الفصل الرابع عشر

المعلومات واللاهوت والكون

جون إف هوت

المسألة الأهم في النقاش الدائر بين اللاهوت والعلم هي مسألة كيف يتصرَّف الإله في الكون أو يؤثر فيه. هنا سأبحث إن كان لمفهوم المعلومات أن يُساعد علماء اللاهوت على معالجة تلك المسألة. من المعروف جيدًا أن المنظورات الفلسفية واللاهوتية التقليدية تَفترض استنادًا إلى الحدس وجود مبدأ «معلوماتي» كوني يَسري في جميع الأشياء. الاعتقاد بأن «العقل» أو «الحكمة» أو «اللوجوس» مُتغلغِل في الكون ومُشكِّل لأنماطه على جميع المستويات هو اعتقاد ما ينفكُّ يتكرَّر بأشكال مختلفة: في الفلسفة الإغريقية القديمة، وفي أدبيات الحكمة في النصوص المقدَّسة العبرية، ولدى الفيلسوف فيلو، وفي المسيحية المبكرة، والفلسفة الرواقية وفلسفة هيجل ووايتهيد وغيرهم. لكن هل الافتراض الحدسي بأن الكون حامل لمعنى كلي — لمبدأ معلومات موجود بشكلٍ فاعل في صيرورة الكون بأكملها — معقول بأي درجة في عصر العلم؟

ففي كل الأحوال، في وقتنا الحالي لا بدَّ أن يتأنى المرء قبل أن يربط مفهوم اللوجوس اللاهوتي بالأنماط الطبيعية. الدافع الرئيسي لذلك التأني هو أن عمليات الحياة كما يراها علماء علم الأحياء التطوري لا تبدو تجسيدًا لأي مبدأ إلهي كَوني للمعنى أو الحكمة. بخلاف صورة النظام الكوني كما تصفُه الكثير من المنظورات الفكرية الدينية، ينطوي التطور على تجارب تبدو لا نهائية ﻟ «أشكال» مختلفة، أغلبها يُستبعَد ويحلُّ محله تلك الأشكال التي يُصادف ملاءمتها لمتطلبات الانتخاب الطبيعي. ذلك التوسع التجريبي لأشكال الحياة من خلال التطور الدارويني المُحايد، الذي لا يتكيف خلاله لمدة زمنية طويلة إلا قلة من تلك الأشكال، لا يَعكس على الإطلاق وجود أي حكمة إلهية وراءه. نشأة الحياة التلقائية، والعشوائية الظاهرة للتبايُن الجيني الذي يساعد على تفسير تنوُّع أشكال الحياة، وحوادث التاريخ الطبيعي التي تجعَل مسار قصة الحياة برمَّته غير متوقَّع، كل ذلك يجعل المرء يتساءل إلى أي مدًى يُمكن اعتبار العالم الطبيعي مستندًا إلى «غاية» فعلًا. التطور يشكك قطعًا في فكرة «التصميم» الإلهي. بل إنَّ الطبيعة تبدو، على الأقل ظاهريًّا، من صنع ما أسماه ريتشارد دوكينز (١٩٨٦) «صانع ساعات أعمى». إذن، كيف للاهوت أن يصوغ فكرة وجود إلهي يُسيِّر الطبيعة وَفق غاية أو معنًى بطريقة مُتماسكة في خضمِّ ذلك الحياد الأعمى والإمكانات غير ذات الأهداف التي تتجلَّى في الصورة الجديدة التي يرسمها العلم للطبيعة؟

(١) هل يُمكن أن نستخدم المعلومات باعتبارها تشبيهًا؟

في البداية، لا بد لذلك الطرح من الإقرار بأن الحديث اللاهوتي عن الفعل الإلهي قائم على لغة التشبيهات. فالأفكار اللاهوتية لا يُمكن ولا ينبغي ترجمتها إلى فرضيات علمية كما يحاول أن يفعل «علم الخلق» ونظرية التصميم الذكي. حين تحاول الفرضيات اللاهوتية محاكاة دقة العلوم في تحديد كيفية وقوع الفعل الإلهي — كأن تَفترض وقوعه على مستوى الأحداث الكمية غير المرئي — فإنها تُخاطر باعتبار المتعالي على الطبيعة جوهريًّا غير واجب الوجود. فكما يُصر عالم اللاهوت باول تيليش، لا يَستقيم الجمع بين اعتبار الإله مجرَّد واحد من أسباب العالم الطبيعي والحديث عنه باعتباره إلهًا بالشكل الملائم (تيليش، ١٩٦٧، صفحة ٢٣٨). إذن لا غِنى عن لغة المجاز في أيِّ محاولة لفهم الفعل الإلهي والتدبير الإلهي والحكمة الإلهية والغاية الإلهية. لكن ضرورة استخدام اللاهوت للتشبيهات ليسَت حقيقة تستدعي الاعتذار، وكأن الوضوح والدقَّة الكَمية أنسب منها. التشبيه (وكذلك التعبيرات الرمزية في المطلق) ضروريٌّ لحماية جوهر الإيمان واللاهوت من أن يُختزَل إلى شيء يُمكن تجسيده في صورة «أفكار واضحة ومحدَّدة». ولما كان الإيمان يعني أن تستسلم لأَسر ما يُعتبَر «الواقع المطلق» لا أن تُحيط به فهمًا، فإن لغته لا يُمكن أن تخلو من الغموض المصاحب لاستخدام الرمز والمجاز والتشبيه. وكلَّما ابتعد اللاهوت عن اللغة المجازية المُستلهَم منها في الأصل، ودنت تعبيراته من محاكاة النماذج التفسيرية للعلوم، انقطعت صلته بجوهره.١

وعلى الرغم من أن التشبيهات لا غِنى عنها في اللاهوت، فإن بعض التشبيهات أقل إيحاءً من غيرها. على سبيل المثال، ما تنفكُّ صورة الإله «المُصمِّم» تتزَعزَع لا سيَّما في منظور التفسيرات التطورية للحياة. فهل يُمكن إذن أن يكون استعمال مفهوم «المعلومات» أقل تضليلًا من مفهوم التصميم في التأملات اللاهوتية المتأنية بالضرورة حول كيفية عمل الفعل الإلهي في العالم الطبيعي؟

(٢) المعلومات وعدم الاحتمال

«المعلومات» بمفهومها الأوسع يمكن أن تَعني ما يَمنح الشيء شكله أو نظامه أو نمطه أو هويته، سواء كان ذلك الشيء إلكترونًا أو بلورة أو عقلًا بشريًّا أو حضارة أو نظامًا اقتصاديًّا. وهو مُشابه لمعنى العلة الصورية عند أرسطو. «الصورة» بمفهومها العام هي مبدأ تقييدي مُحدِّد للأشياء. و«الأشياء» لا يُمكن حتى أن تكون واقعية إلا إذا كان لها نمط أو صورة محددة. بالمقارنة، فإن فكرة «المعلومات» كما هي مُستخدمة في نظرية الاتصال تعني إزالة الإبهام أو عدم اليقين.٢ وكلما زاد مقدار عدم اليقين المُزال، زاد مقدار المعلومات. انطلاقًا من هذا المفهوم، سأبحث الإيحاء التشبيهي لفكرة المعلومات في السياق اللاهوتي. سوف أبحث ما إذا كان الكون الذي يَدعم التطور، رغم عدم تماشيه بدقَّة مع تشبيه التصميم، يمكن اعتباره من الناحية العقلية كونًا «معلوماتيًّا»؛ ومن ثَم متَّسقًا مع الوجود الإلهي الغائي. يصرُّ جون باوكر على أن المعلومات لا تَهيم على وجهها في أرجاء الكون دون غاية. بل لا بد من وجود «نظام» معلوماتي يَنقلُها ويُعالجها (باوكر، ١٩٨٨، الصفحات ٩–١٨، ١١٢–١٤٣). وأنا أودُّ أن أبحث مسألة ما إذا كان يُمكن اعتبار الكون نفسه في السياق اللاهوتي شبيهًا بنظام معلومات يبث «رسالة» ذات أهمية قصوى.٣

كل أنظمة المعلومات هي أنظمة محدودة، قادرة على التعامل مع قدرٍ مُتناهٍ فقط من المعلومات. من ثَم لا بد من الحرص عند تشفير رسالة على مراعاة النطاق الذي يسمح به الوسط. ونظرًا لوجود احتمال آخر وهو ضياع الرسالة أو حجبها نتيجة التشويش أو غيره من التدخلات، فلا بد من تشفير الرسالة على نحو يجعلها تصل رغم تأثيرات «الضوضاء» المشوشة. من ثَم فإن «التكرار» جانبٌ ضروري في معالجة البيانات (سايف، ٢٠٠٦، الصفحات ٥–٢٠). يُخفِّض التكرار كفاءة الاتصال وجودته، لكن ضمانه لنقل المعنى بدقة يُعوِّض ذلك التأخير. لكن التكرار المُفرط يمكن أن يُفقِد المعلومات ميزة كونها مُخبِرة بجديد إن جاز التعبير. إذ سيحُول دون انبثاق أي جديد. وعلى الجانب الآخر، إذا تجنَّبنا التكرار بالكلية، فقد تُفقَد الرسالة وسط الضوضاء.

كي تكون رسالة ما مُخبِرة بمعلومات، فلا بد من أن تحمل جديدًا. لا بد أن تتمايَز عن مجموعة مفترضة من الرسائل ذات المحتوى المُحتمَل. وفقًا لتشبيه المعلومات الذي استعمله هنا، فإن «مقدار» المعلومات الموجود في رسالة يَتناسب طرديًّا مع مدى عدم احتمال محتواها. فإذا كنت أتوقع أن تكون جميع الرسائل الواردة من مصدر مُعيَّن متماثلة، ووردت إحداها فإن مقدار ما تحمله من معلومات سيكون ضئيلًا أو مُنعدمًا لأني أعرف بالفعل ما سيرد فيها. هنا توجد مُعضلة؛ كلَّما كان مقدار ما تحمله الرسالة من معلومات أكبر، انخفضَت القُدرة على فهمها بسهولة، على الأقل من ناحية المعنى الذي تُوصِّله. إذا كان الأمر كذلك، فإن رسالةً تحمل أقصى قدر من المعلومات، إذا اعتبرنا أن ناقلها هو الكون المتناهي، ستكون مصاحبة لأقل قدرٍ من التكرار. سيكون ذلك شبيهًا بما يُسمِّيه علماء الكون التفرُّد؛ ومن ثَم سيَستعصي على العلم التقليدي دراسته؛ لأن المنهج العلمي الذي يُعنى في الأساس بإمكانية التوقع يكون أنسب استخدام له في مجال ما يُمكن توقعه لا ما لا يمكن توقعه أو التنبؤ به. من ثَم فإن صعوبة قراءة العلم التقليدي لرسالة ما يكون مكافئًا لدرجة عدم احتمالها؛ أي لقَدرِ ما تحمله من معلومات.٤
هذا يعني أن العلم غير مُؤهَّل لإطلاق أيِّ أحكام عن الواقعية المُفترضة لما هو مخبر بمعلومات متفرِّدة. وأنه يتعين على الوعي البشري أن يستعمل نهجًا إدراكيًّا آخر، غير عِلمي ربما، كي يصير قادرًا على استيعاب رسالة مُخبرة بأقصى قدر من المعلومات. تلك «الرسالة» ستكون خارج نطاق قُدرة الفهم العادية أو العلمية. فقد تكون ذات مُحتوًى جديد و«غير محتمل» إلى حدٍّ يتجاوز تمامًا قدرة الوعي المشيَّأ على الفهم. يُمكن أن يستحوذ علينا هو لكننا لا نستطيع الإحاطة به فهمًا.٥

إذا كان الكون ناقلًا معنًى دينيًّا موحًى به، فلن يتوافَق ذلك المعنى جيدًا مع أي طريقة فهم علمية قياسية. فقد يكون على درجة من عدم الاحتمال تجعل العلم يتجاهله بالكلية. فالعلم (على الأقل في صورته التقليدية) غير قادر على التعامل مع فردانية عدم الاحتمال، إنما يَسعى إلى اختزال غير المحتمل إلى المحتمل؛ ومن ثَم فإنه يستلزم تكرار العديد من الأمثلة لوقائع شبيهة كي يَصوغ منها القوانين والنظريات العامة. وأي معلومة عن الفعل الإلهي أو الغاية من الكون لن تظهر على شاشات مصمَّمة لاستقبال المتوقَّع والمحتمل فقط. ومن ثَم فإنه من المنطقي أن تكون المعلومات ذات الأهمية القصوى التي يحملها الكون مُتجاوزة للفهم العلمي بالكلية.

(٣) الضوضاء والتكرار والوحي الإلهي

دراسة اللاهوت لمسألة كيف للفعل الإلهي أن يتدخل في تشكُّل الكون، بما في ذلك تطور الحياة، من شأنها أن تُوسع مجال تشبيه المعلومات بالتمعن أكثر في فكرتي الضوضاء والتكرار المرتبطتين بقوة بمفهوم المعلومات في نظرية الاتصال. مفهوم «الضوضاء» على سبيل المثال يُشير إلى ما هو عارض أو طارئ أو الصدفة أو العشوائية. على مستوى الظواهر الحية، ترتبط الضوضاء بالعشوائية والجموح غير المُمنهَجَين اللذَين تتَّسم بهما عوارض الحياة والتاريخ الطبيعي التي ساقت على ما يبدو قصة الحياة في مسارات غير محدَّدة. منذ عصر داروين دفع حس الصدفة الذي يعكسه التطوُّر الادعاء اللاهوتي باحتمال وجود «تصميم» إلهي كوني للحياة في الكون.٦ لكنَّ القدر الكبير من الصدفة الموجود في التطور يُمكن أن يصير مفهومًا من الناحية اللاهوتية بمجرَّد تفسيره في ضوء كونٍ قائم على المعلومات. إذا كان الكون مناظرًا بوجه ما لنظام معلومات، فإنه سيَسمح لأحداثه التي في طَور التكشُّف بأن تجد سبيلها بين طرفَي نقيض الضوضاء والتكرار. من ثَم فإن وجود الصدفة في الكون، لا سيَّما في تطور الحياة، لن يستبعد فرضية أن مسار الأحداث الكونية يُمكن أن يتأثر، على مستوى عميق إلى حدِّ أنه يَستعصي على العلم اكتشافه، بفعلٍ إلهي خالق مُخبر. سيكون فهم الطبيعة الحقيقية لذلك المسار للأحداث مُستعصيًا على العلم، إلى حدِّ أنه لا يمكن مطابقته مطابقة تامَّة مع الأنواع الفعَّالة أو المادية من العلاقات السببية التي يُعنى العلم ببيانها رياضيًّا. مع ذلك يظلُّ مخبرًا لدرجة كبيرة؛ ومن ثَم موحيًا أو كاشفًا.

علاوة على هذا، إذا كانت العملية الكونية تَحمل في أعمق طياتها معنًى لاهوتيًّا مهمًّا، فإن تشبيه المعلومات يسمح بافتراض أن الوجود «المكرر» لعادات حتمية قابلة للتنبؤ (على سبيل المثال قوانين الفيزياء أو «آلية» الانتخاب الطبيعي) لا يَعزل الكون بالكلية عن تأثير الإله المخبر بمعلومات المُفتَرَض. في بعض الأحيان كانت الطبيعانية العِلمية الحديثة تفترض أن الطبيعة سلسلة مُغلَقة من الأسباب والنتائج المادية المحدِّدة فيزيائيًّا لا يُمكن أن يخرقها أي فعل أو وحي إلهيٍّ مُمكن. لهذا السبب رفض ألبرت أينشتاين فكرة عدم إمكان اشتمال أي دين حقيقي على الإيمان بإلهٍ شخصيٍّ مُتفاعل (أينشتاين، ١٩٥٤، صفحة ١١). لكن احتكام الطبيعة إلى قوانينها، إذا التزمنا تشبيه المعلومات، لا يستلزم ذلك المزعم المتطرف. فما يبدو في الطبيعة سلسلة من الأحداث الحتمية هو مجرَّد تجريد عقلي (رياضي) لجانب واحد فقط من عملية معلوماتية أكثر ثراءً تشقُّ طريقها بالمعنى الحرفي بين الضوضاء والتكرار الواقعين على طرفَي نقيض.

بعبارة أخرى، العالم الفِعلي مزيج من النظام والفوضى. الكون المطَّلع لكن غير المكتمل الذي أتحدث عنه هنا هو عملية تتضمَّن تنظيم الفوضى المهمة المتجددة دائمًا وإعادة تنظيمها. يُوجد فيه معنى أن جميع المعلومات هي تنظيم الفوضى. على سبيل المثال، في الجمل التي أسردُها الآن، فإن العشوائية النسبية لمجموعة مُفكَّكة على سبيل المجاز لأبجدية لغة ما هي المادة الخام التي يُركِّبها الكاتب في نمط معلوماتي محدد. هي سلسلة اعتباطية تمامًا من الحروف جعلتها الجمل والفقرات التي نظمتها فيها غير اعتباطية.

كي تُؤدِّي حروف أبجديةِ لغةٍ ما وظيفة وحدات معلوماتية ممكنة، لا بد أن تكون ذات طبيعة «ضوضائية». أي لا بدَّ من أن تكون الحروف قابلة مجازًا لأن ينفكَّ بعضها عن بعضٍ وتُوضَع في «وعاء خلط» يُمكن استدعاؤها منه حرفًا تلو الآخر، وتُوضع في تسلسل معلوماتي غير اعتباطي. أي اتصال يستعمل الشفرة وسطًا له يتَّسم جوهريًّا بسمة التوزيع العشوائي أو النزوع إلى الفوضى، وهي بمثابة الشرط اللازم لإعادة تجميع عناصر تلك الشفرة في أنماط معلوماتية جديدة. بعبارة أخرى، يجب أن تكون الشَّفرة قابلة للتفكيك كي يعاد تجميعها. لنَفترض على سبيل المثال أنَّ الأبجدية الإنجليزية محكومة حتميًّا بتسلسُل واحد لا يُمكن العدول عنه، بحيث يلزم أن يكون الحرف a متبوعًا دائمًا بالحرف b، والحرف b يجب أن يكون متبوعًا بالحرف c، والحرف c يجب أن يكون متبوعًا بالحرف d، وهلمَّ جرًّا. ستكون تلك الأبجدية كيانًا مُنظمًا، لكن محتواه المعلوماتي سيكون ضئيلًا للغاية. طالَما يستحيل تفكيك ذلك الكيان الجامد، يظلُّ من المستحيل إيصال معلومات مكتوبة. بعبارة أخرى، النظام — أو التصميم — المُفرط يحول دون انتقال المعلومات. وإذا كان الكون أو الحياة «مُصممًا»، فسيكون ذا هوية جامدة لا تتغير أبدًا. التصميم طريق مسدود. يحول جموده دون انبثاق أي استحداث. النظام المُطلَق سيكون مناقضًا لأي انبثاقٍ كونيٍّ حقيقي، لأن كل شيء سيَبقى ثابتًا على شكله الجامد.
تلك الحقيقة البديهية عن المعلومات مُثيرة للاهتمام على الأخص من الناحية اللاهوتية في وقتنا الحالي لأنَّ نفي علماء الطبيعة التطوريِّين المُعاصرين لوجود «الإله»، ورفض الخلقيِّين ومُتبنِّي حجة «التصميم الذكي» لنظرية التطوُّر، غالبًا ما يكون نتيجة مُلاحظة يشتركون فيها، وهي أن العالم التطوري لا يمتثَّل للمفاهيم البسيطة للتصميم والنظام. لا داعي هنا للخوض في نقاش مُفصَّل عن الخلقية والتصميم الذكي. فمن المعروف جيدًا أن مُعاداتهما للتطور تستند إلى افتراض أن العالم المليء بالعَوارض أو الصدف هو عالم عشوائي جدًّا إلى حدٍّ يجعله غير مُتوافِق مع فكرة وجود إله مُصمم. لكن تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الأفكار الإلحادية لعالم علم الأحياء التطوري الشهير ريتشارد دوكينز والعديد من العلماء في نفس المجال تستند إلى الافتراض نفسه؛ ألا وهو أن أيَّ إله جدير بذلك اللقب يجب أن يكون مصممًا بالمعنى المطابق لمفهوم المروِّجين لحُجة «التصميم الذكي» عن السبب النهائي للتعقيد في الكائنات الحية. يصرُّ دوكينز المهووس بفكرة التصميم العقيمة التي قُتلت بحثًا على أن أي تأكيد على وجود الإله يستلزم أن تبدو الكائنات الحية مُصمَّمة تصميمًا بحتًا. من ثَم فإن افتراضات دوكينز اللاهوتية مطابقة في جوهرها لافتراضات معارضيه من مُتبنِّي حجة «التصميم الذكي».٧
لكن التوجهات اللاهوتية المنطقية تخلت منذ زمن طويل عن التصور الساذج للإله الذي يعتبره «مصممًا» أو للفعل الإلهي باعتباره تصميمًا. على سبيل المثال، حتى قبل أن ينشر داروين كتابه «أصل الأنواع»، كان الكاردينال جون هنري نيومان يُصرُّ على أن نسخة بيلي من اللاهوت الطبيعي المستند على التصميم لا قيمة لها بالنسبة للاهوت. وكان مُصرًّا على أن اللاهوت المبني على التصميم «لا يستطيع إخبارنا بأي شيء عن المسيحية الحقة». فهو «لا يمكن على الإطلاق أن يكون مسيحيًّا بأي معنى حقيقي». ويستطرد نيومان قائلًا إن «نسخة اللاهوت الطبيعي التي يُروِّج لها بيلي إذا احتلَّت العقل فإنها تَقلبه ضد المسيحية».٨

أقترح أن اللاهوت الطبيعي سيكون من الأنسب له فهم التأثير الإلهي في سياق التدفُّق المعلوماتي بدلًا من التصميم، مع أن ذلك أيضًا سيكون تشبيهًا لا يُجسد الصورة الكاملة لمفهوم الحقيقة المُطلقة وَفق الخِبرة الدينية الفعلية. الفكرة من الاستعانة بتشبيه المعلومات من الأساس هي أنه يستوعب حقيقة وجود العوارض في الطبيعة. فهو لا يُصر على أن معقولية فكرة الإله تعتمد على وجود الكمال المنظم في العالم الطبيعي. على النقيض، يعتبر أنصار التصميم الذكي وكذلك دوكينز حقيقة أن الطبيعة والحياة زاخران بالطوارئ أو العوارض المناقضة للفعل الإلهي والغاية الكونية؛ ومن ثَم يَعتبرونها دليلًا مؤيدًا للإلحاد. لكن وجود إله «مجدِّد لكل شيء» يتوافق مع وجود العوارض بوفرة في التطور، على الأقل من الناحية المعلوماتية.

بالإضافة إلى هذا، فإن الطابع المعلوماتي للطبيعة يتماشى مع فكرة أن الطبيعة في جوهرها سردية. أحد توابع التطورات التي حدثت في الجيولوجيا وعلم الأحياء وعلم الفلك خلال القرنين الماضيَين هو أن الكون صار يتمثَّل لنا الآن في هيئة قصة تتكشف أحداثها، لا في حالة وجودية ثابتة جوهريًّا. وراء ذلك الطابع السردي للكون، تقف الحقيقة الأكثر تجريدًا وهي التكوين المعلوماتي للكون. التفكُّك «العشوائي» نسبيًّا هو السبيل الوحيد لأن تتيح صيرورة الكون انبثاق أنماط سردية جديدة، في بعض الأحيان على الأقل. والنزعة العشوائية للكون تجاه الفَوضى قد تكون ضرورية لتكشف أحداث قصةٍ ذات معنى. ووجود درجة من «الضوضاء» وليس نقيضها هو أمر لازم للإبداع أو الوحي الإلهي. وإذا كان مبدأ معلوماتي إلهي مُفتَرَض يُعبِّر عن نفسه بالمعنى التشبيهي عن طريق الأحداث الكونية التي تتكشف، فلن يكون من المفاجئ أن تحويَ صيرورة الكون باستمرار مخزونًا من العشوائية كي يكون لها مستقبَل حقيقي من الأساس وكي تكون لديها الفرصة لتوليد أشكال معقَّدة من النظام مثل تلك المتمثِّلة في ظواهر الحياة والعقل والثقافة. تذبذُب الكون بين الضوضاء والتكرار يناظر عملية تشفير المعلومات باستخدام حروفِ أبجديةِ لغة ما. دون قُدرة الطبيعة على الهدم، لن يكون من الممكن أن تتألَّف خلالها أي «قصة». ودون النزوع المستمر إلى حالة من الضوضاء، لن يمكن للكون أن يكون حاملًا لأي معنًى.

من ثَم فإن وقوع الأحداث العشوائية غير الموجَّهة في مسار تطور الحياة، أو بالأحرى في صيرورة الكون على نطاق أشمل، ليس دليلًا حاسمًا على أن الكون يقع خارج حيز الغاية الإلهية، والحكمة الإلهية والرحمة الإلهية. كذلك لا يعدُّ مفهوم أينشتاين الكلاسيكي عن استحالة خرق «قوانين» الطبيعة دليلًا على عدم تأثر الكون بغاية. منذ القرن التاسع عشر، اعتاد جيل كامل من أصحاب المنظور الكوني المتشائم القائم على العلم على تركيز اهتمامهم على إما الإنتروبيا أو الأنماط الفيزيائية التي يُمكن التنبؤ بها وكأنما تعدُّ أيهما دليلًا مُباشرًا على أن الكون عديم الغاية.٩ لاحظ علماء الطبيعة أنَّ أي نظام مُنظَّم ينزع إلى التراجع إلى العشوائية، وهي ملاحَظة سليمة. لكنهم غالبًا لم يفهموا أن أي «قصة» جديرة بالاهتمام بحقٍّ تَستلزم أن تقع فيها عوارض بالقدر الذي يُتيح إدخال أحداث جديدة كي تطغى على التكرار المحض. ولم يُفكروا في احتمال أنه حتى الكون برمَّته تقوده الإنتروبيا نحو الفناء، غير أنه من المُمكن أن يكون حدَث بالغ الأهمية يتكشف في اللحظة الآنية على نحو سردي.

إذا كان يُمكن فهم عنصر الصدفة في العمليات الطبيعية من الناحية اللاهوتية في ضوء مفهوم المعلومات، فإنه يُمكن أيضًا فهم مفهوم التكرار (أو ما يُسمى خطأً «الضرورة»). تجسُّد الغاية في الكون يستلزم عنصرًا من التكرار مثل المُتضمن في الأنماط المنتظمة «الرتيبة» المحكومة بالقوانين الفيزيائية. وجود الاستحداث المفرط في التعبير سيعوق إيصال المعلومات. من ثَم فإن استلزام المعلومات نظامًا يمكن التنبؤ به إلى جانب الفوضى هو أمر ذو دلالة من الناحية اللاهوتية. إذن، هذا يَعني أنه يتعيَّن على الكون أن يسلك طريقًا سرديًّا وسطًا بين طرفَي نقيضٍ هما الفوضى المُطلَقة والتكرار المطلق.

تتغافَل كثيرٌ من الرؤى الكونية المُتشائمة الحديثة والمُعاصرة — التي تفترض أن الكون إجمالًا لا غاية له — عن حقيقة بسيطة؛ وهي أن إيصال المعنى يَستلزم حتمًا هدم النظام الحالي، وتفكيك البِنى المؤقَّتة ذات التصميم الجامد كي يُحافظ الكون على طابعه المعلوماتي والسردي. تقوم الرؤى الكونية المُتشائمة على استغلال الصورة المُتطرفة لأيٍّ من الضوضاء والتكرار، اللذَين يُمكن بسهولة فصلِ كلٍّ منهما وعزله عن الآخر وعن الصيرورة الزمنية المُتماسكة التي تربط بينهما معلوماتيًّا. أحد تيارَي التشاؤم الكوني يقوم على اعتبار النزوع إلى الفوضى مُطلقًا. إذ يُضخِّم الجوانب العشوائية للطبيعة، ثم «يشرح» الأمثلة العارضة المنبثقة للنظام مثل الخلية أو الدماغ باعتبارها عدولًا مؤقَّتًا عن سير الكون الدءوب نحو الانهيار.١٠ أما التيار المقابل مِن التشاؤم الكوني فمَشغول بتكرار القوانين الفيزيائية إلى حد أنه يعتبر الظواهر المُنبثِقة مجرَّد «ظواهر بسيطة ترتدي ثوب التعقيد» (أتكنز، ١٩٩٤، صفحة ٢٠٠).
أعتقد أن كلا تيارَي التشاؤم الكَوني غير منطقي وغير عِلمي، رغم أن كلًّا منهما يدَّعي أنه المثال الأبلغ للواقعية. بألفاظ وايتهيد، كلاهما مثال على «مُغالَطة الواقعية التي في غير محلِّها» المنطقية (وايتهيد، ١٩٢٥، صفحة ٥١ و٥٨). من الناحية العِلمية، كلا تياري التشاؤم الكوني مركزان على الهوس الذي عفا عليه الزمن بالتصميم الآلي الذي ساد في بداية العصر الحديث باعتباره نموذجًا لفهم الطبيعة؛ ومن ثَم النموذج الوحيد الملائم لفهم الفعل الإلهي. ولما لم يَجدوا أي دليل حاسم على التصميم الإلهي المثالي في الكون، أعلنوا أن الكون فارغ من المعنى أو الغاية.١١

(٤) المعلومات وقصة الكون

في صيرورة الكون، تُعدُّ الزيادات في كثافة المعلومات عوامل أساسية في تطور أشكال أعقد من الحياة والوعي بمرور الزمن. زيادة المعلومات هي المكون الأساسي لظاهرة الانبثاق، والقوة المحركة للتطور. حين اجتاز الكون مرحلة تطوُّره من المادة إلى الحياة، ومنها إلى الوعي والأخلاق والحضارة، اكتسَبَ في كل مرحلة مُنبثقة شيئًا جديدًا؛ ومن ثم غير مُحتمل نسبيًّا. تلك الأشياء المستحدَثة واقعية، وليسَت مجرَّد ستار وهمي لما يُعتبر في جوهره إما «صدفة» محضة أو «ضرورة» عمياء.

لكن ما الذي يُؤلف ذلك الشيء المُستحدَث في كل مستوًى لاحقٍ أعلى ويجعلُه غير قابل للتفسير في ضوء الحالات الأدنى والأبسط مِن الوجود المادي؟ يحار العلماء ذوو الفكر الكلاسيكي في ماهية الواقع المُنبثق. تظلُّ الكمية الإجمالية للمادة والطاقة ثابتة في جميع مراحل التحوُّل؛ ومن ثَم فإن المنظور الآلي يعتبر أنه لا يوجد شيء جديد فعليًّا، إنما ما يحدث في المراحل الأعلى من التطور هو مجرد إعادة ترتيب للذرات والجزيئات. بل حتى قد يكون هناك اعتراض على استخدامي لمُصطَلحات مثل «أعلى» و«أدنى»١٢ لأن هاتين الصفتَين لا تنطبقان على ما في ظاهر مجموعة محايدة من العمليات المادية البحتة.

لكننا صرنا نرى أن الاستحداث في الكون المُنبثِق يناظر ما نسميه الآن المعلومات. المعلومات يمكن إدخالها باستمرار في عالَمنا دون إحداث أي تغيُّر بأيِّ طريقة في قوانين الديناميكا الحرارية. وكما يُمكنني إدخال المعلومات في معالج النصوص دون إحداث أي تغيُّر في القواعد التي تحكم المستويات الأدنى في التسلسل الهرمي الحوسبي، فإن إدخال أشكال جديدة من المعلومات في نسيج الكون يحدث بسلاسة وخفة شديدتَين إلى حدِّ أن العقليات العِلمية المحدودة عادة ما تعجز عن إدراكه.

إدخال معلومات جديدة في الكون يحدث بطريقة تجعل كل مُستوى لاحقٍ وأعلى من التطور مُعتمدًا على ما دونه من مستويات سابقة له دون أن يخرق بأيِّ حال «القوانين» الفاعلة في تلك المستويات الأدنى والأسبق. على سبيل المثال، انتقال المعلومات الوراثية لا يُعطِّل قوانين الكيمياء والفيزياء أو يُغيرها. من ثَم فإن افتراض أنه يُمكن تمييز الزيادات في المعلومات المُنبثقة أو قياسها وكأنها موجودة في المستوى المنطقي والأنطولوجي نفسه الذي تبحثه علوم الكيمياء والفيزياء. مُستوى المعلومات مُتمايز هرميًّا عن مستوى التأثر بتلك المعلومات.

لكنَّ انبثاق الاستحداث المعلوماتي له شرط ضروري وهو وجود قاعدة من الاحتمال والتكرار الداعِمين له. وهو ما يَنطبق على العمليات الحيوية والتواصُل اللفظي كما هو واضح. في حالة التواصُل اللفظي، من شأن التكرار غير الضروري لكلمات وأصوات معينة أن يجعل الرسالة تصل بوضوحٍ أكبر للمُتلقي العادي. بالمثل في حالة الحياة، لولا الأنماط المتكررة للنشاط الكيميائي والتجمُّعات الحيوية المتكررة لما انبثقت الخلية الحية «غير المحتملة» أو بقيت.

وإذا ارتقينا إلى مستوًى أعلى، نجد أن نشأة الفكر البشَري الأبعد عن الاحتمال ما كانت لتحدُث دون الاستناد إلى العمليات العصبية والفسيولوجية المتكررة المساعدة التي تُعدُّ ركيزته. الظواهر المستحدَثة المُنبثقة مستحيلة الحدوث دون الأنماط «الرتيبة» الداعمة لها التي تعمل بكفاءة موثوق فيها. ذلك التكرار واضح بشدة في دماغ الثدييات؛ فقد وهبَت الطبيعة أدمغة الحيوانات والبشر عددًا هائلًا من «الدوائر» كي تضمن سلامة العمليات المعرفية والعقلية. على سبيل المثال، مُقارنة بحاسوب — يُعدُّ فيه سلك واحد كافيًا لتفعيل «بوابة» منطقية — يُمكن أن تصبَّ آلاف الألياف العصبية في خلية عصبية واحدة في الدماغ.

لكن التكرار دون قيد يُمكن أن يُعيق التواصل. فوظيفته هي منع «الضوضاء» الناتجة عن العشوائية من عرقلة تدفُّق المعلومات. لكن التكرار قد يكون زائدًا عن الحد في الحالات التي يحول فيها دون توليد أنماط جديدة. من ثَم يجب التغلب على التكرار كي تنبثق ظواهر جديدة أصلية. فإذا وصَل التكرار إلى نقطة الجمود المطلق، فإنه يتدهور إلى الرتابة التي هي نقيض انبثاق المعلومات. لكن دون شيء من التكرار ولو قليل، يَستحيل أن تَنبثِق مستويات جديدة من التعقيد الكوني. فانبثاق الظواهر المستحدثة غير المتوقعة يستلزم التكرار الفيزيائي الذي يكون بمثابة هيكل داعم لها يُميزها عن سائر الأمور المحتملة.

قد تكون الموالفة المعلوماتية للنظام والاستحداث مع المدة الزمنية الطويلة هو جوهر «قصة» مهيبة بحقٍّ وإن لم تكتمل بعدُ؛ قصة تحمل معنًى يفوق قُدرتنا على الاستيعاب موضعيًّا وعلميًّا. وعلى أي حال، المعلومات مفهوم أكثر مرونة على الأقل من مفهوم التصميم من ناحية حملِه للمعنى. من ثَم سيكون من الملائم أكثر من الناحية اللاهوتية وصفُ الكون بأنه «سردية قائمة على المعلومات» بدلًا من وصفه بأنه مُصمَّم تصميمًا آليًّا. يتيح مفهوم المعلومات للاهوت أن يعتبر قياسًا أن الفعل الإلهي يقَع في منطقة وسط بين طرفَي نقيض هما الفوضى المطلقة والتكرار المطلق. لكنه لا يستلزم عدم الحياد عن مفهوم التصميم. فإذا اعتبرنا الكون قائمًا على المعلومات، فلن نَستغرِب وجود الفوضى المحيطة بكل ما فيه من نظام (مثلما يُفهَم من قصة الخلق الأولى الوارِدة في سفر التكوين). على النقيض، فإن مفهوم «التصميم» لا مكان فيه لتلك الفَوضى. وإذا مُنعت الفوضى، استبعِدَت الظواهر المستحدثة، وكذلك استُبعد أي تصوُّر للإله الحي بحق.

العالم الحقيقي، وكذلك أي عالم يُمكن أن يجسد بطريقة سردية معنًى ما، سيتأرجَح لا محالة بين الرتابة الناتجة عن النظام المُفرط من جانب والفوضى غير ذات المعنى من الجانب الآخر. المُخاطرة التي يَنطوي عليها أي كون قائم فعليًّا على المعلومات هي أنه قد يَحيد أحيانًا عن التوليفة «المناسبة». لكن ما أقصده هو أن أيًّا من البديلَين — سواء كون قائم على الصدفة المحضة أو كون مقيَّد بنمط آلي — لن يكون قادرًا على حمل أي معنى على الإطلاق. من ثَم فإن فكرة «التصميم الذكي» إلى جانب عدم توافُقها مع متطلبات العلم، فإنها غير مُستوفية أيضًا لمتطلبات اللاهوت بما فيها من حيرة تجاه العوارض في الطبيعة. فهي تعجز عن إدراك أن الكون يُمكن أن يكون قائمًا في جوهره على المعلومات دون أن يكون مُصممًا. لكن الجانب الآخر، جانب المادية التطوُّرية المعاصر — الذي يزعم أن أي كون يدعم العمليات التطورية الداروينية خالٍ من المعنى جوهريًّا — لا يستند أيضًا إلى دليل. منظومة المُعتقدات تلك، التي تلقى تقديرًا مُتزايدًا في الوسط الأكاديمي والفكر الثقافي في وقتنا الحالي، هي في الواقع نتاج مُغالطة منطقية منشؤها الخلط بين الصدفة والضوضاء المطلقة من جانب، وبين النظام والتكرار المطلق من الجانب المقابل. هنا تَضيع التوليفة الكونية «الفعلية» من الاستحداث والنظام بين مُطلقَين مُتنافيَين يُعتقد أن الواقع المادي يقوم عليهما دون مُسوِّغ منطقي.

من الثابت أن الكون «توليفة» من النظام والاستحداث، تسلُك طريقًا وسطًا بين التكرار المُطلق من جانب والضوضاء المطلقة من الجانب المقابل. ومن الواضح بداهةً من الخبرة العادية أن المعلومات لا بدَّ أن تحافظ على توازن محكم بين التكرار والضوضاء. فلا ينبغي إذن أن نستغرب حقيقة أن أيَّ كونٍ يَحمل معنى سيَسمح لمحتواه بأن يهيم مغامرًا بين طرفي نقيض هما التصميم الجامد والفَوضى غير المفهومة. لذا، فإنَّ أي معنى قد يحمله كوننا سيتجاهَلُه العلم الذي لا يَنظر إلا إلى ما يُمكن توقُّعه، وستتجاهله كذلك المنظورات «الواقعية» المأساوية التي تتوقَّع أن تسود الكون في حالته النهائية الفوضى المُطلقة. وقد يكون من الضروري تبني قُدرة على القراءة من نوع جديد يَكتسبها المرء بتحليه بفضيلة الأمل إذا أراد فهم أي معنًى نهائي تُعبر عنه صيرورة الكون. لكن حتى لو أدركنا ذلك المعنى فليس من الواقعي أن نتوقَّع أن نفهمه تمام الفهم قبل أن تكتمل القصة. أما في وقتنا الحالي، فأقصى ما نستطيعه هو أن نفهم شيئًا يسيرًا من أعمق ما يحمله الكون من معنى إن أمكن، وهو ما لا يَحصُل إلا إذا استشرفنا مستقبل الكون بعقولنا وقلوبنا. وبالطبع تبنِّي ذلك الموقف المتفائل يحتاج إلى جُهدٍ ديني بالغ، لكنه لا يتعارَض مع العلم، لا سيَّما إذا ما اعتبرنا الكون نظامًا معلوماتيًّا.

(٥) المعلومات والشر

أخيرًا، حتى لو كان الكون قائمًا على معلومات ذات معنًى، فهذا لا يَنفي إمكان وجود قدر عظيم من الشر فيه إلى جانب الخير. فهل يستطيع تشبيه المعلومات أن يُساعد اللاهوت في معالجة تلك المشكلة الأزلية؟ أعتقد أنه يستطيع، إذا وافَقْنا ألفريد نورث وايتهيد وعلماء لاهوت الصيرورة على وجود نوعَين مُختلفين من الشر في الكون، وإذا اعتبرنا الكون صيرورة إبداعية لم تَكتمِل بعد لا مجرد مجموعة جامدة من الكيانات.١٣ المعلومات تقف على الحد الفاصل بين مساحتَي الفوضى والنظام، اللذَين يعيق كلٌّ منهما في صورته المطلَقة تدفقَ المعلومات. العالم الحقيقي ينبغي أن يكون مزيجًا بين التناغم والتمايز. والطبيعة المغامرة لذلك العالم عُرضة للحياد في بعض الأحيان عما نعتبره نحن البشر التوليفة «الصحيحة»، سواء حادَ عنها إلى النظام المُفرط إلى حد الرتابة أو العشوائية المفرطة إلى حد اللامبالاة. ونحن نعرف من خبرتنا العادية أن المعلومات لا بد أن تُحافظ على التوازن الدقيق بين النظام المفرط والعشوائية المفرطة. إذا كان الكون يشبه نظامًا معلوماتيًّا من أيِّ وجه، فإنه سيَسمح أيضًا لمحتواه بأن يُعبر عن نفسه في مساحة وسط بين هذين النقيضين. فالعشوائية المفرطة والنظام المفرط من شأنهما أن يحجبا بسهولة أيَّ معلومات يُعالجها الكون.

يعدُّ التكرار المفرط والضوضاء غير اللازمة نظيرَين لنوعين مُتمايزَين من «الشر» الذي يقع في حيز الحياة والخبرة البشرية. الشر المُناظر للتكرار المفرط هو التكرار اللانهائي لأنماط معينة في حين أن إدخال معلومات جديدة سيتيح الفرصة لانبثاق موجودات وقيم جديدة في صيرورة الكون. في مستوى الانبثاق الكوني الذي يقع فيه البشر، أحد أمثلة «الشر التكراري» قد تكون ثقتُنا العمياء بمُدركاتنا المعرفية وهوَسنا بأمننا الوجودي إلى الحد الذي يجعلنا نتجاهل التعقيد السياسي والثقافي والعِلمي والديني الموجود في العالم. وهذا النوع من الشر قد يتَّخذ شكل مقاومة التجديد والمغامرة اللازمَين للحيلولة دون اضمحلال الحياة والحضارة البشريَّين. في المقابل، يُمكن أن يتخذ الشر أيضًا شكل الضوضاء غير اللازمة. وفي سياق النظام الكوني المعلوماتي، فإن «الشر الضوضائي» هو التجاهُل المفرط للقواعد التنظيمية التي يستحيل من دونها حمل أي معنًى.

إن وجود هذَين النوعين من الشر في العالم لا يتعارَض منطقيًّا مع الإيمان بواقعية الإبداع والوحي الإلهي. فنحن إذا أكَّدنا على أن للإله الذي يُعدُّ مصدر المعلومات طبيعة باذلة للذات وغير مُجبرة لخلقه، فلن نستغرب من أن التطور الكوني والوجود البشري قد يحيدان عن الاستقامة أو يَسلكان مسارًا مُتعرجًا، فتارة يميلان نحو العشوائية وتارة نحو الرتابة، لكنهما على الأمد الطويل قد يُكوِّنان معنًى معلوماتيًّا حقيقيًّا بين الصورة المطلقة لكلٍّ من العشوائية والنظام. المعلومات لا تستلزم عدم الحياد مطلقًا عن النظام، كما تَستتبِع فكرة «التصميم الإلهي». من ثَم إذا تعلمنا أن ننظر إلى الكون باعتباره نظامًا معلوماتيًّا، وإلى صيرورة الكون باعتبارها عملية معلوماتية، فلن نستغرب بشدة ظهور درجة ما ولو بسيطة من العشوائية أو التكرار على هامشَي تطوُّره. بخلاف فكرة المعلومات، فإن فكرة «التصميم» لا تحتمل وجود الفوضى، وتستبعد وجود أي درجة من الفوضى وكذلك الاستحداث. وحيثما يُستبعد الاستحداث يُستبعد أيضًا وجود كون مُثير بحقٍّ، ويُستبعد كذلك الوصول إلى فهمٍ مُكافئ له في التعقيد للواقع والمعنى النهائيَّين.

المراجع

  • Atkins, P. W. (1994), The 2nd Law: Energy, Chaos and Form, New York: Scientific American Books.
  • Bowker, J. (1988), Is Anybody Out There? Westminster, MD: Christian Classics.
  • Campbell, J. (1982), Grammatical Man: Information, Entropy, Language and Life, New York: Touchstone.
  • Cobb, J. B., and Griffin, D. R. (1976), Process Theology: An Introductory Exposition, Philadelphia: Westminster.
  • Dawkins, R. (1986), The Blind Watchmaker, New York: W. W. Norton.
  • Dawkins, R. (2006), The God Delusion, New York: Houghton Mifflin.
  • Einstein, A. (1954), Ideas and Opinions, New York: Bonanza Books.
  • Gould, S. J. (1977), Ever Since Darwin, New York: W. W. Norton.
  • Gould, S. J. (1989), Wonderful Life: The Burgess Shale and the Nature of History, New York: W. W. Norton.
  • McGrath, A. (2005), A blast from the past? The Boyle Lectures and natural theology, Science and Christian Belief, 17: 1, 25–34.
  • Monod, J. (1972), Chance and Necessity: An Essay on the Natural Philosophy of Modern Biology, trans. A. Wainhouse, New York: Vintage Books.
  • Newman, J. H. (1959), The Idea of a University, Garden City: Image Books, Philadelphia: The Westminster Press.
  • Provine, W. (1989), Evolution and the foundation of ethics, In Science, Technology and Social Progress, ed. S. L. Goldman, Bethlehem, PA: Lehigh University Press.
  • Seife, C. (2006), Decoding the Universe: How the New Science of Information Is Explaining Everything in the Cosmos, from Our Brains to Black Holes, New York: Viking.
  • Tillich, P. (1958), Dynamics of Faith, New York: Harper Torchbooks.
  • Tillich, P. (1967), Systematic Theology, vol. I, Chicago: University of Chicago Press.
  • Whitehead, A. N. (1925), Science and the Modern World, New York: The Free Press.
١  للتعرُّف على مفهوم الإيمان باعتباره «وقوعًا في الأَسر»، راجِع تيليش (١٩٥٨، الصفحات ٧٦–٨٥).
٢  راجِعْ كامبل (١٩٨٢، صفحة ٢٥٥).
٣  هنا يَشمل معنى «الكون» البشر ومنتجاتهم.
٤  لكن لعلَّ فكرة المعلومات، إلى جانب مفهوم التعقيد المرتبط بها، يُغيِّران بالتدريج طبيعة الفهم العلمي. فيما يتعلق بتلك النقطة، راجِع كامبل (١٩٨٢)، وسايف (٢٠٠٦).
٥  نتيجةً لذلك، سيربط اللاهوت فكرة الإله أو الوحي لا بالنظام فقط، بل أيضًا بالاستحداث. وهو ينطبق على وصف القديس بولس الحياة المسيحية بأنها «خلق جديد»، ولوصف باول تيليش لمبدأ الخلاص (المتمثِّل في صورة يسوع المسيح) بأنه «كينونة جديدة»، وعلى تعريف علم لاهوت الصيرورة لله بأنه مصدر الجديد الذي يخل بالوضع الحالي بالضرورة. الله هو «المجدد لكل شيء».
٦  أحد أفضل الأمثلة على ذلك المنظور للصُّدفة موجود في أعمال عالم الحفريات بجامعة هارفرد الراحل ستيفن جاي جولد. راجِع على سبيل المثال جولد (١٩٧٧، ١٩٨٩).
٧  في كتابه الأكثر مبيعًا الأحدث «وهم الإله» يُعرِّف دوكينز (٢٠٠٦) الإله بأنه «ذكاء فوق بشري خارق للطبيعة، صمَّم وخلَق عن قصدٍ الكون وكل ما فيه، بما في ذلك نحن البشر» (صفحة ٣١). اعتراضي هنا ليس على إلحاد دوكينز، إنما على افتراضاته اللاهوتية.
٨  إنني أقتبس هنا قول جيه إتش نيومان (١٩٥٩، صفحة ٤١١). من المشهور أيضًا عن نيومان قوله إنَّ إيمانه بالتصميم ناتج عن إيمانه بالله وليس العكس. راجِع نقاش مكجراث لأفكار نيومان (٢٠٠٥، صفحة ٢٩ والتي تليها).
٩  يقول ويليام بروفن، مُؤرِّخ العلوم بجامعة كورنيل: «لا تكشف لنا العلوم سوى الصُّدفة والضرورة … العلم الحديث يُشير صراحة إلى أنَّ العالم مُنظَّم وَفق مبادئ آلية لا يحيد عنها. ولا توجد في الطبيعة أي مبادئ غائية. ولا تُوجد آلهة ولا قوى مُصمِّمة يُمكن الاستدلال عليها منطقيًّا. التأكيد المتكرر على أن علم الأحياء المعاصر وافتراضات التراث اليهودي–المسيحي مُتوافقان كليًّا ليس صحيحًا.» (بروفن، ١٩٨٩، صفحة ٢٦١).
١٠  على سبيل المثال، مونو (١٩٧٢).
١١  يتأرجَح فكر مونو بين نوعَي التشاؤم الكوني. راجع كتابه «الفرصة والضرورة» (مونو، ١٩٧٢).
١٢  أنا هنا أستخدم المصطلحين «أعلى» و«أدنى» لوصف مستويات متمايزة من التعقيد.
١٣  راجِعْ كوب وجريفين (١٩٧٦).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤