الفصل الخامس

الكون حاسوبًا

سيث لويد

لا يَخفى على أحد أننا في خضم ثورة في معالجة المعلومات تقوم على الحواسيب الإلكترونية وأنظمة الاتصال البصرية. أحدثت تلك الثورة نقلة في العمل والتعليم والفكر، وأثرت على حياة كل فرد على وجه الأرض.

(١) ثورات معالجة المعلومات

لكن تأثير الثورة الرقمية على البشرية جمعاء ضئيل مقارنة بتأثير ثورة معالجة المعلومات التي سبقتها؛ وهي اختراع نظام الأحرُف المتحركة في الطباعة. فقد كان اختراع المطبعة ثورة في معالجة المعلومات من الطراز الأول. سمح نظام الأحرف المتحركة للمعلومات الموجودة في كل كتاب، التي كانت فيما سبق غير مُتاحة إلا للقلة المالكة لنسخ منسوخة باليد من الكتاب، بأن تصل إلى آلاف أو ملايين البشر. أحدث ما نتج عن ذلك من معرفةٍ وتفشٍّ للمعلومات تحوُّلًا جذريًّا في المجتمع. إذ ملَّك توفر النصوص المكتوبة الأفراد زمام الجانب الفكري من حياتهم، وكذلك الجوانب الاقتصادية والقانونية والدينية منها.

كذلك كان تأثير الكلمة المطبوعة ضئيلًا إذا ما قورن بتأثير الكلمة المكتوبة. فقد مثَّلت الكتابة — اكتشاف أن الأصوات المنطوقة يُمكن تمثيلها برموز مُناظِرة لها على الطَّمي أو الحجر أو الورق — ثورة هائلة في معالجة المعلومات. يعتمد وجود مجتمعات طبقية معقَّدة فيها تقسيم مُمتد للعمل في الأساس على الكتابة. تظهر سجلات الضرائب بكثرة في الكتابات المسمارية المنقوشة على أقدم الألواح.

ومثلما قامت الطباعة على الكتابة، انبثقت الكتابة من أولى ثورات معالجة المعلومات في تاريخ كوكبنا: تطوُّر الكلمة المنطوقة. تُعد اللغة البشرية شكلًا مذهلًا من أشكال معالجة المعلومات؛ فهو قادِر على التعبير عن كل ما يُمكن التعبير عنه بالكلمات. اللغة البشرية تتضمَّن بداخلها القُدرة على إجراء تحليلات معقَّدة، مثل الرياضيات والمنطق، وكذلك العمليات الحسابية الشخصية («إن فعلت هي كذا، فسأفعل أنا كذا») التي هي أساس تعقيد المجتمع البشري.

ومع أن الحيوانات الأخرى لديها القُدرة على التواصل بالأصوات، لا يتَّضح لنا إن كان لدى أي منها القُدرة على استخدام لغة شاملة مثل البشر. وإنها لمُفارَقة أن تكون الكيانات التي تمتلك قُدرة لُغوية أقرب إلى اللغة البشرية هي من صنع البشر؛ الحواسيب الرقمية، التي تتضمَّن لغاتُها البرمجية نوعًا من الشُّمول اكتسبته من اللغة البشرية. التنظيم المجتمعي النابع من اللغة البشرية (وكذلك اللغة المكتوبة والنصوص المطبوعة والحواسيب، وغيرها) هو ما أدى إلى النجاح الباهر للنوع البشري، إلى حدِّ أن معظم موارد الكوكب الآن ينظمها البشر لأجل البشر. لو كان بوسع الأنواع الأخرى أن تتكلَّم، فعلى الأرجح ستقول: «مَن أمر بهذا؟»

لكن قبل أن نَلتفِت إلى ثورات مُعالجة المعلومات السابقة لذلك، أجدَرُ لنا أن نتحدَّث قليلًا عن نشأة اللغة البشرية. من «اكتشف» اللغة البشرية؟ يَكشف سجل الحفريات، وكذلك أدلة جينية مكتشفة حديثًا، أن اللغة البشرية ربما تكون نشأت منذ ٥٠ إلى ١٠٠ ألف عام في أفريقيا. تُشير حفريات جماجم إلى أن الدماغ البشريَّ مرَّ بتغيرات كبيرة في تلك الفترة الزمنية، إذ ازداد حَجم قشرة المخ عشرة أمثال. كانت نتيجة ذلك ظهور نوعنا، «الهوموسابينس»: أي «الإنسان العارف» (والمعنى الحرفي هو «الإنسان ذو الذوق»). تُشير الأدلة الوراثية إلى أن جميع النساء اللائي يحيَين في الوقت الحالي لهنَّ نفس الحمض النووي الميتوكوندري (ذلك الذي ترثه الابنة من أمها) الذي لامرأة عاشت في أفريقيا منذ ٧٠ ألف سنة. بالمثل، يَتشارك الرجال الأحياء اليوم الكروموسوم الذَّكَري مع رجل عاش في الزمن نفسه تقريبًا.

ما الأفضلية التطوُّرية التي انفرد بها هذا الآدم وتلك الحواء والتي ميزتهما عن بقية بني نوعهما من القِرَدة العليا وسمحت لهما بإعمار العالم بذُريتهما؟ يُحتمل أنهما كانا يتمتَّعان بطفرة جينية أو مزيج عرضي للحمض النووي منَح ذريتهما القُدرة على التفكير والتحليل المنطقي بطريقة جديدة فعالة (تشومسكي وآخرون، ٢٠٠٢). ذهب نعوم تشومسكي إلى أن طريقة التحليل المنطقي تلك يجب اعتبارها وثيقة الصِّلة بالمعاودة، وهو القُدرة على بناء تسلسلات هرمية من تسلسلات هرمية أخرى، والتي تقوم عليها اللغة البشرية والتحليل الرياضي. تذهَب النظرية إلى أنه فور ظهور القُدرة على التفكير المنطقي في النوع، تأقلم الأفراد الذين تمتَّعوا بتلك القُدرة على محيطهم المباشر على نحو أفضل، وبالطبع على البيئات الأخرى في الكوكب. ونحن نَسلُ أولئك الأفراد.

فور أن يَمتلك المرء القُدرة على التفكير المنطقي، تجتاحه حاجة ملحَّة لأن يُطور نوعًا من الأصوات المنطوقة يُعبر بها عن ذلك المنطق. كانت لمجموعات «الهوموسابينس» التي استطاعت تطوير طريقة للتعبير عن منطقها بالكلام الأفضلية على سائر المجموعات غير القادِرة على التواصُل المعقَّد؛ ومن ثَم تحويل أفكارها إلى أفعال منسَّقة.

عرضتُ تلك النظرية المقبولة عن منشأ اللغة وعن نوعِنا كي أُبيِّن أن ثورات معالجة المعلومات لا يلزم أن تقوم على يد البشر بالضرورة. إذ يُمكن «اكتشاف» طريقة جديدة لمعالجة المعلومات بصورة طبيعية من طريقة أقدم. على ما يبدو، بمجرد أن تَطوَّر دماغ الثدييات، لم يحتَجْ إلا إلى طفرات قليلة لإنتاج القُدرة على التفكير المنطقي بشكل تعاوُدي. وما إن وجِد العقل الذي هو الآلة القوية لمُعالجة المعلومات، تسنَّى للغة أن تتطور صدفة، بالاقتران مع الانتخاب الطبيعي.

لنَعُد الآن إلى تاريخ ثورات مُعالجة المعلومات. أحد أكثر صور معالجة المعلومات ثورية هي الممارسات الجنسية. حدثت الثورة الجنسية الأولى (لا تلك التي حدثَت في ستينيات القرن العشرين) منذ بضعة مليارات عام حين تعلَّمت الكائنات الحية مشاركة وتبادُل الحِمض النووي. للوهلة الأولى قد تبدو الممارسة الجنسية فكرة سيئة؛ فعند التكاثُر الجنسي، لا يُورث المرء شريطه الوراثي كاملًا. نصف حمضنا النووي يأتي من الأم، ونصفه الآخر من الأب، ويَختلط النِّصفان في عملية تُدعى إعادة الاتحاد. في المقابل، تُمرِّر الكائنات التي تتكاثَر لا جنسيًّا شريطها الوراثي كاملًا، ما عدا بضع طفرات. لذا حتى لو كان تركيب حمضك النووي مميزًا، عند التكاثر الجنسي قد لا يَنتقل ذلك التركيب إلى ذريتك. الجنس يعبث بنجاح النوع.

إذن لمَ الممارسة الجنسية فكرة جيدة؟ لأنَّه عن طريقها يَمتزج الحمض النووي للأبوَين؛ التكاثر الجنسي يرفع المعدل المُحتمَل للتطوُّر بدرجة هائلة. بسبب المزج الذي يحدث في عملية إعادة الاتحاد، يُتيح التكاثر الجنسي تنوعًا هائلًا في التراكيب الجينية للذُّرية، وهي تراكيب غير متاحة للكائنات التي تَعتمِد على الطفرات فقط في إحداث التباين الجيني. (في حين تعدُّ معظم الطفرات مُضرة، تضمن عملية إعادة الاتحاد إعادة مزج الجينات الصالحة للحياة مع مثيلاتها الأخرى.) كي نُقارن بين النوعين من التكاثر، الجنسي واللاجنسي، تأمَّل المثال التالي: بحساب عدد التراكيب الجينية التي يُمكن إنتاجها، لا يصعب بيان أن بلدة صغيرة يَسكنها ألف شخص، يتكاثرون جنسيًّا في زمنٍ جيلي مدَّته ٣٠ عامًا، تُنتج نفس القدر من الاختلافات الجينية التي تحدث في مزرعة بكتيريا بها تريليون خلية بكتيرية، تتكاثر لا جنسيًّا كل ٣٠ دقيقة.

يُعيدنا الحديث عن الجنس إلى أُولى ثورات معالجة المعلومات ألا وهي الحياة نفسها. أيًّا كانت طريقة نشأتها، تُعدُّ آلية تخزين المعلومات الجينية في الحمض النووي واختلافها أثناء التكاثُر «اختراعًا» نتج عنه عالمنا البديع الثري. هل يوجد أبدع وأروع من ذلك؟ لا ريب أن الحياة هي ثورة معالجة المعلومات الأصلية الأولى.

أم إنها ليسَت كذلك؟ انبثَقَت الحياة على الأرض في وقتٍ ما في الخمسة مليارات سنة الأخيرة (ببساطة لأنَّ ذلك هو عمر الأرض.) حينها، كان عمر الكون نفسه يكاد يقترب من أربعة عشر مليار سنة. فهل خلت التسعة مليارات سنة التي تتوسَّط عمريهما من ثورات معالجة المعلومات؟

الإجابة هي «كلا». الحياة ليست ثورة معالجة المعلومات الأولى. ثورة معالجة المعلومات الأولى التي انبثَقَت منها جميع الثورات الأخرى، بدأت بنشأة الكون نفسه. كان الانفجار العظيم الذي حدَث في بداية الزمان يتكوَّن من عدد هائل من الجُسَيمات الأولية، التي تصادمت عند درجات حرارة بلغت مليارات الدرجات المئوية. حمل كل منها بتات من المعلومات، وكلَّما تصادم جُسيمان وارتدا، كانت تلك البتَّات تتبدَّل وتخضع للمعالجة. كان الانفجار العظيم انفجارًا معلوماتيًّا. منذ اللحظات الأولى، كانت كل ذرَّة من الكون تعالج معلومات. إن الكون يُجري عمليات حوسبية. تلك العمليات الحوسبية المتواصِلة التي يجريها الكون نفسه هي التي أنتجت ثورات معالجة المعلومات اللاحِقة مثل الحياة والجنس والتفكير واللغة والحواسيب الإلكترونية.

(٢) الكون حاسوبًا

للوهلة الأولى قد تبدو فكرة الكون باعتباره حاسوبًا مجرَّد استعارة. فالحواسيب من صُنعنا نحن. الحواسيب هي الآلات التي تُميِّز عصرنا. لذا نُشبه الكون بالحاسوب، كما شبه مُفكِّرو عصر التنوير الكون بترُوس الساعة. هناك ردان على الزعم بأن الكون الحاسوب ليس إلا استعارة. الرد الأول هو أنه حتى لو اعتَبرنا النموذج الآلي للكون مجرد استعارة، فذلك لا ينفي أنه أثبت نجاحًا باهرًا. فمنذ ظهور النموذج الآلي منذ حوالي خمسمائة عام تقريبًا، نتج عنه ظهور علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء. النموذج الآلي هو أساس جميع العلوم والهندسة المعاصرة. واعتبار الكون لا مجرَّد آلة، بل آلة حاسبة، هو امتداد راجح للنموذج الآلي.

أما الرد الثاني فهو أن ذلك الادِّعاء بأن الكون يُجري عمليات حوسبية هو ادعاء صحيح بمعناه الحرفي. في الواقع، الإثبات العِلمي على أن جميع الذرات والجسيمات الأولية تُسجل بتَّات من المعلومات، وأنه كلَّما تصادم جُسيمان تبدلت تلك البتَّات وخضعت للمعالجة، قُدِّم في نهاية القرن التاسع عشر، قبل أن تشغل الحواسيب أذهان البشر بوقتٍ طويل. منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، وضَع علماء الميكانيكا الإحصائية جيمس كليرك ماكسويل من جامعتَي كامبريدج وأدنبرة، ولودفيج بولتزمان من جامعة فيينا، وجوزيا ويليارد جيبز من جامعة ييل، الصيغ الرياضية التي تَصِف المقدار الفيزيائي الذي يُعرَف بالإنتروبيا (إهرينفست وإهرينفست، ٢٠٠٢). قبل بحثهم، كانت الإنتروبيا تعرَّف بأنها مقدار ديناميكي حراري غامض إلى حدٍّ ما يُعيق عمل المحركات البخارية بسلاسة، ويمنعها من أداء كمية الشغل التي كانت لتبذلها لولاه. أراد ماكسويل وبولتزمان وجيبز إيجاد تعريف للإنتروبيا من ناحية الحركة الدقيقة للذرات. أظهرت الصيغ التي وضعوها أن الإنتروبيا تَتناسب مع عدد بتات المعلومات التي تُسجِّلها تلك الذرات أثناء حركتها. ثم صاغ بولتزمان مُعادلته المسمَّاة باسمه التي تصف تبدل تلك البتَّات وانقلابها عند تصادم الذرات. إذن، العالم يُعالج المعلومات فعلًا.

الاكتشاف العِلمي الذي يُفيد بأن الكون يجري عمليات حوسبية سابق بكثير للفكرة المنهجية والعمَلية للحاسوب الرقمي. لكن لم يتجلَّ تفسير الإنتروبيا بالمعلومات إلا في مُنتصَف القرن العشرين نتيجةً لأبحاث كلود شانون وغيره (شانون وويفر، ١٩٦٣). لاحقًا، في تسعينيات القرن العشرين، بيَّن الباحثون كيف أن الذرَّات والجُسيمات الأولية تُجري عمليات حوسبية في أدنى مُستوياتها (تشوانج ونيلسن، ٢٠٠٠). على وجه الخصوص، بيَّن أولئك الباحثون كيف أنه مِن المُمكن برمجة الجسيمات الأولية لإجراء المعالجات الرقمية التقليدية للمعلومات (وكذلك إجراء معالجات غير تقليدية للغاية كما سنُناقش لاحقًا). أي إن الكون لا يسجل المعلومات ويُعالجها فحسب في أدنى مستوياته، كما اكتُشِف في القرن التاسع عشر، بل إنه حاسوب بالمعنى الحرفي؛ نظام يُمكن برمجته لأداء عمليات حوسبية رقمية اعتباطية.

لعلك تسأل: ماذا يترتَّب على ذلك؟ ففي النهاية، قوانين الفيزياء المعروفة تصف نتائج التجارب بدقَّة مُذهلة. فما الجديد الذي تُضيفه لنا حقيقة إجراء الكون لعمليات حوسبية؟

قوانين الفيزياء منمَّقة ودقيقة، ولا يَنبغي أن نتجاهلها. بيد أنها محدودة من ناحية ما تُفسِّره. لا سيما حين تتطلَّع من نافذتك فترى النباتات والحيوانات والبشر؛ وترى المباني والسيارات والمصارف. وتُوجه تلسكوبك إلى السماء فترى الكواكب والنجوم، والمجرات والعناقيد المَجَرِّية. أينما نظرت، فسترى قدرًا هائلًا من التنوع والتعقيد. ما السبب؟ ما الذي جعل الكون على تلك الصورة؟ نحن نَعلم من الرصد الفلكي أن الحالة الأولية للكون، منذ أربعة عشر مليار سنة، كانت مسطحة ومنتظمة وبسيطة. بالمثل، قوانين الفيزياء بسيطة: فقوانين الفيزياء المعروفة يمكن تدوينها كاملة على ظهر قميص. قوانين بسيطة وحالة أولية بسيطة. إذن من أين جاء كل ذلك التعقيد؟ لا تُجيب قوانين الفيزياء على تلك المسألة.

في المقابل، تُقدِّم النظرية الحوسبية للكون تفسيرًا بسيطًا ومباشرًا لكيف ولماذا صار الكون بهذا التعقيد. يُشير تاريخ الكون فيما يخص ثورات معالجة المعلومات، التي انبثق كلٌّ منها بصورة طبيعية من سابقتها، إلى السبب الذي يجعل التعقيد نتيجة ضرورية للكون الحاسوب. في الواقع، يُمكن أن نُبرهن رياضيًّا على أنه من الراجح جدًّا أن يَستتبع الكون الحاسوب سلسلة من البِنى المعقَّدة التي لا تنفكُّ تزداد تعقيدًا.

(٣) الحوسبة الكمية

كي نفهم كيف ولماذا نشأ التعقيد في الكون الحاسوب، يجب أن نفهم المزيد عن طريقة معالجة الكون للمعلومات في أدنى مُستوياته. قوانين الفيزياء هي التي تَحكُم الطريقة التي يُجري بها الكون عمليات الحوسَبة. ميكانيكا الكَم هي فرع القوانين الفيزيائية الذي يُخبرنا بسلوك الذرات والجُسَيمات الأولية، وطريقة معالجتها للمعلومات.

أهم ما يجب تذكُّره بشأن ميكانيكا الكم هو أنها غريبة وغير بديهية. ميكانيكا الكم غريبة الأطوار. الجُسَيمات تكافئ الموجات؛ والموجات مُكوَّنة من جسيمات؛ والإلكترونات وكرات السلَّة يُمكن أن تكون في مكانَين في آنٍ واحد؛ والجسيمات الأولية تُظهر ما أسماه أينشتاين «فعلًا شبحيًّا عن بُعد». نيلز بور، أحد مؤسِّسي ميكانيكا الكم، قال ذات مرة إنه لو أن أحدًا استطاع أن يتفكَّر في فيزياء الكم دون أن يصيبه الدوار فهو لم يفهمها على الوجه الصحيح.

تُفسِّر تلك الطبيعة غير البديهية لميكانيكا الكم السبب في عدم ثقة العديد من العلماء النابغين، بالأخصِّ أينشتاين (الذي حصل على جائزة نوبل عن أبحاثه في ميكانيكا الكم) في ذلك المجال. كان يحقُّ لأينشتاين أن يَثِق بحدسه أكثر ممن سواه. كانت ميكانيكا الكم تخالف حدسه، كما تخالف حدس جميع من سواه. لذلك اعتقد أينشتاين أن ميكانيكا الكم لا يُمكن أن تكون صحيحة. قال: «الإله لا يَلعب النرد». لكنه كان مُخطئًا. فالإله، أو أيًّا كان من يَلعب، يلعب النرد.

هل طبيعة ميكانيكا الكم القائمة على الصُّدفة هي مفتاح فهم الكون الحاسوب؟ قوانين الفيزياء تَدعم بوضوح الحوسبة؛ أنا أكتب تلك الكلمات على جهاز حاسوب. فضلًا عن ذلك، تدعم قوانين الفيزياء الحوسَبة في أدنى المستويات؛ برهَنَ ماكسويل وبولتزمان وجيبز على أن جميع الذرات تُسجِّل المعلومات وتعالجها. وأستغلُّ أنا وزملائي قُدرة الكون على معالجة المعلومات لصُنع حواسيب كمية تخزن المعلومات وتعالجها على مستوى الذرات المنفردة. لكن من — أو ما — الذي يبرمج ذلك الحاسوب المُعالِج للمعلومات؟ من أين تأتي تلك البتَّات المعلوماتية التي تُعطي الكون الأوامر؟ ما مصدر كل ذلك الاختلاف والتعقيد الذي تراه حين تتطلَّع من نافذتك؟ تكمن الإجابة في رميات النرد الكمي.

لنُمعن النظر في كيفية ضخِّ ميكانيكا الكم للمعلومات في الكون. قوانين ميكانيكا الكم حتمية في الأغلب: في مُعظَم الوقت، ينتج عن كل حالةٍ حالةٌ أخرى واحدة لا أكثر في وقتٍ لاحق. تلك السِّمة الحتمية لميكانيكا الكم هي التي تَسمح للكون أن يتصرَّف مثل حاسوبٍ رقميٍّ تقليدي، يُعالج المعلومات بطريقة حتمية. لكن من حين لآخر، يدخل عنصر الصدفة إلى التطور الكمِّي، وحين يحدث ذلك، يحتمل أن يسفر عن حالة واحدة عدة حالات مُختلفة محتمَلة في وقتٍ لاحق. القُدرة على إنتاج عدة حالات مُحتمَلة مُختلفة تسمح للكون بالتصرُّف مثل الحاسوب الكمي، الذي على عكس الحاسوب التقليدي الرقمي يُجري عدة عمليات حوسبية مُختلفة في آنٍ واحد.

الآلية التي تُدخِل بها ميكانيكا الكم عنصر الصدفة في العمَلية الحوسَبية تُدعى «انعدام الاتساق» (جيل-مان وهارتل، ١٩٩٤). يَخلق انعدام الاتساق في واقع الأمر بتات معلوماتية جديدة لم تكن موجودة من قبل. بعبارة أخرى، انعدام الاتساق هو الأداة التي تضخُّ بتَّات معلوماتية جديدة في العالم. كل تفصيلة نراها حولنا، كل عِرق في ورقة شجر وكل لفة حلزونية في بصمة إصبع، وكل نجم في السماء يمكن تتبُّعه إلى بتٍّ خلقَتْه ميكانيكا الكم. البتَّات الكمية هي التي تُبرمج الكون.

لكن هنا تظهر مُشكلة. تُشير قوانين ميكانيكا الكم إلى أن البتَّات الجديدة التي يضخُّها في الكون انعدام الاتساق عشوائية تمامًا، مثل رميات عملة معدنية عادلة. الإله يلعب النرد فعلًا. بالطبع لم ينشأ الكون بالصدفة البحتة! فالأنماط التي نراها حين نتطلَّع من النافذة بعيدة تمامًا عن العشوائية. على العكس، المعلومات التي نراها من حولنا مُحكَمة الترتيب مع أنها زاخرة بالتفاصيل ومعقَّدة. فكيف يُمكن لبتَّات عشوائية بدرجة كبيرة أن تنشئ ذلك الكون المنظَّم الزاخر بالتفاصيل والتعقيد؟

(٤) القردة الكاتبة

تُقدِّم لنا القُدرة الحوسبية للكون الإجابة على سؤال كيف ينشأ ذلك النظام والتعقيد بالضرورة من بتَّات عشوائية. كي نَفهم كيف ينشأ التعقيد عن ذلك المزيج من العشوائية والحوسَبة تلقائيًّا، لنستعرض أولًا تفسيرًا قديمًا وغير صحيح عن منشأ النظام والتعقيد. هل يحتمل أن يكون الكون قد نشأ من العشوائية وحدها؟ كلا! العشوائية وحدَها لا يَنتج عنها نظام، إنما هي فوضى فارغة من المعنى. فمن غير المرجَّح أن تَخلق المعلومات العشوائية مثل تلك الناتجة عن تكرار إلقاء عُملة معدنية نظامًا وتعقيدًا.

خير مثال على فشل العشوائية في خلق النظام هو الاستعارة الشَّهيرة عن القردة التي تكتب على آلات كاتبة، التي قالها عالم الرياضيات الفرنسي إميل بوريل في العقد الأول من القرن العشرين (بوريل، ١٩٠٩). تخيَّل أنه يُوجد مليون قرد يكتبُ كلٌّ منها حروفًا عشوائية على آلة كاتبة. أشار بوريل إلى أن ثمة احتمالًا محدودًا أن تَكتب تلك القردة جميع النصوص الموجودة في أثرى مكتبات العالم. ثم ذكر أن ذلك الاحتمال مُتناهي الصغر. (تكرر ظهور تلك الاستعارة في الأدبيات الشهيرة، كما في القِصة التي بدأت فيها القرود على الفور كتابة مسرحية «هاملت» لشكسبير.)

لنعرف مدى ضآلة احتمال أن تُنتج القِردة أيَّ نصٍّ ذي قيمة، لنتخيَّل أن كل جسيم أوَّلي في الكون «قرد»، وأن كل جُسيم يَقلِب البتَّات أو «يكتب»، منذ بداية الكون. في موضع آخر، بينتُ أن عدد الأحداث الأولية أو انقلابات البتَّات التي حدثت منذ نشأة الكون لا تزيد عن ١٠١٢٠، أي تقريبًا ٢٤٠٠. إذا ما بحث المرء داخل تلك السلسلة العشوائية من البتَّات عن سلسلة فرعية معيَّنة (مُناجاة هاملت على سبيل المثال)، فبإمكانه أن يُبرهن على أن أطول سلسلة بتات يُعقَل أن يتوقَّع المرء إيجادها لا تزيد عن لوغاريتم طول السلسلة العشوائية الطويلة. في حالة الكون، طول أطول جزء من مُناجاة هاملت يمكن للمرء أن يتوقَّع إيجاده هو ٤٠٠ بت. يتطلَّب تشفير حرف أو رقم على آلة كاتبة سبعة بتات. بعبارة أخرى، إن سألنا ما هو أطول جزء مِن مناجاة هاملت يُمكن للقردة أن تكتبه منذ نشأة الكون، فسيكون: «أكون أو لا أكون؛ تلك هي المسألة: أي الحالتَين أمثلُ …». لن تستطيع قردة تكتب عشوائيًّا على آلات كاتبة إنتاج مسرحية «هاملت»، فما بالك بالعالم المعقَّد الذي نراه حولنا؟
لنفترض أنه بدلًا من الكتابة على آلات كاتبة، كتبَت القرود سلاسل البتَّات العشوائية الخاصة بها على حواسيب. يُترجم الحاسوب كل سلسلة باعتبارها برنامجًا؛ أي، مجموعة من التعليمات لأداء عملية حوسبية معيَّنة. ماذا سيحدث في تلك الحالة؟ للوهلة الأولى قد يُظَن أن البرامج العشوائية ستُنتج مخرجات عشوائية: إذا كانت المعطيات رديئة فستكون النتائج كذلك على حدِّ تعبير علماء الحاسوب. لكن إن أمعنا النظر، فسنجد أن تلك البرامج البسيطة العشوائية، في ظاهرها، تقوم بأمور عدة مُثيرة للاهتمام. (احتمال إنتاج القردة الذين يكتبون على حواسيب لمخرج معين هو موضوع دراسة فرع من الرياضيات يُدعى نظرية المعلومات اللوغاريتمية.) على سبيل المثال، يوجد برنامج بسيط يعطي تعليمات للحاسوب بحساب الأرقام التي يتكوَّن منها الثابت ، وآخر يُعطيه تعليمات ببناء أنماط هندسية كسيرية دقيقة. أحد أبسط البرامج يأمر الحاسوب بحساب جميع النظريات والأنماط الرياضية، بما فيها كل نمط أنتجتْه قوانين الفيزياء! قد يصحُّ القول بأن الفرق بين قردة تكتب على آلات كاتبة وقردة تكتب على حواسيب هو فارق شاسع جدًّا.

لتطبيق ذلك المفهوم الرياضي البحت لنظرية المعلومات اللوغاريتمية على الكون، نحتاج إلى مُكوِّنين؛ حاسوب، وقردة. لدينا بالفعل حاسوب؛ الكون نفسه، الذي يُعالج المعلومات بدأب على المستوى الميكروسكوبي. فأين القردة؟ كما سبَقَ أن ذكَرنا، تمدُّ ميكانيكا الكم الكون بإمداد مُستمر من البتَّات الجديدة العشوائية الناتجة عن عملية انعدام الاتساق. التقلبات الكمية هي «القردة» التي تُبرمج الكون (لويد، ٢٠٠٦).

دعوني أُقدم تلخيصًا لما سبق:

  • (١)

    تُشير نظرية المعلومات اللوغاريتمية الرياضية إلى أنه من المرجَّح أن يُنتج حاسوبٌ يُمدُّ ببرامج عشوائية ذلك القَدر من التعقيد والنظام الذي نراه حولنا. تلك ببساطة حقيقة رياضية؛ كي نُطبقها على كوننا، نحتاج أن نُحدِّد الآلية الحوسَبية للكون، وكذلك مصدر عشوائيته.

  • (٢)

    عرفنا منذ نهاية القرن التاسع عشر أن الكون لو اعتبرناه آلة (حسب منظور الفلسفة الآلية)، فهو آلة تُعالج المعلومات. في تسعينيات القرن العشرين، بيَّنتُ أنا وباحثون آخرون في مجال الحوسبة الكمية أن الكون قادر على إجراء عمليات حوسبية رقمية كاملة في مستوياته الميكروسكوبية؛ الكون فعليًّا هو حاسوب كَميٌّ عملاق.

  • (٣)

    تعالج ميكانيكا الكم المصادر الجوهرية للعشوائية التي تبرمج ذلك الحاسوب (الإله يلعب النرد). كما سبق أن ذكرنا في مناقشتنا لتاريخ ثورات معالجة المعلومات، يمكن أن ينجم عن ضخ بضعة بتَّات عشوائية، كما في حالة الطفرات الوراثية أو عمليات إعادة الاتحاد الجيني، نموذج جديد جذريًّا لمعالجة المعلومات.

(٥) مناقشة

يُكمِل المنظور الحوسبي للكون المنظور الآلي التقليدي؛ الكون ليس مجرد آلة فحسب، بل آلة تعالج المعلومات. الكون يُجري عمليات حوسبية. الكون الحاسوب ليس مجرد استعارة، بل حقيقة رياضية؛ الكون نظام فيزيائي يُمكن برمجته على أدنى مستوياته الميكروسكوبية لأداء عمليات حوسبية رقمية كونية. كما أن الكون ليس مجرَّد حاسوب عادي، بل هو حاسوب كمي. تضخُّ ميكانيكا الكم باستمرار بتَّات عشوائية جديدة في الكون. ونظرًا لطبيعته الحوسبية، يعالج الكون تلك البتَّات و«يُفسِّرها»، فينتج بطبيعة الحال شتى أنواع الأنظمة والبِنى المعقَّدة (لويد، ٢٠٠٦).

النتائج المعروضة في الفقرات السابقة هي نتائج عِلمية؛ فهي نابعة من رياضيات وفيزياء معالجة المعلومات. لما أتمَّ أرسطو كتابه «الطبيعة»، ألف عمله «الميتافيزيقا»، والذي يعني عنوانه حرفيًّا «ما وراء الطبيعة». ناقَشنا في ذلك الفصل بإيجاز فيزياء الكون الحاسوب وانعكاساتها على منشأ التعقيد والنظام. لنَستخدم فيزياء الكون الحاسوب أساسًا لماورائياته.

المراجع

  • Borel, E. (1909), Éléments de la Théorie des Probalités, Paris: A. Hermann et Fils.
  • Chomsky, N., Hauser, M. D., and Tecumseh Fitch, W. (2002), The faculty of language: What is it, who has it and how did it evolve, Science, 22(2): 1569–1579.
  • Chuang, I. A., and Nielsen, M. A. (2000), Quantum Computation and Quantum Information, Cambridge, UK: Cambridge University Press.
  • Ehrenfest, P., and Ehrenfest, T. (2002), The Conceptual Foundations of the Statistical Approach in Mechanics, New York: Dover.
  • Gell-Mann, M., and Hartle, J. B. (1994), The Physical Origins of Time Asymmetry, ed. J. Halliwell, J. Pérez-Mercader and W. Zurek, Cambridge, UK: Cambridge University Press.
  • Lloyd, S. (2006), Programming the Universe, New York: Knopf.
  • Shannon, C. E., and Weaver, W. (1963), The Mathematical Theory of Communication, Urbana: University of Illinois Press.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤