الفصل الخامس عشر

الإله والمادة والمعلومات: نحو خرستولوجيا مُرتكزة على اللوجوس على النهج الرواقي

نيلز هنريك جريجرسِن

حتى عصر الحداثة، كان أغلب المُفكِّرين المسيحيِّين يفترضون أن عالم الخلائق مكون من جزأين؛ المادي والروحي، وهما موجودان جنبًا إلى جنب باعتبارهما عالمَين مُستقلَّين وإن كانا متفاعلين. على سبيل المثال، في تفسير الإصحاح الأول من سفر التكوين فُسِّر خلق النور في سفر التكوين ١: ٣ «ليَكُن نور» بأنه نور رُوحاني لكائنات روحانية في عالم روحاني، سابق لخَلق الضوء المادي للشمس في عالم الخبرة العادية في سفر التكوين ١: ١٤.

مع ظهور الفيزياء الكلاسيكية في القرن السابع عشر، فقد هذا الكون المركب من جزأين معقوليته، حين صار يُنظَر للطبيعة باعتبارها وحدة متماسكة. لكن ذلك الفهم للكون باعتباره وحدة استنادًا إلى الحدس العِلمي، كان يَمتزج في البداية مع تفسير ضيق لطبيعة العالم المادي. كما حاجَج إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧) في كتابه «البصريات»، إن الذرة هي أساس المادة: «جُسيمات صلبة جامدة ذات كتلة وغير قابلة للاختراق وقابلة للتحريك».١ وفقًا لنيوتن، تلك الجسيمات، التي خلَقَها الله في البداية والتي تبقيها مجتمعة القوانين الآلية للطبيعة، تخدم الغاية الإلهية من الكون ويتصرَّف فيها الإله الذي ينظم الكون كله ويُشكله ويُعيد تشكيله في كل لحظة. كان نيوتن يرى أن المذهب الآلي واللاهوت وجهان لعُملة واحدة. وإلا فكيف نُفسر السلوك المنظَّم لجُسيمات كانت لتكون عشوائية لولا وجود الله؟ الله، خالق الكون المادي وواضع القوانين الحتمية للطبيعة، هو الذي يوجه جميع المخلوقات الحية ويَمنحها الغاية في كل لحظة:

غريزة الحيوانات والحشرات لا يُمكن أن تُعزى إلا إلى حكمة ومهارة فاعل حي أزلي، الذي وجوده في كل مكان يَمنحه قدرة على تحريك الأجسام التي يشملها حيز إدراكه اللامحدود؛ ومن ثَم على تشكيل أجزاء الكون وإعادة تشكيلها، وهي قدرة تفوق قُدرتنا نحن على تحريك أجزاء أجسامنا. (نيوتن، ١٩٥٢، صفحة ٤٠٣)

وإلا فكيف نُفسِّر نمو الأعضاء الحيوية وملاءمتها لغاياتها؟ وأخيرًا، رغم الحتمية الفيزيائية، كان يفترض وجود مساحة للفاعلية السبَبية للقوى الرُّوحانية والأخلاقية للفاعلين البشريِّين. وقد خلص نيوتن في كتابه «البصريات» إلى أنَّ واجب الإنسان نحو الله والبشر «سوف يتجلَّى لنا في ضوء الطبيعة» (١٧٣٠، صفحة ٤٠٥). إذن فإنَّ قوانين الطبيعة ليست موجودة وحدها، إنما يُوجد بالإضافة إليها قانون طبيعي يسترشد به البشر في اعتباراتهم للصواب والخطأ.

لكن بمرور الزمن خرجت العقيدة الفلسفية للمادية الكلاسيكية التي سادَت في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر بمزعم إضافي وهو أن عالم الجُسيمات المادية هو الواقع الوحيد؛ ومن ثَم لا بد أن تُختزَل جميع المعلومات الحقيقية عن الطبيعة والإنسانية في القوى السببية التي يقوم عليها التفاعُل بين المكونات الفيزيائية الأساسية. يُجسد كتاب جوليان أوفري دي لا ميتري «الإنسان الآلة» (دي لا ميتري، ١٧٤٨) الاختزال المنهجي للروح إلى آليات الجسد البشري، كما يُمثل كتاب بيير سيمون لابلاس «عرض نظام العالم» (لابلاس، ١٨١٣) الاعتقاد بأن الكون في مُجمله نظام فيزيائي مُغلَق مؤلَّف من جسيمات مُتفاعلة، وهو ما لا يترك مساحة لأيِّ فعل إلهي (عدا ربما إنشاء نظام العالم). في تلك النسخ من المادية، تحلُّ المادة محلَّ الإله باعتبارها الواقع النهائي المطلق، فيما يُستبعَد العالم العقلي من قائمة الموجودات الحقيقية. فالموجودات الحقيقية تَكشِف عن نفسها بقُواها السببية، وهي القوى الموجودة أصالة في العناصر المادية.

(١) الواحدية المُحايدة والجوانب غير القابلة للاختزال من المادة

في ذلك العصر، كان الخياران المتاحان لعلماء اللاهوت هما إما المعارضة التامة للمادية، كما فعل روَّاد المدرسة التقليدية ومُعتنقِو مذهب المثالية الفلسفي، أو محاولة تحجيم المادية بادعاء أن الاختيارات النابعة من الإرادة البشرية الحرة، التي تُوجِّهها المشاعر والمبادئ الأخلاقية، لا يمكن اختزالها سببيًّا في العمليات الطبيعية، كما اقترح إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤). افترض روَّاد المدرسة الكانطية وجود انقسام بين الطبيعة والثقافة، فسلَّموا أمرها للحتمية العلمية دون عداوة لكن بغير اكتراث. وبعد أن نحَّى اللاهوتيون الليبراليون كما أُطلِق عليهم الأسئلة الأنطولوجية إذ اعتبروها «ميتافيزيقا تكهنية»، انشغلوا بالأسئلة القيمية المتعلقة بالأخلاقيات والجماليات. واعتبروا أن الخبرة الإنسانية للجمال والحب والحسِّ الأخلاقي هي في حد ذاتها مُؤشِّرات على وجود واقع مُتعالٍ أكثر جوهرية من النظام الحتمي الموجود في الأحداث الطبيعية.

أما علماء اللاهوت التأمُّليون المعاصرون فيبدو أن لديهم خيارات عقلية أوسع. فكما قال عالِما الفيزياء بول ديفيز وجون جريبين، خلال القرن العشرين تحطَّمت أسطورة المادة، و«فقدت المادة دورها المركزي وحلَّت محلَّها مفاهيم مثل التنظيم والتعقيد والمعلومات» (ديفيز وجريبين، ١٩٩٢، صفحة ١٥). ذلك الوضع الجديد يُمكن وصفه بصيغة أخرى وهي أن مفهوم المادة اتَّسع للغاية فصار يَشمل الخواص الجوهرية للمادة (كما استُدلَّ عليها من الكواركات والإلكترونات والذرات والجزيئات … إلخ)، وطاقة المادة (إمكانية امتلاكها جهدًا حركيًّا وقابليتها للتحول)، والبِنى المعلوماتية للمادة (قدرتها على تكوين الأنماط). كان ألبرت أينشتاين هو من مايَزَ بين جوانب الكتلة والطاقة في نظرية النسبية الخاصة (١٩٠٥)، التي بيَّنت أن كتلة جسمٍ ما وطاقة حركته مُتكافئان من ناحية مقدارهما وإن كانا غير متطابقَين. فالمادة تتكون من طاقة و«كتلة سكون» (راجع الفصل الثاني من ذلك الكتاب الذي كتبه إرنان ماكمولين). على إثر ذلك الاكتشاف، بدأ فلاسفة العلم يبحثون ما إذا كانت نظرية النسبية تتطلب في النهاية «انتفاء» المفهوم المتوارث للمادة. على سبيل المثال، في علم الكون المعاصر، توجد أشكال جديدة تمامًا مفترضة من «المادة»؛ «المادة المظلمة» مثلًا لها كتلة مسئولة عن جذب الجاذبية لكنها لا ينبعث منها أي إشعاع.

جاءت الضربة التالية لأسطورة المادة من نظرية الكم التي وضعها نيلز بور وزملاؤه في عشرينيات القرن العشرين، والتي أفقدت الجسيمات المادية بعضًا من «صفاتها الأساسية» مثل تموضُعِها وديمومتها وعدم قابليتها للانقسام. وأخيرًا، منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين برهنت علوم السيبرنيطيقا الجديدة (كلود شانون ونوربرت فاينر، وجون فون نيومان وغيرهم) ونظرية المعلومات الحيوية على أن الخواص المعلوماتية للمادَّة تبذل تأثيرًا سببيًّا قابلًا للتحديد؛ ومن ثَم يجب اعتبارها جوانب من العالم المادي غير قابلة للاختزال. باختصار، صارت الصورة الجديدة هي أنَّ المادة لم تَعُد مجرَّد شيء مادي جامد كما كان يَعتبرها العلماء النيوتنيون، وأن «المادة والطاقة والمعلومات أصبحَت ثلاثة جوانب غير قابلة للاختزال للعالم المادي وإن كانت لا ينفصِل بعضها عن بعض».٢ يوجد ردٌّ على ذلك وهو أن جانب المعلومات للمادة يَختلف عن جانبَي الكتلة والطاقة في عدم قابليتِه للقياس كمًّا بوحدات قياس تُناظر «الجرامات» التي تُقاس بها الكتلة أو «الجول» التي تُقاس بها الطاقة. وبالفعل كما سنرى فيما يلي، يُستخدم مصطلح «المعلومات» بمعانٍ مختلفة حسب تعريفنا للحدث الكمِّي المستقل سواء اعتبرناه حدثًا معلوماتيًّا (كيوبت كما اقترح سيث لويد في الفصل الخامس من هذا الكتاب)، أم رمزًا معلوماتيًّا (مفهوم شانون للمعلومات)، أم معلومات ذات نمط (المفهوم الأرسطي للمَعلومات)، أم معلومات ذات معنًى (معلومات دلالية). لكن لأنَّ المعلومات في تلك الأشكال يبدو أنها تؤدي دورًا سببيًّا في التاريخ الطبيعي، تُوجد مسوغات قوية لمنحها دورًا محوريًّا في الأنطولوجيا المستندة إلى العلم. أولًا، يجوز القول إنَّ المعلومات هي الأساس الذي يقوم عليه الواقع الفيزيائي من جانب القُدرات التوليدية للعمليات الفيزيائية. هنا يعني مُصطلح «المعلومات» ما يُولِّد الاختلافات. وثانيًا، تُؤدي البنى المعلوماتية دورًا سببيًّا مهمًّا في تشكُّل الكيانات المادية، كما في ظاهرة الرنين الفيزيائية أو الأنظمة الحيوية كما في تسلسلات الحمض النووي. هنا «المعلومات» تعني الاختلافات التي تُحدث اختلافًا في قصة التطور. إذن، مثلَما تعدُّ «الأحداث المعلوماتية» جوهرية في المستوى الأدنى من الواقع الكَمِّي، تُعد «البِنى المعلوماتية» القوى المحركة لأحداث تاريخ الواقع الكمي (راجع الفصل الأول من هذا الكتاب).
في اللاهوت المعاصر، طُرِحَت تصورات متَّسقة للإله باعتباره المصدر النهائي لكل الموجودات، ولعالم الخلائق باعتباره قائمًا في حيِّز العمَليات الفيزيائية.٣ أحد تلك التصورات (وهو الذي أتبناه) يقوم على «الواحدية المُحايدة»، التي تقرُّ بمبدأ أن كل ما هو كائن وكل ما سيكون في عالم الخلائق يقوم على ركيزة «طبيعية» لها قُدرة بنائية بقَدرٍ ما، لكنها لا تربط تلك القدرة بمجموعات معيَّنة من الأوصاف الفيزيائية. الجانب المهم هنا هو عدم التعجل في استبعاد الفاعلية السببية لخواصِّ المستوى الأعلى، مثل المعلومات والقصدية، من الصورة الشاملة للواقع النهائي. استخدم كل من ويليام جيمس وبرتراند راسل مُصطلح «الواحدية المُحايدة» للإشارة إلى المنظور الذي يعتبر أن مصدر العالم وتجلياته واحد (مذهب الواحدية)، ويقرُّ بأن وصفنا للتطور المعقد للأنظمة الطبيعية من حيث الكتلة والطاقة لا يُعدُّ وصفًا وافيًا (ومن ثَم فإنها واحدية «محايدة» بالنسبة إلى موقفها من نظريات فيزيائية معيَّنة للمادة).٤ ذلك الموقف اللاأدري الذي يَعكسه مصطلح الواحدية «المحايدة» يقر بعَجزنا عن وصف الواقع النهائي من منظور واحد معيَّن فقط (على سبيل المثال «الكتلة» أو «الطاقة» أو «المعلومات»)؛ ومن ثَم فإن الواحدية المُحايدة تؤيد مجموعة متعدِّدة من التفسيرات للواقع، لكن تحت شرط مُهم وهو أن يتضمَّن أي مفهوم للواحدية ما صِرنا نُسمِّيه العناصر الفيزيائية الأساسية. فلا تُوجد أي بِنًى معلوماتية أو أحداث عقلية أو فاعلية بشَرية تَنبثِق دون دعم من الكتلة والطاقة، ولا يحدث أي تدفق معلوماتي دون ركيزة فيزيائية مُناسبة. ومع ذلك، فإن العالم الوحيد الذي نعرفه من خلال العلوم وكذلك الخبرة اليومية العادية مُتنوع. ونوع الواحدية الذي أودُّ الدفاع عنه هو «الواحدية المتعدِّدة الأشكال».

(٢) الموازنة بين النزعة الأفلاطونية والنزعة الرواقية في اللاهوت المسيحي

كيف يُمكن أن تتعامل التأملات الدينية المعاصِرة مع المفهوم المتعدِّد الأوجه للمادة، الذي نتج عن فيزياء القرن العشرين؟ في موضع آخر (جريجرسِن، ٢٠٠٧) حاججتُ أن اللاهوت يَنبغي أن يهتمَّ بشدة بالمُقترحات العِلمية لمفهوم شامل للمادة باعتبارها مجالًا للكتلة والطاقة والمعلومات. حتى فكرة الثالوث الإلهي — الآب والابن والروح القدس — قد تبدو تهيئة للتطورات اللاحقة؛ ومن ثَم تُعد أساسًا فريدًا لبناء إطار أنطولوجي للعلاقات يتوافَق مع مفهوم المادة باعتبارها «مجالًا» للكتلة والطاقة والمعلومات. بالفعل منذ القرن الرابع فصاعدًا، وضع الآباء الكبادوك (جريجوريوس النيصي، وجريجوريوس النزينزي، وباسيليوس الكبير) مفهومًا للطبيعة الإلهية والحياة لا يُنظَر فيه إلى الإله باعتباره كيانًا أو شخصًا فردًا (كما اعتبره مذهب اللاهوت الخاص بالقرن السابع عشر لاحقًا)، إنما باعتباره «وحدة» من الأشخاص أو الأقطاب المتفاعِلة. في ذلك المفهوم لا تُعدُّ كينونة الإله جوهرًا مُسبق الوجود. بل طبيعة الإله التي لا يمكن الإحاطة بفهمها واستمرارية العطاء الإلهي والمحبة الإلهية هما نتاج تفاعُل مشترك بين ثلاثة مراكز للنشاط: الآب والابن والروح القدس. «الآب» هو المصدر المُطلَق للحياة الإلهية وإيجاد الكون؛ و«الابن» أو اللوجوس هو المبدأ التكويني للإله، وهو أيضًا المصدر المعلوماتي للخَلق؛ أما «الروح القدس» فهو الطاقة الإلهية التي تمدُّ أيضًا عالم الأحياء بالحياة.

التناظُر بين الأقانيم الثلاثة غير القابلة للاختزال للإله وثالوث المادة المكوَّن من الكتلة والطاقة والمعلومات ليس مجرد تناظُر شكلي. فمن المنظور اللاهوتي، لا بدَّ أيضًا من وجود رابط أنطولوجي بين الإله والعالم نتيجة البنية التجسُّدية لعقيدة الخلق: الإله موجود في نسيج العالم الطبيعي باعتباره المبدأ المعلوماتي (اللوجوس)، والمبدأ المحرِّك (الروح القدس). أما الآب الذي هو المبدأ الأول المُنشئ للكون فيظل هو المبدأ الوحيد المتعالي أبدًا، ومن ثَم فهو الإجابة على السؤال الميتافيزيقي: من أين بدأ الكون؟ وعليه، فإن فكرة اللوجوس الإلهي هي الإجابة على السؤال: من أين جاءت المصادِر المعلوماتية البادية في تاريخ الكون؟ أخيرًا، تجيب فكرة الرُّوح القدس عن سؤال: ما مصدر الطاقة والحركة الدائمة الموجودَين في العمليات الطبيعية؟ وحده التفاعل بين المعلومات (اللوجوس) والطاقة (الروح القدس) وعالم الخلائق يُنتج التجدد التطوري بدلًا من مجرد التكرار البحت (جريجرسِن، ٢٠٠٧، الصفحات ٣٠٧–٣١٤). من هذا المنظور، بالطبع، ما يعدُّه المنظور الفيزيائي الواقع النهائي، يعدُّه المنظور اللاهوتي الواقع قبل النهائي. ومن ثَم فإن المنظور الأنطولوجي القائم على اللاهوت يفترض أن الإله كامن في جوهر المادة الفيزيائية كما تصفُها العلوم (ومُتجاوز لها كذلك)، من دون دمج الإله الخالق وعالم الخلائق في وحدة واحدة.

مفهوم الإله الخالق، الذي هو المصدر النهائي لجَميع العمليات المادية، يُشير إلى وجود عنصر أفلاطوني ما يزال باقيًا في جميع أشكال مُعتقَد الألوهية (التي نَعتبرها هنا تتضمَّن بمفهومها الواسع عقيدة الثالوث). يُبقي مفهوم تعالي الإله على الفهم الديني للأسبقية الوجودية للإله (باعتباره الخالق) ولثَبات محبَّته وعطائه اللذَين كتبهما على ذاته (باعتباره المخلِّص والمحقِّق) إزاء تقلبات الدهر. لكن المنهج المتسق منطقيًّا يستلزم اعتبار الإله الخالق يخلق داخل العمليات المادية ومن خلالها وفي إطارها (وإلا فكيف يُمكن أن يخلق في ذلك العالم الواحدي؟). هذا يُشير إلى نزعة رواقية قديمة غالبًا ما تُنسى في الاعتقاد المسيحي، لا سيَّما فيما يتعلَّق بالاعتقاد المسيحي المحوري بتجسد الإله في الزمكان.

فيما يلي سأُناقش كيف يُمكن أن يساهم مفهوم المعلومات الناشئ من منظور الفيزياء وعلم الأحياء في إيضاح فكرة خرستولوجيا مُرتكزة على اللوجوس، لا تقتصر على شخص يسوع التاريخي، بل هي مفهوم واسع المجال منذ البداية. لكني سأسير في الطريق المقابل أيضًا: كيف يمكن للاهوت المسيحي أن «يعيد صياغة» فكرة المعلومات كما تصفُها العلوم وتشرحها (جزئيًّا)، من منظور الخرستولوجيا المُرتكزة على اللوجوس؟ الغرض من إعادة الصياغة اللاهوتية هنا ليس المُحاججة على «وجود» اللوجوس الإلهي استنادًا على وجود المعلومات غير القابل للاختزال في العالم المادي. فأنا لا أدعو إلى «لاهوت طبيعي» قائم على العلم. إنَّما ما أقترحه هو طرح لاهوتي أزعم فيه وجود توافُق قوي بين الافتراضات اللاهوتية للخرستولوجيا المرتكزة على اللوجوس والافتراضات الأساسية التي أنتجتها التطورات العِلمية في القرن العشرين. ومن ثَم فإن طرحي اللاهوتي محكوم بالقيود والاعتبارات العلمية والفلسفية. أولًا، الافتراض الذي أحاول إثباته بأنَّ اللوجوس الإلهي هو المصدر المعلوماتي للكون سيُدحَض «علميًّا» لو تبيَّن إمكان اختزال مفهوم المعلومات بالكامل في الخواصِّ المتعلِّقة بالتفاعلات بين الكتلة والطاقة. وثانيًا، سيَفقِد الكثير من «معقوليتِه الفلسفية» لو كان نتاج التفاعُل بين الطاقة والمعلومات الذي يحدث على مدى التطور عديم الجَدوى وهو ما سيتعارض وجوديًّا مع الافتراض الديني بوجود خالقٍ كريمٍ وعطوف. فكما يقول مَثل قديم أعدت صياغته: «العمل الدائم دون لهو يجعل الكون مكانًا مملًّا».٥

(٣) جوانب المادة التي تتعلَّق بالكتلة والطاقة

في مُنتصَف القرن التاسع عشر كان مفهوم المادة قد صار أشمل وأقل جمودًا مما كان من قبل. وفي النهاية، اكتسب مفهوم الطاقة أهمية مُساوية لأهمية الكتلة، بل تفوُّقها حتى. في كتابه «ملاحظات عن قوى الطبيعة غير الحيوية» (ماير، ١٨٤٢)، وضع الفيلسوف الطبيعي الألماني يولويوس روبرت ماير مبدأً أوعز بإحداث تغيُّر جوهري في المفهوم العِلمي للمادة. رأى ماير أن خاصية القوة أو الطاقة الجوهرية تتألف من «اتحاد خاصيتي عدم القابلية للتدمير والقابلية للتحول» (ماير، ١٩٨٠، صفحة ٧٠). بعد فترة قصيرة، في عام ١٨٥١ قال عالم الفيزياء الإنجليزي ويليام تومسون (الذي أصبَحَ بعد ذلك اللورد كلفن) مُحذرًا: «أعتقد أن العالم المادِّي ينزع إلى تبدد الحركة، وأن عملية عكس التركيز بوجهٍ عامٍّ تحدث تدريجيًّا» (تومسون، ١٩٨٠، صفحة ٨٥).

من ثَم تكوَّنت أفكار حدسية صيغت لاحقًا في قانونَي الديناميكا الحرارية الأول والثاني. ينص قانون الديناميكا الحرارية الأول على أن الطاقة لا تفنى، بل تُحفظ حين تستخدَم في الشغل وتتحوَّل إلى حرارة؛ وبدا أن الحرارة خاصية عامة للمادة. بعد ذلك في عام ١٨٦٥صاغ رودولف كلاوزيوس القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينصُّ على أن تبادُلات الطاقة غير قابلة للانعكاس. في نظام مُغلَق، يتحوَّل جزء من الطاقة إلى شغل يتبدَّد ويفقد قُدرته على أداء الشغل نفسه مرة ثانية. هكذا فإن الطاقة سمة أساسية للمادة ولكنَّها سمة تُفقِد المادة كفاءتها بمرور الزمن. وإذا فهمنا الكون باعتباره نظامًا مُغلقًا وطبقنا عليه القانون الأول للديناميكا الحرارية، نجد أن قانون الإنتروبيا يتنبَّأ برؤية مُظلمة وهي أن قدرة الكون على إنتاج الحرارة اللازمة لبقاء الكائنات الحية ستقلُّ بمرور الزمن.

حين وضع أينشتاين نظرية النِّسبية العامة (١٩١٦)، جعل مبدأ التكافؤ الكَمي للكتلة والطاقة مفهوم الطاقة أعم. في الفراغ، تكون الطاقة ( ) مساوية عدديًّا لحاصِل ضرب كتلتها ( ) في مربع سرعة الضوء ( ): . إذا تأمَّلنا تلك المعادلة الشهيرة نجد أن لها تفسيرَين فلسفيَّين (كلاهما مُتوافق مع منظور الواحدية الحيادية). فهي يمكن أن تعني أن «الكتلة» و«الطاقة» خاصيتان متساويتان لنظام مادي أساسي، أو يمكن أن تُفهم بمعنى أن الكتلة والطاقة وجهان لعملة واحدة، وهي تُظهر بأي الوجهين حسب ما يركز عليه النظام الموجودة فيه. في بعض الأنظمة، جانب الكتلة من المادة يُهيمِن، في حين في مواضع أخرى، تتخذ المادة شكلَ مجال. في كتاب «تطور الفيزياء» لأينشتاين وإنفيلد، يُعبر عن الرأي الثاني كما يلي: «المادة تكون حيث يكون تركيز الطاقة كبيرًا، والمجال يكون حيث يكون تركيز الطاقة ضئيلًا» (أينشتاين وإنفيلد، ١٩٣٨، صفحة ٢٤٢).٦ ذلك التمييز بين المادة والمجال يُؤكد على حقيقة أن المادة في أغلبها غير مرئية بأيِّ حال، ولا يمكن الاستدلال عليها إلا من قوتها الجاذبة. في النهاية صار مفهوم المادة باعتبارها مكوَّنة من جسيمات صلبة مادية مفهومًا قديمًا وحلَّ محله مفهوما وحدة الزمان–المكان ووحدة الطاقة–المادة اللذان جاءت بهما نظرية النسبية. أدرك برتراند راسل بوضوح ذلك الوضع الجديد وعبَّر عنه قائلًا:

المادة، بمفهومها البديهي، هي شيء لا يَفنى بمرور الزمن ويتحرك في الفراغ. لكن هذا المنظور لم يعد مقبولًا بالنسبة لفيزياء النسبية الحديثة. لم تَعُد الكيانات المادية أشياءً باقية لها حالات مُتغيرة، بل صارت أنظمة مُكوَّنة من أحداث مُترابطة. وزال عن المادة رسوخها القديم، وبزواله زالت السمات التي كانت تجعل مُتبني المذهب المادي يَعتبر المادة أكثر واقعية من الأفكار العابرة.

(راسل، ١٩٦١، صفحة ٢٤١)
أحدثت ميكانيكا الكم تغيرًا أكثر ثورية في مفهوم المادة، إذ تخلَّت بالكلية عن فكرة أن الكيانات المادية لها حالة بسيطة قابلة للتحديد في المستوى النهائي للمادة. إذ يُشير مبدأ عدم اليقين في ميكانيكا الكم إلى أن الجسيمات تَنبثِق من مجال من الأحداث دون الذرية وتتلاشى فيه، والذي يَستعصي وصف حالته الأنطولوجية في ضوء المفهوم البسيط للموضع أو الزمن. تعدُّ الطبيعة العشوائية لانعدام اتساق الأحداث الكمية بحيث تصير أحداثًا كلاسيكية، والتشابك المستمر لأحداث بعيدة، خير دليل على أنه لم يبقَ أي أساس علمي يستند عليه المنظور الحدسي للمادة. وصار للمادة مفهوم عميق لكن مُراوغ. فالذرات ليست كيانات غير قابلة للانقسام كما يُشير أصل مقابلها الإنجليزي a-tomos (الذي يعني «غير منقسم» بالإغريقية). وبظهور مفهوم التشابك، لم تَعُد الذرات مُنفصلة دائمًا بعضها عن بعض وَفق المفهوم الهيومي التقليدي للأسباب والنتائج المحددة.

في معرض نقاش الفيلسوف نوروود راسل هانسن عن تأثير نظرية النِّسبية وميكانيكا الكم، تحدث عن «انتفاء خواص المادية القديمة» عن المادة بمفهومها العِلمي؛ إذ قال: «لقد انتفت عن المادة خصائصها المادية، لا باعتبارها واقعية بالمفهوم الفلسفي فحسب، بل أيضًا باعتبارها فكرة في الفيزياء الحديثة … فالخواص التي أسندها نيوتن إلى المادة؛ على سبيل المثال أن لها حالة قابلة للتحديد، ولها شكلٌ كالنقطة وصلبة غير قابلة للاختراق، لم تَعُد خواصَّ تُوصَف بها الإلكترونات؛ لأنها لا يمكن نظريًّا أن تُوصف بها» (هانسن، ١٩٦٢، صفحة ٣٤). بالطبع لا يقصد هانسن أن الأحداث الفيزيائية ليس لها أساس مادي، إنما يقصد أن مفهوم المادة خضع لمراجعات جذرية. فقد انتفَت خواصُّ المادية القديمة مثل القابلية للرصد وعدم القابلية للانقسام والتموضع.

أيضًا يُثير علم الأحياء أسئلة جديدة عن المادية بوضعه المعلومات في بؤرة التركيز. على الرغم من كل مزاعمها عن الاختزال السببي، عجزت الفيزياء (لا الكلاسيكية فحسب، بل الحديثة أيضًا) عن شرح السمات الأساسية للتطور الحيوي. ففي حين تنشأ خواص بعض المركبات الكيميائية (مثل تلك المعروفة من الجدول الدَّوري على سبيل المثال) تحت ظروف معيَّنة نتيجة التقارب الذري الذي يُمكن شرحه بالكامل بقوانين الفيزياء، فإنه لا يُوجد قانون يشرح تسلسلات الجزئيات الكبيرة للحمض النووي. لذا، فالعلاقة بين الجينومات والتقاربات الكيميائية المكونة لها علاقة اعتباطية. فالجينومات تتشكَّل نتيجة ظروف تاريخية عارضة. لكن إذا كانت البِنية المعلوماتية لتسلسلات الحمض النووي تمنحُها فاعلية سببية إرشادية، فلن يمكن استبعاد المعلومات من الصورة الشاملة. فما له فاعلية سبَبية يكون واقعيًّا كما ذكرت. في الواقع، المعلومات تُساهم في تحديد كيفية استعمال الكائنات الحية لمخازن الطاقة لديها.

(٤) المعلومات تتعلق بالاختلافات

هنا يُقابلنا سؤال: ما المقصود بالمعلومات؟ فيما يلي، أفترض أن المعلومات، بمعناها العام، لها علاقة بتوليد الاختلافات وانتشارها. والمعلومات بهذا المعنى موجودة في أساس الوجود المادي في صورة الأحداث الكمية التي تُنشئ الاختلافات باستمرار حين يَنعدِم اتِّساق المجالات الكمية وتَصير أحداثًا فردية مُتحقِّقة. تلك هي فرضية سيث لويد (٢٠٠٦) الأساسية التي ناقشها في الفصل الخامس من هذا الكتاب. لكن أغلب الأحداث الكمية يُلغي بعضها بعضًا فتتماثَل نواتجها. ولا يَكفي أن تُولِّد الأحداث الكمية اختلافاتٍ فحسب، بل يجب أن تُولِّد اختلافاتٍ لها تأثير سبيي طويل الأمد كي نَعتبرها «اختلافًا يُحدِث اختلافًا» (على حدِّ تعبير جريجوري بيتسون الشهير). أخيرًا، حين نتأمَّل الظواهر التي تُحدث اختلافًا بارزًا، نجد أنه «اختلاف يُحدث اختلافًا بالنسبة لشخصٍ ما»، شخص يُقيم ذلك الاختلاف بأنه مُهم أو بارز من ناحية ما.

حين نُعرِّف المعلومات بأنها ما يُولِّد الاختلافات ويَنشرها، فإننا يسعنا الرجوع إلى الأنواع الثلاثة من المعلومات التي ميَّز بينها جون بودفوت تمييزًا مُفيدًا (بودفوت، ١٩٩٦، الصفحات ٣٠١–٣٢٠). النوع الأول هو «المعلومات العددية»، أو المعلومات بمفهومها الرياضي كما عرَّفها كلود شانون. في ذلك المفهوم تعني «المعلومات» المُحتوى المعلوماتي الأدنى لأي حالة أو حدث مُعبرًا عنه بالبتات (الأرقام الثنائية): ١ أو ٠. على سبيل المثال، كي نعرف أيًّا من بين ١٦ شخصًا ربح سيارة في اليانصيب، يتوقَّع أن نحتاج إلى ١٦ بتًّا من المعلومات، يُمثلون ١٥ خاسرًا (معبرًا عن كل منهم بالرقم ٠) ورابح واحد (معبرًا عنه بالرقم ١). لكن إذا طرحنا سؤالًا ذكيًّا وهو إلى أيِّ المجموعتَين المكونة كل منهما من ٨ متنافسين نَحتاج إلى ٤ خطوات حوسبية ( ).٧ هنا «المعلومات» تعني المعلومات القابلة للاختزال رياضيًّا. ذلك المفهوم الكمي هو جوهر دراسات التعقيد الحوسبي. لكن السؤال هو: هل لذلك المفهوم الرياضي للمَعلومات حالة أنطولوجية؟ للوهلة الأولى، يبدو أنَّ الإجابة لا. معلومات شانون بحدِّ ذاتها ليست نظرية أنطولوجية عن العالم، بل هي إجراء مُتعلِّق بتحليل مقاطع من المعلومات باستخدام الحد الأدنى من الخطوات الأساسية، وبآلية نقْل تلك المعلومات. لكن لا بدَّ أيضًا أن النظرية المعلوماتية الرياضية تَستنِد إلى أساس أنطولوجي ما. فالحالات المعلوماتية دائمًا ما تكون مُضمَّنة في وسط فيزيائي ملموس، كما أن الوسط الفيزيائي يحدد ما أسماه تيرانس ديكون (في الفصل الثامن من هذا الكتاب) «الإمكان المعلوماتي» أي سعة الوسط الفيزيائي أو قدرته على نقل المعلومات وتخزينها. فلا وجود للمعلومات دون آلة معلوماتية (آلة حاسبة أو حاسوب رقمي أو دماغ بشري). بالإضافة إلى ذلك، ما إن تُستخدَم معلومات شانون لمعرفة معلومات «عن» شيء ما («المعلومات» بمفهومها الدلالي) تظهر مُشكلات؛ على سبيل المثال: «أوجد رابح السيارة». هنا يُشير النظام المعلوماتي إلى ظروف معلوماتية فيزيائية مختلفة عن النظام المعلوماتي نفسه وليسَت موجودة فيه. في المثال السابق، الافتراض الأساسي هو تساوي احتمال فوز المتسابقِين الستة عشر بالسيارة (أي موقف مرتفع الإنتروبيا بالمعنى الفيزيائي لدى بولتزمان)، بالإضافة إلى وجود «رابح» واحد لم يتحدَّد بعدُ. لكن تخيل أن لدينا سياقًا أساسيًّا لا تَتساوى فيه الاحتمالات؛ على سبيل المثال، في حالة معرفة أن الرابح له شارب. في تلك الحالة، قد نحتاج إلى خطوات حسابية أقل لتحديد الرابح، نبدؤها بخُطوة أولى وهي: «تحديد ذوي الشوارب». بعدئذٍ سنَستطيع تحديد الرابح في خطوة واحدة (إذا لم يكن من بينهم إلا رجل واحد ذو شارب)، أو في خطوتَين (إذا كان منهم رجلان ذوا شارب)، أو في ثلاث خطوات (إذا كان عدد ذوي الشوارب ثلاثة أو أربعة). كما قال ديكون، إنتروبيا بولتزمان تُعنى باحتمال تشوش إشارة معلوماتية، بينما إنتروبيا شانون لإشارة ما هي احتمال وجود تلك الإشارة في سياق فيزيائي مُعيَّن. باختصار، لا يمكن اختزال المفهوم المعلوماتي للإنتروبيا في مفهومها الفيزيائي، فالمعنى الأول حين يستعمل للإشارة «إلى» شيء ما، فإنه يُركز على ذلك الشيء («الرابح المحتمل»)، فيما يتجاهَل جوانب أخرى عديدة للسياق الفيزيائي باعتبارها غير مُهمَّة (على سبيل المثال، المقاعد الموجودة في الغُرفة أو التفاعل بين الجزيئات).

يوجد مفهوم آخر للمعلومات يختلف عن مفهوم شانون، وهو الذي يُسميه بودفوت «المعلومات التشكيلية»، وهي شكل أو نمط الأشياء الموجودة. هنا يكون التركيز منصبًا على المورفولوجيا، أو دراسة الأشكال أو الخواص المحدَّدة. المعلومات التشكيلية قد تأتي من مصادر داخلية (مثل لاقحة) أو من قيود خارجية تجعل شيئًا ما يتخذ نمطًا محددًا بالنسبة إلى بيئته. تلك المعلومات التشكيلية هي جوهر معلومات شانون حين تُستخدم للإخبار بشيء ما عن البيئة. لكن لاحظ أن المعلومات التشكيلية موجودة بكثرة في العالم من حولنا، وهي تختلف حسب الأنواع المختلفة من القيود التي قد تركز عليها عملية الرصد، وكذلك حسب مستوى البحث. على سبيل المثال، هل الحلزون وقوقعته شكل واحد، أم أنهما مركب مِن شيئَين؟ من ثَم أقترح إدراج فئتَين إضافيتين تحت فئة «المعلومات التشكيلية» العامة. يبدو أن المعلومات التشكيلية لها صورتان، فهي إما تُوجد في صورة توليد الاختلافات (كما في حالة الأحداث الكمية)، أو صورة البِنى الأوسع نطاقًا شبه المستقرة أو المرنة التي تَبحثها المجالات الكلاسيكية من الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء. في القسم التالي، سوف أُشير إلى هذَين النوعين من المعلومات التشكيلية باسم «المعلومات الحاسمة» و«المعلومات التوجيهية» على الترتيب.

النوع الثالث من المعلومات هو الذي نُشير إليه في كلامنا العادي؛ ألا وهو معرفة شيء ما ذي أهمية. في «المعلومات الدلالية» لا تكون المعلومات مُتعلِّقة بشيء ما فحسب، بل تكون ذات دلالة «لشخص ما» في سياق مُعيَّن. فاقتراب مروحية عسكرية مثلًا قد يكون مجرد حقيقة مُحايدة غير ذات أهمية، أو مؤشِّر قوي على معركة ضارية، أو على قدوم إغاثة طال انتظارها. في المعلومات الدلالية، لا يَعنينا فحسب «حقيقة» وجود هذه السِّمة أو تلك في بيئتنا (التي قد نُشير إليها)، إنما يَعنينا أيضًا «ما تعنيه لنا». هنا المعلومات جزء من عملية التواصُل، كما أشار برند-أولاف كوبرز (في الفصل التاسع من هذا الكتاب).٨

كما حاجَج ديكون ويسبر هوفماير (في الفصلَين الثامن والعاشر من هذا الكتاب)، فإن جانبَي الأهمية والتعلُّق للمعلومات قد يكونان موجودين بالفعل في المستوى الحيوي. لكن بصرف النظر عن المستوى الذي نعتبر أن المعلومات الدلالية تظهر فيه (سواء كان المستوى الخلوي الأساسي أو مستوى الدماغ أو مستوى التواصُل البشري) لا يَسعنا أن ننتقل بسلاسة من أحد جوانب المعلومات إلى غيره. إذ تَنبثِق سمات معلوماتية جديدة على مدى التطور. لكني أرى أن «مفهوم المعلومات التشكيلية أساسي بالنِّسبة إلى المفهومين الآخرين للمعلومات». فالمعلومات العددية الغرض منها نمذَجة المعلومات التشكيلية أو اختزالها (سواء كان مصدرها أحداثًا كمية أو كلاسيكية). أما المعلومات الدلالية فتدخل إلى الصورة حين يُبدي فاعلون بيولوجيون عناية بمُستقبلهم. لكن قدرات أولئك الفاعِلين تكون نابعة من بِنًى من المستوى الأعلى ذات طبيعة تشكيلية. وتظهر المعلومات الدلالية حين نُريد تفسير المعلومات التشكيلية لغرض معين.

السؤال هنا هو: هل يُمكن التمييز بين أنواع مُختلفة من المعلومات التشكيلية في مجالات مُختلِفة تمتدُّ من الفيزياء إلى علم الأحياء؟ إجابة ذلك السؤال مهمَّة صعبة تفُوق قُدراتي. فلتَسمحُوا لي إذن أن أُحدِّد فقط عددًا قليلًا من أنواع من المعلومات التشكيلية ذات الأهمية في سياق التأمُّلات الفلسفية والدينية.

(٥) من المعلومات الكمية إلى المعلومات البيولوجية: الحسم والبناء

في كتابه «برمجة الكون» (٢٠٠٦)، يُصوِّر سيث لويد الكون بأنه حاسوب عالَمي. لكن الكون لا يُشبه الحاسوب الرقمي كما يقترح ستيفن وولفرام (٢٠٠٢). الكون حاسوب، لكنه حاسوب كمِّي لا يحسب بالبتَّات العادية إنما بالكيوبتات. «كل جزيء وذرة وجسيم أوَّلي يُسجل بتات معلوماتية. وكل تفاعُل بين تلك الأجزاء من الكون يعالج تلك المعلومات بتغيير تلك البتَّات. أي إن الكون يُجري عمليات حوسبية» (لويد، ٢٠٠٦، صفحة ٣). وقد بدأ الكون عملية الحوسبة منذ نشأته، وما يحوسبه هو نفسه.

ما يُهمني هنا لا يخص فرضية سيث لويد التي تستدعي التأمل عن الكون الذي يحوسب ذاته، والتي تنطوي على افتراض أن الكون «يسجل» نفسه (بالمعنى الحرفي لا المجازي فحسب).٩ قدرة الأحداث الكمية على «توليد الاختلافات» لها أهمية في سياق موضوعنا هنا. حسب قول لويد، «المعلومات والطاقة تؤديان دورين يكمل كلٌّ منهما الآخر في الكون: الطاقة تجعل الأنظمة الفيزيائية تفعل أشياء. والمعلومات تُملي عليها ما تفعله». هذا المنظور أيضًا يستلزم أن يكون «الفاعل الأساسي في التاريخ الفيزيائي للكون هو المعلومات» (المرجع السابق، صفحة ٤٠).

بإعادة صياغة طفيفة لفرضية لويد، يعني ذلك أن أيَّ حدث كمي «يفعل» شيئًا ما على أساس الحالة الآنية للكون (إذ يُؤدي عملية تبادل للطاقة) إلى جانب أنه بوقوعه «يوجه» (معلوماتيًّا) الحالة التي تليها مباشرة والتي ستَقع فيها أحداث كمية أخرى. ولأن العلاقة بين حدثين كميَّين («أ» و«ب») لا تسير في اتجاه أحادي محدَّد من «أ» إلى «ب» (رغم أن التبادلات الإجمالية بين الحدث «أ» والحدث «ب» تخضع للقيود الإحصائية لميكانيكا الكم)، فإنَّ الكيوبتات لا تتصرَّف مثل بتات الحواسيب الرقمية، ولا تُعطي توجيهات بطريقة مماثلة؛ فالحواسيب الرقمية تُشغِّل برامجها بواسطة نظام مُكونات مادية كلاسيكي. لكن الكيوبتات لا تتصرَّف مثل نظام الأرقام الثنائية، الذي يكون لكلِّ خطوة فيه احتمالان فقط (٠ أو ١)، يحدد برنامج مسبقًا أيهما سيتحقَّق (إذا كان «س» فاختر ٠، وإذا كان «ص» فاختر ١). فسلوك الكيوبتات غالبًا ما يكون له عدد أكبر بكثير من النواتج المحتملة.

نظريًّا يُمكن التنبؤ بنواتج معالجة حاسوب رقمي للمعلومات (وإن كانت نواتجه أحيانًا ما تكون غير متوقَّعة من الناحية العملية)، أما نواتج معالجة الكيوبتات فلا يمكن التنبؤ بها نظريًّا حتى. هذا يعني أننا لن نستطيع أبدًا أن نَصنع «نسخة» مطابقة للتاريخ الكمي للكون على حاسوب كمي تكنولوجي. لكن فرضية سيث لويد تَنطوي على فكرة أننا قد لا نحتاج إلى نسخة كاملة. بافتراض أن الكون في مُجمله حاسوب (بمعنى أنه يُؤدي الخطوات الأساسية ويُحدد بِناءً عليها الظروف التي ستقع فيها الخطوات المستقبَلية)، فإنه «لا يختلف» عن الحاسوب الكمي (المرجع السابق، صفحة ٥٤). أي إننا لو استطعنا تكنولوجيًّا بِناء حاسوب كمِّي محلي باستخدام الكيوبتات لا الأرقام الثنائية، يعمل بكفاءة وسرعة مُماثلين لسرعة وكفاءة العمليات الكمية الفعلية، فسنستطيع أن نحلل بدقة مقاطع محددة من العمليات الكمية. نتيجة لذلك، ستتضاعف معرفتنا بالعمليات المعلوماتية الواقعية، وسنستطيع التوصل من سلوك وتوجيهات الكيوبتات المحلية إلى صورة أعم للعمليات الكونية الإجمالية. هذا الافتراض يُثير اهتمامي، وأعتقد أن ذلك المنظور للواقع له نتائج مثيرة.

  • (١)

    «تُقرر» الأحداث الكمية (تبادُل الذرات) مستقبل الكون عن طريق تأثيرات انعدام الاتساق الكمي.

  • (٢)

    الكون في مستوى الكيوبتات الأساسي يعدُّ «آلة مولدة للاختلافات»؛ ومن ثَم للاستحداث المعلوماتي.

  • (٣)

    نتيجة لذلك، «تميل المعلومات للتراكم» على مدى التاريخ الطبيعي للكون.

  • (٤)

    ظهر «تفسير جديد للإنتروبيا» باعتبارها مقياسًا «للمعلومات غير المرئية» (لا باعتبارها فقدًا للمعلومات)؛ المعلومات غير المرئية هي التي لا نستطيع حصدها (رغم أنها موجودة بالضرورة لأن الأحداث الكمية لا تتوقف عن الوقوع ومن ثَم توليد الاختلافات).

  • (٥)

    ولأنَّ الكون يماثل حاسوبًا كميًّا من ناحية اتخاذه خطوات وتوجيهه الخطوات التالية، فهو «يُحوسب باستمرار» نفسه بصرف النظر عن نتائج ذلك على الأنظمة الواسعة النطاق (التي تقع في حيِّز اهتمام الكائنات الحية).

إذن المعلومات التي نتعامل معها هنا لا تُعنى بالمعلومات الدلالية. إذ لا يحدث أي تخزين لأنماط معلوماتية «مميزة». بل يستمر الكون في حوسبته الحيادية مثل حاسوب كمي دون أيِّ اكتراث للنتائج. من هذا المُنطلَق يجوز القول إن لغة الآلة الكمية هي «الحسم»؛ أي إن العمليات الكمية تحدد مسارات فيزيائية معينة نتيجة لتأثيرات معينة، فيما تستبعد ما سواها من الاحتمالات.

يتغيَّر هذا المنظور إذا ما ولَجنا إلى حيز الديناميكا الحرارية الكلاسيكي. أغلب التمايزات الكمية تتساوى حين نصعد إلى مستوى العالم المنظور، إلا أن بعضها يكون له تأثيرات سببية (كما يتبيَّن بصفة مُتكرِّرة في علم الكيمياء الكمية). تضخم التأثيرات السببية لا بد أن يبدأ من مستوى العمليات الكمية، لكن ما إن تنشَأ أنظمة المستويات العليا، تظهر أمثلة عديدة على تضخُّم التأثيرات السببية في المستويات الكلاسيكية؛ وذلك لأن الأنظمة الكلاسيكية تنزع إلى البناء على البِنى القائمة بالفعل. يعدُّ تكوُّن البلورات والأعاصير مثالَين على ذلك التأثير المُتضخِّم للعمليات. تَنبثِق البِنى الذاتية التنظيم نتيجة الحفاظ على التوازن الدقيق بين التأثيرات المتضخِّمة والتأثيرات العكسية المضادة لها. وتحت ظروف حدِّية معيَّنة، تُشَق مسارات تكون لها تبعات تاريخية على الأمد الطويل. ويَصير التاريخ والطوبولوجيا عاملين مهمين.١٠ «من ثَم، فإن لغة تَشَكُّل الأنماط عن طريق التضخيم والتنظيم الذاتي هي «البناء». هنا صرنا لا نتعامَل فقط مع «الحسم» الحيادي للمعلومات فقط، بل نتعامل أيضًا مع «معلومات توجيهية» تتأثَّر بالسياق التاريخي.» هنا تبدأ الأنماط المعلوماتية المستقرة تاريخيًّا تسود.

هذا التطور يبلغ مستوًى جديدًا في عالم الأحياء، حين تُخزن المعلومات كيميائيًّا على نحو وطيد في الجزيئات الكبيرة للحمض النووي، وتظهر أهمية التمايُز بين ما هو داخل جسد الكائن الحي وما هو خارجه. يشير جون ماينارد سميث في مقاله المنهجي (في الفصل السابع من هذا الكتاب) إلى أن المعلومات مفهوم جوهري في علم الأحياء؛ لأن الحمض النووي — شأنه شأن الثقافة — يُعنى بتخزين المعلومات ونقلها. ويُحاجج بأنه يوجد اختلاف جوهري بين «الجينات» التي هي «شفرات» تُوجِّه إلى بناء بروتينات معيَّنة، و«البروتينات» التي تُشفرها تلك الجينات. ورغم أن البروتينات يكون لها أحيانًا تأثير سببي قوي باعتبارها محفزات أو مثبطات للجينات، فإن تأثيرها السببي على الجينات يكون اعتباطيًّا. فلا يوجد ضرورة تُحتِّم أن تُنظِّم بروتينات معينة جينات معينة؛ إنما هي مسألة صدفة أو «عطية» (كما أسماها مونو). على الجانب الآخر، فإن الجينات تشفر نتيجة محددة بدقة، مثل إنتاج العينين. الجينات ليسَت معلوماتية فقط من جانب أنها «تخزن معلومات» عن الماضي البيولوجي؛ إنما هي معلوماتية أيضًا من جانب أنها «تُعطي توجيهات» ذات أغراض تكيفية. يُحاجج ماينارد سميث بأن الجينات من هذا الجانب لا تعد ذات أهمية محورية لعلم الأحياء الجزيئي فحسب، بل لعلم الأحياء النمائي أيضًا. والجينات قصدية، لا بالمعنى العقلي للقصدية، إنما بمعنى أنها تنشد تحقيق نتائج مقصودة. وعنصر «القصدية» البَعدي ذلك في حدِّ ذاته هو أحد نتائج الانتخاب الطبيعي.

ذلك المنظور يضع الحمض النووي في مكانة خاصة بلا ريب؛ لأنَّ الحمض النووي لا يعمل بطريقة اعتباطية، بل يُصدِر توجيهات تهدف إلى نتائج محدَّدة. هذا المفهوم الكيميائي الحيوي للمعلومات أحادي الاتجاه. فالجينات «تشفر» العمليات اللاجينية المتعلقة بالبروتينات، لكن لا يُوجد تغذية راجعة نظامية من الخلية المُكتمِلة النمو إلى التعليمات الجينية، عدا التغذية الراجعة اللاحقة عن البقاء التفاضُلي. في المقابل، يحاول نهج السيميائيات الحيوية الذي طرحه يسبر هوفماير وغيره إلى توسيع المنظور المعلوماتي ليشمل مستوى الخلايا (أيميش، ١٩٩٩). أي إن خلية «تؤوِّل» بيئتها مستخدمة الموارد المتاحة لها بما يتوافَق مع «مقاصد» الخلية. كما قال هوفماير، «نظام إدارة موارد» الحمض النووي دائمًا ما يعمل بواسطة «واجهة مستخدم» (هوفماير، ٢٠٠٨، صفحة ١٦٦). تلك الواجهة تُوفرها الخلية في سياقها المباشر (عادة يكون ذلك السياق هو الكائن الحي نفسه)؛ ومن ثَم فإن «عادات» سلوك الخلية هي نتاج التاريخ التطوُّري الطويل المتشابك. لا داعي إذن للتشكيك في الدور المحدَّد للجينات باعتبارها ناقلات للمعلومات ومصدرَ تعليمات لتشكيل البروتينات. ففرضية السيميائيات الحيوية ليست لاماركية، إذا كنا نعتبر أن الوراثة اللاماركية هي توريث الصفات المكتسبة عن طريق الحمض النووي. لكن السيمائيات الحيوية تُعطي أهمية أكبر لدور «مئولات» المعلومات الوراثية؛ أي «الكائنات الحية المحلية» في بيئة معينة التي تتصرف وفق الاحتمالات والضغوط البيئية. إذن سلوك الخلايا والكائنات الحية هو نتاج تاريخ تعلمي («بالدويني») (ديكون، ٢٠٠٣).١١

لم يتَّضح بعد إذا كان نهج السيميائيات الحيوية سيتمكَّن من توجيه الأنظار إلى أشكال من السببية لا يُمكن شرحها بالمناهج الكيميائية الحيوية التقليدية (مثل الارتباطات الكيميائية). لكن من المنظور الفلسفي، ما يُميز نهج السيميائيات الحيوية هو أنه يشرح إمكانية انبثاق المعلومات الدلالية أو «المقاصد» الحيوية بِناءً على المعلومات التوجيهية التي يُوفرها الجينوم. ومع أن نهج السيميائيات الحيوية يقوم على مفهوم المعلومات التوجيهية الموجود في مجال الكيمياء الحيوية التقليدي الذي يَبحث الجينات والبروتينات، فهو يضع قصة الجين في سياق أوسع؛ ألا وهو حياة الوحدات الأساسية للكائن الحي؛ أي الخلايا.

استكمالًا للاستعارات المستخدمة آنفًا، تكوين «عادات مبنية على المقاصد» لا يَقتصر فحسب على المعلومات الحاسمة (التي تُولِّد الاختلافات التي يَنبني عليها التطور)، والمعلومات التوجيهية (التي تُكوِّن بِنى البروتينات)، لكنه يشمل أيضًا معلومات التواصُل (وهي تُعنى باستيعاب الأنظمة الحيوية لموقف معين واستجابتها له بما يتوافَق مع مقاصدها)، وتلك الأنظمة الحيوية تمتدُّ من الخلايا وصولًا إلى الكائنات الحية. وكما سنرى الآن، تلك الجوانب الثلاثة من المعلومات تعدُّ محورية بالنسبة إلى اللاهوت المسيحي.

(٦) المعلومات وخرستولوجيا مرتكزة على اللوجوس: منظورات لاهوتية

أهدف فيما يلي إلى استكشاف كيف للتأمُّلات العلمية والفلسفية عن المادة والمعلومات، كما عرضتها فيما سبق، أن تُوضح المزاعم الكونية التي تُعدُّ أساس التراث الديني، وأعني هنا الدين المسيحي. في الوقت نفسه آمُل أن أُقدِّم دليلًا على أن نصوص ما قبل الحداثة مثل مقدمة إنجيل يوحنا ظلَّت محافظة على حساسيتها للفروق الدقيقة بين الجوانب المُختلفة لمفهوم المعلومات التي بيَّناها آنفًا. من ثَم فإن فكرة اللوجوس الإلهي في إنجيل يوحنا مرتبطة بالمعلومات الحاسمة والمعلومات التشكيلية (باعتبار اللوجوس «نمطًا»)، وبالجوانب الموجِّهة لتكوين حياة (باعتبار اللوجوس «حياة»)، وبالمعلومات الدلالية (باعتبار اللوجوس «كلمة»). ويعتبر اللوجوس متجسدًا (أي، صار «جسدًا») رغم أصله الإلهي.

يبين التفسير الآبائي المبكِّر لأول آية في إنجيل يوحنا («في البدء كان اللوجوس») أن المسيحية في بدايتها لم تُصَغ في قالب أفلاطوني بحت، بل يَظهر تأثُّرها بالفيزياء الرواقية، وهي الفلسفة التي سادَت في الإمبراطورية الرومانية في الفترة بين سنة ١٠٠ قبل الميلاد وسنة ١٥٠ بعد الميلاد. بخلاف الأفلاطونية، كانت الفيزياء الرواقية مذهبًا ماديًّا في الأساس، لكنه يُعطي مساحة كبيرة «للمعلومات»، وكذلك للجوانب (المنطقية) للعالم المادي. غير أن دراسات العهد الجديد في الماضي تجاهَلت إلى درجة كبيرة التأثير الرواقي على الفكر المسيحي المبكر. فقد كان المؤرخ وعالم اللاهوت الليبرالي أدولف فون هارناك يرى أن إنجيل يوحنا يعكس فكرًا أفلاطونيًّا–هلنستيًّا بحتًا. وفي مطلع القرن العشرين، كان الباحث الوجودي رودولف بولتمان يرى إنجيل يوحنا انعكاسًا «لأسطورة المُخلِّص الغنوصية».١٢ بالإضافة إلى ذلك، يُلاحظ في الدراسات المعاصرة لإنجيل يوحنا، لا سيَّما الكاثوليكية الأصل، نزعة إلى التركيز الشديد على المصادر اليهودية والتوراتية لذلك الإنجيل، إلى حدِّ أنها تتجاهل معرفة يوحنا الواسعة بالكون.١٣ لكن بعض المنظورات في الدراسات الأحدث للعهد الجديد تُؤكد على تأثير الفيزياء الرواقية التي عاصرها بولس ويوحنا، وهذا يفتح الباب لاحتِمالات جديدة لفهم كيف تعكس كتابات بولس ويوحنا مزيجًا من الأفكار الرواقية والأفلاطونية الوسطى وهو مزيج كان شائعًا بين العديد من مُعاصريهما.١٤ من ثَم فإن الإله والمادة ليسوا مُنقسمين إلى عالمين مُنفصلين، كما في الأفلاطونية والغنوصية؛ وإنجيل يوحنا لا يُمكن شرح معناه في ضوء التشخيص أو التجسد فقط. من ذلك المنظور الجديد، يحتمل أن تكون الجوانب المُشتركة بين الفكر المسيحي المبكر والمباحث العلمية المعاصرة أكثر من الجوانب المشتركة بينه وبين ما يُسمى بالتفسيرات الوجودية «الحديثة» للمسيحية، التي تفترض أن الإله والإنسانية مُنفصلان عن الطبيعة.

تبدأ مقدمة إنجيل يوحنا (١: ١-١٤) بوضع دلالة شخصية يسوع التاريخية في سياق كوني. فتصور اللوجوس الإلهي بأنه المبدأ الخالق والمبدأ المُصوِّر للكون «في البدء» (يوحنا، ١: ١-٥)، وبأنه مصدر المعرفة لجميع البشر منذ بدء الخليقة (يوحنا، ١: ٩). ذلك اللوجوس الإلهي الحاضر في الكون كله والمؤثر فيه هو الذي صار «جسدًا» في حياة يسوع الناصري (١: ١٤). من ثَم فإن اللوجوس و«الجسد» مفهومان مترابطان، وكلاهما له تأثير كوني.

وقد وُصِف اللوجوس الإلهي بأنه «في البدء» (en archē). يشير المُصطلح الإغريقي archē، على غرار مُرادفه اللاتيني principium، إلى بدايةٍ زمنية وكذلك إلى بدايةٍ أنطولوجية. إذن فإن archē يَعني ما نُسميه اليوم الواقع المطلق أو النهائي؛ واللوجوس هو المبدأ (الأزلي) الذي تَنبثِق منه جميع البدايات (الحادثة) الأخرى. وقد كان اللوجوس أيضًا «عند الله» (en theō). وثمة ترابط بين مفهوم «في البدء» ومفهوم «عند الله»، طالما أن الله هو المبدأ الخالق لكل ما هو كائن وكل ما سوف يكون. لكن اللوجوس ليس مُطابقًا لله (الموصوف في مَوضعٍ لاحق من الإنجيل بأنه «الآب»). إنما اللوجوس هو الإله بمعنى أنه مسندة إليه صفات إلهية (theos) لكن لم يُذكَر أنه الله بالمعنى الجوهري (وهو ما كان سيُعبَّر عنه بإضافة أداة تعريف ho theos).١٥ اللوجوس ينتمي إلى الله وهو الله لكن ماهيته ليست مطابقة تمامًا لماهية الله.
المُصطلح الإغريقي Logos يمكن ترجمته ترجمة مختلفة. حتى الآن، أكثر الترجمات الشائعة له هي «الكلمة» اتباعًا للترجمة اللاتينية «الفولجاتا» التي تَرجِع إلى القرن الرابع. لكن العلَّامة ترتليانوس الذي كان يكتب في سنة ٢٠٠ ميلاديًّا تقريبًا لم يُولِ أيَّ اعتبار لتلك الترجمة. ففي معرض مناقشته لمعاني المصطلح الإغريقي Logos، يُشير إلى أنه يُمكن ترجمته إلى كلمة ratio اللاتينية (التي تعني المنطق) وكلمة sermo (التي تعني الكلام). لكن ترتليانوس يرى استحالة أن يكون الله «مُتكلمًا» منذ الأزل، قبل بداية العالم الحادث. بل إن أزلية الله تُحتِّم أن يكون المعنى المقصود هو المنطق أو العقل الإلهي (ratio)، الذي قد ينطوي على حديثٍ داخلي (sermo)، لكنه لم يتكلَّم إلا بعد خلق العالم حين صارت هناك مخلوقات يخاطبها. لكن اللوجوس لم يكن متكلمًا قبل الخلق.١٦
هنا يتفق ترتليانوس مع فلسفة المدرسة الرواقية إذ يميز بين «اللوجوس الموجود في جوهر الله» (logos endiáthetos) و«اللوجوس الإلهي الخارجي» (logos prophórikos). وذلك تمييزٌ استخدمه صراحة آباء الكنيسة الإغريق مثل ثاوفيلوس الأنطاكي (١٩٠ ميلاديًّا تقريبًا)،١٧ وهو ما يدلُّ على أن الفيزياء الرواقية كانت مشهورة بين الكتَّاب المسيحيِّين في الإمبراطورية الرومانية.

تلك التفسيرات المبكرة لإنجيل يوحنا هي دليل على أن الفكر المسيحي تأثر بالرواقية (لا الأفلاطونية فحسب)، وتأثر بها كذلك آباء الكنيسة المعادون للغنوصية. نتيجةً لذلك، ثمة رابط قوي بين طبيعة الله «الداخلية» وإبداعه «الخارجي». ويوجد دليل على ذلك التفسير في نَص مقدمة إنجيل يوحنا نفسه. إذ يقول عن اللوجوس الإلهي: «كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (يوحنا ١: ٣). إذا طبَّقنا ذلك على النقاشات الآنفة، يجوز القول إن اللوجوس هو «مصدر معلوماتي إلهي»، وهو إبداعي إذ يبث التمايزات في العالم (يحدد الأشياء) ويجعل الأنماط المعلوماتية تَعمل وتتناغَم بعضها مع بعضٍ (يمزج بين الأشياء). يجوز أن نصف اللوجوس بأنه البنية المعلوماتية التي تقوم عليها الصور الملموسة التي انبثقت والتي ستنبثق في عالم الخلائق.

في الفكر الرواقي، لا يوجد انفصال بين الله والعالم كما في التراث الأفلاطوني، فاللوجوس متغلغل في كل شيء باعتباره المبدأ المُنظِّم للكون. من ثَم فإن اللوجوس مُتمثل في النظام المتناغم الموجود في الكون، والرغبات الموجودة لدى الكائنات الحية، والقدرات المنطقية للبشر. هكذا ورَد عن اللوجوس في مقدمة إنجيل يوحنا أنه «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يوحنا ١: ٤). تُشير لفظة «الحياة» إلى الحياة البيولوجية، لا سيما الجانب المتعلق بازدهار الحياة و«المتنورون» ليس المقصود بهم جماعات دينية معيَّنة مثل المسيحيِّين، بل البشر الذين يُولدون في العالم عامة: «كان النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان آتيًا إلى العالم» (يوحنا ١: ٩).١٨

كان الفلاسفة الرواقيون يُميزون بين العالم والله؛ إذ كانوا يرون أن اللوجوس الإلهي مبدأ فاعل، والبنى المنطقية للكون صفات منفعلة. لكنهم كانوا يزعمون أن الله مادِّي بقدر العالم الفيزيائي، لكنه من مادةٍ أرقى وأكثر نارية وهوائية. غير أن مفهومهم عن المادة كان مُخالفًا لمفهوم المادة لدى المدرسة الإبيقورية المنافسة لهم التي كانت تَعتبرها جسيمية؛ إذ كانوا يفترضون أن الكون يتألف من مجالٍ متجانس من الطاقة والمادة (مرتبط بالعناصر النار والهواء، والماء والتراب، على الترتيب). في كتابه «مقال عن الوحدة في الفلسفة الرواقية» يقول جوني كريستنسن: «لا يُمكن وصف النظرية الفيزيائية الرواقية إلا بأنها نظرية مجالية، في مقابل النظرية الجسيمية التي يقول بها أتباع المذهب الذري». لكن دور اللوجوس الإلهي على وجه التحديد هو شرح «وحدة التمايز والنظام» داخل الكون: «الحركة مرتبطة للغاية بالنظام (اللوجوس). وهي تتعلَّق بأجزاء الطبيعة، وتدل على درجة فائقة من التركيز على البناء والتمييز» (كريستنسن، ١٩٦٢، صفحة ٢٤ و٣٠).

لا أزعم أن المفهوم اليوحناوي للوجوس مُستمد فقط من مصادر رواقية، فاللوجوس مفهوم مرن من الناحية الدلالية، وله دلالات يهودية ورواقية وأفلاطونية وسطى. لكني أعتقِد أنه من الخطأ أن نحصر إنجيل يوحنا في حيز الأفلاطونية أو نسخة من الغنوصية فقط. ففي إنجيل يوحنا لا يوجد انقسام (بالمصطلح الأفلاطوني: chōrismos) بين اللوجوس الإلهي الأزلي واللوجوس الذي يخلق «داخل» المجال الواحد الذي يضم التمايزات الفيزيائية والحياة البيولوجية والتنوير البشري. «كان في العالم، وكُوِّنَ العالم به، ولم يَعرفه العالم. إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله» (يوحنا ١: ١٠-١١). ما يقصد هنا هو أن اللوجوس «موجود في الكون». المشكلة لا تكمن في ضرورة وجود حد فاصل بين الله والعالم؛ إنما في عدم إدراك البشر للعلاقة بين اللوجوس والكون.
لكن من الواضح أن المسيحيِّين اختلفوا عن الفلسفة الرواقية بإصرارهم أن اللوجوس الإلهي كانت له طبيعة مختلفة قبل طبيعته المادية. فاللوجوس قبل أن يَصير جسدًا (logos ensarkos)، لم يكن متجسِّدًا (logos asarkos). في ذلك، وافَق المسيحيُّون المعنى اليهودي والأفلاطوني لتعالي الله، فيما وازنوا بين هذا العنصر «الأفلاطوني» وعقيدة تجسد اللوجوس «الرواقية»: «والكلمة صار جسدًا (sarx)» (يوحنا ١: ١٤).
مثل فكرة اللوجوس، مصطلح «الجسد» له دلالة فضفاضة، وهو ما قد يكون مقصودًا. فكلمة «جسد» قد تَعني «جسدًا من لحم ودم»، وهي في تلك الحالة تُشير إلى شخص يسوع التاريخي. وهو المعنى المقصود لا محالة. لكن كلمة sarx أيضًا قد تأتي بمعنى «الجسد المذنب»، وفي تلك الحالة سيكون بمثابة تحذير من أنَّ تجسُّد اللوجوس في يسوع المسيح يأذن بالفعل بموت يسوع لأجل البشرية جمعاء. «المولود من الجسد جسدٌ هو، والمولود من الروح هو روح» (يوحنا ٣: ٦). إضافة إلى ذلك، فإن كلمة يسوع الأخيرة حسب ما ورَد في إنجيل يوحنا (١٩: ٣٠) كانت: «قد أُكمِلَ». فعملية التجسد لم تكتمل حتى انتهت حياة يسوع على الصليب. لكن ثالثًا وأخيرًا، تُشير كلمة الجسد إلى «المادية» بمعناها العام، الذي يتعلَّق بهشاشتها وعدم ديمومتها. في تلك الحالة، يُمكن القول إن آية يوحنا ١: ١٤ تشير إلى معنى «تجسُّد عميق»: التحول التجسُّدي للوجوس الإلهي لا يقتصر فقط على تجسده في شخص بشري معين فقط، في «دم المسيح وجسده». إنما يمتد التجسد أيضًا إلى يسوع باعتباره مثالًا للبشرية جمعاء، وباعتباره تجسيدًا «للجسد الضعيف» للمخلوقات البيولوجية. باعتبار الخلفية الكونية التي قامت عليها مقدمة إنجيل يوحنا، يمكن القول إن اللوجوس الإلهي بتجسده اتحد مع الأشياء المادية الأساسية.١٩ بعبارة أخرى، الجسد الذي يفترض أنه يسوع الناصري ليس مجرَّد فتًى من أورشليم، بل هو أيضًا إنسان، وحيوان، هو عين المادة. بلغة الكتاب المقدس، صار الله إنسانًا، وعصفورًا يطير ويسقط على الأرض، صار العشب الأخضر الذاوي، كي يتَّحد مع المادة الدنيوية (sarx).

ذلك التفسير الأخير له نتائج مهمَّة لفهم العلاقة بين الله والعالم المادي إجمالًا. إذن اللوجوس الإلهي ليس موجودًا فحسب في جسد يسوع بالتحديد. بل يوجد أيضًا — باعتباره الخالق والمُخلِّص — في مادة الوجود نفسها. من ثَم فإن موت يسوع يُحقِّق طبيعة اللوجوس الباذلة للذات لأجل الكائنات الممتلكة للحس التي تُعاني، بشرًا كانت أم حيوانات. هكذا يكون اللوجوس نورًا لا لكلِّ إنسان يأتي إلى العالم فحسب، بل هو أيضًا «نور العالم» و«نور الحياة» (يوحنا ٨: ١٢).

ذلك التفسير الكوني لإنجيل يوحنا يَتماشى بالفعل مع الفكر اليهودي؛ حيث مفهوم «بيت» الله (shechinah) الموجود في قلب العالم. لكن ما يجعل ذلك التفسير أكثر معقولية هو فهم أن مقدمة إنجيل يوحنا متأثرة بالفكر الرواقي. فهنا يتأكَّد أن اللوجوس هو الحد الفاصل الحي بين الواقع النهائي الذي هو الله والواقع قبلَ النهائي الذي هو العالم.٢٠

إذا نظرنا إلى اللوجوس الإلهي من هذا المنظور التاريخي، ووضَعناه في سياقِ الكون المعلوماتي بمفهومه الحالي، فسيُمكن اعتباره المصدر المعلوماتي الفاعل في عالم الخلائق، من خلال توليد التمايُزات من العمليات الكمية العشوائية، وتوجيه القوى المحركة عن طريق العمليات الديناميكية الحرارية، وتكوين البِنى الحيوية وإعادة تشكيلها، وتيسير تكون الروابط وعمليات التواصل في جميع المستويات الممكنة. بعض تلك الجوانب له طبيعة مُنظَّمة كالقوانين (على الأقل من الناحية الإحصائية في المجمل)، بينما يعتمد البعض الآخر على العمليات العشوائية التي تحدث على مدى التاريخ.

على هذا الأساس، يمكن أن نرى توافقًا كبيرًا بين خرستولوجيا لوجوس مُفسَّرة في إطارها الكوني، والمادة والمعلومات بمفهومهما المعاصر. يرى يوحنا أن «الجسد» الذي وُجِد في العالم المادي قد حلَّ فيه اللوجوس الإلهي، الذي اتحد مع عالم الخلائق؛ عن طريق خلق التمايُزات («المعلومات الحاسمة»)، وتكوين الأنماط وإعادة تشكيلها («التوجيه والبناء»)، وخلق تفاعلات بنَّاءة بين الكائنات الحية وبيئاتها («الاستيعاب والتواصل»)، وجعل المعنى والتواصل مُمكنًا («جعل الأشياء مفهومة»).

بِناءً على ذلك، لعله من الممكن أيضًا أن نؤكد على أهمية «نشيد إلى المادة» البديع الذي ألَّفه الكاهن اليسوعي وعالم الحفريات البشرية تيَّار دي شاردان في لحظة تعجُّبٍ مرَّ بها بعد أن خاض تجربة الحرب العالمية الأولى الصادمة. رغم ذلك، رضي تيَّار أن يَقبل العالم كما هو، بما فيه من قسوة وأهوال. ولعلَّ بعضنا يرفض منهج تيَّار التطوري التقدمي من الأساس، لكن نشيده عن المادة يعكس فهمًا عميقًا للوحدة بين الإله الخالق والعالم المادي الحالِّ فيه الوجود الإلهي:

مباركة أنتِ يا مادة جامدة، يا أرضًا بورًا، يا صَخرة قاسية، يا مَن لا تلينين إلا بالشدة، ولا تُطعمين إلا كادحًا.

مباركة أنتِ يا مادة محفوفة بالخطر، يا بحرًا هائجًا، يا شهوة جامحة، يا من تُهلكينا إن لم نَغلُلك.

مباركة أنتِ يا مادة عظيمة، يا تطورًا كاسحًا، يا واقعًا مُتجددًا أبدًا، يا من تُفجرين دائمًا أسوارنا وتَدفعيننا أن نبحث عن الحقيقة دومًا وبعيدًا.

مباركة أنتِ يا مادة شاملة، يا ديمومة أزلية، يا أثيرًا لا نهائيًّا، يا هوة مثلَّثة للنجوم والذرات والأجيال، أنت يا من تطغين على قياساتِنا الضيقة وتحطمينها فتَكشفين لنا أبعاد الله …

أُحييك، يا بيئة إلهية، حُبلى بالقوة المبدعة، يا محيطًا حرَّكه الروح، يا طينًا مجبولًا ومروضًا بالكلمة المتجسدة.

(تيَّار، ١٩٧٨، الصفحتان ٧٥-٧٦)

المراجع

  • Barrett, C. K. (1972), The Gospel According to St. John, London: SPCK.
  • Brown, R. E. (1966), The Gospel According to John (i-xii), New York: Doubleday.
  • Buch-Hansen, G. (2007), It is the Spirit that Makes Alive (6:63), A Stoic Understanding of pneuma in John, Copenhagen: Copenhagen University.
  • Bultmann, R. K. (1971), The Gospel of John: A Commentary, Philadelphia, PA: Westminster Press.
  • Christensen, J. (1962), An Essay on the Unity of Stoic Philosophy, Copenhagen: Munksgaard.
  • Davies, P., and Gribbin, J. (1992), The Matter Myth: Dramatic Discoveries that Challenge our Understanding of Physical Reality, New York: Simon & Schuster.
  • Deacon, T. W. (2003), The hierarchic logic of emergence: Untangling the interdependence of evolution and self-organization, In Evolution and Learning: The Baldwin Effect Reconsidered, eds. B. H. Weber and D. J. Depew. Cambridge, MA: MIT Press, 273–308.
  • de La Mettrie, J. O. (1748), Machine Man and other Writings, ed. Ann Thomson (1996), Cambridge: Cambridge University Press.
  • Einstein, A., and Infeld, L. (1938), The Evolution of Physics, New York: Simon & Schuster.
  • Emmeche, C. (1999), The Sarkar challenge to biosemiotics: Is there any information in the cell? Semiotica, 127(1/4): 273–293.
  • Engberg-Pedersen, T. (2000), Paul and the Stoics, Louisville, KY: Westminster John Knox Press.
  • Flores, F. (2005), The Equivalence of Mass and Energy, Stanford Encyclopedia of Philosophy, originally accessed 2 August 2006; substantive revision 2007 (http://plato.stanford.edu/entries/equivME).
  • Gregersen, N. H. (1998), The idea of creation and theory of autopoietic processes, Zygon: Journal of Science & Religion, 33(3): 333–367.
  • Gregersen, N. H. (1999), I begyndelsen var mønsteret, Kritisk Forum for Praktisk Teologi, 75: 34–47.
  • Gregersen, N. H. (2001), The cross of Christ in an evolutionary world, Dialog: A Journal of Theology, 40(3): 192–207.
  • Gregersen, N. H. (2007), Reduction and emergence in artificial life: A theological appropriation, In Emergence from Physics to Theology, eds. N. Murphy and W. Stoeger, New York: Oxford University Press, 284–314.
  • Hanson, N. R. (1962), The dematerialization of matter, Philosophy of Science, 73(1): 27–38.
  • Hoffmeyer, J. (2008), Biosemiotics, An Examination into the Signs of Life and the Life of Signs, Scranton and London: University of Scranton Press.
  • Laplace, P. S. (1813), The System of the World, vols 1-2, trans. J. Pond (2007), Whitefish, MT: Kessinger Publishing.
  • Lloyd, S. (2006), Programming the Universe, New York: Knopf.
  • Mayer, J. R. (1842), Bemerkungen uber die Krafte der unbelebten Natur, Philosophisches Magazin, 24: 371–377.
  • Mayer, J. R. (1980), Remarks on the forces of inorganic nature, In Darwin to Einstein: Primary Sources on Science & Belief, eds. N. G. Coley and V. M. D. Hall, Harlow, UK: Longman, 68–73.
  • Newton, I. (1952), Opticks, or A Treatise of the Reflections, Refractions, Inflections & Colours of Light, 4th ed (1730), New York: Dover Publications.
  • Peacocke, A. (2007), All That Is: A Naturalistic Faith for the 21st Century, ed. P. Clayton, Minneapolis: Fortress.
  • Puddefoot, J. C. (1996), Information theory, biology and christology, In Religion and Science: History, Method, Dialogue, eds. M. Richardson and W. J. Wildman, New York: Routledge, 301–320.
  • Richards, R. J. (1987), Darwin and the Emergence of Evolutionary Theories of Mind and Behavior, Chicago, IL: University of Chicago Press.
  • Russell, B. (1961), Introduction to A History of Materialism, by F. A. Lange (1925), In The Basic Writings of Bertrand Russell 1903–1959, eds. R. Egner and L. E. Denonn (1961), New York: Simon & Schuster, 237–245.
  • Schnackenburg, R. (1979), Das Johannesevangelium, Einleitung Kommentar Teil 1, Freiburg: Herder Verlag.
  • Stubenberg, L. (2005), Neutral monism, Stanford Encyclopedia of Philosophy, originally accessed 31 July 2006; substantive revision 2010 (http://plato.stanford.edu/entries/neutral-monism).
  • Teilhard de Chardin (1978), The Heart of Matter, London: Collins.
  • Tertullianus (c. 200), Adversus Praxeas, In Patrologia Latina, vol.2, ed. J. P. Migne (1857), Turnhout: Brepols, 160, Theophilus of Antioch (c. 190) Ad Autolycum, In Patrologia Graeca, vol. 6, ed. J. P. Migne (1866), Turnhout: Brepols, 1064.
  • Thomson, W. (1980), On the dynamic theory of heat, In Darwin to Einstein, eds. N. G. Coley and V. Hall, Harlow, UK: Longman, 84–86.
  • von Harnack, A. (1892). Über das Verhältniss des Prologs des vierten Evangeliums zum ganzen Werk, Zeitschrift fur Theologie und Kirche, 2(3): 189–231.
  • Weaver, W. (1949), Recent contributions to the mathematical theory of communication, In The Mathematical Theory of Communication, eds. C. E. Shannon and W. Weaver, Urbana: The University of Illinois Press, 94–117.
  • Wolfram, S. (2002), A New Kind of Science, Champaign, IL: Wolfram Media.
  • Zemann, J. (1990), Energie, In Europäische Enzyklopädie zu Philosophie und Wissenschaften, ed. H. J. Sandkühler et al., Hamburg: Felix Meiner, 694–696.
١  «باعتبار جميع تلك الأمور أرى أنه من المرجَّح أن الله خلق المادة في البداية في صورة جُسيمات صلبة جامدة ذات كتلة وغير قابلة للاختراق وقابلة للتحريك، والتي كانت في شكلٍ وحجم، وغيرهما من الخواص، وتناسُبٍ مع الفراغ يُناسب الغاية التي خلقها لأجلها؛ ولأن تلك الجُسيمات البدائية صلبة، فإنها تفوق الأجسام التي تتألَّف منها صلابةً إلى حدٍّ لا يُقارَن؛ وهي صلبة للغاية إلى حد يجعلها غير قابلة للتجزئة؛ فلا يوجد أي قوة عادية قادرة على تجزئة ما خلقه الله واحدًا في بداية الخلق.» (نيوتن، ١٩٥٢، صفحة ٤٠٠)
٢  «مفهوم المادة له ثلاثة جوانب رئيسية لا ينفصِل بعضها عن بعضٍ وإن كانت مُستقلة نسبيًّا: الجانب المادي (المرتبط بالركيزة)، وجانب الطاقة (المرتبط بالحركة)، والجانب المعلوماتي (المرتبط بالبنية والتنظيم)» (زيمان، ١٩٩٠، صفحة ٦٩٥).
٣  راجِع على سبيل المثال بيكوك (٢٠٠٧).
٤  راجع ستوبنبرج، ٢٠٠٥؛ واستخدامي السابق للمُصطَلح في عملي (١٩٩٨).
٥  المقولة الأصلية هي «العمل الدائم دون لهوٍ يجعل جاك ولدًا مملًّا». لا أعرف على وجه الدقة أصل ذلك المثل، لكنه اشتُهر باستعماله في فيلم «البريق»، حيث كانت الشخصية التي أداها الممثل جاك نيكلسون تكتبها على نحو مُتكرِّر على الآلة الكاتبة.
٦  راجِع فلورز (٢٠٠٥، الصفحات ٤–٦).
٧  راجِع ويفر (١٩٤٩، صفحة ١٠٠ والتي تليها).
٨  أقرَّ بوجود جدل غير محسوم يتعلَّق بمسألة ما إذا كان المعنى الدلالي يُعدُّ دائمًا جزءًا من عملية التواصل بالنِّسبة إلى الفاعلين، أم إن المعلومات الدلالية تُعدُّ بِناءً منطقيًّا قائمًا بذاته، كما يرى كارل بوبر على سبيل المثال. وأنا أتوجَّه بالشكر إلى الدكتور توربن براونر من جامعة روسكيلا على إثارته ذلك السؤال (في رسالة بريد إلكتروني أرسلها في ١٣ مايو ٢٠٠٩). لكني لن أخوض في تلك المسألة؛ نظرًا لأنَّ ما يعنيني هنا هو التأثير السببي المحتمل للمعلومات الدلالية، وهو الدور السببي الذي يَفترض وجود مستقبلين للمعلومات يرونها ذات أهمية. أما بالنسبة إلى الفاعلين البيولوجيين، فإن المعلومات الدلالية الجديدة عادة ما تُؤدي إلى أفعال جديدة لها تأثيرات تُحدِث تغيرًا في العالم.
٩  كلمة «يسجل» قد تشير إلى القُدرة على حفظ المعلومات والقُدرة على رصد السلوك الذاتي، وهو ما لا يَنطبق على العمليات الكمية. في محاورة شخصية مع سيث لويد (في كوبنهاجن، ١٧ يوليو ٢٠٠٦) وضَّح لي أن مُصطلح «يسجل» ينبغي أن يُفهم بمعنى «يتَّخذ خطوة» وأنه لا يحمل معنى الحفظ أو الملاحظة.
١٠  راجِعْ ديكون (٢٠٠٣، الصفحات ٢٨٠–٢٨٤).
١١  سُمي ما يُدعى «تأثير بالدوين» تيمنًا بعالم النفس الدارويني جيمس مارك بالدوين (١٨٦١–١٩٣٤)، الذي اشتهر بدفاعه عن فكرة «التطور العضوي». يقول بالدوين إن الذكاء (وأشكاله الأولية الحيوية) له دور تكيُّفي إيجابي، وأحد أمثلة ذلك هي استخدام الكائنات الحية المُنفرِدة العادات أو التعلم بالتقليد للتأقلُم مع بيئاتها عن طريق التركيز الانتقائي والاستجابة الانتقائية؛ طالِعْ ريتشاردز (١٩٨٧، الصفحات ٤٠١–٥٠٣).
١٢  راجِعْ أدولف فون هارناك (١٨٩٢)، وبولتمان (١٩٧١).
١٣  طالِعْ براون (١٩٦٦، صفحة ٥٢٤): «إجمالًا، يبدو أن وصف مقدمة إنجيل يوحنا للكلمة أقرب إلى سمات الفكر اليهودي والتوراتي منها إلى الهلنستية البحتة». طالع أيضًا آر شناكنبرج (١٩٧٩، صفحة ٢٠٩): «الآيات ١-٣ ليست تأملات عن الكون قائمة بذاتها، بل هي الشطر الأول من قصيدة مدح للمُخَلِّص. وهذا يُفسِّر دقة الصفات الشخصية المنسوبة إلى «الكلمة» أو اللوجوس.»
١٤  تطور جزء مهمٍّ من تلك الدراسات الجديدة في إطار الدراسات التي جرت في مدرسة كوبنهاجن للعهد الجديد؛ طالع إنجبرج–بيدرسن (٢٠٠٠). تصف جيتا بوخ-هانسن إنجيل يوحنا قائلة: «الفلسفة الأفلاطونية بما تنطوي عليه من عالم الظلال والظواهر غير المستقرَّة وغير الواقعية، والقيامية بما تنطوي عليه من حساب لذلك العالم الشرير كلاهما لا يَصفان الجانب التأكيدي لعلاقة الإله بالعالم في الإنجيل الرابع» (بوخ-هانسن، ٢٠٠٧، صفحة ٥). وأنا أشكُر جيت بوخ-هانسن على نقاشاتها المكثَّفة عن تلك الموضوعات، وعلى مشاركاتها البنَّاءة بخصوص ذلك القسم من الفصل.
١٥  يقول سي كيه باريت: «لفظة theos دون أداة تعريف مستخدَمة على نحو إسنادي وهي تصف طبيعة «الكلمة»» (باريت، ١٩٧٢، صفحة ١٣٠).
١٦  ترتليانوس، «معارضة براكسيس»، الفصل ٥: «ليس مُتكلمًا منذ الأزل، بل كان الكلام عقلانيًّا حتى بدء الخلق.»
١٧  ثاوفيلوس الأنطاكي، «إلى أوتولكيوس»، الكتاب ٢، الفصل ١٠. لقد ناقشتُ تلك النصوص بتفصيل أكبر في جريجرسِن (١٩٩٩).
١٨  غالبًا ما تُترجم الآية ٩ هذه ترجمةً مختلفة، بما يعني أن اللوجوس هو الذي كان يوشك أن يأتي إلى العالم. لكن لفظ «آتيًا» (بالإغريقية: erchomenon) أقرب لأن يكون مُسندًا إلى كلمة «إنسان» (anthrópon) منه إلى «النور» التي هي الفاعل الأساسي في الجملة. تلك الترجمة الشائعة إلى جانب غرابتها اللغوية، هي أيضًا تُعد تفسيرًا متسرعًا، لأن تجسد يسوع لا يُذكَر حتى الآية ١٤.
١٩  طورتُ مفهوم التجسُّد العميق سابقًا في جريجرسِن (٢٠٠١).
٢٠  ذلك التفسير لا يكون منطقيًّا إلا إذا وفَّينا المنظور اليوحناوي حقه، وهو المنظور الذي يرى أنه نتيجة لتلك الخلفية الكونية، فإن البشر (وهم كائنات عقلانية) استُدعوا إلى هذا العالم كي يُعيدوا تجسيد «الحق» و«الطريق» من خلال التمييز العمَلي بين الحق والباطل. من ثَم فإن وجود اللوجوس ليس مجرد رأي نظري «نؤمن به»، بل هو أيضًا «فعل الحق» (يوحنا ٣: ٢١). كي يصير ذلك ممكنًا، انسحب يسوع المسيح من بين تلاميذه باعتباره اللوجوس المتجسد. ويُقال إنه قد كان من اللازم أن يرحل يسوع عن تلاميذه، وإلا لا يكون ثمة مساحة للروح الإلهي بأن يُبَث في تلاميذه، بغرض أن «يرشدكم إلى جميع الحق» (يوحنا ١٦: ١٣). هنا المقصود بتعبير «جميع الحق» أيضًا «فعل الصواب في الحياة الفعلية»؛ أي العمل بالحق في مواقف معيَّنة. حتى إن بوخ-هانسن (٢٠٠٧) ترى أن الروح هو الفاعل القصدي والشخصية الرئيسية في قصة يسوع، بمعنى أن اللوجوس المتجسد المانح للروح كان هو ما يحرك يسوع المسيح. وهي ترى كذلك أن مفهوم الروح/الريح (pneuma) اليوحنَّاوي يَنطوي على بُعدٍ فيزيائي، كما ورد في يوحنا ٢٠: ٢٢؛ حيث يقول يسوع بعد قيامته مخاطبًا تلاميذه: «ولما قال هذا «نفَخ» وقال لهم: «اقبَلوا الروح القدس»» [علامات التمييز مِن وضعي].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤