الفصل السابع

الاستدامة

على الرغم من أنَّ التغيير البشري للكوكب كان غير مُتعمَّد في البداية، فإننا الآن صِرنا نُدرِكه إدراكًا جماعيًّا متزايدًا. ويُشكِّل هذا تحديًا لعلم نظام الأرض؛ لأننا، نحن البشر، لدينا بصيرةٌ واعية وإحساس بغايةٍ معيَّنة من وجودنا، وهذا الإحساس (على حد علمنا) لم يكن جزءًا من نظام الأرض من قبلُ قَط. وهذا يُحدِث تغييرًا جذريًّا في نظام الأرض؛ لأنه يعني أن نوعًا واحدًا يستطيع تشكيل المسار المستقبلي لكوكبنا تشكيلًا جماعيًّا بوعي منه. فنحن نعلم أن طريقة عيشنا الحالية غير مستدامة، لكننا ما زلنا نُحاوِل التوصل إلى شكلِ مستقبلٍ مستدام ومزدهر. وتُعَد هذه فرصة لعلم نظام الأرض؛ لأنه المجال الذي يُمكِن أن يُخبرَنا بما الذي يجعل نظام الأرض مُستدامًا وما الذي يجعله غير ذلك. ويوضِّح هذا الفصل كيف يمكن لعلم نظام الأرض أن يُساعِد البشر في سعيهم إلى تحقيق الاستدامة، مستهلًّا ذلك بالدروس التي يمكن أن نتعلمها من تاريخ الأرض.

دروسٌ مستفادة من تاريخ الأرض

يُعَد غِلاف الأرض الحيوي مثالًا بارزًا للأنظمة المستدامة. فهو مزدهر منذ أكثر من ٣٫٥ مليارات سنة، وصحيحٌ أنه كان في البداية مجرَّد عالَم من بدائيات النوى، لكنه أصبح الآن عالَمًا يدعم الحياة المعقَّدة. وفي ذلك الوقت، ازداد سطوع الشمس بوتيرةٍ ثابتة، واصطدمَت صخورٌ عملاقة بالكوكب، وحقَن لُب الأرض دفقات كبيرة من المواد المنصهِرة في نظام سطح الأرض من حين إلى آخر. ولكن بالرغم من هذه الاضطرابات، بَقيَت الظروف على سطح الأرض صالحةً للعيش فيها، ليس هذا فحسب، بل ازدهرَت الحياة. صحيحٌ أنَّ الكوكب تعرَّض لبعض الكوارث شبه المميتة، مثل أحداث تحوُّل الأرض إلى كرة ثلجية، أو انقراض نهاية العصر البرمي، لكن هذه هي الاستثناءات وليست القاعدة. فما أسرار الاستدامة الطويلة المدى إذَن؟

السر الأول هو اقتران مصدر طاقة مستدام بإعادة تدوير المواد (شكل ٧-١). ويتمثل المصدر الأساسي الذي يُمِد نظام الأرض بالطاقة في ضوء الشمس، الذي يُحوِّله الغِلاف الحيوي ويُخزِّنه في شكلِ طاقةٍ كيميائية. وتبني أجهزة استخلاص الطاقة — أي الكائنات التي تُمارِس التمثيل الضوئي — نفسها بالاعتماد على ثاني أكسيد الكربون والمواد المغذية ومجموعة من العناصر النزرة التي تأخذها من البيئة المحيطة بها. وتُعَد كمية مُدخلات هذه العناصر والمركَّبات من نظام الجزء الصُّلب من الأرض إلى نظام سطح الأرض متواضعة. لذا تطوَّرَت بعض الكائنات التي تُمارِس التمثيل الضوئي لزيادة مُدخلات المواد التي تحتاج إليها، بتثبيت النيتروجين من الغِلاف الجوي وتجوية الفوسفور تجويةً انتقائية نازعةً إياه من الصخور، على سبيل المثال. والأهم من ذلك هو تطوُّر كائناتٍ أخرى غيرية التغذية تُعيد تدويرَ المواد التي تحتاج إليها الكائنات التي تُمارس التمثيل الضوئي (غالبًا ما تُعيد تدويرها في صورة منتَج ثانوي من استهلاك بعض الطاقة الكيميائية التي استُخلصَت أصلًا في عملية التمثيل الضوئي). ويُعَد هذا النظام الاستثنائي من أنظمة إعادة التدوير هو الآلية الأساسية التي يُحافِظ بها الغِلاف الحيوي على مستوًى عالٍ من مُعدَّل الحصول على الطاقة (أي الإنتاجية).

أمَّا السر الثاني وراء الاستدامة، فهو التنظيم الذاتي. فمن أجل أن تظل ظروفُ نظام الأرض مستقرةً وصالحةً للعيش فيها، يجب أن يُوجد لدى النظام آلياتُ تغذيةٍ مرتدة سالبة، مثل التغذية المرتدة المتمثلة في تجوية السيليكات، التي تعمل على تثبيت درجة الحرارة على المدى الطويل. فهذه التغذيات المرتدة السالبة تمنح نظام الأرض مرونة؛ بمعنى أنَّ النظام إذا تأثَّر بشيءٍ ما، فإنه يميل إلى الارتداد إلى حالته الأوَّلية. وتُعَد المرونة بالمعنى الحرفي مقياسًا لمدى سرعة ارتداده. ويُعزِّز دَور الحياة في بعض آليات التغذية المرتدة السالبة — مثل تكثيف تجوية السيليكات — من مرونة نظام الأرض. وصحيحٌ أنَّ نظام الأرض يتضمن تغذياتٍ مرتدة موجبة إلى جانب التغذيات المرتدة السالبة. لكنَّ استقراره على المدى الطويل يُخبرنا بأنَّ التغذيات المرتدة السالبة في المُجمَل هي صاحبة التأثير الأكبر. وثَمة جدل مستمر حول سبب ذلك.

fig26
شكل ٧-١: تدفقات الطاقة والمواد في الغِلاف الحيوي، والغِلاف البشري (الأنثروبوسفير)، وفي غِلافٍ بشري مستدام مُحتمَل في المستقبل.

وصحيحٌ أنَّ تاريخ الحياة الطويل قد يدفعُنا إلى استنتاج أنَّ نظام الأرض سيكون مَرنًا وقادرًا على استعادة حالته بعد التأثر بأنشطتنا الجماعية بصفتنا أحد الأنواع التي تعيش فيه، لكن هذه قد تكون ثقةً زائفة. فاستمرار الحياة في الماضي ليس مؤشرًا قويًّا بالضرورة على استقرارها في المستقبل. والسبب أنَّ وجودنا بحد ذاته يُحتِّم اتسام نظام الأرض بتاريخ من نوعيةٍ معيَّنة؛ تاريخ ظلَّت فيه الحياة باقيةً رغم كل الصعوبات وارتفعَت فيه مستويات الأكسجين إلى الحد الذي مكَّنَنا من النشوء ورصدِ مثل هذا التاريخ. يُعَد هذا تطبيقًا لما يُسمِّيه علماء دراسة الكونيات «المبدأ البشري الضعيف». ويعني هذا المبدأ أننا ينبغي ألا نتفاجأ بشدة من أنَّ أغلب آليات التغذية المرتدة في نظام الأرض حتى الآن سالبة. وهذا لا يضمن أنَّ الوضع سيبقى كذلك. فمن الممكن أن ينشأ شيءٌ ما داخل نظام الأرض يُحدِث فيه اضطرابًا عميقًا، قد يصل حتى إلى حدِّ القضاء على كل أشكال الحياة. بل يظن بعضُنا أنَّ هذا «الشيء» يمكن أن يكون نحن.

نمو أُسِّي يصطدم بموارد محدودة

يكمُن في صميم التحدي الذي يواجه الاستدامة تعارضٌ بين تغذية مرتدة موجبة وأخرى سالبة. إذ يُمكن أن ينتج نمو أُسي من تغذيةٍ مرتدة موجبة ترتبط بالأحياء ارتباطًا متأصلًا؛ ألا وهي أنَّ الحياة تولِّد مزيدًا من الحياة. لكن النمو الأُسي دائمًا ما يكون مقيدًا في النهاية بموارد محدودة، وهو ما يفرض على النمو تغذيةً مرتدة سالبة. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ تاريخ هذه الفكرة القائلة بأنَّ النمو الأُسي سيكون مُقيدًا في النهاية بموارد محدودة يرجع، على أقل تقدير، إلى وقتِ كتاب «مقالة عن مبدأ السكان» الذي ألَّفه توماس مالتوس، ونُشر في عام ١٧٩٨. وكانت تلك الفكرة من الركائز الأساسية التي صاغ داروين نظرية الانتخاب الطبيعي بناءً عليها؛ فعندما تكون الموارد محدودة، تستقر أعداد السكان، وينتُج تنافُس على الموارد، وتُصبح الكائنات «الأصلح» (أي تلك التي تُخلِّف وراءها النسل الأكثر) مهيمِنةً على العالم.

ثم اتخذ المبدأ شكلًا أوسع في كتاب «حدود النمو» الذي نُشر في عام ١٩٧٢ من تأليف دونيلا إتش ميدوز ودينيس إل ميدوز ويورجن راندرز وويليام دابليو بيرنس الثالث، الذي درَس التفاعل بين النمو الأُسي للأنشطة البشرية والموارد المحدودة باستخدام نموذج نظام عالمي مبكر يُسمى «وورلد٣». فقد ضمَّن مؤلفو الكتاب في النموذج خمسة متغيِّرات متفاعلة؛ سكان العالم، والتحوُّل إلى النظام الصناعي، والتلوث، وإنتاج الغذاء، واستنفاد الموارد. وأدى سيناريوهان من سيناريوهات النموذج إلى تجاوُز حد استهلاك الموارد المسموح به وحدوث انهيار في هذا القرن، فيما أسفر نموذجٌ ثالث عن عالَم مستقر. ولاقى الكتاب انتقادات من العديد من الاقتصاديين، الذين أكَّدوا أنَّ تعمُّد تقييد استهلاك الموارد سيُلحِق ضررًا جسيمًا بالتحسينات الجارية في رفاهية البشر. ومن هذه الحُجة انبثَق الحل الوسط العظيم المتمثل في «التنمية المستدامة»؛ ومفاده أننا يجب أن نسعى في آنٍ واحد إلى تحسين رفاهية البشر وإلى تحقيق الاستدامة البيئية.

ولعل أوضح رابط مؤكَّد بين التنمية البشرية والاستدامة أنها تقودنا عمومًا إلى إنجاب أطفالٍ أقل. وهذا يعني أنَّ عدد السكان البشر سيثبُت عاجلًا أو آجلًا. بل إنَّ معدلات الخصوبة انخفضَت إلى ما دون مستوى الإحلال في العديد من البلدان المتقدمة. ومن ثَم، فإذا تحقَّقَت التنمية على مستوًى عالمي، يُمكِننا أن نتوقع انخفاض عدد السكان على المدى الطويل. غير أنَّ التنمية تؤدي أيضًا إلى زيادة استهلاك الطاقة والمواد، الذي أصبح منفصلًا عن النمو السكاني ويواصل الازدياد بمُعدلٍ أسِّي. ومن ثَم فإنَّ تباطؤ النمو السكاني منذ الستينيات لا يعمل على تثبيت تأثيرنا الجماعي على كوكب الأرض عند مستوًى معيَّن. وهذا يعني أنَّ التحدي الذي تواجهه الاستدامة لا يتعلق في الأساس بثبات عدد السكان (وإن كان ذلك سيساعد في تحقيق الاستدامة)، بل يتعلق بتغيير المصادر التي نستمد منها الطاقة والكيفية التي نستخدم بها المواد.

الطاقة المستدامة

ينظر مجال «الأيض الصناعي» (أو «علم البيئة الصناعي») إلى المجتمعات البشرية على أنها تتضمن عملياتٍ متشابكة من تدفقات الطاقة والمواد، شأنها شأن الكائنات الحية والأنظمة البيئية ونظام الأرض. وصحيح أنَّ الغِلاف الحيوي حقق قفزات في مدخلات الطاقة من حين إلى آخر في الماضي، لكنَّ حجم مدخلات الطاقة كان ثابتًا طوال معظم تاريخه. وحتى الآن، استطاع البشر زيادة مدخلات الطاقة إلى الغلاف الحيوي بمقدار العُشر تقريبًا، وقد حدثت معظم هذه الزيادة منذ «التسارع الكبير»، مع زيادة استهلاك الطاقة العالمي من حوالي ١٠٠ إكساجول سنويًّا في عام ١٩٥٠ إلى حوالي ٥٠٠ إكساجول سنويًّا في عام ٢٠١٠. هذا وتُشير توقعاتٌ مستقبلية إلى أنَّ الطلب على الطاقة يمكن أن يرتفع إلى أكثر من ١٠٠٠ إكساجول سنويًّا بحلول عام ٢٠٥٠. وصحيحٌ أنه لا يمكن تلبية الطلب المتزايد على الطاقة إلى أجلٍ غير مُسمًّى، لكننا لم نقترب إطلاقًا حتى الآن من حدود الطاقة المتاحة.

يتمثل مصدر طاقتنا الرئيسي حاليًّا في مواد؛ الوقود الأحفوري. وفي حين أننا نُواصِل حرق الوقود الأحفوري، فنحن نعلم أننا نعيش على طاقةٍ مُقترَضة. فالوقود الأحفوري مصدرٌ محدود للطاقة من القشرة الأرضية. ومن ثَم، ستؤدي تغذيةٌ مرتدة سالبة إلى الحد من الزيادة في استهلاك تلك المواد. ومن المؤكَّد أنَّ عمليات استخراج النفط هي من ستَبلغ الذروة أولًا، يليها استخراج الغاز، ثم الفحم (في النهاية). ولكن (كما رأينا في الفصل السادس)، تُوجد كميةٌ كافية من الوقود الأحفوري — الفحم بشكلٍ أساسي — لرفع درجة حرارة مُناخ الأرض بمقدار ١٠ درجاتٍ مئوية. وهذا يُمكن أن يؤدي إلى نشوء تغذية مرتدة سالبة مختلفة تؤثِّر في معدل النمو من رَحِم تأثيراته الضارة للغاية. وصحيحٌ أننا نستطيع أن نلجأ بدلًا من ذلك إلى خيار حرق الوقود الأحفوري واستخلاص ثاني أكسيد الكربون المنبعث وتخزينه — مع تحمُّل غرامة الطاقة المصاحبة لتلك العملية — ولكن لا يمكن وصف ذلك بأنه مصدرُ طاقةٍ «مستدام».

أمَّا طاقة الانشطار النووي، فتعتمد على إمداداتٍ محدودة من المواد الانشطارية؛ لذا فهي أيضًا ليست مستدامة إلى أجلٍ غير مُسمًّى. غير أنَّ الآفاق المستقبلية المحتملة لتوليد الطاقة من اليورانيوم والثوريوم الانشطاريَّين أكثر إشراقًا من آفاق توليد الطاقة من الوقود الأحفوري. وصحيحٌ أنَّ الاندماج النووي هو ما يُمِد الشمس وكل النجوم بالطاقة، وإذا أمكن ترويضه، فستكون كميةُ إمدادات المواد «الاندماجية» أكبر بقيمٍ أسية كاملة. ولكن من المُرجَّح على ما يبدو أنَّ الشمس ستظل المصدر المهيمِن بين مصادر إمداد الغِلاف الحيوي بالطاقة في المستقبل البعيد.

ويُمكن أن تزداد نسبة ضوء الشمس التي تدخل الغِلاف الحيوي زيادةً كبيرة بتدخلٍ بشري؛ لأنَّ كفاءة عملية التمثيل الضوئي في تحويل الطاقة الشمسية ليست عاليةً إطلاقًا؛ إذ تتراوح بين ١ و٢ في المائة على أقصى تقدير. ولذا ثَمة جهودٌ جارية لتحسين كفاءة التمثيل الضوئي، الذي يمكن أن يعود بفائدة على إنتاج كلٍّ من الغذاء والوقود الحيوي. ولكن ما زالت تُوجد فجوةٌ واسعة في الكفاءة بين التمثيل الضوئي والوسائل الأخرى لاستخلاص الطاقة الشمسية. فعادةً ما تَبلغ كفاءة الألواح الكهروضوئية الشمسية في تحويل ضوء الشمس إلى كهرباء حوالي ٢٠ في المائة، بل وشهدَت الآونة الأخيرة إنتاج جهاز يجمع بين تحويل الطاقة الشمسية إلى كهرباء واستخلاص الطاقة الشمسية الحرارية بكفاءة تبلغ ٨٠ في المائة. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ كمية ضوء الشمس التي تصل إلى سطح الأرض (والتي تبلغ طاقتها ٢٫٥ × ١٠١٦ واط) تجعل إجمالي الاستهلاك البشري الحالي للطاقة (البالغ ١٫٥ × ١٠١٣ واط) ضئيلًا جدًّا؛ لأنها تفوقه بأكثر من ألف ضعف. وبذلك يُمكن للطاقة الشمسية أن تدعم زيادةً مستقبلية كبيرة في مُعدل الاستهلاك البشري للطاقة، ولكن ليس زيادة غير محدودة؛ لأنَّ كمية ضوء الشمس التي تصل إلى الأرض تظل محدودة، وإن كانت هائلة.

وسيَعني هذا بطبيعة الحال تخصيص جزء من سطح الأرض لالتقاط الطاقة الشمسية، والتغلب على بعض التحديات التي تواجه نقل الطاقة وتخزينها. فمصادر الطاقة الشمسية ومعظم مصادر الطاقة المتجددة الأخرى متقطعة. ولذا تتطلب تخزينَ الطاقة و/أو شبكة كهرباء عالمية فائقة تستطيع نقل الطاقة من أماكن سطوع الشمس إلى أماكن الاحتياج إلى تلك الطاقة. ويُمكِن تخزين الطاقة في أشكالٍ عديدة. إذ يُخزن الغِلاف الحيوي الطاقة الشمسية في شكلٍ كيميائي، ويمكن أن يكون المكافئ البشري لهذه العملية هو الوقود الهيدروجيني، أو الهيدروكربونات المُخلَّقة.

إعادة تدوير المواد

نعكف حاليًّا على استخراج مجموعة من الموارد المحدودة من قشرة الأرض، من بينها الفوسفور للأسمدة المخصِّبة والحديد والألومنيوم ومجموعة من المعادن النزرة (بالإضافة إلى مواد الوقود الأحفوري). ونعمل أيضًا على تثبيت كميةٍ كبيرة من النيتروجين من الغِلاف الجوي. ونستخدم هذه المواد في اقتصادنا الصناعي أو لزراعة الغذاء. ثم عادةً ما نتخلص من النفايات والمخلفات الناتجة بإعادتها مرةً أخرى إلى الأرض، أو إطلاقها في الغِلاف الجوي، أو إلقائها في المياه العذبة والمحيطات. وهذا بدوره يُولِّد تغييراتٍ بيئية. ومن أجل تحقيق استدامةٍ طويلة المدى، سيتوجَّب حدوث تحوُّل جذري نحو معدلاتٍ أكبر بكثير من إعادة التدوير؛ لأن الموارد محدودة، ولأن النفايات المتراكمة تُسبِّب أضرارًا بيئية متزايدة.

غير أنَّ إعادة التدوير تتطلب طاقة بدورها. وفي الغِلاف الحيوي، تجري إعادة التدوير باستهلاك الطاقة الكيميائية، التي استُخلصَت في عملية التمثيل الضوئي أصلًا، في تفاعلات الكائنات الغيرية التغذية. فعلى سبيل المثال، تحصُل كائناتُ التربة على طاقتها من تفاعل المواد العضوية مع الأكسجين، وتُطلِق في أثناء ذلك موادَّ مغذية تُعيدها مرةً أخرى إلى التربة (بالإضافة إلى ذلك تُطلِق ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي). وهذه حيلةٌ رائعة تدعم الحياة دعمًا مباشرًا بإمدادها بالطاقة، ودعمًا غير مباشر من خلال إعادة تدوير الموارد. غير أن هذه الحيلة لا تنسحب على كل المواد اللازمة للحضارة؛ لأن هذه المواد لا تُمِد بالطاقة بالطريقة نفسها. ومع ذلك، فنحن نستطيع إنشاء علمِ بيئةٍ صناعي يُعتمد فيه على الطاقة الشمسية في إعادة تدوير المواد. ومع أنَّ الكمية الإجمالية للعديد من العناصر الموجودة في القشرة الأرضية هائلة، تتزايد الطاقة اللازمة لاستخراج هذه العناصر وتنقيتها؛ لأنَّ درجة نقاء تركيزات العناصر التي نستخرجها تتناقص باستمرار. وينبغي أن يُشكِّل هذا حافزًا لإعادة تدوير المواد المتداوَلة لدينا بالفعل في نظام سطح الأرض؛ لأنها تستهلك قَدرًا أقل من الطاقة. على سبيل المثال، تتطلب إعادة تدوير الحديد (والصُّلب) حوالي ربع الطاقة اللازمة لتكريره من خام الحديد فقط. وكما هو متوقَّع، فإنَّ حوالَي نصف كمية الصُّلب المُستخدَم في الإنشاءات الجديدة في أمريكا الشمالية مُعادٌ تدويرها، مع أنَّ أمريكا الشمالية تشتهر باستخراج أجود أنواع المعادن الخام منذ فترةٍ طويلة. وبالطبع إذا كانت الكمية الإجمالية للعناصر المُستخدَمة في المجتمعات تتزايد — كما هو الحال مع الحديد على مستوى العالم — فلا بد من وجود مُدخلات (تأتي في هذه الحالة من القشرة الأرضية). ولكن مع ثبات عدد السكان، يُمكِننا أن نتوقع ثبات الحجم الإجمالي للبِنية التحتية المُنشأة.

تُعَد بعض المواد أساسية لبقائنا على قيد الحياة، مثل الفوسفور والنيتروجين في غذائنا، اللذين تُستمد كميةٌ كبيرة منهما من استخدام الأسمدة. وتُعَد كمية النيتروجين الإجمالية في الغِلاف الجوي هائلةً جدًّا لدرجة أنه لن يصبح شحيحًا ولن يحدَّ من النمو البيولوجي أبدًا، ما دام لدينا مصدرُ طاقة مُستدام لتثبيته. غير أنَّ الآونة الأخيرة شهدَت بعض المخاوف من أنَّ احتياطيات الفوسفات الصخري يمكن أن تصبح شحيحةً إلى درجة تحدُّ من النمو البيولوجي، ومن أننا ربما نقترب من «ذروة إنتاج الفوسفور». وهذا يعني اللجوء إلى احتياطيات تتَّسم بأنها أقل تركيزًا أو يُعَد الوصول إليها أصعب؛ الأمر الذي يرفع الأسعار. وسواء أكانت هذه الذروة قريبة أم بعيدة، فمن الواضح أننا نحتاج إلى التفكير في آلياتٍ أكفأ بكثير لاستخدام الفوسفور وإعادة تدويره.

حدودٌ كوكبية

fig27
شكل ٧-٢: الحدود الكوكبية، وهي تُبيِّن «الحيِّز الآمن لممارسة العمليات والأنشطة البشرية» (داخل الدائرة الداخلية الداكنة المتحدة المركز)، ومنطقةً من عدم التيقن (بين الدائرة الداخلية والدائرة الخارجية الداكنة المتحدة المركز)، والحالة الحالية لسبعة حدود من أصل تسعة (المناطق المظللة باللون الرمادي).
من الممكن أن يتجاوز تراكُم نُفايات المواد الناتجة من الأيض الصناعي حدودَ قدرة نظام الأرض على أداء وظائفه وممارسة عملياته على نحوٍ صحي آمن. ويُعَد مفهوم الحدود الكوكبية محاولةً لتعريف هذه الحدود وما يكافئها من «حيِّز آمن لممارسة أنشطة الحياة البشرية» (شكل ٧-٢). وإذا تجاوزنا هذه الحدود، فسيُجبَر نظام الأرض على الخروج من حالة «شبه هولوسينية» مستقرة. وقد اقتُرحَت تسعةُ حدود إجمالًا، وهي تتضمن تغيُّر المناخ، وتحمُّض المحيطات، ونضوب الأوزون، والتدفقات البيوجيوكيميائية، واستخدام المياه العذبة، وتغيُّر استخدام الأراضي، وفقدان التنوع الحيوي («وَحْدة الغِلاف الحيوي»)، وجُسيمات الهَباء الجوي في الغِلاف الجوي، وكيانات جديدة من بينها التلوث الكيميائي. وقد اقتُرحَت قيمٌ رقمية لبعض هذه الحدود — عينت بأقل حد ممكن من عدم التيقن — من أجل البقاء ضمن «الحيِّز الآمن لممارسة العمليات البشرية». فعلى سبيل المثال، عُيِّن حدٌّ لتغيُّر المُناخ يساوي ٣٥٠ جزءًا في المليون من ثاني أكسيد الكربون؛ وهذا المستوى قد تجاوزناه بالفعل.

وفي حين أنَّ تعيين قيمة بعض الحدود الكوكبية محاطٌ بجدلٍ شديد، فإنَّ الفكرة الأساسية التي تفيد بوجود حدود لقدرة نظام الأرض على أداء عملياته على نحوٍ صحي آمن تُعَد أقل إثارة للجدل. هذا ويمكن تجاوز بعض هذه الحدود حتى قبل الوصول إلى أقصى حدود الموارد المتاحة. فعلى سبيل المثال، تتوافر لدينا القدرة التكنولوجية على تدمير طبقة الأوزون بلا شك. وفوق ذلك، فالوقود الأحفوري المتوفر — الذي يُعَد معظمه من الفحم — يجعلنا قادرين على إخراج نظام الأرض من حالة عهد الهولوسين (أو العصر الرباعي حتى) التي يستقر فيها حاليًّا.

ومن المؤكَّد أننا نحتاج إلى استهلاك قَدرٍ معيَّن من الطاقة والموارد من أجل استدامة رفاهية البشر. أما بالنسبة لبعض المواد مثل الفوسفور، فإننا نجد تعارضًا بين احتياجنا الأساسي إلى إطعام البشر، والاحتياطيات المحدودة من الفوسفور، وعواقب استخدامه على البيئة. وكذلك تُوجد تعارضاتٌ ومفاضَلاتٌ محتملة بين الحدود الكوكبية. فعلى سبيل المثال، إذا اخترنا استخدام كمياتٍ أقل من الفوسفور والنيتروجين في الزراعة، وهذا يُقلِّل من غلَّة المحاصيل، فربما سيَلزم زيادة معدلات استخدام الأراضي لإطعام البشر، مع ما ينطوي عليه ذلك من تأثيراتٍ مصاحبة على التنوع الحيوي. وإذا تقبَّلنا وجود حدودٍ كوكبية ووجود مفاضَلات بينها، نحتاج إلى التصميم الواعي لطرقٍ مستدامة لممارسة أنشطتنا ضمن نطاق هذه الحدود.

نظام تغذية مرتدة ذو وعي ذاتي

يُعَد الوعي البشري — على حد علمنا — خاصيةً جديدة تمامًا من خواصِّ نظام الأرض. وعندما يتحد هذا الوعي مع قدرتنا التكنولوجية على تغيير العالم، يمكن أن يُنشئ نوعًا جديدًا من السيطرة على التغذية المرتدة في نظام الأرض. فكل التغذيات المرتدة التي ساعدَت على استقرار نظام الأرض (وتلك التي زعزعَت استقراره) حتى الآن قد نشأت وأثَّرَت دون وعي منا. ومن ثَم، فمن المحتمل في المستقبل أن نستطيع السيطرة على نحوٍ واعٍ على التغذية المرتدة، وفقًا للغاية من ورائها (شكل ٧-٣). ومن منظورٍ ما، نحن نفعل ذلك بالفعل.
fig28
شكل ٧-٣: مفهوم التغذية المرتدة وفقًا لغاية داخل نظام الأرض.

في حين أنَّ رُوَّاد الثورة الصناعية وأبطالها لم يكونوا على وعي بأنهم يشرعون في تغيير المُناخ، فإننا لا نستطيع الآن أن ندَّعي أننا لا نعرف العواقب المُناخية لأنشطتنا الصناعية المستمرة. بل إنَّ أرينيوس، عندما نشر حساباته لتأثير انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الاحترار العالمي في عام ١٨٩٦، كان يُدرِك أنَّ الأنشطة الصناعية تُضيف كميات من ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي وتؤدي إلى احترار المُناخ، وهو ما رآه أمرًا إيجابيًّا آنذاك. أمَّا الآن، فأصبحنا نرى عكس ذلك، وتُعَد الجهود المبذولة للتخفيف من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الصادرة من الوقود الأحفوري، وإن كانت محدودةً حتى الآن، بمثابة تغذيةٍ مرتدة سالبة واعية. فهي محاولةٌ ساعية إلى تقليل مدى التأثيرات السلبية المتوقعة بسبب تغيُّر المناخ من أجل البقاء داخل نطاق «الحدود الكوكبية».

تُعَد المراقبة ضروريةً لأيِّ نظام للسيطرة على التغذية المرتدة وفقًا للغاية من ورائها. وإذا كنا لا نعرف حالة نظام الأرض، فإننا لن نستطيع قياس مدى اقتراب أنشطتنا من أي أهداف نضعها أو ابتعادها عنها. وإلى الآن، يُعَد الدافع الأكبر وراء مراقبة نظام الأرض هو الفضول والرغبة في تسجيل عواقب أفعالنا. ونحن نعكف حاليًّا على مراقبة نظام الأرض على مجموعة من المستويات، من سطح الأرض إلى الفضاء، بدرجةٍ متزايدة من التفصيل المكاني والزماني. وما زالت تُوجد فجواتٌ هائلة في الرصد المكاني، مثل الفجوات الموجودة في مراقبة حالة دورة الكربون أو حالة التنوع الحيوي أو حالة أعماق المحيطات. بل تُوجد أيضًا بعض الفجوات في الأرصاد الزمانية، وخصوصًا في إنشاء نماذجَ محاكيةٍ لها قبل التاريخ الحديث. ومع ذلك يجري إحراز بعض التقدم، مثل التقدم المُحرَز في مراقبة دورة انقلاب المحيط الأطلسي وإنشاء نماذجَ محاكيةٍ لسلوكها في الماضي.

إشاراتٌ تحذيرية مبكرة

بالإضافة إلى أنَّ هذه الأرصاد تُسجل التغيرات المنتظمة في نظام الأرض، يُمكنها أن تُقدِّم إشاراتٍ تحذيريةً مهمة بخصوص قُرب حدوث أي تغييراتٍ مفاجئة. الفكرة ببساطة أنَّ النظام الذي يفقد الاستقرار يُصبح أكثر حساسيةً للاضطرابات تدريجيًّا. وهذا يعني أن التعافي من أي اضطراب سيستغرق وقتًا أطول (أي إن النظام يفقد مرونته)، كما أنَّ النظام يميل كذلك إلى الانحراف عن طبيعته بدرجةٍ أكبر تحت تأثير اضطراب معيَّن (أي تزداد قابليته للتغير). ولا نحتاج إلى إحداث اضطراباتٍ متعمدة في النظام لرصد هذه الإشارات، بل تُعَد قابلية التغير الداخلية المتأصلة في نظام الأرض بمثابة مصدر مستمر ﻟ «التشوش» الذي يُمكننا رصد استجابات النظام له. فإذا رأينا أجزاءً من نظام الأرض تُصبح أكثر تباطؤًا في استجابتها للتقلبات الطبيعية، يُشير ذلك إلى أنها تفقد المرونة.

وقد اكتُشفَت مثل هذه الإشارات التحذيرية المبكرة قبل بعض التغيرات المناخية المفاجئة في الماضي، وفي بعض عمليات المحاكاة النموذجية التي طُبِّقَت على بعض نقاط التحول، مثل انهيار دورة انقلاب المحيط الأطلسي. وفي الواقع، يمكن أن تقدِّم لنا تلك الإشارات أدلةً مفيدة فيما يتعلق بتحديد أجزاء نظام الأرض التي تُصبح أقل مرونة؛ ومن ثَم تعطينا تلميحًا إلى إجراءات التدخل المناسبة.

خيارات الاستجابة

يمكن تصوُّر العديد من خيارات الاستجابة للتحذيرات المبكرة من أنَّ أحد أجزاء نظام الأرض يفقد استقراره، أو من أننا نقترب من أحد الحدود الكوكبية بعينه. ولعل أوضح الاستراتيجيات وأكثرها تماشيًا مع المنطق هو أن نُحاوِل التخفيف من السبب الجَذري الذي أدى لحدوث التغيير. وقد استُخدِمَت هذه الاستراتيجية بنجاح في تقليل انبعاثات مركَّبات الكلوروفلوروكربون التي تستنفد الأوزون على مستوى العالم، والتعامل مع تلوُّث الهواء ومع زيادة المواد المُغذية في المياه العذبة والبحار الساحلية، على المستوى الإقليمي على الأقل. ولكن ما زال أمامنا طريقٌ طويل لمعالجة مشكلة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية الصادرة من الوقود الأحفوري؛ لأنها من الركائز الأساسية التي يقوم عليها نظامنا الاقتصادي الحالي. ولكن تُوجد بعض إجراءات التدخل الممكنة الأخرى.

عند رصد فقدان للمرونة في أحد أجزاء نظام الأرض، يُمكن التدخل بطريقةٍ واعية من أجل تقوية بعض التغذيات المرتدة السالبة للحفاظ على حالة الأرض المنشودة. ومن أمثلة ذلك أننا إذا رصَدنا ضَعف مصرف الكربون على اليابسة، فإننا نتدخل لمحاولة تقويته. ويُمكن أن يتم ذلك عن طريق وقف إزالة الغابات، وتَعمُّد التشجير. وكذلك يُمكن أن يحدُث بتقليل حرث الأراضي الزراعية لمساعدتها على تخزين كربون التربة، أو تحويل الكتلة الحيوية إلى فحم وإضافتها إلى التُّربة على أنها «فحمٌ حيوي» طويل العمر. ومن الممكن أن يشتمل أيضًا على إضافة بعض معادن السيليكات المسحوقة إلى التربة في محاولةٍ متعمَّدة لتحسين التجوية. وهكذا يمكِن أن تُحقِّق هذه الأساليبُ فوائدَ محلية لمرونة نظام إيكولوجي معيَّن، مثل تقليل تآكل التربة، وتحسين الاحتفاظ بالمياه والمواد المغذِّية، ومكافحة تأثير التحمُّض. وكذلك اقتُرحَت طرقٌ أخرى لتعمُّد إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغِلاف الجوي، مثل استخلاصه من الهواء مباشرة. وسيتوجَّب مراقبة كل هذه الطرق للتحقق من تأثيراتها على دورة الكربون.

أسفرَت فكرة إكساب نظام الأرض بعض المرونة (أي تعزيز بعض التغذيات المرتدة السالبة) عن اقتراحٍ منطقي أجرأ، وهو تَعمُّد تعزيز بعض التغذيات المرتدة الموجبة من أجل تحفيز الانتقال من حالةٍ غير منشودة إلى حالةٍ منشودة. ومن أمثلة ذلك اقتراحات لتخضير (أي استصلاح) أجزاء من منطقتَي «الساحل الأفريقي» و«الصحراء الكبرى»، أو الصحراء الأسترالية. فبعض الأرصاد تشير إلى أنَّ هذه المناطق كانت تتسم بحالةٍ أكثر اخضرارًا ورطوبةً في الماضي، واستطاعت تلك الحالة الحفاظ على ذاتها بفضل الغطاء النباتي. هذا وقد طُرِح بالفعل تصورٌ لمشروع يُسمى «الجدار الأخضر العظيم» لوقف التصحُّر في منطقة «الساحل» من خلال زراعة حزام من الأشجار. وربما يُساعِد تعزيزُ ذلك بإمدادات من مياه البحر المُحلاة والمواد المُغذِّية على تمكين انتقال منطقة «الصحراء الكبرى» إلى حالةٍ خضراء مستقرة.

بل تجري كذلك مناقشة إجراء تدخلات متعمَّدة أوسع نطاقًا في النظام المُناخي تحت شعار «الهندسة الجيولوجية» (أو «هندسة المناخ»). وبالأخص، تشتمل طرق «إدارة الإشعاع الشمسي» على محاولة عكس كميةٍ أكبر من ضوء الشمس وإعادتها إلى الفضاء لتخفيض درجة حرارة الكوكب. وتتمثل إحدى الطرق التي تُناقش كثيرًا لتحقيق ذلك في حَقن جُسيمات هَباء الكبريتات (البالغة الصغر) في طبقة الستراتوسفير لتُنشِئ تأثيرًا مُحاكيًا للتأثير التبريدي الذي نتج من ثوراناتٍ بركانية سابقة في الماضي. وتُعَد هذه تقنيةً فعَّالة جدًّا لأنها لا تتطلب سوى كتلةٍ متواضعة من الهَباء الجوي لإلغاء تأثير الاحترار الناجم عن الكتلة الهائلة التي نُضيفها من ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي.

غير أنَّ هذه الجُسيمات قصيرةُ العمر؛ لذا سيتعين تجديدها باستمرار طوال قرون عديدة لتجنُّب إظهار تأثير الاحترار العالمي المُكثَّف الكامن. وبادئَ ذي بدء، لا نعرف بالضبط كمية جُسيمات الهَباء الجوي اللازمة لإنتاج درجةٍ معينة من التبريد، ولسنا على درايةٍ دقيقة بتأثيراتها الجانبية على جوانبَ أخرى من نظام الأرض، مثل أنماط هطول الأمطار. ومن ثَم، يجب مراقبة تأثيرات أي مخطَّط هندسي جيولوجي كهذا مراقبةً واعية، وضبط إجراءات التدخل وفقًا لذلك، وهذا سيكون مثالًا على التغذية المرتدة التي تتفق مع غايةٍ معيَّنة.

وصحيحٌ أنَّ هذه المقترَحات قد تُحدِث تهديدًا أكبر من التهديد الذي تُحاوِل تجنُّبه أصلًا. لكنها تُفيد في توضيح أننا قد نكون على أعتاب توجيه المسار المستقبلي لنظام الأرض توجيهًا واعيًا. بل من المرجَّح أننا قد فعلنا ذلك بالفعل، ولكن في سياقٍ مختلف. فكما أوضح أوليفر مورتون، كانت «الثورة الخضراء» جهدًا مُصمَّمًا بوعي لإثراء أجزاءٍ كبيرة من سطح اليابسة على مستوى العالم بالمواد المُغذية من أجل توفير المقوِّمات اللازمة لاستمرار حياة سكان العالم الذين يتزايد عددهم بوتيرةٍ سريعة. وكذلك أسفرَت عن فائدةٍ جانبية (غير متوقَّعة على الأرجح) ألا وهي حمايةُ مساحاتٍ شاسعة من اليابسة من التجريف.

اقتصاديات نظام الأرض

تتطلب معظم الأنشطة الساعية إلى تحقيق استدامةٍ طويلة الأمد تعاونًا، وتُفيد أفرادًا آخرين من بَني نوعنا (كما تعود بالفائدة على الغِلاف الحيوي). أمَّا فكرة إنشاء تغذيةٍ مرتدة عالمية لها غايةٌ معيَّنة، فتبلغ حدًّا أبعد من ذلك، وستنجح نجاحًا فعَّالًا في تمثيل مستوًى جديد من التنظيم الحيوي قادر على التحكم في البيئة العالمية. غير أنَّ نظرية التطور تُخبرنا بأنَّ التعاون مشهور بعدم الاستقرار؛ لأنه مُعرَّض ﻟ «الغش» من بعض المتطفلين الانتهازيين الذين يتمتعون بالفوائد دون أن يُسهِموا في التكاليف. ويؤكِّد تاريخ الأرض أن نجاح نشوء مستوياتٍ جديدة من التنظيم الحيوي — مثل الخلية الحقيقية النوى، أو المجموعات الاجتماعية من الحيوانات — أمرٌ نادر الحدوث. لكنَّ التاريخ البشري يُظهِر قدرًا غير عادي من الانتخاب على مستوى المجموعات، ويُمكِن اعتبار التقدم الاجتماعي الحديث جهدًا واعيًا راميًا إلى تحرير أنفسنا من قيود الانتخاب الطبيعي التي أحيانًا ما تكون وحشية.

ويتجسد التعارض بين سعي بعض الأفراد إلى جَني أقصى قَدرٍ ممكن من المنافع الشخصية على المدى القصير وبين المصلحة العامة للنظام ككلٍّ على المدى الطويل في «مأساة المشاعات». الفكرة باختصار أننا كلنا، كأفراد، نسعى إلى زيادة رفاهيتنا الشخصية، في حين أنَّ البيئة مورد نتشاركه جميعًا. ومن ثَم، فأي شيء نفعله لتحسين البيئة (أو جعلها أسوأ) سيحل تأثيره على الجميع، بمن فيهم أولئك الذين لم يبذلوا أي جهد بأنفسهم. «المأساة» أنَّ تقسيم التكاليف والفوائد غير متكافئ؛ لذا فإن المسار المنطقي الذي تتخذه تصرفات الأفراد القصيرة المدى من المُرجَّح أن يكون هو تلويث البيئة المشتركة، حتى وإن كان هذا أسوأ للجميع على المدى الطويل. وتكمنُ الآن «مأساة» كهذه في استخدام المشاعات العالمية؛ أي الغلاف الجوي والمحيطات. ولكن من حُسن الحظ، تُوجد عدة طُرق للخروج من هذه «المأساة»، مثل اللوائح التنظيمية الجماعية التي تُحدِّد قيمةً مالية لتلويث البيئة. وفيما يتعلق بتغيُّر المناخ، تُحدِّد هذه اللوائح قيمةً مالية لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون وغيرها من انبعاثات غازات الدفيئة (ومكافأة مناظرة مقابل إزالة هذه الغازات).

غير أنَّ هذا التحول في تحديد القيمة المالية لا يُغيِّر نموذج النمو الاقتصادي جَذريًّا، بل يُحاوِل توجيهه في اتجاهٍ مختلف فحسب. ويُوجد بالفعل دليل على فصل النمو الاقتصادي عن تراكُم نُفايات المواد الناتجة، من خلال التحول نحو اقتصادٍ قائم على تبادل المعلومات بدلًا من تبادل المواد. وربما يحصُل ذلك على دفعةٍ تشجيعية بإدخال لوائحَ تنظيميةٍ مدروسة بوعي تجعل إعادة تدوير المواد مفيدةً اقتصاديًّا. ولكن يظل تخزينُ المعلومات وتبادُلها يتطلب طاقة ومواد، بالإضافة إلى أنَّ الفوائد التي يُمكِن تحقيقها من زيادة الكفاءة محدودة أصلًا بموجب القانون الثاني للديناميكا الحرارية. لذا يستحيل فصل الاقتصاديات عن نظام الأرض فصلًا تامًّا. وقد أقرَّ آدم سميث بأنَّ هذا يعني أنَّ النمو الاقتصادي لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. ولذا ما زال يتعيَّن صياغةُ حالةٍ مستقرة ﻟ «اقتصاديات نظام الأرض» تدعم رفاهية الإنسان وسلامة الكوكب على المدى الطويل.

توسيع المجال

إذا اعتبرنا أنفسنا ومجتمعاتنا جزءًا لا يتجزأ من نظام الأرض، وتعامَلنا مع الخصائص الجديدة التي يُضفيها البشر على نظام الأرض بجدية، فهذا يتطلب نوعًا جديدًا من علم نظام الأرض. وهذا النوع يجب أن يضُم عناصر من العلوم الاجتماعية، على الأقل بالقَدر الذي يساعدنا على فهم دور الفاعلية البشرية في سريان آليات الكوكب وعملياته. ويُمكن أن يُغير ذلك طبيعة نماذج نظام الأرض والطرق التي نستخدمها بها. فبدلًا من إجراء تنبؤات بناءً على مجموعة من الافتراضات عن الأنشطة البشرية المستقبلية — كما لو كنا نعيش خارج النظام — يمكن أن تصبح الأنشطة البشرية والفاعلية البشرية جزءًا متأصلًا بدرجةٍ أكبر في النماذج. بالمثل، تستدعي عملياتُ دراسة نظام الأرض إعادةَ التفكير في الاقتصاديات ونقاشات اجتماعية أوسع عن نوع المستقبل الذي ننشُده، والذي سيضُم الفنون والعلوم الإنسانية وكذلك العلوم الاجتماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤