الفصل الحادي عشر

العناية على الأرض: نشأة الاهتمام الواعي

هولمز رولستون الثالث

أنتج التاريخ الطبيعي التطوري «العناية»؛ وذلك بتفصيله وتنويعه وحفظه وإثرائه لمثل تلك القُدرات. لعل أول ردِّ فعلٍ لنا تجاه كلمة «العناية» هو توخي الحذر من استخدامها في هذا السياق؛ فالكلمة فيها أنثروبوباثية شديدة. الإطار الذي يتوقَّعه المرء في علم الأحياء المعاصر يدعى تطور «الأنانية» (وكأنها ليسَت كلمة أنثروبوباثية هي أيضًا). غير أن الأنانية هي أحد صور العناية؛ وإن كان مُصطلح «العناية» أشمل. على الأقل، يجب أن يقر علماء الأحياء أن الكائنات تَصمد وتبقى على قيد الحياة، وأنها على مرِّ الأجيال، تسعى لتحقيق الصلاحية التكيفية. أو إذا كانت كلمة «تسعى» أنثروبوباثية للغاية أيضًا، فسنقول إنها تُنتَخَب بناءً على حسن تكيُّفها مع البيئة. ربما تبدو كلمة «انتخاب» أنثروبوباثية جدًّا هي كذلك. فلنُجرِّب إذن استخدام مصطلحات الحوسبة؛ الأنظمة الحية «تجري عمليات حسابية». أيًّا كانت المفردات، بعض الأشياء «تُشكل فارقًا» لدى جميع الكائنات الحية؛ وهي لا تصمد دون الالتفات إلى تلك الأشياء.

على الأقل بعد نشوء الإحساسية (القُدرة على اختبار المشاعر والأحاسيس)، فإن الكائنات العصبية البشرية وغير البشرية «تُولي عناية» قطعًا. تصيد الحيوانات وتعوي، وتجد مأوًى، وتبحث عن بيئاتها وأزواجها، وتُطعم صغارها، وتفرُّ من الأخطار، وتشعُر بالجوع والعطش والحرارة والإرهاق والحماس والنعاس. وتتعرَّض للإصابات وتلعق جروحها. عاجلًا أم آجلًا لا بدَّ أن يقرَّ كل عالم أحياء بوجود «العناية». سمِّ تلك «اهتمامات» أو «تفضيلات» أو غيرها؛ إذا كنت تجد مُصطلح «العناية» مثقلًا بالدلالات، فلتُسمِّها «شواغل» حيوانية. يتطلَّب البقاء على قيد الحياة «دفاعًا عن الذات». والكائنات الحية لها «احتياجات». وإحدى السمات المميزة للحياة هي أنها يُمكن لها أن «تضطرب». لذا على الكائنات الحية أن «تظلَّ عاملة» فيها. دون مبدأ «الحفظ» سيئول العالم الطبيعي إلى الموت. يجب أن يكون علم الأحياء «داعمًا للحياة». إذا كنتَ لا تحب دلالات كلمة «العناية»، توجد عشرات من المصطلحات البيولوجية الجيدة التي تتمحوَر حول ذلك المعنى.

حين دخل البشر إلى المشهد، صارت «العناية» موجودة بشتَّى المعايير المتصورة. إذن لم تكن العناية موجودة من قبل؛ أما الآن فهي سائدة على الأرض. ونحن بحاجة إلى تفسير لنشأتها. سيكون ذلك التفسير في البداية وصفيًّا، لكن الوصف سيتطلَّب إرساءً لمعايير. فالسؤال عما يُعنى به من يَملك القُدرة على الاختيار من البشر أو غيرهم يَستدعي السؤال عما «ينبغي» عليه أن يُوليه عنايته.

أحد الادِّعاءات التي أجمع عليها المُشتغلون بمجال دراسات التعقيد هو أن الأنظمة المعقدة لا بد أن تُفهَم على عدة مُستويات. وثمَّة ادعاء آخر قائل بأن الأنظمة البسيطة يمكن أن تُولد أنظمة أعقَد منها. حتى في تلك الحالة، لا يُمكن اختزال أو صياغة التعقيد ولا العناية في أي أنظمة خوارزمية شاملة. هنا سنَرتقي في المراتب الهرمية ونجتاز العتبات المطلوبة لتوليد العناية. التعقيد القادر على توليد العناية، على الأقل كما نعرفها على الأرض، هو تعقيد من الرتبة المتوسطة. البروتونات والإلكترونات والذرات لا تولي عناية لشيء؛ وكذا المجرَّات أو النجوم. أما العالم البشَري، حيث يُوجد قدر كبير من العناية، فيقف في المُنتصَف بين ما هو بالغ الدقة وما هو هائل الضخامة على مقياس الطبيعة. أقصى درجة نعرفها من التعقيد هي الموجودة في حيز خبراتنا نحن البشر.

تَعتبر بعضُ التفسيرات البشر ضِئالًا لا وزن لهم على المقياس الكوني. بينما تَختزلهم بعض التفسيرات إلى مجرد جزيئات إلكترونية مُتحركة على المقياس الذري. لكن في تفسيرات لا تقلُّ عنها إدهاشًا، يحيا البشر في قلب التعقيد. في الطبيعة الفلَكية الضخمة والطبيعة المجهرية، عند طرفَي مقياس الحجم، تَفتقِر الطبيعة إلى التعقيد الذي يظهر عند مُنتصَف المقياس، التعقيد الموجود في حيِّز وجودنا على الأرض. قد نكون نحن البشر أقزامًا بالنسبة إلى الكون؛ وقد نكون عمالقةً بالنسبة إلى عالم الجزيئات. لكن لا مجال لإنكار التعقيد في مقياسنا المتوسط. فنحن البشر لا نحيا في حيِّزٍ ما في مُنتهى الضآلة ولا ما في مُنتهى الضخامة، بل لعلَّنا نحيا في حيز ما هو في مُنتهى التعقيد. إننا نحيا في حيز يَحوي العناية بصورتها الأكمل؛ بل لعلَّنا نحن البشر تجسيد لصورتها الأكمل.

في البداية، يتطلب تطور العناية على الأرض توليد عمليات كيميائية معقَّدة، تتطور إلى عمليات تكاثر ذاتي إنزيمية، تتطوَّر بدورها إلى حياة مُتمركزة حول مصلحتها الذاتية. لكن العناية تزداد تعقيدًا لأنها تتضمَّن ذواتًا فردية. ذواتًا يفترس بعضها بعضًا، لكنَّها أيضًا تعتمد عليها (حتى فيما تأكله). وهي تحتاج إلى التكاثر. كما أن الدفاع عن الذات يتطلب حسن التكيُّف؛ ومن ثَم تتداخَل الكائنات الحية، وبالتبعية يتداخل ما تُعنى به في الأنظمة البيئية. وهذا يُؤدِّي إلى تكون «علاقات» بينها — والتي يشار إليها اليوم بالمصطلح السائد «المشابكة».

تظل العناية مُتمركزة حول الذات حتى نقطة معينة؛ تصير بعدها «متعلقة» بتلك العلاقات، تلك الأواصر والعمليات التي يَتشابَك معها الفرد. تصير عناية بالغير، حتى إن كانت مجرد عناية المفترس باصطياد فريسة والْتِهامها؛ وعناية الفريسة بالهروب منه؛ وعناية كلٍّ منهما بصغاره. داخل تلك المصفوفات، ستكون العناية متداخلة وانتخابية. وستتطلب المشابكة تمايزات، واهتمامات تفاضلية.

في البشر، تنشأ صورٌ أشمل من العناية. تلك الرؤية الأوسع تتطلب قدرًا أكبر من التعقيد، تتطلب دماغًا مُعقدًا يستطيع تقييم الآخرين لا من حيث المنافع والمضار فحسب، بل أيضًا من حيث الاهتمام بصحتهم وسلامتهم. يُولِّد ذلك مستويات جديدة جذريًّا من المعلومات الثقافية، ومن العناية. يولي البشر عناية للعائلة والقبيلة والأمة والمسيرة المهنية، والقضايا الفكرية كالعلوم البيولوجية أو الأدب الفرنسي أو الدين المسيحي. وتشكل الأخلاق العناية. وفي الوقت المناسب، يُمكن أن يتبنَّى البشر وحدهم منظورًا متعاليًا لكل شيء؛ فيولون عناية للحياة على الأرض.

أحد توصيفات الانتخاب الطبيعي التي لا تقلُّ تماسكًا عن سواها، بل قد تكون مرتبطة أكثر من غيرها بالثقافة البشرية، هو أن قصة الحياة على الأرض هي نتاج توليد العناية وإعادة توليدها. نحن هنا نبحث عن سردية أشمل لذلك الاهتمام المستند إلى المعرفة — أو «نُعنى» بها. أينما وجدت العناية وجِدت «الفاعلية»، ووجِد «الحافز» ووجِدت «الحركة»، بل حتى ربما «المحركات». يدعي الكثيرون أن العلم يصوِّر لنا كونًا آليًّا، ويزعمون الآن تخليهم عن مركزية الإنسان، ناسين أن حتى كلمة «آلة» في أصلها الاشتقاقي تشير إلى أنها صُنعت «لأجل» شيء ما. قيميًّا، تنشأ «المعايير». وسيبرنيطيقيًّا، تنشأ «البرامج». ونفسيًّا، تنشأ «التفضيلات». وأخلاقيًّا، تنشأ «الواجبات» و«المسئوليات». جميع تلك المواضيع هي ما يعنينا هنا. نحن بحاجة إلى قصة مكتملة الأركان بقدر الإمكان عن العناية على الأرض. في نهاية المطاف، سوف نبحث عن الدلالة الميتافيزيقية والدينية لنشأة العناية تلك.

(١) الانجذاب: تجمع المادة

«الانجذاب» كلمة عامة جدًّا تُطلق على كل شيء بداية من الجاذبية إلى الميل الجنسي. لعل ذلك يجعلها كلمة فضفاضة جدًّا لاستخدامها دون مَزيد بيان. لكن ربما يمكننا استخدامها لافتتاح عرضنا بملاحظة أنه منذ البدء الأول، قبل تطور أي عمليات يمكن أن نمنحها وصف «العناية»، حتى المادة الأولية تَنزع إلى التحالف، إلى التجمع في تكتلات. يرى منظور ما أنه في الانفجار العظيم كان كل شيء يَتطاير مُتبعثِرًا في كونٍ لا ينفك يتمدد؛ لكن يرى منظور آخر أنه، في الكون غير المتماثل الذي نتج عن الانفجار العظيم، تجمعت المادة مُكوِّنة نجومًا ومجرات.

في بعض تلك النجوم، تكوَّنت جميع العناصر الثقيلة؛ إذ حدَث تجمع أكبر للإلكترونات والبروتونات والنيوترونات. كانت أربع قوى أساسية تحفَظ للعالم تماسُكه؛ القوة النووية القوية، والقوة الضعيفة، والقوة الكهرومغناطيسية، وقوة الجاذبية. تتباين تلك القوى في نطاق ٤٠ رتبة أُسية؛ بعضها ينطوي على التنافُر وكذلك الانجذاب؛ التنافُر والانجذاب كلاهما يُستخدمان للإبقاء على تماسك الأشياء. مزيج القوى ذلك مميز ومعقَّد. على ما يبدو، في كوننا ذلك على الأقل، تلك القوى وكُتل الجزيئات والشحنات المتضمنة، يجب أن تكون في النطاق الذي هي عليه كي تُصبح المادة أكثر تعقيدًا، وهو شرط لازم لنشأة أي شيء أكثر تعقيدًا.

بعض تلك النجوم انفجَرَ مجددًا، لكن المادة أعادت تجميع نفسها لتُكوِّن كواكب. على أحد تلك الكواكب (على الأقل)، ازداد التعقيد ثانيةً بمقدار رتب أُسِّية أكثر بكثير (إن جاز التعبير). وعلى الأرض، نشَأت ما نودُّ أن نُسمِّيَها «العناية». وليس ذلك تغيرًا تدريجيًّا طفيفًا، بل هي قصة معقَّدة ومُتقطعة ومشتَّتة. وسيُمثِّل جمع شَتاتها تحدِّيًا لنا.

المادة، إلى جانب تجمعها، تُنظِّم نفسها بصفة دورية وتلقائية، كما يحدث حين تتشكَّل الجزيئات والبلورات. في بعض الحالات، لا سيما تلك التي تَنطوي على تدفق عالٍ للطاقة خلال المادة، قد تنشأ أنماط على نطاقات أوسع (بريجوجين وستينجرز، ١٩٨٤). قد تتضمن تلك الأنماط أيضًا عتبات حرجة، عادة تُسمَّى التنظيم الذاتي الحرج (باك، ١٩٩٦). تكون تلك العمليات «تلقائية»، وتُوصف أحيانًا بأنها «ذاتية التنظيم». بدايةً، يجب ألا يُفهَم من كلمة «تلقائية» أنها تفترض وجود «ذات» في العملية، بل تشير إلى وجود نزعة جوهرية عفوية لنشأة النظام. عمليات التنظيم الذاتي تلك هي شرط لازم لتكون «الذوات» المبادِرة اللاحقة.

(٢) الطبيعة السيبرنيطيقية: جينات ذات «غرض»

في الطبيعة، في ضوء الإنتروبيا، لا يُمكن إلا لمستويات ضئيلة من التعقيد أن تَنشأ تلقائيًّا. فالجُزيئات الحيوية الأكثر تعقيدًا لن تتكاثر بواسطة التجمُّع العَفوي بالقدر أو الاعتمادية الكافية. إنما ستتطلَّب المُستويات المتقدِّمة صيانة البِنى والعمليات الوظيفية التي تشكَّلت. قد يكون بلوغ مُستويات جديدة من التعقيد عفويًّا في البداية، لكن الحِفاظ عليها سيتطلب عمليات تجمُّع وصيانة موجَّهة، وإلا طغى معدَّل الانهدام العفوي على مُعدل البناء العفوي. فالتشكُّل العفوي ما هو إلا عامل بدء، لكن إن اضطرَّت للبدء من نقطة البداية كل مرة، فلن تتطوَّر كثيرًا. يتطور التاريخ الطبيعي أولًا عن طريق «النمذجة»، ويتحوَّل هذا فيما بعد إلى «توجيه»؛ فيصبح ما كان «تشكلًا» تلقائيًّا «مُخبرًا بمعلومات».

حدث تحوُّل جِذري فتَح الباب لعدد لا مُتناهٍ من الصور المُحتملة للتعقيد والعناية، مع نشأة الحياة، التي كما نَفهمها الآن لطالَما اقترنت بالوراثة. عادة تُوصف السيبرنيطيقا الوراثية بأنها تتعلق ﺑ «المعلومات»، لكنها ليست معلومات «عن» شيء ما؛ بل معلومات موجهة إلى «غرض» ما. أي تسلسُل جيني يُمكن أن يكون سلفًا لسلسلة لا مُتناهية من النَّسل الذي يرث منه النمط الجيني والنمط الظاهري. الجين لا يحوي مجرَّد معلومات وصفية «عن» شيء ما، بل معلومات إرشادية «تُوجه» إلى شيء ما. يكون الجين جينًا لسِمة لأنه جرى انتخابه طبيعيًّا لأجل وظيفته التي يُساهم بها في الصلاحية التكيفية. مفهوم الغرض يشمل الانتخاب الطبيعي وعلم الوراثة. السمات «تُنتَخَب لغرض»؛ والشَّفرة المُكوِّنة لها «تُنتَخَب لغرض» في الجينات ويُربط بينهما؛ ثمة النمط الجيني الذي يُسجل آليةَ صناعة العمليات والبِنية الوظيفية في النمط الجيني. من تلك الحيثية، يكون التعقيد محدَّدًا.

قد يُصرُّ علماء الأحياء أنه في الانتخاب الطبيعي تكون عملية التطفُّر والخلط عمياء وعشوائية. يعتقد بعض علماء الوراثة المُعاصرون أنها تَعتمِد أكثر على الاحتمالات (هيرينج وآخرون، ٢٠٠٦). في نتائج تلك العمليات غير القَصدية، يكون سلوك تلك الجينات موجهًا إلى مُستقبَل لا يزال غير مُكتمِل. بخلاف دلالة كلمة «غرض» في سياق الانتخاب الطبيعي، فإنها في سياق علم الوراثة تُشير ضمنًا إلى وجود «غاية». الوظائف البيولوجية «غائية» (ماير، ١٩٨٨)، وهي تَختلف عن السببية (التي تشمل السببية في «التجمع» والتنظيم العفوي التلقائي) في الفيزياء والكيمياء. فتصلُّد الصهارة البركانية مُكوِّنة صخورًا، وتدفُّق الأنهار نازلة مُنحدرًا، له نتائج، لكن ليس له «غاية» بالمعنى المقصود.

هل يُمكن أن تُبدي الجينات عناية؟ هل يُمكن أن تُنشئ الجينات العناية؟ مبدئيًّا إحدى الإجابات المطروحة هي أن الأنماط الجينية لا يُمكن أن تُبدي عناية، لكن بعض الأنماط الظاهرية التي تنشأ عنها يُمكنها ذلك. الجينات لا يُمكن أن «تقصد» أي شيء، وكذلك قوى الانتخاب الطبيعي التي تُؤثِّر على الجينات. لكن من المثير للاهتمام أن بعض علماء علم الأحياء النظري والفلاسفة قد بدءوا يَستخدمون مصطلح «القصدية» في وصفهم للمعلومات الحيوية الموجودة في الجينات. وهو ما يُصرُّ عليه جون ماينارد سميث إذ يقول: «في علم الأحياء، يُشير استخدام المصطلحات الخاصة بالمعلومات إلى وجود القصدية» (ماينارد سميث، ٢٠٠٠، صفحة ١٧٧). لا تزال تلك الكلمة تحمل دلالة «التعمد» بالنسبة إلى أغلب من يَستعملونها، لكن المقصود بكون عملية ما «قصدية» هو أنها موجَّهَة، إذا ما عُدنا إلى أصل الكلمة اللاتيني intendo الذي يعني «يمتد إلى» أو «يهدف إلى». الجينات «مُتعلِّقة» بشيء من الناحية الوصفية والإرشادية؛ هي تتوجَّه نحو مُتعلَّقها. من ذلك المنظور، تُعد المعلومات الجينية «قصدية» أو «دلالية»، إذا كان الغرض منها («متعلقها») هو إنتاج وحدة وظيفية لا وجود لها بعد. إنها «دلالية غائية».

أينما وُجد انتقال للمعلومات، نشأ احتمال الأخطاء. إذ يُمكن أن يحدث خطأ في قراءة الحمض النووي المشفَّر لإنتاج تسلسُل حمضٍ أميني مُعيَّن يُطوى فيما بعد ليُكوِّن مقطع بروتين. إذا حاد إطار القراءة عن التسلسل الثلاثي «الصحيح»، فستتكوَّن أحماضٌ أمينية «خاطئة»، وتفشل عملية التجميع. إذ سيحدث «عدم تطابُق». عادة ما توجد آلية «تصحيح للأخطاء». تلك العملية المعقَّدة لا بد أن يكون لديها القدرة على «التمييز». تلك الأفكار ليسَت منطقية في الكيمياء أو علم الأحياء، أو الجيولوجيا أو الظواهر الجوية. فالذرات والبلورات والصخور والجبهات الهوائية لا «تقصد» أي شيء؛ ومن ثَم لا يُمكن أن «تخطئ». إذ إن «السبب» العادي مع أنه مُلحٌّ ليس معنيًّا بالمستقبل. في المقابل، الشفرة الوراثية هي شفرة «لأجل» شيءٍ ما، فهي مُصمَّمة للتحكم في الجزيئات التي لم تتكوَّن بعد التي ستُشارك في التشكُّل. إذن فيها «قصدية» استباقية متعلِّقة بالمستقبل.

تلك «العناية» تتطلَّب تعقيدًا بالغًا في الوراثة. إذ يوجد النسخ والترجمة وإرسال الإشارات والرسائل والتكرار والقراءة والتشفير والتنظيم والتواصُل. تُنتج الجينات بروتينات بِنيوية، لكن العديد من الجينات لها دور تنظيمي. فكرة التنظيم برمَّتها هي مُؤشِّر لوجود «العناية»، وهي فكرة لا معنى لها خارج إطار عالم الكائنات الحية. تبين أن التفاعل بين البناء والتنظيم معقَّد. فعلم المعلوماتية الحيوية المعاصر قاصر نتيجة لعدم توافر القُدرة الحاسوبية الكافية لتحليل تعقيد التسلسلات الجينية التي يَدرسها. لا بد أن تكون الوراثة معقَّدة لأن البروتينات التي تنتجها لا بد أن تكون مُعقَّدة. أحد التحديات هو إحداث تغيُّرات في التسلسلات الجينية لإنتاج نظائر بروتينية. ويتمثَّل تحدٍّ آخر في إنتاج جزيئات حيوية نوعية فراغية تقوم بوظيفة تمييز — «إدراك» هو المصطلح الدارج لدى علماء الأحياء لوصف ذلك — الموارد الضرورية اللازمة (أو الخطيرة)؛ مثل بروتين الهيموجلوبين الذي يَسمح له شكله الفراغي باستخدام جزيء الحديد للارتباط بالأكسجين ونقله من الرئة إلى الخلية.

(٣) اهتمامات متعلقة بالاستمرار: التنظيم الذاتي والدفاع الذاتي لدى الكائنات

إذا كان يُراودك شكٌّ في أن النمط الجيني «يُبدي عناية»، فلنَنتقل إذن إلى مستوى النمط الظاهري. «البشرة» علامة على العناية. لعلَّ ما يخبرنا به «لحاء الشجر» هو أن الحياة يجب «حمايتها». يستخدم علماء علم الأحياء مُصطلح «حماية» مع ما هو موجود تحت البشرة من أجهزة مناعية، بل حتى الطبقات الدهنية الثنائية. إذا كنت تُفضِّل كلمات أقوى علميًّا من «بشرة» و«لحاء»، فلنستخدم إذن المصطلح الذي استخدمه هومبيرتو آر ماتورانا وفرانسيسكو جيه فاريلا: «الإنتاج الذاتي» (ماتورانا وفاريلا، ١٩٨٠). في تلك المرحلة من التاريخ الطبيعي، ظهرت ذاتٌ لها جسمٌ تَملِك آلية لحمايته. إذا لم يكن ذلك «عناية» فهو يقف على أعتابها؛ فنحن بهذا نَقترب من نقطة حَرِجة أخرى في التعقيد.

الأنظمة الحية هي أنظمة ذاتية الصيانة. فهي تنمو، وتَضطرب استجابة للمؤثرات. وهي تتكاثر. وتُقاوم الموت. وتضع حدًّا فاصلًا (وإن كان شبه منفذ) بينها وبين الطبيعة، وتمتصُّ المواد البيئية حسب احتياجاتها. هي تحقق النظام الداخلي وتحافظ عليه من نزعات الاضطراب الموجودة في الطبيعة خارجه. وتظلُّ تُعيد تكوين نفسها، في حين تُستَهلَك الأشياء غير الحية وتتآكل وتتحلَّل. الحياة هي تيار معاكس موضعي للإنتروبيا. الكائنات تدفع عن نفسها الفوضى. فتلك الذات لا بدَّ من حفظها من الإنتروبيا، أو قل إن شئت من «الشيخوخة». تلك المجموعة من السمات لا تُوجد في غير الكائنات الحية، مع أن بعضها يُمكن تقليده أو إيجاد نظير له في مُنتجات صمَّمَتها الأنظمة الحية. يُعدُّ تحول التكوينات اللاحيوية إلى مراكز للمعلومات اجتيازًا لحدٍّ فاصل. إذ تتحوَّل «العوامل» إلى «كيانات فاعلة» تستغلُّ بيئتها.

يختتم ستيوارت كوفمان دراسة طويلة عن منشأ النظام في التاريخ التطوُّري قائلًا:

منذ عصر داروين، كان علماء علم الأحياء يرَون أن الانتخاب الطبيعي هو المصدر الأوحد تقريبًا لذلك النظام. لكن داروين لم يكن بوسعِه أن يُخمن وجود التنظيم الذاتي، وهو سمة مُكتشَفة حديثًا لبعض الأنظمة المعقدة … لقد شكَّل الانتخاب التناغم الأصلي لتطور الأجنة أو التطور البيولوجي لكنه لم يكن مُجبرًا على ابتكارهما … لعلنا نكون قد بدأنا نَنظر إلى التطور باعتباره اقترانًا بين الانتخاب والتنظيم الذاتي.

(كوفمان، ١٩٩١)

التطور عملية تحسين تركيبية معقَّدة.

(كوفمان، ١٩٩٣، صفحة ٦٤٤)

أثناء نشأة الحياة، يظهر «التجمع» مجدَّدًا لكن في صور حيوية، بشكلٍ بسيط في البداية بتكتُّل الخلايا؛ أي الْتِحامها ببعضها، وهو ما يُشبه تجمع المادة في الفيزياء والكيمياء؛ ثم بعد ذلك تظهر حياة مُتعدِّدة الخلايا مُتكاملة. ثم يحدث «تنظيم»، «تنظيم ذاتي» منسق، يتمثَّل في بناء «الأعضاء». تأخر ظهور تعدُّدية الخلايا المُتكاملة والمتمايزة (مقارنة بالتجمُّع الميكروبي) لوقتٍ طويل (أكثر من مليار سنة!) لكنَّها حين نشأت، نشأت أكثر من مرة (بونر، ١٩٩٨).

كما هو مُلاحظ دائمًا، التعقيد وَحدوي (أي، مُكوَّن من وحدات). تحت لحاء أو بشرة الكائنات، تُوجد وحدات لا بدَّ لها من حدود، من حجيرات وجدران أو على الأقل فواصل حدودية. في الأنظمة الحية، أحد الأشكال الأساسية من تلك الوحدوية هو المُتمثِّل في الخلية. تلك الوحدات لا بد من وسيلة لحفظ هُويتها. إذ إن تفردها يَستلزم أن تكون مُتمايزة. وهذا يَزيد الأمور تعقيدًا ويفتح المجال لتمايُزات لا حدَّ لها، مما يرفع مستوى التعقيد. أحد مقاييس التعقيد هو عدد الأنواع المختلفة من الخلايا. وثمة مقياس آخر وهو عدد الأنواع المختلفة من التفاعُلات. تلك الوحدات المتداخلة لا بد من إعادة إنتاجها عن طريق التكاثُر الموجه. ذلك المستوى من المعلومات، كما سبق أن قلنا، هو مستوى استباقي فيما يتعلَّق بتكوين تلك الوحدات والأعضاء الأيضية. وإذا لم يكن يَرقى لأن يُوصف بالعناية، فهو يعتبر تمهيدًا لازمًا لها.

التعقيد الوحدوي لا جدوى منه إلا إذا كان يُتيح معالجة أكثر رقيًّا للمعلومات. فالكائن الحي يُمكن أن يصمد بشكل أفضل إذا استطاع أن يستغلَّ الأنماط المُنتظِمة المفيدة ويتعامل مع الحالات الطارئة في بيئته على نحوٍ أفضل من كائن مُنافس. الكائنات «مُصممة كي تعمل، لا لتَعطل». فهي «معقدة التصميم» وبها مستويات تحكم، اختيرت لخلق مزيد من التعقيد، ومزيد من آليات الحماية من حدوث الأخطاء، دعمًا لعنايتها بذاتها (أوليفيري وديفيدسون، ٢٠٠٧). ربما تحقَّق ذلك بواسطة سلوكيات نمطية ثبتَت فعاليتها بالتجربة إحصائيًّا. لكن وجود المرونة قد يُعزز بقاء بعض الكائنات على الأقل؛ وهي تتطلَّب أن يُقيِّم الكائن الإشارات الداخلية والخارجية ويَستجيب لها بزيادة عمليات الأيض والسلوكيات أو خفضها. هنا يتعيَّن على الكائن الحي أن يتعامل مع مجموعات مُتداخلة من البروتينات والدهون والإنزيمات والعضيات والأعضاء المرتبة كلها ترتيبًا هرميًّا، مع نظام حي؛ كل بأجزائه، يسعى لأن يحيا ويتكاثر في نظام بيئي.

في الأنظمة الوحدوية، توجد أنظمة وأنظمة ثانوية. نادرًا ما تكون كل وحدة متَّصلة بدرجة متساوية ومُتماثلة مع سائر الوحدات الأخرى. تلك الأنظمة الطبقية الهرمية لا بد من وصفها على مُستويات وصفية وتفسيرية مُتعدِّدة. يبدأ تكون التعقيد بما هو بسيط ثم لا ينفكُّ يزداد تعقيدًا؛ فالأمر يبدأ من أسفل ويتصاعَد إلى المستويات الأعلى. لكن بعد أن يبلغ التعقيد عتبات مُعينة، يصير من الممكن تمييز الأجزاء. ويصير هناك تقسيم للمهام بينها، وهو نتيجة أساسية لتعدُّد الخلايا. عادة لا تكون تلك العلاقات خطية؛ فالأسباب والنتائج ليسَت مُرتبطة ارتباطًا مُتناسبًا. فقد تكون ثمة مجالات تُحدِث فيها التغيرات الضئيلة في التأثيرات السبَبية تغيرات هائلة في النتائج السببية، أو العكس؛ فقد تُحدِث تأثيرات سببية هائلة تغيُّرات ضئيلة في النتائج. إذا كانت الوحدوية تتطوَّر، فسوف يُبنى النظام الحيوي عن طريق تكرار الوحدات وتعديلها (التطفرات التي تُؤدي إلى تغيرات طفيفة)، مع أنه قد تتكوَّن أيضًا أنواع جديدة من الوحدات، ربما عن طريق تعديل الوحدات الموجودة لتُؤدي وظائف جديدة.

هذا يستلزم تحكُّمًا دقيقًا في المكونات الداخلية لجسم الكائن الحي، لكن ذلك يكون استجابة للفرص والتهديد الخارجين. الوحدات لا تتفاعَل فيما بينها فحسب، بل تتفاعل أيضًا مع بيئتها. الكائن الحي لا بد أيضًا أن يتعامل مع تحولات وتغيُّرات طورية تحدث خارج جسده، كما يحدث عند ذوبان الجليد وتوافر المياه للشرب. قد يتسبَّب كائن ميكروسكوبي وبائي في نشر مرضٍ وبائي في غابة، فتضطر الحيوانات والطيور إلى الهجرة إلى مكان آخر. وقد تتعدَّد أنواع البيئات ممَّا يزيد من التعقيد الوحدوي. فبيئة كائن حي معقد تكون مزيجًا من الفوضى والنظام يتضمَّن عناصر مُتوقعة ومحتملة وغير معروفة بدرجات متفاوتة.

مِثل علماء البيئة الذين يَدرسون الأنظمة البيئية القائمة فيجدونها لا تَقبل التقيُّد بوصف محدَّد، تطورت الكائنات الحية في بيئات تجمع بين التقيُّد بأنماط والانفتاح أو العشوائية. كثير من عناصرها موضعي ومحدَّد بموقع معين. استعراض التزاوج الذي يُؤديه بوم تنجمالم يختلف عن ذلك الذي تُؤديه طيور نقار الخشب العاجية المنقار، كلاهما يَتماشى مع موضعه في بيئته. ماذا يعني هذا؟ علينا الاحتفاء بالعناية بصورها الموضعية والمحلية.

للوهلة الأولى، قد ينظر إلى الأرض بصورتها تلك نظرة سلبية، لكن بعد تمحيص، إذا كان سلوك الكائنات الحية العاملة في بيئاتها وسطًا بين طرفَي مقياس العشوائية والنظام، فإن ذلك يخلق تاريخًا طبيعيًّا أكثر «ثراءً» إذ يجمع بين عناصر نومطيقية (عامة) وإيديوجرافية (خاصة) (إذا أردنا استخدام المصطلحات المتخصِّصة). إذا كان العالم مربكًا، فذلك يستدعي استخدام طرق أكثر تعقيدًا للتعامل معه؛ وذلك الإرباك الذي يحفز التعقيد بدوره يستلزم أشكالًا أكثر تنوعًا من العناية. إذا ظهرت في كائن حي القدرة على السلوك الابتكاري بدرجة ما، فإنه سيَستخدِم تلك القُدرة كي يَنجح في البقاء في بيئة صعبة. وهو ما سيظل يتكرر. البقاء على الأرض يتطلَّب من الكائنات الحية توليد مزيد من التعقيد في أجزائها، ويستلزم أيضًا انبثاق بِنًى أو أنظمة معقَّدة لديها القدرة على الإشراف على سلوك تلك الأجزاء؛ ومن ثَم تُصبح البِنى الكلية مُسيطِرة على ما دونها من الأجزاء. هكذا، يتحلَّل الأدينوسين الثلاثي الفوسفات مائيًّا إلى أدينوسين ثنائي الفوسفات، وتَزيد سرعة تحرك الهيموجلوبين في جسد الذئب البري حين يُطارد سنجابًا. وتلك العملية لا تَقتصِر على دعم ذرات النيتروجين الموجودة في العضلات وذرات الحديد الموجودة في الهيموجلوبين للمطاردة. إنما تنشط الجينات وتُقرأ لأن الذئب البري يَحتاج إلى مزيد من الأدينوسين الثلاثي الفوسفات. تكون وظيفة الجينات أحيانًا تنفيذية، كما في حالة تكون الجنين. لكن ما أن يتكوَّن الكائن الحي وتبدأ عمليات الأيض العمل بصفة مُتواصلة، يتحوَّل الكائن الحي ذو النمط الظاهري إلى كيان تنفيذي أيضًا. إذ يستخدم الكائن الحي جيناته وكأنها عدة مكعَّبات ليجو، تتضمَّن إرشادات لتجميع المواد التي يَحتاجها.

السلوك الجيني في حد ذاته نمَطي، إلا أن أنماطه قد تكون مرنة بما يَكفي لأن تَستجيب للمُحفِّزات البيئية. إن «ستنتور روزيلي» كائن بحري وحيد الخلية له شكل البوق، لديه فم في أعلى جسده ويَلتصِق الطرف السُّفلي لجسده بالركيزة. إذا أثاره محفز، فإنه ينكمش أو ينحني يمينًا ويسارًا، أو يعكس الحركة الهدبية لمحيط فمه ليزيح تيارات الماء. وقد يَتراجع إلى داخل أنبوب مخاطي يُحيط بقاعدته، ثم يخرج بعد عدة دقائق، وإذا استمرَّت المُضايقات، فإنه يكرر ردود أفعاله التجنُّبية. لكنه في النهاية، يَنفصِل عن الركيزة بحركة حادَّة ويسبح مبتعدًا كي يلتصق بركيزة أخرى. وإذا استمرَّت المُضايقات بعد ذلك فإنه ينفصل مرة أخرى ويبتعد حتى يجد حلًّا غير مُضرٍّ له بمَحض الصدفة، حينها يتوقَّف عن الحركة؛ يتوقف عن تنقُّلاته العشوائية.

هذا الكائن ليسَت له ذاكرة طويلة الأمد؛ إنه لا يستطيع حفظ الحُلول السابقة في ذاكرته واستحضارها عندما يتعرَّض لمُضايقات مرة أخرى. لا يستطيع على سبيل المثال أن يجعل ذاكرته تتذكَّر في المرة التالية التي يتعرَّض فيها لمُضايقات أن عليه أن يُكمِل التحرُّك في الاتجاه السابق باعتباره مهربًا محتملًا من المضايقات. فليسَت لدَيه القُدرة على التعلم الشرطي. مع ذلك، من جانب يبدو لنا ذلك السلوك ذكيًّا وفيه قدر من العناية، وإن كان ضئيلًا، من منظورنا البشَري. فهو حين يتعرَّض للمُضايقة، يَبحث عن مناطق سكن أخرى مُلائمة ويختبرها. تتضمَّن تلك العملية استكشافًا للبيئة وتغذية راجعة منها. يَسلك هذا الكائن هذا السلوك لأنه كان سلوكًا ناجحًا في أسلافه الذين نجحوا في البقاء، فصار هذا السلوك «الذكي» مُشفرًا في الحِمض النَّووي لنوعه. وتوجد كائنات أكثر تعقيدًا، لديها القدرة على التحرك في اتجاه زيادة التركيز في تدرُّج ما أو تخيُّر الغذاء الأنسب لها.

مع زيادة التعقيد وتطور الكائنات، وصل التعقيد إلى مُستوًى جديد، تضمن القُدرة على التعلم واكتساب السلوك، أدَّى إلى الاقتراب أكثر من مفهوم العناية. الذئب البري لديه ذاكرة والقُدرة على التعلم الشرطي؛ إذ يَستطيع أن يتذكَّر الاتجاهات التي ينبغي أن يركض فيها كي يَختبئ. وهذا يستلزم تطوير قدرات عصبية وغيرها من القُدرات كي يعمل في الاختلافات الطفيفة في السياق، وهذا بدوره يُولِّد مستويات جديدة من العناية.

ذلك المستوى من التعقيد يتضمَّن انبثاقًا. إذ تولد التفاعلات المشتركة بين المكونات والأنظمة الجزئية قُدرةً لدى النظام الكلي على التصرف تفوق تلك الموجودة لدى الأجزاء وتختلف عنها وهي ليسَت معروفة للمستويات التنظيمية الأدنى. الرضاعة سلوك تطور تدريجيًّا؛ من قبل لم تُوجد أمهات تُرضع صغارها لكن لاحقًا ظهر ذلك السلوك. الأمهات مجبولة وراثيًّا على ذلك الفعل، لكنها أيضًا تتعلَّم من مراقبتها للأمهات الأخريات وهي ترضع صغارها. وتتعلَّم متى وكيف تَفطم صغارها. الأمهات من البشر تُربي صغارها وتعلمهم ماذا يأكلون وماذا يتجنَّبون. في تلك المرحلة يوجد تعلم مكتسب.

الجينات يَنبغي أن تُفهَم من منظور معاصر ومنظور تاريخي. لماذا تميل النبتة في اتجاه الشمس؟ (إن هذا «التوجيه» الذاتي هو ما يُمكن أن نعتبره مؤذنًا بنشأة العناية.) علماء الأحياء يحتاجون إلى تفسيرات مباشرة وتفسيرات تطورية (ماير، ١٩٨٨، صفحة ٢٨). الخلايا الموجودة في الجانب الأقل تعرُّضًا للضوء من الساق تطول أسرع من تلك الموجودة في الجانب الأكثر تعرُّضًا للضوء بسبب التوزيع غير المتساوي لهرمون الأوكسين الذي يتحرك لأسفل من طرف الساق. لكن يوجد تفسير أشمل؛ وهو أنه على مدى الزمن التطوري، وأثناء التنافس على ضوء الشمس، حدَثَت طفرات ملائمة، وأن ذلك الانتحاء الضوئي يزيد التمثيل الضوئي.

إذن، ضبط الاتجاه ذلك، الذي يُمكن تفسيره على مستوى علم الأحياء الدقيقة من عملية تستغرق بِضع ساعات، يمتدُّ تفسيره إلى نطاقٍ أكبر وهو التاريخ الطبيعي الذي يمتدُّ لقُرون. على مستويات أكثر تعقيدًا ستُوجد تفسيرات مباشرة أكثر لكيفية تشكيل العقل للسلوك، فيدفع الأمَّهات من الثدييات إلى إرضاع صغارها. أما على مُستوًى تفسيري أشمل، فذلك السلوك يرجع إلى أن تلك الأمَّهات زادت من عدد نسلها وجرى انتخابها طبيعيًّا. إذا جاز القول، أودُّ أن أصوغ ذلك بعبارة أكثر استفزازًا، وهي أن الانتخاب الطبيعي يُحابي العناية. في الثقافات، هذا يستمرُّ عن طريق الأعراف الثقافية إذ تُتيح لجيل أن يَلد الجيل التالي ويُنشئه. التاريخ الأكبر هو الذي يدفع التاريخ الأصغر. وسلوكيات دعم الحياة يُمكن أن يكون لها تفسيرات كثيرة.

في هذا المستوى، تنشأ مُشكلات تأثيرات تنازلية وتصاعدية. في الكائنات العاقلة، يكون التأثير تنازليًّا من أعلى إلى أسفل مثلما يُوجد الرأس في أعلى الجسد ويُوجه تحركاته. تلك الكائنات العاقلة تسلك سلوكها لا بسبب ما نعرفه عن الإلكترونات والبروتونات، إنما بسبب ما نعرفه عن الشبكات العصبية؛ بسبب ما نعرفه عن المُفترس والفريسة، أو في الشئون البشرية عن صناديق الاستثمار وأسواق الأسهم، أو كيفية كتابة وصية لتوريث عقار إلى الجيل القادم.

أجل، حين تَظهر الحياة، توجد عناية داعمة للحياة؛ لكن العناية هي أنانية محضَة كما قد يصرُّ علماء علم الأحياء المُتعنِّتون الآن. وهذا ما يُعبر عنه جورج سي ويليامز بصراحة إذ يقول: «الانتخاب الطبيعي … يمكن وصفه صراحةً بأنه عملية لتعظيم الأنانية التي تركز على المنافع المباشرة» (ويليامز، ١٩٨٨، صفحة ٣٨٥). لوقتٍ طويل، ظلَّ ريتشارد دوكينز مصرًّا على أن كل جين هو «جين أناني» (دوكينز، ١٩٨٩). هنا تُوجد مشكلة أساسية، لا سيَّما بالنسبة إلى من توجَّسوا من استخدامي لكلمة «عناية»، وهي أن كلمة «أنانية» اقتُبست من السياق البشري واستُعملت لوصف جميع الكائنات الحية، محارًا كانت أو جُزيئات حمضٍ نووي. على الأقل على مستوى الجينات، لا بدَّ أن يُقر علماء علم الأحياء بأن الجينات المُفرَدة نادرًا ما تكون أنانية، هذا إن كان هذا مُمكنًا من الأساس؛ إذ إن الجينات لا بد من أن تتعاوَن فيما بينها داخل الكائن الحي الكُلي، الذي يعتمد بقاؤه أو فناؤه على ذلك التكامُل المعقد.

حيث إننا في طريقنا الآن لفهم كيف نشأت «العناية»، فيَجدر بنا أن نستخدم كلمة لها دلالات سلبية أقل، فنقول إن كل كائن حي يَسعى وراء قيَمِه، وراء حياته الخاصة، وهو كل ما يُمكن للكائن الحي (غير البشري) أو يَنبغي له أن يسعى وراءه. البكتيريا والحشرات والقشريات — بما فيها الكائنات الحية التي لديها القُدرة على الإحساس مثل الفئران وقرود الشمبانزي — كلٌّ منها بمثابة مشروع خاص، كلٌّ منها شكلٌ من الحياة ينبغي الدفاع عنه لطبيعته الجوهرية. من منظور علم الأحياء، حيثما تُوجد هوية، توجد قيمة جوهرية. الكائن الحي يستخدم جيناته كي يتصرَّف «بما يُحقِّق مصلحته الخاصة»، أو بصيغة فلسفية أكثر «بما يحمي قيمته الجوهرية». تلك الجينات هي «جينات قيمية».

علاوة على ذلك، فإن زيادة التعقيد تُغذي العناية. التعقيد، لا سيَّما الذي يجمع بين النظام والعشوائية، يُولِّد اهتمامًا، يُولِّد توجهًا تفضيليًّا. ذلك التعقيد يُولد الارتباك. إذ تنشأ فيه الفرصة والخطر. الكائن الحي يمكن أن يتعرَّض لخسائر وانتصارات. ويُمكن أن يوجد التعاون والتنافس. وسيتعين على الكائن الحي أن يُوجِد ويختبر حلولًا أفضل لمشكلاته. وهذا يزيد التعقيد، لا سيَّما حين تتعارض اهتمامات هي مسائل حياة أو موت. يُسمِّي علماء علم الأحياء ذلك التطوُّر المُشترك، ولاحظ أن تلك الدينامية (التي قد يَصفونها بأنها «سباق تسلح في صراع التطور المشترك») تُؤدِّي إلى توليد التعقيد. من هذا المنظور، فإنَّ العناية تقلُّ حيثما تقلُّ العشوائية.

(٤) اهتمامات مُتعلِّقة بالنوع: إنتاج الغير من الأقارب وتكاثرهم

بعد ذلك يتسع مجال العناية، بسبب الوراثة وحدها. حتى لو أبقى علماء علم الأحياء على استعارة «الأنانية»، فإنَّ العناية الأنانية «تتحالف» بقوة، خارجيًّا على مستوى البشرة وما فوقها كما تحدث داخليًّا على مستوى البشرة وما دونها. الجينات يجب أن تتعاون فيما بينها داخل الكائن الكلي، والكائن الكلي أو النمط الظاهري أيضًا يُصبح جزءًا من سلالة نوع. هذا يحدث في البداية في عملية التكاثر؛ فجميع الأنواع يجب أن «تُعنى» بالتكاثر — على الأقل وَفق التفسيرات الداروينية يكون التكاثر هو همها الأول — وإلا انقرضت.

إذن تُنتَخب السلوكيات التي تُلبي حاجات العائلة كلها بشكل مُتناسب؛ وهو ما يُسميه علماء علم الأحياء «انتخاب الأقارب». مع ذلك قد يُصرُّ المرء على أن الأفراد يتصرَّفون «بأنانية» بما يحقق منفعتهم الخاصة، لكن «الأنانية» هنا تمتدُّ لتَشمل المنافع التي تكتسب من «العناية» بالأب والأم وأبناء وبنات الأخ وأبناء العم والعمات والأعمام وغيرهم، مهما تتبَّعت خطوط العلاقة التي لا تعرف نهايتها، وهي خُطوط تتشعَّب حتى تَنال جميع أفراد النوع (الذين يكون نصفهم أزواجًا مُحتملين، يحتاجون في بعض الأحيان إلى العناية بهم أيضًا). إذن يتبيَّن أن «الحياة الخاصة» للفرد ليسَت ملكًا له وحده، إنما ملكيَّتها مُوزَّعة على العائلة، وأن الفرد يُدافع بكفاءة عن «ذاته» المزعومة وقت اللزوم، ما دامت فائدة ذلك تظهر في تجميعة الجينات بأكملها. هذا يعني أن القيم التي يُعنى بها الكائن الفرد كي تعتبر جوهرية لا بد أن تكون مُوزَّعة على نطاق أوسع، وهذا يدفعنا لأن نتأمَّل العملية التي تنشأ بها بإمعان أكثر.

هذه الفاعلية الاستباقية «تُعنى» (لا زلت أستخدم تلك الكلمة بطريقة استفزازية) بسلالة النوع المُستمرة. التوليد يستلزم إعادة التوليد. في عملية التكاثر، تتكاثَر الكائنات الحية بنقل مجموعة واحدة من التسلسلات المُشفَّرة من جيل إلى الجيل الذي يليه، الذي ينظم ذاته مستعملًا مجموعة المعلومات المنقولة إليه. إنَّ الخلية الكاملة القُدرة الواحدة تُحوِّل نفسها باستخدام الموارد التي تستمدُّها من الأم إلى كائن كامل مُعقَّد. ما يُحفَظ ليس المادة، ولا الكائن الحي، ولا الذات المُتجسِّدة، ولا حتى الجينات، بل ما يُحفَظ هو رسالة لا يُمكن حفظها إلا إذا وُزعَت أو نُشِرت.

توريث الجينات يعني استمرار النوع. الجينات هي الصورة المصغَّرة للنوع؛ فهي تُجسد النوع في صورة ميكروسكوبية، والنوع هو الصورة المكبرة للجينات؛ فهو يُجسد الجينات في صورة ماكروسكوبية. وبقاء الجينات يعني بقاء النوع، والعكس؛ لأن الجينات تُشفر النوع، والنوع يُعبر عن الجينات. النوع تُشفره مجموعة من الجينات، على نحوٍ تمثيلي؛ والكائن الحي الذي يُعدُّ تعبيرًا عن النوع يمثل ويجسد النوع في العالم.

عادةً ما يُنظر إلى التكاثُر باعتباره حاجة فردية، لكن لأنَّ الكائنات الفردية يُمكن أن تزدهر من الناحية الجسَدية دون أن تتكاثر على الإطلاق، بل إن التكاثُر قد يُعرضها للضغط والخطر أو يَستنفِد جزءًا كبيرًا من طاقتها، يُوجد منظور منطقي آخَر يرى أن التكاثر يمكن تفسيره بأنه حفظ النوع لنفسِه بنسخ أفراده مرةً تلو الأخرى وفردًا تلو الآخر. فالنوع يظل موجودًا بأن يحلَّ محل أفراده آخرون جُدد مثلهم. من هذا المنطلق، لا تَحمل أنثى الدب الأشهب في صغارها كي تُحافظ على صحتها، كما لا تحتاج النِّساء البشريات إلى إنجاب الأبناء كي تصحَّ. بل إن صغارها هم إعادة توليد لنوعها المُهدَّد بالفناء عن طريق التكاثر المُستمر. النوع المُتكاثر هو نوع يدافع عن نفسه. أنثى الحيوان لا تَملك غددًا ثديية، وذكر الحيوان لا يَملك خصيتَين لأنَّ وظيفة تلك الأعضاء هي حفظ حياتهما؛ إنما وظيفة تلك الأعضاء هي حماية صورة من الحياة أشمل من حياة الفرد. السُّلالة التي يَنتمي إليها الفرد ديناميًّا ليسَت صفة جامدة فيه، إنما هي شيء يتدفَّق من خلاله بصورة دينامية. يبدو أن القيمة الجوهرية — القيمة التي يُدافع عنها فعلًا على مرِّ الأجيال — تكمن في صورة الحياة التي هي النوع، بقَدر ما تكمن في أفراده؛ لأنَّ الأفراد مجبولة وراثيًّا على أن تضحي بنفسها من أجل تكاثر نوعها. ما «تُعنى به» الأفراد هو شيء مُتغيِّر وَفق صورة حياة مُعيَّنة؛ فهي تُنتخَب كي تُلبي متطلبات وحدة البقاء المناسبة (النوع).

تلك الأفراد التي تتكاثَر قد يكون لديها جينات أنانية، لكن تلك الجينات «تُعنى أكثر» بالنوع (إن جاز القول) منها بالفرد وشئونه. الكائن الفرد الذي يَعيش في الحاضر وُلد كي يَفنى؛ إنما ما يَنتقِل من الماضي إلى المستقبل هو نوعه. وعلى الرغم من أن الانتخاب يعمل على مستوى الأفراد؛ إذ إن الفرد هو الذي يتكيَّف، فإن الهدف من الانتخاب هو تحديد نوع التكيف الذي يُؤدي إلى نجاح النسخ، إلى تكاثر النوع، ونشر المعلومات المشفرة في الجين على نطاق أوسع. البقاء يكون عن طريق إيجاد آخرين يَتشاركون المعلومات القيِّمة نفسها. الكائن الحي يُساهم في إنشاء الجيل التالي بكل ما يَملك المساهمة به، وهو شكل حياته الخاصة. والبقاء يكون للأفراد الأقدر على إرسال المعلومات الجينية القيِّمة الموجودة في نفسها إلى غيرها. يتبيَّن أن البقاء للأصلح يعني البقاء للمُرسل الأفضل. وظيفة الجينات كما ذكرنا آنفًا هي أن تكون سلفًا لسُلالة لا محدودة يرث أفرادها النمط الظاهري والنمط الجيني الذي تُشفِّره. الجينات «تنتشر» و«توزع» بواسطة الكائنات الحية التي لا تحيا لأجل «ذاتها»، إنما لأجل أن تبثَّ ما لديها من معلومات لذوات أخرى. إذا كان المُشكِّكون يتساءلون إن كان ينبغي أن يُوصف ذلك أيضًا بأنه «عناية»، فهو بلا شك خطوة في السبيل إليها.

(٥) الانتخاب الطبيعي: البحث عن الصلاحية التكيُّفية

على كوكبَي المُشتري والمريخ لا وجود للانتخاب الطبيعي. فليس عليهما ما يتنافس، أو يحاول البقاء، ولا توجد صلاحية تكيفية. لا شيء هناك يُعنى بشيء. حتى على الأرض، تستمر الاضطرابات المناخية والجيومورفولوجية في العصر البلايستوسيني دونما اختلاف تقريبًا عما كانت عليه في العصر ما قبل الكامبيري. لكن قصة الحياة تَختلف؛ لأن في الأحياء، بخلاف الكيمياء أو الجيومورفولوجيا أو الفلك، التعلم مُمكن عن طريق الجينات ثم العمليات العصبية. النتيجة هي أنه من قبل لم تُوجد أي أنواع على كوكب الأرض، أما اليوم فعددُها بين الخمسة والعشرة ملايين. تلك الأنواع اضطرَّت لأن تتعايَش بعضها مع بعضٍ في أنظمة بيئية، مما يُحقِّق الصلاحية التكيفية.

التعقيد وحدوي، كما سبق أن أشرنا داخليًّا أي على مستوى البشرة وما تحتها، لكن الصلاحية التكيُّفية تجعل التعقيد وحدويًّا أيضًا خارجيًّا على مُستوى البشرة وما فوقها. التعقيد هو محاورة بين الكائن الحي وبيئته. يُوجد في الأنظمة البيئية ما يُسمِّيه علماء البيئة بالمرتع أو العش البيئي؛ الأنظمة البيئية الثرية تكون زاخرة بتلك الأعشاش. العش البيئي هو مكان ودور يَلعبه الكائن الحي في ذلك المكان. الكائنات الحية تصنع حياة في العش؛ فهي تتداخَل وتتراكَب لتصنع مستويات هرمية غذائية، لتصنع دورات تغذية ودورات تغذية راجعة. وتُشكل دورات فائقة هي أعقد من تلك الدورات. في تلك المجتمعات الحيوية، تعتمد المستويات العليا على المستويات الأدنى منها، وهو ما يَعني أن أشكال الحياة البسيطة مثل الميكروبات والنباتات، لا تَتلاشى، بل تظل جزءًا أساسيًّا في هرم الحياة.

في البداية يظل ذلك التداخُل لازمًا لأجل عمليات تحصيل الطاقة (من دون النباتات ستفنى الحيوانات) لكنه ضروريٌّ أيضًا في عمليات تدوير المواد (مثل التحلل). كل كائن حي يعتمد على تحصيل القيمة، غالبًا بالاعتماد بقدر مُتساوٍ على التغذية عن طريق الرعي أو الافتراس، وعلى التكافل. القطاع الحيوي يُديره أفراد مدفوعة بحاجاتها تتفاعل مع آخرين مثلها وكذلك مع المواد والقوى اللاحيوية الداخلية والخارجية (مثل الماء والدُّبال). الأنماط الجينية تولد تمايزات جديدة في الأنماط الظاهرية. والبيئة ليسَت مُتقلبة، لكنها أيضًا ليست منتظمة بالقدر الكافي لأن تَسترخي فيها الكائنات. فهي تكون في حاجة دائمة لأن تُوجد عوامل كشف واستراتيجيات أفضل.

المحاورة أو التفاعُل مع البيئة المُنفتحة (الزاخرة بالفرص والمعقَّدة والتي تتطلَّب مهارات عالية للعيش فيها) تستحثُّ على الابتكار، بل تَستلزمه. قد يبدو أن الأفراد والبيئة مُتقابلان لكنهما في الحقيقة مُتوائمان؛ فالفرد يُوضع في صراع مع بيئته لكنه يكون أيضًا متوائمًا معها، في عشه البيئي، في صلاحية تكيفية، في مواجَهة المنح والمِحَن. النظام يكون منتظمًا ومنفتحًا في آنٍ واحد، وهو ما يَستدعي نوعًا أعقد من العناية. التلاؤم البيئي الموضعي عادة ما تنتج عنه حياة معقَّدة إجمالًا. الأنظمة البيئية تكون مُستقرة نوعًا ما، مُستقرة بالقدر الكافي لأن يعمل الانتخاب الطبيعي داخلها بكفاءة موثوق فيها، لكن بالقدر نفسه تكون التفاعُلات فيها عشوائية بالقدر الذي لا يسمح بإيجاد الأنماط المُنتظِمة التي تُشبه القوانين التي يَبحث عنها العلماء (سوليه وباسكومتا، ٢٠٠٦). هنا، قد يجد علماء البيئة تلك الأنظمة معقَّدة للغاية إلى حدٍّ لا يسمح لهم بنَمذجَتِها بكفاءة.

عندما يَتراكم ذلك التعقيد، تصير الحياة شبيهة بالمغامرة. تتطور صور الحياة استجابةً لزيادة الأعشاش البيئية في التضاريس المُختلفة، كما يحدث على سبيل المثال في الانتواع السريع والمتنوع في الحشرات، والذي تَنتج عنه أشكال شديدة الاختصاص ببيئاتها. الكائنات الحية لا بدَّ أن تبحث عن أعشاشها. المُتنقِّلة منها تبحث عن مواطنها، سعيًا للبقاء في الأعشاش البيئية التي تكيَّفت عليها. لكن هذا أيضًا ليس مجرَّد آلية داخلية لحفظ الذات، ولا هو النجاح في سُكنى عش. إنما يضع الانتخاب الأفراد في مسارٍ تطوُّري متصل للنوع، سعيًا وراء الصلاحية التكيُّفية.

يصرُّ علماء الأحياء المُتعنِّتون على أن الانتخاب الطبيعي لا يُبدي «عناية». يقول ديفيد هيوم إن الطبيعة «لا تفضل الخير على الشر أكثر مما تفضل الحرارة على البرودة أو الجفاف على الرطوبة أو الخفيف عن الثقيل» (هيوم، ١٩٧٢، صفحة ٧٩). ولو زاد لقال ولا الحياة على غير الحياة. تلك اللامبالاة قد تبدو صحيحة من بعض المنظورات، لا سيَّما على المدى القصير، مع أن الطبيعة العادية هي نظام دعم للحياة مُبهر. بل قد يبدو صحيحًا على المدى الطويل في بعض الأحيان؛ فالكائنات تفنى والأنواع تَنقرِض. لكن يوجد منظور آخر (كما هو الحال دائمًا فيما يتعلَّق بالأنظمة المعقَّدة).

نسجت الطبيعة رواية مُذهلة على كوكب الأرض، فمنحته تضاريسه الأرضية والبحرية، وبعد أن كان خاليًا من الأنواع، صار عامرًا بخمسة مليارات نوع في غضون خمسة مليارات سنة، تطورت فيها الميكروبات لتَصير أناسًا. لعلَّنا بقولنا إن الطبيعة «تُعنى» بالحياة، نصوغ ما نعنيه بعبارة خاطئة؛ إذ ليس القصد هو أنَّ نصف الطبيعة بالعناية الواعية. مع ذلك فالطبيعة نبعٌ للحياة. الطبيعة هي الخلق أو التكوين. والانتخاب الطبيعي باعتباره أداة ذلك التكوين يستلزم الصلاحية. والانتخاب بناءً على الصلاحية التكيُّفية لهو نوع مُستغرَب من اللامبالاة. علاوةً على ذلك، لا تُقاس تلك الصلاحية ببقاء الفرد أو عمره الطويل أو ازدهاره. بل تُقاس بالمُساهَمة التي يُقدمها الفرد للجيل التالي في بيئته. تلك الصلاحية ليست فردانية أو «أنانية» على الإطلاق؛ إنما هي صلاحية لتدفُّق نبع الحياة، صلاحية لاستمرار الحياة، لمنح شيء لأفراد النوع التي ستأتي بعد ذلك.

الصلاحية تَعني قُدرة الفرد على المساهمة أكثر بما فيه نفع لأفراد نوعه الذين سيأتون من بعده من ساكني تلك الأعشاش البيئية، بقدرٍ أكبر نسبيًّا من «مُنافسيه». تلك نظرة مثيرة للاهتمام للانتخاب الطبيعي؛ باعتباره يُسهل تواؤم الأجيال، بانتخاب الجينات والبِنى والعمليات التي تستمر في توليد الحياة حتى في خضمِّ فنائها المُتواصِل. في إطار الآفاق الدينية الأوسع التي تعنينا في نهاية المطاف، يسع المرء أن يَستعين باستعارة دينية فيقول: الصلاحية هي «موت الذات في سبيل تجدُّد الحياة» في الجيل القادم. وإذا كنت غير مُستعد بعد لمثل تلك الاستعارة، ولا زلت مُتشبثًا باستعارة «اللامبالاة»، فلعلك بدأت تتساءَل متى بدأت العناية تتحوَّل من استعارة إلى حقيقة في أثناء تلك المَسيرة الطويلة لتطور الحياة.

(٦) اهتمامات مُتعلِّقة بالجانب العصبي: إدارة الخبرة الشعورية

العناية بالعناية تحدث داخل أعقد عُنصر معروف في الكون: الدماغ البشري؛ وقد برهنت لتوك على جانب من ذلك التعقيد حين تريَّثت كي تتأمَّل استخدامي المُزدوج للكلمة في أول الجملة: «العناية بالعناية». نشأ الدماغ البدائي لديك، وتكامَل مع اليدَين والرجلَين باعتباره وسيلة للبقاء في «الغابة» (أو بعبارة اصطلاحية أكثر: في عالم مُعقَّد تعمُّه الفوضى). باستخدام الحدس والسلوك الشرطي، «تُقدِّر» الحيوانات من فصيلة الليموريات الاحتمالات؛ إذ يُوجد كل من العشوائية والنظام بالقَدر الوافي لإحداث تطور في المهارات. فيما يتعلَّق بموضوعنا الحالي، تبين أن هذا الدماغ ليس مجرَّد أداة مُذهلة للبقاء؛ وقد أثبت ذلك بتطويره الجذري لقدرات العناية.

إحدى أبرز قُدرات العناية التي طوَّرها هي الخبرة الشعورية. يُولِّد الدماغ كيانًا واعيًا لديه خبرات داخلية. بعد ذلك، يُطور ذلك الكيان الواعي المُرتبط مع ذلك بالدماغ قُدراته على التقييم المعرفي للعالم الذي يتحرَّك فيه باستخدام تلك الخبرات الشعورية. لا أحد يُنكر الآن أننا بلغنا صورة رائعة من «العناية». عند مستوى حرج مُعين، يُمكن أن يصير التعقيد واعيًا، ويمكن عند عتبة أعلى أن يَصير واعيًا بذاته. هنا ينشأ الوعي الذاتي بالجسد.

أدمغة الحيوانات مُذهلة بالفعل. يحوي الملِّيمتر المكعب الواحد (مساحة رأس الدبوس تقريبًا) من القشرة الدماغية للفأر ٤٥٠ مترًا من الزوائد الشجرية ومن كيلومتر إلى كيلومترَين من المحاور العصبية. يعدُّ دماغ الفأر مُنظمًا على نحو انتقائي؛ فالفأر يَلتفِت إلى الحبوب لكنه يتجاهل الحصى التي تُشبهها شكلًا. من اللافت فيما يتعلَّق بموضوعنا هنا هو أنه على الرغم من أن التعاطف غالبًا ما يُعد مُقتصرًا على الرئيسيات العليا، ويحتمل أنه يقتصر على البشر منهم، فإنه تُوجد أدلة حتى في الفئران تُشير إلى ارتفاع الحساسية للألم عند مُراقبة فئران مألوفة تتعرَّض للألم. يبدو أن دماغ الفئران مُتطور بما يكفي على الأقل لأن يَمنحها قدرات أولية للشعور بما تَختبره أقرانها (لانجفورد وآخرون، ٢٠٠٦).

تفوق القشرة الدماغية البشرية نظيرتها في الفئران حجمًا بثلاثة آلاف مِثل. وجزيئات البروتين لدينا مُطابقة لتلك الموجودة في قرود الشمبانزي بنسبة ٩٧ بالمائة، فلا تَختلِف عنها إلا بنسبة ٣ بالمائة. لكن حجم قشرتنا الجُمجمية يبلغ ثلاثة أمثال حجم نظيرتها في الشمبانزي؛ أي إن نسبة الاختلاف في الدماغ بيننا وبينه ٣٠٠ بالمائة. وقد بلغ ذلك التطور المعرفي مُستوًى مُذهلًا في سلالات البشرانيات التي انتهَت إلى نوع الإنسان العارف أو «الهوموسابينس»؛ إذ زادَت سعة الجُمجمة أو الدماغ من نحو ٣٠٠ إلى ١٤٠٠ سنتيمتر مكعب. يَحوي الدماغ البشري أليافًا واصلة تلفُّ الكرة الأرضية ٤٠ مرة إذا مدَدناها.

يبلغ الدماغ البشري مِن التعقيد ما يجعل الأرقام التي تصفُه فلكية وعصية على الاستيعاب. التقدير التقليدي هو أنه يحوي ١٠١٢ خلية عصبية لكلٍّ منها عدة آلاف (ومن المُحتمل أن تكون عشرات الآلاف) من المَشابك العصبية. وتستطيع كل خلية عصبية أن «تخاطب» العديد من الخلايا العصبية الأخرى. يحوي الغشاء البَعد مشبكي أكثر من ألف بروتين مختلف في سطحه المستقبل للإشارة. يقول عالم الأعصاب سيث جرانت إن «أعقد بنية جزيئية معروفة [في الجسم البشري] هي الجانب بعد المشبكي من المشبك العصبي» (مقتبس في بينيسي، ٢٠٠٦). التفاعُلات الجزيئية الدقيقة المعقَّدة التي تحدث داخل المشابك العصبية هي التي صنعت الدوائر المسئولة عن قُدرتنا على التفكير والحس. تلك «بروتينات ذكية». تغيَّرت وظيفة أكثر من مائة من تلك البروتينات من استخدامات سابقة غير عصبية؛ لكن حتى الآن تطوَّر أغلبها أثناء تطور الدماغ. تقول بريت كيرنر عالِمة الوراثة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: «ظلَّت المعقَّدات بعد المشبكية وأنظمة الإشارة تزداد تعقيدًا على مدى عملية التطور» (مقتبس في بينيسي، ٢٠٠٦).

المُثير للاهتمام بحقٍّ هو أن الذكاء البشري يصير واعيًا، يَصير «أنا» لها جانب داخلي نفسي شعوري وتأمُّلي ذاتي. في داخل البِنية الأكثر تنظيمًا في الكون حسب علمنا، تتفاعل تريليونات الجزيئات في تلك الشبكة البالغة التعقيد فتُولد التَّجربة الموحَّدة المُتمركزة التي هي العقل. وهي عملية لا يكاد علم الأعصاب يقدر بعدُ على أن يصوغ نظرية تفسرها. فيها تدعم شبكة مُتعددة مكوَّنة من مليارات الخلايا العصبية موضوعيًّا ذاتًا عقلية موحَّدة أو مركزًا أوحدَ للعناية والخبرة. المشابك العصبية والنَّواقل العصبية ونمو المَحاور العصبية؛ كل تلك الأشياء يُمكن بل يَنبغي اعتبارها عناصر من المنظور «الخارجي» عند دراستها في علم الأعصاب.

لكنَّنا نعرف أيضًا بديهيًّا أن تلك الأحداث لها جانب «داخلي»؛ وهو الخبرة الشعورية. في هذا الجانب ينشأ الوعي المعرفي والوجودي والفينومينولوجي بالذات. تملك الحيوانات العليا «ذاتًا داخلية» بالفعل، لكن تلك الذات تكون «واعية» في البشر أكثر من غيرهم (راسل وآخرون، ١٩٩٩). وثمة دليل قويٌّ على تلك الحيوية العالية المستوى يتمثَّل في أن الاكتشافات التي نُحقِّقها نحن البشر في علم الأعصاب وعلم الوراثة تُثير مسائل ميتافيزيقية ودينية. ثمة فارق هائل بيننا وبين أقرب أقربائنا على الأرض مثل قرود الشمبانزي في تلك القدرات، سواء القدرة على المعرفة العِلمية أو على العناية «الواعية» (فضلًا عن الروحانية) بفهم ما يعنيه العيش على الأرض بمثل تلك القدرات التوليدية الفريدة.

(٧) اهتمامات متعلِّقة بالعقل: الالتزامات الفكرية (المثالية)

كل ذلك يُنتج — مع زيادة السببية التنازلية — كائنات ناقدة مُتأملة لذاتها تملك القدرة على بناء ثقافات تراكمية قابلة للتوارث. حدثت ثورة معلوماتية لدى البشر دون غيرهم. فهم الوحيدون الذين وضعوا «نظرية عن العقل»؛ فهم يعرفون أنه تُوجد أفكار أخرى في عقول آخرين، وهي لازمة لإحداث تلك الثقافات اللغوية. ذلك الارتقاء في اللغة وقواعدها والقُدرة على تقييم الخبرات الشعورية والسعي إليها ينتج نوعًا مُعقَّدًا من العناية. «أنتج التطور على مدى مئات الملايين من السنوات مئات الآلاف من الأنواع التي تمتلك أدمغة، وعشرات الآلاف من القُدرات التعلمية والإدراكية والسلوكية المعقَّدة. نوع واحد فقط من بينها تُراوده تساؤلات عن مكانه في ذلك العالم؛ لأنه الوحيد الذي تطوَّرت لديه القدرة على أن يفعل ذلك» (ديكون، ١٩٩٧، صفحة ٢١).

تلك الشبكة المعرفية، التي تكوَّنت وتطورت، هي التي تُوجِد كمًّا لا نهائيًّا تقريبًا من الأنشطة العقلية. ذلك الانفجار المُتراكب هو الذي أنتج قُدرة الدماغ البشري على تكوين أفكار محتملة يفوق عددها عدد الذَّرات الموجودة في الكون. نحن البشر أرقى مُنتج معروف جادت به الطبيعة. في أجسادنا المكوَّنة من مائة وخمسين رطلًا من البروتوبلازم، وأدمغتنا التي تزن ثلاثة أرطال، نجد تنظيمًا تشغيليًّا يفوق ذلك الموجود في مجرَّة أندروميدا برمتها. يبدو أننا اجتزنا عتبة لا خطية تتعدَّى التطوُّر الجيني. علماء الوراثة الذين نقلوا لنا اكتشاف تسلسل الجينوم البشري وصَفُوا اجتياز تلك العتبة بأنه «تفرُّد هائل جعل البشر أعقد حتى وفق أبسط المعايير» (فينتر وآخرون، ٢٠٠١، صفحة ١٣٤٧). كل ذلك النشاط يُترجم إلى أشكال من العناية غاية في التعقيد.

ثمة مسار واحد فقط يُؤدي إلى الإنسان، لكن في ذلك المسار على الأقل يجعل النمو المُنتظِم للقُدرات الدماغية من الصعب الاعتقاد بأن الذكاء ليس سمة تُنتخَب. «الدماغ هو العضو الأسرع نموًّا في تاريخ الأحياء» (ويلسون، ١٩٧٨، صفحة ٨٧). قد يظنُّ المرء للوهلة الأولى أن زيادة حجم الدماغ في البشر مُتوقَّع؛ لأن الذكاء يمنح ميزة واضحة تُساعد على البقاء. لكن الأمر ليس بذلك الوضوح؛ إذ يُوجد خمسة ملايين نوع تقريبًا في الوقت الحاضر نجحت جميعها في البقاء دون ذكاء مُتطور، ناهيك عن مليارات الأنواع الأخرى التي ظهرت وانقرَضَت على مدى قرون. في نوع واحد فقط من تلك الأنواع العديدة نشأت الثقافة القابِلة للانتقال أو التوريث؛ وقد تطوَّرت في ذلك النوع تطورًا هائلًا، فطرأت عليه أشكال جديدة كليًّا من الإدراك المعرفي والعناية ليسَت لها علاقة وثيقة بالبقاء. فها هو جريجوري بيرلمان يَنجح في محاولته برهنة حدسيةِ بونكاريه في الرياضيات، فحوَّل الفضاء غير المُنتظِم إلى فضاءات مُنتظِمة (مكنزي، ٢٠٠٦). وها هو إدوارد أوه ويلسون يبدي عناية ببقاء النمل الذي يَدرسه، حيث «تكمن الروعة في التفاصيل الدقيقة» (١٩٨٤، صفحة ١٣٩).

قوة الأفكار في الحياة البشَرية لُغز مُحير. ذهب بعض علماء المجال إلى أن مسألة طبيعة اللغة ونشأتها هي «المسألة الأصعب في العلم» (كريستيانسن وكيربي، ٢٠٠٣). لما بدأ علم الأعصاب يُركز على المستوى الجزيئي (الأسيتيل كولين الموجود في الوصلات المشبكية، وقنوات البوتاسيوم المبوبة بفرق الجهد الكهربي التي تبتدئ عملية الاتصال المشبكي) اكتشف أن ما يهمُّ بحقٍّ هو كيف تؤدي المعلومات المخزنة في تلك الوصلات المشبكية إلى تشكُّلها، بما يُتيح لها التأثير على العالم الخارجي الذي نسكنُه. أفكارنا وممارساتنا تشكل تركيب البِنى الدماغية الداعمة لعمليات الدماغ وتُعيد تشكيلها.

تُشكِّل الأفكار في العقل الواعي الأحداث التي تقع داخل هذا الحيز الدماغي وتعيد تشكيلها، أو بالأحرى توفر إطارًا لها. أجرينا تصويرًا عصبيًّا لتدفُّق الدماء في الدماغ فإذا بنا نكتشف أن تلك الأفكار يُمكن أن تُعيد تشكيل تركيب الدماغ الذي تنشأ فيه. أفكارنا وممارساتنا تُشكِّل تركيب البِنى الدماغية الداعمة لعمليات الدماغ وتُعيد تشكيلها. باصطلاح علم الأعصاب، نحن نرسم مُخططاتٍ للدماغ فإذا بنا نَكتشِف أن لدينا «خرائط قابلة للتغيير» (ميرزنيك، ٢٠٠١، صفحة ٤١٨). على سبيل المثال، حين يُقرِّر الموسيقيون عازفو الآلات الوترية أن يبرعوا في عزف الكمان، ويتمرَّنون على العزف بانتظام، فإنهم يُعدلون تركيب بِنية دماغهم؛ بحيث تُيسِّر لهم ضرب الأوتار بأنامل إحدى يدَيهم وسحب القوس باليد الأخرى (إلبرت وآخرون، ١٩٩٥).

عندما يُقرِّر شخص أن يَمتهن قيادة سيارة أجرة في لندن، وبعد أن يَكتسِب خبرة القيادة في أرجاء المدينة لعدة سنوات، فإن تركيب دماغه يتغيَّر أيضًا، فيُكرِّس مساحة أكبر للمهارات المتعلقة بالتنقل مقارنةً بغيره من غير قائدي سيارات الأُجرة (مجواير وآخرون، ٢٠٠٠). كذلك اكتشف الباحثون أن «اكتساب لغة ثانية يُغير بِنية الدماغ» (مكيلي وآخرون، ٢٠٠٤). وكذلك تعلُّم مهارة رمي الكرات في الهواء والتقاطها (درجنسكي وآخرون، ٢٠٠٤). ويجوز أيضًا أن نَفترض أنها تتغير نتيجة قضاء المرء أعوامًا في محاولات برهنة حدسية بونكاريه، أو في محاولات تصنيف النمل وحفظه. الدماغ البشري منفتح بقدر ما هو منظَّم. أدمغتنا لا شك تُشكِّل عقولنا، ولكن عقولنا تُشكِّل أدمغتنا كذلك. العملية تحدث من أعلى لأسفل وكذلك من أسفل لأعلى. فلنقارن الطقس، وهو نظام غاية في التعقيد، بعازفي الكمان المُتمرِّسين الذين يُعيدون تشكيل أدمغتهم.

يطوِّر البشر لغة استطرادية تصير فيها الكلمات والنصوص رموزًا قوية في العالم الواقِعي، وفي منطق ذلك العالم، وفي موضعنا منه. يُحدد البشر موضعهم عبر نظام ذي مستويَين؛ أحدهما مستوى الجينات، ونشترك مع الحيوانات في جزء كبير منه، والآخر مُستوى عالم الأفكار العقلي، وهو يَنبثق من العقل، وليس له حقًّا نظيرٌ بيولوجي واضح. صار لدينا نحن البشر القُدرة على أن نُولي عناية لأشياء لا نراها (أو نسمعها أو نتذوقها) في اللحظة الراهنة. يمكن أن تكون العناية بإيلاء الاهتمام للغير أو بعدم إيلائه لهم إن جاز التعبير. حين تتحوَّل المعرفة إلى «توليد أفكار»، تُتيح تلك «الأفكار» تصور شيء ليس حاضرًا في الخبرة الشعورية وإيلاءَه عناية. فقُرود الشمبانزي ليست قادرة على أن تهتم لأمر الأوغنديِّين الذين يُكابدون الفقر، حتى لو واجَهت فقراء على حدود الغابة التي تَسكنها، لكن المسيحيِّين من شتى بقاع العالم لدَيهم تلك القُدرة مع أنهم قد لا يكونون قد زاروا أُوغندا من قبل.

التعلم الشَّرطي لدى الذئاب البرية لا بدَّ أن يحصل في مواجهة بيئية فِعلية؛ لكن البشر لديهم القُدرة على تخيُّل المُواجَهات ومحاكاتها افتراضيًّا والتعلم مما يَتخيَّلونه. لديهم مساحة لتوليد الأفكار في عقولهم، يُمكنهم استعمالها كآلة محاكاة للتجربة والخطأ، واختبار السلوكيات المبنيَّة على التجارب العَقلية التي قد تُوصِّلهم إلى ما ينشدونه. أداة تقييم الأفكار تلك أسرع وآمن من التجارب التي تُجرى على أرض الواقع. يُمكن لآلة المحاكاة العقلية أن تتوقَّع نتائج تلك التجارب، وتختار أفضلها لاختبارها على أرض الواقع. حتى الحيوانات العليا لديها القُدرة على القيام بجانب من تلك العملية، لكن المنطق البشري يَمنح البشر القدرة على توقُّع أحداث مُستقبلية جديدة، والاختيار من بين الخيارات المُحتمَلة، والتخطيط لعقود بناء على عمليات المحاكاة أو السياسات المختارة، وإعادة بناء بيئاتهم وفقًا لذلك. النتيجة هي قُدرة على العناية بمستقبل متصور والسعي إلى تحقيقه. فالرأسمالية العالمية الحالية تسعى إلى إثراء الأثرياء وإفقار الفقراء، لكن ماذا لو …؟

(٨) اهتمام مجتمعي: القبلية وما وراءها

تلك القُدرة على توليد الأفكار أدَّت إلى إبعاد تركيز الاهتمام عن التمحور حول الذات ووضع الأفراد الآخَرين في مجتمع الفرد في بؤرة التركيز، مع أن الفرد يظلُّ يتصرَّف بما يُحقِّق مصلحته الشخصية بصفة عامة. التطور السريع للدماغ البشري ليس مدفوعًا بالحاجة إلى مهارات صنع الأدوات أو مواجهة العالم الطبيعي بقدر ما هو مدفوع بالحاجة إلى التعامل مع التعقيدات الاجتماعية، لا سيَّما الارتباط مع الآخرين في علاقات تعاونية (دنبار وشولتز، ٢٠٠٧). هذا بدوره يُؤدي إلى تطور لغة مُعقَّدة، تتطلب أدمغة معقَّدة ومرنة من حيث عمليات المشابكة العصبية. المواجهة الجسَدية تُعرِّف بعضنا على بعضٍ؛ أما اللغة مقترنة بنظرية العقل (القُدرة الحدسية على فهم الحالات العقلية للنفس والغير) فإنها «تُمثلنا» بعضنا أمام بعضٍ (أو تُعيد تعريفنا بعضنا ببعض). الذات المُفرَدة لا بد أن تحقق الصلاحية الاجتماعية السياقية؛ فالفرد يتكيَّف أخلاقيًّا مع الأفراد المُحيطين به. هذا ينتج المجتمع الذي تعدُّ القبلية الصورة الأولية له. القبلية — أو القومية بصورة أوسع قليلًا — هي أمر نافع إلى حدٍّ معين، لكن هل تتطوَّر العناية إلى مستوًى أبعد منه؟

من المنظور البيولوجي، إذا كان الانتخاب الطبيعي يَسري على البشر، فقد يبدو للوهلة الأولى أنه من المنطقي أن الأفراد الذين يُعنون بأنفسهم أو بعائلاتهم سيتكاثَرُون أكثر من أولئك الذين يُعنون بمجتمع أوسع أيًّا كان. لكن الأفراد ضمن عائلاتهم موجودون في مجتمعات، كانت قديمًا تتَّخذ شكل قبائل، يربط بين أفرادها أعرافها الاجتماعية الخاصة. تلك الأعراف قد تكون مفيدة حين تواجه قبيلة أخرى. لوقتٍ طويل، ظلَّ علم الأحياء مُستبعدًا فكرة الانتخاب الجماعي، لكن أُعيد طرحُها على الساحة مؤخرًا (سوبر وويلسون، ١٩٩٨). القبائل المُكونة من أفراد «إيثاريين» ستَتكاثر أكثر من القبائل المكونة من أفراد أنانيِّين. تحث الأخلاقيات القبلية على التعاون فيما بين العائلات والجيران، وعلى الدفاع عن القبيلة من المُعتدين الخارجيِّين، غالبًا بدعم من آلهة القبيلة أو بالإيمان المقدس بالأسلاف. والمنافع التي تعود من التنافُس بين الجماعات تفوق تكلفة التعاون بين أفراد الجماعة. لذا نصنع وطنيِّين يخوضون المعارك لأجل الرب والوطن ونُنمي روح الخدمة العامة لدى أعضاء منظمة الروتاري.

لكن سوبر وويلسون يُصران على أنه لا يُوجد «تسامح عالمي». «الانتخاب الجماعي يوفر سياقًا يُمكن أن يتطور فيه السلوك المساعد الموجه إلى أعضاء الجماعة التي يَنتمي إليها الفرد؛ لكنه يوفر أيضًا سياقًا يُمكن أن يكون فيه إيذاء أعضاء الجماعات الأخرى مفيدًا في ظروف معينة. الانتخاب الجماعي يُحابي الإحسان إلى أعضاء الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، والإساءة إلى الجماعات الأخرى. فالانتخاب الجماعي لا يتخلَّى عن فكرة التنافس التي تعد جوهر نظرية الانتخاب الطبيعي» (سوبر وويلسون، ١٩٩٨، صفحة ٩).

لكن حتى نظرية التطور يُمكن أن نَستنتِج منها وجود علاقة تبادلية محدودة مع الجماعات الأخرى المُنافِسة. تلك الجماعات الأخرى ليسوا أعداءً بالضرورة؛ فقد تكون قبائل نُريد أن نتاجر معها. أو نُكوِّن معها تحالفات. إحدى الحقائق الأساسية في الحياة المعاصرة هي الشبكات المُتزايدة الاتِّساع أو حتى العالمية من العلاقات التبادلية، التي تُعدُّ مُعاهدات الدفاع والتجارة العالَمية خير بُرهان عليها، سواء كانت تَعاوُنية أو تنافُسية. يعدُّ ذلك اجتيازًا لعتَبة أخرى، تجاوزًا للقبلية إلى حسٍّ اجتماعيٍّ أشمل، وتلك مرحلة يَصير فيها الانتخاب الطبيعي الدارويني قاصرًا عن التفسير.

انطلاقًا من حسِّ الفرد بقيمِه الخاصَّة التي يَنبغي الدفاع عنها، يُمكن أن تكون العناية «أشمل» فتُدرك أن قيم الفرد الشخصية لها نظير واسع الانتشار، وأنها قيمٌ يَتشاركها مع ذوات أخرى، داخل قبيلته وخارجها. ويبدأ المرء يُساهم أو يشارك في ذلك المجتمع الأوسع من الأفراد الفاعِلين ذوي القيم الذين يُقدِّر بعضهم قيم بعض. داخل شبكة العلاقات التفاعُلية تلك يتضاعف سلوك الدفاع عن القيَم الذاتية ويتشعَّب. إذ يختلط دفاع المرء عن قيمه الذاتية مع الدفاع عن قيَم الآخَرين شاء أم أبى.

يُمكن فهم تلك الأفعال باعتبارها مُحاولات من أصحابها للحفاظ على ما يَعتبرونه قيِّمًا، لكن تفسيرها على أساسٍ بيولوجي فقط ليس كافيًا. فالذات ليسَت بيولوجية وجسمية فقط، بل لها جانب ثقافي وأيديولوجي. ما يَعتبره الفرد قيمًا لا يُمكن حفظه إلا إذا نحَت الجماعة ذلك المنحى. والتكاثُر الثقافي أو حفظ ما يَعتبره الفرد قيمًا في تراثه لا يقلُّ أهمية عن حفظ جينات الفرد. لكن جزءًا كبيرًا من التراث الثقافي للفرد يجتاز مُستوى القبيلة؛ فالمرء يَنجذب إلى الكنيسة الكاثوليكية، وإلى الديموقراطية، وإلى النزاهة في المعامَلات التجارية الدولية، وإلى حفظ الغابات الاستوائية.

من قبل لم يُوجد سوى الاهتمام بالمصلحة الذاتية، لكن في تلك المرحلة «المصلحة الذاتية» تتَّسع لتَشمل «المصلحة المشتركة» و«المصلحة المتبادلة»، وهو ليس ما فيه مصلحة للكل لكنه يُحقِّق مصلحة الأغلبية، ويتشارَكه الفرد أولًا مع أقربائه بالوراثة وثانيًا مع أقربائه في القيم، أي الذين يُشاركونه قيمَه المُكتسَبة ثقافيًّا. تلك المزايا غالبًا تتشعَّب فتصير مزايا لا يمكن أن تُمنح على نحو فيه تمييز مثل الأمن العام أو حق التصويت؛ لأنَّ ما يجعل المجتمع آمنًا وديموقراطيًّا بالنسبة إليَّ (وجود مُنقذين عند حمام السباحة، وإجراء الانتخابات الحرة) يمنح تلك المزايا لغيري في الوقت نفسه. التجارة مثلًا لا تتمُّ إلا إذا وفَّت الأطراف جميعًا بوعودها، حتى إذا كانت تَفصلُهم حدود. تلك المزايا يصعب على المرء أن يكون مركزًا على مصلحته الشخصية فيها.

ستَحدُث تنازلات لا محالة — الموازنة بين ما أراه في صالحي مُقابل ما تراه أنت كذلك — ومِن ثَم ينشأ مفهوم العدالة (أن يأخذ كلُّ ذي حقٍّ حقه) أو الإنصاف (أن تتساوى المحصلة بالنِّسبة إلى الأطراف كلها)، أو الصالح العام الذي يُحقِّق ما فيه مصلحة عدد كبير. تلك المعايير يُمكن أن تكون مرغوبًا فيها لدى الفاعلين من جميع الثقافات (وإن اختلف محتواها التفصيلي إلى حدٍّ ما بين الثقافات)؛ لأنها في المُجمل تُحقِّق أفضل نتائج مُمكنة مع مراعاة المعاملات التبادلية اللازمة. كثيرًا ما يكون مجرَّد تحقيق الهدنة هو أقصى ما يُمكن الوصول إليه بين الجماعات التي تُقدم مصالحها الخاصة على مصالح غيرها، سواء كانت أقارب أو شعوبًا أو مؤسَّسات أو غيرها من الجماعات التي تربطها معاملات تبادلية. في مثل تلك النزاعات، تنشأ مسائل العدالة والإنصاف.

الحرص على التصرف بعدالة أو إنصاف هو مفهوم أوسع من الحرص على المصلحة الذاتية، لكن على الأقل أولئك الذين يُقدمون مصالحهم الذاتية علانية في المناظرات الوطنية والدولية مثلًا سيتعيَّن عليهم أن يفعلوا ذلك باسم العدالة والإنصاف. ولأجل مصلحتهم سوف يتعلمون كيف يُحاجِجون لأجل العدالة والإنصاف، بل قد يَشعُرون بقوة الظلم والافتراء إذا وجَّهه الآخرون إليهم. وإذا غشُّوا حال أمنوا العقوبة، فقد يُدركون من تلقاء أنفسهم أن سلوكهم كان ظالِمًا وجائرًا.

إضافة إلى ذلك، فإنك حين تتلقَّى معاملة مُنصِفة وعادلة وكذلك حين تدرك أنك أوفيت بجانبك من التعاقد يَمنحك ذلك شعورًا كبيرًا بالإشباع والرضا، وإن كلَّفك ذلك. ما ينبغي على المرء أيًّا كان أن يفعله في أيِّ زمان ومكان هو أن يتصرَّف بما يُعلي القيم المشتركة التي يتساوى قدرُها لدى الجميع، وغالبًا ما يكون في ذلك نفع للذات وللغير ممَّن هم في موقف مُناظر لموقفه. أحد سبل تصوُّر ذلك هو من خلال ما يُسمى بمفهوم «الموقف الأصلي» الذي يتخيَّل فيه دخول المرء في تعاقُد محاولًا تحقيق الأصلح للفرد في المطلق، ومتجاهلًا ظروف الزمان والمكان الخاصة به، بما فيها الوراثة والثقافة (رولز، ١٩٧١).

ذلك العنصر التأملي يمنطق السلوك الموصى به (يجعله منطقيًّا) ويُعمِّمه. يتضمَّن ذلك المفهوم نوعًا من المصلحة الذاتية الجاهلة بالذات، يجهل فيها المرء جميع سماته الذاتية، ومن ثَم يُضطرُّ إلى أن يَكترِث لما فيه مصلحة ذاتية للجميع في المُطلَق. الإيثار هنا «غير مباشر» بمعنى أنه لا يحدث تبادُل مُباشر بين النافع والمُنتفِع، لكن يكون الإيثار في تلك الحالة «شاملًا» نتيجة لكونِه غير مباشر. فالمرء يتوقَّع أن يتلقى المُساعدة في مجتمع يساعد فيه الناس بعضهم.

المشكلة في المُحاولات المُستترة لتفسير ذلك بإلباسه رداء الأنانية الدارويني هي أن تلك المنافع غير المباشرة واسعة الأثر. فنفعها يعود على الفاعل نفسه لكنه يحتمل أن يعود أيضًا على الجميع، أخيارًا كانوا أو أشرارًا، بالدرجة نفسها تقريبًا. فهي تفيد الفاعل مباشرة لأنها تفيد مجتمعه وذاته. والانتخاب الطبيعي لا يستطيع أن «يرى» الفائدة من انتخاب جينوم فرد معين بِناءً على أفعال النفع غير المباشر تلك لأنها لا تمنح فاعلها ميزة تكاثرية.

هنا يصير لمفهوم العمومية الأخلاقية أو على الأقل الثقافة الأخلاقية الشاملة أساسٌ منطقيٌّ معقول. لا بد من الاعتراف بأن القيم مُنتشرة على نطاق واسع وأنها موزَّعة؛ لأنها تخطَّت حدود الذات بمسافة كبيرة؛ فصارت حمايتها مسئولية مُشتركة بين الذات والآخرين. الأخلاق تتطوَّر لتصير محاولة لتقدير القيمة الجوهرية للأفراد، التي تبدأ من ذات الفرد وتمتد لتشمل الآخرين الذين يُقابلهم ممَّن يصير من اللازم حمايتهم وحماية قيَمِهم إلى جانب حماية نفسه. جاهد البشر في تطوير الإيثار لأقرانهم على ذواتهم بقدر مُتناسِب مع الأنانية، وقد نجحوا في ذلك نجاحًا باهرًا لم يخلُ من عقبات.

(٩) الإيثار: العناية بالغير

بانبثاق الإيثار الشامل أو الغيرية الشاملة تَصير العناية أشمل وأعقد. فقد صار لدى الفاعل ذي القدرة على العناية عالم من الاعتبارات التي يَنبغي أن يُراعيها إلى جانب الاعتبارات الذاتية والقبلية. وذلك يتطلب تعقيدًا عاليًا، وذلك يرجع جزئيًّا إلى أن العوامل المشكِّلة للاعتبارات التي كانت من قبلُ واضحةً للغاية، والتي لا تزال قائمة، غالبًا ما صارت تطغى عليها الآن مجموعة من المصالح الأوسع. ويبدو أن التفسيرات العِلمية التي كانت من قبل كافية لتفسير المصالح الذاتية قاصرة عن تفسير ذلك الإيثار المتزايد.

يدخل المرء في تعاقُد اجتماعي بِناءً على وعيه بمصلحته الذاتية، لكن الأخلاق يمكن أن تَرقى إلى مرتبة أعلى فتشمل الوعي بمصالح الغير. وبعد أن يُوطد الفاعل علاقته بأفراد مجتمعه، قد يشعر بارتباط وثيق تجاه من يشاركونه قيَمَه. وقد سبق أن رأينا كيف لذلك أن يؤدي إلى توزيعٍ عادل للمنافع، وأنه أساس العدالة. لكن الوعي بالمصلحة الشخصية الداعم للعدالة ليس أعلى مراتب التطور الأخلاقي. بعض الأشخاص، أكثر من غيرهم، أو جميعهم، في بعض الأحيان أكثر من غيرها، سيتجاوزون هذا النوع من المقايضة إلى تصور مستوى أنبل من الإنسانية يمكن تحقيقه بالإيثار الذي يخلو من أي مصلحة ذاتية والذي يكون نابعًا من اهتمام عميق بالغير. يكون بوسعنا أن نراعي مصلحة الغير ونقصدها، باعتبارها جزءًا من شبكة قيَمِنا الموسَّعة التي تُعد جزءًا من الذات.

من شأن ذلك أن يدفع إلى الإحسان الذي يَتجاوز العدالة؛ حيث يتصرف المرء بما يُعلي قِيَمًا يحترمها في الآخرين، قيمًا تكون موجودة بالفعل لكن يُعززها فعل الإحسان الذي يصدر عنه. المرء هنا لا يخشى أن تلحق به خسارة نتيجة إساءات الآخرين فحسب، إنما ينزع أيضًا إلى حماية مزايا الآخرين المُهدَّدة بأن يتصرَّف معهم على نحو أخلاقي. مثال ذلك السامري الصالح بمنظوره الواسع للجيرة الذي جعله مثلًا أعلى طوال قرون. وتُوجد أمثلة شبيهة في تراث المعتقدات الأخرى، هي تجسيدات شائعة للقاعدة الذهبية («كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا») على اختلافاتها. سابقًا اتَّسعَت العناية بإنشاء عائلة لتصير وطنية، وها هي تتَّسع الآن أكثر لتَصير عناية بتقديم المساعدة لغير الأقرباء بالوراثة أو أفراد القبيلة. وجود أمثال السامري الصالح على الأرض حتى ولو كان قليلًا، أمر واقع كما هو الانتخاب الطبيعي. وهؤلاء الصالحون يتوالَدون أيضًا جيلًا بعد جيل.

يُحاول علماء الأحياء وضع سلوك العناية ذلك في إطار دارويني، لكن تُواجههم صعوبات (رولستون، ٢٠٠٤). ففي الغالب ستتفوَّق قبيلة من أمثال السامري في منافسة مع المجتمعات التي تفتقر إلى سلوكه الإيثاري. لكن تلك المسألة ليست قبلية؛ بل هي مسألة تتجاوَز الثقافات. فالدافع الأساسي لذلك السلوك هو «فكرة» (مساعدة الجار) امتزجت مع «خبرة شعورية» (التعاطف المُشفق) وذلك يتجاوَز العوامل الوراثية. ذلك المفهوم الذي تولَّد من الفِكر يمكن أن يَنتقل بطريق غير وراثي، كما حدث بالفعل في تلك الحالة؛ إذ ذاعت القصة وتناقَلَها أناس من ثقافات غير اليهود أو السامريين ومدحوه واتخذوه مثلًا أعلى. السامري يَحترم حياةً ليسَت حياته؛ هو يُقدِّر حياةً خارج حيِّز ذاته وحيِّز ثقافته. الجيران هم أي أناس يُقابلهم المرء ويكون في موضع يسمح له بمساعدتهم.

وفق التفسيرات الاختزالية في علم الأحياء، تُعدُّ تلك الدوافع الإيثارية الواعية فوق بِنيوية، أو ظاهرة ثانوية. صحيح أن الإيثار تخلُقُه عوامل جينية عميقة، لكن تلك العوامل تخلق في الوقت نفسه بالضرورة الوهم ظاهريًّا بفضيلة الإيثار اللازم للنزاهة في المعاملات التبادُلية. من ثَم فالعناية رغم وجودِها مُتوهَّمَة. الأفراد المُتعاونون عادةً ما يتفوَّقون في المجتمع، لكن الأمر يكون أفضل إذا اعتقد المُتعاونون أنهم تُحرِّكهم دوافع نبيلة. الإيثار حقيقي من جانب — فالسامري المُتعاطف يؤمن أنه ينبغي له أن يُساعد الآخرين الذين لا تربطه بهم قرابة — ومُتوَهَّم من جانب آخر. فسلوكه ذلك إنما يَرفع احتمالية بقائه وبقاء نسله. إذ يُكسبُه سُمعة حسنة؛ فيجعل الناس يحترمون السامريين الصالحين وأبناءهم. ما يُهمه فعلًا هو أن يهتم الآخرون لأمره. صحيح أنه يُساعد الضحية، لكن مقصده الأوسع من ذلك هو مصلحته الخاصة.

لكن ذلك الفِعل لا يُحقِّق فقط المصلحة الذاتية. فوجود مجتمع من أمثال السامري الصالح يصنع مناخًا تسوده المكاسب المشتركة. فالسامري يحب أن يعيش في عالم يوجد فيه الكثير من أمثاله. سوف أُساعد الضحية؛ لكن من غير المرجح أن يساعدني هو. لكن مساعدتي له تُنشئ مناخًا تسوده العناية، وسوف يُساعدني سامري آخر إذا ما كنتُ أنا الضحية. كلنا نتمنَّى أن نعيش في عالم تسودُه تلك «التبادلية غير المباشرة» (ألكسندر، ١٩٨٧، صفحة ١٥٣؛ نواك وسيجموند، ٢٠٠٥). لكن تلك المكاسب يَصعُب أن يراعي فيها المرء مصلحته الذاتية بالمعنى الشخصي أو المباشر. بل تَنشأ علاقة دائرية بين أشخاص مُفردين ومُجتمعهم الكلي. فالفعل «الإيثاري» الذي يقوم به فرد معين لا يعود بالنفع على مُتلقِّيه فقط، بل يهيئ مناخًا أوسع؛ إذ يعود نفعه على مُنتفعِين غير محددين؛ وهذا النفع العام الذي ساد تنعكس مكاسبه على الذات المفردة.

ذلك يُؤدي إلى تداخل «الذات» في النسيج الكلي للمُجتمع، ولا ضرر في معرفة أن المصلحة الذاتية تختلط أحيانًا بالصالح العام. قد لا نودُّ أن نُسمي تلك الأشكال من العناية إيثارًا خالصًا، لكنها أيضًا ليسَت أنانية خالصة. لمَ إذن لا نقول إنه في نواحٍ معينة مثل الأمن العام، تُوجد قيم مشتركة؟ فلنُلاحظ أيضًا أن بُعدًا أخلاقيًّا بدأ يظهر، فصحيح أن أولئك الذين يدخلون في مثل ذلك التعاقد الاجتماعي يَجنُون منافعَ في المتوسط، لكنهم أيضًا تقع على عاتقهم مسئولية دعم ذلك التعاقد.

الإصرار على تفسير العناية بشكلها السامري، سواء كان مردودُها مباشرًا أو غير مباشر، في إطار دارويني مُستتِر قد يُؤدِّي إلى إغفال نقطة تحول جذري جديدة في تطور العناية؛ وهي ظهور المحبة الإيثارية باعتبارها فكرة ثم تحوُّلها إلى قيمة عليا. من الواضح الآن أن العناية تجاوزت الجينات. فما إن أمكن انتقال العناية من عقلٍ إلى آخر، يتفوق الأشخاص ذوو الجينات المرنة بما يكفي لمواكبة أفضل الأفكار المتعلِّقة بالعناية، سواء أبدى أقرباؤهم بالوراثة تلك العناية أم لا. لا أحد يُنكر أن الأفكار تنتقل بغير الوراثة. فالمرء لا يحتاج لأن يكون وارثًا لجينات السامري كي يكون مسيحيًّا، كما لا يحتاج لأن يرث جينات أفلاطون كي يتبنَّى المذهب الأفلاطوني، أو جينات أينشتاين كي يتبنى نظرية النسبية. فعملية الانتقال تحدث عن طريقٍ عصبي، لا جيني.

نحن نَحتفي بانتشار قيم العناية المشتركة على نطاق أوسع. المشكلة الآن من الناحية البيولوجية أن مُتبنِّي تلك القيم الجدد لن يكون لهم عما قريب أي صلة بالذين دعَوهم إليها. سيقول الداروينيُّون أن تلك السلوكيات المتشاركة تخلق مناخًا يزدهر فيه الجميع بفضل التبادُلية التي تسودُه، وهم مُحقُّون في ذلك. لكن لو كان الناس جميعًا يستفيدون بقدرٍ متساوٍ في ذلك المناخ السامري، فسيتَلاشى التمايُز في أفضلية البقاء الذي يستلزمه الانتخاب الطبيعي. وستفقد التفسيرات الداورينية حينها معقوليتها. إذ سيَزدهر الذين يتبنَّون قيم التعاطف السامرية بصرف النظر عن جيناتهم.

يستحيل تحجيم منافع قيَم السامري أو حصرها في نطاق الجماعة. فقيَم العناية الأخلاقية تلك تُناظر تعلُّم إشعال النار. فإشعال النار أكسب الذين تعلَّموه ميزةً في البقاء في أول شتاء مرَّ عليهم، لكن بحلول الشتاء التالي، كانت القبائل المجاورة التي تلصَّصت عليهم من خلال الشجيرات قد سرَقَت سرَّهم. وفي غضون عَقد صار الجميع يعرف كيف يُشعلها، ولم تَعُد تلك المعرفة ميزة تساعد في البقاء. مثل مهارة إشعال النار، انتشرت قِيَم السامري الصالح في جميع أرجاء العالم، لكن ليس كسرٍّ مسروق؛ بل انتشرت على يد المُبشِّرين. ظهور المعتقدات العالَمية بقُدرتها على توليد تلك العناية الأشمل — حتى وإن كانت تلك المعتقدات مثالية أكثر مما هي واقعية — هو أبلغ صور العناية على الأرض. تُساعدنا القاعدة الذهبية على التكيُّف لأنها لا تَنطبق على القبيلة فحسب، بل على العالم بأسره؛ وإذا وجدت كائنات فاعلة مُراعية للقِيَم في عوالم أخرى، فستكون القاعدة الذهبية كونية.

(١٠) الإيثار: العناية بالأرض

من قبلُ، لم يكن للعناية وجود على الأرض؛ أما اليوم فقد سادَت العناية ربوعَها، على الأقل من الناحية المثالية، بل حتى الواقعية بقَدرٍ ما. فالأخلاقيات موجودة منذ قرون على أقل تقدير، والقاعدة الذهبية موجودة منذ القِدَم. لكنَّنا لم نكتشف التاريخ الطبيعي التطوري وما نتَج عنه من أخطار تُهدِّد التنوع الحيوي إلا مؤخرًا. العناية على الأرض صارت تشمل العناية بالأرض. وهي تبدأ من اهتمام البشر بجودة البيئة، التي يَرى البعض أنه يُشكِّل جميع اهتماماتنا المتعلِّقة بالبيئة من بدايتها إلى نهايتها. البشر هم الكائنات الفاعلة الأخلاقية المريدة الوحيدة القادرة على تأمُّل الذات. الأخلاقيات شيء يختص به البشر. لكن البشر يتشاركون الكوكب مع خمسة إلى عشرة ملايين نوع آخر. وإذا كانت القيم التي أنشأتها الطبيعة على مدى التاريخ التطوري مهمة، أفلا ينبغي للبشر أن يَعتبروا الطبيعة نفسها شيئًا يستحق أن يُوضع في الاعتبار الأخلاقي؟

منحت الطبيعة «الهوموسابينس» أو الإنسان العارف، ضميرًا. ولعلَّ البشر لا يُوظِّفون الضمير بقدر ما ينبغي لهم؛ إذ لا يَشمل في اعتباره الحياة بجميع صورها حسب المفهوم التقليدي للأخلاق في عصر التنوير، وهو ما نتج عنه إشكالية؛ وهي أن النوع الذي يمتلك ضميرًا أخلاقيًّا يُقدم ما فيه مصلحته الذاتية على مصلحة غيره من الأنواع. لعلنا نحن البشر لسنا «مُتنوِّرين» بقدر ما كنا نظن؛ ولن نكون كذلك حتى نبلغ مستوى من الأخلاق يجعلنا أكثر مراعاة للبيئة على الأرض.

وُضِع نتاج مليارات السنوات من الخلق المبدع، وملايين الأنواع الزاخرة بالحياة، في عُهدة البشر، ذلك النوع المتأخِّر الذي تفتَّح فيه العقل وانبثقت فيه الأخلاق. أفلا يَنبغي إذن لأفراد ذلك النوع الذي يَنفرِد بهِبَة الأخلاق أن يكونوا أقلَّ مراعاة لمصلحتهم الذاتية، وألا يعتبروا جميع مُنتَجات النظام البيئي المتطور مجرَّد موارد يُقدرونها فقط حسب نفعها لهم؟ ذلك السلوك لا يكاد يَستنِد إلى أساس بيولوجي، ناهيك عن أنه ليس لائقًا من الناحية الأخلاقية. ومنطقه ضيق جدًّا لا يرقى للأخلاق الإنسانية. تلك الإنسانية التي مركزها الإنسان العناية فيها منقوصة.

حرصت فلسفة الأخلاق المعاصرة على أن تكون شاملة. أما الأخلاقيات البيئية فأشمل. طبيعة مُجتمع ما لا يعكسها معاملتُه لأفراده من العبيد أو النساء أو السود أو الأقليات أو المعاقين أو الأطفال أو الأجيال القادمة، بل معاملته للحياة الحيوانية والنباتية والأنواع والأنظمة البيئية والأراضي فيه. ذَبحُ الحيتان وتهجير الذئاب، والعبثُ بمَواطن طيور الكركي الهتَّاف، وقطع الغابات العتيقة، والاحتباس الحراري الذي يُهدِّد الأرض، تلك كلها مسائل في جوهرها أخلاقية باعتبار القِيَم الطبيعية التي تتدمَّر، ونفعية باعتبار الموارد المهدَّدة؛ يحتاج البشر إلى أن يُدخلوا الطبيعة في اعتباراتهم الأخلاقية.

هنا تُوجد نقطة تحوُّل جذري أخرى، وهي لازمة لفهم الإمكانات البشرية في العالم. البشر قادرون على أن يَشملوا بإيثارهم غير بني نوعِهم، بإقرارهم بحقوق المخلوقات الأخرى من غير البشر عليهم؛ الحيوانات والنباتات والأنواع والأنظمة البيئية، أو مجتمع الأحياء في المُجمَل. الأخلاقيات التي تُراعي الإيثار بأوسع أشكاله هي تجسيد لأشمل صور العناية. هي تدلُّ على محبة حقيقية للغير. ذلك الإيثار المُطلَق هو العبقرية البشرية أو هكذا ينبغي أن ننظر إليه. من هذا المنطلق، يُصبِح الآخِر أولًا؛ يُصبح ذلك النوع الذي ظهر متأخرًا الذي انبثقت لديه الأخلاق في وقت متأخر هو أول من يشهد القصة التي تحدث ويكترث لها. ولما كان ذلك النوع المتأخِّر قد مُنِح أقصى قُدرة على العناية، فينبغي أن يكون له دور ريادي.

(١١) اللوجوس والمحبة

كان أينشتاين مبهورًا بالمنطق الملاحَظ في الكون وبقُدرة البشر على ملاحظته وإدراكه. «اللغز الأزلي في ذلك العالم هو قابليته للفهم … وإنها لمُعجزة أن يكون قابلًا للفهم» (أينشتاين، ١٩٧٠، صفحة ٦١). ويُمكن أن نزيد على كلام أينشتاين فنقول: اللغز الأزلي هو أنَّ توليد التفكير المنطقي الكافي لفهم العالم أدَّى أيضًا إلى توليد القدرة على العناية اللازمة لاحترام ذلك العالم وما فيه. البشر «حيوانات منطقية»؛ لطالما كان ذلك مزعمًا فلسفيًّا تقليديًّا. لكن الكثير من الدراسات الحديثة في علم النفس والعلوم المعرفية تُصرُّ على أن البشر، كائنات مُتجسِّدة، لهم عقل وجسد يتَّصلان على نحو معقَّد، وذلك التجسد يحفظ حياتهم، ويجعلهم واعين بمصادر المساعدة والأذى، داخليًّا في الجسد وخارجيًّا في البيئة. الجسد آلة للعناية المنطقية وغير المنطقية.

لكن على صعيد آخر، بوسعِنا أن نُصحِّح خطأ أينشتاين. إذ قال: «خبرتنا … تُبرهن لنا اعتقادنا بأن الطبيعة هي تجسيد لأبسَطِ الأفكار الرياضية التي يُمكن تصوُّرها» (أينشتاين، ١٩٣٤، صفحة ٣٦). فعلى النقيض، الطبيعة تبدو مُصرَّة على أن تزداد تعقيدًا. وإذا لم تكن تلك حقيقة مُطلَقة عن الكون، فهي على الأقل تنطبق على التاريخ الطبيعي لكوكب الأرض. حتى الآن لم يتبيَّن لنا أن العالم بالبساطة التي كنا نتصوَّرها. في العالم الطبيعي والثقافي، يبدو من المستبعَد وجود منهج عام يُمكن استخدامه للاكتشافات، أو مجموعة من القوانين المنهجية، أو منهج عام لحلِّ المشكلات أو نظرية أنظمة عامة أو مركَّبة. ولعله من المذهل أن الطبيعة أنتجَت للبشر عقلًا مُعقَّدًا بما يكفي لاكتشاف بساطة القوانين الرياضية للفيزياء النظرية. لكن توليد ذلك العقل استلزم بيئة معقَّدة ومتنوعة.

تطور الذكاء البشري كي يعمل في عالم مفتوح ذي أنماط مُختلطة. والعمليات المنطقية ليست إلا جانبًا من ذلك الذكاء. يعتمد جزء كبير من الأبحاث التي أُجريَت عن التعقيد على نماذج حاسوبية، فأنشأ ذلك مُعضلة، وهي أن النماذج الحاسوبية، رغم أنه يفترض أنها تُنمذِج العالم الحقيقي، فإنها بالضرورة تُبسِّط العالم الحقيقي الأعقد. هي «تحاكي»؛ هي مجرَّد نماذج محاكاة. ثمة لغز أساسي هنا؛ وهو أن الحواسيب رغم قدرتها على «محاكاة» العناية (أي، يُمكن برمجتها بحيث تزيد قيمة معينة)، فإنها ليست قادرة على العناية الحقيقية. الكائنات الحية تحيا وتموت، أما الحواسيب فلا. والكائنات الحية تُكاثِر نسلَ نوعها؛ أما الحواسيب فهي أدوات مصنوعة، وليست نوعًا طبيعيًّا. والكائنات الحية مُنتخَبة طبيعيًّا، فالكائنات الحية المعاصرة هي نتاج ثلاثة مليارات ونصف عام مِن التاريخ الطبيعي التطوري. أما الحواسيب فلم تُتمَّ قرنًا بعدُ؛ كما أنها لا تتَناسَل.

كان تطور الأدمغة سريعًا كما بيَّنا آنفًا. ذلك الذكاء المتطور، مقارنة بالذكاء الصناعي، قادر على إبداء العناية بذلك التاريخ الطبيعي المستمر، ودوره فيه، بل يلزم عليه ذلك. فنحن قد نرغَب مثلًا في حفظ وتوسيع العائلة والقبيلة. وقد نُعنى ببقاء الديموقراطية في العالم، أو عدم ضياع إرث شكسبير في الأجيال القادمة، ونسعى إلى تحقيق تلك القِيَم. لعله من الممكن صنع حواسيب قادرة على التفكير (لعب الشطرنج مثلًا)، لكن إذا لم تكن قادرةً أيضًا على اختبار المشاعر والرغبة والبكاء والحب واتخاذ القرارات التي تتضمَّن حرية الإرادة، إذا لم يكن لديها «وجدان»، فستكون عاجزةً عن العناية والتفكير المرتبطَين بتلك الحالات النفسية. الذكاء يَشمل على سبيل المثال القدرة على تبيُّن أوجه التشابه والتناظر بين الظواهر المختلفة ظاهريًّا، أو القدرة على استيضاح المُبهَمات التي تَحتمل أكثر من وجه. ويشمل القدرة على تبيُّن الأنماط الكلية الناتجة عن اجتماع الأجزاء، وتتبُّع خطوط قصة لا تزال في طور التكوين. قد نستطيع صُنعَ حاسوب قادر على البحث عن المفاهيم الرياضية البسيطة، لكن كيف لو أنَّنا صنَعنا حاسوبًا لديه قُدرة عالية على تحليل الحبكة، ويهتم بكيف ستَنتهي القصة؟ العقل المتجسِّد ليس مكونًا ماديًّا ولا برنامج تشغيل؛ بل هو مُكون حي (إن جاز التعبير) ينبغي أن تُسقى فيه الحياة باستمرار، أحيانًا بالدموع.

إذا أردنا فهم ما فعله التاريخ الطبيعي فلا بدَّ أن نربط المنطق بالمحبة. فالمنطق لا ينفكُّ عن المشاعر والإدراك المعرفي والعناية. وبدلًا من إنكار تلك العلاقة، يجب أن نقرَّها ونحتفي بها. لكن ونحن نحتفي بها لا بدَّ أن نُدرك أن العلم مهما كشَف لنا من حقائق عن تطور العناية، فهو عاجز عن أن يُوجِّهها أو يحكمها. وحين نربط بين المنطق والحب، فإننا نبلغ عتبة حرجة أخرى؛ وهي الفجوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. ولأجل ذلك نحتاج إلى الأخلاق. الأخلاق هي اختيار الصواب، رغم وجود إغراءات للحياد عنه. «الإغراء» لا يُمكن مُحاكاته بدقة في الحواسيب، كما أنه يوجد قصور في تناول العلم لمفهوم الصواب والخطأ. أنتجت القوى الطبيعية التي أنشأت هذا الكم الهائل من الأنواع نوعًا واحدًا فقط وصَل إلى سرعة الإفلات من الجاذبية إن جاز التعبير، أي تحرر من قوانين الطبيعة وصارت لديه قُدرة على العناية تفُوق ما تسمَح به قيود الطبيعة. ما يَزيد ذلك اللغز الأزلي تعقيدًا هو إمكانية وجود عناية نافعة وضارة، وعناية نبيلة وعناية مبذولة في غير محلِّها، ووجود الخير والشر. البشر لدَيهم القُدرة على الفخر والجشع والإطراء والتملق والشجاعة والإحسان والتسامح والصلاة.

تأمَّل روبرت لويس ستيفنسون «الخصائصَ المذهلة» لذلك المخلوق الذي خُلق من تراب والذي يُجاهد نفسه لإبداء العناية المسئولة؛ إذ كتب:

كم هو مخلوق مُربك ذلك الإنسان، الذي اجتمعت ذرات التراب لتكونه. هو تارة ينهض للسعي وتارة يستسلم للكسل، وهو يَقتُل ويأكل وينمو ويجلب إلى العالم نسخًا صغيرة من نفسه؛ ينبت الشعر في جسده كالعُشب وله عينان تتحركان وتلمعان في وجهه؛ وهو قادر على بث الرعب في قلوب الأطفال، لكنك أيضًا إن أمعنت النظر وأبصرته بعينَي بني نوعه، عجبتَ من سماته المذهلة! مسكين هو، حياته قصيرة، يكابد فيها مصاعب كثيرة، وتُثقله رغبات قوية ومُتناقضة، وواقع تحت حصار وحشي، فهو مجبول على الوحشية، مفطور على أن يفترس غيره؛ مَن يلومه إذا تصرف بوحشية تتوافق مع طبيعته؟ لكننا إذا تأملناه وجدناه زاخرًا بفضائل منقوصة؛ طفوليًّا أبدًا، وشجاعًا حينًا، وحنونًا حينًا؛ في خضمِّ دوامة حياته اليومية يَتباحث الصواب والخطأ وصفات الإله؛ ويَنهض للحرب لأتفه الأسباب، ويموت في سبيل فكرة؛ يُقدِّر زوجه ورفقاءه ويخصهم بالود والحب؛ ويُكابد آلام الولادة ويقوم على رعاية أبنائه بجهد وصبر مُتواصلَين. في جوهر لغز الإنسان تَكمن فكرة واحدة غريبة إلى حدِّ الجنون: فكرة الواجب؛ فكرة أنه مَدين بشيء لنفسه ولجاره ولربه؛ قيمة الاحترام التي يتطلَّع إلى بلوغها إن استطاع؛ وحد يَفصله عن الخزي، يأبى أن يتعدَّاه إن استطاع.

(ستيفنسون، ١٩٠٣، الصفحات ٢٩١–٢٩٥)

قصة تجسُّد الإنسان تُمثل تراث وعي الإنسان بمفهوم الخير والشر (كما ورَدَت في سفر التكوين، الإصحاحين ١ و٢)، أو أحلامه الطامحة للمُستقبَل (كما في تصورات ملكوت الرب). ولعلَّ هذا، إلى جانب المنطق والمحبة، هو السمة المميزة للعبقرية البشَرية. توليد تلك القدرة على العناية يُعدُّ كاشفًا للتاريخ الطبيعي بقدر أي شيء آخر نعرفه. وحقيقة الأمر هي أن التطوُّر هو الذي أنشأ قيم العناية.

ويجب ألا نستغرب من أن خلق تلك العناية كان عملية طويلة شاقة. الصورة التي يرسمها التطور للطبيعة هي أنها في عملية ولادة عصيبة. فجوهر الكلمة الإنجليزية nature التي تعني الطبيعة والتي يرجع أصلها إلى اللاتينية واليونانية هو فكرة «الولادة». الولادة هي عملية خلْقٍ إبداعي، وهي سِمة للطبيعة التطورية. الولادة (كما تعرف أيُّ أم) لا تخلو من مشقَّة. الأرض تقتل أطفالها، وهو شرٌّ في ظاهره، لكنها تُخرِج منهم حياة جديدة. «الولادة» هي عملية خلق أو تجميع ذاتي منهجية لكائنات جديدة تقوم بها الطبيعة في خضمِّ دورة الفناء الأبدية. الحياة «باقية» أبدًا كما قد يقول علماء الأحياء؛ و«مُتجدِّدة» أبدًا كما قد يقول علماء اللاهوت. ومن منظورنا، لنُسمِّها «نشأة العناية وتجددها».

لعل تكوُّن الأرض كان صدفة، لكن العمليات المستمرَّة التي انبثقت بعد تكوُّنها مُفعَمة بالخصوبة. الحياة تعتمد على ثبات إحصائي ممتزج بالاحتمال المفتوح (العشوائية)؛ على المدى القصير الكل يخسر والموت محتوم؛ لكن على المدى الطويل الحياة تستمر، تُولَد من رمادها كالعنقاء. في الطبيعة ما يشبه «الوعد»، لا بمعنى أن فيها إمكان واعد فحسب، بل أيضًا بمعنى ملاءمة ظروف الأرض لخلق الحياة. قد لا تُبدي الطبيعة عناية واعية، لكنها مولِّدة للعناية؛ فقد طوَّرت الطبيعة على مدى قرون مليارات الأنواع التي تظهر فيها عناية بالحياة في شتى ربوع الأرض.

ذكرنا أن الأنظمة المعقَّدة يجب فهمها على عدة مستويات. فذلك التدوير الدائم للمواد، وبث وبعث الطاقة المتأجِّجة المستمر فيها، يجب عدم النظر إليه باعتباره موردًا محايدًا فحسب، بل باعتباره نبعًا لا يَنضب للحياة. الإنتروبيا السالبة لها وجود موضوعي مثلها مثل الإنتروبيا؛ فإنجازات الطبيعة مَلموسة مثلها مثل دوراتها المتغيرة ومساراتها العشوائية. في مقابل تلك اللامبالاة أو الحياد الملموس للطبيعة، لا بد أن نُؤكِّد أن النظام كان له نتائج غزيرة، فنحن اليوم نشهد ازدهار خمسة ملايين نوع في عدد من الأنظمة البيئية المتنوِّعة لا حصر له. نوع واحد منهم يقع على عاتقه مسئولية العناية بالحياة بشتى أشكالها، اليوم أكثر من أي وقت مضى. إذا قلنا إنه لا يُوجد سوى نظام محايد أو لا مُبالٍ، فهذا يَعني أننا نتجاهل تلك النتائج الأساسية للتاريخ الطبيعي، بما فيها تلك المُتمثِّلة فينا. حتى المتشكِّكون في وجود العناية في الأنظمة الطبيعية لا يُمكن أن يتشكَّكوا في وجود العناية في الأنظمة البشَرية. ولا في كونها ضرورة ومهمَّة صعبة تقع على عاتقنا.

في تعامُلنا مع الأسباب، نُفسر النتائج في ضوء المقدمات («أ» تسبب في «ب»). لكن حين نتعامل مع القصص والتاريخ، فقد نحتاج إلى تفسير البدايات بتتبُّع النهايات عودة إليها («س» أفضى إليه «ص»). التعقيد غالبًا ما يَفترض فهمه لا من أسفل إلى أعلى فحسب، بل من أعلى إلى أسفل أيضًا. ختامًا، نُضيف على ذلك أن العناية المعقدة التي نجدها في أنفسنا لا بد من فهمها فهمًا شاملًا؛ في ضوء نتائجها لا نشأتها فقط. وأن نهاية قصة العناية لم تُكتب بعد، لكن في الطريق إليها، نتصدَّر نحن البشر الأحداث. العناية المتزايدة هي بمثابة عشٍّ بيئي فاتح أبوابه للجميع، شأنها شأن التعقيد المتزايد الذي يُقيمها. وهي تدعونا لأن نرى العالم ودورنا فيه مقدَّس، بل حتى إلهي.

المراجع

  • Alexander, R. D. (1987), The Biology of Moral Systems, New York: Aldine de Gruyter.
  • Bak, P. (1996), How Nature Works: The Science of Self-Organized Criticality, New York: Springer-Verlag.
  • Bonner, J. T. (1998), The origins of multicellularity, Integrative Biology, 1: 27–36.
  • Christiansen, M. H., and Kirby, S. (2003), Language evolution: The hardest problem in science? In Language Evolution, eds M. H. Christiansen and S. Kirby, New York: Oxford University Press, 1–15.
  • Dawkins, R. (1989), The Selfish Gene, new ed., New York: Oxford University Press.
  • Deacon, T. W. (1997), The Symbolic Species: The Co-Evolution of Language and the Brain, New York: Norton.
  • Draganski, B., et al. (2004), Neuroplasticity: changes in grey matter induced by training, Nature, 427: 311–312.
  • Dunbar, R. I. M., and Shultz, S. (2007), Evolution in the social brain, Science, 317: 1344–1347.
  • Einstein, A. (1934), On the method of theoretical physics, In The World as I See It, New York: Covici-Friede Publishers, 30–40.
  • Einstein, A. (1970), Out of My Later Years, Westport, CT: Greenwood Press.
  • Elbert, T., et al. (1995), Increased cortical representation of the fingers of the left hand in string players, Science, 270: 305–307.
  • Herring, C. D., et al. (2006), Comparative genome sequencing of Escherichia coli allows observation of bacterial evolution on a laboratory timescale, Nature Genetics, 38: 1406–1412.
  • Hume, D. (1972), Dialogues Concerning Natural Religion, ed. H. D. Aiken, New York: Hafner Publishing.
  • Kauffman, S. A. (1991), Antichaos and adaptation, Scientific American, 265 (no. 2): 78–84.
  • Kauffman, S. A. (1993), The Origins of Order: Self-Organization and Selection in Evolution, New York: Oxford University Press.
  • Langford, D. J., et al. (2006), Social modulation of pain as evidence for empathy in mice, Science, 312: 1967–1970.
  • Mackenzie, D. (2006), The Poincaré conjecture proved, Science, 314: 1848-1849.
  • Maguire, E. A., et al. (2000), Navigation-related structural change in the hippocampi of taxi drivers, Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America, 97(8): 4398–4403.
  • Maturana, H. R., and Varela, F. J. (1980), Autopoiesis and Cognition: The Realization of the Living, Dordrecht, Boston: D. Reidel Publishing.
  • Maynard Smith, J. (2000), The concept of information in biology, Philosophy of Science, 67: 177–194.
  • Mayr, E. (1988), Toward a New Philosophy of Biology, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Mechelli, A., et al. (2004), Neurolinguistics: structural plasticity in the bilingual brain, Nature, 431: 757.
  • Merzenich, M. A. (2001), The power of mutable maps, In Neuroscience: Exploring the Brain, 2nd ed., eds M. F. Bear, B. W. Connors and M. A. Paradiso, Baltimore: Lippincott Williams and Wilkins, 418–452.
  • Nowak, M. A., and Sigmund, K. (2005), Evolution of indirect reciprocity, Nature, 437: 1291–1298.
  • Oliveri, P., and Davidson, E. H. (2007), Built to run, not fail, Science, 315: 1510–1511.
  • Pennisi, E. (2006), Brain evolution on the far side, Science, 314: 244-245.
  • Prigogine, I., and Stengers, I. (1984), Order out of Chaos: Man’s New Dialogue with Nature, New York: Bantam Books.
  • Rawls, J. (1971), A Theory of Justice, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Rolston, H. (2004), The Good Samaritan and his genes, In Evolution and Ethics: Human Morality in Biological and Religious Perspective, eds P. Clayton and J. Schloss, Grand Rapids, MI: William B. Eerdmans Publishing, 238–252.
  • Russell, R. J., et al., eds. (1999), The Neurosciences and the Person: Scientific Perspectives on Divine Action, Berkeley, CA: Center for Theology and the Natural Sciences.
  • Sober, E., and Wilson, D. S. (1998), Unto Others: The Evolution and Psychology of Unselfish Behavior, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Sole, R. V., and Bascompte, J. (2006), Self-Organization in Complex Ecosystems, Princeton: Princeton University Press.
  • Stevenson, R. L. (1903), Pulvis et umbra, In Across the Plains, New York: Charles Scribner’s Sons, 289–301.
  • Venter, J. C., et al. (2001), The sequence of the human genome, Science, 291: 1304–1351.
  • Williams, G. C. (1988), Huxley’s evolution and ethics in sociobiological perspective, Zygon, 23: 383–407.
  • Wilson, E. O. (1978), On Human Nature, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Wilson, E. O. (1984), Biophilia, Cambridge, MA: Harvard University Press.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤