الفصل الثاني عشر

علوم التعقيد: هل هي مصدر جديد للفهم اللاهوتي؟

آرثر بيكوك

تُشير مجموعة كبيرة من الإحصائيات إلى أن ما يؤمن المسيحيُّون — وكذلك مُعتنقو الديانات الأخرى — اليوم بأنه مِن «الحقائق» ليس مُقنعًا بأي حال للباحثين منهم عن الفهم الروحاني فيظلُّون للأسف على موقفهم المُتشكِّك من العقائد الدينية التقليدية؛ لا سيَّما مُعتنقي المسيحية في أوروبا، ودوائر المثقفين في الولايات المتحدة. وذلك وضع ساهمت في خلقِه عدة عوامل، أزعم أن أحدها هو اللغة التراثية التي عُرض بها اللاهوت المسيحي بخاصة في نسخته الغربية ولا زال يُعرض بها حتى اليوم، والتي هي لغة مثقلة بمصطلحات ذات مرجعية ودلالة غيبية، إلى الحد الذي يَدفع أبناء ثقافة توطَّنت على الفكر الطبيعاني، وشكَّلتها سطوة العلوم الطبيعية وهيبتها، إلى اعتبارها غير معقولة بدرجة مُتزايدة. من ثَم توجد حاجة ملحَّة إلى وصف الحقائق التي يُريد المعتقد المسيحي التعبير عنها بمصطلحات تُوافق منطق تلك الثقافة، لكن دون اختزال أهمية محتواها.

في الوقت نفسه، يُوجد إلحاح مستمر، حتى بين غير المُعتنقِين لأيِّ شكلٍ من أشكال الدين التقليدي، للتوفيق بين مفاهيمهم عن العالم الطبيعي التي اكتسبوها من العلم وخبرات «رُوحانية» حقيقية تعرَّضوا لها، تتضمَّن تعاملات مع أشخاص آخرين ووعيًا بما هو متسامٍ.

هذان السببان الملحَّان في الحياة المعاصرة إنما يُؤكدان الحاجة إلى إيجاد سبل للتوفيق بين «الحديث عن الإله» — أي اللاهوت — والرؤية الكونية التي شكَّلها العلم وأيدها بالأدلة. تلك الرؤية الكونية ترفض بالضرورة حجة «إله الفجوات» ومفهوم «الوحي» الإلهي برمته؛ لكني سأدفع بأن ذلك لا يعني رفض فكرة الإله الخالق كما هي في الديانات التوحيدية.

في الوقت نفسه، الرؤية الكونية العلمية متغيرة، وكان من بين ما اضطرَّت للإقرار به هو قدرة الأنظمة الطبيعية المعقدة على توليد خصائص جديدة ليست مرتبطة بمكوناتها. تلك الأنظمة المعقَّدة تظهر فيها على سبيل المثال خواص مثل التنظيم الذاتي، وقد أدى الوعي بذلك وبالدور العام الذي يلعبه انتقال المعلومات في الأنظمة المعقَّدة إلى نشأة منظور ميتافيزيقي يُعرف باسم «الواحدية الانبثاقية»، وهو منظور يَهدف إلى تفسير تلك الخاصية الطبيعية (انظر القسم (١) في هذا الفصل). هذا بالإضافة إلى أن تلك الرؤية الكونية العلمية ألحَّت بقوة لمراجعة الأفكار المتعلِّقة بعلاقة الإله بالعالم، التي اختلف وصفُها تمامًا عما كان في الماضي، من ناحية «الطبيعانية التأليهية» و«الحلولية» (انظر القسمان (٢) و(٣) من هذا الفصل). هدف ذلك الفصل هو التوفيق بين تلك التطورات وبيان أن تلك العملية تسمَح بصياغة لغة اللاهوت بما يَجعلها تتلافَى تلك العقبة التي ذكرناها، وبذلك فإنه يقدم تبريرًا لاستخدام مُصطلحات واقعية للإشارة إلى العلاقات القائمة بين الطبيعة والأفراد والإله، والتي تُعنى بها التجربة الدينية وتُعدُّ محور التأملات الفكرية المتعلقة بها؛ أو اللاهوت على وجه الدقة. فيما يلي عرض لبعض مِن توضيحاتي لتلك الأفكار الثلاثة المهمة.١

(١) الواحدية الانبثاقية

ما تفتأ العلوم الطبيعية والإنسانية تَرسم لنا صورة للعالم تُصوِّره بأنه مُكوَّن من تسلسل هرمي (أو عدة تسلسلات هرمية)؛ سلسلة من مستويات التنظيم والمادة يكون فيها كل فرد في تلك السلسلة كلًّا يتكون من الأجزاء التي تقع تحته في السلسلة.٢ الكليات هي أنظمة مرتبة ذات أجزاء مُترابطة ديناميًّا ومكانيًّا؛ وهي سمة تُسمَّى أحيانًا العلاقة «الميريولوجية». بالإضافة إلى ذلك، تنشأ الخواص جميعها، سواء رُصِدَت منفردة بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر باعتبارها جزءًا من أنماط أكبر من كيانات فيزيائية دقيقة. تلك سمة في العالم صار هناك إقرار سائد بأهميتها فيما يتعلَّق بربط معرفتنا عن مُستويات التعقيد العديدة الموجودة فيه؛ أي بربط العلوم المناظرة لتلك المستويات بعضها ببعض.٣ كما أنها سمة تنطبق على العالم لا في حالته الحالية فحسب، بل تنطبق كذلك على تطور الأنظمة المعقَّدة من أنظمةٍ أبسط بمرور الزمن.

سأفترض كما يَفترض الفيزيائيون أن كل الكيانات المادية الموجودة في العالم (بما فيها البشر)، بجميع خواصها، مُكوَّنة من كيانات فيزيائية أساسية من المادة/الطاقة منظمة في مستويات عدة من التعقيد؛ أي، فيزيائية طبقية. والاعتقاد بأنَّ كل شيء يُمكن تقسيمه إلى ما يَرى الفيزيائيون أنه مُكوِّن للمادة/الطاقة هو قطعًا منظور «واحدي» (منظور واحدي اختزالي من الناحية الأنطولوجية في جوهره). فهو يَرفض افتراض وجود أي «كيانات» أو «قوى» غير القوى الفيزيائية الأساسية الأربع في المُستويات الأعلى من التعقيد تُفسر خواصها. لكن ما يميز العمليات الطبيعية وعلاقة الأنظمة المعقَّدة بأجزائها الآن هو أن كل مستوى من المستويات الهرمية للتعقيد له مفاهيم لازمة لوصفه وكذلك منهجيات لازمة لبحثه خاصة به دون غيره. غالبًا (وليس دائمًا) ما تكون الخواص والمفاهيم والتفسيرات المستخدمة لوصف الكليات العليا غير قابلة للاختزال منطقيًّا في تلك المستخدمة لوصف الأجزاء المكونة لها التي غالبًا ما تكون مكونة هي نفسها من كيانات أصغر. هذه الفرضية الإبستمولوجية تعكس موقفًا غير اختزالي (موقفًا كليًّا).

ما إن يَرسخ من الناحية الإبستمولوجية أن الخواص والمفاهيم والتفسيرات التي يُمكن أن تنطبق على المستويات العليا من التعقيد غير قابلة للاختزال، فأحيانًا ما يُؤدِّي استخدامها في النقاشات العِلمية إلى اعتبار الكيانات التي تُشير إليها المصطلحات التي تصف تلك المستويات العليا واقعية، وذلك يكون على سبيل الافتراض في البداية ثم ما يلبث أن يتحوَّل إلى يقين. «الواقع» لا يَقتصِر على الظواهر الفيزيائية الكيميائية وحدها. ولا بدَّ من الإقرار بوجود شيء من الثبوت٤ في الكيانات المُفترضة أو بالأحرى المكتشَفة في المستويات المختلفة من التعقيد ورفض أيِّ محاولات لاعتبارها أقل واقعية مقارنة ببعض من كيانات المستوى الأدنى من «الواقع». بل يَنبغي النظر إلى كل مستوًى باعتباره مقطعًا من الواقع الكلي إن جاز التعبير، ومُحاولة فهم آلية عمل ذلك المستوى. يمكن القول إن ثمة أنواعًا جديدة مُستقلة من الواقع «انبثقت» في المستويات العليا للتعقيد. وهذا قد يحدث تزامنيًّا إذا ما ارتقينا سلم التعقيد، أو على نحو غير تزامني على مدى التاريخ التطوري البيولوجي والكوني.

ركز جانب كبير من النقاش حول الاختزالية على العلاقة بين النظريات المُثبتة بالفعل المتعلقة بالمستويات المختلفة للتعقيد. تلك المنهجية لبحث مسألة الاختزالية تكون أقل ملاءمة في سياقات العلوم البيولوجية والاجتماعية، التي نادرًا ما تقوم المعرفة فيها على نظريات تنص على «قوانين» محددة وثابتة. ما تُحاول تلك العلوم التوصُّل إليه عادة هو «نموذج» لنظام معقد يشرح كيف تتفاعَل أجزاؤه لإنتاج خواص النظام الكلي وسلوكه؛ مثل العضيات والخلايا والكائنات المتعددة الخلايا والأنظمة البيئية … إلخ. وتلك النماذج كي تُحقق الاختزال لا يلزم أن تُوصَف بعبارات تتضمَّن مُصطلحات سارية على وصف المستويات الأدنى من التعقيد، بل تُوصف في صورة أنظمة أو هياكل بيانية أو خرائط تمثل التفاعلات المتعدِّدة والمسارات المتداخلة للعلاقات السببية والعوامل المُؤثِّرة بين الكيانات والعمليات. حينما تكون الأنظمة أكثر من مجرَّد تجمع لوحدات مُتماثلة، فقد يكون المحدِّد الأساسي أو الوحيد لسلوك النظام هو الترتيب أو التركيب الفريد لأجزائه؛ وهذا ما تُحاول النماذج بيانه. حين تتجمَّع الأجزاء لصنع نظام فإن ذلك يُقيد سلوك الأجزاء ويُمكن أن يُؤدِّي إلى أن يسلك النظام الكلي سلوكًا غير مُتوقَّع أو متنبأ به (ريتشاردسون، ١٩٩٢). وقد عبر دبليو بيكتل وآر سي ريتشاردسون عن ذلك؛ إذ قالا: «هي أنظمة «منبثقة» من ناحية أننا لم نستطع التنبؤ بالخواص التي ظهرت في النظام الكلي من خلال ما نعرفه عن أجزائه» (بيكتل ورتشاردسون، ١٩٩٢، الصفحتان ٢٦٦-٢٦٧). وهما يُوضحان ذلك من خلال دراسة تاريخية للجدالات حول عمليتي تخمر الجلوكوز بواسطة الخميرة والفسفرة التأكسُدية. النقطة الأهم هنا ليسَت عدم القُدرة على توقع سلوك النظام الكلي، إنما عدم كفاية التفسير إذا ركزنا على الأجزاء فقط لا على النظام الكلي. «في الظواهر المنبثقة، تكون السمة التفسيرية الأهم هي التنظيم التفاعُلي للأجزاء لا سلوكها منفردة» (المرجع السابق، صفحة ٢٨٥).

يوجد إذن أساس قوي لاستخدام مفهوم «الانبثاق» في محاولاتنا لتفسير الأنظمة المعقدة الهرمية التي تنشأ طبيعيًّا والمكونة من أجزاء تكون في أدنى مستوًى لها مكونة من الوحدات الأساسية للعالم المادي. سوف أسمي ذلك المنظور «الواحدية الانبثاقية».٥

ما إن نُقر بواقعية كل «منبثقٍ» من نظام إجمالي مُعيَّن من الناحية الأنطولوجية، تقابلنا مسألة كيف نتبيَّن العلاقة بين حالة ذلك الكل وسلوك أجزاء النظام على المستوى الدقيق. هنا يتبين ضرورة توسيع مفهوم السببية وإثرائه، بسبب الاكتشافات الجديدة المتعلِّقة بسلوك الأنظمة المعقَّدة في المطلق والأنظمة المعقدة البيولوجية بالأخص.

يوجد أساس أقوى لوصف خواصِّ المستويات العليا والكيانات المنظمة المُرتبطة بها بالواقعية، وهو امتلاك تلك الكيانات الكلية المعقَّدة فاعلية سببية فريدة (بل قد أقول إنها «حتمية»)، تستطيع بها أن تجعل الأجزاء المُكونة لها تتصرَّف على نحو لم تكن لتسلكه لو لم تكن جزءًا من نظام معقَّد بعينه (أي في غياب التفاعُلات المكونة لذلك النظام المعقد). «فكي يكون شيئًا ما واقعيًّا لا بد أن تكون لديه القُدرة على التأثير السببي».٦ وفي تلك الحالة، يصح القول إنَّ التأثير والخواص السببية الجديدة «منبثقة».

الفهم الدقيق لكيفية تأثير المستويات الأعلى على المستويات الأدنى يُتيح لنا في هذا السياق تطبيق مفهوم وجود علاقة مُحدِّدة («سببية») يؤثر فيها الكل على الأجزاء (نابعة من النظام الكلي إلى أجزائه)؛ وهذا بالطبع لا يتجاهل التأثيرات التصاعدية من الأجزاء إلى النظام الكلي، وتلك التأثيرات تَعتمِد على خواص الأجزاء وتُساهم في عمل النظام الكلي، لكن في ضوء ترتيبات جديدة معقَّدة، تَنبثِق في المستوى الأعلى. تطورت في السنوات الأخيرة مجموعة من المفاهيم ذات الصلة لوصف العلاقات داخل الأنظمة المُتزامنة وغير المتزامنة؛ أي الأنظمة الكلية التي تَنبثِق منها سمات مُميزة وهي في حالة مُستقرة نوعًا ما، والأنظمة التي تنبثِق منها سمات جديدة على مدى الزمن.

على وجه الخصوص، استخدم دونالد كامبل (١٩٧٤) مصطلح «السببية التنازلية» أو «التأثير السببي التنازلي» للإشارة إلى كيفية تأثير شبكة علاقات كائن حي مع بيئته وأنماط سلوكه على مدى الزمن على تسلسلات الحمض النووي الفعلية على المستوى الجزيئي في نسخة متطورة من ذلك الكائن الحي؛ مع أن علماء علم الأحياء الجزيئي يَرون من منظور «التأثير التصاعدي» أن الكائن الحي ما إن يتكوَّن فإنَّ شكله وسلوكه يرجعان إلى نفس تسلسلات حمضه النووي هذه. يمكن الاستشهاد بأنظمة أخرى٧ مثل نظام بينار وبعض أنظمة التفاعُلات الذاتية التحفيز (على سبيل المثال تفاعُل جابوتنسكي الشهير وتحلُّل الجلوكوز في مستخلصات الخميرة)، تظهر فيها عفويًّا أنماط زمنية ومكانية متناغمة، عادة بعد فترة زمنية منذ بدء امتزاج أجزائها، بل قد يَعتمِد بعض تلك الأنماط على حجم الوعاء الذي يحدث فيه التفاعل. وقد حدد بالفعل هارولد مورويتس (٢٠٠٢) ٢٨ مستوًى منبثقًا في العالم الطبيعي. كما أننا صِرنا نعرف الآن عدة أمثلة للأنظمة التبديدية، التي تكون مفتوحة وبعيدةً كثيرًا عن حالة التوازن، وبعض العلاقات الأساسية فيها بين التغيُّرات والقوى تكون غير خطية، وقد تنشأ فيها أنماط واسعة النطاق رغم عشوائية حركة أجزائها؛ ذلك هو نشأة النظام من الفوضى كما وصفه بريجوجين وستينجرز (١٩٨٤).
في تلك الأمثلة، يَعجز التفسير الكيميائي الفيزيائي للتفاعُلات على المستوى الدقيق للوصف عن تفسير تلك الظواهر. من الواضِح أن سلوك الأجزاء (الجزيئات والأيونات في مثالي بينار وجابوتنسكي) والأنماط التي تنشأ منها تكون في صورتها تلك بسبب كونها جزءًا من النظام كلي؛ في الواقع تلك الأنماط هي أنماط تُوجد «داخل» النظام المعني. فالأجزاء لن تسلك السلوك الملاحَظ إذا لم تكن أجزاءً لذلك النظام المعين (النظام «الكلي»). تؤثر حالة النظام الكلي (أي تبذل تأثيرًا سببيًّا) على السلوك الفِعلي لأجزائه أو مُكوناته. ويُمكن إيجاد العديد من الأمثلة الأخرى لذلك النوع في أدبيات البحث لا المتعلِّقة بالأنظمة الذاتية التنظيم والأنظمة التبديدية فحسب، بل المتعلِّقة كذلك بالأنظمة الاقتصادية والاجتماعية. وقد صنف تيرانس ديكون (٢٠٠١) الأنواع المختلفة من المستويات المنبثقة تصنيفًا مفيدًا.٨
صرنا الآن بحاجة إلى مفهوم أشمل من مفهوم ديفيد هيوم التقليدي عن «السببية» و«التأثير السببي» الذي يَعتبرها سلاسل زمنية خطية من التأثيرات السببية (أ  ب  ﺟ …)، يتَّسع للعلاقات بين الكل والجزء وبين المستويات الأعلى والأدنى التي لا تنفكُّ العلوم تكتشفها مؤخرًا في الأنظمة المعقَّدة، لا سيَّما الأنظمة البيولوجية والعصبية. ولعلَّ من الأولى أن نستخدم مُصطلح «التأثيرات المحدِّدة» لوصف تلك العلاقات بدلًا من مصطلح «السببية» الذي يحمل دلالات مُضللة. إذا رُصِدَت تلك التأثيرات المحددة التي يبذلها النظام الكلي على أجزائه، يجوز وصف الخواص والسِّمات المُنبثقة للنظام الكلي بالواقعية. فالكيانات الواقعية تكون مُؤثرة وتلعب أدوارًا لا يُمكن أن يختزلها أي تفسير شامل للعالم.
هنا يُستخدم مُصطلح «تأثير الكل على الأجزاء» عادةً للإشارة إلى صافي تأثير شتَّى العوامل التي يمكن أن يؤثر بها سلوك النظام الكلي في المستوى الأعلى على ما يحدث لأجزائه في المستوى الأدنى. من هذا المنظور، ما يحدد الحالة الشاملة للنظام (أو «يتسبَّب» فيها، أو «يُنتجها») هو الحالة الشاملة السابقة لها بالإضافة إلى مجموع تأثيرات أجزاء النظام المفردة. ذلك التأثير الذي يشترك فيه هذان العاملان يُمكن تفسيره باعتباره نقلًا «للمعلومات» إذا فهمناه بمعناه الأوسع؛ أي باعتباره مؤثرًا على الأنماط أو الأشكال التي تُنظِّم أجزاءه.٩ سأبين فيما يلي أن تلك الطرق التي فُسِّرَت بها العلاقات داخل الأنظمة المعقدة الموجودة في العالم الطبيعي تُقدم مفاتيح لاستيعاب المفاهيم اللازمة للربط بين الكيانات المُكوِّنة للعلاقة بين الإله والعالم والبشرية. لكن قبل ذلك، تدفعنا المنظورات العِلمية بإلحاح إلى بحث تطورين مهمين في معرِض بيان العلاقة بين الإله و«العالم» أو «كل ما هو كائن» أو «الطبيعة»، وهما مذهبا الطبيعانية التأليهية والحلولية.

(٢) الطبيعانية التأليهية

الإقرار السائد بوجاهة العلم وقوة حجته يدفعنا بإلحاح مُتواصل إلى التسليم بأن «العلوم الطبيعية بمختلف فروعها (بما فيها علم الأحياء وعلم النفس) كافية لتَفسير العالم، وأنه لا حاجة للجوء إلى ما هو ما ورائي أو مُتعالٍ لتفسيره»؛ وذلك أحد تعريفات «الطبيعانية»،١٠ أو كما ورَد في قاموس «أكسفورد» هي «رؤية للكون ولعلاقة الإنسان به، لا تَفترض وجود أكثر من القوانين والقوى الطبيعية (في مقابل الماورائية أو الرُّوحانية) (١٧٥٠)».١١

وذلك المنظور يستبعد وجود الإله. إلا أنَّ استبعاد الإله ليس نتيجة حتمية لأخذ المعرفة العلمية عن العالم وتطوراته في الاعتبار، إذ يُمكن الإقرار بوجود مذهب طبيعاني «تأليهي» يعتبر عمليات الطبيعة التي تخضع للقوانين والقواعد التي اكتشفها العلم من أفعال الإله، وأنها تستمدُّ وجودها منه في كل لحظة.

ترسُّخ الأفكار المناقضة لتلك الفكرة له جذور تاريخية؛ فلِقُرونٍ تلَت عصر نيوتن ظل الاعتقاد السائد هو أن الخلق فعلٌ حدث في لحظة من الزمن خلق فيها الإله شيئًا منفصلًا عنه في حيز من الفراغ كان موجودًا بالفعل؛ وهو اعتقاد مشابه لخلق آدم كما صوَّره مايكل أنجلو في لوحته الشهيرة المرسومة على سقف كنيسة سيستين. وقد أدَّى ذلك إلى تكوُّن تصورٍ عن الإله قريب جدًّا من مفهوم الإله في «مذهبة الألوهية الطبيعية»؛ باعتباره منفكًّا عن الطبيعة، وكائن في حيز من «الفراغ» مُختلف تمامًا عن الموجودة فيه الطبيعة، وله «جوهر» مغاير تمامًا لجوهرها، يستحيل أن يتداخلا أو يمتزجا مع فراغ أو جوهر الكون المنظَّم الذي خلقه. في الواقع، على الرغم من الأفكار اللاهوتية السابقة، كان ذلك التصور يؤكد على تعالي الإله وانفصاله عن مخلوقاته. لكن تلك الرؤية تصدَّعت في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، حين استدلت الدراسات الجيولوجية على أن كوكب الأرض لم يُخلق سنة ٤٠٠٤ قبل الميلاد كما قُدِّر من جمعِ أعمار بطاركة الكتاب المقدس، بل إن خلقه كان عملية امتدَّت لمئات الآلاف من السنوات أو أكثر. لكن الضربة التي هدمت تمامًا المفهوم الإلهي الطبيعي لأفعال الخلق الإلهي باعتبارها خارجة عن الطبيعة أو منفكَّة عنها جاءت من نظرية داروين التي اقترحت آلية منطقية تُفسِّر التغيرات التي حدثت للكائنات الحية، والتي لاقت قبولًا في النهاية. بالأخص، كان علماء اللاهوت الأنجليكيُّون الذين يحاولون استعادة رؤية للعالم يسودُها طابع الأسرار المقدَّسة يُؤكِّدون على أن أفعال الخلق الإلهي حاضرة في كل شيء في العالم. فقد كتب أوبري مور عام ١٨٨٩:

التصور الوحيد الذي يستحيل في حقِّ الإله في الوقت الراهن هو الذي يُصوره على أنه زائر عابر. لقد ظل العلم يُنحِّي الإله بمفهومه الطبيعاني عن الطبيعة تدريجيًّا، حتى إذا ظُن أنه قد استُبعِد تمامًا ظهرت الداروينية فأفادتنا وإن كانت في ظاهرها شرًّا لنا. فقد منَحَت الفلسفة والدين هبةً لا تُقدَّر بثمن حين بيَّنت لنا أن علينا أن نختار خيارًا من اثنين. فالإله إما موجود في كل شيء في الطبيعة، أو غير موجود على الإطلاق.

(مور، ١٨٩١، صفحة ٧٣)

لم يكن مور ومُؤيِّدو مذهبه هم الوحيدين الذين يَعتقدون ذلك؛ فقد كان هنري دراموند المنتمي إلى الطائفة المشيخية الإنجيلية يرى أن أفعال الإله مُستمرة طوال الوقت خلال التطور:

الذين يَستسلمُون لإغراء فكرة إرجاع ظواهر تحدث على فترات مُتباعدة إلى التدخل الإلهي غالبًا ما ينسون أن ذلك يَستبعِد تقريبًا الإله من باقي العملية. فإذا كان الإله يتدخَّل على فترات دورية، فهذا يعني أنه يختفي على فترات دورية كذلك … قطعًا، فكرة الإله الحالِّ في الطبيعة، المسئول عن التطور، أوسع من فكرة الإله الذي يتدخَّل ليصنع المعجزات من حينٍ لآخر، وذلك هو مفهوم الإله في اللاهوت القديم.

(دراموند، ١٨٩٤، صفحة ٤٢٨)

كذلك يؤكد فريدريك تيمبل وتشارلز كينجزلي المنتمي إلى الطائفة المشيخية الإنجيلية في روايته «أطفال الماء» أن «الله يهبُ الأشياء القُدرة على خلق نفسها» (كينجزلي، ١٩٣٠، صفحة ٢٤٨).

من وجهة نظر مُعتقِد اللاهوت، لا بد من اعتبار الإله مُتدخلًا في خلق العالم، غالبًا عن طريق ما نُسمِّيه «الصدفة» التي تعمل في إطار النظام الذي وضَعه، والذي تُعتبر كل مرحلة فيه منطلقًا أو أساسًا للمرحلة التي تليها. الخالق يكشف عن الإمكانات التي خلقها في الكون، من خلال عملية تتحقَّق خلالها احتمالات ونزعات تلك الإمكانات. يجوز القول إن الإله «وهب» الكون، ولا يزال يهبُه في كل لحظة، «نظامًا تكوينيًّا قويًّا بما يكفي لإيجاد جميع البِنى غير الحية وجميع أشكال الحياة التي ظهرت على مدى الزمن» (فان تيل، ١٩٩٨، الصفحات ٣٤٩–٣٥١).

إذن يَصير من اللازم أن نُجدد التأكيد على أن الإله الخالق كامن أو حاضر «في» العمليات الطبيعية التي تكشف عنها العلوم و«خلالها» و«وراءها»، إذا أردنا التوفيق بين اللاهوت وجميع مُكتشَفات العلم منذ نشأة تلك الجدالات في القرن التاسع عشر. إذ إن إحدى السمات المهمَّة للتفسير العلمي للعالم الطبيعي بوجه عام هي تماسك نسيجه الذي نسجه الزمن وخلوه من أي ثغرات؛ فلم يحتَجْ علماء الطبيعة المعاصرون قطُّ إلى اللجوء إلى أي أسباب خارجة عن الطبيعة لتفسير ملاحظاتهم واستدلالاتهم عن الماضي. كما رأينا لتونا، يُمكن وصف العمليات التي حدثت باعتبارها «انبثاقًا» لأشكال جديدة من المادة، وتنظيمًا هرميًّا لتلك الأشكال. بمرور الزمن تنبثق أشكال جديدة من الواقع.

من ثَم فإن المنظور العِلمي للعالم، لا سيَّما عالم الأحياء، يَفرض علينا بقوة صورة دينامية لعالم الكيانات والبِنى والعمليات المتضمنة في التغير المستمر والمُتواصل الذي لا يتوقف. وهذا يُلزمنا بإعادة سمة الدينامية إلى وصف العلاقة بين خلق الإله والعالم. وهي سمة كانت دومًا حاضرة ضمنيًّا في اليهودية في مفهوم «الإله الحي»، الفاعل في كل لحظة، لكن شوَّشها النزوع إلى فكرة اعتبار الخلق حدثًا وقع في الماضي. يجب أن نَنظر إلى الإله مجددًا بصفته خالقًا دائمًا وأبدًا، مانح الوجود لكلِّ ما هو جديد دومًا. الله خالق للعالم في كل لحظة من وجود العالم، وهذا الخلق المستمر يحصل بوهبه مادة العالم الأساسية القدرة على الخلق في كل لحظة.

كل ذلك يُؤكد الحاجة الماسة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة ترسيخ مفهوم الإله الخالق الجوهري، الذي يَخلق في إطار عمليات النظام الطبيعي وبواسطتها، الموجود في التراث المسيحي (وكذلك التراثَين اليهودي والإسلامي). تلك العمليات في ذاتها ليسَت الإله، بل هي «فعل» الإله الخالق. وهذا يَعني أننا لا نحتاج إلى البحث عن أي ثغرات أو آليات أخرى مزعومة يتصرَّف الإله خلالها أو بواسطتها في العالم الطبيعي بصفته خالقًا.

لعل تشبيهًا مُستمدًّا من الموسيقى يساعد على بيان ما نقصده: حين نستمع إلى مقطوعة موسيقية — سوناتا بيانو لبيتهوفن مثلًا — تمرُّ علينا لحظات نندمج معها بعمق حتى يُخيَّل لنا لوهلة أننا نشارك بيتهوفن أفكاره الموسيقية. لكن إذا سألنا أحد في تلك اللحظة (قاطعًا تركيزنا بفظاظة): «أين بيتهوفن الآن؟» لكان لزامًا علينا أن نقول إنَّ بيتهوفن المُلحِّن حاضر فقط في الموسيقى نفسها. بيتهوفن الملحن هو/كان مُغايرًا للموسيقى («متعاليًا» عليها)، لكن تفاعُله وتواصُله معنا مُنحصِر تمامًا في موسيقاه نفسها ومُتجسِّد فيها؛ فهو حاضر فيها ولا حاجة لنا لأن نبحث في سواها عن دوره في خلقها. العمليات التي يكشف عنها العلم هي في ذاتها تُمثِّل الله بصفته خالقًا، فالله ليس موجودًا باعتباره تأثيرًا أو عاملًا إضافيًّا خارج عمليات العالم الطبيعي الذي يخلقه الله. ذلك المنظور يُناسِب أن نسميه «الطبيعانية التأليهية».

(٣) الحلولية

تُشير الرؤية العِلمية للكون إلى تصوُّرٍ لعلاقة الإله بجميع الأحداث والكيانات والبِنى والعمليات الطبيعية يكون فيه الإله هو مانحها الوجود في كل لحظة، وأنه يُعبر فيها وبها عن حكمته الجوهرية. نظريًّا، ذلك التصور لا يُفترض أن يُثير مسائل جديدة مُتعلِّقة بمفهوم اللاهوت الكلاسيكي الغربي حال إبقائه على الانفصال الأنطولوجي بين الإله والعالم المخلوق. لكنه غالبًا ما يُصور الإله باعتباره «جوهرًا» واجبَ الوجود له صفات، ويتصوَّر وجود عالم المخلوقات في حيِّز من الفراغ مُنفصل عنه، إن جاز التعبير. هذا ويستحيل أن يكون أحد كيانَين «كامنًا» في الآخر مع احتفاظه بهويته (الأنطولوجية) إذا اعتبرناهما جوهرين. ومن ثَم إذا اعتبرنا الإله جوهرًا، فهذا يعني أنه لا يمكن أن يؤثر على أحداث العالم إلا «من خارجه». ذلك «التدخل»؛ إذ إن ذلك هو وصفه الصحيح، أثار إشكالات قوية في ضوء المنظور العِلمي المعاصر الذي يعتبر المنظومة السببية في العالم منظومةً مُغلَقة. بسبب تلك الاعتبارات، أرى أنا وكثيرون غيري أن ذلك الحديث المُرتكِز على الجوهر صار قاصرًا. إذ يصعب على نحو مُتزايد تفسير كيف أن الوجود الإلهي ممكن في حين أن طبيعة الجواهر تستلزم عدم إمكان حلول جوهر في آخر. هذا القصور في معتقد اللاهوت الكلاسيكي الغربي يُعزِّزه المنظور التطوري الذي يستلزم اعتبار العمليات الطبيعية التي تحدث في العالم أفعال الإله الخالق، كما استعرَضْنا للتو.

من ثَم، نحن بحاجة إلى نموذج جديد يُعبِّر عن قرب المسافة بين الحضور الإلهي وبين الأحداث والكيانات والبِنى والعمليات الطبيعية الحادثة، ويجعل كلًّا منهما أقرب ما يكون من الآخر لكن دون طمس الحد الفاصل بين الخالق والمخلوق. استجابةً لتلك الاعتبارات وتلك التطورات الكبيرة في العلوم التي استعرضناها آنفًا، والتي أدَّت إلى نشأة الطبيعانية التأليهية، اندلعت «ثورة هادئة» (برايرلي، ٢٠٠٤، الصفحات ١–١٥)١٢ في علم اللاهوت في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، عن طريق إعادة إحياء الحلولية؛ وهو المُصطلَح غير الأنيق الذي يُعبِّر عن الاعتقاد بأن ذات الإله شاملة لكل ما هو كائن وحالَّة به؛ ومن ثَم فإن كل جزء من الكون موجود في الله وإن كان لا يَستغرِق ذات الإله فهي متجاوزة له وغير مُنحصِرة فيه (بخلاف مُعتقَد وحدة الوجود). على نقيض الألوهية الفلسفية الكلاسيكية التي تقوم على مفهوم الإله الجوهر الواجب الوجود، تقوم الحلولية على نموذج الإله المُتشخِّص المتجسِّد وتؤكِّد أكثر على كُمون الإله في أحداث العالم الطبيعي ووراءها.

أن نقول، كما في تعريف الحلولية، إنَّ العالم كامن «في» الله، فإن ذلك يستدعي تصورًا حيزيًّا أو مكانيًّا للعلاقة بين الله والكون، كما في تصور أوغسطينوس عن العالم باعتباره إسفنجة طافية في بحر الله السرمدي (أوغسطينوس، ٢٠٠٦، الكتاب السابع، الفصل السابع). كلمة «في» الموجودة في الاستعارة لها ميزات في ذلك السياق تفوق تلك الموجودة في المُصطلحات المعبِّرة عن الكُمون الإلهي «المنفصل الحاضر» في مفهوم اللاهوت الكلاسيكي الغربي. فأفضل تصور لله هو أنه الحقيقة المُطلقة الشاملة التي تستغرق كل الكيانات والبنى والعمليات الموجودة؛ وأنه مُتصرف فيها وبها، لكنه أيضًا أكبر منها ومتجاوز لها. من ثَم فإنَّ كل ما دون الله موجود داخل حدود فاعلية الله وذاته. الله لا متناهٍ مستغرق وشامل لكل شيء. في ذلك النموذج، المخلوقات لا يُمكن أن توجد في «مكان خارج» لا محدودية الله.

أحد المؤشِّرات على قوة ومنطقية التفسير الحلولي لعلاقة الله بالكون هو ترابط العلوم المختلفة بعضها مع بعضٍ ومع العالم الذي تبحثُه. يتطلَّب بحث وتفسير المستويات الهرمية المضمَّنة في الأنظمة الطبيعية طبقاتٍ مُتدرِّجة من العلوم، بداية من الفيزياء الجزيئية وصولًا إلى علم البيئة وعلم الاجتماع؛ كما سبق أن رأينا، هذا يُشير إلى فيزيائية «طبقية» متدرجة، حيث الكيانات الأعقد مكونة من كيانات أقل تعقيدًا، تتفاعل وتتداخل كلها في نظام كلي. ذلك العالم الذي اكتشفَتْه العلوم هو الذي يجب أن نعتقد أنه مرتبط بالإله. أما الإله «الخارجي» المنفصل عن ذلك العالم وفق مفهوم اللاهوت الكلاسيكي الغربي لا يمكن تصوره متصرفًا فيه إلا عن طريق تدخلات منفردة تحدث على عدة مستويات منفصلة. لكن إذا كانت ذات الإله شاملة للأنظمة المفردة والنظام الإجمالي الشامل لها جميعًا، كما في النموذج الحلولي، فيسهل تصور أن الإله يستطيع التفاعل مع الأنظمة المعقَّدة على جميع مستوياتها. إذ يعني ذلك أن الإله موجود داخل الكليات، وكذلك داخل الجزئيات.

في طرف أحد الخطوط المتشعِّبة لمستويات التعقيد يوجد الإنسان باعتباره شخصًا؛ ذلك الكيان المعقَّد المركب من الدماغ البشري داخل الجسد البشري داخل المجتمع. الأشخاص يمكن أن تكون لهم مقاصد وأهداف يُمكن تحقيقها بأفعال جسدية معينة. في الواقع، الفعل الجسَدي هو الفعل المقصود من جانب الشخص. والفعل المادي يمكن وصفه على المستوى الجسدي، من الناحية الفسيولوجية أو التشريحية أو غير ذلك، لكنه أيضًا انعكاس للمَقاصد والأهداف الموجودة في فكر الشخص. الفعل الجسَدي والمقاصد والأهداف جانبان لحدث نفسي جسماني واحد. والتجسُّد شرطٌ لازم للشخص كي يكون مدركًا وفاعلًا وحرًّا ومشارِكًا في المجتمع. الفاعلية الشخصية مفهوم ورَد قديمًا في أدبيات الكتاب المقدس، وحديثًا في اللاهوت الحديث؛ باعتبارها نموذجًا مُلائمًا لتفسير عمل الله في العالم. قد تبدو مقاصدنا وأهدافنا مُتعاليةً على أجسادنا، لكنها في الواقع مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأحداث الدماغية، ولا يُمكن أن تتحقَّق في العالم إلا من خلال أجسادنا. فمن منظور آخر أجسادنا هي أنفسنا. وفي الفاعلية الشخصية، يُوجد علاقة وثيقة وجوهرية بين مقاصدنا وما يحدث لأجسادنا. مع ذلك نبدو «نحن» باعتبارنا أشخاصًا مُفكِّرين واعين، مُتعالين على أجسادنا وإن كنا كامِنين فيها. ذلك الفهم «النفسي الجسماني» الموحَّد للتشخص الإنساني يدعم استخدام نموذج الحُلولية لتفسير العلاقة بين الله والعالم. فوَفْق ذلك النموذج، الله موجود داخليًّا في جميع كيانات العالم وبِناه وعملياته على نحو يمكن اعتباره مناظرًا لوجودنا باعتبارنا أشخاصًا داخل أجسادنا وتصرُّفنا فيها. ذلك النموذج، في ضوء المفاهيم الحالية للشخص والوحدة النفسية الجسمانية، وافٍ لتَمثيل الفاعِلية «الشخصية» لله في العالم.

مثل جميع التشبيهات والنماذج والاستعارات، يلزم أن نُحدد ضوابط قبل أن نُشبه علاقتنا بصفتنا أشخاصًا بأجسادنا بعلاقة الله بالعالم. أولها أنَّ الإله الذي نفترض أنه تربطه بالعالم علاقة الفاعل الشخصي، هو نفسه خالقه، ومانحُه الوجود، ومتعالٍ عليه أزليًّا. قطعًا، النموذج الحلولي يؤكد على ذلك إذ يَعتبره «مُتجاوزًا للعالم». أما نحن فلا نخلق أجسادنا. الضابط الثاني للنموذج هو أننا، باعتبارنا أشخاصًا بشريِّين، لسنا مدركين لأغلب ما يحدث داخل أجسادنا من عمليات تلقائية مثل التنفُّس والهضم والنبض. لكن توجد عمليات أخرى تحدث داخل أجسادنا عن وعي وقصد منا، كما ذكرنا للتو. لذا يَنبغي التمييز بين هذين النوعين من العمليات؛ لكن ذلك قطعًا لا يَنطبق على علاقة الله المطلق العلم بالعالم. أما الضابط الثالث فهو أنه بتشبيه الفاعلية الشخصية البشرية بالطريقة التي يَتفاعل بها الله مع العالم، فنحن لا نَعني أن الله «شخَّص»؛ بل على الأحرى أن الله يُمكن فهمه على نحو أكثر اتساقًا باعتباره «شخصيًّا على أقل تقدير» أو أنه «أكثر من شخصي» (تذكر تأكيد الحلولية على تجاوزه للطبيعة). بل يجُوز أن نقول حتى إنه «متعالٍ على الشخصانية» أو «مُتجاوز للشخصانية»، فبعض صفاته الأساسية لا يُمكن إدراجها تحت تصنيفات تنطبق على الشخص البشَري. وأنا أرى أن النموذج الحلولي يَسمح بالدَّمج بين التأكيد والتشديد المُتجدِّد على حلول الإله في العالم وتعاليه عليه. وهو يُحقِّق ذلك على نحو يجعل تشبيه الفاعلية الشخصية أوثق وأقوى من نموذج اللاهوت الكلاسيكي الغربي الذي يَعتبر الإله خارجًا عن العالم، باعتبار الاختلافات التي صحَّحناها بالضوابط التي ذكرناها لنموذج العالم باعتباره جسد الإله.

تظل حقيقة وجود الشر الطبيعي (تمييزًا له عن الشر البشَري الأخلاقي) تمثل عائقًا للإيمان بإلهٍ خيِّر. التصوُّر الكلاسيكي عن الله الذي يراه مُتعاليًا وموجودًا في «حيِّز» مُتمايز عن حيز وجود العالم الطبيعي، يُشير إلى انفصال الإله عن معاناة العالم. ومن ثَم فإن ذلك يُفاقم «معضلة الشر». إذ يعني أن الإله لا يستطيع التدخل لمنع الشر إلا من الخارج، وهو ما يُثير مشكلة كلاسيكية وهي أن الإله إما قادر على التدخل لمنع الشر لكنه لا يفعل، أو أنه يريد ذلك التدخل لكنه عاجز عنه؛ ومن ثَم فالإله إما ليس خيِّرًا أو ليس مُطلق القدرة. لكن يظل وجود الشر يُثير في النفس حسًّا دفينًا بالغضب لا يُمكن دفعه عنها، لا سيَّما حين يمر المرء بتجربة شخصية تضعُه في مواجهة مباشرة ومأساوية مع الشر. فالله في مفهوم اللاهوت الكلاسيكي شاهد على مُعاناة العالم، لكنه لا يتدخل فيها؛ حتى وإن كان حاضرًا بالقرب منها أو في جوارها.

ونحن حين نُواجه في كل مكان وكل لحظة ذلك الألم والمعاناة والموت في خضمِّ مسيرة تطور عالم الأحياء، فلا مفرَّ من أن نستنتج أن الله، إذا كان متصفًا بصفة المحبة كما يقول المعتقد المسيحي، لا بد أنه يُعاني على جميع مستويات عمليات الخلق التي تحصل في العالم. ونخلص إلى أن الخلق عملية مُكلِّفة لله. وحين نعتبر العالم الطبيعي الذي يصوره المذهب الحلولي كامنًا في الله، فإن ذلك يَستتبِع أن الشرور المتمثلة في الألم والمعاناة والموت الموجودة في العالم إنما تحدث داخليًّا في ذات الله. إذن لا بدَّ أن الله يختبر العالم الطبيعي. هذه الخبرة الوثيقة والفعلية للعالم لا بد أنها تشمل جميع تلك الأحداث التي تُؤلف المقاصد الشريرة للبشر وتُحقِّق تلك المقاصد؛ أي «الشر الأخلاقي» الموجود في عالم المجتمع البشري. الله يخلق العالم من داخله، ولما كان العالم «كامنًا» في الله، فهذا يَعني أن الله يختبر المعاناة خبرة مباشرة في ذاته لا من خارجها.

(٤) تبعات إعادة تقييم ما هو طبيعي على اللاهوت

مما سبق يتَّضح لنا أن العلوم قادت خلال العقود القليلة الأخيرة إلى إعادة تقييم جوهرية لطبيعة العالم وتاريخه، وقد صار من الواجب وصفهما وَفق منظور «الواحدية الانبثاقية» كما حاجَجنا آنفًا. العالم مكوَّن من طبقات هرمية من الأنظمة المعقدة المتداخلة وقد صار هناك إقرار سائد بأن تلك الأنظمة المعقدة لها تأثير مُحدِّد؛ أي إنَّ لديها القُدرة على أن تُؤثر سببيًّا على مُكوناتها؛ تأثير الكل على الأجزاء. وهذا بحد ذاته يَستتبِع وصف الأنظمة المعقَّدة وخواصها بسمة الواقعية، وهو ما يُقوِّض أي فهم اختزالي بحت ويُشير إلى أن النفوذ المُحدِّد الذي تملكه الأنظمة المعقَّدة على مكوناتها غالبًا ما يُمكن فهمه باعتباره تدفُّقًا «للمعلومات»، إذا فهمنا المعلومات بمعناها الأوسع باعتبارها تأثيرًا مُكونًا للأنماط. الحالات المُتتابعة لنظام معقَّد (وأغلب الكيانات الطبيعية هي أنظمة مُعقَّدة) تنشأ نتيجة تأثير تشترك في إنتاجه الحالات الكلية للأنظمة المعقَّدة الكلية وخواص مكوِّناتها المفردة. يوجد تداخل وثيق بين خواص الأنظمة الكلية وأجزائها، وهذا يَعني أن إلهًا خالقًا جعلها كذلك.

هذا ويستتبع المنظور التطوُّري للعلوم الكونية والبيولوجية فهمًا لخلق الإله باعتباره فعلًا مستمرًّا؛ وهو ما يستلزم استعمال نماذج واستعارات دينامية لوصف الخلق الإلهي. فعل الإله الخالق يتجلَّى في كل لحظة من الزمن في العمليات الطبيعية، التي تَكتشفُها بجميع قوانينها العلوم. يجب أن نَنظر إلى تلك العمليات الآن باعتبارها طبيعية وإلهية؛ ومن ثَم يجب التأكيد على «الطبيعانية التأليهية» التي تَفترض أن الإله مستمر في خلق النظام الطبيعي وحفظه، لا منفصلًا عن النظام الطبيعي، مُتدخلًا فيه من حين لآخر بخرق قوانينه. هذا يَستتبع أن تكون العلاقة بين الإلهي والطبيعي أوثق بكثير، وبالتبعية رسوخ مفهوم كُمون الإله، أكثر مما كان سائدًا في أغلب اللاهوت المسيحي الغربي.

تلك التطورات في فهم علاقة الله بالنظام الطبيعي المخلوق، التي جاءَت نتيجةَ الإلحاح من جانب المنظورات العِلمية الجديدة عن العالم وتاريخه، أخذها في الاعتبار نموذج «الحلولية». ذلك النموذج يُحاول أيضًا أن يُعيد ضبط الميزان الضروري في العلاقة بين تعالي اللهِ وكُمونه الذي كانت كفَّة التعالي راجحة فيه في ذلك السياق نتيجة التركيز الزائد على مفهوم الجوهر في صياغة العلاقة بين الإله والعالم. في الواقع، النموذج الحلولي أقرَب إلى التراث اللاهوتي القديم مما نتصوَّر غالبًا. فالتراث المسيحي الشرقي كان يتبنى الحلولية صراحة في موازنته بين التعالي والكُمون.١٣ فعلى سبيل المثال، كان جريجوري بالاماس (١٢٩٦–١٣٥٩ ميلاديًّا تقريبًا) يُميز بين جوهر الله أو ماهيته وطاقاته دون أن يخلَّ بمفهوم الاتحاد؛ وكان مكسيموس المعترف (٥٨٠–٦٦٢ ميلاديًّا تقريبًا) يَعتبر اللوجوس الخالق حاضرًا جوهريًّا في كل شيء مخلوق بصفتِه غاية الإله منه وماهيته وهو ما يمنحه طبيعته ويقربه من الله.

ولعلَّ أفضل تصوُّر للتفاعُل الذي يَحدُث عبر الحد الفاصل بين الله والعالم هو أن نَعتبره يُشبه تدفُّق المعلومات؛ أو تأثيرًا مُشكِّلًا للأنماط. لكن يجب أن نُقرَّ أنه بسبب الفجوات الأنطولوجية بين الله والعالم، التي لا مفر من وجودها في أيِّ نموذج إلهي، فإن تلك ليست إلا محاولة لتفسير ما يُمكن افتراض أنه تأثير الله كما هو مُلاحَظ من الجانب البشري من الحد الفاصل إن جاز التعبير. وسواء كان استخدام تشبيه تدفق المعلومات في ذلك الموضع مفيدًا أم لا، نحن بحاجة إلى طريقةٍ ما نُبيِّن بها أن تأثير الله على جميع المُستويات هو تأثير مُشكِّل للأنماط بمعناه الأعم. وأنا يستحثُّني في هذا النوع من البحث الإقرار بأن مفهوم «اللوجوس» اليوحناوي، أو كلمة الله، يُمكن اعتباره تأكيدًا على خلق الله للأنماط في العالم، وكذلك يُمكن اعتباره تعبير الله عن ذاته في العالم.

تلك التطورات في فلسفة العلم (مذهب الواحدية الانبثاقية) وفي اللاهوت (مذهبي الطبيعانية التأليهية والحلولية) ترسُم صورة مُتماسكة للعالم باعتباره نظامًا كليًّا مُكوَّنًا من أنظمة متداخلة، مُتغلغلًا في نسيجه وجود الله الذي يُشكل الأنماط في جميع مُستوياته. وأنا أرى أن ذلك التركيز المُتزايد على الكُمون الإلهي في الأحداث الطبيعية يُسوِّغ استعمال نفس المفاهيم المستخدمة معها لتفسير الأحداث المُعقَّدة (الله + الطبيعة + الأشخاص) المُكوِّنة لخبرة البشر بالله، والتي تكُون في العادة محلَّ تركيز النقاشات اللاهوتية. فيما يَلي مُحاولة لتوظيف الاصطلاح اللاهوتي المستخدم في وصف العلاقات والخواص المهمة في العديد من السياقات مع المنظور الواحدي الانبثاقي، كما يحدث عند تفسير الأنظمة الطبيعية؛ التي يَعتبرها مذهب الطبيعانية التأليهية تجسيدًا لأفعال الله، ويَعتبرها المذهب الحلولي كامنة في الله. إيجازًا، سنُسمِّي ذلك الدمج لتلك المنظورات المنظور «الانبثاقي/الواحدي الحلولي الطبيعاني».

من ثَم، في بحثِنا الخبرات الدينية التي تتطلَّب تفسيرًا لاهوتيًّا فريدًا — يتضمَّن الأحداث المعقَّدة المتصوَّرة (الله + الطبيعة + الأشخاص) — قد نتوقَّع أن نكتشف ولو بشكل محدود جوانب «أنطولوجية» لها علاقة بانبثاق أنواع جديدة من الواقع، وهي تحتاج إلى مصطلحات ومفاهيم خاصة لوصفها، وتشير إلى «ما هو كائن»؛ وجوانب «سببية»١٤ تتعلق بوصف «تأثيرات» الكل والأجزاء النابعة من المستويات الأعلى (الله، في تلك الحالات) إلى المُستويات الأدنى وتُشير إلى «ما يتأثَّر وما يُتناقل» خلالها (ومن ثَم تشبيه تأثير الله على المستويات الأدنى بتكوين الأنماط المرتبط بتناقل المعلومات في الأنظمة الطبيعية).

إننا نبحث الآن بعض جوانب النقاش حول الموضوعات اللاهوتية التي قد تُوضِّحها حقيقة أن الإيمان بالله باعتباره الخالق يستلزم — كما بيَّنت — الإقرار بطبيعة العمليات التي يَخلق بواسطتها الله أشكالًا وكيانات وبِنًى وعمليات طبيعية جديدة. تلك المخلوقات المنبثقة تكون لها قُدرات جديدة تستلزم استخدام مُصطلحات ولغة خاصة لتمييزها عن غيرها. إذا أقرَرنا بأن الله موجود في تلك العملية بجميع مستوياتها، إذن يَنبغي أن يقر لاهوتنا بأن تلك السمات الأنطولوجية والتأثيرية السببية المُعبَّر عنها في مفاهيم الواحدية الانبثاقية والطبيعانية التأليهية والحلولية (المنظور الواحدي/الانبثاقي الحلولي الطبيعاني إجمالًا) واضحة كذلك في الأشكال الأخرى من الوجود الإلهي.

(٤-١) التجسد

مرَّت ثلاثة عقود تقريبًا على نشر كتاب «أسطورة تجسد الإله في السيد المسيح» (هيك، ١٩٧٧) وفيضان الكتب المشابهة الذي بدأه. وتظلُّ مجموعة من الرُّؤى الخرستولوجية تمثل معتقدات المسيحيِّين بشتَّى طوائفهم التي بنَت التقليدية منها إيمانها على تعريف مجمع خلقيدونية للإيمان (٤٥١ ميلاديًّا)، فيما تبحث الطوائف الأقل تركيزًا على الامتثال عن أشكال أخرى أكثر دينامية للتعبير عن فهمهم لكيف أن «الله كان في المسيح مُصالحًا العالم لنفسه».١٥ لكن على الأقل يُوجد إقرار سائد بأن تعريف مجمع خلقيدونية الشهير، الذي ينصُّ على وجود «طبيعتَين» في «الشخص الواحد نفسه» إنما يرسم إطارًا عامًّا يستحثُّ على إجراء النقاشات المسيحية داخل حدوده. تظلُّ المعضلة التي ينطوي عليها ذلك الإقرار مثار جدل لاهوتي؛ وهو إقرار لا يُمكن تجاهله لكن تظلُّ المُعضلة التي يُثيرها قائمة دون إجابة مرضية.
لكني أرى أن الإقرار بالطبيعة الشمولية للانبثاق باعتباره خاصية للعالم يَمنحنا وسيلة لفكِّ خيوط تلك المُعضلة. فكما رأينا، تُظهِر الأنظمة المعقدة خواصَّ ناتجة من التأثير المشترك بين مكوِّناتها وحالة النظام الكلي. هذا يُجيز لنا أن نشير إلى الواقع الجديد الناتج أو المنبثق عن النظام الكلي دون أي تعارُض مع واقع مُكونات النظام المُخالف لذلك الواقع الجديد. تطبيق ذلك المنهج في التفكير على شخصِ يسوع التاريخي يُؤدي إلى الافتراضية الآتية. أن خلق شخصِ يسوع البشري بالكامل، الذي وُلد من مريم، يُعتبر في ذاته وفق المنظور الواحدي/الانبثاقي الحلولي الطبيعاني فعلًا إلهيًّا١٦ على المستوى البيولوجي، المناظر لمستوى مكونات النظام. أما على مستوى شخصيةِ يسوع التاريخية، أو المستوى الأكبر أو الكلي إن جاز التعبير، فإن إرادة يسوع كانت مُوافقة تمامًا للإرادة الإلهية، إذن انبثَقَ في شخصِه الكُلي تجسد فريد لذات الإله بأقصى ما يمكن أن تتجسد في الهيئة البشرية؛ تتجلى في بذله لذاته محبةً. من المنظور الواحدي/الانبثاقي الحلولي الطبيعاني، لا يوجد تعارُض أساسي بين وجود المسيح على المستوى البشري (ولادته من مريم … إلخ)، الذي يعدُّ في ذاته تعبيرًا عن الإله، والتعبير عن الإله في شخصِ يسوع الكُلي، وقد كانت تلك هي السمة السائدة في التعامُل معه والتي جعلت أتباعه لا يُدركون منه إلا البُعد المُتعالي الإلهي. والعلاقة بين الاثنين هي علاقة انبثاق؛ وهي الطريقة التي يخلق بها الله كيانات جديدة في العالم الطبيعي كما بينَّا.

رأى أتباع يسوع من اليهود فيه (لا سيَّما في قيامته) بُعدًا إلهيًّا مُتعاليًا، كانوا يَنسبونه إلى الله وحده باعتبارهم مُؤمنين موحدين. لكنهم وجدوا فيه أيضًا إنسانًا كامل البشرية، فخبروا من خلاله شكلًا عميقًا من حلول الإله في العالم لا يُشبه أي شيء في خبراتهم أو تراثهم. هكذا، كان اندماج هذَين البُعدين من إدراكهم — أن الله يتصرَّف من خلال يسوع المسيح — هو ما جعلهم يَعتقدون أنَّ شيئًا جديدًا قد ظهر في العالم له أهمية هائلة بالنسبة للبشرية. فقد انبثق كيان جديد من البشرية المخلوقة. جعلهم ذلك يفتشون في مخزونهم الثقافي عن صور ونماذج («المسيح» = «المسيا»، و«ابن الله»، و«الرب»، و«الحكمة»، و«اللوجوس») من التراث العبراني أولًا ثم الهلنستي يُعبِّرون من خلالها عن ذلك النموذج الجديد الفريد غير القابل للاختزال من الوجود والصيرورة المُتمثِّل في يسوع المسيح. يجوز القول إن الله «يشكل» طبيعة يسوع البشرية بما يجعل بشريته تعبيرًا عن ذات الله.

حين نتأمَّل دلالة ما ذكره الشهود الأوائل عن يسوع المسيح، نجد أنفسنا نُؤكد ضمنيًّا على «اتصال» يسوع مع باقي البشرية، وبالتبعية مع باقي الطبيعة التي تطوَّر فيها نوع الإنسان العاقل، وفي الوقت نفسه على «انفصاله» عنها الذي يُشير إليه علاقتُه الفريدة مع الله وما خبره الأولون عن الله من خلاله (من خلال تعاليمه وحياته ومَوته وقيامته). هذا المزيج من الاتصال والانفصال هو بالضبط ما صرنا نُقرُّ به بإقرارنا الطبيعة الانبثاقية للعالم الطبيعي، ويبدو من الملائم تطبيق ذلك الفهم على مجموعة المفاهيم التي تخصُّ شخص يسوع. في يسوع المسيح انبثق واقع جديد استلزم وصفه «أنطولوجيا» جديدة؛ وهذا ما تعكسه الصور التراثية التي استشهدنا بها للتو.

في ضوء ذلك، كيف نُفسِّر إذن خبرة تلاميذ المسيح وكنيسة العهد الجديد بالله بوساطة يسوع؟ بعبارة أخرى، كيف نَفهم حدث تجسُّد الله في المسيح باعتباره تواصلًا وتفاعلًا مباشرًا بين الله ذاته والعالم بطريقة يُمكن استيعابها في ضوء العلوم الطبيعية والإنسانية المعاصرة؟ نحتاج إلى تفسير استنتاجات علماء اللاهوت حول فهم يسوع المسيح في زمن العهد الجديد في ضوء ذلك. تأمل على سبيل المثال استنتاج جيه جي دَن إذ يقول: «في البداية كان يُتصور أن المسيح … هو تجسيد مُطلق لقُدرة الله وغايته، هو الله يتواصل مع البشر بذاته … وحكمة الله المبدعة … ووحي الله … كمال تعبير الله عن ذاته، وكلمة الله الأخيرة» (دَن، ١٩٨٠، صفحة ٢٦٢، محذوف منه التأكيد).

تلك الأوصاف لماهية يسوع المسيح كما صاغَها مَن قابَلوه، وكما صاغتها الكنيسة المبكرة تتمحور كلها من أوجه مُختلفة حول «تواصُل» الله مع البشرية. إنها تتمحور حول «إدخال معلومات» بالمعنى الفضفاض الذي نستخدم به هذين المُصطلحين. عملية «إدخال المعلومات» من قِبَل الله هذه تُناظِر المحتوى الفعلي للخبرة البشرية، إذ يُمكن اعتبارها إيصالًا للمعنى من الله للبشر.١٧ الله قادر على إيصال المعاني الإلهية بواسطة أنماط من الأحداث تتحقَّق في العالم المخلوق؛ الأحداث المقصودة هنا هي حياة الإنسان يسوع الناصري وتعاليمه وموته وقيامته، كما نقلها الشهود الأوائل. كما تبيَّن من دراسات العهد الجديد، اختُبر أولئك الشهود الأوائل في المسيح، في شخصه وتاريخه الشخصي، تواصُلًا من الله، وحيًا يُبلِّغ معاني الله للبشرية. لا عجب إذن أنه في المراحل المتأخرة من التأملات في زمن العهد الجديد، مزج يوحنا بين مفهوم الحكمة الإلهية ومفهوم «اللوجوس» أو «كلمة» الله، في إخباره بما يقصده عما كان يمثله يسوع المسيح بالنسبة إلى الشهود الأوائل ومَن جاءوا بعدهم مباشرة. العبارة المحورية في ذلك الموضوع هي بالطبع مُفتَتح إنجيل يوحنا. يشير جون ماكواري (١٩٩٠، الصفحتان ٤٣-٤٤، والصفحات ١٠٦–١٠٨) إلى أن تعبير «الكلمة» أو «اللوجوس» حينما يُطلَق على يسوع، فإنه لا يحمل فقط دلالات صورة «الحكمة»، إنما يعكس أيضًا مفهومَين آخرين؛ المفهوم العِبري «كلمة الرب» الذي يَعني التعبير المنطوق عن مشيئة الرب، لا سيَّما لرسله وفي عمله المبدع؛ وكذلك مفهوم «اللوجوس» في اليهودية الهلنستية، لا سيَّما اللوجوس الإلهي عند الفيلسوف فيلو، الذي هو المبدأ الإبداعي للعقلانية الحاكم للكون، بخاصة كما يتمثَّل في المنطق البشري، والذي تشكَّل داخل عقل الإله وانعكس في العالم الموضوعي المنظور. ويقترح ماكواري استخدام تعبير «المعنى» بدلًا من «الكلمة» أو «اللوجوس» إذ يُساعد في إيصال تأكيد إنجيل يوحنا على ما حدث في عملية الخلق وفي يسوع المسيح بصورة أوضح؛ إذ إن إيصال المعنى، بمعناه التقليدي، يحصل بداية عن طريق إدخال «المعلومات»؛ بمعنى أن الواقع الجديد، أي التجسد، انطوى على تأثيرات سببية فريدة.

تُوضِّح الأفكار التي أدَّت إلى نشأة المنظور الواحدي/الانبثاقي الحلولي الطبيعاني ما يتمنَّى المسيحيون أن يتوثقوا منه عن يسوع المسيح باعتباره تجليًا فريدًا من الله عن البشرية وعن ذاته.

(٤-٢) القربان المقدَّس (الأفخارستيا)

لعل مما يُوضِّح علاقة البشر بالله أيضًا فهمَنا لانبثاق أشكالٍ جديدة من الواقع من الأنظمة المعقَّدة، لا سيَّما من الأنظمة الذاتية التنظيم. ففي العديد من المواقف التي يختبر أو يستشعر فيها البشر الله تُنتَج جهود واعية، تقوم على خبرات منقحة وتقاليد قائمة، شبكات معقَّدة من التفاعل تضمُّ كياناتٍ شخصية وأشياءً مادية وسياقات تاريخية لا يُمكن اختزالها إلى مفاهيم تَنطبِق على أيٍّ مِن مكوناتها منفردًا. ألا يمكن اعتبار الأشكال الجديدة من الواقع وبالتبعية خبرات البشر بالله الجديدة «مُنبثقة» من تلك التكوينات الجديدة أو حتى اعتبارها مؤثرة سببيًّا؟

أنا أقصد١٨ على سبيل المثال سرَّ الأفخارستيا الذي تُقدمه الكنيسة (سر التناول المقدس أو القداس الإلهي أو «عشاء الرب») الذي تُوجد علاقات معقَّدة ومُتداخلة بين مُكوناته. يمكن تحديد مكوناته في النقاط الآتية وإن كانت غير مُنحصِرة فيها (إذ إنه طقس في ثراء معناه ورموزه مركب من طبقات عديدة).
  • (١)

    يحرك المسيحيون الفرادى رغبة في «الامتثال» للأمر القديم الموثَّق تاريخيًّا الصادر من يسوع مؤسس معتقدهم في العشاء الأخير الفعلي؛ إذ أمرهم قائلًا: «اصنعوا ذلك …» أي أن يأكُلوا الخبز ويَشربوا الخمر كما فعل هو في تلك المناسَبة، كي يتحدوا به أو يصلوا أنفسهم برسالته التي جاء بها إلى العالم.

  • (٢)

    يُشدِّد المسيحيون من مختلف الطوائف على أهمية تأدية طقس التناول على صورته الصحيحة باعتباره استمرارًا لفعل المسيح الأصلي وتكرارًا له، كما ورَد في العهد الجديد في أول مجتمع مسيحي. وقد اختلفت الكنائس حول صورته الصحيحة لكن لا خلاف بينها على أهميته.

  • (٣)

    يعدُّ الخبز والخمر، وهما العنصران الماديان كما يُطلَق عليهما عادة، جزءًا من مادة العالم؛ ومن ثَم فهُما يُمثلان النظام المخلوق من ذلك الجانب. لذا يَعتبِر المسيحيون أن هذَين الفعلَين، في ذلك السياق وباعتبار كلمات المسيح، يعدان تعبيرًا عن «إدراك جديد لأهمية وقيمة مادة العالم».

  • (٤)

    لأن ما يُكرَّس أو يُنذَر في ذلك الطقس هو الخبز لا الذرة، والخمر لا العنب، فإن ذلك الفعل صار يُختبر باعتباره تقييمًا جديدًا «لمشاركة البشرية مع الله في العمل اليومي».

  • (٥)

    ربط يسوع الخبز المكسور والخمر المسكوب صراحة بتضحيته بنفسه وفدائه على الصليب حيث كُسِر جسده وسُفِك دمه كي يجذب البشرية إلى الاتحاد مع الله. وفي ذلك الطقس يقرُّ المسيحيون ويتَّحدون مع تضحية المسيح بنفسه، ومن ثَم يَعرضون تقديم «محبة بذلِ الذات» نفسها إلى الغير في حياتهم، وبذلك يُساهمون في مواصلة رسالته التي تهدف إلى تحقيق سيادة ملكوت الله في العالم.

  • (٦)

    هم أيضًا يدركون وعد يسوع بأن يحضر مجددًا في إحياء ذكرى ذلك الحدث وإعادة أداء الأحداث التاريخية لموته وقيامته. ذلك الاستحضار لذكرى المسيح الذي صار كامنًا تمامًا في الله — ومُتوحِّدًا معه من جانب — هو إحدى السمات الفريدة والمؤثِّرة روحانيًّا لطقس التناول.

  • (٧)

    حضور الله الخالق باعتباره مُتعاليًا ومُتجسِّدًا وحالًّا.

أَوَلسنا هنا إزاء مثالٍ لانبثاق نوع جديد من الواقع يتطلب وصفُه أنطولوجيا خاصة؟ فما «ينبثق» (إذا تجرَّأنا وقلنا ذلك) في حدث الأفخارستيا إجمالًا لا يمكن وصفه إلا بمصطلحات خاصة غير قابلة للاختزال، مثل «الحضور الحقيقي». هذا ويَختبر المشاركون في ذلك الطقس سببية إلهية تحويلية من نوع فريد. ويستلزم وصفها أيضًا مُصطلحات خاصة متعلقة بالتأثيرات السببية (تتضمَّن مفردات مثل «الفداء»)، ففي الطقس يحدث تأثير على الفرد وعلى المجتمع؛ إذ له أثر فريد على تشكُّل الشخصية المسيحية والمجتمع المسيحي (أثر «الاتصال بأعمق ما يكون بذلك الكيان من المحبة»).١٩ لا عجب إذن أنه يوجد فرع من الدراسات اللاهوتية يُسمَّى «اللاهوت الطقسي» يَبحث ذلك الواقع الخاص وتلك الخبرة البشرية الفريدة وتفسيراتها. ولما كان الله موجودًا على كل الأصعدة في حدث الأفخارستيا الكلي هذا، يُمكن اعتبار الله فيه مؤثرًا أو عاملًا في الفرد والمجتمع؛ وهو قطعًا تجسيد لتأثير الله المُحدِّد غير التدخُّلي على العالم، «تأثير الكل على الأجزاء» من المنظور الواحدي/الانبثاقي الحلولي الطبيعاني.

(٤-٣) تفاعُل الله مع العالم

في العالم ذي المنظومة السببية المُغلقة، التي ما تنفكُّ العلوم تكشف النقاب عنها، كيف يُمكن تصور تأثير الله على أحداث معيَّنة أو أنماط معيَّنة من الأحداث في العالم دون إخلال بالنظام الملاحَظ في مختلف مستوياته التي يبحثها العلم؟ اقترحتُ نموذجًا٢٠ يستند إلى الإقرار بأن الله المُتعالي يَعلم، على مدى جميع الأُطُر المرجعية الزمانية والمكانية، كل ما يُمكن معرفته عن حالة أو حالات كل ما هو كائن، بما فيها علاقات الاعتماد المتبادَل بين الكيانات والبنى والعمليات الموجودة في العالم. هذا منظور حلولي، إذ يَعتبر العالم كامنًا «في» الله من جهة، وفي الوقت نفسه يَعتبر الله «أكبر» من العالم. يلزم من ذلك أيضًا أن العالم عرضة للخضوع لأي تأثيرات إلهية مُحدِّدة لا تحصل عن طريق المادة أو الطاقة (أو القوى الطبيعية). من ثَم، فالله قادر على أن يتسبَّب في وقوع أحداث مُعيَّنة أو أنماط معينة من الأحداث تعبر عن مشيئته بإعماله تأثيرات تنازلية على العالم باعتباره نظامًا كليًّا، وبالتبعية على مُكوناته (باعتبار العالم نظامًا كليًّا مركبًا من أنظمة). تلك الأحداث تقع بواسطة «فعل إلهي خاص»، بخلاف إقامته وصيانته لكلِّ ما هو كائن؛ ومن ثَم لم تكن لتقع لو لم يشأ الله لها ذلك. ذلك التأثير الكلي الموحِّد لله على العالم، إذا قسناه على إعمال الأنظمة الكلية تأثيراتها على أجزائها في الأنظمة الطبيعية كما سبَق أن ناقشنا، فسنَجِد أنه يُمكن أن يحصل دون خرق٢١ لأيٍّ من القوانين (القواعد) الحاكمة للمستويات التي يتألف منها العالم. ذلك التأثير يختلف عن عمل الخلق الإلهي في العالم، في كونه يُحقق مشيئة إلهية معينة ينتج عنها نمط معين من الأحداث؛ فقد يشاء الله مثلًا أن يُحقق أنماطًا من الأحداث استجابةً لأفعال أو صلوات بشرية.
في ذلك النموذج، فإنَّ «الوسيط» الأنطولوجي الذي يلزم أن يكون الله مُعمِلًا تأثيره في العالم من خلاله هو ذلك الواصل بين الله والعالم الكلي (أي كل ما هو كائن)، والذي يُعتبر من المنظور الحلولي موجودًا في ذات الله. ما يمرُّ عبر ذلك الوسيط، كما أشرت أيضًا (بيكوك، ١٩٩٣، صفحة ١٦١ و١٦٤)،٢٢ يُمكن اعتباره تدفقًا للمعلومات، أو تأثيرًا مُكوِّنًا للأنماط. بالطبع لا بد من الإقرار بأنه نتيجة للفجوة أو الفجوات الأنطولوجية بين الله والعالم الموجودة لا محالة في أي تصور إلهي، فإن تلك ما هي إلا محاولة لفهم ما يُمكن أن نفترض أنه التأثير الأوَّلي لله كما نَختبره من جانبنا من الحد الأنطولوجي الفاصل إن جاز التعبير.٢٣ وسواء كان استخدامنا لمفهوم تدفُّق المعلومات مفيدًا في ذلك السياق أم لا، نحن بحاجة إلى طريقة للإشارة إلى أنَّ تأثير الله في ذلك المستوى؛ ومن ثَم على جميع المستويات، هو تأثير مُكوِّن للأنماط بالمعنى العام لذلك. ما دفَعني إلى ذلك النوع من البحث أيضًا هو إدراكي أن مفهوم «اللوجوس»، أو كلمة الله، يُمكن اعتباره تأكيدًا على تشكيل الله للأنماط في العالم وكذلك على تعبير الله عن ذاته «في» العالم.

في ذلك النموذج، يُواجهنا سؤال حول المستوى، أو المستويات، من العالم الذي يُمكن اعتبار تلك التأثيرات الإلهية عاملة فيها بشكل مُتوافِق معه. قياسًا على إعمال النظام الكلي تأثيراته على أجزائه في الأنظمة الطبيعية، كنتُ قد اقترحتُ أنه بسبب وجود «الفجوات الأنطولوجية» بين العالم والله في كل مَوضِع من نسيج الزمكان، فإن الله قادر على أن يُؤثِّر تأثيرًا كليًّا على حالة العالم (النظام الكُلي في ذلك السياق) بجميع مستوياته. ذلك الطرح، بذلك الفهم، يُشير إلى أن المشيئة الإلهية يُمكن أن تؤثر على أنماط الأحداث الموجودة على المستويات الفيزيائية والبيولوجية والبشَرية وحتى الاجتماعية دون أي خرق للقوانين الطبيعية في أيٍّ من تلك المستويات. تلك الصيغة تُثير بحدة كبيرة مُعضلة «الفعل الإلهي الخاص» التي تواجه التفسيرات العِلمية الحالية للعالم باعتباره منظومةً مغلقة من الشبكات السببية والتأثيرات الكلية على الأجزاء. لكن تقل حدة تلك المعضلة إذا اعتبرنا الله عاملًا بصفة أساسية، أو حتى حصرية في مستوى الشخص البشري، الذي يعتبر واقعًا مُنبثقًا يقف على قمة هرم التعقيد القائم على الأنظمة في العالم. هكذا يمكن اعتبار الإله مُعمِلًا في العالم تأثير الكل على الأجزاء بطريقة تنازلية عن طريق تشكيل الخبرة الشخصية البشرية، التي يُمكن بواسطتها التأثير على الأحداث على المستوى الفيزيائي والبيولوجي والاجتماعي.

هذان الشَّكلان المختلفان لمقترح تصور الفعل الإلهي الخاص عن طريق التأثير الإلهي التنازلي ليسا مُتنافيَين. لكن الشكل الذي يَعتبر الفعل الإلهي مقصورًا على المستوى الشخصي أقل تصادمًا (وأكثر تماشيًا) مع التفسير العِلمي للعالم من الذي يَعتبر الفعل الإلهي عاملًا في «جميع» المستويات. في تلك المرحلة من صياغتي لذلك الطرح، أميلُ إلى افتراض عمل التأثيرات الإلهية التنازلية على جميع المستويات، لكن تتصاعَد دقتها حسب موقعها الزمني من أدنى المستويات الفيزيائية ووصولًا إلى المستوى الشخصي الذي تبلُغ فيه أقصى شدة ودقة لها. هذا وتستلزم صياغة نموذج الفعل الإلهي على أكمل وجه الأخذ باعتبارات لاهوتية عامة أخرى. أحد الاعتبارات المُهمَّة يُمكن صياغته كما يلي.

آمل أن يكون النموذج كما وصفته حتى الآن على درجة من المعقولية، من جانب أنه يستند فقط على تشبيهه بالأنظمة الطبيعية المعقَّدة بصفة عامة وعلى كيفية تأثير الكليات على الأجزاء فيها. غير أنه يُهمِل البُعد الشخصي إلى حد أنه لا يُولي الطابع «الشخصي» للعديد من الخبرات البشرية العميقة بالله (لكن ليس كلها) حقه. لذا لا شك أنه يحتاج إلى أن يكون أكثر إحكامًا بأن يقر بأنه من بين جميع الأنظمة الطبيعية، الفاعلية الشخصية هي أبلغ مثال لتأثير الكل على الأجزاء في نظام معقَّد. لم يكن بوسعي أن أتحاشى الحديث فيما سبق عن «مشيئة» الله والإشارة إلى أنه مثل الأشخاص البشريِّين، الله له غايات يجب أن تُنفَّذ في العالم. فإذا كان الله يؤثر على الأحداث وأنماط الأحداث في العالم، فلا مفر من إسناد محاميل شخصية له مثل المقاصد والغايات؛ حتى وإن كانت قاصرة وتُسهِّل إساءة فهمها. لذا يجب أن نقول إنه رغم أننا لا نَستطيع وصف الله، ولا إدراك جوهره بالكامل، فإنه «شخصي على أقل تقدير»، واستخدام لغة شخصية لوصفه ليس مضللًا بقدر السكوت تمامًا عن وصفه! ومن ثَم يكون مِن المقبول أن نلتفت إلى تأثير الكل على الأجزاء كما هو متمثل في العلاقة بين العقل والدماغ والجسد باعتباره مصدرًا يمكن أن نستخدمه في وضع نموذج لتفاعل الله مع العالم. حين نفعل ذلك، فإن قوة حجة استعمال فئة «الشخصية» لتفسير كمال الفاعلية البشرية تتضح لنا مجددًا وتعيد التأكيد على مفهوم الإله التقليدي الوارد في الكتاب المقدَّس باعتباره فاعلًا «شخصيًّا» بدرجة ما في العالم، يتصرَّف بالأخص على مستوى الأشخاص؛ لكن في الإطار الميتافيزيقي غير الثنائي المختلف تمامًا للمنظور الواحدي/الانبثاقي الحلولي الطبيعاني، الذي يتسق مع الرؤية التي يَرسمها العلم للعالم.

(٥) الاستنتاجات

أرى أن المبادئ المستخدَمة في محاولة إيضاح أن الجوانب الفريدة في تلك الخبرات الرُّوحانية وغيرها، التي تتضمَّن الله والطبيعة والأشخاص، تَنطبِق بشكل واسع على العديد من الخبرات الأخرى التي يُعنى بها اللاهوت،٢٤ سواء كانت تاريخية أو مُعاصِرة. من ثَم يُمكن اعتبار «النعمة» مُؤثِّرة سببيًّا وأنها تأثير تحوُّلي يجريه الله على البشر، يعمل حين يكون الشخص على صلة وثيقة مع الله وتحت ظروف معيَّنة تميز أشكالها المختلفة.٢٥ التحول سمة أساسية لتأثيرات النعمة، لذا فإن خبرتها تتضمَّن دائمًا جانبًا أنطولوجيًّا إضافة إلى جانب التأثير السببي. تلك المبادئ تَنطبِق أيضًا على فهم الصلاة الشفاعية التي يتضمَّن نظامها المعقَّد أكثر من شخص، مع أن موضوع الصلاة أو الصلوات يكون شخصًا واحدًا مُعينًا. يُمكن اعتبار النظام الكُلي المعقَّد المتضمن الله والأشخاص مُكوِّنًا لنوع جديد من الواقع له قدرات تأثيرية سببية خاصة من نوع فريد.

يقدم المنظور الواحدي/الانبثاقي الحلولي الطبيعاني الذي حاولت تفصيله، إلى جانب علوم التعقيد والتنظيم الذاتي الجديدة للاهوت، سبيلًا مُثمرًا ومُنيرًا للفكاك من أسر التفسيرات الشديدة الاختزالية لهرمية العلوم، ويفتح الطريق أمام استخدام اللغة والمفاهيم اللاهوتية في النقاشات الفِكرية العامة في حياتنا المعاصرة، وهي مساحة كانت قد استُبعدَت منها منذ وقت طويل للأسف نتيجة سوء الفهم.

تلك الرؤى الجديدة حول القُدرات التعقيدية الحاملة للمعلومات للمادة أنتجت تصورًا ميتافيزيقيًّا في مذهب الواحدية الانبثاقية أنتج بدَوره تصورًا ميتافيزيقيًّا يُتيح، إذا فسرناه في إطار مذهب الحلولية ومذهب اللاهوت الطبيعاني، رؤية الانسجام والقُرب بين طبيعة المادة والخبرات التي يسعى اللاهوت إلى وصفها. ومن ثَم في الإجابة على أحد الأسئلة التي يطرحها ذلك الكتاب — سؤال ما المطلق؟ — لا نحتاج إلى الاختيار بين «الإله والمادة والمعلومات» بل يُمكن أن نجمع كل هذا معًا في نوع جديد من الفهم يزيح الثنائيات المغلوطة بين العلوم التجريبية/الإنسانية والمادة/الروح والعلم/الدين التي أثقلَت الثقافة الغربية لوقت طويل.

المراجع

  • Augustine, S. (2006), Confessions, trans F. W. P. Brown and F. J. Sheed, Indianapolis, IN: Hackett Publishing Company.
  • Bechtel, W., and Abrahamson, A. (1991), Connectionism and the Mind, Cambridge, MA: Blackwell Publishers.
  • Bechtel, W., and Richardson, R. C. (1992), Emergent phenomena and complex systems, In Emergence or Reduction? Essays on the Prospects of Nonreductive Physicalism, eds A. Beckermann, H. Flohr and J. Kim, Berlin: Walter de Gruyter Verlag, 257–288.
  • Bishop Kallistos of Diokleia (1997), Through the creation to the creator, Ecotheology, 2: 8–30.
  • Brierley, M. W. (2004), Naming a quiet revolution: The panentheistic turn in modern theology, In In Whom We Live and Move and Have Our Being: Panentheistic Reflections on God’s Presence in a Scientific World, eds P. Clayton and A. Peacocke, Grand Rapids, Michigan: Eerdmans, 1–15.
  • Campbell, D. T. (1974), ‘Downward causation’ in hierarchically organised systems, In Studies in the Philosophy of Biology: Reduction and Related Problems, eds F. J. Ayala and T. Dobhzhansky, London: Macmillan, 179–186.
  • Deacon, T. (2001), Three Levels of Emergent Phenomena, Paper presented to the Science and Spiritual Quest Boston Conference, October 21–23.
  • Deacon, T. (2003), The hierarchic logic of emergence: Untangling the interdependence of evolution and self-organization, In Evolution and Learning: The Baldwin Effect Reconsidered, eds B. Weber and D. Depew, Cambridge, MA: MIT Press, 273–308.
  • Drummond, H. (1894), The Lowell Lectures on the Ascent of Man, London: Hodder & Stoughton.
  • Dunn, J. G. (1980), Christology in the Making, London: SCM Press.
  • Gregersen, N. H. (2000), God’s public traffic: Holist versus physicalist supervenience, In The Human Person and Theology, eds N. H. Gregersen, W. B. Drees and U. Görman, Edinburgh: T & T Clark, 153–188.
  • Hick, J. (1977), The Myth of God Incarnate, London: SCM Press.
  • Kim, J. (1992), ‘Downward causation’ in emergentism and nonreductive physicalism, In Emergence or Reduction? Essays on the Prospects of Nonreductive Physicalism, eds A. Beckermann, H. Flohr and J. Kim, New York: Walter de Gruyter, 134-135.
  • Kim, J. (1993), Non-reductivism and mental causation, In Mental Causation, eds J. Heil and A. Mele, Oxford: Clarendon Press, 204.
  • Kingsley, C. (1930), The Water Babies, London: Hodder & Stoughton.
  • Macquarrie, J. (1990), Jesus Christ in Modern Thought, London: SCM Press.
  • Moore, A. (1891), The Christian doctrine of God, In Lux Mundi, 12th ed, ed. C. Gore, London: Murray, 41–81.
  • Morowitz, H. (2002), The Emergence of Everything: How the World Became Complex, New York: Oxford University Press.
  • Peacocke, A. R. (1972), Matter in the theological and scientific perspectives: a sacramental view, In Thinking about the Eucharist, Papers by members of the Church of England Doctrine Commission, ed. I. T. Ramsey, London: SCM Press, 28–37.
  • Peacocke, A. R. (1979), Creation and the World of Science, Bampton lectures, Oxford: Clarendon Press.
  • Peacocke, A. R. (1983/1989), The Physical Chemistry of Biological Organization, Oxford: Clarendon Press.
  • Peacocke, A. R. (1993), Theology for a Scientific Age: Being and Becoming: Natural, Divine and Human, 2nd enlarged ed., Minneapolis: Fortress Press, and London: SCM Press.
  • Peacocke, A. R. (1994), God and the New Biology, Gloucester: Peter Smith.
  • Peacocke, A. R. (1995), God’s interaction with the world: The implications of deterministic ‘chaos’ and of interconnected and interdependent complexity, In Chaos and Complexity: Scientific Perspectives on Divine Action, eds R. J. Russell, N. Murphy and A. R. Peacocke, Berkeley: Vatican Observatory Publications, Vatican City State and the Center for Theology and the Natural Sciences, 263–287.
  • Peacocke, A. R. (1996), The incarnation of the informing self-expressive word of God, In Religion and Science: History, Method, Dialogue, eds W. M. Richardson and W. J. Wildman, New York and London: Routledge, 321–339.
  • Peacocke, A. R. (1999), The sound of sheer silence: How does God communicate with humanity? In Neuroscience and the Person: Scientific Perspectives on Divine Action, eds R. J. Russell et al., Berkeley: Vatican Observatory Publications, Vatican City State and the Center for Theology and the Natural Sciences, 215–247.
  • Peacocke, A. R. (2001), Paths from Science towards God: The End of All Our Exploring, Oxford: Oneworld.
  • Peacocke, A. R. (2003), Complexity, emergence and divine creativity, In From Complexity to Life, ed. N. H. Gregersen, Oxford: Oxford University Press, 187–205.
  • Peacocke, A. R. (2007), Emergent realities with causal efficacy: some philosophical and theological applications, In Evolution and Emergence: Systems, Organisms, Persons, eds N. Murphy and W. R. Stoeger, Oxford: Oxford University Press, 267–283.
  • Polkinghorne, J. C. (1996), Scientists as Theologians, London: SPCK.
  • Prigogine I., and Stengers, I. (1984), Order Out of Chaos, London: Heinemann.
  • Puddefoot, J. C. (1991), Information and creation, In The Science and Theology of Information, eds C. Wassermann, R. Kirby and B. Rordoff, University of Geneva: Editions Labor et Fides.
  • Richardson, A., and Bowden, J., eds. (1983), A New Dictionary of Christian Theology, London: SCM Press.
  • Richardson, R. C. (1992), Emergent phenomena and complex systems, In Emergence or Reduction? Essays on the Prospects of Nonreductive Physicalism, eds A. Beckermann, H. Flohr and J. Kim, Berlin and New York: de Gruyter, 257–288.
  • Shorter Oxford English Dictionary (1973), Oxford: Oxford University Press.
  • van Till, H. (1998), The creation: Intelligently designed or optimally equipped, Theology Today, 55: 344–364.
  • Weber, B., and Deacon, T. (2000), Thermodynamic cycles, developmental systems and emergence, Cybernetics & Human Knowing, 7: 21–43.
  • Wimsatt, W. C. (1981), Robustness, reliability and multiple-determination in science, In Knowing and Validating in the Social Sciences: A Tribute to Donald T. Campbell, eds M. Brewer and B. Collins, San Francisco: Jossey-Bass, 124–163.
١  التفسير الذي أورده هنا لتلك التطورات (في الأقسام (١) و(٢) و(٣)) يتتبع التفسيرات التي ورَدَت في الأقسام مقالي «الحقائق الانبثاقية ذات الفاعلية السببية» (بيكوك، ٢٠٠٧) (بالنسبة إلى القسم (١))؛ والتي وردت في كتابي «سبل العلم المؤدية إلى الإله» (بيكوك، ٢٠٠١) (بالنسبة للقسمين (٢) و(٣)).
٢  يقال في العادة إنها تمتدُّ من الأنظمة «الأدنى» الأقل تعقيدًا، إلى الأنظمة «الأعلى» الأكثر تعقيدًا، ومن الأجزاء إلى الكليات الأعقد، فتكون تلك الكليات نفسها أجزاءً من كيانات أعقد، مثل سلسلة من الدُّمى الروسية. في الأنظمة المعقدة التي أقصدها هنا تحتفظ الأجزاء بهويتها وخصائصها باعتبارها كيانات مُنفردة معزولة (بيكوك، ١٩٩٤).
٣  راجع على سبيل المثال بيكوك (١٩٩٣)، بخاصة الشكل ١ (صفحة ١٩٥)، المبني على مخطط وضعه دبليو بيكتل وإيه أبراهامسون (١٩٩١، الشكل ٨-١).
٤  وضع دبليو سي ويمسات مفهوم «الثبوت» معيارًا لقياس ربط الواقع بالخواص المُنبثقة الموجودة في المستويات العليا من التعقيد.
٥  كما فعل فيليب كلايتون مؤلِّف الفصل الثالث من ذلك الكتاب. لاحظ أن مُصطلح «الواحدية» قطعًا ليس مقصودًا (كما يتَّضح من المنهج غير الاختزالي الذي أتبنَّاه هنا) بالمعنى الذي يُفهم منه أن الفيزياء يُمكنها تفسير كل شيء في نهاية المطاف (وهو عادة المعنى المقصود من مصطلح «الفيزيائية»).
٦  مقولة ينسبها جيه كيم إلى إس ألكسندر (كيم، ١٩٩٢، الصفحتان ١٣٤–١٣٥؛ ١٩٩٣، صفحة ٢٠٤).
٧  للاطلاع على حصر لها مع مراجع، راجع بيكوك (١٩٨٣ / ١٩٨٩).
٨  قدَّم تيرانس ديكون أيضًا مقترحات شبيهة في ديكون (٢٠٠٣). انظر أيضًا ويبر وديكون (٢٠٠٠).
٩  وضح جيه سي بودفوت بدقة العلاقة بين الاستعمالات المختلفة لمصطلح «المعلومات» (بودفوت، ١٩٩١، الصفحات ٧-٢٥). أولًا، يستخدمه علماء الفيزياء ومهندسو الاتصالات، وعلماء الأعصاب للإشارة إلى احتمال حدوث ناتج واحد من ضمن عدة نواتج لحدث ما؛ ثانيًا، هو يحمل معنى «تشكيل شيء أو جعله على صورته» (من الأصل اللاتيني للكلمة الإنجليزية informare)؛ وأخيرًا يأتي المعنى التقليدي للمعلومات وهو المعرفة؛ ومن ثَم «المعنى» بالمعنى الفضفاض للكلمة.
١٠  راجع «القاموس الجديد لمصطلحات اللاهوت المسيحي» (ريتشاردسون وبودين، ١٩٨٣).
١١  راجع «قاموس أكسفورد الموجز للغة الإنجليزية» (١٩٧٣).
١٢  يُعتبر المؤلَّف بكامله استعراضًا للتصورات والتصوُّرات المغلوطة العديدة لمفهوم الحُلولية.
١٣  هذا وَفق كاليستوس مطران ديوكليه (١٩٩٧، الصفحات ١٢–١٤).
١٤  أُشدد بقوة على أن مفهوم «السببية» هنا وفي أي موضع آخر من هذا الفصل لا يُشير إلى مفهوم السببية الهيومي باعتبارها تتابعًا متسلسلًا للأسباب والنتائج، إنما يُشير إلى تأثير حالة نظامٍ كُلي معقَّد على خواص وسلوك أجزائه.
١٥  طالِع رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس ١٩:٥.
١٦  سواء أثبتنا الحمل العذري أم لم نثبته.
١٧  فكرة تشكلت في عمل بيكوك (١٩٩٦، الصفحات ٣٢١–٣٣٩).
١٨  قدَّمت تفسيرًا للأفخارستيا لأول مرة في بيكوك (١٩٧٢، الصفحات ٢٨–٣٧، بالأخص صفحة ٣٢)؛ وكذلك (مع بعض الزيادات) في بيكوك (١٩٩٤، الصفحتان ١٢٤-١٢٥). وهو مُوافق تمامًا لما عرضه مؤخرًا إن إتش جريجرسِن (٢٠٠٠، الصفحات ١٨٠–١٨٢).
١٩  راجِعْ جريجرسِن (٢٠٠٠).
٢٠  للاطِّلاع على تفصيل ذلك، راجع بيكوك (١٩٩٣، الصفحات ١٦٠–١٦٦). وللاطِّلاع على تاريخ ذلك المقترح وتطوره، راجع بيكوك (١٩٩٥، الملاحظة ١، صفحة ٢٦٣)؛ وأيضًا بيكوك (١٩٩٩، الملاحظة ١، صفحة ٢١٥).
٢١  يُمكن قول ذلك أيضًا على الفاعلية البشرية في العالم. لاحظ أيضًا أن ذلك الطرح يقر بدرجة أكبر من المعتاد بأن «القوانين» والقواعد التي تقوم عليها العلوم تَنطبِق عادةً حتى مُستويات معينة مدرَكة، وإن كانت غير محدَّدة بدقة، داخل المنظومات الهرمية للطبيعة.
٢٢  قدم جيه بولكينجهورن طرحًا مشابهًا من ناحية الإدخال الإلهي «لمعلومات فاعلة» (بولكينجهورن، ١٩٩٦، الصفحتان ٣٦–٣٧).
٢٣  لا أُحب أن أربط بقوة بين النموذج المقترح وتفسير «تدفق المعلومات» لمشكلة العقل والدماغ والجسد.
٢٤  دعوت إلى ذلك في مواضع أخرى (بيكوك، ٢٠٠٣، الصفحتان ٢٠١-٢٠٢)، في منهج عرضته بإيجاز في محاضرات بامبتون التي ألقيتُها عام ١٩٧٨ (بيكوك، ١٩٧٩، الصفحات ٣٦٧–٣٧١).
٢٥  صُنِّفَت النعمة تصنيفات مختلفة وشكلية إلى حدٍّ مبالغ نوعًا ما باعتبارها «غير جوهرية» و«غير مخلوقة» و«مخلوقة» و«فطرية» و«تقديسية» و«فعلية» و«رافعة» و«سابقة» و«فاعلة» و«كافية» وغير ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤