الفصل الثاني

من المادة إلى المادية … ثم العودة إلى المادة (تقريبًا)

إرنان ماكمولين

لمفهوم المادة تاريخ بالغ التعقيد، يرجع إلى بدايات نوع الفِكر التأمُّلي الذي صار يُعرف باسم «الفلسفة». يُقدم لنا التاريخ في هذا المجال، كما في غيره، وسيلة قيِّمة لفهم الحاضر، لهذا سيكون هو الموضوع الذي سأُركِّز عليه؛ تاريخًا أختصره لزامًا إلى موجز مبسط.

تتكوَّن تلك القصة، مثل بلاد الغال كما كان يراها يوليوس قيصر، من ثلاثة أجزاء. الأول هو الظهور التدريجي في بدايات الفكر اليوناني لعامل ضروري في مناقشة مسألة العالم المُتغير والتفصيل التدريجي لهذا العامل (أو بالأدق مجموعة العوامل) مع تعمُّق التأمل الفلسفي وتشعُّبه. والثاني هو التحول الجذري الذي حدَث في القرن السابع عشر حين اتخذ مفهوم المادة معاني جديدة، ومنح اسمه لفلسفة المادية الناشئة وأفسح مجالًا لمفهومٍ مُشتَقٍّ منه، وهو مفهوم الكتلة، في علم الميكانيكا الجديد السريع التطور. والثالث هو التحوُّل الإضافي الذي طرأ على المفهوم في القرن العشرين في ضوء التغيُّرات الهائلة التي أحدثتها النظريات الثلاث الجديدة جذريًّا في الفيزياء وهي: النسبية، وميكانيكا الكم، وتمدُّد الكون، التي سيظلُّ ذلك القرن مُقترنًا بها دائمًا. بدأت المادية تَنتفي عن المادة، إن جاز القول، حين وُضِعَت المادة والطاقة على قدم المساواة نوعًا ما، وأفسحت جُسيمات الميكانيكا الكلاسيكية السهلة التخيُّل المجال للصور المُستغلقة من الواقع لميكانيكا الكم التي لا تُوجد في مكان محدد في الواقع.

(١) المرحلة الأولى: النشأة

كان أرسطو هو أول من استعمل مُصطلحًا من اللغة الدارجة ركيزة لتحليله التِّقني للتغير الذي هو جوهر الفيزياء الأرسطية (جونسون، ١٩٧٣؛ وماكمولين، ١٩٦٥). كلمة «هيولى» (التي تُترجم في اللاتينية إلى «ماتيريا»، أي المادة) كانت تُشير في الأصل إلى الألواح الخشبية المستخدمة في بناء بيت على سبيل المثال؛ أي المواد الأولية التي يُصنع منها شيءٌ ما. لكن قبل أرسطو بوقتٍ طويل، سعى الفلاسفة الإغريق الأوائل لتحديد «الشيء» الذي يعتقدون أنه أصل كل ما نشأ، شيء يُفترض أن له خواصَّ حسية مألوفة تُساعد على فهم نشأة الكون. بل إن البعض ذهب إلى الإشارة إلى أنه أيضًا الشيء المُكَوَّن منه كل شيء في الحاضر. غير أنهم اختلفوا حول ماهية ذلك الشيء — هل هو الماء أم النار أم الذرات أم الحبوب … إلخ؟ — ولم يكن لديهم أي مُصطَلح عام لوصف الشيء نفسه. لكن كانت فكرة وجود شيءٍ ما هو بالضرورة ليس أساس النشأة فحسب، بل ربما كل ما يحصل من تغيُّر أيضًا، كانت سمة أساسية في تفكير أولئك «الفلاسفة» الأيونيِّين الأوائل.

كما لم يكن لدى أفلاطون لاحقًا أي مُصطلح محدَّد ليلعب الدور، المحوريَّ بالنسبة إليه، الذي أُسنِد فيما بعد للمادة (إسليك، ١٩٦٥). كان شغلُه الشاغل هو البحث عن الفهم، وهو ما وجده للوهلة الأولى في الرياضيات؛ حيث يُمكن للمنطق أن يتبين «المُثُل» التي لا يمكن أن تنالها يد التغيير، الذي هو عدو الفهم. عالم الحس عالم مُتغير، وتلك الحقيقة على وجه التحديد هي ما تجعله غير قابل لكمال الفهم في رأي أفلاطون. تتجسَّد المُثُل في عالم الحس؛ لكن «مثال» المثلَّث على سبيل المثال، غير مُتحقِّق بالكامل في العناصر المتعدِّدة التي يُمكن اعتبارها مثلثًا في عالم الحس. ما يجعل تلك التعدُّدية ممكنة هو وجود وعاء، قائم بذاته، يُشبه نوعًا ما ما نُسمِّيه نحن «الفراغ».

ذلك «الوعاء» هو ما يجعل العالم المحسوس ممكنًا. إذ يُمثِّل عددًا هائلًا لا نهائيًّا من الأفراد المشاركين في «المُثُل»، وبتمثيله لهم هو أيضًا يَمنح كلًّا منهم التفرد. غير أن ذلك «الوعاء» ليس مُستقرًّا؛ بل يتحرَّك «حركة اهتزازية» تمنع المُثُل من أن تُدرَك إدراكًا كاملًا من داخله. هكذا فإن عالم الحس هو على أقصى تقدير عالم الصور، لا الحقائق الفعلية، التي لا توجد إلا في عالم المُثُل. إذن وعاء المادة هو مصدر أوجُه القُصور المتعدِّدة في عالم الحس، والطُّرُق العديدة لقصور الفهم عنه؛ ومن ثَم عن «الفضيلة». من ثَم الانقسام بين المادة والعقل هو انقسام مُطلَق.

من جانب جوهري، قَلَب أرسطو نظام مُعلمه أفلاطون رأسًا على عقب. بالنسبة إليه، ليس التغيُّر بالضرورة مانعًا للفهم؛ بل هو الوسيلة التي يُمكن بها إدراك قابلية العالم المحيط بنا للفهم. اتخذ أرسطو العالم الواقعي نموذجًا له، عِوَضًا عن عالم المُثُل الرياضي. ونظر إلى السلوك — أي التغيُّر — كي يفهم ماهية طبيعة شيء ما، وإلى أي نوع تَنتمي. قد تتحقَّق المُثُل الرياضية على نحوٍ ناقص في هيئة مثلثات خشبية أو مربعات نحاسية، لكن على النقيض تتحقَّق المُثُل الحية عادةً تحقُّقًا تامًّا في أفراد النوع.

انطلق أرسطو من منطق قضايا (جُمَل) التغيُّر (ماكمولين، ١٩٦٥). على عكس بارمينيدس، الذي سعى إلى توليد مفارقة منطقية من اعتباره التغيُّر انتقالًا من العدم إلى الوجود، رأى أرسطو مثل تلك القضايا مُنقسمة إلى أجزاء ثلاثة؛ موضوع (لنَقُل إنه ورقة شجر)، ومحمول (بُنِّية اللون)، وسلب ذلك المحمول (ليست بُنِّية اللون). أتاح له ذلك الإشارة إلى أنَّ السلب الأصليَّ لا يُمكن اعتباره سلبًا للوجود؛ إذ يَنطوي على شيء حقيقي، ألا وهو القدرة على التحول إلى اللون البُني أو إمكانها، وتلك حقيقة مُميِّزة لورقة الشجر. «مادة» التغيُّر هي التي تبقى ثابتة دائمًا؛ لكن الأهم هو أنها محلُّ الإمكان. الأوراق الخضراء، مع أنها ليست بُنية الآن، تتَّسم بإمكان تحولها إلى اللون البني في لحظة ما. تلك سمة حقيقية للأوراق، إمكان ضروري بالنِّسبة إلى فهمنا لماهية أوراق الشجر. ذلك المغزى المهم يُمكن استنتاجه من كل قضية تدلُّ في معناها على تغيُّر.

يرى أرسطو أن العالم مُكوَّن من جواهر، اتحادات قائمة بذاتها مثل الكائنات الحية. ماذا سيحدث إن انعدمت إحداها؟ ما سيحدث هو تغير، لا إحلال؛ من ثَم لا بد أن شيئًا ما يظل ثابتًا. يزعم أن مادة ذلك التغير لا يمكن أن يكون لها خواص من أي نوع؛ إذ لو كان لها خواص، للزم أن تكون هي نفسها جوهرًا، وهو ما سيَعني أن التغيُّر نفسه في تلك الحالة لن يكون تغييرًا جوهريًّا حقيقيًّا. (ذلك هو اعتراضه الأساسي على فكرة وجود «الشيء» الأساسي بصوره المتعدِّدة الذي افترضه سابقَيه الأيونيَّين.) قاده ذلك لأن يطرح مفهوم المادة الأولى أو «الأولية»، وهي شيء يَفتقر إلى أي خواصَّ ذاتية ووظيفته الوحيدة هي ضمان استمرارية التغيُّر الجوهري ومن ثَم واقعيته. لم يسهب أرسطو نفسه في الحديث عن المادة الأولى، لكن بذَل من جاءوا بعده جهدًا كبيرًا في محاولة استيضاح تلك الفكرة المثيرة للجدل.

ما يستفاد من تلك القصة هو أن المادة، كما فهمَها أول من استخدم المصطلح، ليس لها أي سمات مميزة. في حالة التغيير العادي (غير الجوهري)، تكون «المادة» (المادة «الثانية» كما سُميت فيما بعد) هي موضوع التغيُّر، أيًّا كانت خواصها (ورقة شجر على سبيل المثال). أينما كان التغير جوهريًّا، تكون المادة عديمة الخواص، ليسَت مُكوِّنًا بالمعنى المتعارَف عليه، بل شيء وُصِف بأنه مفهوم ميتافيزيقي (ماكمولين ١٩٦٥، الصفحات ١٧٣–٢١٢). لكن سواء كان لها خواصُّ فعلية أو لا، كانت المادة بالنسبة لأرسطو هي محل الإمكان في المقام الأول.

كان ثمة سمات أخرى لمفهوم المادة خضعت لمعالجات أشمل في تراث العصور الوسطى اللاحق. كانت إحداها هي التفرد (بوبيك، ١٩٦٥). كانت الصورة والمادة مركَّبَين أو مُكونَين أساسيَّين لجوهر أرسطو، يحتاج كلٌّ منهما إلى الآخر ليُكوِّن شيئًا موجودًا. التفرد لا يمكن أن ينشأ عن الصورة حتمًا؛ إذ يُمكن أن تتمثل عددًا لا نهائيًّا من المرات. إذن لا بدَّ أن التفرد ناشئ من جانب المادة، وبالأخص المادة الأولية. لكن كيف؟ فالمادة الأولية كان يفترض أنها غير قابلة للتحديد. ومن الجلي أن التفرد له علاقة بالموقع في الزمان والمكان. بعد مناقشات طويلة، تقرر أن تلك الخواص المنتسبة إلى مقولة الكم الأرسطية يلزم أن تكون جزءًا على الأقل مما يحكم على شيء ما بالتفرد؛ فكما تقول العبارة الشهيرة: «المادة تدلُّ على الكَم». لم يكن من الواضح تمامًا أن ذلك الدور الجديد الذي نُسبَ إلى المادة يتَّسق مع التصور السابق للتغير الجوهري، مع أنه من الواضح أن التفرد ضالع في ضمان استمرارية جسدٍ ما أثناء مروره بالتغير المذكور.

لكن ينبغي ملاحظة أن مفهوم «كمية أو مقدار المادة» وضِع في تلك المرحلة (فايسهيبل، ١٩٦٥). وستتأتَّى ثمار ذلك في سياق مختلف؛ على سبيل المثال في دراسة ظاهرتَي التخلخُل والتكاثف، باعتبارهما مثالَين مُباشرَين على التغير الجوهري لأحد العناصر (الماء مثلًا) إلى آخر («الهواء» أو البخار). بالطبع يَخضع ذلك التغير إلى قيود كمية؛ إذ يلزم الحفاظ على كمية «شيء» ما كان ليتحدَّد لولاها. يقترح ريتشارد سواينزهيد، استنادًا إلى البداهة، أن كمية ذلك الشيء، أو كمية المادة، يجب أن تتناسَب مع حجم وكثافة الجسم المعني: وهو التعريف الذي سيتبنَّاه نيوتن لاحقًا ويَنسبه لنفسه.

بالتوازي مع ذلك لكن في سياق مُغاير تمامًا وهو الحركة، افترض جان بوريدان وجود «قوة محركة» في حالة الأجسام المتحرِّكة تظل ثابتة أو محفوظة في حال عدم وجود معوقات للحركة وتعبر عن مقدار مقاومة الجسم لتغير الحركة. اعتبرها هو كذلك مُتناسبة مع مقدار المادة في الجسم. ولا شك أن تحديد مقدار المادة في ذلك السياق كان خطوة كبيرة نحو الميكانيكا التي ظهرت في عصر لاحق. مسألة الحفظ كانت هي التي قادت أرسطو إلى مفهوم المادة في المقام الأول، لكنها كانت الآن تقود في اتجاه مختلف تمامًا، اتجاه لم يتوقَّعه حتمًا.

ثمة تطور آخر كان أفلاطون السبب فيه أكثر من أرسطو. منذ البداية، دعم علماء اللاهوت المسيحيُّون ثنائية الجسد والروح القوية التي اتَّسم بها تراث الأفلاطونية الجديدة. وصِفَت تلك الثنائية أيضًا بأنها ثنائية «المادة» و«الرُّوح»، مما يقود إلى معنًى آخر لمُصطلح المادة، باعتباره مصطلحًا عامًّا يصف أيَّ عنصر موجود في العالم المادي. أن يكون الشيء «ماديًّا» بذلك المفهوم يعني أنه يَنتمي إلى العالم المادي، والمقابلة هنا أيضًا وُصفت عادةً بأنها بين القابل للإفساد وغير القابل للإفساد. اعتبر إعمال الفكر الإنساني من النوع «غير المادي»، الذي لا يُمكن اختزاله في المقولات «المادية»؛ وهو مستقلٌّ تمامًا عن عمل الدماغ (كما اعتقد توما الأكويني وغيره). تعريف العقل من حيث المادي وغير المادي ستَنتُج عنه مشكلةُ ترسيم حدود الفعل «المادي». لم يستطع أي أحد من المتقدِّمين هؤلاء أن يُخمن الصعوبة التي سيئول إليها ذلك.

(٢) المرحلة الثانية: التحول

شهد القرن السابع عشر تحوُّلًا في مفهوم المادة، لعبَ علم الميكانيكا المزدهر دورًا رئيسيًّا فيه. صاحَبَ تحوُّل التركيز من عالم الكائنات الحية إلى موضوع الأجسام المتحرِّكة الأعم رفضًا لمقولة الجوهر الأرسطية التي اعتمَدَت بقوة على الكائنات الحية نموذجًا لها. وباختفاء الصورة الجوهرية، زال ما كان يحول دون اعتبار التغير مُتضمنًا «شيئًا» ذا خواصَّ محدَّدة. لعب ديكارت دورًا مهمًّا في ذلك التحول (بلاكويل، ١٩٧٨). فانطلاقًا من قناعته بأن العقل البشري ينبغي أن يكون قادرًا على فهم العالم فهمًا كاملًا، وكذلك مِن اعتقاده أن قابلية الهندسة للفهم تخدم النموذج الذي يحتاجه، ساوى بين الشيء المصنوع منه العالم — «مادته» — وامتداده. اختزال مادة الأجسام في امتدادها، الذي هو مزيج من حجمها وشكلها، من شأنه أن يجعل العالم قابلًا للخُضوع لأساليب الهندسة كليًّا. حينئذٍ سيُمكن تحويل علم الحركة إلى علم رياضي بالكلية، بمساعدة مبدأين بديهيَّين هما: مبدأ حفظ الحركة، وتقييد التفاعل بين الأجسام إلى التلامس فقط.

غير أن عقبات جلية اعترضَت طريق تلك الصورة المختزَلة للمادة. أولًا، كان سيكون من الضروري أن تجد مكانًا لخاصية عدم القابلية للاختراق؛ إذ لا يُمكن لامتدادَين بذلك المفهوم أن يَصطدما! ثانيًا والأهم، إنَّ غياب أي مقابل للكثافة من شأنه أن يجعل صياغة علم ميكانيكا منطقي عملية بالغة الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة. فبداهةً، الأجسام المتباينة الكثافة لها خواصُّ ميكانيكية مختلفة. وثالثًا، اعتبار المادة والامتداد شيء واحد ينفي وجود الفراغ. إذن كيف تتحرك الأجسام؟ أظهر ديكارت عبقرية فذَّة في مجهوده الذي بذله للتغلب على تلك المعوقات وغيرها، لكن في نهاية المطاف تبيَّن أن مادة لا خواصَّ لها سوى الامتداد لا يمكن أن تكون أساسًا لعلم ميكانيكا وافٍ.

ظل الدافع لذلك الاختزال قائمًا، غير أنه رُوجِع بواقعية أكثر ليُقرَّ بضعَ خواص إضافية بجانب الشكل والحجم؛ عدم القابلية للاختراق، والقابلية للحركة، والقصور الذاتي، وربما الكثافة. فقد كان ثمة مهرب من الإقرار بتلك الخاصية الأخيرة؛ إذا تبنَّى المرء النموذج الجسيمي للمادة، فسيُمكن تفسير الكثافة من ناحية مدى احتشاد جسيمات (يفترض أنها ذات كثافة واحدة) في حيِّز من الفراغ يكون شاغرًا في غيابها. كانت تلك الخواص في الغالب تُعرَّف بأنها السمات «الأولية» للمادة، تمييزًا عن السمات «الثانوية». قد تعني «الأولية» هنا السمات الموضوعية لا الذاتية، في ضوء فهم الأخيرة باعتبارها مُعتمدة بطريقة أو بأخرى على مُدرَكها. أو قد تكون إشارة إلى السمات التي يمكن تفسير كل السمات الأخرى في ضوئها (ماكمولين، ١٩٧٨أ، الصفحات ٣٢–٣٨).

في كلتا الحالتين، دعم ذلك التمايز الشائع «الفلسفة الميكانيكية» التي هيمَنت على أعمال فلاسفة الطبيعة في القرن السابع عشر. وفقًا لأولئك الفلاسفة، تتميز المادة بمجموعة صغيرة من الخواص استُنتِجَت من الخبرة العادية. وهي مكوَّنة من جسيمات دقيقة، هي نفسها غير مرئية. الحُجة على ذلك الادعاء المناقض جدًّا للفلسفة التجريبية التي بدأت تزدهر في ذلك العصر اعتمَدَت في الأساس في هذه المرحلة على نفورٍ شائع (وإن لم يكن سائدًا) من تبعات افتراض قابلية المادة للانقسام إلى عددٍ لا نهائي من الأجزاء (هولدين، ٢٠٠٦).

كان من شأن المادة الجسيمية أن تفسر جميع التغيرات التي تحدث في العالم المرئي (كما كان يؤمل)؛ على سبيل المثال، التحوُّلات الكيميائية التي وصفها بويل من ناحية البِنى الجسيمية والحركة المتسبِّبَين فيها. رأى البعض (لكن خالفهم آخرون) أن التصديق بصحة ذلك النوع من التفسيرات سيتطلَّب نوعًا جديدًا من الاستدلال، يَعتمِد ابتداءً على التخيل لوضع افتراضات عن تلك البِنى الأساسية ويتطلب معايير لتقييم الفرضيات أدق من مجرد «إنقاذ الظواهر» (ماكمولين، ١٩٩٤). بالطبع، في تلك المرحلة المبكرة، كان ذلك البرنامج لا يزال واعدًا بشكل كبير. لكن ذلك الإيمان المطلق بالفرضية الجسيمية لم يُسفِر عن نتائج واقعية؛ إذ يكاد المرء لا يستطيع ذكر تفسير جسيمي واحد ناجح ظهر في ذلك القرن.

تواءَم غرض الفلسفة الميكانيكية الاختزالي جيدًا مع انتشار ما عُرِف لاحقًا باسم «المادية»، لا سيما في فرنسا، ذلك المسمَّى الذي يَستدعي التمايز بين المادة والرُّوح الموجود في الأفلاطونية الجديدة. في كتابات لا ميتري، ودولباخ وأتباعهما، تتَّخذ المادية أشكالًا عدة، لكنها دائمًا ما تنطوي على إنكار لوجود الروح، باعتبارها شيئًا يقع خارج نطاق الفلسفة الميكانيكية، وتؤكد الادِّعاءات الاختزالية لتلك الفلسفة. كانت «المادة» وَفق مادية ذلك العصر مكوَّنة في المقام الأول من الأجسام التي نُدركها في خبرتنا العادية، التي كان يُعتقد أنها مُكوَّنة من أجسام أدق، مماثلة للأجسام الأكبر من جميع النواحي عدا الحجم. وسيَستوعِب علم الميكانيكا الجديد (الذي وضَعه نيوتن) تلك الأجسام الصغيرة كما استوعب الكبيرة.

يستدعي ذكر نيوتن نقلةً أخرى في مفهوم المادة، نقلة كان هو مُحدثها (ماكمولين، ١٩٧٨ب). إذ تطلَّب علم الميكانيكا الجديد الخاص به مقياسًا لمقاومة الجسم للتغير في الحركة، وكذلك مقياسًا لتأثير جاذبية جسمٍ ما على غيره من الأجسام وقدرته هو على أن يتأثر بالجاذبية. كانت إحدى الفرضيات الأساسية لعلم الميكانيكا الجديد هي أن مقدارًا واحدًا سيكون مقياسًا لتلك الأمور الثلاثة، وهو منطقيًّا كمية المادة أو «مقدار المادة» (وهو مُصطلح بوريدان) بالجسم. وضع نيوتن لفظًا مختصرًا ملائمًا يُعبر عن ذلك الكم وهو «الكتلة». في ذلك الوقت، لم يَعُد لمُصطلَح «المادة» أي وظيفة في علم الميكانيكا الجديد، مع أنه يُمكن القول بأنه ظلٌّ له حضور ضمني باعتباره حامل الكتلة، سواء كتلة القصور الذاتي أو كتلة الجاذبية. وصار بالإمكان تعريف المادة ببساطة بأنها كلُّ ما له كتلة.

لكن كيف يُفسر المرء جذب الجاذبية الذي هو جوهر ذلك النظام الجديد؟ كان من الواضح أنه لا يقع في نطاق الفلسفة الميكانيكية حسب مفهومها إلى ذلك الوقت. وبدا أنه يستدعي اتخاذ قرار غير مرحَّب به: إما أن يُعامل باعتباره فعلًا عن بُعد (وهو غير مقبول بصفة عامة) أو باعتبار أنَّ وسيطًا ما في الفراغ هو المتسبِّب بها. برهن نيوتن نفسه أن ذلك الوسيط لا يُمكن أن يكون له كتلة قصور ذاتي. لكن ما البديل؟ على مدى السنوات التي تلَت نشر كتابه «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية»، اختبر العديد من الأفكار، من بينها فكرة «الروح المَرِنة» والوسيط «غير المادي» (ماكمولين ١٩٧٨ب، الصفحات ٧٥–١٠٩). كان من الواضح أن المفهوم الاختزالي للمادة الذي تبنَّاه الفلاسفة الميكانيكيُّون قد بدأ يتعرَّض لضغط كبير في ذلك الوقت.١

هذا بالإضافة إلى أنَّ المادة نفسها بدا أنها تحتلُّ جزءًا بالغ الصغر في الكون كما يراه نيوتن. فكيف للجسيمات التي يبدو أن الضوء مُكوَّن منها أن تخترق وسائط شفافة ذات سُمك مُعتبَر؟ إذ لو أنها تَصطدم بجسيمات مادية، فستُعيقها أو على الأقل ستبددها. لا يمكن تفسير الجاذبية إلا بافتراض أن الجسيمات المادية أو الذرات لا تشغل إلا حيزًا ضئيلًا من الجسم الشفاف. ولو صح ذلك، ألن ينطبق على الأجسام غير الشفافة أيضًا؟ يرى صامويل كلارك، تلميذ نيوتن، أنَّ الميكانيكا الجديدة تستلزم اعتبار المادة «الجزء الأقل أهمية» من الكون؛ وأن ما يهمُّ حقًّا هو القوى غير المادية التي في الواقع تملأ الفراغ. لاحقًا كتب جوزيف بريستلي أنه وَفق «الفلسفة النيوتنية» فإن كل المادة الصلبة الموجودة في النظام الشمسي «يمكن أن تُوجد في قشرة جوز» (ثاكري، ١٩٦٨).

أوغل روجر بوسكوفيتش في تلك الفكرة حتَّى وصَل إلى مُنتهاها المنطقي، فاستبعدَ كليًّا فكرة المادة الصلبة ذات الامتداد واستعاض عنها بنقاط مراكز القوة. فبجانب قوة جذب الجاذبية البعيدة المدى، افترض وجود قوة تنافُر قريبة المدى تُشكِّل ما يُشبه ذرَّة ممتدة حول كل نقطة مركز. تلك «الذرَّة» ليس لها سطح مميَّز لكن قوة التنافُر ستجعل اختراقها أصعب كثيرًا، بل مُستحيل فيزيائيًّا في النهاية، كلما اقتربنا من المركز.

قبل ذلك، كان الإمكان دائمًا مُرتبطًا بنوع من التحقُّق. لكن ذرات بوسكوفيتش لم تكن متحقِّقة أو موجودة بالفعل؛ بل كانت مُمكنة فحسب، تحدد ما يمكن أن يحدث في حالات معينة. هل يُمكن لإمكان أن يُنشئ إمكانًا آخر؟ من الواضح أن وضعًا أو حالًا جديدًا بدأ يُلحَق بالإمكان هنا، نوع من المادية غير الواقعية. قَبِل آخرون مثل كانط في مؤلفاته المبكرة التحدِّي الذي فرضه ذلك التناقض الواضح، ملاحظًا أنه على الأقل تجنَّب التناقضات المرتبطة بقابلية القسمة اللانهائية الأكثر شيوعًا (هولدين، ٢٠٠٦). غير أن عالم الخبرة العادية المتحقِّق العنيد صعَّبَ إقرار تلك النقلة الجذرية.

وظلَّ ذلك النوع من التحديات يزداد صعوبةً بوتيرة مُنتظِمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. إذ تبيَّن أن الكهرباء الساكنة يُمكن تخزينها. فهل يجب إذن أن توصف بأنها «مادية»؟ أشارت النجاحات التي حقَّقتها النظرية الموجية للضوء إلى وجود وسط بينيٍّ من نوع ما … لكن تُرى ما نوع ذلك الوسط؟ برهن نيوتن أنه لا يُمكن أن يكون له قصور ذاتي. لكن في تلك الحالة، كيف يُمكن أن يكون ماديًّا؟ وما الذي يُمكن اعتباره «مادة» الآن؟

في النهاية جاء الحل من النظرية الكهرومغناطيسية لا نظرية الجاذبية (ماكمولين، ٢٠٠٢). نتيجةً للنجاح في توصيف الكهرومغناطيسية في ضوء المجال، اقتنع ماكسويل أنه لا بدَّ أن يُنظَر للمَجال باعتباره أكثر من مجرَّد أداة حسابية مفيدة. كان عليه أن يُصمِّم واقعًا من نوع جديد تُعرِّفه الطاقة التي يَحملها، مع أنها تُعتبر إمكانًا محضًا. أقرَّت الميكانيكا النيوتنية في بدايتها تدريجيًّا أهمية مقداري الطاقة وكمية الحركة في حدِّ ذاتهما، لكن ظلَّت الكتلة محتفظة بدورها الرئيسي. ولفترة لم يكن من الواضح أيهما سيَثبُت أنه له الخاصية الأهم وهي الحفظ أثناء التغير، الطاقة أم كمية الحركة. في نهاية المطاف، مُنِح ذلك الدور للطاقة. ومع تطور مفهوم المجال، بدأت الطاقة تَبزغ باعتبارها واقعًا قائمًا بذاته. لكن ما العلاقة بينها وبين المادة؟ سرعان ما ظهرت إجابة غير متوقَّعة تمامًا على ذلك السؤال.

(٣) المرحلة الثالثة: انتفاء المادية عن المادة؟

قادَت فيزياء القرن العشرين العقل البشري إلى تصورات أكثر غرابة، وإلى مجالات بعيدة كل البُعد عن مادة البارحة المألوفة المريحة. في هذا السياق، يُمكن وصف تلك النقلة بأنها انتفاء تدريجي للمفهوم التقليدي للمادة، واكبَت كل مرحلة فيه أحد التطورات الثلاثة الهائلة التي حدثت في الفيزياء على مدى القرن الجديد.٢

(٣-١) النسبية

ظهرت نظرية النِّسبية الخاصة (سُميت «الخاصة» لأنها تعالج فقط حالةً خاصة من الحركة المنتظمة) كأول صدمة تُنذِر بأننا على أعتاب حقبة جديدة كليًّا في الفيزياء. كانت تبعاتها الأقوى تأثيرًا قطعًا هي مبدأ تكافؤ الكتلة والطاقة الذي وصَفه أينشتاين في معادلته الشهيرة: . وهو يُشير إلى أن كتلة السكون يُمكن أن تتحول إلى إشعاع، والعكس. في عملية تُفقَد فيها الكتلة (كما يحدث في أنواع معينة من تفاعلات الاندماج والانشطار على المستوى الذرِّي)، يُعوَّض نقص الكتلة بإطلاق الطاقة في هيئة إشعاع (لا كتلة له) وكذلك في هيئة طاقة الحركة لجسيمات الحالة النهائية المُتضمَّنة (إن وجِدَت). في المقابل، يمكن تحويل الطاقة إلى كتلة في عملية إنتاج الزوج حين تكون الطاقة المتاحة عالية بما يكفي لأن تتحول إلى كتلتي سكون للجسيمَين. يُمكن أن ينتج فوتون من أشعة جاما (عالي الطاقة) زوج إلكترون-بوزيترون إذا ارتطم بنواة تمتصُّ كمية حركة الفوتون؛ وبالمثل، يمكن أن ينتج فوتونان اصطدما في وجود تيار كهربي زوجًا من الجسيمات إذا كانت طاقتاهما مجتمعتَين عاليتَين بما يكفي لتوفير كتلتَي السكون اللازمتين.

يعدُّ ذلك تدنٍّ بيِّن لمكانة المادة باعتبارها الموصوف الوحيد بصفة «الواقعية». وَفق التعريف النيوتني على الأقل، ما ليس له كتلة هو ما ليس به أيُّ مقدار من المادة. إذن الإشعاع المعدوم الكتلة لا يَرقى لأن يوصف بأنه مادة. كانت معادلة أينشتاين التكافؤية هي فعليًّا بداية «انتفاء المادة عن الواقع الفيزيائي». من ثَم كان السبيل الوحيد إلى وصف العالم بأنه العالم «المادي»، أو احتفاظ مُصطلح «المادية» بدلالته الأصلية هو إعادة تعريف مصطلح «المادة». لكن كيف؟ يبدو أن المادية صارت مذهبًا أكثر انفتاحًا، هذا إن أراد المرء الإبقاء على المصطلح أساسًا.

في نظريته النسبية العامة، انتقل أينشتاين إلى معالجة حالة أكثر تعقيدًا وهي الحركة المتسارعة، ومن ثَم القوة. في تلك الحالة يكون لتكافؤ الكتلة والطاقة تَبعات إضافية. كانت الكتلة فيما سبق تُعتبر القياس الوحيد لتأثير الجاذبية، سالبًا كان أو موجبًا، أما الآن فقد انتقل ذلك الدور إلى الكتلة-الطاقة. في معادلات المجال لأينشتاين، يصف موتِّر الإجهاد-الطاقة في الطرف الأيمن مصادر مجال الجاذبية، التي صارت تتضمَّن طاقتي الحركة والوضع وكذلك كتلة السكون. يُمكن جمع ثلاثتها بالاستعانة بالتكافؤ. إذن على سبيل المثال، سيبذل فوتون قوة جاذبية بسبب طاقة حركته، مع أن له كتلة سكون تُساوي صفرًا. وسيكون تأثير ساعة يد زنبركها مملوء على آخره على الجاذبية أقوى قليلًا من تأثير ساعة يد زنبركها فارغ، بسبب طاقتها الكامنة.

حين عرَّف نيوتن الكتلة بأنها «مقدار المادة» بما يتوافَق مع النظرية الميكانيكية الخاصة به، كان يضع في اعتباره دورها المتعلق بالقصور وبالجاذبية. وسعت نظريتا النِّسبية هذين الدورين، وحلَّت الكتلة-الطاقة محلَّ الكُتلة مُنفردة في الميكانيكا النسبية.٣ لكن تظل كتلة السكون والطاقة، مع أن كلًّا منهما قابلة فيزيائيًّا للتحوُّل إلى الأخرى، مُحتفظتين بهويتيهما المنفصلتَين؛ فكتلة السكون ليست نوعًا من الطاقة، والطاقة ليس لها كتلة سكون. حين يُوصف الكيان الباذل للقوة الجاذبة بأنه الكتلة-الطاقة، فإن المصطلح يشير إلى مجموعهما: كتلة السكون والطاقة. (مسمى «الطاقة-كمية الحركة» البديل، أقل وضوحًا بشأن دور المادة، الذي هو موضوعنا هنا.)

بدلًا من اعتبار الأجسام مؤثِّرة في بعضها، ببذلها قوة جاذبة، صار يُعتقَد أن الكتلة-الطاقة قادرة على «إحناء» نسيج الزمان-المكان (الزمكان) المُجاور لها، حسب وصف المقياس غير الإقليدي ومُشتقاته في الطرف الأيسر من معادلة المجال. قد ينظر للاستعاضة عن القوة لدى نيوتن، والتي تؤثر عن بُعدٍ بطريقة غامضة، بمفهوم الكتلة–الطاقة لأينشتاين، الذي «يسبب» «انحناءً» موضعيًّا في الزمكان الذي لم يعد إقليديًّا، باعتبارها مكسبًا مُشكلًا بعض الشيء فيما يتعلَّق بالفهم! لكن إحدى مزايا ذلك هي أن تُعادل قياسات القصور الذاتي والجاذبية لكيان الكتلة-الطاقة الجديد صار نتيجة للنَّظرية نفسها وعليه لا يتطلَّب الدعم من جانب العلم التجريبي الذي كان يتطلَّبه في النظام النيوتني.

إن أردنا الإبقاء على مُصطلح «المادة» في خضمِّ تلك التغيُّرات الجوهرية في فهمنا للمادة المصنوع منها عالمنا، فأمامنا اختياران بديلان. إما أن يتَّسع ليشمل الكتلة-الطاقة، التي صارت الآن تلعب الدور الذي كانت الكتلة تلعبه سابقًا في الميكانيكا، أو يظلُّ قاصرًا على كتلة السكون، فيجعل للعالم مُكونَين — المادة والطاقة — لا مكونًا واحدًا.

(٣-٢) نظرية الكم

النظرية الأخرى التي أحدثت هزة أعنف في معتقداتنا العادية هي نظرية الكم التي نشأت في عشرينيات القرن العشرين. هنا، مرة أخرى كان مفهوم المادة في صدارة التغير الذي أحدثته النظرية. منذ عصر نيوتن وهايخنس، كانت قد تأرجحت فيزياء الضوء بين طرفي نقيض؛ أحدهما يُمثل الضوء بأنه جسيمي، والآخر بأنه دوري، أو موجي. في مطلع القرن العشرين، بدأ يتَّضح أنه سيلزم اعتبار أن الضوء يجمع بين الصفتَين بطريقة ما. ولعلَّ ذلك مقبول في حالة الضوء؛ إذ طالما كان له سمة أثيرية على أي حال. لكن ماذا عن المادة؟ لن يلائم ذلك المادة قطعًا! كان السلوك الموجي للمادة على المستوى دون الذري الذي كان دي بروي أول من افترضه بناءً على أدلة نظرية، وأكَّده لاحقًا دافيسون وجيرمر بالرصد، بمثابة صدمة أكبر للحدس المنطقي من تلك التي تلقَّاها من نظريتَي النِّسبية.

لنعد قليلًا إلى «المادة» التي تُشير إليها المذاهب المادية الكلاسيكية من العصور المبكِّرة. كان تعريفها يشمل عدة صفات أساسية، يتمتَّع كل منها بميزة القابلية للتفسير في سياق الخبرة العادية. الامتداد والصورة والكثافة والحركة وعدم القابلية للاختراق … الجميع كان يعرف ما تُشير إليه تلك المصطلحات. فلم تُوجد الحاجة إلى الإحالة إلى نظرية مجرَّدة لبيان موقعها. في قاعدته الاستدلالية الثالثة بالغة الأهمية، افترض نيوتن مبدأً تنظيميًّا لعلم الفيزياء بصفة عامة، وهو أنَّ الأشياء المُتناهية الصِّغَر والبعيدة جدًّا ينبغي أن يكون لها الخواص القابلة للإدراك نفسها للأشياء المألوفة لنا في الخبرة العادية (ماكمولين، ١٩٩٢).

جاءت ميكانيكا الكم فنحَّت كل ذلك. وَفق تلك النظرية، على مستوى الأشياء البالغة الدقة، لا يُمكن تحديد موضع جسم وحركته في آنٍ واحد. (في الواقع لاقت نظرية الكم تقديرًا كبيرًا فقط في مستوى الأشياء بالغة الدقة.) وفقًا للتفسير السائد للنظرية الجديدة — الذي يُسمَّى تفسير «كوبنهاجن» — لا يكون للإلكترونات حتى مَواضع أو كميات حركة محدَّدة قبل القياس. (أما رأي الأقلية — تفسير «بوم» — الذي لم يُدحَض بالكامل، فينكر ذلك.) إذن لا يُمكن أن تكون الإلكترونات مادة، إن أردنا الاحتفاظ بنسق تعريف القرن السابع عشر الكلاسيكي للمادة. بصفة عامة، يبدو أن الإلكترونات تَنتقل مثل الموجات، لكنها تتفاعَل مثل الجسيمات.

مما زاد الطين بلَّة أن مبدأ الشك أو عدم اليقين الكمِّي لا ينطبق على زوج الموضع-كمية الحركة فحسب بل على الطاقة-الزمن أيضًا. يستتبع ذلك تذبذب حالة الطاقة للفراغ الكهرومغناطيسي بالقرب من القيمة صفر، ويكون أقصى تذبذب لها في الطاقة مُرتبطًا بأقصى زمن يُمكن لها أن تظلَّ مُستمرة فيه. (على وجه التحديد، ما يفترضه مبدأ الشك كما تصوره هايزنبرج، هو أن ذلك التذبذب لا يُمكن ملاحظته، إن حدث، لا أن تلك التذبذبات تحدث بالفعل. لكن دعونا نتغاضى عن ذلك.) حينئذٍ يُمثَّل التذبذب باعتباره «جسيمًا» (فوتونًا) له مقدار معيَّن من الطاقة. ولما كان من غير الممكن ملاحظته، وفق مبدأ الشك، فقد سُمي جسيمًا «افتراضيًّا». ستخرق الطاقة التي أضافها ظهورُه المفاجئ قانون حفظ الطاقة إن صح وُجودُه فعليًّا، لكن كونه افتراضيًّا منحه إعفاءً (مؤاتيًا) من شرط الحفظ.

مع أن الجسيمات الافتراضية نظريًّا لا يُمكن ملاحظتها، فقد زُعِم أن صافي تأثير تذبذبات طاقة الكم في الفراغ لوحِظ بالفعل؛ بل إنه تُنبِّئ بمقدارِه مقدمًا في الواقع (تأثير كازيمير). التأثير ضئيل، ويتطلَّب مستوًى عاليًا جدًّا من الدقة في تجهيزات تجريبية معقَّدة. دعم ذلك الاستنتاج الذي يفيد بأن الجسيمات الافتراضية (في تلك الحالة، الفوتونات الافتراضية، التي يفترض أن عددها لا نهائي) «واقعية» بمعنى أن «تأثيراتها غير المباشرة قابلة للقياس» (كراوس، ١٩٨٩، صفحة ٣٥). «لم يَعُد لدينا مجال للشك في أنَّ الجسيمات الافتراضية موجودة بالفعل» (بارو وسيلك، ١٩٩٣، الصفحتان ٦٥-٦٦). لكن يظل هناك خلاف حول ما إذا كان ذلك اختبارًا كافيًا «للواقعية». يصرُّ آخرون أن قابلية الرصد نظريًّا تعدُّ معيارًا لازمًا لاعتبار جسيم ما «واقعيًّا». هنا، يبدأ الفرق بين «الواقعي» و«الافتراضي» في التلاشي.

تظهر الجُسيمات «الافتراضية» أيضًا في سياقٍ كمِّيٍّ مختلف. لحساب التفاعلات بين الجسيمات (الواقعية) في نظرية المجال الكمي، ابتكر فاينمان وسيلة بيانية مبسَّطة لتقدير الاحتمالات ذات الصلة. فيها مثل القوى المتضمنة بأنها تبادُل الجسيمات الواقعية لجسيمات افتراضية فيما بينها، مما يُؤدي إلى تبادل كمية الحركة فيما بينها، مما يؤثر على تحركاتها الفردية. حينئذٍ قيل إن ذلك حلَّ المشكلة التي فرَضها الفعل عن بُعدٍ، الذي ينطوي عليه ضمنًا مفهوم نيوتن لقوة الجاذبية. وزُعِم أن تبادُل كمية الحركة بفعل الجسيمات الافتراضية التي تَنتقِل من جسم لآخر قد قدَّم أخيرًا تفسيرًا لفعل الجاذبية، وسمح للمرء بأن يُلقي بمفهوم القوة المُشكِل خلف ظهره بالكلية. (ليس واضحًا تمامًا إن كان ذلك يمثل بالفعل تحسُّنًا من الناحية التفسيرية.)

فيما بين الفيزيائيِّين أنفسهم، يوجد انقسام واضح بشأن الحالة التي يجب أن يوصف بها ذلك الكيان «الافتراضي» (ديفيز، ٢٠٠٦، صفحة ٧٤). على سبيل المثال: «الجسيمات الافتراضية هو مصطلح استحدثه الفيزيائيون للحديث عن العمليات في ضوء تمثيلات فاينمان البيانية … يتحدث فيزيائيو الجُسيمات عن العمليات [الخاصة بالاضمِحلال]، وكأن الجسيمات [الافتراضية] المُتبادَلة … لها وجود فعلي، لكنها ليست سوى جزء من عملية حسابٍ لاحتمالٍ كمي … لا يُمكن ملاحظتها» (مركز مُعجل ستانفورد الخطي (سلاك)، ٢٠٠٦). لكن استعارة تبادُل الجسيمات ترسخت لدرجة تشير إلى أنها صارت أكثر من مجرد أداة حسابية ملائمة بالنسبة لعامة الفيزيائيِّين.

(٣-٣) علم الكون

نَنتقل أخيرًا إلى علم الكون السريع التطور، الذي فجَّر هو أيضًا مُفاجآت متعلقة بالمادة مؤخرًا. بعد أن لقيَت نظرية الانفجار العظيم لتفسير أصل الكون تأكيدًا حاسمًا في ستينيات القرن العشرين، وُضِعَت مسألة مصير الكون — تمدُّده المتواصل أو انكماشه المحتوم — سريعًا في بؤرة الاهتمام. تبيَّن أن الموازنة بين الخيارَين تتطلب دقة بالغة؛ فاليوم صار لزامًا أن تكون كثافة الكتلة-الطاقة الكونية قريبة من قيمة وسطى («حرجة») لتجنُّب التمدُّد غير المحكوم أو الانهيار السريع، أي، ليكون الكون طويل العمر كما هو واضح. (بعبارة أخرى، يجب ألا تبتعد نسبة القيمة الفعلية إلى القيمة الحرجة، المُمثلة بالحرف اليوناني أوميجا ( ) كثيرًا عن الواحد الصحيح، وهو ما يَضمن أن يكون نسيج الزمكان «مسطَّحًا» تقريبًا.) كانت المشكلة هي أنه كي يتحقَّق ذلك، يجب أن تكون الكثافة مستقرة بالقرب من القيمة الحَرِجة بدرجة بالغة من الدقة قبل أن يبدأ التمدُّد الكوني؛ لأنه من المفترض أن تأثير التمدُّد يُعظِّم أي انحراف مبدئي عن القيمة الحرجة بسرعة بالغة. أطلق ذلك الدورة الأولى من الجدال الشهير حول ما صار يُعرف باسم «التوليف الدقيق» (ماكمولين، ٢٠٠٨).
في عام ١٩٨١، اقترح ألان جوث تعديلًا عبقريًّا على نظرية الانفجار العظيم تضمن حدوث تضخُّم كوني هائل في أول جزء من الثانية من التمدُّد. بمرور الزمن، ثبت أن لتلك الفكرة نتائج بالغة الأثر، أولها أنها تقدم حلًّا لمشكلة الكثافة الحرجة؛ إذ سيدفع التضخم حتمًا الانحناء الكوني نحو التسطح وبالتبعية سيدفع كثافة الكتلة-الطاقة نحو القيمة الحرجة.٤ وبقدر ثُبوت نظرية التضخم، حُلت مسألة البحث عن إجابة لسؤال الانحناء الكوني؛ إنه قريب جدًّا من التسطح.٥ لكن هذا يطرح أمامنا سؤالًا مختلفًا: بافتراض أن نسبة كثافة الكتلة-الطاقة الفعلية إلى القيمة الحرجة قريبة جدًّا فعليًّا من الواحد الصحيح، فمن أين يأتي مقدار الكتلة-الطاقة ذلك؟

المشكلة أن «المادة الباريونية» المصنوعة منها النجوم والكواكب (ونحن البشر) لا تكفي حتى لتقريب كثافة الكتلة-الطاقة إلى القيمة الحرجة؛ ولا تتعدَّى مساهمتها ٤ بالمائة من المقدار المطلوب. (يتضمَّن ما كان يطلق عليه في المعتاد اسم «المادة» الإشعاع وطاقة الحركة والطاقة الكامنة، بما يتوافق مع التعريف المُراجَع لمصطلح «المادة» الذي عرضناه آنفًا.) لكن اكتُشِف نوع جديد من المادة: مُنِحَت صفة «المظلمة» في الأصل لأنها لا تتفاعل مع الإشعاع، وهو ما يُعدُّ المؤشر الطبيعي على وجود المادة، أما الآن فاسمها ذلك يُعزَى إلى طبيعتها غير المفهومة على الإطلاق حتى بعد الدراسة المكثَّفة لها.

منذ ثلاثينيات القرن العشرين، لوحظ أن حركات المجرات داخل عناقيد المجرات أسرع من أن تتمكَّن كميات المادة الجاذبة التقليدية تفسيرها. استتبع ذلك العديد من الافتراضات، من بينها احتمالية الاضطرار إلى تعديل معادلات نيوتن لتكون صالحةً للتطبيق على تلك المسافات الهائلة. لكن النظرية التي لاقَت قبولًا واسعًا أفادت بأن المجرات يحيط بها سحب هائلة من شيء ما لا يكشف وجوده إلا خاصية واحدة؛ ألا وهي أن له قوة جاذبة. ويُعتَقَد أن له كتلة سكون. مؤخرًا، حُددَت تأثيراته في عدة سياقات أخرى؛ على سبيل المثال، عدسة الجاذبية، ودرجة حرارة الغازات التي تَنبعِث منها الأشعَّة السينية في عناقيد المجرات.

غير أنه رغم الجهود المضنية، ما زال تركيب المادة المُظلمة يستعصي على الإدراك. فأولًا، تشير الوفرة الكونية النِّسبية للعناصر الأخف، التي يُمكن حسابها بِناءً على أُسس نظرية ورصدية، بقوة إلى أنَّ المادة المُظلمة لا يُمكن أن تكون مكوَّنة من البروتونات والنيوترونات التي تتكوَّن منها عادة المادة الباريونية (جرين، ٢٠٠٤، الصفحات ٤٣٢–٤٣٥). قُدِّرت مساهمة المادة المُظلمة في كثافة الكتلة-الطاقة بواسطة تأثيراتها الخاصة بالجاذبية. غير أن مساهمتها التي تُقدَّر بنسبة ٢٢ بالمائة لا تزال غير كافية لتقريب إجمالي الكثافة حتى من القيمة الحرجة التي يُصرُّ العلماء النظريُّون على أنها ينبغي أن تقع في نطاقها.

لحُسن الحظ، ظهر مؤخرًا مُساهم مُحتمل آخر على الساحة. إذ يُشير دليل أظهره نوع من المستعرات العظيمة إلى أن التمدُّد الكوني الذي افترضت نظرية الانفجار العظيم حدوثه لا يتباطأ بوتيرة ثابتة حتى يومنا هذا بفِعل الجاذبية، بل بدأ يَتسارع منذ حوالي سبعة مليار سنة. يتطلب دليل ذلك الاكتشاف غير المتوقَّع تفسيرًا على درجة استثنائية من التعقيد، لكنه حتى الآن يبدو أنه يزداد رسوخًا.

تُرى ما الذي يُمكن أن يكون مسئولًا عن ذلك السلوك غير المتوقَّع؟ حين واجه أينشتاين مسألة شبيهة نوعًا ما (كان يعتقد أن الكون ثابت لكن الجاذبية ينبغي أن تجعله ينكمش)، كي يقاوم تأثير الجاذبية، وضع حدًّا كونيًّا اعتباطيًّا في الأصل «لامدا» على الطرف (الأيسر) من معادلة المجال التي تُعرِّف موتِّر الزمكان المتري، وعليه عامَلَه باعتباره إحدى خواص المكان (أينشتاين، ١٩٥٢ / ١٩١٧، صفحة ١٨٦). حين أثبت هابل لاحقًا التمدد الكوني، لم يَعُد ثمَّة حاجة إلى الحد لامدا. ألا يُمكن أن يفعل المرء أمرًا مشابهًا مرة أخرى لتفسير تَسارُع التمدُّد الكوني المُكتَشَف حديثًا؟ تلك المرة سيكون من المحبَّذ تأويل تلك الإضافة مُباشرة على أنها نوع من الطاقة. على الطرف (الأيمن) من معادلة المجال التي تُعرِّف موتِّر الكتلة-الطاقة يوجد بالفعل حد للضغط، بجانب حد الكتلة-الطاقة. وهو ما يوعز بوجود نوع من الطاقة يُمكن معاملته على أنه ضغطٌ سالب؛ وعليه يُمكن أن يكون تفسيرًا للتمدُّد.٦
سيؤدِّي وجود طاقة فراغ ذات كثافة تظلُّ ثابتة مع ازدياد حجمها ذلك الغرض.٧ كما رأينا آنفًا، تُوجد بالفعل سابقة في نظرية الكم لطاقة فراغ تنشأ عن أزواج الجسيم-الجسيم المضاد. لكن للأسف، مقدار تلك الطاقة يفوق المطلوب بحوالَي مائة قيمة أُسِّية؛ وهو ما يكفي لتفجير الكون إلى أشلاء. وهذا يعني استحالة التوفيق بين نظرية النِّسبية على وضعها الحالي ونموذج الزمكان الكوني القائم على نظرية النسبية.٨ لكن يبقى أمل في أن تأتي نظرية الجاذبية الكمية التي طال السعي إلى إيجادها بحلٍّ لذلك التناقض المُنغص، وأن تحدد كثافة طاقة الفراغ اللازمة. على أيِّ حال، التفسير الأكثر قبولًا في الوقت الحالي لتمدُّد الكون هو وجود طاقة فراغ «مُظلمة» (بمعني أنها لا تزال غامِضة).
باعتبار أنه حتى الآن لا يُوجد تفسير للداعي لأن يكون للفراغ طاقة لها خاصية الضغط السالب غير العادية،٩ ناهيك عن كثافة طاقة ضئيلة إلى درجة غير متوقَّعة ولها قيمة محددة تمامًا،١٠ فمن حسن الحظ أنه حين حُسِبت المساهمة في إجمالي الطاقة الكونية، تبيَّن أنها كافية تمامًا لإيصال كثافة الطاقة الكونية إلى القيمة الحرجة المطلوبة، وبذلك تسدُّ فجوة مؤرقة، وتُقدِّم دعمًا نفيسًا لفرضية الفراغ-الطاقة. هذا يجعل الطاقة المُظلمة المساهم الرئيسي حتى الآن في كثافة طاقة الكون: حسب التقديرات الحديثة هي تُسهم بنسبة ٧٤ بالمائة تقريبًا من الإجمالي.

من الواضح أن مسألة الطاقة المُظلمة لا تزال قيد البحث. إذ تتضمَّن الكثير من المشكلات غير المحلولة، وتَعتمِد بقوة على دليل يدرك بالملاحظة غير متاحٍ تطبيقيًّا بَعدُ، كي يتيح الوصول إلى استنتاجات راسخة. افتراض أن الطاقة المظلمة، إن وجِدَت، من شأنها أن تُفسر العديد من السمات الكونية الأساسية هو مسألة. أما تفسير أصلها، وإيجاد مكانٍ لها في شبكة النظريات الكونية المُعاصرة المعقَّدة فهي مسألة مختلفة تمامًا. لكن حتى في تلك الفصول الأولى من قصة قد تطُول كثيرًا، يتَّضح أن فهم التكوين الأساسي للكون الذي نعيش فيه له تبعات واسعة الأثر.

(٤) الاستنتاجات

(٤-١) أولًا

يُخبر التاريخ الطويل والمعقَّد الذي أوجزناه هنا عن جهود مُتواصلة لإيجاد أفضل السبل للوصول إلى ما وراء المعلومات التي تجمعُها حواسُّنا لوصف طبيعة الأشياء ومنشَئها. وقد أخذتنا تلك السبل بعيدًا عن المفاهيم البسيطة التي استلهم منها المبحث الأساسي مطامحه. أحد مفاهيم أرسطو للمادة هي أنها وعاء للإمكان. وقد صار ذلك الآن هو الدور الرئيسي لها.

المجالات التي افترضتها نظرية النسبية على مقياس الأجسام الضخمة ونظرية الكم على مستوى الجُسيمات الدقيقة هي مُعيِنات الإمكان، والأحوال، وإجابات أسئلة «ماذا سيحدث لو …؟». الطاقة نفسها بمعناها الحقيقي هي تعبير عن الإمكان. يبدو أن الواقع في جوهره المحض يَنبغي أن يُعزى إلى المُمكن، لا إلى المتحقِّق. لكن هل يُمكن أن توجد الممكنات من دون المُتحقِّق؟ الممكنات هنا ليست غير محدَّدة، بل مُقدَّرة كميًّا بعدة طرق حسب نوع المجال المقصود. تطلب الانتقال من المادة حسب مفهوم أرسطو إلى مذهب المادية في بداية العصر الحديث التخلِّي عن فكرة الإمكان غير المحدَّد، غير المقيد إلا في ضوء الكم، إلى جسيمات تشغل حيزًا من الفراغ، ومُتحققة قطعًا وصلبة ولها كتلة. يمكن وصف الانتقال من تلك الجسيمات إلى مفهوم «المادة» في الفيزياء الحالية بأنه عودة إلى الإمكان، غير أنه لم يَعُد غير محدَّد.

(٤-٢) ثانيًا

رأينا أن المرء بإمكانه أن يَسلُك أحد مسلكين؛ إما تقييد مجال مُصطلح «المادة» بكتلة السكون، أو توسيع نطاقه ليستوعب الكتلة-الطاقة كي يَشمل الطاقات المرتبطة بالكتلة بشكل أو بآخر. هل سيكون مجرَّد توسيع نطاقه كافيًا لأن تظل المادة محتفظة بدورها التقليدي باعتبارها المصطلح العام الذي يصف «الشيء» المُكوِّن للواقع المادي؟ لا يسمح الوضع الحالي للطاقة المظلمة الشديد الإبهام بإيجاد جواب واثق. هل الطاقة المظلمة مرتبطة بالكتلة؟ هي كذلك إن انطبق عليها تكافؤ أينشتاين. ويبدو أن دورها الحيوي المتعلق بالجاذبية يُشير ضمنًا إلى أنه ينطبق عليها. لكن هل يعني ذلك أنها يُمكن أن تتحوَّل إلى شيء له كتلة سكون؟ ليس لدينا أي فكرة. على أي حال، حين يتحدَّث علماء الكون عن «كثافة الكتلة» الكونية، يتضح أنهم يعتبرونها مكوِّنة لثلث الإجمالي فقط تقريبًا، ويضمنونها المادة الباريونية والمادة المظلمة فقط (على سبيل المثال، طالِع بيبلز وراترا، ٢٠٠٣). لكنها لا تتضمن الطاقة المظلمة.

لا يَنبغي كذلك أن ننسى النتائج المترتِّبة على مصطلح «الفراغ»؛ إذ يُفترض أنه يعني أن الفضاء المعني «فارغ». لكنْ فارغ من ماذا؟ من كتلة سكون حسبما يُفترَض. في الظاهر، سيتعيَّن أن تكون الطاقة المظلمة باعتبارها خاصية للفراغ حاضرة في ذلك «الفراغ» حتى وإن لم يكن له أي كتلة سكون. سيبدو أن ذلك يُشير إلى أنها في الواقع غير مُتعلِّقة بالكتلة. على أي حال، هي تبدو غير مؤهَّلة تمامًا لأن توصف بأنها «مادة». وإن أردنا استخدام ذلك المصطلح المتلوِّن من الأساس في السياق الكوني، فمن الأفضل أن نقول إن الكون مكوَّن من المادة والطاقة كليهما. وإن كان لزامًا أن يوجد مصطلح عامٌّ ينطبق على الكون بأكمله، فسيبدو مصطلح «الطاقة» هو الملائم لا «الكتلة-الطاقة» (على الأقل في الوقت الحالي). وسيكون المصطلح المعبر عن الكثافة على المستوى الكوني هو ببساطة «كثافة الطاقة».

(٤-٣) ثالثًا

ماذا عن «المادية» إذن؟ هل يجب أن يُستبدل بتلك التسمية مصطلح «الطاقيَّة»؟ والأهم من اختيار التسمية، ماذا عن مشروع الاختزالية الذي كان وثيق الصلة بالمادية القديمة؟ أحد أهم النقلات التي أهَّلت الثورة العِلمية لأن تكون «ثورة» بحق كانت التحول إلى البِنى الفيزيائية الأساسية باعتبارها وسيلةً لتفسير خواص الأجسام المرئية بالعين المجردة. كان الافتراض الإضافي هو أنه يُمكن وصف مكونات البنية التفسيرية — الجُسيمات والأثير وما شابه — وصفًا تامًّا ونهائيًّا في ضوء السمات الأساسية المألوفة من الخبرة العادية. من ثَم، فإنه من المنطقي وصف ذلك النوع من التفسير بأنه «يختزل» الكل في أجزائه.

كما رأينا، مثَّلت الجاذبية مشكلة؛ إذ لم يمكن إيجاد مكان لها في تصنيفات «الفلسفة الميكانيكية» الاختزالية لتلك الفترة. كان نَسب الجاذبية للمادة يعني الاستدلال من سلوك المادة ضمن منظومة مترابطة الأجزاء على إمكان فيها، حتى عند النظر إلى الجسم المادي بشكلٍ مُستقل. تصف كتلة الجاذبية وكتلة القصور ما سيحدث لو أثَّرت جاذبية الجسم المعني على جسم آخر أو أثَّرت جاذبية جسم آخر عليه. لا يستثار ذلك السلوك إلا في وجود كلٍّ أكبر. المجالات بمفهومها الذي تقوم عليه الفيزياء المعاصرة لها طبيعة كلية أيضًا. فهي توجد على مساحة ممتدَّة من قيم المجال وتَعتمد قيم المجال عند أي نقطة على القيم الموجودة في المجال بصفة عامة.

الاستدلال من سلوك كلٍّ على إحدى سمات أجزائه، التي لا تظهر إلا حين تتصرَّف تلك الأجزاء باعتبارها جزءًا من ذلك الكل، هو بالضبط نقيض الاختزال، الذي يُعتبر تفسيرًا لسلوك كلٍّ في ضوء سِمات أجزائه حين ينظر إلى هذه الأجزاء مُنفصلةً (ماكمولين، ١٩٧٢). يُمكن أن يوصف النوع الأول من الاستدلال بأنه تفسير للأجزاء في ضوء صلتها بالكل. في تلك الحالة يُمكن أيضًا أن نقول إن الكل ليس أكثر من مجموع أجزائه من الناحية الأنطولوجية، لكن بشرط أن تكون تلك «الأجزاء» مُعرَّفة أنطولوجيًّا كذلك من حيث الدور الذي تلعبه في الكل. الاختزالية والكلية تُشيران إلى طريقَين مختلفَين.

(٤-٤) رابعًا

خلَقَت الصور القوية من ثنائية العقل والجسد (أو الرُّوح والجسد) التي كانت موجودة في الماضي انقسامًا أنطولوجيًّا حادًّا بين اللامادية والمادية؛ حيث كانوا يَمليون لتعريف الأولى غالبًا بأنها سلب الأخيرة. لم تَعُد تلك الطريقة السطحية للتعامل مع الفارق بينهما كافية. إذ لم يَعُد من السهل اليوم تعريف حدود الإمكان «المادي»، أو الحدود القُصوى للصور التي يُمكن أن تنبثق داخل الكليات الأكثر تعقيدًا التي يُمكن أن تدعمها الطاقة. ينبغي أن يكون التشابك الكمِّي وتخليق الجُسيمات بمثابة إنذار لنا بأنَّ بانتظارنا مُفاجآت أخرى لا محالة.

في الوقت نفسه، لا يَنبغي افتراض أن تلك التطوُّرات العِلمية تُشير مباشرة إلى الحل الاختزالي لمُعضلة العقل والجسد التي شغلت عقول الفلاسفة كثيرًا لوقتٍ طويل. حذر هيربرت فايجل منذ وقت طويل من التوصل لهذا الاستنتاج مهما بدا للبعض جذابًا (فايجل، ١٩٦٢). تظلُّ الاعتراضات الأساسية على التفسير الاختزالي قوية حتى بعدَ أن حلَّ الإبهام الذي شاب مفهوم الطاقة في القرن الحادي والعشرين محلَّ أوجه قصور مفهوم المادة عند نيوتن. لا زالت الحاجة إلى حلٍّ غير اختزالي قائمة.

(٤-٥) خامسًا

استعملت المادية القديمة المألوف باعتباره وسيلة للتفسير. لذا كانت «المادة» المحكمة التعريف (كما كان يُفترَض) هي نقطة انطلاق البحث. أما التفسير في الفيزياء المعاصرة فيسير في الاتجاه المعاكس. إذ يعدُّ وسيلة لاكتشاف غير المألوف (ماكمولين، ١٩٩٤). فهو يكشف عن عوالم جديدة لم يَعُد الحدس الذي كوَّنته الخِبرة العادية يَسعها. ويحدث اتساعًا يفتح آفاقًا جديدة على الدوام. فيه «المادة» نتاج الخيال في المقام الأول، ولا يُمكن اعتبارها من المسلَّمات بأيِّ حالٍ من الأحوال. بل بالأحرى يَلزم أن تخضع لاختبار ممتدٍّ صارم. «مادية» اليوم، إن احتفَظنا بتلك التسمية، هي مادية تُشير بالضرورة فقط إلى شيء «مادي» له سمات حقيقية تظلُّ محجوبة عن رؤيتنا.

المراجع

  • Barrow, J. and Silk, J. (1993), The Left Hand of Creation: The Origin and End of the Expanding Universe, New York: Oxford University Press.
  • Blackwell, R. (1978), Descartes’ concept of matter, In The Concept of Matter in Modern Philosophy, ed. E. McMullin, Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 59–75.
  • Bobik, J. (1965), Matter and individuation, In The Concept of Matter in Greek and Medieval Philosophy, ed. E. McMullin, Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 281–292.
  • Caldwell, R. R. and P. Steinhardt (2000), Quintessence, accessed 23 March 2010, (http://physicsworld.com/cws/article/print/402).
  • Carr, B., ed. (2009), Universe or Multiverse? Cambridge: Cambridge University Press.
  • Davies, P. (2006), The Goldilocks Enigma, London: Allen Lane.
  • Einstein, A. (1917/1952), Cosmological considerations in the general theory of relativity, In The Principle of Relativity, ed. A. Einstein et al., New York: Dover, 177–188.
  • Eslick, L. (1965), The material substrate in Plato, In The Concept of Matter in Greek and Medieval Philosophy, ed. E. McMullin, Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 39–54.
  • Feigl, H. (1962), Matter still largely material, Philosophy of Science, 29: 39–46.
  • Greene, B. (2004), The Fabric of the Cosmos, New York: Random House.
  • Holden, T. (2006), The Architecture of Matter: Galileo to Kant, Oxford: Clarendon Press.
  • Johnson, H. J. (1973), Changing concepts of matter from antiquity to Newton, In Dictionary of the History of Ideas, vol. 3, ed. P. P. Wiener, New York: Scribner, 185–196.
  • Krauss, L. (1989), The Search for the Fifth Essence, New York: Basic Books.
  • Krauss, L. M. and Turner, M. S. (2004), A cosmic conundrum, Scientific American, September 2004: 71–77.
  • McMullin, E., ed. (1965), The Concept of Matter in Greek and Medieval Philosophy, Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press.
  • McMullin, E. (1972), The dialectics of reduction, Idealistic Studies, 2: 95–115.
  • McMullin, E., ed. (1978a), The Concept of Matter in Modern Philosophy, Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press.
  • McMullin, E. (1978b), Newton on Matter and Activity, Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press.
  • McMullin, E. (1992), The Inference that Makes Science, Milwaukee, WI: Marquette University Press.
  • McMullin, E. (1994), Enlarging the known world, In Physics and Our View of the World, ed. J. Hilgevoord, Cambridge: Cambridge University Press, 79–113.
  • McMullin, E. (2002), The origins of the field concept, Physics in Perspective, 4: 13–39.
  • McMullin, E. (2008), Tuning fine-tuning, In Fitness of the Cosmos: Biochemistry and Fine Tuning, ed. J. Barrow et al., Cambridge: Cambridge University Press, 70–94.
  • Peebles, P. J. E., and Ratra, B. (2003), The cosmological constant and dark energy, Reviews of Modern Physics, 75: 559–606.
  • SLAC (2006), Virtual Visitor Center. Theory: Real and virtual particles, originally accessed 10 June 2006; last updated 15 June 2009 (http://www2.slac.stanford.edu/vvc/theory/virtual.html).
  • Thackray, A. (1968), ‘Matter in a nutshell’: Newton’s Opticks and eighteenth-century chemistry, Ambix, 15: 29–53.
  • Weisheipl, J. (1965), The concept of matter in fourteenth-century science, In The Concept of Matter in Greek and Medieval Philosophy, ed. E. McMullin, Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 147–169.
١  كان لايبنتس أحد المساهمين المهمين في ذلك النقاش؛ طالِع الفصل الثالث الذي كتبه فيليب كلايتون من هذا الكتاب.
٢  كلُّ الامتنان لجيرالد جونز والقس اليسوعي وليام ستويجر على مساعدتهما غير المحدودة في إلقاء الضوء على بعض النقاط الفنية المناقَشة في ذلك القسم، ولبول ديفيز على تصحيحه القيِّم.
٣  جدير بالملاحظة أن «الكتلة» المقصودة ها هنا هي «كتلة السكون». لكن المُصطلح يُستخدم بمعنى بديل أقل شيوعًا، أعاد تعريف «الكتلة» في ضوء النِّسبية كي تتضمَّن طاقتَي الحركة والوضع، وكذلك الكتلة. وَفق ذلك التعريف، سيكون للفوتونات «كتلة» (أو كتلة «نسبية») وسيكون الكيان المتأثِّر بالجاذبية هو «الكتلة» وحدها أيضًا، لكن بعد أن تُغير مفهومها؛ إذ صار يحجب الاختلاف الذي يظل جوهريًّا بين كتلة السكون والطاقة.
٤  في هذا الصدد، الجاذبية التنافرية للتضخم لها تأثير مضاد لتأثير الجاذبية الجاذبة المتضمنة في تباطؤ الحركة التدريجي الذي تلا «الانفجار العظيم» الأصلي.
٥  تؤكد القياسات الحديثة للتباينات البسيطة في خواص إشعاع الخلفية الميكروي الكوني التي أُجريت بواسطة القمر الصناعي لمسبار ويلكينسون لقياس التباين الميكروي (WMAP) بشدة ذلك الزَّعم المُهم.
٦  يقرُّ الاشتقاق المذكور هنا الاختلاف الجوهري بين ثابت أينشتاين الكوني وطاقة الفراغ اللذَين من شأنهما أن يشرحا تسارع التمدد الكوني (كراوس وترنر، ٢٠٠٤). مع أنه يُمكن جعلهما مُتكافئين رياضيًّا، سيكون من المُضلل الحديث عن «نقل معامل لامدا الخاص بأينشتاين من الطرف الأيسر إلى الطرف الأيمن لمُعادلة المجال»؛ فقد كان حد الضغط موجودًا في الطرف الأيمن بالفعل. إذن سيكون في معاملة الطاقة المفترض وجودها حديثًا على أنها فعليًّا نسخة من ثابت أينشتاين الكوني؛ ومن ثَم منَحها الرمز لامدا شيئًا من التضليل. لكن أصبح ذلك الاستخدام مُعتادًا؛ إذ صار الاسم الشائع للنظرية الكونية الإجمالية السائدة هو نموذج لامدا-المادة المظلمة الباردة.
٧  لأن ثبات طاقة الفراغ المُفترضة بمرور الزمن يخلق بعض المشكلات الجدية، تتواصَل الجهود لصياغة تفسير تقلُّ فيه كثافة طاقة الفراغ بمرور الزمن (بيبلز وراترا، ٢٠٠٣). اقتُرِحَ أيضًا مصدرًا آخر للطاقة اللازمة للتمدُّد، مُنِحَ الاسم المُتخيَّل «الجوهر» (quintessence) (كالدويل وشتاينهارت، ٢٠٠٠). تفترض تلك النظرية وجود مجالات «مُتعقِّبة» يُمكن أن تتغير حسب الزمان والمكان. ومع أنها تتنبَّأ بتمدُّد كوني أبطأ قليلًا، لا تزال البيانات المتاحة غير دقيقة بما يكفي للتمييز بين الفرضيتَين «رصديًّا».
٨  مع أن ياكوف زيلدوفيتش أشار إلى عدم الاتساق ذلك منذ عام ١٩٦٧، كان يفترض إمكانية إزالته بطريقة ما في النهاية بإيجاد أساسٍ نظري يُسنَد إليه إلغاء طاقة الفراغ، بمعنى خفضها إلى الصفر. أما الآن فالهدف «ليس الخفض إلى الصفر المطلق»، وهو أصعب بكثير من الناحية التقنية.
٩  مع أن مفهوم «الضغط السالب» يبدو غير بديهي، فقد تكهَّن روجر بوسكوفيتش وغيره من خلفاء نيوتن بتبعات إدخال أنظمة جاذبية ذاتية التنافر جزئيًّا؛ أي تبذل «ضغطًا سالبًا».
١٠  لا شكَّ أن مهمة إيجاد أساسٍ نظريٍّ لذلك عسيرة إلى الحد الذي دفَع فيزيائيَّين مثل ماكس تيجمارك وستيفن واينبرج إلى افتراض وجود «أكوان متعدِّدة»؛ كي لا يُضطرُّوا إلى إيجاد ذلك الأساس (كار، ٢٠٠٩). دِقة القيمة المطلوبة لكثافة طاقة الفراغ تفتَح مجددًا مسألة «التوليف الدقيق» التي أثارت جدلًا واسعًا داخل أوساط علم الكون الحديث وخارجها (ماكمولين، ٢٠٠٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤