الفصل الثالث عشر

الإله باعتباره المبدأ المعلوماتي الأول

كيث وارد

عادة يتَّفق العلماء الذين يَبحثون المسائل الفلسفية على أن المذهب المادي الكلاسيكي، الذي يَعتبر الواقع مُكوَّنًا من مجرد جسيمات صغيرة ذات كتلة يَرتطم بعضها ببعضٍ في حيز مُطلَق وفريد من الزمكان، لم يَعُد له وجود فكريًّا. تتضمَّن تفسيرات الكون الآن عادة مفاهيم مثل النُّسخ المتعدِّدة من الزمكان، وأشكال من الواقع الكمِّي تُوجد في مستوى أكثر أولية من الجُسيمات ذات الكتلة الموجودة في حيز فراغ محدَّد وتختلف عنها تمامًا، والشفرات المعلوماتية التي تتضمَّن تعليمات لإنشاء بِنًى متكاملة معقَّدة تظهر فيها أنواع جديدة من الخواص المنبثقة.

هذا إنما يُشير إلى أن طبيعة الواقع التي يبحثها علم الفيزياء وعلم الأحياء أعقد وأكثر غموضًا بكثير مما تصوَّر بعض أتباع المذهب المادي النيوتني (وإن كان نيوتن نفسه بالطبع أبعد ما يكون عن المادية). صار دور المعلومات بالأخص يحتلُّ مكانة مهمَّة جديدة في أي تفسير للكون الذي نعيش فيه.

يُميز أغلب المساهمين في ذلك الكتاب بين ثلاثة أنواع رئيسية من المعلومات؛ معلومات شانون، والمعلومات «التركيبية» أو التشكيلية، والمعلومات الدلالية.١

معلومات شانون مَعنية بكيفية إدخال أقصى قدر من المعلومات في نظام فيزيائي مغلق. ويجوز أن نقول إنها مَعنية بالكم لا الجودة؛ أي إنها تتجاهَل تمامًا الأسئلة المتعلقة بأهمية أو وظيفة المعلومات التي يُمكن أن يتضمَّنها نظام فيزيائي. وهذا شأن تقني يخصُّ التقنيين المختصين بالمعلومات، ولن أتطرَّق إليه أكثر من ذلك.

النوع الثاني هو المعلومات «التركيبية» أو «المُشفِّرة»؛ وهو الذي يَرد في ذهننا حين نُفكر في الآلية التي يَحمل بها الحِمض النووي المعلومات اللازمة لتكوين البروتينات والخلايا العضوية في أجسامنا. لا يُمكننا أن نفهم ماهية الحمض النووي إذا نظرنا إلى تركيبه الكيميائي فقط، بل يلزم أيضًا أن نَنظُر إلى كيف يؤدي ذلك التركيب إلى تكوين أجسادنا.

لكن بعض علماء الأحياء يَعتقدون أن تلك الوظيفة للحمض النووي هي في الحقيقة مُصمَّمة، بمعنى أنها مبنية عن قصدٍ كي تُحقِّق غرض تكوين الجسم. يوجد اعتقاد سائد بأن الحمض النووي تطور عن طريق عمليات التطفُّر العشوائية والانتخاب الطبيعي كي يصير آلة نَسخٍ عالية الكفاءة، تَستعمل الأجسام باعتبارها وسيلة مساعدة في عملية النسخ، وأنها صارت كذلك نتيجة آليات عمياء تطورت عشوائيًّا.

بالنِّسبة إلى ذلك الرأي، فإن استخدام اللغة الوظيفية لازم باعتباره طريقًا مختصرًا لفهم العمليات الكيميائية الأساسية التي هي أعقد من أن تُوصف بالتفصيل. يعدُّ ذلك انبثاقًا من الناحية الإبستمولوجية قائمًا على نهج أنطولوجي اختزالي؛ الآليات الأساسية هي آليات كيميائية عادية، لكن من الأسهل لنا أن نفهمها إذا تحدثنا عن الوظائف والشفرات التي يُمكن «قراءتها» وتفسيرها عن طريق الريبوسومات. يُمكننا أن نختزل تلك اللغة في لغة الكيمياء، لكن ذلك صعب جدًّا إلى حدِّ أنه لا يَستحِق عناء القيام به.

توجد وجهة نظر مختلفة تمامًا ترى أنه لا يُمكن ولو نظريًّا اختزال لغة علم الأحياء أو علم النفس في لغة الكيمياء أو الفيزياء. حتى إذا لم تنبثق كيانات مادية جديدة، فإن الطريقة التي تتداخَل بها الكيانات الفيزيائية الأساسية وتَنتظِم تعني أن الكيانات المتكاملة والمعقَّدة تتصرَّف وَفق مبادئ جديدة، لا يُمكن استنباطها من مُكوِّناتها الفيزيائية الأبسط أو اختزالها فيها.

على سبيل المثال، لا يُمكن اختزال القوانين التي تحكم الأمم في القوانين التي تحكم العلاقات بين الأفراد المُكوِّنة لها، لكن الأمم ليست مكوَّنة من كيانات بل من أفراد. ما ينتج تلك المبادئ الجديدة للتفاعُلات بين أولئك الأفراد هو انتظامهم داخل كيانات معقَّدة، مع أن ذلك لا يُنتج كيانات مادية جديدة (فالأمم لا تُعدُّ أفرادًا خارقين). تلك المبادئ الجديدة للتفاعُل قد تكون مُخبرة بمعلومات، من جانب أن بعض الأجزاء تُوفر المعلومات التي تحكم سلوك الأجزاء الأخرى داخل النظام الكُلي، أو أن ذلك يتيح للنظام الكلي بأن يتكون في صورة كيان معقَّد.

يبدو أن مَوضع كيان ما داخل البِنية التي يُوجد فيها، والأشكال التي تتَّخذها علاقاته بالكيانات الأخرى الموجودة داخل تلك البنية، تخلق مبادئ جديدة للتفاعُل، فتجعله يعمل باعتباره جزءًا من كلٍّ مُعقَّد مُتكامل.

تنبثق قوانين طبيعية جديدة، وطرق جديدة للتفاعُل، لا يُمكن اختزالها في القوانين التي تحكم تفاعل الجسيمات إذا نظرنا لها مُنفردة. وتصير البِنى مهمَّة لفَهم الأجزاء. الكثير من الأنظمة المعلوماتية يُمكن اعتبارها ذات وظيفة محدَّدة داخل كلٍّ متكامل ما كانت لتَنبثق لولا وجود ذلك الكل في صورة نظام.

دفعت تلك الحقائق بعض العلماء إلى الحديث عن التفسير الكلي — تفسير الأجزاء الأساسية في ضوء كلٍّ أكبر منها — باعتباره شكلًا ملائمًا من التفسير العلمي. وبعضهم، لا سيَّما علماء فيزياء الكم، يُوسع فكرة التفسير الكلي لتَشمل الكون بأكمله، باعتباره نظامًا فيزيائيًّا كليًّا.

(١) فضاء احتمال رياضي

تُشير فرضيات حديثة في فيزياء الكم إلى أن الكون الفيزيائي «متشابك» على نحو يجعل من غير الممكن فهم أجزاء النظام — بل حتى سلوك الجسيمات الأساسية — دون معرفة دورها داخل الكل الأكبر: نسيج الزمكان برمَّته. قد لا يكون ثمة وجود لبتات غير فيزيائية من «المادة» لكن يبدو أنه تُوجد قوانين لتفاعُلها لا يُمكن تحديدها إلا من منظور الأنظمة الكلية، لا مِن المنظور الذري. يُشجعنا علم الكون الكمي على رؤية الكون باعتباره نظامًا معقدًا والاعتقاد بأنَّ المعرفة بالنظام الكلي قد تكون لازمة لتفسير سلوك أجزائه الأبسط.٢

يعدُّ تفسير منشأ الكون الغاية الصعبة المنال التي يَنشُدها علم الكون، ولعلنا نستطيع فهمه فهمًا كاملًا حين نَفهم أقصى تطورٍ وصَل له الكون، ونستدلُّ على أجزائه الأولية الأبسط بالضرورة من بنيتِه المكتملة التي تحققت فيها مجموعة متَّسقة وثرية من الإمكانات للتفاعل بين تلك الأجزاء. لا يُعدُّ ذلك مفهومًا مدهشًا كثيرًا بالنسبة إلى الفيزياء التي يعدُّ الزمن فيها متغيرًا إحداثيًّا واحدًا يُمكن اعتباره كلًّا من الناحية النظرية. هذا يَعني عودة مفهوم السببية الغائية إلى العلوم لكن بمعنًى جديد. فقط في ضوء تحقُّق جميع الإمكانات الجوهرية للكون، أو على الأقل مجموعة من حالات الزمكان غير المتنافية الواسعة النطاق، قد نستطيع أن نُفسِّر خواص الأجزاء البسيطة التي نشأ منها.

قد نَعتقِد، مثل بعض مُنظري الكم، بوجود مجموعة من الحالات الممكنة في فضاء الحالة. يفترض أن تكوِّن مجموعة الحالات المُمكنة نموذجًا أوليًّا للصور المحتملة التي يُمكن أن يوجد عليها الكون. وبدلًا من مجموعة اعتباطية بالكامل من القوانين والحالات النهائية التي تؤدي إلى ناتج غير مُتوقَّع، قد يكون لدينا مجموعة كاملة من جميع الإمكانات التي يمكن أن تتحقَّق من بينها مجموعة من القوانين المتَّسقة. تلك المجموعة قد تضمُّ الزمكان باعتباره واحدًا من حالات عديدة مُتحقِّقة، أو قد يكون هو الحالة الوحيدة المتَّسقة للكون القابلة للتحقُّق التي تحوي كائنات فاعلة ذكية مثلنا. اقترح علماء الفيزياء الرياضية كِلا الاحتمالَين.

على أي حال، ما الذي يَدفعنا إلى أن نعتقد أن المكونات الأولية الأبسط يمكنها أن تمنحنا تفسيرًا كاملًا للمُكونات اللاحقة الأعقد؟ قد تكون تلك فكرة نابعة من الفيزياء الميكانيكية القديمة التي تَعتبر الزمن تتابُعًا خطيًّا مُطلقًا أحادي الاتجاه. ألا يُمكن أن نَعتبر أن الحالة الأحدث والأشمل لنظام، أو النظام بصفته الكلية، مُفسرًا للمُكونات البسيطة التي أنشأته؟ فالحالة الأشمل ستتضمَّن وصفًا لجميع الحالات الممكنة، وتحديدًا للحالات المُتحقِّقة منها بِناءً على قيمتها (باعتبار «القيمة» مفهومًا يمكن أن يُملأ بطرق عدة). بهذا لا تكون قوانين الطبيعة مبادئ للتفاعُل اعتباطية بالكامل. بل تكون مبادئ ضرورية لإنتاج كون متَّسق ومعقَّد ومُنظَّم ومُتكامل ذي قيمة فريدة لا يمكن اختزالها.

حينئذٍ سيُمكننا أن نتحدَّث عن المبدأ الأسمى للمعلومات في الكون باعتباره مجموعة الحالات الأكثر فاعلية والأثرى رياضيًّا في الفراغ المنطقي، والتي يُمكن أن تنتج كونًا فيزيائيًّا قيمًا بحد ذاته. وستُوفِّر مجموعة الحالات الممكنة رياضيًّا (وهي مجموعة موجودة بالضرورة ولا يمكن أن تُوجد أو تختفي) إلى جانب معيار تقييم انتقائي (وهو عبارة عن قاعدة لترتيب تلك الحالات) الشَّفرة المعلوماتية اللازمة لبناء كون فعلي.

إن هذا المعنى للمعلومات سيكون مختلفًا اختلافًا مهمًّا عن المعنى الذي يكون فيه الحمض النووي، على سبيل المثال، شفرة لتكوين الأجسام. هذا يَعني أنها ستكون سابقة لجميع العمليات الفيزيائية التطورية أو غير التطوُّرية، لا ناتجة عنها. ولن تكون جزءًا من النظام الفيزيائي الذي يعدُّ وعاءً حاملًا للمعلومات وناقلًا لها. إنما ستكون مُناظرة للمعلومات «التكوينية»، من حيث أنها ستتضمَّن أنماط جميع التركيبات الفيزيائية المُمكنة، ومعيارًا للاختيار من بين تلك الأنماط الممكنة.

إذا بحَثنا عن نموذج لحامل المعلومات غير الفيزيائي، الذي يحوي أنماطًا للموجودات المُمكنة، بالإضافة إلى قواعد لترتيب تلك الأنماط من حيث القيمة، يَتبادر إلى ذهننا، أو على الأقل ذهن أي فيلسوف، «عالم المُثُل» الأفلاطوني. ذلك العالم بالضبط هو عالم النماذج الأصلية الذي تُشارك فيه الظواهر الموجودة في الكون الفيزيائي بصورة جزئية غير مثالية.

في بعض العلوم الحديثة، يبدو ذلك النموذج الأفلاطوني جذابًا بالنِّسبة إلى علماء الرياضيات؛ فعلى سبيل المثال، قال روجر بينروز إن العالَم الأفلاطوني بالنسبة إليه أكثر واقعية من العالَم الفيزيائي. إذ يُوجد به وضوح وثبات وحتمية رياضية يفتقر إليها العالم الفيزيائي المُلاحظ. كتب بينروز يقول: «بالنسبة إليَّ، عالم المُثُل هو الأساس … ووجوده يكاد يكون ضرورة منطقية؛ بينما … عالم الإدراكات الحسية الواعية وعالم الواقع الفيزيائي هما ظلاه» (بينروز، ١٩٩٤، صفحة ٤١٧).

وجد أفلاطون صعوبة في ربط عالم المُثُل (الحالات المُمكنة في فضاء الحالة) بقوة دينامية لديها القدرة على تجسيده فيزيائيًّا على أرض الواقع. في مُحاورة «طِماوس» لأفلاطون، يستخدم الديميورج، أو مهندس العالم، المُثُل باعتبارها نماذج لبناء كون، لكنه يَبدو مُنفصلًا إلى حد مستغرب عن المُثُل نفسها (أفلاطون، ١٩٦٥، ٢٩د–٣٠د). في التراث المسيحي، كان أوغسطينوس هو من صاغ الفرضية الأنيقة القائلة بأن المُثُل موجودة فعليًّا في عقل الإله، وهي مُكوِّنات ضرورية للوجود الإلهي، الذي كان هو الأساس الفعلي الذي بنى عليه واقعيتها التي لم تكن لتوجد لولاه.٣

(٢) صور الوعي

يدفعنا طرح فكرة العقل أو الوعي باعتباره حاملًا للإمكانات إلى تجاوز المنظور الذي يعتبر قوانين المستويات الأعلى بدائل مختَزلَة لمجموعات مُفصَّلة بشدة من قوانين المستويات الأدنى، وكذلك إلى تجاوز المنظور الذي يعتبرها مبادئ جديدة للتفاعل بين الأنظمة المعقَّدة، فيما تظلُّ الطبيعة الأساسية لعناصر تلك الأنظمة على حالها لا تتبدَّل. ولعلنا يجب أن نطرح مفهوم الوعي باعتباره نوعًا فريدًا من الموجودات.

الوعي ليس مجرَّد صورة جديدة للعلاقة بين أنظمة فيزيائية معقَّدة. فالإدراك والفهم والفعل الذكي، الذي يهدف إلى تحقيق هدف مُتخيَّل لكنه غير موجود بعد، هي ليست من خواص الكيانات القابلة للقياس فيزيائيًّا، بل لنوع فريد وغير مادي من الواقع.

إذا اعتبرنا الوعي نوعًا فريدًا من الموجودات، فإن ذلك ينقلنا إلى الاستخدام الثالث لمصطلح «المعلومات»؛ استخدامه بمفهومه الدلالي، وهو حين يُخبر عنصر مادي ما (علامة مكتوبة أو صوت) وعيًّا قادرًا على فهمه بمعلومات عن شيء ليس موجودًا في ذاته. تتضمَّن تلك العملية ثلاثة مكونات؛ العنصر المادي، والشخص الذي يفهم أنها تُشير إلى أو تعني ضرورة القيام بعملية ما، والشيء المعني، أو العملية (في المنطق والرياضيات مثلًا) التي يُوجِّه العنصر المادي الشخص إلى أدائها.

تعمل الحواسيب الرقمية بطريقة مُتوافقة مع النوع الثاني من المعلومات. فالحاسوب مبني بحيث يُمثل جزءًا من مكوناته المادية تعليمات أو شفرة لأداء العمليات؛ أي إنه تُوجد فيه عناصر مادية ذات وظيفة. لكن لا يُوجد من يفهم التعليمات؛ فهي تعمل تلقائيًّا. بالطبع، صُمِّمَت شفرات الحاسوب عن قصد بدقة، بحيث تُستخدَم لتحقيق أغراض محدَّدة، ونتائجها التي تظهر على الشاشة يُمكن لشخص أن يفهمها. تلك هي الغاية الأساسية للحواسيب. هي مُصمَّمة لمساعدة الأشخاص على فهم الأشياء، وهي لا تكون مخبرة بمعلومات إلا إذا كان ثمة شخص يفهم ما أنتجته.

دون فعل الفهم، لا وجود للمعلومات. إنما ما يُوجد هو الركيزة المادية التي تخزن المعلومات؛ لكن ذلك الأساس المادي يحتاج إلى أن يُفسَّر بواسطة فعل الفهم الذي يحدث في العقل كي يصير معلومات.

لهذا السبب لا تعدُّ «المعلومات» التي يَحملها الحمض النووي معلومات بالمعنى الدلالي. فالشفرة تُوفِّر برنامجًا لتكوين كائن حي، لكنَّها شفرة لم يُصمِّمها شخص وليس ثمة وعي لازم لفهم البرنامج وتطبيقه. إنما هو برنامج وضعَتْه عملية التطوُّر العادية، ومثل برنامج الحاسوب، هو يعمل دون الحاجة إلى تفسيرٍ واعٍ.

لكن قد يُوجد تفسير كلي لعملية التطور إجمالًا ولأنواع الكائنات الحية التي تُكوِّنها شفرات الحِمض النووي. إذا كنا نَنشُد إيجاد نظام كلي تحدُث في إطاره طفرات «عشوائية» وانتخاب طبيعي لأنواع مُعيَّنة من الكائنات؛ فقد نجد أن النظام البيئي نفسه وتاريخه يحمل وصفة لتوليد المزيد من الأنظمة الفيزيائية الأعقد وللتطوير التدريجي لكائنات قادرة على الإدراك الواعي والاستجابة الإبداعية. من ضمن العلماء الذين يرَون المكونات الفيزيائية الأساسية للعملية التطورية عاملًا مؤثرًا في التطور الحتمي فعليًّا للحياة الواعية والمستجيبة بول ديفيز وسايمون كونواي موريس (كونواي موريس، ٢٠٠٣؛ بول ديفيز، ١٩٩٢).

توليد نظام فيزيائي شفرات معلوماتية لتكوين كائنات مُعقَّدة متكاملة لهو أمر مذهل. لكن تلك الحقيقة في حدِّ ذاتها لا تستلزم وجود أي مُصمِّم ذكي خارجي. الأكثر إذهالًا من ذلك هو أن تلك الكائنات نفسها تُولِّد نوعًا جديدًا من المعلومات — المعلومات الدلالية — تنطوي على وعي وتفسير وقصد وفهم.

في رأيي، أشياء مثل الفهم والقصد الواعي وما شابههما لها حالة وجودية حقيقية. فهي صور فريدة من الواقع لا يمكن اختزالها. وهي أنواع من «المادة» غير قابلة للاختزال إلى خواص العناصر الفيزيائية مثل الإلكترونات. مع ذلك فقد خرجَت إلى الوجود نتيجة عملية تطور استمرت لمليارات السنوات بدأت من عناصر فيزيائية بسيطة.

إذا أردنا ألا نستسلم ونتخلى عن جميع محاولاتنا لتفسير الوعي، وندعي أنه مجرد نتيجة ثانوية للعملية التطورية، فلا بد أن نبحث عن نوع مختلف من التفسيرات: نوع يلقى رفضًا واسعًا من علماء الأحياء المعاصرين بطبيعة الحال، لكنه ما ينفكُّ يفرض نفسه علينا. وهذا هو التفسير الكوني الكلي، الذي يُفسر تطور أجزائه مُساهمتها في وجود الكل المتكامل.

إذا ما تأمَّلنا تلك الاعتبارات معًا، نجد أنها تُشير إلى فكرة الوعي الأساسي السابق لجميع صور الواقع الفيزيائي، الذي يَحتوي على المعلومات «المشفَّرة» اللازمة لإنشاء أي كون مُمكن، والقادر على إدراك وتقدير أي كون فيزيائي موجود. سيكون وجود مثل ذلك الوعي سببًا قويًّا لخلق كون يُمكن أن يحوي عددًا مُتناهيًا من الكيانات الواعية القادرة على مشاركته في تقدير أو حتى خلق بعضٍ مِن القيَم الفريدة المُمكنة في بنية الكون الأساسية؛ إذ سيزيد ذلك الخلق من العدد الإجمالي لأنواع القيم الموجودة.

وَصفُ ذلك الوعي الأساسي بأنه «إله» من عدمه هو أمر راجع جزئيًّا إلى التفضيل الشخصي. البعض يرى فِكرة الإله تشخيصية وبدائية وعاطفية للغاية للحد الذي يجعلها بلا جدوى. لكن إذا افترَضْنا مفهوم القيمة، باعتبارها سببًا في تحقيق بعض الحالات الممكنة منطقيًّا دون غيرها، نجد أنها تستلزم مفهوم الوعي. فالوعي هو الذي يُدرك القيمة ويُقدِّرها. فقط وعي ذكي يُمكن أن يكون لديه غاية من تحقيق بعض الحالات، وستكون تلك الغاية هي تحقيق وتقدير قيمة مُمكنة غير مُتحقِّقة بعد.

الوعي باعتباره نوعًا من الموجودات الحقيقية التي لا تتكوَّن من عناصر فيزيائية بحتة، لطالما كان مشكلة صعبة بالنسبة إلى المذهب المادي الكلاسيكي، وجرت محاولات غير منطقية لنفي وجوده من الأساس. لكن فيزياء الكم تُشكِّك في ذلك الإنكار. حين تتحدَّث فيزياء الكم عن تقلُّص دالة موجية عند إجراء رصد أو ملاحظة، فإنَّ بعض علماء فيزياء الكم يرون أن الوعي يتدخَّل تدخلًا جوهريًّا في تحقيق الإمكانات؛ وقد عبَّر جون ويلر عن ذلك إذ قال: «الظاهرة لا تحدث حقيقة، ولا تكون ظاهرة، إلا حين تُصبح ظاهرة مرصودة» (١٩٧٨، صفحة ١٤).

إذن يرى بعض علماء الفيزياء (والذين تطول قائمة أسمائهم التي تتضمَّن جون ويلر، وهنري ستاب، ويوجين فيجنر، وجون فون نيومان، وبرنار ديسبانيا) أن الوعي يتدخَّل في إيجاد الطبيعة الفيزيائية كما تبدو لنا. الوعي في صورته التي نعرفها قادر على الإلمام بجميع الإمكانات وكذلك على إدراك المتحقِّقات، وتحقيق الإمكانات بِناءً على سبب معين. ومن ثَم، فاعتبار أن العالم الفِعلي مُتأصِّل في وعيٍ مُلمٍّ بجميع الحالات الممكنة وقادر على تحقيق بعض تلك الحالات لسببٍ مُرتبِط بتقييمه لها يعدُّ فرضية مُتوافقة مع العديد من تفسيرات فيزياء الكم.

قد يكون ذلك السبب هو أن مجموعة واحدة فقط من الحالات غير المُتنافية هي التي تُؤدِّي إلى خلق كون معقَّد ومُثير وباقٍ — وهي فرضية لايبنتس (لايبنتس، ١٧١٤، الصفحات ٥٣–٥٥) — أو قد يكون السبب هو أنه يُمكن أن يتحقَّق أي كون تُوجد فيه مجموعة فريدة من الحالات ذات القيمة، التي تَطغي فيها القيم الموجَبة على القيم السالبة، وتُعوَّض فيها القيم السالبة على نحو مقبول إجمالًا بالنسبة إلى من يَختبرونها؛ وتلك هي فرضية توما الأكويني (توما الأكويني، ١٢٦٥–١٢٧٤، ١أ، المسألة ٢٥، المقال ٦).

فكرة التفسير الكُلي هي فكرة تفسير أجزاء كلٍّ في ضوء ذلك الكل نفسِه في أكمل صورة متحقِّقة له. ما يُدعى في بعض الأحيان «المعلومات التشكيلية» هي خاصية في بعض الكيانات المادية تُمكِّنها من تخزين ونقلِ المعلومات بمعناها غير الدلالي بوصفها مجموعة مرتبة من الأسباب الفيزيائية المسبِّبة لأنظمة أعقد وأكثر تكامُلًا.

إذا وجِد تفسير كُلي للكون، فسوف يُفسر أبسط قوانينِه وعناصره باعتبارها شروطًا مبدئية لتحقق أكمل حالاته وأعقدها. لا شكَّ أن الدماغ البشَري هو أعقد الحالات الفيزيائية التي نَعرفها حتى الآن. يتولَّد الوعي والفاعلية الذكية عن طريق الجهاز العصَبي المركزي والدماغ في الإنسان العاقل؛ وبالطبع قد توجد تطوُّرات أخرى في المعرفة والقُدرة لم تتحقق بعد في أشكالٍ أخرى من الكائنات، سواء كانت ناتجة طبيعيًّا أو اصطناعيًّا. ومثلَما يُمكن اعتبار الحمض النووي شفرةً معلوماتية لتكوين الكائنات الحية، يُمكن اعتبار قوانين الفيزياء الأساسية — القوانين التي تحكم تفاعُل الأنظمة الفيزيائية المعقَّدة والبسيطة — شفرات معلوماتية لتكوين مُجتمعات من الكيانات الفاعلة الواعية الذكية من عناصر فيزيائية أبسط.

(٣) المبدأ المعلوماتي الأسمى

لكن قوانين الفيزياء لم تتطوَّر عن طريق التطفُّر والانتخاب مثل الحِمض النووي، كما أنها ليسَت مُتجسِّدة في عناصر كيميائية أو فيزيائية. حتى أمثال لي سمولين ممَّن يتحدَّثون عن «تطور» القوانين الفيزيائية، مُضطرُّون إلى افتراض وجود مجموعة أولية من القوانين التي يُمكن أن يستند إليها ذلك التطور. من الناحية المنطقية، لا يُمكن أن تكون القوانين التي تحتكم إليها العلاقات بين الكيانات الفيزيائية قد تولَّدت من العلاقات بين تلك الكيانات. يجب على الأقل اعتبار مجموعة أساسية من القوانين أوَّلية ومُكوِّنة للواقع، لا مُنبثقة منه.

ما أقترحه هو أن تلك القوانين الأساسية لا يُمكن فهمها فهمًا كاملًا إلا حين تُعتبر شروطًا مبدئية لتطور الوعي والذكاء من العناصر الفيزيائية البسيطة (وفي الواقع ذلك ما يَقترحه العديد من علماء اللاهوت والفلاسفة الكلاسيكيون، وهو اقتراح تُؤيِّده جوانب كثيرة في الفيزياء الحديثة عوضًا عن أن تَدحضه).

لكن يتعيَّن أن ننظر إلى ذلك الذكاء الواعي باعتباره عاملًا سببيًّا أساسيًّا في نشأة تلك العناصر الفيزيائية البسيطة وتكوين طبيعتها. استنادًا إلى فرضية جون ويلر بعد إجراء تعديل بسيط عليها، فإن الظواهر التوليدية البسيطة في الكون ما كانت لتُوجد ربما دون وعي ألمَّ بها وقيَمِها وحقَّقها عن قصد.

يرى بعض علماء الفيزياء، أعتقد أن منهم جون ويلر، أن الحالة الواعية المُكتمِلة للكون نفسها هي عامل سببي في نشأتها الفيزيائية. الكون يُولد ذكاءً كونيًّا يُصبح سببًا في العمليات التي أنشأته هو نفسه. لكن ما تُشير إليه فعلًا تلك الفرضية المُتناقضة هو وجود وعي مُتجاوز لحُدود الزمن قادر على إنشاء الكون باعتباره شرطًا لازمًا لإيجاد أنواع الوعي التي يُولدها الكون على مدى الزمن وداخل حدودِه.

يوجد اعتراض على أنه لا يُمكن أن يوجد وعي دون أي صورة من صور التجسُّد المادي، لكن ذلك الاعتراض يبدو مستندًا على قصور الخيال البشَري ليس إلا. صحيح أن جميع أنواع الوعي تستلزم موضوعًا؛ فوعينا دائمًا ما يكون مُتعلقًا بشيء ما. لكن يُمكن أن يوجد العديد من الأنواع المُختلفة من موضوعات الوعي. الوعي البشَري مُتجسِّد تجسُّدًا تامًّا على أكمل صورة، وموضوعاته في العادة تكون ماديةً أو على الأقل حسِّية. لكن يعقل أن نتصور، بل حتى نختبر بدرجة ما، تعلُّق الوعي بموضوعات غير مادية مثل الحقائق الرياضية والاحتمالات المنطقية غير المتحقَّقة. موضوع الوعي الكوني الذي نتصوره هنا هو المجموعة التي تضمُّ جميع الأكوان المُمكنة؛ ومن ثَم لا يُمكن أن يكون جزءًا من أيٍّ من تلك الأكوان (قد يتَّخذ صورة مُتجسِّدة في بعض الأكوان، ويعتقد المسيحيون أنه مُتجسِّد، لكن يلزم أيضًا أن يتجاوَز هذا التجسد كي توجد تلك الأكوان من الأساس).

من هذا الجانب، وهو غير مُستغرب، لا يُشبه الوعي الكوني على الإطلاق أيَّ وعي مُتجسِّد. إذ يُعد واقعًا أنطولوجيًّا أساسيًّا، بل هو الواقع الأنطولوجي الأساسي الوحيد، الذي انبثَقَت منه جميع الأكوان. ذلك الوعي هو المُحيط بجميع الحالات المُمكنة والمحقِّق لبعضها، بغرض الإدراك والتقدير الواعي لبعض القِيَم. وذلك الوعي هو المبدأ أو المصدر المعلوماتي الأسمى الذي تنشأ منه الأكوان.

ثمة اعتراض آخر كان ريتشارد دوكينز هو أكثر المروجين له في الآونة الأخيرة (دوكينز، ٢٠٠٦)، وهو القائل بأن الوعي الكوني شيء معقَّد إلى درجة لا ترجح وجوده. على حد قوله إن وجود الأشياء البسيطة أرجح من وجود الأشياء المعقَّدة؛ ومن ثَم فإن اللجوء إلى فكرة وعيٍ كوني يُعدُّ مُحاولة تفسير شيء احتمال وجوده غير مُرجَّح بشيء أقل منه رجحانًا، وذلك أبعد ما يكون عن التفسير.

هنا وقع خطأ في استعمال فكرة الاحتمال. فافتراض أن احتمال وجود الأشياء البسيطة أرجح من وجود الأشياء المعقَّدة افتراض خاطئ؛ إذ يفوق عدد الحالات المعقَّدة المُمكنة عدد الحالات البسيطة المُمكنة إلى حدٍّ لا مُتناهٍ؛ ومن ثَم فإن الأَولى اعتبار وجود حالة معقَّدة أرجح من وجود حالة بسيطة. كما أن الاحتمال لا يكون مفيدًا حين نُحاول بحث إمكانية أن يوجد شيء ما. فاعتبارات الاحتمال وحدها لا يُمكن أن تُخبرنا بما يُرجح أن يوجد من بين جميع الحالات الممكنة.

(٤) الجمع بين التفسيرين النومولوجي والقيمي

يَعتقد البعض أن وجود شيء ما حقيقة عمياء مُطلقة لا يُمكن تفسيرها. لكن يوجد نوعان عامَّان من التفسير مقبولان على نطاق واسع، وإذا جمعنا بينهما نجد أنهما يُقدِّمان تفسيرًا لوجود الكون.

أحدهما التفسير النومولوجي الذي يُستخدَم بصفة عامة في العلوم الطبيعية، وهو يُرجِع ضرورة وجود حالة فيزيائية مُتطورة ما إلى قانون عام وحالة أولية. والثاني هو التفسير القِيَمي الذي يُستخدم في العلوم الإنسانية وفي الحياة البشرية بصفة عامة، والذي يُفسِّر بعض الحالات بوجود دوافع أو أسباب لها («فعلتُ «س» كي أحصل على «ص»»).

التفسير النومولوجي يَقف عاجزًا أمام تفسير السبب الذي يجعل قوانين الطبيعة على صورتها تلك في المطلق. توجد رغبة لدى العديد من علماء الفيزياء في اعتبار أن ثمة جانبًا ضروريًّا ما في قوانين الطبيعة، لنفي احتمال أن تكون على غير صورتها تلك واحتمال ألا توجد من الأساس. لكن تُرى أيَّ جانب هو؟ أحد الاقتراحات الممكنة هو أنها يُمكن أن تكون ضرورية من جانب أنها شروط (لازمة) لتحقُّق مجموعة محددة من القيم (أهداف منطقية للفعل). تلك القيم بدورها ستكون في صورتها تلك بالضرورة إذا وُجدت مجموعة كاملة من الحالات الممكنة التي يُمكن ترتيبها من حيث القيمة. إذن إذا فكَّرنا في مجموعة تضمُّ جميع الحالات التي يُمكن أن توجد، والقيمة التي تحملها كل منها بالضرورة، فسيكون هناك سبب جوهري لوجود أي كون؛ ألا وهو الخير الذي سيتمثَّل فيه.

الجمع بين التفسيرَين النومولوجي والقِيَمي، الضرورة والقيمة، يُشير إلى فكرة المجموعة الكاملة من الحالات المُمكنة، وهي مجموعة ستكون ضرورية من جانب أنه لا يُوجد لها بديل مُمكن. جميع تلك الحالات ستكون بالضرورة على درجة ما مِن الخيرية. وبعضها سيكون بالضرورة سلبيًّا؛ أي إنه سيكون شرًّا أو ذا قيمة سالبة. قد يحُول تركيب جميع الأكوان المتَّسقة التي يُمكن أن تتحقَّق دون اجتزاز جميع الشرور بجميع أشكالها منها تمامًا. لكن بعض الحالات ستكون على درجة أعلى من القيمة من غيرها، أو ربما تُوجد أنواع مُختلفة من القيم التي لا يمكن المقارنة بينها والتي تَستحق أن توجد. ومن ثَم سيكون ثمة سبب جوهري لاختيار تلك الحالات كي توجد.

هنا نحن نَتناول مستوًى عاليًا من التجريد، لكن النقطة الأساسية التي أقصدها يمكن بيانها ببساطة. إذا لم يكن ثمة سبب نهائي لوجود أيِّ شيء، إذن فليس صحيحًا أن يكون وجود البسيط أرجح من المعقَّد. لكن إن كان يُوجد سبب نهائي، فسيتعيَّن أن يكون ذلك السبب مستندًا إلى خيرية أو قيمة حالات مُمكنة مُعيَّنة هي على صورتها تلك بالضرورة.

تلك فكرة أفلاطونية في الأساس، ويُقصَد أن تكون كذلك، كان من بين مَن أعادُوا إحياءها في السنوات الأخيرة جون ليزلي وروجر بينروز (ليزلي، ١٩٨٩؛ بينروز، ١٩٩٤). اقترحتُ، مُتبعًا رأي أوغسطينوس، أن العقل أو الوعي مُتدخِّل بدرجةٍ ما في ذلك السبب النهائي؛ لأنَّ العقل هو الذي يُخزن الإمكانات بطريقة غير فيزيائية، وهو القادر على التصرُّف بِناءً على سبب. ما أودُّ أن أَخلُص إليه هو أن العقل مُكوِّن أساسي للواقع المطلق النهائي، ووجوده سابق بالضرورة لجميع الكيانات الفيزيائية. فتلك الكيانات هي إمكانات مُتحقِّقة يُلمُّ بها عقل كوني، وهو الموجود أو المُتحقِّق الوحيد الذي يستحيل أن يكون مخلوقًا أو أن ينعدم أو أن يكون على غير صورته، فهو شرطٌ لوجود جميع المُمكنات أيًّا كانت. الوعي الكوني هو الشرط اللازم لوجود كلِّ الإمكانات الموجودة (الموجودة بالضرورة)، وليس مجرَّد شيء بالغ التعقيد وُجِد صدفة.

من الواضح أن أيَّ رأي «أفلاطوني» شبيه لا يُمكن أن يقبل فكرة ضرورة التجسُّد المادي للمعلومات؛ حيث إنَّ الإله، باعتباره المصدر الأول للمعلومات، لا يُمكن أن يكون له وجود مادي. لكن ذلك لا يَنفي إمكان أن يكون الوعي البشري مُتجسدًا ماديًّا، وليس ببساطة شيئًا ذا طبيعة مُغايرة تمامًا للعناصِر المادية، فهو يقَع على مقياس الأشياء المُنبثِقة الذي تُوجد فيه كيانات مادية غير واعية.

(٥) الوعي البشري المُتجسِّد

الوعي البشَريُّ موجَّه إلى ما يُمكن إدراكه بالحواس، وهو مُتجسِّد في عالم مادي يوفر مصادر معلوماته ومساحةً لاستجاباته الذكية. المعلومات البشرية كذلك يجب تخزينها في صورة مادية، في اللغة وفي مَواضِع مادية في الدماغ. فهي ليسَت شيئًا عقليًّا بحتًا أو غير مُتجسِّد.

لكن العناصر المادية في ذاتها لا تُخبر بأيِّ معلومات؛ بل هي حاملة للمعلومات، ودونها لن تُحمَل أي معلومات. لكن الشيء المادي يحتاج إلى شخص يُفسر العملية أو الشيء الذي يشير إليه. الوعي يحتاج إلى عناصر مادية يعمل من خلالها. فهو يستخدم تلك العناصر لغرضَين؛ لإنشاء نظام تخزين معلوماتي منظَّم، ولتنفيذ الأفعال الناتجة عن الفهم العقلي.

لهذا السبب، لا يُعدُّ ما يُسمى عادةً بغير دقة الثنائية الديكارتية، تفسيرًا وافيًا للوعي. إذ يعكس انطباعًا بوجود عالمين متوازيين وهما عالم الأفكار الصرفة غير المنطوقة الموجود في العقل، وعالم الكلمات والعناصر المادية الذي يُعدُّ بطريقة ما «صورة» أو نسخة مادية من تلك الأفكار؛ فهو لا يَعتبر العقل فقط مرآة للعالم الطبيعي، وإنما يَعتبر أيضًا اللغة البشرية مرآة لعلاقات غير مادية تمامًا بين الأفكار الموجودة في صورتها المكتملة بالفعل في العقل.

فكرة «العالمَين المُتوازيَين» التي تعكسها ثنائية العقل والجسد تتجاهل أن العقل يحتاج بالضرورة إلى العناصر المادية والبيانات الحسية، كما تتجاهَل وجود عقل واعٍ لازم كي تعدَّ تلك العناصر المادية معلومات بوجه صحيح؛ أي كي تعدَّ عناصر تشير إلى شيء غير ذاتها، أو تكون «ذات معنى» حين تُفسر في إطار فهم ملم بالقواعد المجتمعية والسياق التاريخي.

اللغات البشرية وسائط لنقل المعلومات الدلالية. وهي ليسَت مجرَّد انعكاسات لعالم ما من الأفكار الخالصة يَلِجه البشر تلقائيًّا. بل هي تختلف حسب الثقافة، وتتمايز في تطورها تاريخيًّا عن طريق الاستخدام والممارسة. تتعلم العقول البشرية بعض تلك اللغات، وهي تحكم بدرجة كبيرة طريقة تفكيرها وما تفكر فيه. لكن «الفهم» هو قدرة فريدة يمكن من خلالها تعلم لغة وتطويرها، واستخدامها استخدامًا إبداعيًّا، وتقدير ثمار ذلك الإبداع.

لدى الإنسان ثلاث قُدرات يمتاز بها عن سائر الكائنات الحية الموجودة على الأرض على حد علمنا؛ القُدرة على الإحساس بالمعلومات التي يتلقَّاها وتقديرها، والقدرة على الاستجابة الإبداعية لتلك المعلومات، والقدرة على تطوير هاتَين القُدرتين من خلال التفاعل مع أشخاص آخرين في سياقات تاريخية محدَّدة. يستقبل البشر المعلومات ويفسرونها وينقلونها بطريقة دلالية بالكامل.

لكن البشر موجودون في مقياسٍ بدايته العناصر الفيزيائية ذات القدرة الأبسط بكثير على الاستجابة لمُحفِّزات بيئاتها التي تحتوي على عناصر أخرى. يُعد الانتباه إلى المحفزات، والاستجابة لها، التي غالبًا ما تكون تلقائية إلى حدٍّ كبير، وشكل التفاعُل مع العناصر الأخرى، صورًا أولية لما يَصير لدى البشر إدراكًا واعيًا واستجابة إبداعية وعلاقات شخصية مع الآخرين.

نظرًا لوجود ذلك المقياس، فإنَّ بوسعنا أن نستخدم مصطلح «المعلومات» على مستويات مختلفة. فحتى أبسط العناصر الفيزيائية قادر على «الانتباه إلى المعلومات» الموجودة في بيئته، و«تفسيرها»، والتصرف بِناءً عليها؛ لكن بالطبع لا تتضمن أي من تلك القدرات البسيطة وعيًا أو إدراكًا. فليس فيها شيء إبداعيٌّ بحق، ولا يحدث فيها تطوُّر فريد بمرور الزمن، كما يحدث لدى البشر، وليس فيها معاني الرحلة الروحانية الداخلية ولا الأحداث التاريخية الجديدة غير المتوقعة.

كلما ازدادت الكائنات الحية تعقيدًا وتكاملًا، اتسعت لديها تلك القدرة البدائية على الانتباه للمُحفِّزات والاستجابة لها، وتزداد تنوعًا وفردانية. يبدو أنَّ الوعي خاصية منبثقة بصفة مستمرة مندمجة بقوة مع الأنظمة الحيوية إلى الحدِّ الذي قد يُبرِّر تسميتها جانبًا مُنبثقًا من نظام واحدي وطبيعاني، كما فعل آرثر بيكوك.٤ جدير بالذكر أن حتى ديكارت قال: «أنا لست موجودًا داخل جسدي كما الربان في سفينته، إنما أنا متَّحد معه ومُتمازج معه ومختلط به بدرجة حميمية تجعلنا، أنا وجسدي، نشكل كلًّا واحدًا إن جاز التعبير» (ديكارت، ١٦٣٧، صفحة ١٦١).

في وقتنا الحالي، تُوجد معارضة شديدة لديكارت إلى حدِّ أن بعض الكُتَّاب يغفلون عن أداة النفي «لست» في ذلك الاقتباس، وهو ما يُغير معناه تمامًا. فالعقل والجسد عند ديكارت «كل واحد»؛ ومن ثَم فإن من المفارقة أن المؤسس المزعوم لثنائية العقل والجسد يتبنى على ما يبدو شكلًا من أشكال الواحدية. لكنها واحدية ذات وجهين (يصفها الفيلسوف تشارلز تاليافيرو (١٩٩٤) باسم أدق وهو «الثنائية التكاملية»)، ويُمكن أن ينفصل أحد وجهيها عن الآخر، وإن كان الانفصال غير تامٍّ في حالة البشر. ومن ثَم فإنه من الممكن أن يوجد وعي من دون جسد — وهو حال الإله — ويمكن أن يوجد دماغ عامل دون وعي (وإن كنا نفترض أن ذلك لا يحدث عادة، أو لعله لا يحدث على الإطلاق).

التجسد المادي أكثر من مجرد إمكان بالنسبة للبشر. كما قال توما الأكويني: «إذا وُجِدَت الأرواح من دون الأجساد بعد الموت، فإنها تكون كذلك «على صورة مخالفة لطبيعتِها وناقصة»» (توما الأكويني، ١٢٦٥–١٢٧٤، ١، المسألة ٧٦، المقال ١). البشر هم عقول متجسِّدة تجسُّدًا كاملًا. لكن الوعي البشري يتجاوز عتبة مهمة ما إلى المعلومات الدلالية الكاملة، وهذا يشير إلى فكرة الواقع المطلق باعتباره وعيًا يحوي المعلومات اللازمة لخلق أي كون، باعتباره المبدأ المعلوماتي والأنطولوجي الأسمى.

يجب أن نضع في اعتبارنا أن ذلك الطرح كي يكون أكثر من مجرَّد نظرية مثيرة للاهتمام، فلا بد أن يكون له وقع ملموس على الخبرة. فالدين، رغم غموضه، يهدف في صورته الأمثل إلى الترويج للمُمارسات المهذبة للعقل التي من شأنها أن تربط البشر بالوعي الكوني الذي يعتبره رحيمًا ومُطلق الخيرية. من المهم أن نضع في اعتبارنا أن الدِّين ليس معتمدًا على نجاح نظرية تخمينية ما عن الكون. بل يعتمد على إحساس البشر بأنهم قادرون على إدراك واقع شخصي مُغاير لواقعهم وأفضل منه، يدعم مساعيهم إلى الخير ويحضُّهم عليها.

لكن ذلك الإحساس بإدراك وجود خيرية مُتعالية يجب أن يُدعَّم برؤية عامة للواقع متسقة ومقبولة عقلًا، تكون فكرة الخيرية المتعالية مركزها. ولأن رؤيتنا عن الواقع يجب أن تستند إلى المعرفة العلمية، فلا بدَّ أن يتعاون علماء اللاهوت مع العلم لصياغة نظريات تبرهن على أن الإيمان الديني منطقي ومقبول عقلًا.

ربما تكون المادية الكلاسيكية قد قضَت نحبَها، لكن المنظورات الطبيعانية للكون تظل سائدة، وأحد التحديات الكبرى بالنسبة إلى المفكِّرين الطبيعانيِّين هو تقديم تفسير ملائم للدور المميز الذي تلعبه المعلومات في فهمنا الحالي للعالَم المادي. لا أعتقد أن أي عالم نظري لديه حس بالمسئولية سيدَّعي أن هذا حاصل بالفعل. لكن في الآونة الأخيرة قُطِعَت فيه أشواط، ولا يوجد سبب قوي يدعونا للقول إننا متيقنون من استحالة ذلك نظريًّا.

ما أقترحه هو أن مُعظم استخدامات مصطلح «المعلومات» يَعتمد في أهميتها على كونه مُناظِرًا لمعنى «المعلومات الدلالية» الأساسي وقائمًا عليه منطقيًّا. وأنا أرى أن هذا لم يحدث عرضًا، فذلك هو المعنى الذي يُتيح للمرء تبنِّي منظور للكون باعتباره مبنيًّا على نمط معلوماتي يَحمله ويبثُّه عقل الإله. لا تعارُض أي من فرضيات نظرية المعلومات المعاصرة فرضية وجود الإله، بل إن بعضها يُؤيدها بقوة. ومن ثَم فإن ما أخلصُ إليه هو أن الواقع الأنطولوجي المُطلق هو قطعًا المعلومات، لكن تلك المعلومات محفوظة في صورتها النهائية في عقل الإله، وتلك الفرضية تقدم أحد أكثر التفسيرات اتساقًا ومعقولية لطبيعة الواقع المطلق المتاحة لنا في عصر العلم الحديث.

(٦) الاستنتاجات

تناولنا نوعَين من المعلومات: المعلومات «التشكيلية» والمعلومات الدلالية. النوع الأول من المعلومات هو شفرة لتكوين الأنظمة المعقَّدة المتكاملة، وأفضل طريقة لفهمه هي التفسير الكلي. وهو تفسير يُمكن أن يُعتبر إما «مختزلًا» للحالات المعقدة، أو متضمنًا لقوانين جديدة تحكم سلوك الأنظمة المعقدة المنبثقة. يسعى التفسير الكوني الكلي إلى تفسير أجزاء الكون في ضوء بنيتِه الكلية وتاريخه الكلي. وهذا يطرح فكرة مبدأ أو مصدر المعلومات الأسمى للكون؛ وهو المجموعة التي تشمل جميع الحالات المُمكنة في فضاء الحالة، وقاعدة لترتيبها من حيث قيمتها. من الناحية المنطقية، سيكون وجود ذلك المبدأ سابقًا لأيِّ حالة فيزيائية متحقِّقة ومختلفًا عنها أنطولوجيًّا.

النموذج الأفلاطوني–الأوغسطيني لذلك المبدأ هو «عالَم المُثُل»، وهو نظام معلوماتي أسمى يحمله وينقلُه عقلٌ كوني. ذلك معنى دلالي بالكامل للمعلومات، يَستلزم وعيًا يفهم البيانات ويُفسر دلالتها. ذلك الوعي الكوني هو ما يُسميه اللاهوت المسيحي التقليدي الإله، أو هو جزء منه.

يَعتبر بعض علماء فيزياء الكمِّ الوعيَ مُتدخلًا بشكل جوهري في تحقُّق أي ظاهرة قابلة للرصد. وفي فرضية اللاهوت، يوجد وعي كوني واحد متدخل بشكل جوهري في تحقق أي كون. وهو يحمل معلومات كاملة حول جميع الحالات الممكنة في فضاء الحالة، وهي حالات لها بالضرورة ترتيب تقييمي، ومن ثَم فإن ذلك الترتيب هو سبب ذاتي لوجود كون واحد فعلي أو أكثر. وذلك سيكون سببًا نهائيًّا أو مطلقًا لوجود كوننا.

يقع الوعي البشري على مقياس منبثق مع الكيانات البدائية ذات الاستجابات غير الواعية للمحفزات، وهو متجسِّد بطبيعته. وأفضل مصطلح لتوصيف العلاقة بين العقل والجسد في البشر هو الواحدية ذات الوجهين أو الثنائية التكاملية. والوعي البشري يحتاج لا محالة إلى محتوًى حسِّي ووسيلة مادية يعمل ويُعبر عن نفسه من خلالها. لكنه ليس النوع الوحيد من الوعي. مفهوم المعلومات الدلالية يُمكن توسيعه ليشمل فكرة الوعي الكوني غير المتجسد، الذي يحمل وينقل الشفرة المعلوماتية اللازمة لتكوين ذلك الكون وأي كون مُمكن آخر. وذلك هو عقل الإله.

المراجع

  • Aquinas, T. (1265–1274), Summa Theologiae, Latin text and English translations, vols 1–60, ed. Thomas Gilby (1964–1966), London and New York: Eyre & Spottiswoode and McGraw-Hill.
  • Augustine (c. 400–416), De Trinitate, trans. E. Hill (1991), New York: New City Press.
  • Conway Morris, S. (2003), Life’s Solution, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Davies, P. (1992), The Mind of God, New York: Simon and Schuster.
  • Dawkins, R. (2006), The God Delusion, London: Bantam Press.
  • Descartes, R. (1637), Discourse on Method, trans. A. Wollaston (1960), Harmondsworth: Penguin.
  • Leibniz, G. W. (1714), Monadology, In Discourse on Metaphysics and the Monadology, trans. G. R. Montgomery (1992), Buffalo, NY: Prometheus Books.
  • Leslie, J. (1989), Universes, London: Routledge.
  • Penrose, R. (1994), Shadows of the Mind, Oxford: Oxford University Press.
  • Plato (1965), Timaeus, trans. H. D. P. Lee, Harmondsworth: Penguin.
  • Polkinghorne, J. (2005), Exploring Reality, London: SPCK.
  • Puddefoot, J. C. (1991), Information and creation, In The Science and Theology of Information, eds C. Wassermann, R. Kirby and B. Rordorf. Geneva: Labor et Fides.
  • Taliaferro, C. (1994), Consciousness and the Mind of God, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Wheeler, J. A. (1978), The past and the delayed-choice double-slit experiment, In Mathematical Foundations of Quantum Theory, ed. A. R. Marlow, New York: Academic Press.
١  راجِعْ بودفوت (١٩٩١، الصفحات ٧–٢٥).
٢  راجِعْ بولكينجهورن (٢٠٠٥، صفحة ٣٠ والصفحات التالية).
٣  راجِعْ أوغسطينوس (١٩٩١، الكتاب الثامن، الفصل الثاني).
٤  راجِع الفصل الثاني عشر من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤