ذلك. وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.

وقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وقال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وهو الرد إلى كتاب الله أو إلى سنة رسوله بعد موته.٤
ولا يخالف الشيخ في أن الإجماع والقياس من أصول الفقه، ولكنه يردُّهما إلى كتاب الله وسنة رسوله اللذين هما الأصل في كل حال؛ ولهذا نراه يقول في الرسالة نفسها: والمقصود هنا أن الرسول بيَّن جميع الدين بالكتاب والسنة، وأن الإجماع — إجماع الأمة — حق، فإنها لا تجتمع على ضلالة.٥ وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة …

ثم يقول: فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان للرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويُعلم الإجماع فيستدل به … وقد استقرينا فوجدناها كلها منصوصة.

هكذا نجد ابن تيمية يرد الإجماع إلى الكتاب والسنة، وكذلك الأمر في القياس؛ إذ يذكر — كما عرفنا — أن القياس الصحيح هو ما وافق الكتاب والسنة، ويشير بعد ذلك إلى أن بعض الفقهاء قد لا يعرفون النص فيجتهدون بالرأي الذي هو القياس ونحوه، ولكن ما أداهم إليه اجتهادهم بالرأي موجود في كتاب الله أو سنة رسوله.٦

وفي غير الفقه وأصوله نجده يسير على نفس المنهج، ففي أصول الدين أو علم العقائد نراه في آرائه لا سند له إلا القرآن وأحاديث الرسول وسنته وما صحَّ عنده من أقوال الصحابة والتابعين وآرائهم، وكذلك في رده على الفلاسفة وأمثالهم ممن يحكِّمون عقولهم في العقائد الدينية.

ونجد هذا ماثلًا أمامنا في جميع ما كتبه من رسائل في هذه الناحية، وما أكثر هذه الرسائل التي تتناول العقائد التي جاء بها القرآن وبينتها أحاديث الرسول .

ومن باب التمثيل لهذا، نذكر العقيدة الواسطية التي كتبها سنة ٦٩٨ إجابة لطلب أحد قضاة واسط، ففي هذه الرسالة لا نجد الشيخ استدل لشيء من العقائد التي يجب على كل مسلم اعتقادها في الله وصفاته، وغير ذلك من العقائد الأخرى التي يُتكلَّم عنها في علم التوحيد، إلا بالكتاب والسنة والصحيح من الآثار.

ولذلك نجده يقول في بعض فصولها: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة، اتِّباع آثار رسول الله باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله حيث قال: «عليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدثاتِ الأمور فإن كل بدعة ضلالة.»٧
وفي رسالة أخرى كتبها إجابة عن استفتاء ورد إليه، بشأن ما يجب على المسلم الإيمان به من صفات الله تعالى، نراه يقول بعد أن ذكر بعض ما جاء في القرآن والسنة من الصفات: «إذا تبيَّن هذا، تبين أن ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول، وأن أولى الناس بالحق أتبعُهم له وأعظمهم له موافقة، وهم سلف الأمة وأئمتها الذين أثبتوا ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات، ونزهوه من مماثلة المخلوقات …» إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.٨

ونكتفي بما قدمناه عن هذا العنصر الأساسيِّ الأول لمنهج ابن تيمية، وسنجده واضحًا تمامًا في تفسيره لكتاب الله، وفي غيره من العلوم الإسلامية التي كتب فيها، وذلك عندما نبحث في القسم الثاني آراءه ومذهبه فيها، ونعرض الآن للعنصر الثاني من المنهج الذي لم يحد عنه قيد شعرة في كل ما كتبه.

اعتماده على العقل في مجاله

وما ينبغي لنا أن نظن أن ابن تيمية يهمل العقل وتفكيره حين يجعل الكتاب والسنة وآثار الصحابة ومن إليهم سنده الأول في بحوثه وآرائه، بل مستنده الوحيد بعبارة أدق، فإن فهم كتاب الله وسنة رسوله فهما عميقًا حقًّا يحتاج بلا ريب إلى قلب واع وعقل مفكر نافذ، ولكنه كان يعرف للعقل قيمته ومجاله الذي يصول فيه ويجول، فلا يجاوز به هذا المجال ولا يرتفع به عن قدره.

ولكن معرفة هذا المجال هي المشكلة التي شغلت الفلاسفة والمفكرين في كل عصر، وبخاصة مفكري الإسلام ورجال الفلسفة فيه، فإن منهم من آمن بالعقل ونظره إيمانًا راسخًا، ووثقوا به ثقة مطلقة، فكان هذا سبب ضلال بعضهم إلى حد كبير، حين ظنوا أنهم بعقولهم وحدها قادرين على معرفة عالم الشهادة وعالم الغيب أيضًا!

إن القرآن دعا حقًّا إلى وجوب ملاحظة ما خلق الله من عوالم مختلفة، وإلى إعمال العقل فيها؛ وذلك ليصل الإنسان إلى الإيمان بإله واحد خلق ذلك كله؛ ولذلك نجد آيات كثيرة تختم بهذه الجُمَل وأمثالها التي لها دلالتها: لعلكم تعقلون، لعلكم تذكَّرون، لعلكم تهتدون، لقوم يتفكرون.

وكان من تنبيه القرآن، باشتماله على هذا الضرب من الآيات وأمثالها، العقلَ إلى التفكير للوصول إلى الإيمان بالله الخالق العلي الحكيم، أن ظهر في البيئة الإسلامية كتب «العقل» لداود بن المجبِّر بن فَهدَم أبي سليمان البصري وأمثاله، وروى أصحاب هذه الكتب أحاديث عن الرسول تشيد بالعقل إلى أكبر الحدود، وتجعل له الأثر البالغ في كل شيء.٩
ويذكر ابن تيمية حين سُئل رأيه في هذا الحديث: «أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقًا أكرم عليَّ منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب والعقاب»، حين سئل الشيخ عن هذا الحديث قال: هذا الحديث باللفظ المذكور قد رواه من صنَّف في فضل العقل كداود بن المجبر ونحوه. ثم يذكر رأيه في الحديث فيقول: واتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ضعيف بل موضوع. ثم ينقل عن الحفاظ أن الأحاديث المروية عن الرسول في «العقل» لا أصل لشيء منها، وبخاصة والمراد بالعقل فيها هو العقل الإنساني كما يزعم الذين رووها.١٠

ومهما يكن من أمر، فقد كان المعتزلة أول من أشادوا مِن بين الفرق الإسلامية بالعقل، فجعلوه الفيصل في أمر الإيمان والعقيدة، حتى ليقول في مدحه أحد قدامى رجالهم، وهو بشر بن المعتمر من بغداد:

لله در العقل من رائد
وصاحب في العسر واليسر
وحاكم يقضي على غائب
قضية الشاهد للأمر
وإن شيئًا بعض أفعاله
أن يفصل الخير من الشر
لذو قوًى، قد خصه ربه
بخالص التقديس والطهر١١

على هذا النحو افتتن كثير من المفكرين المسلمين بالعقل، وجاوزوا به قدره ومجاله، حتى رأوا فيه فيصلًا بين الحق والباطل، ومميزًا الخير من الشر، ومن ثم، عمدوا إلى تأويل كثير من نصوص القرآن والحديث الصحيح، إذا تعارضت ومن ثم، عمدوا إلى تأويل كثير من نصوص القرآن والحديث الصحيح، إذا تعارضت في ظاهرها مع نظر العقل، لتتفق وما يرونه من حقائق أدى إليها النظر العقلي الصحيح.

ونجد هذا الضرب من التأويل الذي يفترض أولًا تعارض النقل والعقل أحيانًا كثيرًا عند المعتزلة والمتصوفة والشيعة، وكذلك بعض رجال الأشاعرة كأبي حامد الغزالي الذي وضع لأجل هذا قانونًا للتأويل؛ وذلك ليكون التزامه حائلًا دون الغلو في تأويل النصوص.١٢

وإذا كان الإمام الغزالي قد اضطر للخوض في مشكلة التأويل، وكان التأويل من عناصر منهجه في البحث، فلذلك سببه الواضح؛ فهو متكلم وفيلسوف ومتصوف معًا، فهل كان الأمر كذلك بالنسبة للإمام ابن تيمية؟ وهل كان من عناصر منهجه في البحث تأويل ما لا يتفق ونظر العقل من النصوص؟

ذلك ما سنتناوله هنا بإيجاز، وسنقتبس فيه بعض ما كتبناه في هذه الناحية في كتاب ظهر لنا منذ سنوات.١٣

•••

لم تعرض مشكلة تأويل نصوص القرآن والحديث لابن تيمية، وإنما هو الذي رأى ضروريًّا أن يعرض لها، وذلك حتى يدفع عن النصوص المقدسة عادية «المؤولين» الذين أسرفوا في التأويل لتشهد هذه النصوص لما ذهبوا إليه من آراء، فقد كانوا يعتقدون ثم يستدلون، أما هو فكان يستدل أولًا ثم يعتقد ثانيًا ما أداه إليه الدليل النصي.

إنه يرى أولًا أن يفرق بين التأويل في عرف السلف، وبينه عند المتكلمين — وبخاصة المعتزلة منهم — والفلاسفة والمتصوفة الإسلاميين.

فالتأويل عند رجال السلف هو التفسير وبيان المراد من النص القرآني أو الحديثي، وبهذا المعنى ورد كثيرًا في القرآن نفسه، وهو التأويل المقبول. ومن ثم، يقال: إن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم كانوا على علم بتأويل القرآن الذي فهموه وفسروه كله، وفي هذا يقول الحسن البصري من التابعين: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يُعلم ما أراد بها.١٤

ولهذا لا يجوز التوقف وترك بيان معنى الآية من آيات القرآن؛ لأن الله أمرنا أن نتدبره وأن نفهمه، والرسول لم يترك هذا من غير بيان للصحابة. اللهم إلا أن يقال إن الرسول كان لا يعلم معاني القرآن الذي أنزل عليه، أو كان يعلمها ولم يبلِّغها كلها مع أنه مأمور من الله بالتبليغ، وكل ذلك غير معقول ولا مقبول.

وأما النوع الآخر من التأويل، الذي قال به كثير من فلاسفة الإسلام ومتصوفيه ورجال علم الكلام، فهو أمر آخر غير النوع الأول. إنه في اصطلاحهم الخاص، كما يذكر ابن تيمية نفسه «صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه المفهوم منه إلى معنًى آخر يخالف ذلك»؛ أي صرف اللفظ عن معناه الظاهري إلى معنًى آخر خفي.

ومع ذلك، فهذا ضرب من التأويل لم يغب عن الرسول ، فإنه نفسه بيَّن، في كل موضع يجب فيه ترك المعنى الظاهري، المعنى الآخر المراد بهذا اللفظ؛ وذلك لأنه «لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه» إلى آخر ما قال.١٥

وما دام الأمر كذلك، فلا تعارض بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح عن الرسول في رأي الشيخ الكبير؛ أي لا تعارض بين ما وصل إليه العقل السليم، وبين ما ثبت نقله عن رسول رب العالمين بطريق صحيح لا ريب فيه.

هكذا يرى بحق، وهو يؤكد في مواضع كثيرة من كتبه أنه قد تحقق ذلك بنفسه؛ إذ تبين له بعد استقصاء وتفكير طويل اتفاق ما جاء به السمع عن الرسول مع ما وصل إليه العقل الصحيح النظر، وهو في هذا يقول:

«المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يُعلم بالعقل بطلانها بل يُعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع.

وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد، وغير ذلك.

ووجدت ما يُعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه، إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلًا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول!»١٦

ولنا أن نقرر بعد ما تقدم أن ابن تيمية لم ير أن هناك مشكلة تسمى مشكلة التأويل تتطلب حلًّا لها، ولم ير أن يقوم منهجه في البحث للوصول إلى الحق على التأويل الذي أمعن فيه غيره من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم.

وذلك لأن هذه المشكلة عرضت لهؤلاء من المسلمين لما قام لديهم من وجود تعارض بين ما جاء به الشرع؛ قرآنه وحديثه، وبين ما أدتهم إليه عقولهم، فقام منهجهم على تأويل ما لا يتفق ونظرهم العقلي من النصوص الدينية الوحيية.

ولكنه هو لا يرى وجود تعارض مطلقًا بين طريق النقل الصحيح وطريق العقل الصريح، والمنقول الذي يخالف العقل لا يكون إلا حديثًا موضوعًا أو نصًّا آخر لا يدل دلالة قاطعة على ما يراد الاستدلال به عليه، وعلى فرض وجود تعارض بين العقل والنص، يجب ترجيح الأخذ بالنص الثابت عن الأنبياء على ما يؤدي إليه العقل واستدلاله.

ومن الحق — وهذا ما ينبغي علينا هنا أن نشير إليه — أنه ذكر في بعض كتبه أنه عند تعارض العقل والسمع، يجب تقدير ما تكون دلالته قطعية، سواء أكان هو الدليل العقلي أم الدليل السمعي، ولكنه قال بعد ذلك بقليل: «لكن كون السمعي لا يكون قطعيًّا دونه خرط القتاد»؛١٧ يريد أن يقول بأن الدليل السمعي، متى ثبت صحة نقله، يقدم دائمًا على العقل وما يؤدي إليه.

وكل هذا ينتهي بنا إلى النتيجة التي استخلصناها آنفًا، وهو أن مشكلة التأويل لم تعرض لابن تيمية بل هو الذي عرض لها، وأن التأويل ليس من عناصر منهجه الذي اتبعه بأمانة في كل بحوثه ومناظراته وكتاباته.

ومن البدهي مع ذلك كله، أنه لم يكن يهمل العقل والفكر في دراساته، وما كان لمثله أو لأي باحث آخر أن يهمل أشرف جزء في الإنسان، وبه كرمه الله وأعلاه على كل ما خلق، ولكنه لم يجاوز به قدره ومجاله، ولم يجعله حاكمًا على نص قرآني أو حديث صحيح، بل أراد له أن يكون دائمًا في مدار الشريعة وكتابيهما المقدسين: كتاب الله المحكم، وسنة رسوله الصحيحة، فإذا خرج به الإنسان عن هذا المدار ضل ضلالًا بعيدًا.

عدم التعصب والجمود

لم يكن الشيخ ابن تيمية بالرجل الذي يتبع غيره في رأي له بغير بينة أو دليل، ولا بالذي يتعصب لرأي ويجمد عليه، وقد بان له خطؤه، بل كان حرًّا في تفكيره في دائرة الكتاب والسنة، وما صح عن الصحابة من الآثار، غير متعصب إلا للحق وللحق وحده.

خلع عن عنقه ربقة التقليد للغير، ولم يقيد نفسه إلا بالقرآن وسنة الرسول وآثار السلف الصالح، إذا تبين له صحة صدورها عنهم. وفي هذه المصادر الأولى للإسلام وشريعته كان له جولات ومجال أي مجال.

على كل هذا يجمع مؤرخوه، وبكل هذا تنطق رسائله وكتبه وآراؤه التي تفرد بها وهي غير قليلة، كما تنطق به حياته وما لقي من سجن واعتقال مرات بسبب بعض هذه الآراء حتى لحق بربه تعالى وهو سجين بقلعة دمشق.

وسنعرض فيما يأتي عند الكلام على فقهه، إلى هذه الآراء التي انفرد بها، والتي حوكم وسجن من أجلها،١٨ وحسبنا هنا أن نشير إلى ما فيها من دلالة على حريته في الفكر وعلى عدم جموده على آراء قال بها قبله كثير من أعيان الفقهاء والعلماء، مستهينًا في هذا السبيل بما يلقى من عنت وأذًى شديدين.
ومن ثم، كان من الحق ما قاله ابن الوردي عنه في هذه الناحية: «وأعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا تحتملها عقول أبناء زماننا ولا علومهم، كمسألة التكفير في الحلف بالطلاق (أي لا يقع الطلاق ولكنه يلزم الحالف عند الحنث كفارة اليمين)، ومسألة أن الطلاق بالثلاث لا يقع إلا واحدة، وأن الطلاق في الحيض لا يقع.»١٩

وهو وإن كان حنبلي المذهب في نشأته، إلا أن ما أخذ به نفسه — من الرجوع إلى المعين الصافي الذي أخذ منه أئمة الفقه المعروفون — أداه بعد دراسات وتمحيص إلى أن يخالف مذهب الإمام ابن حنبل، بل مذاهب الفقهاء الآخرين أيضًا في بعض ما ذهب إليه.

ومن ذلك أن هؤلاء الفقهاء أجمعوا على أنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالمصاهرة، وهذه قاعدة وصلوا إليها باجتهادهم واستنباطهم، ولكن ابن تيمية لم يذهب إلى هذا الرأي الذي لم يشر إليه قرآن أو حديث، فقد نُقل عنه أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالرضاع، فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته وابنتها من الرضاع، ولا يحرم على المرأة نكاح أبي زوجها وأبي أمه من الرضاع.٢٠
وكذلك في جواب هذا السؤال: ما الذي يحرم من الرضاع وما الذي لا يحرم؟ يذكر أن زوجة الأب من الرضاع تحرم على ابنه رضاعًا في المشهور عند الأئمة، ولكن فيها نزاع لكونها من المحرمات بالصهر لا بالنسب.٢١
ونحن نقول: إن هذا النزاع لم يأتِ إلا من أن القرآن نص بالإجماع على سبب حرمة الرضاع، ونص الرسول على أنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، فمن أين أتى قول الفقهاء بأنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالمصاهرة أيضًا! ذلك في رأينا، هو ما جعل الشيخ ابن تيمية يذهب إلى الرأي الذي انفرد به في هذه المسألة.٢٢

ويظهر لنا أيضًا ما يتسم به منهج ابن تيمية من حرية الفكر، وعدم الجمود على ما رآه الفقهاء قبله مهما بلغت شهرتهم وجلالتهم في الفقه، من رأيه الذي ذهب إليه في حرية المتعاقدين في الشروط التي يريانها ويرتضيانها فيما يعقدون من عقود، سواء في هذا عقود المعاوضات والزواج وغيرها.

إنه يجيز كل شرط يرضى به المتعاقدان، ما دام لا يتناقض أو يتعارض مع حكم الله ورسوله، ولا يستثني من هذا الأصل شيئًا حتى في عقد الزواج. وهو يستدل لهذا بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، ويقول الرسول : «المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا.» ثم يقول: «إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل [الشرع] على تحريمه وإبطاله نصًّا، أو [قياسًا] عند من يقول به، وأصول مذهب أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحًا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشروط منه.»٢٣

ثم يقول في موضع آخر كلمة موجزة جيدة جامعة، تعبر عن مذهبه بصفة عامة في العقود والشروط، وهي:

«ومقاصد العقلاء إذا دخلت في العقود، وكانت من الصلاح الذي هو المقصود، لم تذهب عفوًا ولم تهدر رأسًا، كالآجال في الأعواض، ونقود الأثمان المعينة ببعض البلدان، والصفات في المبيعات، والحرفة المشروطة في أحد الزوجين، وقد تفيد الشروط ما لا يفيده الإطلاق، بل ما يخالف الإطلاق.»٢٤

وبعد:

تلك عناصر منهج الشيخ ابن تيمية في البحث والدراسة، وسماته: الاعتماد على كتاب الله وما صح عنده من أحاديث الرسول وسنته وآثار السلف الصالح، معرفة قيمة العقل والانتفاع به غير مجاوز به قدره ومجاله، رحابة صدر وعدم تعصب وجمود، فلننظر الآن كيف كان أمينًا لهذا المنهج، وكيف التزمه وطبقه في دراساته ورسائله وكتبه.

١  طبع الخانجي بالمطبعة الشرقية بمصر سنة ١٣٢٢ﻫ.
٢  راجع ص٣ من الرسالة المذكورة.
٣  نفس المرجع، ص١٠-١١.
٤  اقتباس من حديث معروف للرسول.
٥  راجع ص١٩.
٦  ولذلك نراه، وهو يتكلم عن أدلة الشرع المجمع عليها، والمختلف فيها وأقسامها، ينتقد كثيرًا من الفقهاء «أهل الرأي» لإسرافهم في القياس حتى استعملوه قبل البحث عن النص، وردُّوا به بعض النصوص، واستعملوا منه الفاسد أيضًا. راجع: «قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات»، نشر الشيخ رشيد رضا، الطبعة الأولى بمطبعة المنار سنة ١٣٤٩ﻫ، ص٢١.
٧  راجع ص٣٤ من طبعة السلفية بالقاهرة سنة ١٣٥٢ﻫ.
٨  راجع هذه الرسالة ضمن مجموعة رسائل أخرى له ص٥٧، نشر دار المنار سنة ١٣٤٩ﻫ، وعنوان الرسالة هو: تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال.
٩  يذكر الذهبي، «ميزان الاعتدال» ج١: ٣٢٤، أن داود هذا كان من رجال الحديث، ثم تركه وصحب قومًا من المعتزلة فأفسدوه، وهو صاحب كتاب «العقل» وليته لم يصنفه!
١٠  راجع: «بغية المرتاد في الرد على الفلاسفة والقرامطة والباطنية»، طبعة القاهرة سنة ١٣٢٩ﻫ ص٥ و٦ و٢٩ و٣٠.
١١  كتاب «الحيوان» للجاحظ ج ٦: ٩٥.
١٢  تناولنا مشكلة التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية (اليهودية والمسيحية والإسلام) بالتفصيل، وبينَّا خطرها الشديد على نصوص الكتب المقدمة، في كتابنا: «بين الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط»، طبع دار المعارف بالقاهرة سنة ١٩٥٩، من ص١١١–١٤٤، ومن الخير مراجعة هذا الفصل.
١٣  هو كتاب «بين الدين والفلسفة» طبع دار المعارف بالقاهرة سنة ١٩٥٩م.
١٤  راجع فيما نذكره في هذه الناحية عن ابن تيمية كتابه «بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول» ج١: ١١٥ وما بعدها، والكتاب مطبوع على هامش كتاب «منهاج السنة النبوية»، بولاق سنة ١٣٢١ﻫ.
١٥  بيان موافقة صريح المعقول، ج١: ١٠.
١٦  بيان موافقة، ج١: ٨٣.
١٧  نفس المرجع، ج١: ٤٢.
١٨  ذكرنا فيما مضى بعض هذه الآراء في الباب الذي خصصناه لحياته.
١٩  تاريخ ابن الوردي، ج٢: ٢٨٨.
٢٠  الاختبارات العلمية ص١٢٦.
٢١  «مجموعة فتاوى ابن تيمية»، ج٤: ١٤٩.
٢٢  نصر هذا الرأي ابن القيم تلميذه، راجع: «زاد المعاد» ج٢: ٢١٥-٢١٦ من طبعة المطبعة الميمنية بالقاهرة سنة ١٣٢٤ﻫ.
٢٣  «مجموعة الفتاوى»، ج٣ ص٣٢٦ و٣٢٩ وما بعدها.
٢٤  رسالة العقود التي طبعت أخيرًا بمطبعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة سنة ١٩٤٩م، تحت عنوان «نظرية العقد» ص٢١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤